تبسيط العقائد الإسلامية

حسن أيوب

تقديم

تقديم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ولا الضالين. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجورحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق. الهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.

تقديم أقدم الى القارئ الكريم هذا الكتاب فيما يجب اعتقاده في حق الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وما يجب الإيمان به فيما يتصل باليوم الآخر ومقدماته ومآل العالم فيه، مستدلا على ذلك بالأدلة النقلية ذات الدلالة القطعية، وبالأدلة العقلية والعلمية القديمة والحديثة. وقد سلكت في عرض موضوعات هذا الكتاب الأسلوب السهل الميسر، ليستطيع القارئ العادي تفهم قضاياه، والإلمام بكل ما ذكر فيه من مبادئ وعلوم، كما يستطيع أن يدرسه لأسرته ومجتمعه دون وقوع في خطأ أولبس. وحاولت جهدي أن أجمع بين طريقة الأقدمين وطريقة المحدثين، سواء فيما يتصل بالقضايا والمبادئ، أم فيما يتصل بعرض الأدلة واستخلاص النتائج. وقصدي من ذلك أن يستفيد من قراءته من درس هذا العلم على الطريقة القديمة، ومن درسه حسب المنهج الحديث، ومن لم يدرسه أصلا ولم يعره من قبل اهتماما. ولا أكون مبالغا إذا قلت: إن هذا الكتاب-على صغره-يعتبر الأول من نوعه في أنه جمع بين دفتيه كثيرا من قضايا التوحيد المبعثرة في ثنايا الكتب العديدة، بحيث كان يشق على الباحث الحصول عليها، ويصعب على المتعلم جمع شتاتها، وذلك مثل:-إعجاز القرآن-وخواص الجن وأعمالهم المتصلة بالإنس-وتحضير الأرواح-والأمور المنافية للتوحيد-وذكر بعض الفرق الإسلامية بترجمة موجزة لكل فرقة، وزدت عيه في هذه الطبعة زيادات تناسب المقرر بالنسبة لمنهج الثقافة الإسلامية بالجامعة. مثل"من أجل ثقافة إسلامية"و"العبادات وصلتها بالعقيدة"و"بين العقيدة والأخلاق"إلى ما أضيف أوحذف من الكتاب الأصلي وهوقليل جدا وبحيث لا يعدوعشر صفحات من مجموع الكتاب، وذلك شأن كل مؤلف يحاول أن يقارب الكمال ما استطاع.

والفضل في بحث قضايا هذا الكتاب وتمحيصها لمن سبقنا من العلماء الفضلاء، فهم الأصل، وإليهم يرجع الفضل في إبرازها وتوضيحها وجمع أدلتها، وما كان عملي إلا جمع ما تفرق، وتبسيط ما تعقد، وتيسير ما ظاهره العسر، ثم تقديم ذلك إلى القارئ في أسلوبه المناسب حسب ظني، مع إبداء رأيي في بعض القضايا مدعما بالأدلة من الكتاب والسنة. وإني أعترف بأن الدافع الأول لإخراج هذا الكتاب هو الجمهور المسلم الطيب الذي استمع الى موضوعاته أثناء محاضرات الخميس بكلية هندسة القاهرة ثم بمسجد فهد السالم بالسالمية، بالكويت بعد ذلك. فلولا مطلبة هذا الجمهور بطبع هذه المحاضرات لتكون في متناول كل من أرادها ما اهتممت هذا الاهتمام في هذا الوقت بتقديم هذا الكتاب للطبع والله أسأل أن يحفظ من الزيغ قلوبنا، وأن يطهر من الشرك الخفي نفوسنا، وأن يعز أمتنا وينصر ديننا إنه نعم المولى ونعم النصير.

من أجل ثقافة إسلامية

من أجل ثقافة إسلامية مادة الثقافة الإسلامية مقرر تدريسها في جميع الكليات والمعاهد العلمية بالمملكة العربية السعودية، وقد زاد الإهتمام بهذه المادة في هذه الفترة العصيبة من حياة أمتنا الإسلامية ذات الماضي الجيد، والحاضر المضطرب، والمسقبل المحفوف بالمخاوف والمخاطر، وإذا كانت الأمة الإسلامية قد حملها الله أمانة توعية الإنسانية وترشيدها، ورسالة قيادتها وهدايتها، ومؤلية إخراجها من الظلمات إلي النور، ومن الشقاء إلى السعادة، فإن نكبة الإنسانية تكون فادحة، وحسرتها تكون طويلة، إذا انحرفت أمة القيادة عن الخط المرسوم، والنهج الرباني القويم. ويوم يصل انحراف هذه الأمة الإسلامية إلى أن تلقي ما بعدها من كنوز ربانية لا مثيل لها، ثم تذهب شرقا وغربا تتسول أفكارا بشرية المنبع، مظلمة المطلع، خبيثة المظهر والمخبر، فإنها بذلك تكون قد فقدت كل ما بينها وبين الله من صلة، وحرمت عناية الله ورعايته، ونصره وتأييده وهانت على الله هوانا لا مثيل له. ومن هنا تبدوأهمية الثقافة الإسلامية كمادة أساسية في جميع سني الدراسة من أجل إعداد الناشئين والناشئات ليكونوا خير أمة. وبذلك يبرأ المسؤلون أمام الله من التقصير والقصور. ويشعر البنون والبنات بعطف الآباء وحنوهم عليهم. وتنقشع عن العقول والقلوب سحب الشهوات والشبهات. وينشأ جيل يحمل راية العزة الإسلامية في الآخرين كما حملها أمثاله في الأولين.

مفهوم الثقافة:

مفهوم الثقافة: كلمة "ثقف" بضم القاف وكسرها مثل "كرم وفرح" تأتي لازمة ومتعدية. فتقول في اللازمة: ثقف يثقف ثقفا وثقافة، وتقول في المتعدية بنفسها ثقفة، وفي المتعدية بالتضعيف ثقفته، وفي المتعدية بالهمزة أثقفته. وتأتي هذه الكلمة بمعنى الحذق والفطنة والخفة، فتقول: ثقف فلان ثقافة بمعنى صار حاذقا خفيفا فطنا. وبمعنى الظفر والمصادفة: فتقول ثقفته في مكان كذا: أي صادفته ووجدته ومنه قوله تعالى: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء} (¬1) والمعنى: إن يظفروا بكم، أويصادفوكم. وتأتي بمعنى التسوية والإعداد المناسب. فتقول: ثقفت الرماح بمعنى سويتها وأعددتها لما هي له، وهذبتها لتؤدي الغرض منها. ويمكنك أن تعبر بالكلمة من إطلاقها على الأمور المادية إلى إطلاقها على الأمور المعنوية على سبيل المجاز، فتقول ثقفت ولدي وتلميذي، بمعنى أدبته وهذبته وسويت أخلاقه على النمط المرضي. قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز: أدبه وثقفه، ولولا تثقيفك وتوفيقك لما كنت شيئا، وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك؟. هذه خلاصة ما نحتاجه في مقامنا هذا من معاني هذه الكلمة "ثقافة" حسبما جاء في القاموس المحيط وفي مختار الصحاح، وفي أساس البلاغة مع تصرف في النقل والتعبير. وإذا كان المجاز قد أسعفنا في إطلاق الكلمة على معاني التهذيب والتأديب والتربية الحسنة، فهل يسعفنا هذا المجاز في إطلاق كلمة "ثقافة" على معنى آخر؟ وما هوهذا المعنى؟. ¬

(¬1) الممتحنة: 2.

إن الحس الإنساني هوالأصل في إطلاق الكلمة على معنى معين، وليس العكس، أعني: ليست الكلة هي الأصل في إيجاد الحس، ولذلك يزداد نجاح الأديب والخطيب والكتب كلما ازداد استيعبا للكلمات ذات اللمسات المباشرة للمشاعر الوجدانية، والإحساسات الإنسانية التي أوحت بهذه الكلمات، وإذا كان الحس الإنساني هوالأصل في التعبير اللغوي فإن من الطبيعي أن يكون لهذا الحس على الأقل حق التصرف في التعبير اللغوي تصرف المد والجزر والإطلاق والتقييد، والتوسيع والتضييق حسب مقتضى الحال في رأي هذا الحس بشرط واحد فقط: هوأن يظل بين الأصل اللغوي وبين الإطلاق التوسيعي خيط"ولورفيع" منعا للفوضى الكلامية وحفاظا على مكانة الوعاء اللغوي من التدهور والضياع، فبضيع الإنسان نفسه، إذ اللغة قوالب المعاني، والمعاني هي التي تجعل للحياة معنى، وللإنسان كرامة، وللعقل مكانة، ولكل شيئ هوية يعرف بها. وبناء على ذلك نقول: إن كلمة "تثقيف" في اللغة يصح أن يراد بها مجاز تهذيب وتربية وكلمة "مثقف" تطلق ويراد بها ذوالسلوك الحسن، والأدب الجم، والخلق الكريم، والعمل الصالح. فيقال: فلان مثقف بمنى أنه مؤدب وفاضل بسبب علمه ومعرفته. وكثيرا ما نسمع هذه العبارة "مثقف" مرادا بها هذا المعنى: "مهذب" في مجتمعنا العادي الذي يعبر عن الأشياء حسب فطرته وطبيعته، فتسمع شخصا يقول لآخر: فلان لا يفعل النقائص، لأنه مثقف. بمعنى مهذب بسبب تعلمه، وفلانة أجدر بك أن تتزوجها لأنها مثقفة. تعني هذبها علمها ودراستها، فالحس الإنساني إذا صار يطلق كلمة "مثقف" ويريد بها المهذب والمؤدب تهذيبا ناشئا عن العلم والمعرفة. (فالثقافة بناء على هذا تعبير عن السلوك الحسن الناشئ عن العلم والمعرفة) لأنه لا يتصور تهذب وتأدب وتربية بدون علم ومعرفة بالحسن الذي يطلب فعله، والقبيح الذي يطلب تركه، فالمعرفة لازمة للسلوك الحسن غالبا، ثم زاد التوسع في إطلاق الكلمة فصارت تطلق أحيانا على "العلم والمعرفة".

الثقافة الإسلامية:

وأحيانا على " التهذب والتأدب" وبمرور الزمن وانطلاق المارد العلمي المادي صارت كلمة "ثقافة" تعني أي نوع من أنواع العلوم والمعارف سواء كانت مادية أم غير مادية، وسواء كان المتعلم مؤدبا ومهذبا أوغير مؤدب ومهذب، ثم صارت تطلق على كل من عنده نوع من العلوم ولوكان إباحيا، أووجوديا، أوانحلاليا، أوشيوعيا، أوأكبر مفسد في الأرض، وأشد مدمر لأخلاق البشر. ونزل الظلم بالكلمة كما نزل بأكثر الناس في عصر اختلت فيه الموازين والمقاييس وتحولت البشرية في أكثريتها إلى وحوش يأكل بعضها بعضا. الثقافة الإسلامية: وإذا كانت كلمة "الثقافة" مطلقة معناها السلوك المهذب، المبني على العلم والمعرفة، فإن الثقافة الإسلامية على هذا يكون معناها ومفهومها "أنها السلوك الحسن والعمل الصلح والخلق الكريم القائم على التشريع الإسلامي والمنهج الرباني، والملتزم بالخط المحمدي في جميع شؤنه". وباختصار هي السلوك الملتزم بالكتاب والسنة. وبذلك نخرج من دائرة الإختلافات الكثيرة، والتناقضات، والإضطرابات التي حدثت بسبب الوصول إلى المعنى المناسب لكلمة "ثقافة" مطلقة أوثقافة مقيدة بكونها إسلامية. فإن الإختلاف والإضطراب حول الإثنين كثير، وصل إلى درجة التنفير أحيانا عند بعض الكاتبين. مثال ذلك أن تجد الكاتب يعرف الثقافة بأنها نظرية سلوك، وعند البحث يبعد عن السلوك وما يتصل به، ويتكلم عن الثقافة كعلوم ومعارف بدون ربط بين الإثنين، وبعضهم جرى على أنها معارف إنسانية شتى، وقطع الصلة بين المعنى اللغوي والبحث العلمي في هذه المادة .... الخ، وواضح أننا لم نهتم بالثقافات الأخرى لأنها ليست ضمن بحثنا هذا، ولا جزءا منه. مصادر الثقافة الإسلامية: إذا كانت الثقافة الإسلامية معرفة بأنها السلوك الملتزم بالكتاب والسنة فإم مقتضى ذلك أن يكون الكتاب والسنة هما المصدران الأساسيان للثقافة والتثقيف الإسلاميين.

وهذان المصدران لا مثيل لهما في العالم في عصرنا الحاضر ولا فيما سبق من العصور، سواء في كونهما مصدرين نهائيين خاتمين لما سبقهما، أوفي كونهما محفوظين من التحريف والتبديل .. فإن القرآن الكريم محفوظ بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) فلا يمكن أن يبدل أويغير أويحرف في لفظ من ألفاظه، ولا في كلمة من كلماته. والسنة النبوية وإن لم تكن محفوظة في مفرداتها فهي محفوظة في جملتها، لأنها تبيان للقرآن وشرح له كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2) ولأن اله أمر أهل الإسلام بالأخذ بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - سواء كان كتاباً أم سنة، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬3) ومعنى هذا أن السنة باقية ومحفوظة لأهل الإسلام. والدلة على ذلك كثيرة. كما أنهما لا مثيل لهما في اشتمالهما على كل ما يحتاجه الإنسان من أجل حياة طيبة كريمة في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (¬4) وإذا كانت السنة مبينة وشارحة للكتاب فهي بذلك تبيان للتبيان وتوضيح له. (3) المصدر الثالث "الإجماع" وذلك في الأمور التي ليس فيها نص من كتاب أو سنة. ¬

(¬1) الحجر: 9. (¬2) النحل: 44. (¬3) الحشر: 7. (¬4) النحل: 89.

أهمية الثقافة الإسلامية:

(4) الرابع "القياس" وهو أن يقاس ما استحدث من الأمور، ولا يدخل تحت نص على ما فيه نص لاشتراك اللاحق مع السابق في العلة المنضبطة. أهمية الثقافة الإسلامية: إذا كانت الثقافة الإسلامية هي السلوك الملتزم بالكتاب والسنة فإن المسلم لا يحتاج إلى إعمال فكره طويلاً ليدرك أهمية هذه الثقافة في حياته. (1) إذ أن السلوك الملتزم منه ما هو فرض، ومنه ما هو سنة سواء كان سلوكاً تعبدياً محضاً كالصلاة، والزكاة، والصدقة، والذكر، أو أخلاقياً كالصبر، والحلم، وحب الخير للناس، والإغضاء عن الفواحش والنقائض، أو سلوكاً في المعاملات المالية كالبيع، والشراء والتداين، والإجارة، أو سلوكاً في الحياة الاجتماعية الخاصة والعامة، كالإحسان إلى الوالدين، ومعاشرة الزوجة بالمعروف، وصلة الأرحام، وإكرام الجار. والسلوك المفروض على المسلم التزامه مفروض تعلم أحكامه الشرعية، وحدوده، وكل ما يتصل به. والسلوك الذي يُسن ويُستحب شرعاً مطلوب من المسلم على سبيل السنة أن يتعلم أحكامه وما يتصلُ به، لأنه لا يتصور عمل بغير علم بما يعمله الإنسان، كيفية وشروطاً، وأركاناً، وبدءاً، ونهايةً. فالعلم هو السبيل إلى تصحيح العمل الذي يُرضي الله تعالى، ولذا قال (صلى الله عليه وسلم) مبينا فضل تعلم أمور الدين: " ومن سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له به طريقا الى الجنة" (¬1) وقال (صلى الله عليه وسلم): "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" (¬2) ¬

(¬1) رواه مسلم وغيره. (¬2) متفق عليه.

والقاعدة أن ما توقف عليه عمل الواجب فهوواجب، وما توقف عليه عمل السنة فهو سنة. (2) الثقافة الإسلامية باعتبارها سلوكا قائما على المعرفة تعتبر سبب السعادة في الدنيا والآخرة بالنسبة لمن النتزم بها، وسبب شقاء فيهما بالنسبة لمن أعرض عنها، أواستبدل بها غيرها، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬1) (3) الثقافة الإسلامية منهج رباني كامل يسع الحلول لجميع المشكلات التي تعرض للبشر في مسار حياتهم، وهوبسبب كونه ربانيا كاملا يعتبر نعمة كبرى ورحمة لا مثيل لها. كما أنه المنهج الوحيد الذي ارتضاه الله لعباده، وأمرهم أن يأخذوا به، وينبذوا ما عداه فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (¬2) ومنهج هذا شأنه يجب أن يحرص العالم كله على الأخذ به، والتمسك بكل ما فيه، وأن يرمي بكل ما عداه من الأفكار البشرية، والعصارات العقلية المضادة له بدون هوادة أواحترام. (4) نحن عباد الله، مخلوقون بقدرته، ومربوبون لعظمته، ومرزوقون منه بفضله ورحمته، وكل ما خولنا مسخر لنا بأمره وإرادته، وإن كان لأحد نعمة وفضل علينا فإن نعمته مستمدة من نعم الله تعالى، كما أنه تعالى هوالعليم بما يصلحنا وينفعنا، وهوأرحم بنا من أمهاتنا وآبائنا ... وبعد هذه الحياة نحن في الآخرة موقوفون بين يديه، ومحاسبون على ما قدمنا ¬

(¬1) سورة طه: 123، 124. (¬2) المائدة: 3.

من خير أوشر، والحجة بين الله وبين عباده حينئذ كتابه وسنة نبيه، وعلى أساس العمل بمنهجه تعالى أوعدم العمل به يجازى العباد بالجنة أو بالنار، وإذا كان الأمر كذلك فمن الجنون والسفه الجري وراء حثالات العقول البشرية، والمذاهب الشيطانية، وترك منهج الله تعالى!!!. وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك كله بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (¬1) (5) إن الأخذ بالمنهج الإلهي سلوكا وعملا من شأنه أن يجعل كل شئ في الحياة جميلا لأن هذا المنهج يقيم الأسس الإجتماعية على الشعور الأخوي، وعلى رحمة الإنسان لكل حي، وعلى أساس التساوي بين الناس، فلا مفاضلة إل بالتقوى، وعند التحاكم فيما شجر بينهم فإن العدل في الحكم فريضة، وإحسان الإنسان إلى أخيه فضيلة، وأي انحراف عن الحكم بما أنزل الله يعتبر خيانة وظلما وجحودا لنعمة الله، وخروجا على سلطانه. والذين عاشوا مع المنهج الرباني عقيدة وعبادة وسلوكا اجتماعيا هم الذين قال الله فيهم: ¬

(¬1) لقمان: 20 - 22.

{أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (¬1) {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2) {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (¬3) {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬4) أما ما وضعه البشر من مناهج فإنها لم تؤد دورا ذا قيمة في إسعاد البشرية، بل العكس هوالذي حدث، فإن البشر ما شقوا إلا بتشريعات البشر ومناهج البشر المضادة لمنهج الله. وهل وجدت شقاء نزا بالإنسان إلا بسبب الإنسان؟ فكيف يؤتمن هذا الإنسان على أسمى ما في الوجود وهوالمنهج المنظم لحياة الإنسان مع الإنسان ومع كل ما في الكون؟ هذه البيوت المدمرة، وهؤلاء الأطفال اليتامى بعد قتل الآباء، وهؤلاء الأرامل بسبب سفك دماء الأزواج، وأولئك المرضى المعذبون بأمراضهم والفقراء الشقياء بفقرهم، والذين شنقوا بغير جريمة، والذين سجنوا بدون جناية، والذين وئدت حرياتهم لمقالة حق قالوها أوكتبوها ... كل هؤلاء وأولئك وغيرهم: من سبب شقائهم ومدمر سعادتهم لحساب شهوته وغطرسته وفرعونيته؟ أليس هوالإنسان؟ فكيف بالله بعد ذلك يأمن الإنسان إنسانا على أن يضع له نظرية سلوك أونظام حياة يضاد نظام الله تعالى؟ إذا الأخذ بالإسلام علما وعملا، نظاما وسلوكا، يعتبر ضرورة حياتية أهم من الطعام والشراب والهواء والدواء. (6) إن الثقافة الإسلامية بسبب مصدريها الأساسيين (الكتاب والسنة) هي السبيل الوحيد للإجابة على جميع التساؤلات التي حيرت الإنسانية الضالة زمنا طويلا. ¬

(¬1) الفتح: 29. (¬2) الحشر: 9. (¬3) التوبة: 71. (¬4) المائدة: 54 ... الخ.

عناصر الثقافة الإسلامية:

فنشأة الكون من مادة معينة، وأصل هذا الكون، ومن الذي كونه، وأشياء هذا الكون المرئية وغير المرئية، ونهايته متى وكيف ولم تكون؟. والإنسان لم خلق وما أصل خلقه، وما هي صلته بخالقه، وبالكون، وبما يحيط به، وما هومصيره. وعلى أي أساس يحدد المصير، وما معنى فنائه، وما حكمة فنائه ثم بعثه ثم محاسبته ومجازاته؟ ... وهذه الجبال الشامخة، والسهول الواسعة، والبحار والمحيطات، والأرض والسموات، كل ذلك وغيره لن تجد الإجابة الموثوق بها عنه إلا في هذين المصدرين كأساس، ثم تأتي العلوم والإكتشافات تابعة لهما. عناصر الثقافة الإسلامية: الذي ينظر في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وعهد الخلفاء الراشدين الأربعة يجد ما فيها من تشريعات، ومن أوامر ونواهي، ومن إرشادات وتوجيهات جاء مطاقا وغير مقيد بكون هذا عقيدة، وهذا عبادة، وهذا أخلاق، وهذه سياسة، وهذه نظم إجتماعية، وتلك إقتصادية، وأخرى مالية، وأخرى شخصية إلى آخر ما جاء من تسميات واصطلاحات. إن ما جاء في القرآن والسنة منهج رباني سمي صراط الله، وسبيل الله، وطريق الله. وما دام الكل من الله ومن رسوله (صلى الله عليه وسلم) فإن المطلوب هوفعل ما أمر وترك ما نهى. وسواء كان المأمور به أوالمنهي عنه خاصا بالعبادة أوالمعاملة الإجتماعية، أوالمالية، أوغيرها، فمن فعل ما أمر فقد نجا وله ثواب ما فعل، ومن وقع فيما نهى الله عنه فقد هلك وقد يقع جزاء ما فعل. غير أنه في عصر التابعين وتابعي التابعين بدأ تقسيم العلوم، فقسم كلا من القرآن والسنة إلى أقسام من باب التسهيل والتيسير، ولم يكونوا في ذلك مبتدعين، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) شرع لهم قريبا منه في حياته، فأخبر أن أقرأهم للقرآن عبد الله بن مسعود وأن أعلمهم بالمواريث زيد بن ثابت، وأقر بعض التخصيصات في عهده فكان بعض الصحابة ضليعا

في معرفة أنساب العرب مثل أبي بكر- رضي الله عنه، وبعضهم متفوقا في الشعر كحسان بن ثابت، وبعضهم متفوقا في الخطابة مثل ثابت بن قيس، وهكذا ... لذلك أخذ المسلمون يفردون بعض العلوم بدراسة خاصة، وما زال المر يزداد ويتسع حتى تشعبت الأصول، ثم تشعبت الفروع وصار لكل شعبة متخصصون ضالعون في تخصصهم، يرجع إليهم إذا استبهمت الأمور، واشتبهت على غيرهم، لأنهم أولوالأمر في عملهم. فوجدت علوم القرآن، وعلوم السنة، وعلوم العقيدة، وعلوم الفقه وعلوم الأخلاق، وعلوم الفلك، والفلسفة، والمنطق، واللغة، وغيرها ... والذي يهمنا هوما يتصل بالجانب السلوكي القائم على المعرفة وهوما يسمى بالثقافة الإسلامية حسب اصطلاحنا الذي سرنا عليه، وهذا الجانب دعائمه التي قام عليها، وعناصره التي تكون منها هي العقيدة، والعبادة، والأخلاق، وسائر أنواع المعاملات الإجتماعية، وسنتكلم عن كل منها إن شاء الله تعالى مع إطالة في علم العقيدة باعتباره الأساس للجميع. والله الموفق.

أهمية علم العقائد

أهمية علم العقائد إن هذا العلم هوأهم العلوم على الإطلاق، بالنسبة للفرد المسلم، لأنه علم العقائد الإسلامية. والعقائد في الإسلام هي الأصول التي تبنى عليها فروعه، والأسس التي يقوم عليها بنيانه، والحصون التي لا بد منها لحماية فكر المسلم من أخطار الشك وأعاصير التضليل والتزييف. وكثيرا ما سمعنا ورأينا أنواعا من الإنحرافات في الفكر والقول والسلوك لم يكن لها من سبب إلا البعد عن فهم أصول هذا الدين، وركائزه التي قام عليها، والتي لا بد من الإيمان بها، ليفهم هذا الدين، وليجاب بها عن جميع التساؤلات التي لم يكن لها سبب سوى الجهل بقضايا الإيمان ومسائله. وقضايا الإيمان هذه هي التي جاءت بها الرسل، على مدى التاريخ الإنساني كمبدأ لا بد منه حتى تبنى عليه جميع قضايا الدين بعد ذلك. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬1) ومن المعلوم أن جميع الأعمال الصالحة التي يعملها أي إنسان ابتغاء وجه الله تعالى موقوف قبولها عند الله على صحة العقيدة التي يتكلم عنها هذا العلم، لأن الإنحراف عن العقيدة انحراف عن الإيمان، والإنحراف عن الإيمان هوالكفر، والله تعالى لا يقبل من كافر عملا. ¬

(¬1) الأنبياء 25.

قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1) ويكفي لإدراك الأهمية الكبرى لهذا العلم أن قضاياه كلها هي القضايا الفاصلة في الحكم على الإنسان بالإيمان أوالكفر والفسوق، وبالنجاة أوالهلاك، وبالسعادة أوالشقاء. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (¬2) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} (¬3) ¬

(¬1) البقرة: 217. (¬2) النساء: 48. (¬3) البينة: 6، 7، 8.

لذلك قال جميع علماء الإسلام: إن هذا العلم مفروض تعليمه وتعلمه على الرجل والمرأة وواجب على كل مسؤل من والد ووالدة ومعلم ووصي ومرب وأمثالهم أن يهتموا بتنشئة الأطفال على فهم مبادئه، على أن يعطي كل حسب قدرته العقلية والنفسية. فيتدرج في تعليمه كما يتدرج في تعليم أي علم ذي أهمية وشأن.

موضوعات هذا العلم

موضوعات هذا العلم الموضوعات التي يبحث هذا العلم فيها هي: 1 - ذات الله تعالى: لمعرفة ما يجب في حق الله وما يستحيل وما يجوز. 2 - ذوات الرسل عليهم الصلاة والسلام: لعرفة ما يجب في حقهم وما يستحيل وما يجوز. 3 - الأمور الغيبية: وهي التي لا يمكن الوصول إليها لمعرفتها والإيمان بها إلا عن طريق كتاب الله تعالى، أوحديث رسوله (صلى الله عليه وسلم). وذلك مثل: كتب الله تعالى، ملائكته، ورسله، واليوم الآخر، والجنة والنار .... الخ. وتحديد موضوعات العقيدة جاء من كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم): وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬1) وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (¬2) وقال تعلى: ¬

(¬1) البقرة: 285. (¬2) القمر: 49.

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} (¬1) وفي حديث طويل سأل جبريل النبي (صلى الله عليه وسلم) عدة أسئلة تعليمية وكان منها قوله: فأخبرني عن الإيمان؟ قال:" أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " (¬2) وبذلك تدرك أن أركان الإيمان هي: الإيمان بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. ¬

(¬1) البقرة: 3، 4، 5. (¬2) رواه الخمسة إلا البخاري - تيسير الوصول، جـ1 ص13 ط - مصطفى الحلبي.

الواجب والمستحيل والجائز

الواجب والمستحيل والجائز فيما سبق ذكرنا كلمات- الواجب-المستحيل-الجائز-وقد أردنا بها الواجب العقلي، والمستحيل العقلي، والجائز العقلي. وإليك تحديد معانيها ليتضح لك طريق البحث وإثبات قضايا هذا العلم. فالواجب العقلي: هوالأمر الثابت الذي لا يتصور العقل انتفاؤه. وهوقسمان: 1 - ضروري بدهي يدركه كل إنسان بغير نظر، مثل صغر الولد في السن عن أبيه، وكون الواحد أقل من الإثنين والإثنين أقل من الثلاثة، وهكذا في العدد. 2 - نظري، يعني يصل الإنسان إليه بعد النظر والتفكير، مثل إثبات قدم الإله، وبقائه، ووحدانيته وجميع صفاته الكمالية. والمستحيل العقلي: هوالأمر الذي لا يتصور العقل وجوده، وهوقسمان كالواجب: 1 - ضروري بدهي، وهوما يدركه العقل بدون نظر وبحث مثل كون الأب أصغر من ابنه، وكون الواحد أكثر عددا من الاثنين. 2 - نظري، وهوما يصل العقل إليه بعد نظر واستدلال، مثل: استحالة أن يكون الله متعددا، وأن يكون مخلوقا، وأن يموت .. الخ والجائز ويسمى الممكن: هوفي نظر العقل ما يقبل الثبوت والانتفاء، والوجود والعدم لذاته، وذلك مثل حياة الإنسان وموته، وصحته ومرضه، وغناه وفقره ... الخ. ويلاحظ أننا نسبنا الوجوب والإستحالة والجواز إلى العقل. فالعقل الإنساني إذا هوالذي يبحث، وهوالذي يحكم، وعلى أساس حكمة تبنى

النتائج. فلا مجال هنا في إثبات العقيدة للتقليد، ولا للوراثة، ولا للعادات، ولا للأهواء والشهوات. إنما المجال مجال العقل السليم الحر غير المغلول وغير المكبوت. وسوف نجد في كسيرتنا مع هذا العلم أننا نستل بآيات من كتاب الله تعالى، فلا يقال ولا يحق لأحد أن يقول: كيف تستدلون بكتاب الله تعالى على قضايا قررتم أن العقل هوالحكم فيها؟ لأننا نقول: إننا نستدل بكتاب الله تعالى فيما يعرضه علينا من آيات تحرك عقولنا تفتح لها مجالات البحث والمناقشة والمحاورة، ثم نترك الحكم على النتائج لعقولنا. فكتاب الله لنا هوالنور الذي يشع فندرك به السبيل ونعرف جوانب الطريق ومعالمه، وهوالهدى للضالين، والفيصل في قضايا العالمين. وما تخبط المتخبطون في أمور الدين إلا بسبب اعتمادهم عاى العقل وحده وبعدهم عن كتاب الله وهدى رسوله (صلى الله عليه وسلم) تقليدا للفلاسفة وأشياعهم من متكلمة المسلمين. ويكفيك دليلا على أن كتاب الله يسلك هذا السبيل بالنسبة للنائين عنه قول الله لنبيه (صلى الله عليه وسلم): {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (¬1) وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)} (¬2) من الذي يجب عليه معرفة الله ومعرفة شرعه ومعرفة العقيدة السليمة؟ تجب هذه المعرفة على كل مكلف: والمكلف هوالبالغ العاقل، سلين الحواس، الذي بلغته الدعوة. فالمعرفة: لا تجب على الصبي، ولكن تجب على وليهتعليمه العقيدة ومبادئ ¬

(¬1) الكهف: 29 (¬2) الغاشية: 21 - 22.

الدين، حسب قوة فهمه، لينشأ مسلما واعيا سليم العقيدة، ولتحفظه العقيدة من الزيغ إذا بلغ. ولا تجب المعرفة على مجنون، ولا على فاقد السمع والبصر معا: لأنه لا طريق لمعرفته، فإن وجدت طريقة للمعرفة وجبت عليه، كما لا تجب المعرفة على من مات قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وسلم) .. يعني مات في فترة ليس فيها رسول مبعوث أويوجد رسول ولكنه مرسل إلى قوم آخرين، فالمرسل أليهم هم المكلفون المسؤلون، إذا بلغتهم دعوة رسولهم ومن لم تبلغهم دعوته فهم غير مسؤلين عنها. والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (¬1) ¬

(¬1) الإسراء: 15

حدود المعرفة السليمة

حدود المعرفة السليمة المعرفة السليمة التي يصير الإنسان بها مؤمنا إيمانا صحيحا هي الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل. فالمعرفة غير الجازمة معرفة مرفوضة، وصاحبها لا يعتبر مؤمنا، لأن العقيدة مبنية على الجزم: فلا يعتبر مؤمنا من كان واهما أوشاكا أوظانا. ولا يعتبر مؤمنا من جزم بعقيدة مخالفة للواقع. كاعتقاد قدم العالم، أوأن الله متعدد، أوأن القياموواليوم الآخر لن يوجدا مستقبلا. ويعتبر مؤمنا عاصيا من عرف الله تعالى واعتقد وجوده وصفاته ولكنه لا يعرف دليلا على وجود الله، مع استطاعته النظر ومعرفة الدليل، ولوإجمالا كأن تقول له: ما الدليل على وجود الله؟ فيقول: الدليل على ذلك وجود هذا العالم مثلا. فالدليل الإجمالي فرض عيني على جميع المكلفين. أما الدليل التفصيلي فإنه فرض على بعضهم فقط، لتوجد طائفة متخصصة تستطيع الدفاع عن الدين وعن العقيدة، فهوفرض كفائي. إذا قام به البعض سقط عن باقي الأمة. وبعض العلماء يرى أن إيمان المقلد .. "وهوالمؤمن بغير دليل إجمالي ولا تفصيلي" إيمان مقبول وصحيح إذا حصل منه الجزم بالعقيدة، بحيث لا يتردد فيها ولا يتزحزح عنها ولوتردد وتزحزح الإنسان الذي اعتمد عليه المقلد في عقيدته وتقليده. ودليلهم على ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقبل إيمان من يؤمن بدون سؤاله عن الدليل، وذلك ثابت في عدة أحاديث صحيحة.

مفهوم الإيمان والإسلام شرعا

مفهوم الإيمان والإسلام شرعاً يهمنا أن ندرك معنى الإيمان والإسلام والارتباط بينهما، فالإيمان هو: التصديق الجازم بكل ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) وثبت ثبوتا قطعيا، وعلى مجيئه من الدين بالضرورة، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيره وشره. وكالإيمان بفرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج. والإيمان بتحريم القتل ظلما للنفس المعصومة، وتحريم الزنا والربا وغيرها. والإيمان بهذا المعنى محله القلب، والإسلام بالمعنى الآتي لازم له. أما الإسلام فمعناه الإذعان والخضوع النفسي والاطمئنان القلبي، والشعور بالرضى بالنسبة لكل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وسلم) من دين، وعلم مجيئه عنه بالضرورة: أي بدون احتياج إلى سؤال أوكشف وبحث لشهرته بين المسلمين. ويلاحظ أن الإسلام بالمعنى المذكور هوحالة نفسية وقلبية، مثل الإيمان، والفرق بينهما أن الإيمان تصديق جازم بما سبق، وأن الإسلام رضاء قلبي وعدم اعتراض على أي تشريع شرعه الله تعالى، وعلم بالضرورة، وأنت قد تصدق بوجود شيئ ولا ترضاه، وكم سمعنا من يقول: أنا أومن بأن الإسلام فرض الصلاة والزكاة، ولكنني غير مقتنع بهما ولا بالحكم الترتبة عليهما. فهذا الإعتراض يجعله غير مسلم، لأن عنصر الخضوع والإذعان غير متوفر، وهذا يجعلنا نشك في إيمانه، لأنه لوصدق بالله وبحكمته وعلمه ورحمته لأسلم نفسه ورضي كل ما ارتضاه الله، لذلك قلنا: إن الإيمان الصادق يلزم منه الإسلام بالمعنى السابق، والدليل على أنه غير مؤمن من قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ

بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (¬1) ولوعرضت كثسرين من المسلمين على هذه الآية لوجدت كثيرين منهم خارجين عن الدين وغير مؤمنين، لأنهم غير مستسلمين لله عز وجل وغير خاضعين خضوع رضا لأحكام الله تعالى. بقي العمل بالتشريعات الإسلامية، مثل: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وجميع الفرائض، والبعد عما حرم الله ونهى عنه. هل لا بد من تنفيذ الفرائض الإسلامية وترك المحرمات مع الإذعان السابق ليصير المرء مسلما، أم يكفي الإذعان في إطلاق اسم الإسلام على الإنسان؟ هما رأيان للعلماء. فالجمهور على أن تنفيذ أوامر الإسلام والعمل بما جاء به ليس شرطا ولا ركنا في جواز إطلاق اسم الإسلام على الإنسان. وبعض العلماء يرى أن العمل وتنفيذ أعمال الإسلام وأركانه شرط في صحة الإسلام، أوركن من أركانه، فمن أسلم وأذعن بقلبه ولم يعمل الأعمال الإسلامية مثل الصلاة وغيرها، فليس بمسلم. وعلى الرأي القائل بأن من أذعن بقلبه ولم يعمل أعمال الإسلام فهومسلم - وهورأي الجمهور - فإن هذا الإنسان عند القائلين بهذا الرأي يعتبر فاسقا وعاصيا، فيطلقون عليه اسم: المسلم الفاسق، والمسلم العاصي، والمسلم المذنب، وتقام عليه حدود الإسلام التي شرعها زجرا وتأديبا لمن ترك فرضا أوفعل منكرا. فافهم ذلك جيدا. وهذا المسلم الفاسق أمره إلى الله في الآخرة. إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بجريمته، ولكن مآله الجنة، إن كان قد مات على الإيمان والإسلام. وهذا هورأي أهل السنة. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (¬2) ¬

(¬1) النساء: 65. (¬2) النساء: 116.

والإسلام بهذا المعنى محله ظاهر الإنسان وباطنه، لأن الإذعان بالدين والرضى به أمر باطني، والخضوع لأحكامه أمر ظاهري. وعلى هذا فالإسلام أعم من الإيمان، والإيمان أخص من الإسلام. والإيمان باطني فقط، والإسلام ظاهري وباطني. ونحن نحكم على الناس بالإسلام حين يكونون مذعنين ظاهرا لأحكام الله، غير رافضين لها، بمعنى أن أعمالهم وأقوالهم وتصرفاتهم لا تدل على رفضها وعدم الإذعان لها. أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية. ولذلك فضح الله أناسا أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬1) الخلاصة وحسبما فهمت من معنى الإيمان والإسلام تدرك أن بين الإيمان والإسلام حسب الحقيقة الشرعية المنجية تلازما مقتضاه أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لأن المصدق التصديق المذكور للرسول (صلى الله عليه وسلم) لا بد من أن يكون خاضعا لما جاء به عليه السلام. والخاضع هذا الخضوع لا بد من أن يكون مصدقا هذا التصديق. لذلك ذكر الإيمان والإسلام في القرآن بمعنى واحد في قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (¬2) ¬

(¬1) الحجرات: 14. (¬2) الذاريات:35 - 36.

أما حسب المعنى التفصيلي اللغوي فالإسلام أعم من الإيمان كما سبق وهذا الرأي هوخلاصة ما يراه شارح الطحاوية وغيره، ويرى أن الإيمان والإسلام إذا ذكرا معا كان لكل معناه وإذا ذكر كل منهما وحده فإنه يراد به ما يشمل معناه ومعنلى الآخر وذلك مثل"الفقير والمسكين" "والبر، والتقوى" "والإثم، والعدوان" وهذا يشرح لنا الإجابة على السؤال الذي يدور دائما في أذهان كثيرين، وهوأن الإسلام ذكر كثيرا في القرآن والسنة بمعنى الإيمان، وكذلك ذكر الإيمان فيهما بمعنى الإسلام وهذا قريب بما ذكرته لك سابقا فتدبر ذلك جيدا.

حكم النظق بالشهادتين

حكم النظق بالشهادتين الشهادتان هما:"أشهد أن لا إله إل الله وأشهد أن محمدا رسول الله". والنطق بهما شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على المسلم، مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات، ودفنه في مقابر المسلمين. فإذا لم ينطق لعذر، كالخرس، أولم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه فهوناج عند الله تعالى، أما إذا استطاع النطق ووجد وقتا كافيا ولم ينطق بالشهادتين: فإن كان عدم النطق عنادا فهوكفر، ولا عبره بالتصديق القلبي. أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (¬1) أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب، ولكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه، فالقول الراجح أنه ناج عند الله وإن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه، وعدم الدليل عليه، وهذا كله في من يريد الدخول في الإسلام. أما أولاد المؤمنين فهم مؤمنون وإن لم يحصل منهم نطق بالشهادتين إلا إذا ظهر منهم ما يتنافى مع الإيمان. بعض ما اعتبره الشرع منافيا للإيمان ومبطلا له لقد حذر الشرع من الأمور المنافية للإيمان، وحكم بكفر من يرتكبها، وذلك مثل السجود للصنم اختيارا، أوالاستهانة والتحقير لما كرمه الله، كالقرآن الشريف، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والشريعة الإسلامية، ورسل الله وملائكته، وأوامره ونواهيه، والفرائض الدينية، ¬

(¬1) النحل: 106.

كالصلاة أوالحج أوالشتم لواحد مما ذكر، أوالتلفظ بكلمة الكفر أونحوذلك، فإن هذا كله وأمثاله كفر. كذلك يكفر من كذب شيئا من النصوص الشرعية الثابتة يقينا، كآيات القرآن، وأحاديث الرسول المتواترة، أواستحل حراما ثبتت حرمته بدليل قطعي، كقتل النفس والزنا والسرقة، لأن هذا كله مخل بالتصديق الإيماني والانقياد افسلامي الواجب توافرها ليكون المرء مؤمنا ومسلما، وسيأتيك مزيد بيان في آخر الكتاب في موضوع"ما ليس من التوحيد".

ما يجب في حق الله تعالى وما يستحيل وما يجوز

ما يجب في حق الله تعالى وما يستحيل وما يجوز الإيمان بالله معناه: أن يعلم العبد ويعتقد اعتقادا جازما ما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل عليه من أضدادها وما يجوز في حقه تعالى: 1 - فيعتقد اعتقادا جاوما لا شك فيه أنه يجب لله تعالى كل صفة كمال تليق بجلاله ووصف نفسه بها. 2 - ويعتقد اعتقادا جازما لا شك فيه أنه يستحيل على الله كل صفة نقص لا تليق بجلاله. 3 - ويعتقد اعتقادا جازما لا شك فيه أنه يجوز في حقه تعالى فعل كل ممكن أوتركه، كالإحياء والأمانة، مثلا. وهذا اعتقاد إجمالي لا بد منه لكل مؤمن، وعليه مع ذلك أن يعتقد تفصيلا بوجود ثلاث عشرة صفة كمالية لله تعالى، عليها مدار الألوهية وعظمة الربوبية. ويستحيل عليه أضدادها وليس ذلك من باب الحصر، ولكن هذه الصفات هي التي دار حولها الجدل الكثير، وبإثباتها مع باقي الصفات والأسماء تتجلى الذات العلية متصفة بالكمالات منزهة عن النقائض. وهذه الصفات هي: 1 - الوجود ... ... وضده ... ... العدم 2 - القدم ... ... وضده ... ... الحدوث 3 - البقاء ... ... وضده ... ... الفناء 4 - قيامه بنفسه ... وضده ... ... احتياجه إلى غيره 5 - المخالفة للحوادث ... وضده ... ... المشابهة للحوادث 6 - الوجدانية ... ... وضده ... ... التعدد 7 - العلم ... ... وضده ... ... الجهل

8 - الإرادة ... ... وضدها ... ... الكراهية 9 - القدرة ... ... وضدها ... ... العجز 10 - الحياة ... ... وضدها ... ... الموت 11 - السمع ... ... وضده ... ... الصم 12 - البصر ... ... وضده ... ... العمى 13 - الكلام ... ... وضده ... ... البكم وإليك الكلام تفصيلا على كل صفة من هذه الصفات ثم نتبعه بشرح موجز لجميع أسماء الله وصفاته.

الصفة الأولى وجود الله - تعالى الأدلة على وجود الله تعالى

الصفة الأولى وجود الله - تعالى الأدلة على وجود الله تعالى هل أنت محتاج إلى أدلة تثبت لك أن الله تعالى موجود؟ إن الحقيقة الإنسانية والفطرة البشرية، تكذبان هذا الادعاء. فما من إنسان إلا وعنده شعور ذاتي أقوى من الشعور بالجوع والعطش بأنه مخلوق، وأن له خالقا، وأن للعالم الذي يعيش فيه ويتمتع به موجدا حكيما رحيما قويا قادرا على كل شيئ. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1) فالدين الحق هوالفطرة والخلقة التي خلق الله الإنسان عليها، لا يشك في ذلك ذوعقل يفكر به تفكيرا حرا بعيدا عن مؤثرات البيئة والتقاليد والمواريث الفاسدة. وما من إنسان غفل عن الله تعالى في وقت من الوقات أوأنكر وجود الله متأثرا بالمضللين إلا وجاءت عليه أوقات سمع فيها نداء ضميره، وصراخ ذاته الباطنة، وهتاف وجدانه، والكل يقول له: إنك صنعة الله، وعبد الله، ومخلوق الله، وإن كل ما يقال سوى ذلك خرافة وهراء وضلال، فلا يمكن أن يفسر هذا العالم العظيم وهذا الكون المصمم تصميما في منتهى الدقة بأنه من صنع الصدفة. إن الذي يصدق بالصدفة ولا يصدق بالقدرة الإلهية التي أوجدت هذا العالم وتتصرف فيه بحرية ¬

(¬1) الروم: 30.

وكمال ودقة هوإنسان فقد عقله، وضل طريقه، ولا يصلح لأن يكون حكما في أي قضية من قضايا العدل. ولا توجد في العالم كله ذرة واحدة تصلح أن يكون وجودها وحركتها وعناصرها وارتباطها بما حولها خاضعا للصدفة. والعالم أمامك فحاول أن تجد لنا مثالا واحدا لذرة من ذراته. وإذا لم تصلح الذرة أن تكون وليدة الصدفة فكيف يصلح أن يكةن العالم كله وليدها!!! وقد عبر القرآن الكريم في أكثر من آية عن الشعور الموجود في كيان كل إنسان، وبين أن هذا الشعور بوجود الله يتحول أحيانا إلى نداء حسي مسموع ترتفع فيه الأيدي، وتخضع النفوس، وتنكس الرؤوس لعظمة الله وجلاله. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (¬1) وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} (¬2) وإليك طائفة من أقوال الفلاسفة تشهد بأن الإيمان بوجود الله تعالى ضروري لا يحتاج إلى دليل، وأن الإنسان الذي ينكر وجوده تعالى لا يمكن أن يكون محكما عقله وضميره. وقد نقلنا هذه الطائفة من دائرة المعارف لفريد وجدي (¬3). ¬

(¬1) يونس:12. (¬2) النحل: 53 - 54. (¬3) جـ1 ص 482.

قال الفيلسوف باسكال:"كل شيئ غير الله لا يشفي لنا غليلا". وقال شاتوبريان: " لم يتجرا على إنكار الله غير الإنسان". وقال لاتييه: " الكلمة التي تجحد الخالق تحرق شفة المتلفظ بها ". وقال لوكوردين: " الله هو الشمس الوحيدة التي تمد أشعتها الخالدة الموجودات ". وقال بيلوتان: " الله هو الأصل والمرجع لكل حياة " (¬1). وقال المسيو يوشيف في كتابه المسمى (التذكرة في تاريخ البرهان على وجود الخالق): " إعتقاد الأفراد والنوع الإنساني بأسره في الخالق إعتقاد اضطراري قد نشأ قبل حدوث البراهين الدالة على وجوده، ومهما صعد الإنسان بذاكرته في تاريخ طفولته فلا يستطيع أن يجد الساعة التي حدثت فيها عقيدته بالخالق، تلك العقيدة التي نشأت صامتة، وصار لها أكبر الآثار في حياته. فقد حدثت هذه العقيدة في أنفسنا ككل المدركات الرئيسية على غير علم منا " (¬2). وأنت لو تتبعت آيات القرآن الكريم - وهي أصدق تاريخ للعقيدة - وخصوصاً الآيات التي تحدثت عن الرسل ورسالاتهم إلى أممهم، لم تستطع أن تعثر على أمةٍ أنكرت وجود الله تعالى وشغل رسولها نفسه بإثبات هذا الوجود، بل الذي ثبت هو اعتراف الجميع بوجود خالق مدبر فاعل حكيم رزاق يضر وينفع. وإنما جاء ضلال الأمم من عبادتها آلهة معينة كالأحجار والأصنام والشمس والقمر وبعض الحيوانات والحشرات لتقربها إلى الله تعالى وتكون واسطة بين الإنسان وبين الله، ولذلك كانت دعوة الرسل منصبة على تحويلهم الأمم من عبادة غير الله إلى عبادة الله مباشرة وبدون وساطة. ¬

(¬1) نفس المصدر 483. (¬2) نفس المصدر 484.

قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬1). وبذلك يتضح لك وضوحاً لا شك فيه أن قضية وجود الله تعالى قضية مفروغ منها، لأنها فطرية في الإنسان، فليست في حاجة إلى إقامة الأدلة والبراهين ومع ذلك فسوف نسوق لك الأدلة الكافية لتزداد الأمور اتضاحاً ولتستطيع الرد على من يكابر ويعاند. ¬

(¬1) الأنبياء:25.

الطائفة الأولى من الأدلة (من أقوال العلماء)

الطائفة الأولى من الأدلة (من أقوال العلماء) كل شيئ في الكون دليل ناطق بوجود الله تعالى وصفاته العظمى وأسمائه الحسنى. قال الشاعر: وفي كل شيئ له آية ... تدل على أنه الواحد وقال آخر: تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... وأزهار كما الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك 1 - سئل اعرابي عن الدليل على وجود الله تعالى فقال: البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار الأقدام تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، تدل على الصانع الحليم العليم القدير؟؟. 2 - يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق رضي اللع عنه، فقال جعفر: "هل ركبت البحر؟ قال: نعم. قال: هل رايت أهواله؟ قال: بلى. هاجت يوما رياح هائلة فكسرت السفن وأغرقت الملاحين فتعلقت أنا ببعض ألواحها، ثم دفعت إلى الساحل. فقال جعفر: "قد كان اعتمادك أولا على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى ينجيك، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك هل أسلمت نفسك للهلاك، ام كنت ترجوالسلامة بعد؟ قال: "رجوت السلامة، قال ممن كنت ترجوها؟

فسكت الرجل، فقال جعفر: إن الصانع هوالذي كنت ترجوه في ذلك الوقت، وهوالذي أنجاك من الغرق. فأسلم الرجل على يده. 3 - كان ابوحنيفة رحمه الله سيفا على الدهرية، وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه، فبينما هويوما في مسجده قاعد إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة، وهموا بقتله، فقال لهم: "أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم" فقالوا له: هات، فقال: "ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيتسفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال وقد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها، ولا متعهد يدفعها. هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا: هذا شيئ لا يقبله العقل، فقال أبوحنيفة: "يا سبحان الله"! إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟ فبكوا جميعا وقالوا: "صدقت" وأغمدوا سيوفهم وتابوا. 4 - سالوا الشافعي رضي الله عنه: ما الدليل على وجود الله؟ فقال: "ورقة الفرصاد (التوت) طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم، قالوا نعم، قال: فتأكلها دودة القز فيخرج منها العسل، والشاة فيخرج منها البعر، وتأكلها الظباء، فينعقد في نوافحها المسك، فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد؟ " فاستحسنوا منه ذلك وأسلموا على يده وهم سبعة عشر. (¬1) 5 - وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن ذلك فقال: "ها هنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالإبريز، فبينما هوكذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذوشكل حسن وصوت مليح (يعني البيضة إذا خرج منها الفرخ) (¬2). ¬

(¬1) ا. هـ. من تفسير الفخر الرازي جـ1 ص 314. (¬2) تفسير ابن كثير جـ1 ص 59.

الطائفة الثانية من الأدلة (من كتاب الله تعالى)

الطائفة الثانية من الأدلة (من كتاب الله تعالى) القرآن الكريم قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬1) نحن الآن أمام آيات لا آية واحدة، والآيات معناها العلامات والأدلة على وجود الله تعالى وصفاته وأفعاله. فالسماء القائمة بغير عمد، والنجوم الدائرة في أفلاكها، والكواكب المنتظمة حول شموسها، والقوانين التي تحكم الروابط بينها، ومسار كل نجم في فلك لا يعدوه، وانتظام كل جرم في عائلة مماثلة، وجري كل شيئ بسرعة مناسبة. كل ذلك في فضاء لم يدرك علم النفس سعته ولم يكشف سوى القليل من أسراره، مع أن الإنسان على مدى التاريخ يحاول ويجهد نفسه في المحاولة ليكتشف أسرار الكون، واكتشف فعلا أسرارا كثيرة انتفع بها، ولكنه اكتشف مع ذلك أن ما يجهله أضعاف أضعاف ما يعلمه. وصدق الله القائل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2) ¬

(¬1) البقرة: 164. (¬2) الإسراء: 85.

والأرض التي نحيا عليها كلها آيات: فمنها البر والبحر، والسهل والجبل والوديان والأنهار والجداول. وما يحيط بالأرض من هواء، وما يعلوها من سحب، وما يدور حولها من أثير منتشر في العالم كله، وفيها الإنسان والحيوان والنبات، وفيها الحشرات والفيروسات والميكروبات والخمائر، وفيها الأسماك تحت الماء والطيار في الهواء. وكل مافيها ومن فيها وما عليها وما يحيط بها أعطي ما يناسبه بميزان عادل وتقدير دقيق كما قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (¬1) ولوأعاد الإنسان النظر والتامل مرارا في هذه الآيات المنبثة في السماء والأرض والنجوم والكواكب لارتجف من عظمة الله كيانه، ولم يسعه إلا أن يخضع للقدرة الإلهية التي لا يمكن وصفها. فاختلاف الليل والنهار بحساب دقيق يطول الليل فيه بمقدار وينقص النهار بمقدار، ويتغير الطول والقصر على مدى العام، وتمر آلاف الآلاف من السنين والنظام لا يختلف ولا يضطرب، ولايختل قيد شعره. والسفن تجري في البحار وتعبر المحيطات حاملة الأثقال متنقلة بافنسان إلى حيث يشاء وكيف أراد، ولها مع الماء قانون إذا استوت معه أمنت وإن خلت به هلكت. والماء تبخره حرارة الشمس فيجتمع سحبا في جومعين، ثم تسوقه رياح متنقلة حتى توصله إلى أماكن معينة فيها الطقس المناسب لسقوط المطر على أرض أعدت لتلقيه، وأنهار شقت لتجري به إلى ما شاء الله من إنسان وحيوان ونبات، فتمتد الحياة في الجميع بنقط الماء المجلوبة من المحيطات والبحار والأنهار وغيرها وصدق الله القائل: ¬

(¬1) الحجر: 19.

{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (¬1) والقائل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} (¬2) كل ما ذكرت آيات ودلائل على وجود صانع مدبر حكيم عليم قادر، ولا يقول غير ذلك عاقل ولذلك ختمت الآية بهذه العبارة المقنعة: "لآيات لقوم يعقلون" ولكي تدرك التقدير الحكيم في كل ما خلق الله من السموات والأرض وما فيها وما بينها وما حولها. اقرأ هذه الحقائق العلمية التي ذكرها الأستاذ (سعيد حوى) في كتابه "الله جل جلاله" قال: 1 - لوكانت قشرة الأرض أسمك مما هي عليه بمقدار بضعة أقدام لامتص ثاني أكسيد الكربون والأوكسجين ولما أمكن وجود الحياة. 2 - ولوكان الهواء أقل ارتفاعا مما هوعليه فإن بعض الشهب التي تحترق بالملايين كل يوم في الهواء الخارجي كانت تضرب في جميع أجزاء الكرة الأرضية، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيئ قابل للإحتراق. 3 - ولوأن شمسنا أعطت نصف إشعاعها الحالي لكنا تجمدنا، ولوأنها زادت بمقدار النصف لكنا رمادا منذ زمن بعيد. 4 - ولوكان قمرنا يبعد عنا (20000) عشرين ألف ميل بدلا من بعده الحالي لكان المد يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأرض تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يويح الجبال نفسها. 5 - ولوكان الأوكسجين بنسبة 5% من الهواء بدلا من 21% فإن ¬

(¬1) الأنبياء: 30. (¬2) الحجر: 22.

القرآن والإنسان

جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال لدرجة أن شرارة في البرق تصيب شجرة لا بد أن تلتهب الغابة كلها. 6 - ولوكانت نسبة الأوكسجين 10% لتعذر أن يكون التمدن الإنساني على ما هوعليه اليوم. 7 - ولولا المطر لكانت الأرض صحراء لا تقوم حياة عليها. ولولا الرياح والبحار والمحيطات لما كانت حياة. ولولا أن الماء يتبخر بشكل يخالف تبخر الملح لما كانت حياة. ولولا أن البخار أخف من الهواء لما كنت حياة. 8 - ولوكانت الالكترونات ملتصقة بالبروتونات داخل الذرة، والذرات ملتصقة ببعضها بحيث تنعدم الفراغات لكانت الكرة الأرضية بحجم البيضة، فأين يمكن أن يكون افنسان وغيره؟ 9 - ولوكانت العناصر لا تتحد مع بعضها لما أمكن وجود تراب ولا ماء ولا شجر ولا حيوان ولا نبات. 10 - ولولا الجبال لتناثرت الأرض، ولما كان لها مثل هذه القشرة الصالحة للحياة، فقل لي بربك هل حدث ذلك كله بميزان وحكمة وتقدير وعلم شامل أم حدث بالصدفة وتطور بالصدفة وبقي بالصدفة؟؟؟ تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرا (¬1). الطائفة الثانية من الأدلة (من كتاب الله تعالى) القرآن والإنسان 2 - وقال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} (¬2) ¬

(¬1) أ. هـ. من ص 38 - 39. (¬2) الطارق: 5، 6، 7.

وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} (¬1) وقال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬2) إن النظر فيما ذكرته هذه الآيات من دلائل على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وإرادته وحكمته لا يحتاج إلى تأمل عميق، لأن ما ذكر فيها من تطور خلق الإنسان أمر فارغ العلم الحديث من إقراره مع أنه قرر عند المسلمين قبل أربعة عشر قرنا، وذلك دليل على إعجاز القرآن، وأن هذا القرآن من عند الله تعالى الذي لا بد وأن يكون موجودا ومتصفا بكل صفات الكمال. والنظر في الإنسان وما يحتةيه تكوينه من عجائب هودائما هدف بحث العلماء المتخصصين، وهودائما موضع دهشتهم وحيرتهم حتى إن الدكتور المشهور (أليكس كاريل) ألف كتابه - الإنسان ذلك المجهول - بعد بحث طال مداه, واشترك فيه عدد من الأطباء, وكان ذلك البحث في الإنسان. وأخيرا قرر أن في الإنسان مناطق كثيرة لا تزال مجهولة الحقيقة. ومما قاله في عجائب صنع الإنسان: "الدم نسيج مثل جميع الأنسجة ¬

(¬1) المؤمنون: 12، 13، 14. (¬2) الذاريات: 21.

الأخرى, وهو يتألف من 25 أو 30 ألف مليار كرة حمراء و50 مليار كرة بيضاء - المليار ألف مليون - ... والدم نسيج متحرك يجد طريقه في جميع أنحاء الجسم, وهو يحمل الغذاء المناسب لكل خلية, ويؤدي في الوقت ذاته عمل البالوعة الرئيسية التي تنقل الفضلات التي تطلقها الأنسجة الحية. كما أنه يحتوي أيضا على مواد كيماوية وخلايا قادرة على إصلاح العضاء كلما دعت الضرورة غلى ذلك" (¬1). وقال في شأن جلد الإنسان: "إن الجلد وملحقاته تلعب دور الحارس الأمين لأعضائنا ودمنا. إنها تسمح لأشياء معينة بالدخول إلى عالمنا الداخلي, وتمنع أشياء أخرى من دخوله, إنها الباب المفتوح دائما- وإن كان محروسا بعناية - الذي يؤدي إلى جهازنا العصبي الرئيسي, فيجب أن ننظر إليها باعتبارها جزءا حيويا من أنفسنا" (¬2). وقال: "سطحنا الداخلي أكثر اتساعا من سطح الجلد, فالمنطقة التي تغطيها الخلايا المسطحة للشعب الهوائية بالرئتين هائلة, إنها تعادل ما يقرب من خمسمائة متر مربع" (¬3). وها هو ذا عالم آخر من أكبر علماء أمريكا, وقد شغل حينا مركز رئيس المجمع العلمي في أمريكا, قد بين للناس جميعا أن العلم الحديث يثبت وجود الله وينتهي إلى الإيمان به وبوجدانيته. وقد سمى كتابه الذي ألفه في ذلك "الإنسان لا يقوم وحده" ويكفي أن نشير إلى بعض ما جاء فيه فنذكر مثلا عملية الهضم في المعدة, وهي - أي المعدة - أعظم معمل في العالم كما يقول: قال: "إن المعدة تتلقى كل ما نرسله إليها من طعام وشراب على اختلاف أنواعه وأصنافه وعديد عناصره, وهنا يبدأ عمل هذا المعمل ¬

(¬1) ا. هـ. منه ص 95. (¬2) ا. هـ. منه ص 82. (¬3) ا. هز منه ص 85.

العجيب, ففيه يتم تحليل كل من هذه الأنواع والأصناف إلى عناصره الكيميائية الأولى, ويعود تكوين الباقي بعد الفضلات إلى مواد صالحة لغذاء مختلف الخلايا, بحيث تكون جميع المواد الحيوية الضرورية للحياة موجودة في مقادير منتظمة, ومستعدة لمواجهة كل ضرورة, ثم تقدم باستمرار إلى كل خلية من خلايا الجسم التي تزيد في عددها على عدد الجنس البشري كله. ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمرا, وألا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة, وذلك لتحويلها إلى عظام وأظفار ولحم وشعر وعينين وأسنان وما إلى ذلك كله من أجزاء الجسم صغيرها وكبيرها. ها هنا إذن معمل كيمائي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان, وها هنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم, ويتم كل شيئ فيه بمنتهى النظام, فإذا كانت تلك المعجزات تتم في نظام كامل, والنظام يضاد المصادفة إطلاقا كان هذا بلا شك من صنع خالق مبدع حكيم. وهذه عدسة العين التي بها الإبصار تلقي صورة على الشبكية فتنتظم العضلات بطريقة آلية إلى بؤرة ومحكمة. والشبكية طبقات عشر منفصلة, وهي في مجموعها ليست أكبر سمكا من ورقة دقيقة, والطبقة في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات تبلغ الملايين عدا, وكل هذه الأعداد للعين وما تشتمل عليه, وكل هذه التنظيمات لها ولأجزائها حصل في وقت واحد وكان لا بد منه, وإلا كان الإبصار مستحيلا. فهل وجد ذلك كله مصادفة, أو صنعة بشر؟ كلا, بل هو الله وحده الذي لا يعجزه عليه شيء. ثم هذا العالم بأرضه ومائه وجد في مكانه الصحيح, فلو كان المحيط أعمق بضعة آلاف من الأقدام عما هو حاصل لما كان لدينا أوكسجين ولا نباتات.

والأرض تدور مرة كل يوم وليلة, فلو تأخر هذا الدوران عن أربع وعشرين ساعة لما أمكن وجود الحياة. زهكذا نرى أن استعراض عجائب الطبيعة والكون عن كل نواحيه, والتأمل بعمق في كل ذلك يدل على أن هناك تصحيحا وقصدا في كل شيئ, وأن هذا التصميم ينفذ كله طبقا لمشيئة الخالق. وما دامت عقولنا محدودة فإننا لا نقدر أن ندرك ما هو غير محدود. وعلى ذلك لا نقدر إلا أن نؤمن بوجود الخالق المدبر الذي خلق كل الأشياء, بما فيها تكوين الذرات والكواكب والشمس والسديم" (¬1). ويقول الأستاذ الحكيم الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره المسمى "الجواهر" (¬2) في صدد الكلام عن بدائع صنع الإنسان: "ويا ليت شعري أي هندسة وأي نظام وأي مقياس كان في الرحم حتى صنع هذه المقاييس أثناء مرور الجنين بأطواره المختلفة وجعل أعضاء الإنسان وحواسه مرتبة منظمة: 1 - بحيث تكون قامته ثمانية أشبار بشبره هو, ويكون من راس ركبته إلى أسفل قدميه شبران, ومن ركبته إلى حقويه شبران, ومن حقويه إلى رأس فؤاده شبران ومن رأس فؤاده إلى مفرق رأسه شبران, بنسب متساوية كما تساوت نسب الأصابع في اليدين وفي الرجلين. 2 - وإذا فتح الإنسان يديه ومدهما يمنة ويسرة كما يفتح الطائر جناحيه وجد ما بين رأس أصابع يده اليمنى إلى رأس أصابع يده اليسرى ثمانية أشبار نصفها عند ترقوته والربع عند المرفقين. 3 - وإذا رفع يديه إلى ما فوق رأسه كان ما بين أطراف أصابع يديه إلى أصابع قدميه عشرة أشبار وذلك قامته وربعها. ¬

(¬1) كتاب الإسلام وحاجة الإنسانية إليه للدكتور محمد يوسف موسى من ص 88 إلى ص 91. (¬2) جـ2 ص 46.

4 - وطول وجهه من منبت الشعر فوق جبينه إلى رأس ذقنه شبر وثمن شبر بشبره. 5 - والبعد ما بين أذنيه شبر وربع. 6 - وطول شق كل عين من عينيه ثمن شبره. 7 - وطول إبهامه وطول خنصره متساويان! وهذا قل من كثر من المقاييس العجيبة التي في جسم الإنسان, وذلك كله إذا كان طبيعيا معتدلا. وصدق الله القائل: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8)} (¬1) والقائل: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (¬2). وقال الدكتور مصطفى محمود (¬3) في صدد الكلام عن مخ الإنسان: المخ هو سنترال عظيم, فيه مائة ألف مليون خط عصبي قادمة إليه من مختلف أماكن الجسد. والعصب البصري وحده فيه مليون خط عصبي قادم إليه من العين, وقس على ذلك باقي الأعصاب. وكل هذه الخطوط تلتقي في الدماغ حيث يقوم المخ بتحليل رسائلها والرد عليها بأعجوبة وأفعال فورية. وبالإضافة إلى هذه الخطوط تجد آلاف الملايين من الخطوط الأخرى التي تقوم بدور الترابط في داخل السنترال نفسه بين مختلف المراكز حيث ¬

(¬1) الانفطار 6،7،8. (¬2) الملك: 3. (¬3) في كتابه: "لغز الحياة" ص 100.

يقوم المخ بدور آخر هو التفكير بالإضافة إلى ردود الفعل التي يجيب بها على كل صنوف التنبيهات. والحواس الهامة لها مراكز محدودة وسنترالات أصغر, خاصة بها. فالمركز البصري يقع في مؤخرة الدماغ, ومراكز اللمس والسمع على الجانبين, ومراكز الحركة في المنتصف, ومراكز التوازن أسفل الدماغ في فصوص صغيرة خاصة بها اسمها "المخيخ" ومراكز التنفس والدورة الدموية في أعلى الحبل الشوكي عند اتصاله بالمخ, أما التفكير والخيال والتصور والذاكرة وإدراك المستقبل والإحساس بالكيان والتدبر والعزم والتخطيط فلها فص أمامي هائل (خلف الجبهة) خاص بها ولا مثيل له في الحيوان. وهكذا كل نشاط له مركز خاص حتى العاطفة والغريزة والجنس والألم واللذة والنوم لها مراكزها ... وفي كل مركز ملايين الخلايا ساهرة كموظفي (السويتش) في حالة يقظة دائمة تجيب وتستجيب لأدق الهمسلت العصبية. وفي كل لحظة تتدفق ملايين الإشعارات والرسائل العصبية من الجلد والعين والأذن والأنف ومن الأحشاء والقلب والأوعية الدموية والكبد والرئتين وكل مكان بالجسد حاملة المعلومات والتنبيهات إلى المخ, هذا بالإضافة إلى خطوط الترابط الداخلية في المخ نفسه بين المراكز المختلفة, وهي الخطوط التي تقوم بالتنوير الضروري بين مختلف المراكز. وفي نفس اللحظة تحمل ملايين الخطوط العصبية الصادرة عن المخ ردود الأفعال على هذه التنبيهات وعلى شكل أوامر بالحركة إلى العضلات وتعليمات بالإفراز للغدد المختلفة إرشادات باتخاذ إجراءات سلوكية معينة لكل

عضو. هذا النشاط المعقد هو دوره اهمنه. أليس هذا داخلا تحت قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1) وهل يمكن أن يكون ذلك كله إلا من صنع الحكيم الخبير القائل: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (¬2) ولو أننا استطردنا في ذكر عجائب الإنسان من بدء تكوينه إلى أن يستوي ثم يولد ثم يتطور في أطواره المختلفة, وذكرنا ما أعده الله له من غذاء وماء وهواء ومناخ, وما كرم به الإنسان دون سائر الحيوانات, ما وسعتنا إلا مجلدات عديدة, ولو تتبعت العلوم الإنسانية لوجدتها كثيرة جدا, وكل علم منها يبذل جميع جهده ومحاولاته من أجل فهم الإنسان وحاجات الإنسان وأخلاقياته ونفسياته واجتماعياته وسياسته وحروبه وسلمه وأمراضه وعلاجه ... الخ, أليس الإنسان وحده كافيا في إثبلت وجود صانع حكيم عليم مدبر؟ ولذلك أراح المؤمنون أنفسهم من عناء الشك والتردد بعد أن استبان الحق وظهرت معالم الطريق فقالوا"ربنا الله ثم استقاموا" وكانوا بذلك أسعد الناس وأطيبهم نفسا وأحسنهم عملا, وأنطقهم ضميرا وأقومهم سبلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} (¬3) ¬

(¬1) طه 50. (¬2) النمل: 88. (¬3) محمد:3.

القرآن وعبر الدواب

الطائفة الثانية من الأدلة (من كتاب الله تعالى) القرآن وعبر الدواب 3 - قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} (¬1) وقال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬2). وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3). إن عالم الحيوان والطيور والحشرات لو نظرنا فيه نظرة تأمل لوجدنا له عجائب يعجز الإنسان عن تفسيرها ولا يسعه عند إدراكها إلا أن يقول: سبحان الله الذي خلق فسوى, وقدر فهدى, ومنح كل كائن ما به يحيا, ويدافع عن نفسه ويهاجم عدوه ويجلب رزقه, ويدبر أمره حسب الظروف والأجواء المحيطة به, وسأنقل أليك في ذلك بعض ما ذكره الشيخ طنطاوي ¬

(¬1) الأنعام 38. (¬2) هود: 6. (¬3) النور: 45.

اللطيفة الأولى

جوهري في تفسيره "الجواهر" (¬1) مكتفيا بذكر اللطائف التي ذكرها مستعينا بذلك عن الشرح وزيادة التفصيل , قال: اللطيفة الأولى لقد رآى العلماء الباحثون في العصر الحاضر, وكشفوا أن بعض الذباب يحفر لبيضه جحرا في الأرض يضعه فيها, ثم يذهب إللا عنكبوت أو دودة يمج فيها جزءا من السم فتسكن حركتها, ثم يحملها إلى جحره ويلقيها عند البيض ويسد عليها, فإذا خرجت الأولاد من البيض وجدتها بجانبها فتغذت بها. وسبب ذلك أن هذه الحشرات لا تأكل ميتة قط, وأمها لا ترى أولادها قط فتحضر لها هذه الحشرات التي خدرتها بسمها حتى إذا خرجت من البيض أكلتها, أليس ذلك داخلا تحت قوله تعالى: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2)؟. فأين تعلمت هذه الذبابة وهي لم تر أمها ولم يكن لها مدارس ولا معلمون؟؟؟ اللطيفة الثانية بعض أنواع الذباب لا يعيش أولاده إلا في جوف الحيوان, فتعمد الذبابة إلى دودة فتخرق جلدها بخرطومها, ثم تضع بيضها الكثير موضع الخرطوم تحت الجلد, فغذا حصل الفقس وخرجت الأولاد أكلت من اللحم والدهن ولم تتعرض للأعصاب الت عليها مدار الحياة, ومتى خرجت عملت كل واحدة منها لنفسها خيطا محكما تلتف فيه, وتتراكم فوق سطح الجثة, فتغطيها بكثرتها لتأكلها فلا يرى الراؤون منها شيئا {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬3). ¬

(¬1) جـ 2 ص 81. (¬2) آل عمران:27. (¬3) يوسف:100.

اللطيفة الثالثة

اللطيفة الثالثة الأرانب تنتف شعر بطنها, فتجعله فراشا لأولادها, وبعض الحشرات أعظم منها شفقة وأكثر رحمة, فإنها تنتف شعرها كله, ولا تكتفي بجزء منه, ومتى باضت لفت بيضها في شعرها فجعلته أثوابا تصنعها لوقايته من الحر والبرد والعوارض الجوية ثم تموت. اللطيفة السادسة إن يعسوب النحل التي يقال لها أم النحل إذا ماتت اخترن واحدة منهن وهيأن لها مكانا أوسع خمس مرات وأخذن يخدمنها ويطعمنها الشهد الذكي الرائحة فتكبر سريعا لحسن المواد الغذائية فتأمر وتنهى وتعمل على مقتضى القوانين, ولا يخترنها إلا إذا كانت فيها تلك الصفات التي يعرفنها بالإلهام. اللطيفة التاسعة إن النحل إذا دخل عليه عدو من الحشرات مزقه, فإن كان العدو صغيرا رماه, وإن كان كبيرا اجتمع عليه ولسعه بعنف حتى يموت, ولما لم يكن في قدرته إخراجه فإن الجماعة تحضر صمغا من بعض النباتات فتلفه به وتغلفه .. فبالسم تخلصت من حياته وبالصمغ تخلصت من ضرره بعد موته, لأنه محنط .. (ويلاحظ أنني أترك بعض اللطائف لعدم أهميتها في الموضوع). اللطيفة العاشرة 1 - إن القنفذ يصعد إلى الكرم فيرمي بالعنقود, ثم ينزل فيأكل منه ما يكفيه, وإن كان له فراخ تمرغ على الباقي فيتعلق بشوكه فيذهب به إلى أولاده. 2 - إن من بين الغراب والذئب ألفة, فإنه إذا رآى الذئب بقر بطن شاة سقط وأكل منها والذئب لا يضره.

3 - إن الفأرة تأتي إلى إناء الزيت فتشرب منه, فإذا نقص صارت تشرب بذنبها, فإذا لم تصل إليه ذهبت وأتت بماء في فمها وتصبه فيه حتى يعلو لها الزيت فتشربه (¬1). ويقول الدكتور مصطفى محمود: (¬2) من الذي علم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها ويخرج؟ من الذي علم الطيور الهجرة عبر البحار والصحارى إلى حيث تجد الغذاء الأوفر والجو الأحسن؟ وإلى حيث تتلاقح وتتوالد؟ ... ومن الذي يسدد خطاها طوال هذه الرحلة من ألوف الأميال فلا تضل؟ من الذي علم دودة القز أن تنسلخ من ثوبها مرة بعد مرة أخرى, ثم تنزوي في ركن لتبني لنفسها شرنقة من حرير تنام فيها ليالي طويلة مثل أهل الكهف ثم تخرج منها فراشة بيضاء جميلة؟ من الذي علم أبو ذنيبة كيف يصنع لنفسه ذنبا حين تقطع له ذنبه؟ .. لا أحد, إن العلم باطن في خلاياه .. كل خلية تعرف دورها معرفة تلقائية وتؤديه. وبالمثل ما يحدث لنا حينما نجرح فتلتئم جروحنا من تلقاء نفسها .. وحينما تجرح الأشجار فتلتئم بنسيج من الفلين يملؤها بين شفرات جروحها. وبالمثل مايحدث لنا بدون جراح وبدون أمراض حينما يحقق لنا جسمنا درجة حرارة ثابتة في الحر وفي البرد .. ويحتفظ لنا بوزن ثابت في ظروف مختلفة من الجوع والشبع. ويحتفظ بسلامته ووحدته في مواجهة جيوش جرارة من الميكروبات تعمل ليل نهار على تفكيكه وتفتيته وهضمه وأكله. ¬

(¬1) ا. هـ. باختصار من تفسير الجواهر. (¬2) كتابه "لغز الحياة" مع ملاحظة أننا ننقل عنه ما يتصل بتخصصه أو ما له صلة به، وليس معنى ذلك أننا نوافقه على شطحاته الخاصة بتفكيره في الدين أو في القرآن فيراعى ذلك.

هذا التوازن الدقيق الذي يتحقق بفاعلية مستمرة في الداخل وحركة دائبة لتصحيح كل خطأ .. هو الذي يثير التفكير ... إلى أن قال: والتفسير العلمي للحياة بأنها نشاط كيماوي (كما يقول الطبيعيون المنكرون للصانع) تفسير غير كاف .. لأن الجسم الميت يحتوي على نفس المواد الكيماوية التي في الجسم الحي .. والتراب يحتوي على نفس المقادير من الحديد والنحاس والكربون ... إلى أن قال: والمشكلة تحتاج إلى تفكير أكثر (¬1). ثم يقول في موضع آخر: وبيننا اليوم حشرات عجيبة تأكل أنواعا عجيبة من الأطعمة, مثل ذبابة البترول, وذبابة التحنيط التي تعيش على أملاح تحنيط الجثث, وخنفساء الدائرة الكهربائية التي تعيش على أسلاك الرصاص ... وكل حشرة تتحرك مثل عربة مصفحة تحيط بجسمها الرقيق صفائح من مادة كالصلب اسمها"الكيتين" تقاوم فعل جميع المهلكات الكيمائية ... وهي تسلح نفسها بحراب وخناجر وأشواك .. وبعضها يسلح نفسه بحويصله من السم متصلة بإبرة حامية (الزبان) يطعن بها أي عدو يقترب منه فيشله ثم يلتهمه, وبعضها يتلون بلون البيئة كفرس النبي الأخضر بلون الخضرة, أو الجرادة الصفراء بلون الرمال .. وبعضها يطلق غازات كريهة ليطرد أعداءه .. وبعضها يبني لنفسه قلاعا حصينة من الطين, وبعضها يحاكي في هيئته الونانير اللاسعة بدون أن يكون لها زبان ليضحك على مطارديه .. إلى أن قال: وأعجب ما في الحشرة ما يسمى بالمعرفة الغريزية .. فحشرة أبي دقيق تختار أوراق الكرنب لتبيض عليها مع أنها لا تتغذى على الكرنب ولا تحتاج إليه, وإنما تقودها إلى ذلك معرفة غريزية باطنية .. فالبيض سوف يفقس وسوف تخرج ديدان صغيرة لا تأكل سوى الكرنب, فيجب أن تبيض حشرة أبي دقيق على ورق ¬

(¬1) من ص 7 - إلى ص 11.

أمام بيت النمل

الكرنب ليجد الصغار ما يأكلونه. ومع ذلك فحشرة أبي دقيق لا تعرف هذه المسالة معرفة عقلية واعية .. وحتى لو رأت صغارها التي فقس عنها بيضها فهي لن تعرفها .. إن كل العملية تتم بدون وعي وبغملاء من قوة مجهولة اسمها الغريزة. وزنبور البطن يصطاد الدودة ثم يبيض عليها بيضة واحدة ثم يضعها في العش ويمضي باحثا عن حصاة ليحملها بين ذراعيه ويغلق بها باب العش .. وتفقس البيضة لتجد اليرقة الصغيرة طعامها جاهزا بين يديها .. كيف أدرك الزنبور الحاجة لأولاده فاحتاط لها؟ ... والبعوضة التي تضع بيضها على سطح الماء فتزود كل بيضة بكيس من الهواء وتطفو بها على سطح الماء ... هل تعرف قاعدة قوانين أرشميدس؟ والحشرة التي يسمونها في علم الحشرات "قاذفة القنابل" والتي تتمخطر أمام الحيوانات المفترسة دون خوف حتى إذا فتح أحدها فمه ليلتهمها ضغطت على كيس في بطنها فامتزجت في لحظة إفرازات ثلاث غدد تحتوي على مادة الهيروكيتون وفوق أكسيد الهيدروجين وإنزيم خاص, ويؤدي اختلاط الثلاثة إلى تفاعل شديد وخروج غاز لاسع كريه الرائحة فيفر الحيوان المفترس رعبا .. هل أخذت هذه الحشرة دبلوما في الكيمياء من كامبريدج؟ إلى أن قال: لا شك أن هناك إلها حكيما خلق مخلوقاته وخطط لها وهو يعلم من الغيب ما لاتعلم (¬1). أمام بيت النمل لا زلنا مع الدكتور مصطفى محمود في كتابه (لغزالحياة) وهو يتحدث الآن عن النمل وأعاجيبه وما فيه من آيات, وإن كان الدكتور حين يتحدث ¬

(¬1) ا. هـ. من كتاب لغز الحياة بتصرف.

يشعرك بأنه حائر لم يدرك القوة الخفية من وراء هذه الآيات هل هي قوة الطبيعة؟؟ أم هي قوة الله؟ (¬1) ويبدو أنه كتب ذلك حين كان في مرحلة الشك التي أوصلته إلى الإيمان حتى أخرج كتابه (من الشك إلى الإيمان). والآن مع الدكتور في أسلوبه الأدبي العلمي الجميل. قال: إن وقفة أمام نملة صغيرة لما يثير الذهول. كيف تعلمت هذه النملة أن تبني بيوتها الهندسية المعقدة ذات الدهاليز والغرف والبدرومات والمخازن؟ .. كيف انتظمت في مجتمع فيه توزيع دقيق للاختصاصات والوظائف؟ كيف تعلمت أن تزرع؟ (بعض أنواع النمل يزرع عيش الغراب) .. كيف تعلمت أن تجلب حشرة أخرى مثل حشرة المن وتسوقها أمامها في قطعان؟؟ إن اتصال هذه الأعداد الهائلة من النمل في مجتمع ذي نظام معناه أنها اكتشفت بينها وبين بعضها نوعا من اللغة والتفاهم. وآخر البحوث في هذا الباب يقول: إن النمل يتفاهم بعضه مع بعض بلغة كيماوية. ولو أنك راقبت عش النمل فسوف ترى بين وقت وآخر نملتين تلتقيان وتتبادلان ما يشبه القبلة والوشوشة. وفي الواقع أنها ليست قبلة ولا وشوشة, وإنما كل نملة تفرز في فم الأخرى لعابا خاصا فيه رمز كيمائي معين معناه .. فلنفعل كذا وكذا .. وبالمثل حينما تتسلم النملة العاملة البيضة التي تبيضها الملكة للعناية بها. تتسلمها مطلية بمادة كيمائية خاصة من إفراز الغدد الملكية .. وحينما تلعق النملة هذا الطلاء فكأنما تسلمت رسالة رمزية فيها جميع التعليمات الخاصة بالعناية بالبيضة. وشيئ آخر في النمل لا يمكن أن نسميه العقل وإنما شيئ كالبصيرة - أن تقوم النملة بخزن الطعام والحبوب والفتات والفضلات وتقوم بحراستها والسهر عليها والدفاع عنها ضد المغيرين تأهبا لفصل الشتاء دون أن تكون ¬

(¬1) ص 52.

اللغة التي يتكلم بها النحل

عندها قدرة عقلية ولا خيال ولا تصور للمستقبل وظروفه واحتياجاته وأن تهاجم النملة دودة أكبر منها أضعافا مضاعفة وتقفز في خفة فوق ظهرها .. وتمسكها من عنقها بفكين كالكلابتين, وتحقن في مراكوها العصبية مادة مخدرة تصيبها بالشلل .. وتفعل هذا في لحظات ثم تجرها فريسة سهلة مستسلمة إلى العش .. كيف عرفت النملة مكان هذه المراكز العصبية للدودة؟ إنها تفعل دائما الشيئ المناسب في الوقت المناسب (¬1). اللغة التي يتكلم بها النحل تحت هذا العنوان قال الدكتور ما يأتي بطرقته الأدبية البسيطة الخفيفة القيمة: هل ألأقيت نظرة على خلية نحل؟ إنها نظرة تستحق المخاطرة .. على الباب سوف تجد الحراس شاكي السلاح (ومن جرب لسعة زبان النحل عرف ما هو ذلك السلاح الذي يحمي به النحل دياره). وسوف تجد عددا من النحل لا عمل له إلا الضرب بأجنحته باستمرار لدفع الهواء النقي إلى داخل الخلية لتجديد هوائها .. فإذا دخلت خطوة ربما رأيت فأرا ميتا لقي مصيره نتيجة شهيته التي لم يستطع مقاومتها إلى تذوق العسل, وهي معركة في العادة لا تستغرق أكثر من دقائق يتحول بعدها الفأر إلى حيوان مشلول تماما نتيجة لسع النحل ثم يموت. ولكن المنظر المثير حقا هو منظر ملكتين من ملكات النحل تتبارزان حتى الموت وحولهما بقية الشعب يتفرج في رهبة ولا يتدخل .. فالخلية لا تتسع إلا لملكة واحدة, وعلى الملكة الثانية أن تموت أو ترحل لتبني خليتها وحدها. ¬

(¬1) ا. هـ. بتصرف ص 47 إلى ص 49.

ويبدو أن النحلة العاملة مهندسة عظيمة. تلك الجدران الجميلة المقسمة إلى آلاف الغرف السداسية البديعة ذات الهندسة المحكمة حيث تضع الملكة بيضها. كل بيضة في غرفة, ويرعى جيش النحل العامل هذا البيض حتى يتطور إلى يرقات فيطعمه بالعسل حتى يتحول إلى عذارى, فيغطيه بالحرير ويغلق عليه غرفاته حتى يستوي عوده ويتحول إلى نحل بالغ, فيخرج ليشارك في نشاط الخلية. وثمة غرفات خاصة لخزن العسل والشمع .. وغرفات خاصة واسعة لإيواء الأميرات بنات الملكة ... ثم جيش عاطل من الذكور لا عمل له إلا ساعة التلقيح حينما تطير الملكة خارجة من الخلية في الربيع, فيتبعها جيش الذكور وتظل ترتفع في طيرانها تساعدها أجنحتها الطويلة القوية بينما يتسابق خلفها الذكور ويهلك الواحد منهم بعد الآخر تعبا في تلك المطاردة غير المتكافئة ويتساقطون تباعا حتى يبقى واحد هو أقواهم فتهبط إليه الملكة وتستسلم ليلقحها ثم يموت هو بدوره .. وتعود الملكة حبلى لتضع بيضها وتبدأ القصة من جديد .. تنظيم دقيق وتوزيع صارم في الوظائف, وتعاون إلى درجة الفداء .. لا بد أن هذه النحلات تتفاهم فيما بينها بلغة ما .. وسوف تندهش حينما تعلم أن هذه اللغة هي الرقص .. بالإشارة واللغة والحركة والرقص يتكلم النحل .. هذه النحلة العائدة من الحقول اكتشفت زهورا قريبة مليئة بالرحيق, والإشارة التي سوف تعبر بها عن هذا الإكتشاف هي أن تدور راقصة في حركة دائرية, وهي تخفق بجناحيها ثم تضع قطرة من الرحيق فيشمل النحل العامل ليحفظ رائحتها جيدا, ثم ينطلق إلى الزهور, فإذا كانت الزهور المكتشفة بعيدة على مسافة أكثر من مائة متر فإنه لا بد أن تشير النحلة إلى مكانها بالضبط. ولهذا ترقص على شكل دائرة يشقها خط إلى نصفين .. وهذا الخط يشير إلى اتجاه الحقل الذي فيه الزهور ... وهي سوف تمشي على

هذا الخط وهي تهز بطنها هزات سريعة إذا كان الحقل على مسافة متوسطة, وبطيئة إذا كان على مسافة كبيرة, وعيناها ستكونان دائما ناظرتين إلى اتجاه الحقل. ويفهم النحل العامل الإشارة وينطلق إلى حيث يشير الخط على يسار الشمس أو يمينها, وبنفس الزاوية التي رسمتها النحلة أثناء رقصها فيصل إلى المكان تماما ... الخ (¬1). أظن أننا الآن وبعد هذا العرض لأعمال النحل نستطيع أن ندرك القوة الحكيمة العالمة المدبرة التي صنعت النحل وكل شيئ في إبداع رائع وتنظيم عظيم, ألا تجد ذلك كله مأخوذا من قوله تعالى في سورة النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} (¬2). إنك لو تدبرت الآية لوجتها في إيجاز تذكر من جوانب الروعة في النحل أكثر مما ذكره الدكتور مصطفى محمود وغيره, وقد ركزت الآيتان على موضوعات أساسية كل منها يحتاج سفرا تكتب فيه تفاصيله وهي: 1 - اتخاذ البيوت حسب الظروف والبيئة. 2 - اختيار الغذاء المناسب. ¬

(¬1) ا. هـ. ص 56 إلى ص 60 (لغز الحياة). (¬2) النحل 68، 69.

القرآن والعرض الشمولي للكون

3 - الاهتداء إلى الطرق الموصلة إلى الغذاء. 4 - ما يخرج منها من الشهد المختلف الألوان لاختلاف الغذاء. 5 - فوائد الشهد الخارج منها. لذلك ختمت الآيتان بتنبيه قوي إلى أن هذه الآيات المعجزات لا يهتم بها إلا ذوو العقول الكبيرة والتفكير الناضج المثمر: (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) أي يتفكرون فيعتبرون ويستفيدون. الطائفة الثانية من الأدلة (من كتاب الله تعالى) القرآن والعرض الشمولي للكون 4 - وإليك جملة من الآيات القرآنية جمعت آيات كونية كثيرة شملت النبات والأفلاك والإنسان والأشجار والثمار وغيرها. والمقام لا يسع الشرح واسنباط دقائق العجائب الإلهية منها. فعليك أن ترجع إلى الكتب المتخصصة إذا أردت المزيد من ذلك. ولكنك سوف ترى في هذه الآيات صورة للحياة في بدئها, ثم في نموها وازدهارها. وصورة للجمال الذي يشمل الكون: أرضه وسماءه على السواء. وصورة الإنسان السيد على هذا الكوكب - الأرض - وقد أضيئت له الأرض بمصابيح في السماء, وأينعت له الثمار في أنواع الأشجار, ونظمت له حركة الشمس مع الأرض ليجد لراحته الليل لباسا, ويجد لدأبه النهار معاشا, ويجد لزرعه العام فصولا, ويشعر بان رحمة خالقه وسعت كل شيئ ومنحت كل مخلوق قوام حياته وأسباب تطوره, ومادة بقائه أو فنائه. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)

فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} إلى أن قال: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} (¬1). ¬

(¬1) الأنعام: 95 - 103.

وبعد هذا العرض القرآني للكون وللإنسان وللأحياء نستخلص الآتي: 1 - هذا الكون بكل مافيه ومن فيه محدث من عدم ومحدثه هو الله تعالى. 2 - هذا الكون قائم ومتحرك ومتطور حسب سنن وقوانين ثابتة, وقانون السببية هو المهيمن والمسيطر على هذا الكون, وهذا القانون من صنع الله الذي أتقن كل شيئ. 3 - هذا القرآن الكريم آيات مقروءة تدلنا على ما في الكون من آيات محسوسة ذات دلالات علمية لا تحصى فواجب المسلمين اليوم أن ينهضوا نهضة علمية تتفق مع ما توحيه الآيات القرآنية من مدلولات علمية غفل عنها المسلمون طويلا.

الطائفة الثالثة من الأدلة - (من أقوال الفلاسفة والعلماء)

الطائفة الثالثة من الأدلة - (من أقوال الفلاسفة والعلماء) 1 - قال الأستاذ مومنيه في مجلة الكوسموس سنة 1893م في بحث يثبت به وجود الله: "إن افترضنا بطريقة تعلو عن متناول العقل أن الكون خلق اتفاقا بلا فاعل مريد مختار، وأن الاتفاقات المتكررة توصلت إلى تكوين رجل فهل يعقل أن الاتفاقات أو المصادفات تكون كائنا آخر مماثلا له تماما في الشكل الظاهري ومباينا له في التركيب الداخلي وهو المرأة بقصد عمارة الأرض بالناس وإدامة الناس فيها"؟ قال:"أليس يدل هذا وحده على أن في الوجود خالقا مريدا مختارا أبدع الكائنات، ونوع بينها وغرز في كل نوع غرائز ومتعة بمواهب يقوم بها أمره ويرتقي عليها نوعه؟ ". قال الأستاذ محمد فريد وجدي تعليقا على هذا البرهان: نقول: إن هذا البرهان الذي ظن الأستاذ مومنيه، أنه أول من لفت الأنظار إليه مستمد من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (¬1) 2 - أما ديكارت فأعطى على وجود الخالق أدلة ثلاثة: (أولها) قال: إني مع شعوري بنقص ذاتي أحس في الوقت ذاته بوجوب وجود ذات كاملة وأراني مضطرا للاعتقاد بأن هذا الشعور قد غرسته في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع صفات الكمال، وهي الله. (ثانيا) قال ديكارت: إني لم أخلق ذاتي بنفسي، وإلا فقد كنت أعطيها سائر صفات الكمال التي أدركها. إذن أنا مخلوق بذات أخرى، ¬

(¬1) الروم: 21، دائرة معارف وجدي جـ 1 ص 486.

وتلك الذات يجب أن تكون حائزة جميع صفات الكمال، وإلا اضطررت أن أطبق عليها التعليل الذي طبقته على نفسي. (ثالثا) قال ديكارت: إن عندي شعورا بوجود ذات كاملة لا تفترق في الوضوح عن شعوري بأن مجموع زوايا أي مثلث تساوي زاويتين قائمتين. إذن فالله موجود. ولم يصل ديكارت إلى هذه الحقائق إلا بعد أن تخلص مما ملئ به ذهنه من حشو رث من العقائد والتقاليد والوراثات. قال: فأردت أن أتخلص من هذه الأحمال الثقيلة ولو مرة في حياتي، وأنظر مجردا عن كل وراثة إن كنت أريد الوصول إلى حقائق ثابتة من العلم. (¬1) 3 - أما نيوتن فهو أكبر علماء الفلك في عصره من الانجليز، وهو يعتبر من العقول النادرة التي ظهرت في العالم (1642 - 1727) وهو مكتشف قانون الجاذبية العامة وغيره من القوانين الفلكية، ولما اشتهر ببعد النظر وقوة الإقناع. سأله الناس من كل مكان أن يأتيهم بدليل على وجود الله يكون في درجة المحسوسات فأجابهم قائلا: لا تشكوا في الخالق فإنه مما لا يعقل أن تكون الضرورة وحدها هي قائدة الوجود، لأن الضرورة عمياء متجانسة في كل زمان ومكان، لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات، ولا هذا الوجود كله بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها مع تغيرات الأزمنة والأمكنة، بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلا من كائن أزلي له حكمة وإرادة. ثم قال: من المحقق أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تنشأ من مجرد فعل الجاذبية العامة، لأن هذه القوة تدفع الكواكب نحو الشمس. فيجب لأجل أن تدور هذه الكواكب حول الشمس أن توجد يد إلهية تدفعها على الخط المماس لمدارتها. ثم قال: ومن الجلي الواضح أنه لا يوجد أي سبب طبيعي استطاع أن يوجه جميع الكواكب وتوابعها للدوران في وجهة واحدة وعلى مستوى ¬

(¬1) المصدر السابق ص 490.

واحد بدون حدوث أي تغيير يذكر، فالنظر لهذا الترتيب يدل على وجود حكمة سيطرت عليه، .. ثم إنه لا يوجد سبب طبيعي استطاع أن يعطي هذه الكواكب وتوابعها هذه الدرجات من السرعة المتناسبة تناسبا دقيقا مع مسافتها بالنسبة للشمس ولمراكز الحركة. تلك الدرجات الضرورية لأن تتحرك هذه الأجرام على مدارات ذات مركز واحد مشترك بين جميعها، فلأجل تكوين هذا النظام بين جميع حركاته يجب وجود سبب عرف هذه المواد وقارن بين كميات المادة الموجودة في الأجرام السماوية المختلفة، وأدرك ما يجب أن يصدر منها من القوة الجاذبة، وقدر المسافات المختلفة بين الكواكب والشمس وبين توابعها وسارتون، وجوبيتر، والأرض، وقرر الساعة التي يمكن أن تدور بها هذه الكواكب وتوابعها حول أجسام تصلح أن تكون مراكزها. إذن فمقارنة هذه الأشياء والتوفيق بينها وجعلها نظاما يشمل كل هذه الاختلافات بين أجزائه. كل هذا يشهد بوجوب وجود"سبب" لا أعمى ولا حادث بالاتفاق، ولكن على علم راسخ بعلم الميكانيكا والهندسة. ثم قال: ليس هذا كل ما في المسألة، فإن الله ضروري أيضا سواء لإدارة هذه الأجرام على بعضها، وهو الأمر الذي لا يمكن أن ينتج من مجرد قوة الجاذبية. أو لتحديد وجهة هذه الدورات لتتفق مع دورات الكواكب، كما يرى ذلك في الشمس والكواكب وتوابعها، بينما ذوات الأذناب تدور في كل جهة على السواء ... ثم قال: وغير هذا: ففي تكون الأجرام السماوية كيف أن الذرات المبعثرة استطاعت أن تنقسم إلى قسمين: القسم المضيء منها انحاز إلى جهة لتكوين الأجرام المضيئة بذاتها كالشمس والنجوم، والقسم المعتم يجتمع في جهة أخرى لتكوين الأجرام المعتمة كالكواكب وتوابعها. كل هذا لا يعقل حصوله إلا بفضل عقل لا حد له، ثم قال: كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصناعة البديعة، ولأي المقاصد

وضعت أجزاؤها المختلفة هل يعقل أن تصنع العين الباصرة بدون علم أصول الإبصار ونواميسه؟ والأذن بدون علم بقوانين الصوت؟ كيف يحدث أن حركات الحيوانات تتجدد بإرادتها ومن أين جاء هذا الإلهام الفطري في نفوس الحيوانات .. إلى أن قال: وهذه الكائنات كلها في قياسها على أبدع الأشكال وأكملها ألا تدل على وجود الله منزه عن الجسمانية حي حكيم يرى حقيقة كل شيء بذاته ويدركه أكمل إدراك (¬1) ... الخ. 4 - وقال العلامة هرشل الإنجليزي من أكابر علماء الفلك في العالم كله: "كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا وتضامنوا على تشييد صرح العلم وهو في الواقع صرح عظمة الله وحده" (¬2). 5 - وقال العلامة الطائر الصيت "لينيه" الفزيولوجي الفرنسي: "إن الله الأزلي الكبير العالم بكل شيء والمقتدر على كل شيء قد تجلى لي ببدائع صنعه حتى صرت دهشا متحيرا فأي قدرة وأي حكمة وأي إبداع أبدع من مصنوعات يده سولء في أصغر الأشياء أو أكبرها. إن المنافع التي نستخدمها من هذه الكائنات تشهد بعظم رحمة الله الذي سخرها لنا، كما أن جمالها وتنايقها ينبىء بواسع حكمته، وكذلك حفظها عن التلاشي وتجددها يقر بجلال الله وعظمته" (¬3). 6 - ويقول الأستاذ "كاميل فلامريون": "الإلحاد أحقر من أن ينتسب إلى العلم أو العقل أو أن يسمى مذهبا ¬

(¬1) ا. هـ. منه ص 496، ص 497. (¬2) ا. هـ. منه ص 503. (¬3) ا. هـ. منه ص 504.

إنسانيا، وأقل وأصغر من أن يهتم بشأنه. بل الإلحاد وهم يلم ببعض العقول المستعدة لهمزات شياطين الوساوس. إن الإحساس بالعقيدة ألصق بفؤاد الإنسان من كل إحساس فيه، وليس المنكر لها بأقل إحساسا بها من سواه. بل ربما كان تظاهره بالجحود والنكران حجة ناطقة على أنه أشد الناس تأثرا بها إلا أنه ضل الطريق وأخطأ المهيع فقذفت به حيرته إلى متائه من النظريات هي ظلمات بعضها فوق بعض، فلم ير الخلص منها إلا فرض الفروض وابتكار السفسطات التي لو خلا بها يوما وحكم فطرته لضرب بها عرض الحائط ولعلم أن إحساسه في واد وما تخيله في واد آخر، وإنا لو سئلنا يوما عمن هو أكذب الناس على نفسه لقلنا بدون تردد: هو الرجل يزعم أنه ملحد" (¬1) أليس هذا هو الدليل الشعوري الذي ذكرناه في أول الأدلة؟. ¬

(¬1) ا. هـ. منه ص 534.

الطائفة الرابعة من الأدلة - (من تجاربنا)

الطائفة الرابعة من الأدلة - (من تجاربنا) 1 - لقد بلغ الإنسان في العلوم والبحوث الكونية مبلغا إذا قيس بما سبقه يعتبر ما وصل إليه إنسان العصر كالمعجزة، ومع ذلك فإنه عندما وصل إلى القمر وسبح في الفضاء البعيد أحس بأنه ذرة في كون لا حد له، وأنه قطرة في محيط لا ساحل له، وأن عظمة العلم في أنه حقق للإنسان إدراك عجزه أمام قدرة الله وعظمته. 2 - كثيرا ما ينفق العلماء على أمر أوصلهم إليه علمهم وتجاربهم. ثم يقدرون نتيجة علمهم وتجاربهم نهاية معينة، ولكن تجاربهم وعلمهم واتفاقهم، كل ذلك يأخذ خطوة إلى الوراء حين تظهر النتيجة والنهاية عكس ما اتفقوا وضد ما قدروا. ومثلا لذلك أذكر لك هذه الواقعة التي تعلمها قرية بأكملها، ولا يشك أحد في شيء من تفاصيلها. فقد كانت لي أخت مريضة بمرض عصي العلاج، وقرر جمع من الأطباء أن لا أمل في شفائها. وبعد مدة اشتد مرضها، فلما كشف على مرضها الطبيب المعالج قرر أن لا أمل. وأن ساعة الموت قد دانت!!! وأخرج لها شهادة تثبت سبب وفاتها حتى إذا ماتت لا يحتاج أهلها إلى السفر إليه لاستخراجها، وكانت حالتها حسبما يعرف الناس من نتيجة تجاربهم هي حالة إشراف على الموت، وحضر إخوتها البعيدون، وأعدت لجثتها كل المطلوبات. وأعد أهلها المكان المخصص لتقبل العزاء من الناس، وباتوا بجوارها ينظرون إليها بانتظار اللحظات الأخيرة، وخابت تقديرات الجميع، فلم تمت المريضة بل بدأت في آخر الليل تتحرك تحرك الأحياء ... ثم شفيت بعد ذلك تماما ... وهي الآن ربة بيت تقوم بكل ما يقوم به أمثالها ... أليست هذه آية؟ ألم تسمع كثيرا بأمثلة لها؟ فمن وراء ذلك كله؟ قل إنه الله ولا أحد سواه.

3 - وكتب الأستاذ سعيد حوى القصة الآتية في كتاب "الله جل جلاله" (¬1). أذاع راديو دمشق في 10 - 1 - 65 الساعة الثالثة إلا ربعا من بعد الظهر نقلا عن مجلة الأبحاث الطبية الصادرة في انجلترا حادثة نشرتها المجلة المذكورة بتوقيع الطبيب الذي جرت معه الحادثة. والقصة: أن شابا بقي مريضا بمرض مزمن ثلاثة عشر عاما، وأعيا الأطباء دون جدوى، وقد دخل عليه كآخر طبيب الطبيب الذي يروي القصة، وبعد أن أتم فحصه رآى أنه لا أمل منه، وهناك سأله المريض بلهجة اليائس: لا أمل يا دكتور؟ فقال الدكتور: هناك أمل واحد في السماء فجرب أن تدعو ... ألا تعرف أن تصلي؟ ولأول مرة يدعو الشاب الذي دام مرضه ثلاثة عشر عاما، وعندما زاره الطبيب بعد أسبوع وجد المريض معافى، وقد شفي من مرضه الذي لم يستطع الأطباء أن يعالجوه. 4 - وأنت أيها القارئ الكريم: ألم تخرج من بيتك يوما عازما أمرا أعددت له العدة، وأجهدت النفس من أجله، ثم إذا بك في اللحظة الأخيرة تعرض عنه وتجد أنك مصروف بقوة خفية إلى أمر آخر لم يخطر على بال، ولم تسهر الليالي في التجهيز له، ثم يتضح لك بعد ذلك أن الخير فيما نالك وليس فيما فاتك؟ فمن الذي حولك عما دبرت؟ ومن الذي أنالك عكس ما قدرت؟ إنه الله الذي بيده الخلق والأمر، والذي يحول بين المرء وقلبه. 5 - هل أصاب أحدا تعرفه أو أصابتك نكبة أحسست إزاءها أن الأحياء كلهم أعجز من أن ينقذوك، وأضعف من أن يرحموك وقد يكونون هم أيضا يريدون بك الشر. ويحيكون لك حبال الدواهي، فلما يئست من الناس، ويئست من الأمل نفسه إذا شعاع يطل عليك، وأمل يبرق في قلبك، وراحة تستكين إليها نفسك، وأنت لا تدري مصدر ذلك كله. ثم بعد ساعات أو أيام أو أشهر يتبدد اليأس كله، وينسلخ الظلام، وتتواكب أمام عينيك ألوان الأمل تطارد فلول اليأس. وأنوار النصر تكتسح ظلمات الهزيمة. وترى من وراء ذلك قدرة حولت دفة الحياة من أجلك. فإذا بك ¬

(¬1) ص 68.

الخلاصة

تشفق على عدوك وظالمك، وقد كان بالأمس القريب أو البعيد سبب يأسك وشقلئك ... من الذي غير وبدل؟ مع أن العجز الكامل كان ملازما لك والقدرة والبطش كنتا في يد عدوك؟ من نشرك؟ من أحياك وأعزك؟ من رد إليك الأمل الضائع والحياة المطمئنة؟ قل ولاتنتظر .. إنه الله ... {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ (37)} (¬1). الخلاصة وخلاصة كل ما سبق أن الإيمان بوجود الله تعالى مركوز في ذات كل إنسان بفطرته، وأن الكرامة الإنسانية مستمدة من هذا الإيمان، وأن جميع الآمال التي يحيا الإنسان بها ويعيش عليها ليس لها مصدر إلا وجود ذات عليا هي المفيضة لهذه الآمال. وهي العماد الذي يعتمد عليه الإنسان سواء اعترف بذلك أم أنكر. والإنسان بدون الإيمان المشع في كيانه مثل عود ذبل، لأنه حرم مادة الحياة. وكل قلب خلا من ومضات الإيمان أشبه بجذع جذ أصله فجف واستعد للنار. وكل عقل حرم موجات الأثير الرباني (الإيمان) فهو مبتوت الصلة بالخير والسعادة وأسباب النجاة. وكل شعور لا يسري فيه ري الإيمان وعذوبته هو شعور حيواني يدبر أمره عقل شيطان. ¬

(¬1) الزمر:36، 37.

وأخيرا وليس آخرا- لو حاولت أن تستقرئ حال الفريقين- فريق المؤمنين وفريق الكافرين المنكرين لوجود الله تعالى لوجدت الآتي: 1 - المؤمنون بالله على رأسهم الأنبياء والمرسلون والعلماء العادلون. وهم طائفة جعلت حياتها رحمة للإنسانية وشفقة وعطفا عليها، عكس الطائفة المنكرة التي لا تجد منها إلا قسوة القلوب، وسفك الدماء، وإذلال البشر، وتحطيم كل القيم. 2 - المؤمنون بالله- وإن اختلفوا في صفات الله تعالى ةمعرفة ما يجب له- هم أهل الأرض جميعا تقريبا، أما المنكرون فهم قلة مسحوقة لا تكاد تذكر. 3 - لم يأت المنكرون بدليل واحد، بل بالعكس يقفون عاجزين عجزا كاملا أمام تحديات المؤمنين وأدلتهم. إذن فلنقرأ في سعادة قول الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (¬1) وقل للمنكرين وأنت مطمئن: أجيبوا عن سؤال الله المفحم لكم: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36)} (¬2) وعش في طمأنينة الإيمان، وسعادة الإيمان، ولذة المعرفة بالله الرحمن الرحيم. ¬

(¬1) لقمان: 11. (¬2) الطور: 35، 36.

الصفة الثانية (هو الأول)

الصفات الصفة الثانية (هو الأول) - الصفة الثالثة (والآخر) الصفة الثانية (هو الأول) الله سبحانه وتعالى قديم بمعنى أنه لا أول لوجوده، فوجوده تعالى ليس مسبوقا بعدم، وقدم الله تعالى بهذا المعنى واجب وثابت ثبوتا عقليا بحيث لا يتصور ضده. وضد القدم الحدوث. وهو مستحيل على الله سبحانه وتعالى، لأنه تعالى لو كان حادثا لاحتاج إلى من يحدثه ويوجده، والذي يحدثه ويوجده يحتاج إلى محدث أيضا فلا بد من وصول العقل إلى ذات تحدث وتوجد غيرها، ولا يصح أن يوجدها ويحدثها غيرها، وهي ذات الله تعالى. قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (¬1). ومعنى الأول: الذي لا ابتداء لوجوده، والذي هو سابق في وجوده كل حادث فيكون وجوده من ذاته ولا علة لوجوده. وروى البخاري عن النبي (صلى) وسلم حديثا طويلا جاء في آخره: "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء". فإذا أراد الشيطان أن يبلبل فكرك بأمر ليس في قدرة العقل الإنساني القاصر إدراكها فالجأ إلى ربك واطلب حمايته ومعونته بقولك "إياك نعبد وإياك نستعين" وقف عند ذلك مستسلما لله قائلا: "آمنت بالله" كما قال النبي (صلى): "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله" (¬2) ¬

(¬1) الحديد: 3. (¬2) رواه مسلم.

الصفة الثالثة (والآخر)

الصفة الثالثة (والآخر) وتسمى صفة "البقاء" ومعناها: أن الله تعالى لا آخر له، فلا يعتريه فناء، بل البقاء ملازم له أبداً. فالله تعالى يمتنع ويستحيلُ لحوق العدم به، لأنه تعالى لو جاز وأمكن في العقل أن يفنى لكان حادثاً ولم يكن قديماً مع أنه تعالى ثبُت قدمه، وأيضاً اتفق العقلاء على أن ما لا أول له لا آخر له، وأن من ثبت قدمه استحال عدمه. وضد البقاء الفناء. وهو مستحيل على الله تعالى استحالة عقلية وشرعية، أما العقلية فقد ذكرناها، وأما الشرعية النقلية فلقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (¬1). وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2). وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (¬3). وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ والظاهرُ والباطن}. قوله: " أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء " ا. هـ. شرح الطحاوية ص 195. ¬

(¬1) الرحمن: 26، 27. (¬2) القصص: 88. (¬3) الفرقان 58.

الصفة الرابعة (ليس كمثله شيء)

الصفات الصفة الرابعة (ليس كمثله شيء) وهي صفة معناها: أن الله تعالى لا يمكن أن يكون مشابهاً لحوادث في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله، لأنه تعالى لو كان مشابهاً ومماثلاً للحوادث التي أحدثها وخلقها في أي شيء، لكان حادثاً مثلها ولو كان كان حادثاً مثلها لما ثبت قدمه، مع أنه تعالى ثبت قدمه، فحدوثه إذاً مستحيل، وعلى هذا يكون ما أدى إلى هذا الحدوث وهو مشابهته للحوادث مستحيل، وثبت حينئذ نه تعالى مخالف للحوادث. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬1). وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)} (¬2). أي ولم يكن أحد مشابها لله في أي شيء. ومن هذا ندرك ونعلم أنه تعالى وجب وثبت له مخالفته للحوادث، ويستحيل عقلا وشرعا مشابهته تعالى لها. القول في النصوص الموهمة للتشبيه ثبت أن الله تعالى مخالف للحوادث. ولكن جاء في القرآن والسنة آيات وأحاديث ظاهرها يوهم أن الله تعالى يشبه خلقه، وإليك أمثلة لذلك: قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬3) وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (¬4) ¬

(¬1) الشورى:11. (¬2) الإخلاص (¬3) الرحمن: 5. (¬4) الانعام 18.

وقال تعالى: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (¬1) وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬2) وقال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬3) وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬4) وقال صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ". (¬5) قال صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع كقلب واحد يصرفها كيف يشاء". (¬6) هذه النصوص وأمثالها يجب تجاهها ما يأتي: أولا: الإيمان بها. لأنها ثابتة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، والإيمان بكل ما جاء في السنة فإن كانت متواترا فكذلك وإن لم يكن متواترا فإنه بالنسبة للعقيدة، لا يفيد الجزم والقطع المؤدي نفيه إلى الكفر ولكن يجب تصحيح العقيدة إزاءه. ¬

(¬1) الانعام: 3. (¬2) الرحمن 27. (¬3) الفتح:10. (¬4) الطور: 48. (¬5) رواه البخاري ومسلم. (¬6) انفرد به مسلم عن البخاري - ابن كثير جـ2 ص 298.

ثانيا: مع الإيمان بهذه النصوص يجب الإيمان كما سبق بأن الله تعالى لا يشبه خلقه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. ثالثا: لا نحاول تأويل هذه النصوص وتفسيرها وتحديد معان لها، لأننا لا ندري هل هذه المعاني مرادة الله تعالى أم ليست مرادة؟ فالتأويل والتفسير لمثل هذه النصوص مجازفة لم يؤذن لنا فيها. وبناء عليه نقول في هذه النصوص: إن الله تعالى استوى على عرشه. لأنه قال ذلك ولكن كيفية استوائه لا يعلمها إلا هو، لأنه قال: ليس كمثله شيء. ونؤمن بأنه تعالى فوق عباده. وأن هذه الفوقية ليست كفوقية المكان التي نعرفها. وكذلك نؤمن بأن لله وجها ويدا وأعينا، ولكنها ليست كأوجهنا وأيدينا وأعيننا، وأن الحقيقة يعلمها الله تعالى، وكذلك يقال في كل ما يرد موهما تشبيه الله تعالى بخلقه وهذا الذي ذكرناه هو رأي السلف رضوان الله عليهم. وهو أسلم، لأنه أبعد عن الوقوع في خطأ التأويل الذي قد يكون غير مراد له تعالى، خصوصا وأن هذه النصوص متصلة بالعقيدة، وخطر العقيدة لا يستهان به. ولكن كثيرا من العلماء الذين جاؤوا بعد القرن الخامس الهجري رأوا أن تلك النصوص إن تركت بدون تأويل ربما يترتب على عدم تأويلها وتفسيرها وقوع الذين لم يتعمقوا في فهم الإسلام في خطأ الإنحراف عن العقيدة السليمة والوقوع في ورطات فكرية خطيرة. وقد جاءت آيات الله في كتابه كما جاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على نمط اللسان العربي، وباللغة العربية الفصحى، واللغة العربية فيها الأساليب والكلمات التي يراد بها في عرف اللغة حقيقتها والأخرى التي يراد بها المجاز أو الكناية، وما دامت الآيات والأحاديث المذكورة لا يمكن أن تكون حقيقتها مرادة لإفادتها التشبيه. فلماذا لا نذهب إلى المجاز المناسب لجلال الله وعظمته؟ وفي اللغة العربية أمثلة كثيرة لذلك.

الصفة الخامسة (هو الغني الحميد)

وعلى هذا الأساس انطلقوا في تأويل ما سبق على الوجه الآتي: قالوا: إن المراد بالاستواء في الآية هو استيلاء الله على عرشه، وذلك دليل على قدرته تعالى وعظمته، والمراد بكونه تعاى قاهرا فوق عباده أن العباد خاضعون لسلطانه وحكمه، والمراد بكونه تعالى في السماء وفي الأرض أن علمه تعالى محيط بكل شيء. والمراد بوجه الله تعالى ذاته، والمراد باليد في الآية قدرته، والمراد بالأعين الرعاية، والمراد بنزول الله إلى السماء الدنيا نزول ملك بأمره، والمراد بأصبعي الرحمن قدرته وإرادته وهكذا ... وقال العلماء في الفرق بين المذهبين - مذهب السلف ومذهب الخلف - إن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم، والذي أرتضيه للقارئ هو أن يكون سلفيا بعيدا عن التأويل وأن يرفض مذهب الخلف رفضا تاما فإنه بدع من القول لا يسوغ الأخذ به، وبناء على ذلك يجب القول بأن الله تعالى متصف بالعلو على خلقه، والاستواء على عرشه، وأن اليد والرجل والقدم والعين والأعين والنزول إلى السماء الدنيا وغير ذلك مما وردت به نصوص الكتاب والسنة الصحيحة كل ذلك من صفاته تعالى على الوجه الذي يليق بذاته تعالى. ويستحيل أن يشبه في شيء من ذلك شيئا أو أحدا من خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الصفات الصفة الخامسة (هو الغني الحميد) ومعنى ذلك قيامه تعالى بنفسه واسغناؤه عن سواه وعدم احتياجه إليه في ذاته أو صفاته أو أفعاله، لأنه تعالى قديم، ووجوده من ذاته بمعنى أنه ليس أحد ولا شيء علة في وجوده. وهو تعالى متصف بجميع صفات الكمال، وكل موجود مستمد وجوده منه تعالى ومن كان كذلك يستحيل أن يحتاج إلى غيره. لأنه لو احتاج إلى غيره لكان ناقصا ولكان حادثا ولكان غيره مؤثرا فيه. وكل ذلك مستحيل في حقه تعالى فما أدى إليه وهو احتياجه إلى غيره يكون مستحيلا، وثبت قيامه تعالى بنفسه. واسغناؤه عن غيره.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)} (¬1) ويحسن هنا أن نقرأ هذا الحديث القدسي الذي ذكر أمورا كلية ملموسة ودالة بوضوح على احتياج الخلوقات إلى الله واستغناء الله تعالى عن جميع مخلوقاته. عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر جندب بن جنادة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: "يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار. وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني. ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي: لو أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. (¬2) ¬

(¬1) فاطر 15 - 16 - 17. (¬2) رواه مسلم.

الصفة السادسة (هو الله أحد)

الصفات الصفة السادسة (هو الله أحد) ومعناها: أن الله تعالى واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله. فليس في الوجود ذات تشبه ذات الله تعالى، وليس أحد متصفا بصفة تشبه صفة الله تعالى وليس لأحد غير الله فعل يشبه فعل الله تعالى. الدليل على وحدانية الذات يقوم الدليل على هاتين الآيتين: الأولى - قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬1) الثانية - قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬2) وذلك لأننا لو فرضنا وجود أكثر من إله، كان لا بد أن يكون لكل منهم من العلم والإرادة والقدرة ما يخالف بداهة ما للآخر من هذه الصفات. وهذا يكون من شأنه أن يؤدي إلى الاختلاف في الأفعال وتدبير العالم. ومن ثم يكون لا بد من فساد السموات والأرض وما بينهما. بل قد يؤدي إلى عدم وجود هذا العالم بسبب التضارب بين هذه الصفات التي ثبتت لكل منهم. وما يكون عنها من آثار. ولكن العالم بجميع أجزائه موجود على أحسن نظام. فلا بد أن يكون خالقه وموجوده إلها واحدا لا شريك له. ¬

(¬1) الأنبياء 22. (¬2) المؤمنون 91.

الدليل على وحدانية الصفات

وقد يقال: إن لنا أن نفرض وجود آلهة متعددين ولكنهم يتفقون فيما بينهم على أن لكل منهم (منطقة عمل ونفوذ) - إن صح هذا التعبير- ونقول ردا على هذا: إن هذا يجعل لنا أكثر من عالم واحد، لكل عالم قوانينه وسننه ونظمه التي يسير عليها، ولكن الواقع أنه لا يوجد إلا عالم واحد متماسك الأجزاء والأطراف، وله نظم وقوانين واحدة. إذن فالإله الخالق واحد لا غير (¬1). قال تعالى: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬2) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)} (¬3) فهو تعالى أحد: أي واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله. وهو الصمد: أي الغني الذي يقصده الناس في حوائجهم لاحتياجهم إليه وغناه عنهم. لم يلد: أي لم ينبثق عنه ولد، فهو في غاية الكمال. ولم يولد: أي لم ينبثق عن غيره، لأنه لا أول لوجوده. ولم يكن له كفوا أحد: أي لم يكن ولم يوجد أحد يساويه ويماثله. الدليل على وحدانية الصفات هو أنه لو كان لأحد صفة مثل صفة الله تعالى في الكمال لكان هذا الأحد إلها آخر، والإله الآخر مستحيل كما سبق، فيستحيل على هذا أن يتصف أحد بصفة تشبه صفة الله في الكمال. فإن قيل: إن هناك صفات يتصف بها ¬

(¬1) ا. هـ. من كتاب "الاسلام وحاجة الانسانية إليه" ص 93، 94. (¬2) الزمر 4. (¬3) الاخلاص.

الدليل على وحدانية الفعل

البشر تتفق في الإسم مع الصفات التي يتصف الله بها فيقال: فلان: عالم. قادر. مريد. سميع. بصير. متكلم. حليم. رحيم. كريم .. الخ. وقد وصف النبيصلى الله عليه وسلم في القرآن بالرأفة والرحمة كما وصف إبراهيم عليه السلام بالحلم. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1) وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (¬2) فهل الذين يوصفون بما يوصف به الإله يعتبرون آلهة؟ والجواب هو أن الله تعالى إذا وصف بصفة فإن هذه الصفة تكون كاملة كمالا مطلقا يليق بالله، وأما الإنسان وغيره فإنه إذا وصف بصفة، فإن هذه الصفة تكون مناسبة للموصوف الذي هو الإنسان مثلا، فهي صفة محدودة بحدود الطاقة الإنسانية لا تتعداها، ولذلك حين جاء المرسلون بالمعجزات- وهي أمور فوق طاقة البشر- لم ينسبوا هذه المعجزات لأنفسهم. لأن طاقتهم محدودة، وإنما قالوا: هذه المعجزات من صنع الله وحده. وقد أظهرها على أيدينا دليلا على أنه اختارنا لتبليغ دينه وأننا صادقون في قولنا "إننا رسل الله". الدليل على وحدانية الفعل قلنا إن الله واحد في فعله: بمعنى أنه لا يوجد فعل لغيره تعالى يشبه فعله بدليل أنه لو كان لغيره تعالى فعل يشبه فعله تماما لكان هذا الفاعل ¬

(¬1) التوبة: 128. (¬2) هود: 75.

الصفة السابعة (بكل شيء عليم)

متصفا بصفات الله، وحينئذ يكون إلها آخر، وقد ثبت أن تعدد الآلهة مستحيل. فوجود فعل لأحد كفعل الله مستحيل. قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1) وقال تعالى عن نفسه: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬2) الصفات الصفة السابعة (بكل شيء عليم) الله تعالى هو الذي أبدع هذا الكون، وأقامه على سنن ونظم لا تختل ولا تضطرب. وهو الذي يمسك السموات والأرض وجميع النجوم والكواكب حتى لا يصدم بعضها بعضا أو يختل بعضها عن مداره المقدر له، وهو الذي يسير مل ذرة، ويرعى كل نسمة. ويدبر أمر خلقه، ويصرف كل شأن بحكمته، ويستحيل أن يحصل ذلك كله من الله بغير علم مطلق شامل. وجميع الأدلة التي ثبت بها وجود الله تعالى ثبت بها وجود علمه فيجب أن يكون الله تعالى عالما علما مطلقا شاملا كاملا. ويستحيل في حقه تعالى الجهل بأي شيء، لأنه لو جهل أي شيء ما كان متصرفا فيه وذلك نقص في جناب الألوهية والنقص في حقه تعالى محال. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (¬3) ¬

(¬1) القصص: 68. (¬2) البروج 16. (¬3) سبأ: 2.

وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (¬1) وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬2) وعلماء الكلام يعرفون صفة العلم بأنها: صفة أزلية (قديمة) قائمة بذاته تعالى تنكشف بها المعلومات انكشافا تاما لم يسبقه خفاء. سواء أكانت هذه المعلومات واجبة أم مستحيلة أم ممكنة، فالله تعالى يعلم كل شيء على ما هو عليه في الواقع. وهذا العلم لا يتغير بتغيير المعلوم- بمعنى أن الله يعلم الشيء الموجود على ما هو عليه. فإذا تغير الموجود وحصل له تطور لم يحصل لله علم ¬

(¬1) الملك: 13 - 14. (¬2) يونس 61.

الصفة الثامنة والتاسعة (كل شيء بإرادته وقدرته)

جديد غير العلم القديم، لأن تغيير العلم لا يليق بالله تعالى المحيط بكل ما كان وما قد يكون. فالله تعالى يعلم كل شيء قبل وجوده وبعد وجوده وحال وجوده بدرجة واحدة. فالماضي والحاضر والمسقبل أطوار وتغييرات تحصل للمعلوم، ولا يترتب عليها تغيير في علم الله تعالى، لأن الله تعالى علم كل شيء في الأزل وكل ما يحدث فهو يحدث حسب علم الله الأزلي. الصفات الصفة الثامنة والتاسعة (كل شيء بإرادته وقدرته) فالإرادة معناها القصد، وترادفها في المعنى (المشيئة). ومعناها في عرف علماء التوحيد واصطلاحهم: أنها صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى يخصص بها الممكن ببعض ما يجوز عليه. ومعنى هذا أن الإرادة صفة قديمة مثل كل صفات الله تعالى عملها وتعلقها يكون بالأمور الممكنة، فهي لا تتعلق بالواجب ولا بالمستحيل. وعملها وتعلقها بالممكن يكون من أجل تخصيص الممكن ببعض ما يجوز عليه. فمثلا: وجود أي شخص من الناس وعدمه أمران ممكنان تختار الإرادة واحدا منهما وكون هذا الشخص متصفا بصفة البياض أو السمرة أو الصفرة أو السواد مثلا أمر تحدد الإرادة، وكون هذا الشخص يوجد في زمن ما دون غيره من الأزمنة وفي مكان معين دون غيره من الأماكن وفي جهة معينة دون غيرها من الجهات. وكون هذا الشخص يوجد بمقدار معين من الوزن والقياس دون غيره. هذا كله تخصصه الإرادة وتحدده. فعمل الإرادة في الممكنات هو أشبه بما نسميه في عصرنا هذا (التخطيط) فهي تخطط تخطيطا مبنيا على العلم، والقدرة تنفذ ما حددته وخصصته وخططته الإرادة. وعلى ذلك تكون القدرة مثل الإرادة متعلقة أيضا بالممكنات ولا تتعلق ولا تعمل في الواجبات ولا في المستحيلات. لأن الواجب عقلا هو الأمر الثابت الذي لا يقبل الانتقاء والعدم.

والمستحيل عقلا هو الأمر الذي لا يقبل الثبوت بحال من الأحوال. فلو تعلقت القدرة والإرادة بالواجب لتزيل ثبوته لم يكن واجبا عقليا. واو تعلقت القدرة والإرادة بالمستحيل لتزيل انتفاءه لم يكن مستحيلا عقليا. والقدرة مثل الإرادة أيضا في أنها صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى غير أن عملها وتعلقها بالممكن يكون لإيجاده أو إعدامه على وفق الإرادة. والإرادة والقدرة تشملان جميع الممكنات، فلا يخلق في ملك الله أمر لم يرده وإلا كان غافلا أو مكرها والكل مستحيل على الله تعالى. كما لا يقع في ملك الله أمر إلا بقدرته وإلا كان عاجزا والعجز على الله محال. فثبت لله تعالى صفتا الإرادة والقدرة واستحال عليه أن يكون مكرها أو عاجزا. قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1) وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬2) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (¬3) وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (¬4) ¬

(¬1) يس: 82. (¬2) البروج 16. (¬3) الحج: 14. (¬4) الاسراء 16.

الصفة العاشرة (هو الحي القيوم)

وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1) وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (¬2) هذا الكون كله كتاب مفتوح تقرأ فيه دلائل الإرادة والقدرة. وتشعر بعد التأمل فيه بالخشوع لله والرهبة من عظمته، كما تشعر بالنشوة والفرحة كلما أدركت أنك عبد لخالق هذا الكون ومدبره، وأن خضوعك لله وحده لا لأحد سواه. الصفات الصفة العاشرة (هو الحي القيوم) الحياة صفة قديمة يترتب عليها صحة اتصاف الله تعالى بجميع صفاته الكمالية من العلم والقدرة وغيرهما، وحياته تعالى- ككل صفاته- ليست من جنس حياة البشر، وإنما هي حياة تليق به تعالى، ولا تشبه حياة مخلوق. وضد الحياة الموت. وهو مستحيل على الله تعالى، لأنه تعالى لو كان ميتا ما صح اتصافه بصفات الكمال. لكنه صح وثبت اتصافه بصفات الكمال، ولا يتصف بها إلا الحي فثبتت له الحياة واستحال عليه ضدها وهو الموت. ¬

(¬1) النور: 45. (¬2) الطلاق: 12.

الصفتان 11، 12 - (هو السميع البصير)

قال تعالى: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1) وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2) وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (¬3) الصفات الصفتان 11، 12 - (هو السميع البصير) فالسمع صفة من صفات الله تعالى القديمة القائمة بذاته تنكشف بها جميع المسموعات. وسمع الله تعالى ليس بأذن وصماخ وغيرهما مما تتركب منه أداة السمع عند المخلوقات وإنما لله سمع يليق بذاته تعالى، ويستحيل عليه تعالى ضده وهو الصمم، لأن الصمم نقص والنقص في حقه تعالى محال. أما البصر فهو صفة من صفات الله تعالى القديمة القائمة بذاته تعالى تنكشف بها جميع المبصرات. وبصر الله تعالى لا يشبه في شيء بصر مخلوقاته وإنما له بصر يليق بذاته. ويستحيل عليه تعالى ضده وهو العمي، لأنه نقص والنقص في حقه تعالى محال. ومن شرط الخالق المبدع الحكيم أن يكون مدركا لما يخلقه ويصنعه بكل نوع من أنواع الإدراك، ومن ثم يجب أن يكون الله جل جلاله سميعا بصيرا وإلا لك يكن كاملا. ¬

(¬1) آل عمران: 2. (¬2) غافر 65. (¬3) طه 111.

الصفة الثالثة عشرة (الكلام)

قال تعالى حكاية لقول إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} (¬1) وقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬2) وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬3) الصفات الصفة الثالثة عشرة (الكلام) وهو صفة قديمة قائمة بذاته تعالى لا تشبه كلام الناس في شيء. مثلها في ذلك مثل جميع صفات الله تعالى: وهذه الصفة تدل على الواجب والمستحيل والجائز، ما كان من ذلك وما يكون، فيفهم الله سبحانه بهذه الصفة من أراد أن يفهمه من عباده أي أمر من الأمور سواء أكانت هذه الأمور مما يتصل بالواجبات كوحدانية الله تعالى، أو بالمستحيلات كالولد بالنسبة له تعالى، أو بالجائزات مثل الإحياء والإماته والإعزاز والإذلال .... الخ. وطريقة إيصال الله تعالى كلامه للملك أو للبشر أو لغيرهما نحن لا نعلمها لعدم ورود ما يدل عليها أو يشرحها من الأدلة الصحيحة، والدليل على الكلام قول الله تعالى: ¬

(¬1) مريم: 42. (¬2) طه: 46. (¬3) المجادلة: 1.

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (¬1). وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (¬2) ¬

(¬1) البقرة 253. (¬2) النساء 164.

أسماء الله الحسنى

أسماء الله الحسنى جميع أسماء الله تعالى تعتبر صفات الله تعالى إلا اسما واحدا فقط هو (الله) فإنه علم على الذات وليس صفة. وهذه الصفات عددها لا يقل عن مائة إلا واحدا إن قلنا إن أسماء الله تعالى (توقيفية) وهو قول الجمهور. بمعنى أننا نتوقف عن إطلاق أي صفة على الله تعالى وأي اسم إلا إذا ورد بهذا الاسم نص من كتاب أو سنة. وعددها يزيد على ذلك كثيرا إن قلنا: إن أسماء الله تعالى (توفيقية) بمعنى أن كل اسم يليق بالله تعالى يجوز إطلاقه عليه ولو لم يرد به نص. وقد ذكرعلماء التوحيد من الصفات التي يتصف بها الله ثلاث عشرة صفة وقالوا إن كل مكلف يجب أن يلم بها ويعرفها ويؤمن بها إيمانا جازما، لأن هذه الصفات لا بد منها للإله، وما عداها متفرع منها، أو داخل فيها، أو تابع لها. وقد سبقت. وأسماء الله الحسنى كلها هي التي ننادي بها ربنا. وبها نذكره ونعبده ونسأله. قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما - مائة إلا واحدا - من أحصاها دخل الجنة" (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما -مائة إلا واحدا- لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة. وهو وتر يحب الوتر" (¬3). ¬

(¬1) الأعراف 180. (¬2) البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه. (¬3) البخاري ومسلم.

وإليك هذه الأسماء كما ذكرتها رواية الترمذي. ونذكر أمام كل اسم معناه لتمام الإفادة: الله ... : علم على الذات الإلهية المقدسة الرحمن ... : المنعم بجلائل النعم الرحيم ... :المنعم بدقائقها "صغارها" الملك ... : المتصرف في ملكه كما يشاء القدوس ... : المطهر من العيوب والنقائص السلام ... : الأمان لخلقه المؤمن ... : المؤمن لخلقه من العذاب والمصدق وعده لهم المهيمن ... : المسيطر العزيز ... : الغالب الجبار ... : المنفذ لأوامره المتكبر ... : المنفرد بصفات العظمة الخالق ... : الموجد للمخلوقات من غير أصل. أو المقدر البارئ ... : الخالق لما فيه الروح والموجد لما له أصل المصور ... : المعطي لكل شيء صورة تميزه عن غيره الغفار ... : كثير المغفرة وستر الذنوب القهار ... : القابض على كل شيء والقاهر لكل شيء الوهاب ... : كثير النعم دائم العطايا والمنن الرزاق ... : خاق الأرزاق وخالق أسبابها الفتاح ... : الذي يفتح خزائن رحمته لعباده العليم ... : العالم بكل شيء فلا يغيب عنه شيء القابض ... : قابض الأرواح أو مضيق الرزق على من يشاء من عباده الباسط ... : موسع الرزق على من يشاء

الخافض: الذي يخفض من يستحق الخفض بالخزي والذل والعذاب الرافع ... : الذي يرفع من يستحق الرفعة من المتقين المعز ... : يعز من استمسك بدينه ويعطيه النصرة والغلبة المذل ... : الذي يذل أعداءه السميع ... : المدرك لكل ما يسمع البصير: المدرك لكل ما يبصر الحكم ... : الحاكم الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه العدل ... : العادل الكامل في عدالته اللطيف: الذي لطف (دق) علمه بما في القلوب الخبير ... : العالم بخبايا الأمور ودقائقها الحليم ... : الذي لا يستفزه غضب ولا يتعجل العقوبة العظيم: البالغ أقصى مراتب العظمة الغفور: كثير الغفران الشكور: الذي يعطي الكثير على العمل القليل العلي ... : الذي بلغ أعلى مراتب العظمة التي لا يتصورها عقل ولا يدركها الفهم الكبير: الذي لا تستطيع الحواس ولا العقول إدراكه الحفيظ: الذي يحفظ الكون من الخلل والإضطراب ويحفظ أعمال العباد فلا يضيع منها شيء المقيت: خالق الغذاء الروحي والمادي الحسيب: الذي يكفي عباده أو الذي يحاسبهم يوم القيامة الجليل: الذي له صفات الجلال الكريم: المعطي من غير سؤال ولا عوض

الرقيب: الذي يراقب الأشياء ويلاحظها المجيب: الذي يستجيب لمن دعاه الواسع: الذي وسع علمه ورحمته كل شيء الحكيم: صاحب الحكمة الودود: المحب الخير لخلقه والمحسن إليهم في كل الأحوال المجيد: البلغ النهاية في المجد والشرف والعظمة الباعث: باعث الرسل ومن في القبور الشهيد: العالم بكل مخلوق الحق: الثابت الذي لا يتغير الوكيل: القائم بأمور عباده وسائر ما يحتاجون إليه القوي: صاحب القدرة التامة المتين: الذي بلغ النهاية في الشدة الولي: المتولي أمر خلقه الحميد: المحمود المستحق للثناء المحصي: الذي لا يغيب عن علمه شيء المبدئ: المظهر للأشياء من العدم المعيد: الذي يعيدها بعد عدمها المحيي: خالق الحياة في كل حي المميت: سالب الحياة من الأحياء الحي: صاحب الحياة الدائمة القيوم: القائم بنفسه والمقيم لغيره الواجد: الذي يجد كل ما أراده فلا يحتاج لغيره لغناه المطلق الماجد: البلغ النهاية في المجد والعظمة

الواحد-الصمد-القادر-المقتدر المقدم: الذي بيده تقديم كل شيء حسا ومعنى المؤخر: الأول: الآخر: الظاهر: الذي أظهر وجوده بآياته ومخلوقاته الباطن: الخفي بذاته فلا يعلمها أحد على ما هي عليه الوالي: الذي تولى الأشياء وملكها المتعالي: المنزه عن النقائص البر: كثير الخير عظيم الإحسان التواب: الذي يوفق العصاة للتوبة ويقبلها منهم المنتقم: المعاقب من يستحق العقوبة العفو: الماحي لسيئات من أناب إليه الرؤوف: عظيم الرأفة والرحمة مالك الملك: ذو الجلال والإكرام المقسط: المنصف للمظلومين من الظالمين الجامع: الذي يجمع الناس يوم القيامة الغني: المستغني عن كل ما عداه والمفتقر إليه كل من سواه المغني: المتفضل بإغناء من شاء من خلقه المانع: الذي يمنع أسباب الهلاك الضار: الذي ينزل عقابه بأعدائه النافع: الذي عم خيره النور: الظاهر بنفسه والمظهر لغيره

الهادي: الذي هدى وأرشد كل شيء إلى ما فيه صلاحه البديع: الذي لا نظير له الباقي: الدائم الوجود الوارث: الباقي بعد فناء الموجودات الرشيد: المرشد لعباده والذي تجري تصاريفه بمنتهى الحكمة والسداد (¬1) الصبور: الذي لا يتعجل بالعقوبة ولا يتعجل بشيء قبل أوانه ¬

(¬1) ا. هـ. من العقائد الاسلامية ص 24، ص25.

إشراقة الصفات

إشراقة الصفات إن صفات الله تعالى وأسماءه الحسنى لها في نفس المؤمن إشراقة روحية يحس بها من صفا بالإيمان قلبه، وزكت بنور أسماء الله وصفاته نفسه، وتلذذ بالمعرفة بربه شعوره الداخلي ووجدانه. وهذا النور لا يتأتى من العلم وحده، فكم من عالم قوي الحجة باهر البرهان، فصيح اللسان، واسع الاطلاع، ومع ذلك تجده مغلق القلب، مصمت الحس، جامد المشاعر، همه من العلم الاحتراف به، وغاية بيانه أن يأكل الدنيا بدينه. وأن يظهر في الناس علما مرموقا يشار إليه، وأنت لا تشعر بأنه عالم إلا حين يتكلم في العلم، فإن تكلم في غيره فإن أحدا لا يجد انطباعات علمه في لسانه، كما لا تجدها في عمله وأخلاقه ومعاملاته. فهو يصلح أن يكون في العلم ورقة، أكثر مما يصلح أن يكون فيه قدوة. وأخشى ما أخشاه على من درس علم التوحيد أن يصير بذلك ورقة علم لا أكثر، وأن تقف استفادته منه عند حد الفهم وإزالته الشبه لا يعدوها. والذي أرجوه وأضرع إلى الله به أن يجعل العلم بصفاته تعالى نورا يغمر القلب. ونشوة تملأ الوجدان. وسعادة تسري في كيان المؤمن. فإن المؤمن الذي يوقن بأن الله تعالى متصف بكل كمال. منزه عن كل نقص، وبأنه تعالى موجودا لا أول له، وباق بقاء لا نهاية له، وبأنه لا يشبه خلقه في شيء، وهو غني بذاته غناء مطلقا عن كل ما سواه، وأن كل ما سواه حادث ومحتاج في وجوده إليه تعالى: إن من يوقن بذلك يسعد سعادة لا حد لها لأنه يدرك أنه على ما فيه من نقص قد خلقه إله كامل. وعلى ما فيه من ضعف فهو مربوب لرب قوي. وأن سنده وملجأه في دنياه وأخراه إله منه الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، فلا يليق به أن يذل لغير ربه، أو أن يخضع لغير خالقه وموجوده ومالك أمره، فهو

من الله، وبالله، وإلى الله. هو من قدرة الله وجد، وبعناية الله ورحمته يسلك سبل الحياة، ومرجعه في النهاية إلى الله، والذي يؤمن بأن الله تعالى واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله إيمانا صادقا واعيا فإنه ينقض عن نفسه آثار الشرك في قوله وعمله، ويتطهر منه في تصرفاته الفعلية كما تطهر منه في عقيدته. فالله وحده معبوده، وهو لا يعبد أحد سواه ليحقق معنى: لا إله إلا الله. والله وحده العليم بكل شيء، لذلك لا يعرض مشاكله إلا على الله. والله وحده القادر على كل شيء فلا يستغيث ولا يستعين إلا بالله. والله وحده الرحمن الرحيم، فلا يرجو في كل أموره إلا الله. والله يستجيب دعوة الداعي إذا دعاه فلا حاجة إلى وساطة بين المؤمن وبين الله سبحانه وتعالى. إنه يشعر بأن كل شيء يبعده عن عبادة الله وطاعته هو إله معبود من دون الله، فيخجل من ربه ويتألم لكبير ذنبه، ويحاول العودة السربعة إلى التوحيد الخالص ليكون من الصادقين. والذي يؤمن بعلم الله وقدرته وإرادته، وبأنه تعالى يرى ويسمع ولا تخفى عليه خافية يجد الحياة مع الله هي الحياة، ويجد المتعة التي لا حد لها في كلمة ينطق بها لسانه، وصلاة ركعة يهتز لها كيانه، ونفع إنسان احتاج إلى مساعدته، وفعل خير لأي من مخلوقات الله تعالى. الإيمان بهذه الصفات هو الذي تعيش به مع ربك، وهو الذي يحدد سلوكك، ويقيم على الطهر حياتك، ويملأ بالأمل قلبك، ويشع النور في بيتك ومجتمعك، ويفيض الخير على من عاشرك وعرفك. هذه إشراقة من إشراقات الإيمان بصفات الله تعالى. فلعلها تؤتى في النفوس ثمارها.

الجائز في حق الله تعالى

الجائز في حق الله تعالى يجوز في حق الله تعالى فعل كل ممكن أو تركه مهما كان هذا الممكن عظيما دقيق الصنعة، لأن كل ممكن قابل للإيجاد إن كان معدوما أو للإعدام إن كان موجودا، والله تعالى كامل العلم والإرادة والقدرة، فهو تعالى بذلك يتصرف في الممكن كما يشاء بقدرته حسب علمه وإرادته، وقد مضت الأدلة الكافية في ذلك.

القضاء والقدر

القضاء والقدر الإيمان بالقضاء والقدر عقيدة من العقائد الإسلامية، التي أسست على الإيمان بالله عز وجل، وبنيت على المعرفة الصحيحة لذاته تعالى وأسمائه الحسنى، وصفاته العظمى الواجبة له تعالى. فقد جاء فيما يجب الإيمان به أن الله تعالى متصف بالعلم والإرادة والقدرة، وأنه سبحانه فعال لما يريد. وعلى هذا الأساس قامت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، فكان الإيمان بهما متمما للإيمان بالله تعالى وصفاته، وعنصرا من حقيقته المشرقة. فعلم الله تعالى أحاط بكل شيء، وحسب علمه كتب كل شيء. قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61)} (¬1) وفي صفحات هذا الكتاب الغيبي الذي يعلم الله وحده حقيقته ومكانه خطت سطور القدر، وكتبت مصاير الأمور، ووضحت نهايتها من شقاوة وسعادة، ولكن أنى لنا علم بذلك؟ إنما الغيب كتاب صانه ... عن عيون الخلق رب العالمين ليس يبدو منه للناس سوى ... صفحة الحاضر حينا بعد حين والقضاء والقدر لكل منهما معنى مستقل. ¬

(¬1) يونس 61

منطقة الجبر

فالقدر معناه: إيجاد الله تعالى الأشياء حسب علمه وإرادته. وبعض العلماء عرف كلا منهما بتعريف الآخر، ولا ضرر .. فمرجع القضاء والقدر إذا إلى العلم والإرادة والقدرة كما سبق. القضاء والقدر منطقة الجبر هناك أمور تحدث حسب مشيئة الله تعالى وقدرته، وتنفذ في الناس طوعا أو كرها سواء شعر بها الناس أم لم يشعروا. فالعقول ومقدار ما يودع فيها من ذكاء أو غباء، والأمزجة وما يلابسها من هدوء أو عنف، والأجسام وما تكون عليه من طول أو قصر. ومن جمال أو قبح، والشخصيات وما تطبع عليه من امتداد أو انكماش، والزمان التي تولد فيه، والمكان الذي تحيا به، والبيئة التي تنشأ في ظلها، والوالدان اللذان تنحدر منهما، والحياة والموت، والسعة والضيق، كل ذلك ومثله لا يد للإنسان فيه، فالقدر هو الذي يوجد ذلك كله. وغني عن البيان أن شيئا من هذا ليس محل مؤاخذة ولا محاسبة، لأن هذا من الأمور التي لا قبل لنا بها، ولا سبيل لنا إليها، وفي مثلها يساق قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)} (¬1) والإيمان بهذا النوع من القدر واجب، والأدلة عليه متظاهرة من العقل والنقل، ويلحق به كل ما يصيب الإنسان في نفسه أو ماله أو ولده، من الأمراض والآفات، وجميع المصائب بعد أن يتخذ الإنسان نحوها ما يمكنه ¬

(¬1) القصص: 68

هنا لنا إرادة

من حيطة ويقوم بما يطلب منه من حذر في حدود أمر الله تعالى وشرعه، فإذا حدثت بعد ذلك مصيبة أيقن أن ما أصابه قضاء وقدر لا مفر منهما، وعليه أن يرضى بهما، ويسلم لله في حكمته، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وفي الحديث الحسن: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللع عليك" (¬1). وذلك مأخوذ من قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17)} (¬2) ومن هذه العقيدة التي تربى عليها السلف الصلح تنشأ الصفات الحميدة التي تليق بالمؤمن. مثل الشجاعة، والمرؤة، والتوكل، وإباء الضيم، ودفع المهانة والذل بكل قوة، كما تنشأ حالة الاطمئنان والاستقرار والراحة النفسية في قلب المؤمن مهما أحيط بالأخطار، لأنه يحيا في إطار قوله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} (¬3) القضاء والقدر هنا لنا إرادة أما النوع الثاني من متعلقات القضاء والقدر فهو يتصل بأعمال على عكس الأول. ونحن نشعر عند أدائها بيقظة عقولنا، وحرية ميولنا، ورقابة ضمائرنا. ¬

(¬1) رواه الترمذي (¬2) الأنعام: 17 (¬3) التوبة: 51

إننا نحس باستقلال إرادتنا وقدرتنا فيما نباشر من عمل يقع في دائرتيهما، وكان هذا الإحساس دليلا كافيا على هذه الحرية، ولكننا نطمئن القارئ بما جاء في كتاب الله تعالى دليلا على ذلك (¬1). قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً (29)} (¬2) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108)} (¬3) ولو كنا مجبورين ما نسبت إلينا هداية ولا ضلال، ولو كنا بغير إرادة حرة لكان قوله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (¬4) عبثا والعبث على الله محال، فثبت أن لنا إرادة وأننا لسنا مجبورين. والله تعالى أنزل كتابا هو القرآن وأمر الناس باتباع أوامره واجتناب نواهيه ورتب على ذلك جزاء في الدنيا والآخرة لمن أطاع ولمن عصى، وكذلك أرسل رسولا لدعوة الناس إلى كتاب الله ودينه، وأمره ومن معه من المؤمنين أن يصبروا على أذى الكافرين، ثم أمرهم بعد ذلك أن يقاتلوهم لاعتدائهم عليهم، تمردهم على الله تعالى. ¬

(¬1) ا. هـ. من عقيدة المسلم للشيخ الغزالي (¬2) الكهف: 29. (¬3) يونس: 108 (¬4) الكهف: 29

ولو كان الإنسان كالريشة المعلقة في الفضاء يحركها الهواء كيف يشاء بدون أن يكون له أدنى حرية أو إرادة ما استدعى الأمر إنزال كتب ولا إرسال رسل، لأن الحرية والإرادة والاختيار منتفية أصلا، فيكون إنزال الكتب وإرسال الرسل وترتيب الجزاء على العمل بالسعادة في الدنيا والآخرة لمن أطاع، والشقاء فيهما لمن عصى وكفر. يكون كل ذلك شبه العبث الذي لا فائدة فيه، والعبث محال على الله تعالى، فثبت أن للإنسان حرية واختيارا بدليل إنزال الله الكتب وإرساله الرسل وترتيب الجزاء على ما يفعله الإنسان بعد ذلك. والله تعالى خلق الكون وما فيه ومن فيه وجعل له سننا وقوانين ونظما يسير عليها، ومن ويحكمه قانون السببية. والإنسان جزء من هذا الكون فهو خاضع لهذا القانون في أمور دنياه وأمر دينه على السواء. قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)} وقد جرت سنة الله بالنسبة للزارع والصانع والتاجر وكل عامل أن يقوم أحد هؤلاء بعمل معين فيترتب عليه آثار معينة. فالزارع مثلا يشق الأرض ويبذر الحب ويروي بالماء، فإذا فعل ذلك وكانت الأرض طيبة والبذرة صالحة والآفة ممنوعة فإن الله تعالى يخلق من البذرة النبات ثم الثمرة وهكذا ... ولو أن الفلاح نظر إلى أن رزقه مقدر، وأن ما كتب له منه لا بد واصل إليه، ثم جلس في بيته لا يحرث ولا يزرع ما حصد إلا البؤس والشقاء.

ولو فعل مثله الصانع والتاجر والمكتشفون والمخترعون والباحثون في أسرار الكون لوقفت المصانع، وأغلقت المتاجر، وعم الجهل وهلك الناس من أمد بعيد. والعجب كبير ممن يؤمن بآيات القدر ويكفر بآيات السنن. فالله الذي قال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21)} (¬1) هو الذي قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬2) فإنزال الله للأرزاق وغيرها جعل له سببا هو السعي في الأرض، وطلب الرزق وهذه سنة الله. وإدخال الله تعالى الخلق الجنة أو النار جعل الله له سببا هو الطاعة أو المعصية. وما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز من هدايته لقوم وإضلاله للآخرين قائم على هذه السنن، ونظام الأسباب والمسببات. وتستطيع أن تجد ذلك واضحا في مثل قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} (¬3) ¬

(¬1) الحجر: 21 (¬2) الملك: 15 (¬3) البقرة: 26

وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1) وقوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} (¬2) فإنك إذا أنعمت النظر في الآيات وجدت أن إضلال الله لقوم إنما ترتب على فسقهم وأن إزاعته قلوب آخرين جاء نتيجة اختيارهم طريق الضلال. إذن فهي نفس الأسباب والمسببات، وما جاء في القرآن مطلقا محمول على هذا الأساس. وإذا كنت قد وجدت هذا المبدأ واضحا بالنسبة للآيات التي ذكر فيها الضلال والزيغ فإنك كذلك تجد نفس الخط بالنسبة لآيات الهداية: خط الأسباب والمسببات. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬3) فهداية الله لهم جاءت نتيجة جهادهم في دينه. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} (¬4) ¬

(¬1) الصف: 5. (¬2) مريم: 75. (¬3) العنكبوت 69. (¬4) محمد: 17.

الخلاصة

فهم قد زادهم الله هدى بعد أن اهتدوا. وقال تعالى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (¬1) فهو أناب إلى الله فهداه وثبته. إذن فهي أيضا أسباب ومسببات. والله تعالى هو خالق الكون، وخالق السنن، ومرتب المسببات على الأسباب، وهو الذي قدر السبب والمسبب، فالكل منه وإليه كما قال تعالى: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ} (¬2) وأمور الدين كأمور الدنيا داخلة في سنن الكون كما خلقه الله وقدره، وهذا هو فهم الرسول (صلى) لآيات الله تعالى، وعنه فهم صحابته رضي الله عنهم، فجاهدوا في سبيل الله وعملوا في حياتهم على هذا الأساس، حتى أقاموا دينا، وبنوا دولة، وأسسوا خير أمة أخرجت للناس، ولن تجد في مسيرتهم الطويلة موضعا للتواكل والاعتماد على القدر مع ترك الواجب. القضاء والقدر الخلاصة والخلاصة التي يمكن الاهتداء إليها والاعتماد عليها أخذا بما ورد في كتاب الله تعالى أن الله تعالى ثبت له العلم والقدرة والإرادة، فما من شيء إلا وهو داخل تحت علمه تعالى ومخصص بإرادته ومنفذ وواقع بقدرته. كما ثبت أن للإنسان علما وإرادة وقدرة، وأن ما ثبت للإنسان هو مستمد من الله تعالى، كما ثبت أن قضية القضاء والقدر مبنية على ثبوت علم الله تعالى وإرادته وقدرته. ¬

(¬1) الرعد: 27. (¬2) النساء 78

وأن ثبوت حرية الإنسان في عمله الإرادي ناشىء عما وهبه الله وأعطاه من علم وإرادة وقدرة، وأن تكليف الله عباده ومجازاتهم على أعمالهم مترتب على ذلك أيضا. والمنطقة المجهولة التي لم يستطع الإنسان أن يكشف غامضها إلى اليوم هي منطقة نوع الصلة بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته، وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته. ولكن هل هذه وحدها هي منطقة الغموض فيما يتصل بشأن الله تعالى؟ إن جميع صفات الله تعالى نحن لا نعرف منها إلا أسماءها وبعض آثارها، أما حقائقها فهي كذاته تعالى: يستحيل على الإنسان إدراكها. وإذا كنا نؤمن بذلك إيمانا لا شك فيه، فلماذا إذا نأتي إلى قضية القضاء والقدر فنحاول سبر غورها، وإدراك سبر غورها، وإدراك حقيقتها، وهي لا تعدو أن تكون شأنا من شؤون الله تعالى وخاصة به وليست شأنا من شؤون البشر؟. إن الله تعالى خلقنا وأمرنا ونهانا، وخاطب عقولنا، وكرم فينا إنسانيتنا، وعاملنا بقدر ما أعطانا من قدرة فهم، وقدرة عمل، وجعل حياتنا في عمومها تقوم على الأسباب والمسببات، سواء فيها عالمها العلوي وعالمها السفلي، وسواء فيها الإنسان وغيره من المخلوقات، والله تعالى ثبت لنا من صفاته مع العلم والإرادة والقدرة صفات الحكمة والعدل والرحمة وأنه لا يظلم مثقال ذرة، ولا يكلف نفسا إلا وسعها، وأنه رفع القلم عن النائم والمجنون والصبي والمكره. فعلينا إذن أن نشغل أنفسنا بما هو مطلوب منا، ولن نجد القدر يوما معوقا لنا بل سنجده يساعدنا ويمدنا بالقوة ويأخذ بأيدينا ما دمنا عاملين مخلصين. ولماذا كان موضوع القدر هو الشاغل لأمة الإسلام في حال ضعفها وتأخرها وانحطاطها؟ أليس ذلك ليجد المهمل والمقصر والمتواكل وجميع

الحمقى مظلة يترامون تحتها في بلاهة وغفلة وسقوط يسمونها القضاء والقدر؟ والله يعلم أن القضاء والقدر بريئان من أمثال هؤلاء الذين كانوا خزيا لأمتهم، وعارا لدينهم، وعبئا على الذين يريدون أن ينطلقوا باسم الله كما انطلق آباؤهم الأولون، في بناء وعبادة ونفع للإنسانية ودفع لركبها إلى حضارة نظيفة مؤمنة، تنفيذا لأمر الله القائل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1) ¬

(¬1) التوبة: 105.

النبوات وإرسال الرسل

النبوات وإرسال الرسل تمهيد الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، وأرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وعلاقته بهم في المعاملة قائمة على الكرم الإلهي، والعفو والمغفرة، وإنارة سبل الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة، ولا يأخذ الله تعالى عبده بالشدة إلا ليربيه نتيجة انحرافه فينأى عن الضلال ويستقيم مع ربه، أو ليجازيه بعدله على تمرده وظلمه وعصيانه بعد أن أمهله فلم يزدجر، ووعظه فلم يتذكر، ودعاه فلم يلب النداء. هذه هي أصول المعاملة بين الله وبين عباده، ولا يمكن معرفة الخط الإلهي الحكيم وإدراك التشريع الرباني الكامل، والشعور بما بين العبد وربه من علاقة طيبة رحيمة جميلة إلا إذا نزل بذلك من عند الله كتاب فيه ما يريد الله أن يقوله لعباده، وما يأمرهم به وما ينهاهم عنه، ويرشدهم إليه لتتحقق مصالحهم في دنياهم، وليجازيهم بما رتبه على أوامره ونواهيه من جزاء. وفيه بيان أنواع العلاقات بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والأشياء. وفيه بيان بعض ما في الكون من مخلوقات لها صلة بالإنسان مع أنه لا يراها وعليه أن يتخذ منها مواقف معينة كالملائكة والجن والشياطين وغيرهم. وفيه بيان مصير الإنسان وجزائه، في اليوم الآخر بالجنة أو النار، وفيه غير ذلك مما لا يمكنه الوصول إليه عن طريق آخر غير طريق الوحي الإلهي المنزل على نبي أو رسول اختاره الله سبحانه واصطفاه ليتلقى عن الله وحيه ويبلغه إلى الناس ويسير فيهم على هدى هذا الوحي منفذا له ومطبقا بدقة لكل ما فيه من تشريعات وأخلاق وآداب.

الفرق بين النبي والرسول

إذا فالكلام على النبوات يشمل: (1) الكلام على النبي والرسول الذي اختاره الله لوحيه ورسالته وأيده بمعجزته، (2) والكتاب الذي أنزل عليه، (3) وكيفية التلقي عن الله تعالى وعن ملك وحيه، وإليك تفصيل البيان في ذلك. النبوات وإرسال الرسل الفرق بين النبي والرسول النبي هو من أوحى الله تعالى إليه بشرع، وسمي نبيا لأنه نبئ وأخبر من قبل الله تعالى، فإن أمر بتبليغ الشرع إلى الخلق سمي رسولا أيضا، لأن الله أرسله وبعثه إلى خلقه ليبلغهم شرعه، فهو إذا مرسل ومبعوث وموفد من قبل الله تعالى إلى الخلق برسالة معينة. ومن أجل ذلك سمي رسولا، أما إذا لم يؤمر بالتبليغ فهو نبي فقط وليس رسولا لأن معنى النبوة تحقق فيه ولم يتحقق فيه معنى الرسالة: فكل رسول نبي ولا عكس. فإذا انتفت النبوة عن شخص انتفت الرسالة عنه ولا بد، لأنه لا يرسل إذا أنبأه الله وأخبره بأنه اختاره واصطفاه لوحيه أولا، ثم يخبره بأنه أرسله إلى من أرسله إليهم بعد ذلك، فالنبوة هي طريق الرسالة، ولا رسالة بدون نبوة، لذلك كان إخبار الله تعالى في القرآن بأن محمدا (صلى الله عليه وسلم) خاتم النبيين دليلا على أنه لا نبي ولا رسول بعد محمد (صلى الله عليه وسلم) وهو تعبير موجز بليغ رائع. قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (¬1). ولم يثبت أن نبيا من الأنبياء كان عبدا مملوكا لأحد من الناس، كما لم يتأكد أن أحدا منهم كان أنثى، أو أن رسولا كان من الجن أو الملائكة وأرسل إلى الإنس ليعيش معهم، لذلك قال العلماء في تعريف النبي: إنه ¬

(¬1) الأحزاب 40

الإيمان بالرسل والأنبياء جملة وتفصيلا

"إنسان-ذكر حر- أوحى إليه بشرع، فإن أمر بتبليغه فهو رسول أيضا وإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي فقط. وهذا هو القول المشهور في الفرق بين الرسول والنبي، وهناك رأي يقول: إن الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها، والنبي يشمله ويشمل من بعثه الله لتقرير شرع من قبله مثل أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيس عليهما السلام ولذلك شبه علماء أمة الإسلام بهم، وقيل: الرسول من جمع الى المعجزة كتابا منزلا عليه، والنبي غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام" 1. هـ. من شرح العقائد النسفية ص 31. كما يشترط أن يكون النبي أو الرسول خاليا من العيوب التي تنفر الناس منه لأن وجودها يمنع الفائدة من رسالته، فما قيل عن أيوب عليه السلام من أنه مرض مرضا منفرا كذب وافتراء عليه. النبوات وإرسال الرسل الإيمان بالرسل والأنبياء جملة وتفصيلا الإيمان بالرسل والأنبياء واجب، لأنه أصل من أصول الدين من أخل به كفر. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (¬1). فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الله سبحانه وتعالى، أرسل رسلا مبشرين بثوابه، ومنذرين بعقابه، قاموا بتبليغ ما أمروا به على خير وجه، وأن يعتقد أن تصديقهم واجب، وأن منلصرتهم فريضة، وأن الاقتداء بهم لازم، وأنه هو طريق النجاة من غضب اله وعذابه، كما يؤمن بأنهم مؤيدون من عند الله تعالى بالمعجزات الدالة على صدقهم. ¬

(¬1) البقرة 285

ويجب الإيمان إجمالا بجميع أنبياء الله ورسوله بدون حصر، لأن حصرهم غير معلوم بنص القرآن، لقوله تعالى: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (¬1). وقال تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (¬2). والحديث الذي ورد فيه أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا وأن عدد المرساين منهم ثلثمائة وثلاثة عشر رسولا لم يثبت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم). بل هو دائر بين الضعف والوضع فلا يصلح الاعتماد عليه. ويجب الإيمان تفصيلا بالمرسلين الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، وعددهم أربعة وعشرون، وهم حسب ترتيب وجودهم: آدم-إدريس-نوح-هود-صالح-إبراهيم-لوط-إسماعيل-إسحاق-يعقوب-يوسف-شعيب-موسى-هارون-يونس-داود-سليمان-إلياس-اليسع-زكريا-يحيى-عيسى-محمد. عليهم الصلاة والسلام وعد أكثر المفسرين منهم (ذا الكفل) فيكون عددهم خمسة وعشرين رسولا ذكرت آيات الأنعام-83 - 84 - 85 - 86 ¬

(¬1) غافر 78 (¬2) النساء: 164 - 165.

هل يمكن اكتساب النبوة والرسالة؟

منهم ثمانية عشر، ويبقى سبعة ذكرهم أحد الشعراء مع الإشارة إلى آيات الأنعام في البيتين الآتيين: في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا وأولو العزم من الرسل عددهم خمسة على الترتيب الآتي مبدوءا بأعلاهم منزلة: محمد- إبراهيم - موسى - عيسى - نوح - عليهم الصلاة والسلام قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (¬1). وسموا بذلك لأنهم صبروا على أذى قومهم وصبروا على المشاق والمتاعب وتحملوا أكثر من غيرهم. النبوات وإرسال الرسل هل يمكن اكتساب النبوة والرسالة؟ والنبوة والرسالة لا يمكن لأحد أن يكتسب إحداهما عن طريق المجاهدة والرياضة والتقوى وغيرها. لأنهما منحة من الله تعالى يختص بهما من يشاء من عباده ويتفضل بهما على من يختاره من خلقه. فهما إذن من شأن الله وحده لا دخل للخلق فيهما بأي وجه من الوجوه: قال تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬2). وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬3). ¬

(¬1) الأحقاف: 35. (¬2) الأنعام: 124. (¬3) الحج: 75.

الفرق بين الرسل والفلاسفة وأشباههم

ولا عبرة بقول من قال من الفلاسفة: إن النبوة يمكن اكتسابها بمباشرة أسباب مخصوصة كملازمة الخلوة والعبادة، وأكل الحلال ... الخ، لأنه لم يقم على ذلك دليل عقلي ولا شرعي. وهم في ذلك خلطوا بين النبوة والولاية التي سيأتي الكلام عنها. وإرسال الرسل من الأمور الجائزة، في حق الله تعالى، فهو تعالى يجوز في حقه أن يرسل إلى الناس رسلا، ويجوز ألا يرسل، لكنه تعالى أخبر من جهة الشرع أنه لا يؤاخذ أحدا على خطأ ارتكبه إلا إذا أرسل إليه رسولا يعلمه ويرشده، ويبشره وينذره كما سبق، وأخبر تعالى أنه أراد وقرر إرسال الرسل إلى عباده رحمة بهم، لأن عقلهم وحده غير كاف في هدايتهم وإسعادهم، وما دام قد أراد الله ذلك وقرره فلا بد من وقوعه شأن كل شيء أراده الله تعالى وقرره من الأمور الجائزة في حقه تعالى: النبوات وإرسال الرسل الفرق بين الرسل والفلاسفة وأشباههم 1 - قال المرحوم محمد رشيد رضا: إن حكمة الحكماء، وعلوم الفلاسفة آراء بشرية ناقصة، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود ومجهول، وهي عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة مخصوصة من الناس- وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحتها يرجحها على هواه وشهواته، إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد، لأن النوع البشري يأبى طبعه وغريزته أن يدين ويخضع خضوع التعبد لمن يعتقد أن له سلطانا غيبيا عليه بما يملكه من القدرة على النفع والضر بذاته دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس حسب سنة الكون. وأضيف إلى ما قاله الأستاذ ما يأتي: 2 - إن الرسل يتلقون عن الله تعالى دينه ويبلغونه للناس بأمانة وليس

لهم رأي في الدين إلا في الحدود التي أذن الله لهم فيها، وليس ذلك شأن الفلاسفة الذين يعتمدون على العقل فقط، والعقل وحده ثبت عدم كفايته. 3 - الرسل طائفة ممتازة من البشر يختارهم الله تعالى بنفسه، ويصنعهم لرسالته، ويربيهم بحكمته، ويعصمهم من الزلل والإثم والفواحش حتى يصلحوا للقيادة بعد نزول الرسالة عليهم. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬1). وقال لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (¬2). وقال لمحمد (صلى الله عليه وسلم): {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬3). 4 - رسالات الرسل تنزل من عند الله تعالى- وهو أعلم بخلقه- لتصنع لهم الحياة الطيبة في جميع النواحي سواء أكانت شخصية أم اجتماعية أم اقتصادية أم ساسية، وسواء اتصلت بالفرد أم بالجماعة أم بالأمة أم بالإنسانية. والرسالات في ذلك تعالج الأمور بما يتفق مع الغرائز والعواطف والاحتياجات المختلفة، وكل متطلبات الإنسان. ¬

(¬1) آل عمران: 33. (¬2) طه: 41. (¬3) القلم: 4.

والرسالات ترعى مع ذلك التواؤم بين الإنسان وبين ما يحيط به من جميع المخلوقات سواء منها الحيوانات والحشرات والنباتات والبحار والجبال وغيرها، وهذا الشمول الناجح المؤتلف مع جميع الأشياء المعالج لجميع الأمراض، المدرك لخفيات الأمور، الذي يتحسس نبضات القلوب فيرعاها، وخلجات النفوس فيحنو عليها لم يوجد لأي فيلسوف ظهر على وجه الأرض. 5 - من التاريخ الإنساني ندرك أن الفلاسفة لم ينجحوا في إقامة دولة أو أمة على فلسفتهم ومبادئهم، وذلك بسبب عجز الفلاسفة عن سد حاجة البشرية، ومن قيل عنه: إن أمة من الأمم قامت على فلسفته فإنك بالبحث ترى أن الفلسفة التي جاء بها الفيلسوف ليست هي التي جمعت عليها الأمة، وإنما هناك مؤثر آخر هو القوة والضغط، والتعذيب، والتنكيل، فهي ليست أمة قائمة على فلسفة اقتنعت بها، وإنما هي فلسفة ضيقة عذبت في سبيلها أمة، وحطمت نفوسا بشرية، وجعلت الحياة على سعتها سجنا لأهلها. فأين هذا من قول الله لرسوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (¬1). وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)} (¬2). ولذلك نجح الأنبياء نجاحا منقطع النظير في تكوين الأمم التي آمنت برسالتهم، ونجحوا في إسعادهم وإعزازهم، وفي توفير حياة الحرية والكرامة والسيادة والقوة لهم، ما دام المؤمنين ملتزمين بتعاليم هؤلاء الأنبياء. وذلك أمر لا يشك فيه عاقل. ¬

(¬1) الكهف: 29. (¬2) الغاشية 21 - 22.

وظائف الرسل

لذلك كله تجد العلماء والمفكرين المنصفين عرفوا للرسل مكانتهم، ووضعوهم في الموضع اللائق بهم بالنسبة لحاجة الناس إليهم، وضرورة الأخذ بما جاءوا به من دين-فيقول ابن القيم في ذلك: إنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ور في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إل على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجع الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال. وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلالة، فالضرورة إليهم اعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة؟؟ فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء من الرسول كهذه الحال بل أعظم، ولكن لا يحس بها إلا قلب حي، وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلية ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه. والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. النبوات وإرسال الرسل وظائف الرسل الرسل سفراء بين الله تعالى وبين خلقه يقومون بأخطر عمل بالنسبة لقومهم، فهم: 1 - الرسل يتلقون الوحي والعلم والدين عن الله سبحانه وتعالى على الوجه والكيفية التي يختارها الله تعالى:

قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} (¬1). 2 - ويبلغون رسالات الله إلى عباده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬2). 3 - ويشرحون كتب الله. ويبينون للناس ما أبهم عليهم منها، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). 4 - وينفذون دين الله ويطبقونه بكل دقة لتقتدي بهم أممهم وتسير على نهجهم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬4). (أي قدوة حسنة) 5 - ويقومون بمناقشة من أرسلوا إليهم ومجادلتهم لإقناع من يقتنع، وإبطال حجج من يكابر ويعاند، ولإزالة الشبهات، والإجابة على جميع التساؤلات المهمة، ومعالجة هذه الأمور بالرفق والحكمة والحجة حتى لا يبقى لعداء الله شبهة، وحتى لا تكون لهم يوم يجازون على مواقفهم من المرسلين حجة-قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬5). ¬

(¬1) النساء: 163. (¬2) المائدة 67. (¬3) النحل: 44. (¬4) الأحزاب: 21. (¬5) النحل: 125.

ما يجب قي حق الرسل من الصفات وما يستحيل

6 - يقومون بتربية أتباعهم تربية عالية ربانية تليق بإيمانهم بربهم، وتعدهم للشرف العظيم الذي ينتظرهم يوم لقائه وتحيته تعالى لهم وتكريمهم بنعيمه الذي لا ينفذ، كما تعدهم هذه التربية لتحمل الأمانة مع رسولهم وبعده ثم يورثونها من بعدهم جيلا بعد جيل. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (¬1). وبذلك تدرك مدى أهمية الرسل بالنسبة لصلتهم بالله ولعلمهم في أممهم، ومن أجل هذا رأى العلماء أن الرسل يجب عقلا وشرعا أن يتصفوا بصفات معينة لا يتصور العقل ولا يرضى الشرع انتفاء صفة منها عن أي رسول. وقد حصروا هذه الصفات في أربع هي: الصدق-الأمانة-التبليغ-الفطانة. فيجب اتصاف الرسل بهذه الصفات الأربع، ويستحيل عليهم أضدادها وهي: الكذب، والخيانة، والكتمان، والبلادة. وسيأتيك ذكر ما يجوز في حقهم عليهم الصلاة والسلام. وإليك تفصيل الكلام في ذلك: النبوات وإرسال الرسل ما يجب قي حق الرسل من الصفات وما يستحيل 1 - الأمانة أو العصمة يجب للرسل عليهم الصلاة والسلام الأمانة، وهي العصمة. ومعناها حفظ ظواهرهم وبواطنهم من التلبس بمعصية. ويستحيل عليهم ضدها- وهي الخيانة. ¬

(¬1) الجمعة: 2.

فهم محفوظون ظاهرا من الزنا وشرب الخمر، والسرقة، والكذب، وأمثال ذلك من المنهيات والمستقبحات. كما أنهم محفوظون باطنا من الحسد والكبر والرياء وأمثال ذلك من المنهيات الباطنة. والدليل على وجوب اتصفاهم بالأمانة أنهم لو خانوا بفعل المعصية لكان أتباعهم مأمورين من الله بفعل المعصية التي فعلها الرسول، لأن أتباع الرسل مأمورون من الله باتباع الرسل في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم من غير تفصيل، والله تعالى لا يأمر بالمعصية: قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} (¬1). فالأنبياء إذن معصومون من الله تعالى من الوقوع في المعصية سواء أكانت هذه المعصية صغيرة أم كبيرة. وذلك ما يتفق مع جلال أعمالهم وشرف رسالتهم وصلاحيتهم للقدوة الواجبة على أتباعهم والطاعة المفروضة لهم على هؤلاء الأتباع. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (¬3). ¬

(¬1) الأعراف: 28. (¬2) آل عمران: 31. (¬3) النساء: 64.

النبوات وإرسال الرسل شبهات حول عصمة الأنبياء والمرسلين قد ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ما ربما فهم منه وقوع الأنبياء في الذنوب والمعاصي، وهنا يجد المغرضون وأعداء الدين مجالا يحاولون فيه تسميم الأفكار، وبلبلة النفوس بزرع الشك فيها، ويجترئون على رسل الله وصفوة خلقه بوصفهم بأوصاف لو وصفت أنت بها زعيمهم الذي يتبعونه ويؤمنون به لهاجوا وماجوا وآذوا، وتوقحوا، واعتدوا على من يتنقص زعيمهم بكل ما أمكنهم الاعتداء به. مع أن ما ورد في حق الأنبياء مما يوهم مخالفتهم هو نفسه أكبر دليل على عصمتهم كما أنه أكبر دليل على أن الله تعالى يعامل أنبياءه معاملة خاصة فيها شدة أكثر وتكليف أشق، ليتناسب ذلك مع مكانتهم عند الله. وللرد على هذه الشبهات نذكر أولا أصولا عامة على المسلم فهمها ووعيها فنقول: 1 - إن المنطق السليم والتفكير العقلي الواعي يوجب الاعتقاد بأن هذه الطائفة المختارة من الله، والتي تميزت عن جميع البشر باصطفاء الله لها لتلقي وحيه وتبليغ رسالته، والتي تربي الأمم، وتكون قدوة يجب اتباعها ةترسم منهجها. لا بد من أن تكون متصفة بصفات نفسية وخلقية وروحية تتفق مع جلال وعظمة وظيفتها. وأقل تطبيق لهذه الصفات ألا يقع الرسل في أمر نهى الله عنه، وألا يتورطوا في ذنب أو معصية. بل لا يليق بهم عقلا أن يقعوا أثناء رسالتهم في أمر مكروه أو الأولى تركه شرعا. إن وقوعهم في معصية أو ذنب أثناء الرسالة يتناقض مع جلال رسالتهم، ووجوب اتباعهم.

2 - الله تعالى وصف المرسلين في القرآن بأوصاف تدل على اختياره لهم وتمييزهم عن غيرهم ووضعهم في درجات فوق مستوى غيرهم من البشر، فلو ارتكبوا ذنوبا، أو وقعوا في معصية لكانوا مساوين لأي فرد من عامة البشر، وذلك ما لا يتفق مع الأوصاف التي ذكرهم الله بها في كتابه، والتي يجب الإيمان بها لثبوتها بدليل قطعي، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬1). وقال تعالى في جملة من المرسلين: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} (¬2). وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬3). وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (¬4). وقال تعالى في حق موسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} (¬5). ¬

(¬1) الحج: 75. (¬2) ص: 47. (¬3) آل عمران: 33. (¬4) البقرة: 130. (¬5) الأعراف: 144.

وقال تعالى في شأن ثمانية عشر رسولاً: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1). وقال تعالى في حق نبينا (صلى الله عليه وسلم): {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2). 3 - إن جميع المرسلين يأمرون بأمر الله وينهون بنهيه، ويعلنون الثورة على الباطل الذي يغشاه قومهم، ويحاربون في وضح النهار العبادات الباطلة، والتقاليد الضارة، والأخلاق الفاسدة، ويقفون وحدهم أمام الجبابرة، والعتاة، وعظماء الناس، ورؤسائهم، وملوكهم، يناقشونهم بالحجة، ويثبتون رسالتهم بالمعجزة، ويسخرون من عقول الكافرين ومن معبوداتهم المقدسة عندهم، ويهددونهم بالويل والهلاك من الله إن لم يستجيبوا لداعي الحق. ولا بد حينئذ من أن يبذل أهل الباطل- وفي يدهم إمكانيات كثيرة، ولهم أتباع يسمعون لهم ويطيعون، وفي يدهم قوة المال والجيش والشعب- لابد من أن يجتهدوا في حرب هؤلاء المرسلين، لإبطال حججهم وصرف الناس عنهم. وأسهل شيء يفعلونه ضدهم- وهو في نفس الوقت أخطر سلاح- أن يبحثوا في "أرشيف" هؤلاء المرسلين لعلهم يعثرون على سقطة أو زلة، فيكفي لو وجدوها أن يرفعوها في وجه الرسول فينتهي كل شيء. ولكن أصدق مرجع في تاريخ المرسلين مع أممهم- وهو القرآن الكريم- لم يذكر حادثة واحدة اتهم بها الكفار رسلهم وتصلح أن تكون ثلمة في أخلاقهم ونقصا في حقهم، با إن ما وجه من تهم إلى الرسل لم يكن إلا افتراء اكتشف في حينه، وباء المفتري بالخزي والسخرية بين قومه. ¬

(¬1) الأنعام: 90. (¬2) القلم: 4.

ولقد نجح المرسلون نجاحا لم ينجح ولن ينجح مثله أي زعيم أو مصلح، أو فيلسوف، وكان نجاحهم شاملا جميع نواحي الحياة. وقام نجاحهم على الإقناع بالحجة والموعظة الحسنة، والمجادلة النظيفة ولو وجدت في حياتهم لوثة لسقطت معها أقوى حجة. ولذلك أوضح القرآن الكريم الآثار السئة المترتبة على الكلوة الطيبة حين تصدر من إنسان لا يمثلها ولو كان مؤمنا عادياً فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (¬1). 4 - إن أي رسول مهما علا شأنه، وعظمت مكانته لا يزيد عن كونه عبدا لله تعالى. وعظمة الرسالة أساسها الشعور بذل العبودية وعرفان الرسل أكثر من غيرهم بحق الإلهية. وبذلك جاء وصف كثير منهم في مجال مدحهم وإظهار رضاء الله تعالى عنهم وتكريمه إياهم. فقال تعالى في شأن محمد (صلى الله عليه وسلم): {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} (¬2). وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} (¬3) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (¬4). ¬

(¬1) الصف: 2 - 3. (¬2) الإسراء: 1. (¬3) ص: 41. (¬4) ص: 45.

وفي القرآن من ذلك كثير. وما دام الشعور بذل العبودية وضعفها واحتياجها إلى ربها الكبير المتعال العظيم ذي الفضل والإنعام- ما دام هذا الشعور هو أصل وسر جلال الرسالة فكلما زاد هذا الشعور بالعبودية وعظمة الربوبية زاد معه الكمال والترقي. وذلك مبدأ مستقر في النفوس. وتجد له أمثلة في الناس خصوصا بين الرؤساء والملوك وبين المحيطين بهم. فكلما كان المخالط المقرب لهؤلاء الرؤساء خبيرا بواجبه نحو رؤسائه، قالئما بحقهم، مراعيا لمرضاتهم كان ذلك سبب زيادة تكريمه ورفعته ودوام نعمته. وحين يتغاضى هذا المقرب أي تغاض - ولو كان غير مقصود - عن القيام ببعض ما ينبغي - وقد يكون ما ينبغي أمرا ليس في حساب أحد اعتباره حين يفعل ذلك يعاتب من رئيسه أو يلام فيظن من يسمع اللوم أنه أذنب ذنبا حقيقيا. وليس الأمر كذلك، إنما هي تكاليف المقامات العالية وضريبة القرب ممن بعدت في العظمة مكانته- وهذا مثل ضربته لتقريب المعنى- إذا كان هذا الأمر مركوزا في الفطر وعهودا عند الناس، فغنك تستطيع أن تنطلق من هذا الفهم إلى ما بين المرسلين وبين ربهم سبحانه وتعالى (ولله المثل الأعلى) فمقام العبودية يوجب على الأنبياء المحاولة الدائمة لطلب الكمال عند الله- والكمال اللائق بجلال الله تعالى غير ممكن للبشر. لأن البشر يعيشون حياتهم في حدود بشريتهم لذلك شعر الأنبياء والمرسلون دائما بأنهم عبيد مقصرون في حق الله تعالى مع أنهم في غاية الكمال الإنساني. من أجل ذلك تجد هؤلاء المرسلين يكثرون التوبة إلى الله. ويخافون ربهم أكثر من غيرهم. ويبكون البكاء الحار. ويجهدون أنفسهم أضعاف أضعاف ما يجهد أقوى رجل مؤمن من أتباعهم نفسه. لماذا كل هذا؟ ألأنهم وقعوا في فاحشة؟ ألأنهم بارزوا ربهم بمعصية؟ ألأنهم فعلوا ما نهوا عنه وتركوا ما أمروا به؟ كلا. وألف كلا، وإلا لانهدم كل صرح أقاموه ورفض كل دين جاءوا به.

إنهم يعبدون بقوة الرب الذي رباهم وقربهم وأحبهم. وأعطاهم مقاليد البشر. . إنهم يخشون التقصير في حق الله وهو مالك أمرهم. وإليه مرجعهم. . إنهم يبكون على أنفسهم لعجزها عن عبادته تعالى عبادة تليق بجلاله وكماله. ولا أحد من البشر يستطيع أن يبلغ بعبادته هذا المستوى. وهم مع ربهم في هذا المقام يشعرون برحمته بهم وعطفه الكبير عليهم وزيادة تكريمه لهم، فبناء على ما بينهم وبين الله تعالى من قرب وود، يصف الله عجزهم بأنه معصية، وقصورهم بأنه ذنب ويشتد عليهم- فيما يبدو للناس- في العتاب ولكنه بأسلوب يفيض حنانا وعطفا ورحمة وعفوا. لذلك لا تستطيع أن تجد في القرآن الكريم نوعا من العتاب إلا وتجد معه ما يقابله من الرحمة والتكريم والرفعة لمكانة المرسلين الذين عاتبهم الله تعالى وإليك أمثلة لذلك تضيء لك جوانب الموضوع: 1 - فآدم عليه السلام قال الله في شأنه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (¬1). هذا هو الخبر والعتاب. ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (¬2). ففي الآية الأولى كلمتا عتاب هما: "عصى وغوى" وفي الآية الثانية كلمات تكريم وتقريب وتلطف جميل ... كلمات وليس كلمتين- "فعصى" قابلتها كلمة "اجتباه" أي قربه "وآدم" قابلتها كلمة "ربه" وما ألذها من مقابلة، "وغوى" قابلتها كلمة "فتاب عليه" وزيد هنا كلمة ¬

(¬1) طه: 121. (¬2) طه: 122.

"هدى" فأي معصية هذه التي تجلب ذلك كله؟ وهل هي معصية بالمعنى العام؟ لو كانت كذلك لدخل آدم تحت مثل قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬1). 2 - وإبراهيم الخليل عليه السلام: أخذوا عليه قوله في الكوكب وفي القمر وفي الشمس "هذا ربي" متوهمين أن هذا لا يليق بمقام إبراهيم، حتى ولو كان المراد منه التدرج مع قومه في إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته بطريقة تربوية منطقية ... وهذا وهم منهم وجهل بالقرآن نفسه فإن الله تعالى اعتمد هذه الطريقة في كتابه القويم وزكاها. وبين أنها مما أنعم به على إبراهيم حتى صار واسع الأفق ثابت اليقين قوي الحجة مرفوع الدرجة عند ربه. فقبل آيات المناقشة قال تعالى في مدح إبراهيم بسعة العلم وقوة اليقين: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (¬2). وفي نهاية مجادلة إبراهيم قومه وانتصاره عليهم قال الله تعالى في شأنه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (¬3). فهل يجد متوهم مجالا بعد ذلك لوهمه وغروره وتشككه؟! - إن إبراهيم دعا إل ربه بطريقة معينة، وربه زكى طريقته وبين أنها توفيق من الله له فمن الذي يرى لنفسه بعد ذلك وجها يلقى به الله وهو يعترض على إبراهيم وفي الحقيقة إنه يعترض على الله لا على إبراهيم!!! فتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. ¬

(¬1) النساء: 14. (¬2) الأنعام: 75. (¬3) الأنعام: 83.

3 - واقرأ عن يوسف عليه السلام قول الله في شأن ما حدث بينه وبين امرأة العزيز التي فتنت به وغلقت الأبواب وراودته عن نفسه بطريقة مكشوفة وبأسلوب صريح. فقد قال تعالى في قمة هذا الموضوع: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (¬1). فقد استغلت الإسرائيليات هذه الواقعة كما استغلها أصحاب القلوب المريضة لينسجوا منها قصة عشق متبادل، وهيام عنيف، وتحرك إلى الفاحشة من كلا الطرفين- يوسف وزليخا- مع أن المقام يدفع عن يوسف كل شبهة ويضعه في قمة الطهارة والعفة ورعاية أسمى آيات النبل والوفاء. فإن الهم المذكور في هذه الآية وضع في غطار من العصمة الإلهية، والتزكية الربانية. بحيث لا يسع أي منصف إلا أن يقف أمام موقف يوسف - عليه السلام - في إجلال وإكبار وإعظام. فقبل هذا الهم قال تعالى في يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (¬2). وبعده يأتي قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬3). أما العبارة التي نسجوا منها الافتراء على نبي الله وهي قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا} فبعدها قوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} والمعنى أن يوسف ¬

(¬1) يوسف: 24. (¬2) يوسف: 22. (¬3) يوسف: 24.

لولا برهان ربه- وهو اليقين والإيمان وشدة مراقبة الله تعالى- لفتن ووقع في الفحشة، وما دام إيمانه هو الذي عصمه فإنه يستحق الثناء العاطر والثواب الجزيل، وذلك ما نطق به القرآن الكريم، فمن أين لهؤلاء المفترين ما ينسجون وما يأفكون؟؟ 4 - وداود عليه السلام قال الله في شأنه: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} (¬1). هذا موقف داود -استغفار- وركوع، وتوبة إلى الله- فما موقف العناية الربانية منه؟ قال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} (¬2). فداود فقط ظن أنه امتحن وأنه قصر فيما يناسب عظيم مكانته عند ربه. فانفطر قلبه استغفارا، وطأطأ رأسه سجودا، وأعلن التوبة بكاء .. فبماذا قوبل من ربه؟ أفاض عليه مغفرة، وزيادة قرب، وتمام نعمة في الآخرة {وَحُسْنَ مَآبٍ} أي مرجع، وأعطاه زيادة تمكين في الدنيا {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} كل ذلك وخطأ داود غير معروف، وربه لم يذكر أنه أخطأ فكيف افترى الكاذبون قصصا حول هذا الموقف وتنقصوا داود بإفكهم وافترائهم؟ وليس لهم حجة ولا برهان على ما قالوه زورا وبهتانا؟؟ 5 - وسليمان عليه السلام: قال الله تعالى في شأنه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} (¬3). ¬

(¬1) ص: 24. (¬2) ص: 25 - 26. (¬3) ص: 34.

ما هي هذه الفتنة وما هذا الامتحان الذي مقع فيه سليمان؟ لم يأت دليل من قرآن أو سنة صحيحة يخبرنا عن نوعه، وكل الذي جاء هو حديث صحيح ذكر أن سليمان ترك قول (إن شاء الله) فعوتب على ذلك ولم يذكر الحديث أن هذا العتاب هو نفسه الفتنة التي وقع فيها سليمان، ولكننا نجد أنفسنا مسوقين إلى القول بأن هذا الحديث هو وحده الذي يصلح تفسيرا وشرحا لنوع هذه الفتنة ونوع الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل (نصف رجل) والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون" فجائز أن يكون الجسد الذي ألقى على كرسيه هو هذا الوليد الشق، وهو أقرب الاحتمالات، وجاءت به الرواية الصحيحة. فلا داعي للتجديف في حق هذا الرسول اتباعا لأهواء المغترين، والدليل على أن هذه الفتنة هي من نوع ما بين الخواص وبين ربهم ما جاء بعد هذه الآية من طلب سليمان عليه السلام مزيدا من نعم الله وإعطاء الله إياه ما طلبه وأكثر منه- اقرأ هذه الآيات يتضح لك ذلك: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً

مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} (¬1). ولم أذكر ما حصل من موسى عليه السلام من قتله القبطي بوكزة، لأن ذلك مع أنه كان قبل النبوة فإن موسى لم يرد بالوكزة قتل القبطي ولم يكن يدري أنه أوتي من القوة فوق ما أوتي غيره من بني عصره. والموقف كله كان موقف دفاع لا أكثر. وأمره واضح. 7 - وأما محمد (صلى الله عليه وسلم) فإن القول في جنابه وساحته يجب أن يكون في غاية الأدب والخشوع والإكبار والاحترام لهذه الشخصية العظيمة الفذة إنه (صلى الله عليه وسلم) عبد خاضع لربه، أعطى عبوديته كل ذله وخشوعه وخضوعه. وأعطاه ربه من التكريم ما لم يط أحدا غيره. ولا تجد في القرآن الكريم صورة ظاهرها العتاب من الله لحبيبه إلا وتجد إطار هذه الصورة وظلالها وملامح جوهرها تفيض حبا وتعظيما وتكريما وثناء عاطرا من الله لحبيبه محمد (صلى الله عليه وسلم) كما تجد الجو الذي وضعت فيه هذه الصورة كله جوا جميللا مزهرا معطرا من الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم). وأسوق لك مثلا على ذلك: قصة زواج زيد بن حارثة الذي كان مملوكا للنبي (صلى الله عليه وسلم) فأعتقه النبي ثم تبناه أعني اتخذه ولدا على عادة العرب حينئذ ثم زوجه بأمر الله تعالى زينب بنت جحش ابنة عمته (صلى الله عليه وسلم). وكانت كارهة هذا الزواج لأنها حرة وزيد مولى من الموالي. وكان أخوها عبد الله بن جحش كارها أيضا هذه المصاهرة غير المتكافئة في نظره، ولم ينفذها هو وأخته إلا بعد نزول قوله تعالى: ¬

(¬1) ص: 35 - 36.

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}. (¬1) وأراد الله تعالى من هذا الزواج إبطال تقليد اجتماعي خطير من مبادئ الجاهلية، وهو أن يكون للابن المتبني كل ما للابن الصلب من الحقوق والأحكام سواء في ذلك الميراث وحرمة تزوج الأب من زوجة ابنه المتبني وغير ذلك. فكان زواج زيد بن حارثة من زينب توطئة لذلك. فقد أخبر الله نبيه محمدا (صلى الله عليه وسلم) بالوحي بأن زيدا سيطلق زينب ثم تتزوجها أنت بعده لإبطال هذه العادة الجاهلية عمليا على يد رسول الله نفسه حتى ينحسم الأمر نهائيا وبصورة قاطعة. وجاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) زينب، وأنها تتعالى عليه، وأن العشرة بينهما غير مستطاعة. والرسول (صلى الله عليه وسلم) وحده يعلم أن الطلاق سيتم ولكنه قال لزيد: (أمسك عليك زوجك واتق الله). إنه يريد أن يعالج الأمر على طريقة البشر في مثل هذه الأمور الحرجة بالتدرج، كما أنه مع علمه بالنتيجة لم ينزل عليه من الله توقيت معين للتنفيذ، فله إذن حرية التصرف حتى يبلغ الأمر مداه، وهو مع ذلك ينظر إلى القضية على أنها خطيرة، وسوف تثير حوله الأقاويل والأراجيف إلى أبعد مدى، والمدينة مشحونة بأعدائه من اليهود والمنافقين المتربصين لكل حركة وكل كلمة. وتزوج إنسان عادي زوجة آخر بعد الموافقة على تطليقها منه كثيرا ما يكون سببا في هدم شخصية الزوج، وتنقيص مكانته بين الناس، فما بالك ¬

(¬1) الأحزاب: 36.

إذا كان الذي وافق على الطلاق وتزوج المطلقة هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكانت المطلقة قبل طلاقها زوجة من يسميه العرب ابن محمد) لذلك كان لا بد من نزول قرآن يحسم الموقف، ويشرح القضية ويذكر جميع ملابساتها ويدفع الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى السرعة في التنفيذ بأسلوب التهييج والإثارة. وهو أسلوب بلاغي معروف لدى العرب. قال تعالى في القضية كلها: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (¬1). وهنا تعلق المغرضون بقوله تعالى لرسوله (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) وظنوها غلطة لا تليق بمقام الرسالة، وافتروا على الله وعلى رسوله فيما يتوهمون، ولو تذوقوا الأسلوب القرآني لوجدوه يستعمل مثل هذا التعبير في التهييج والدفع إلى الشيء الخطير وتنفيذ أمر ذي شأن كبير وأهمية معينة. قال تعالى في حض المؤمنين على قتال أعدائهم: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} (¬2). ¬

(¬1) الأحزاب: 37. (¬2) التوبة: 13.

والذين يقال لهم هذا هم الصحابة رضوان الله عليهم وشأنهم في التزاحم على جهاد أعداء الله معروف، وقال تعالى في إثارة النفوس لتنفيذ حد الله (حد الزنا): {وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬1). ومثل هذا الأسلوب في القرآن كثير، وهو لا يراد به التنقيص، إنما يراد به الإثارة والتهييج ... ولكي ترى الصورة على حقيقتها عليك أن ترى الإطار الذي وضعت فيه هذه العبارة (وتخشى الناس). فإنها جزء من آية جاء فيها بعد هذه العبارة (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) .... فالله تعالى هو الذي تولى تزويج رسوله لإبطال هذه العادة ويكفي رسول الله شرفا أن الله هو الذي زوجه .. وقبل هذه الآية وبعدها في نفس السورة آيات عديدة كلها تكريم ورفعة لمقام رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم). منها قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} (¬2). قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬4). ¬

(¬1) النور: 2. (¬2) الأحزاب: 6. (¬3) الأحزاب 45 - 46. (¬4) الأحزاب: 56.

2 - الصدق:

فهل تجد بعد هذا تكريما لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟؟؟ هذا وقد ضربت لك أمثلة فقط لم أرد بها الاستقصاء، ولكن أردت للقارئ أن يحيا معي في هذا الجو الإلهي، وأن يحاول التمتع بما في كتاب الله تعالى من كمال واتساق حتى يرى الأمور على حقيقتها بغير زيف أو تضليل أو تحريف، وصدق الله القائل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} (¬1). هذه الأصول التي ذكرتها لك هي خلاصة ما ذكره الفخر الرازي في كتاب عصمة الأنبياء، وما ذكره غيره من العلماء وما فتح الله به علي فيما يتصل بوجوب اعتقاد عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإن ألأحت عليك- بعد معرفة الأصول التي مرت بك- شبهة حول رسول من رسل الله ذكرتها لآية من آيات الله أو حديث من أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعليك بالتفاسير المتحررة من الإسرائيليات مثل تفسير الفخر الرازي والألوسي والبيضاوي والقاسمي والمراغي وظلال القرآن. وبالنسبة للأحاديث عليك بشراح الأحاديث البعيدين عن الخرافات مثل ابن حجر في فتح الباري والنووي في شرح مسلم والشوكاني والأحوذي وأمثالهم، والله الموفق. 2 - الصدق: يجب الإعتقاد بصدق الرسل عليهم الصلاة والسلام. وبأنهم يستحيل عليهم الكذب استحالة عقلية وشرعية. فأما وجوب صدقهم واستحالة كذبهم فيما يبلغون عن الله تعالى فدليله أنهم لو كذبوا في ذلك للزم الكذب في خبره تعالى: لأن الله تعالى صدق رسله بتأييدهم بالمعجزات، فإن المعجزة التي يظهرها الله تعالى على أيدي رسله منزلة قول الله تعالى للمرسل إليهم: "إن رسولي صادق في قوله بدليل تأييدي له بالمعجزة التي لا يقدر عليها أحد سواي". ¬

(¬1) النساء: 82.

3 - الفطانة

فلو كان الرسل كاذبين لكان الكذب منصبا على المعجزة أيضا (أي على ما يعتبر خبرا عن الله تعالى بتصديق رسله) لكن الكذب في خبر الله تعالى محال. فكذب الرسل فيما يبلغون عن الله تعالى محال، فثبت صدقهم فيما يبلغونه عنه تعالى واستحال كذبهم في ذلك. قال تعالى: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} (¬1). وقال تعالى في شأن افتراء الكفار على محمد (صلى الله عليه وسلم) وقولهم إن القرآن من عنده هو لا من عند الله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (¬2). وموجز المعنى أن الله يقول: لو قال محمد على الله كلمة واحدة لم يقلها الله تعالى لقتله الله شر قتلة. وأما وجوب صدق الرسل واستحالة كذبهم في غير ما يبلغون عن الله تعالى فالدليل عليه أن الرسل لو كذبوا لكان كذبهم خيانة ومعصية وذنبا، وقد ثبت أنهم معصومون من الذنوب والخيانة واتضحت الأدلة على ذلك. 3 - الفطانة وهي حدة العقل وذكاؤه، وقوة الفهم وعمقه. وسرعة البديهة. وحضور الذاكرة بحيث يستطيع الإنسان المتصف بها إلزام خصمه وإفحام ¬

(¬1) الأحزاب: 22. (¬2) الحاقة: 44 - 47.

4 - التبليغ

المعاندين والمكابرين له. كما يستطيع بسهولة الإبانة والإفصاح عما يريد أن يقوله. والدليل على زجزب اتصاف الرسل بها أن الرسل أرسلوا لبيان الشرائع والأحكام وإزالة الشبهة وترسيخ مبادئهم بالإقناع بالحجة بالنسبة لمن آمن بهم كما أرسلوا بإقامة الحجة وإلزام الخصم، وإبطال جميع حججه وأدلته، فلم لم يتصفوا بالفطانة لاتصفوا بضدها، من البلادة والعي والغفلة فتضيع فائدة الرسالة. قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} (¬1). وقال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (¬2). 4 - التبليغ ومعناه أن يوصل الرسول ما أمره الله بإيصاله إلى من أرسل إليهم. فيجب للرسل التبليغ، ويستحيل عليهم ضده وهو كتمان شيء مما أمروا بتبليغه. والدليل على وجوب التبليغ أنهم لو كتموا شيئا مما أمروا بتبليغه للخلق لكنا مأمورين بكتمان العلم، لأن الله تعالى أمرنا بالإقتداء بهم، وكوننا مأمورين بكتمان العلم باطل. فكتمانهم شيئا مما أمروا بتبليغه للخلق يكون باطلا. فثبت لهم التبليغ، واستحال عليهم الكتمان لشيء مما أمروا بتبليغه. كما أن كتمانهم يضيع الفائدة من رسالتهم. ولذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬3). ¬

(¬1) الأنعام: 83. (¬2) النحل 125. (¬3) المائدة 67.

الجائز في حق الرسل

الجائز في حق الرسل وأما الجائز في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام فهو كل الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم ومكانتهم. فالرسل من البشر يجوز عليهم كل ما يجوز على البشر من الأمور الغريزية والعاطفية في حدود مكانة رسالتهم وما يتفق مع منزلتهم كرسل من الله إلى عباده. فيجوز عليهم الأكل والشرب والاتصال الجنسي كما يجوز أن يرضوا ويفرحوا ويغضبوا ويستحيوا ويخافوا- كما يجوز أن يمرضوا بالأمراض التي لا تعجزهم عن أداء رسالتهم، ولا تنفر الناس منهم (وما قيل عن أيوب عليه السلام من أنه مرض مرضا نفر الناس منه يعتبر كذبا وافتراء عليه) وهكذا يجوز في حقهم جميع أعراض البشرية في حدود ما ذكر. والدليل على ذلك مشاهدة تلك الأعراض بهم، كما أن هذه الأعراض لا تخل بمنصب الرسالة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ} (¬2). فالرسل رجال من البشر فيهم جميع خواص البشرية ولا يمتازون عنهم بشيء سوى أنهم رسل اختارهم الله لوحيه وهداية من شاء من خلقه، ففيهم جميع الأعراض التي تصيب البشر ولا تخل بالرسالة. ¬

(¬1) فصلت: 6. (¬2) الأنبياء: 7.

أما الأعراض التي تخل بمنصب الرسالة مثل الإغماء الطويل والجذام، والبرص والجنون والعمى والأمراض المنفرة كلها ممتنعة عليهم. وأما السهو والنسيان فلا يجوزان عليهما إلا فيما يتصل بأمر التشريع فقط كسهو الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الصلاة لتعليم الأمة. وأمل النسيان من جانب الشيطان فمستحيل عليهم إذ ليس للشيطان عليهم سبيل. وما كان قول يوشع {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} (¬1) إلا تواضعا وتأدبا مع الله. ¬

(¬1) الكهف: 63.

المعجزة

المعجزة تعريف المعجزة إذا جاء أحد الناس وادعى أن الله اختاره واجتباه وارتضاه لأن يكون رسولا من عند الله تعالى إلى الناس فإن الناس لا يمكن أن يقبلوا قوله في بادئ الأمر- مهما كان حميد السيرة مرضي الخلق حسن العشرة بين قومه- إلا إذا جاء بدليل قاطع يثبت أنه حقا رسول الله إليهم، وهذا الدليل الذي يثبت رسالته لا بد من أن يكون صادرا من عند الله تعالى، فإذا جاء الدليل من الله تعالى يثبت رسالته وجب على المرسل إليهم اتباع رسولهم، وإلا نزل بهم عذاب الله ووعيده، لأنهم كذبوا المرسل إليهم بعد وجود دليل صدقه. هذا الدليل الذي يثبت رسالة الرسول، وأنه موفد من عند الله هو المسمى (المعجزة). تعريف المعجزة فالمعجزة دليل حسي أو معنوي يعجز جميع البشر الموجودون عند إرسال الرسول عن الإتيان بمثله. وعجز البشر دليل على أن المعجزة فعل الله القادر على كل شيء. والله لا يفعل المعجزة إلا ليثبت للمرسل إليهم أنه تعالى هو الذي أرسل هذا الرسول إليهم وأنهم مكلفون باتباعه والعمل بما جاء به من دين وشرع. وقد عرف العلماء المعجزة بالتعريف الآتي: المعجزة: هي أمر يظهره الله بخلاف العادة على يد مدعي النبوة عند تحدي المنكرين على وجه يعجز المنكرون عن الإتيان بمثله. فشروط المعجزة حسب هذا التعريف هي:

1 - أن تكون المعجزة من الله تعالى دون غيره، لأنها تصديق منه لرسول فلا يصدقه بفعل غيره، سواء كان هذا الأمر (المعجزة) الذي يظهره الله قولا مثل القرآن، أم فعلا كفلق البحر لسيدنا موسى، أم تركا كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه السلام. 2 - أن تكون خارقة للعادة لأنها لو لم تكن كذلك لأمكن للكاذب ادعاء الرسالة، وخرج بهذا السحر والشعوذة والمخترعات الغربية. 3 - أن تظهر على يد من يدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له ... فخرج بهذا الكرامة والمعونة والإستدراج. 4 - أن تكون مقرونة بدعوى النبوة ومصاحبة لها حقيقة أو حكما كما إذا تأخرت بزمن يسير ... وخرج بهذا الإرهاص. 5 - أن تكون المعجزة موافقة للمطلوب، فإن جاءت مخالفة للمطلوب سميت إهانة كما حصل لمسيلمة الكذاب، فإنه تفل في عين لتبرأ فعميت السليمة. 6 - أن لا تكون مكذبة للمدعي. فلو قال الإنسان: معجزتي نطق هذا الجماد فنطق الجماد مكذبا له فإن تكذيبه يعتبر دليلا على كذب المدعي. 7 - أن تتعذر معارضة الأمر الخارق للعادة والإتيان بمثله لأن المعارضة لو أمكنت واستطاع أحد أن يأتي بمثل الأمر الخارق للعادة الذي جاء به النبي لأمكن لأي كاذب أن يدعي النبوة. 8 - زاد بعضهم أن لا تحصل المعجزة زمن نقض العادات- وذلك كزمن طلوع الشمس من مغربها وتكلم الدابة، وظهور المسيح الدجال، فإن الخوارق فيه ليست معجزة. الفروق بين المعجزة وبين غيرها من خوارق العادات 1 - هو: أن المعجزة أمر خارق للعادة يظهر على يد مدعي النبوة. 2 - والكرامة: أمر خارق للعادة يظهر على يد عبد صالح غير مدع للنبوة.

إمكان المعجزة

3 - والمعونة: أمر خارق للعادة يظهر على يد بعض العوام تخليصا من شدة. 4 - والإهانة: أمر خارق للعادة يظهر على يد كاذب مدع للنبوة خلاف مطلوبه كما حصل لمسيلمة الكذاب. 5 - والإستدراج: أمر خارق للعادة يظهر على يد فاسق مدع للإلهية، كما يظهر على يد المسيح الدجال. 6 - والإرهاص: أمر خارق للعادة يظهر على يد نبي قبل بعثته كتظليل الغمام لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام. 7 - والسحر: قواعد يقتدر بها على أفعال غريبة بالنظر لمن جهل قواعده ويمكن اكتسابه بالتعلم. 8 - والشعوذة: خفة في اليد بوساطتها يرى الشخص أشياء على أنها حقيقية وليست كذلك في الواقع كما يفعل الحواة. 9 - وغرائب المخترعات: هي الناشئة عن معرفة بعض خصائص المادة وأسرار الكون. مثل الراديو- والتلفزيون وسفن الفضاء وغيرها. المعجزة إمكان المعجزة المعجزة أمر ممكن عقلا، وواقع فعلا- إذ قد ثبتت معجزة القرآن الكريم بالتواتر. وقص علينا القرآن الكريم كثيرا من معجزات الأنبياء السابقين التي تحدوا بها قومهم، وأثبتوا بها رسالتهم واو لم تكن المعجزة ممكنة لما وقعت.

دلالة المعجزة

وأما مخالفة المعجزة للسنن العادية في إيجاد الممكنات فإن ذلك أمر لا يمتنع على الله، لأنه تعالى قادر على كل شيء. وقد يكون للخوارق عند الله سنن خاصة لا نعرفها ولكن يظهر أثرها على يد مدعي النبوة. المعجزة دلالة المعجزة ذهب جمهور العلماء إلى أن دلالة المعجزة على صدق الرسول في دعواه يقينية، فالمعجزة تثبت إثباتا لا شك فيه أن الذي جرت على يديه هو رسول من عند الله. وهذه الدلالة اليقينية تلزم من عاصر الرسول ومن غاب عنه وجاء بعده لأن الذين يشاهدون المعجزة يكونون عددا كثيرا، فإذا نقل العدد الكير أمر المعجزة إلى الغائبين كان ذلك حجة عليهم توجب تصديقهم بها وذلك هو الحاصل في حياة الناس والمركوز في فطرهم، فإن أكثرهم يؤمن بكثير من المدن والقرى ومن الشخصيات التاريخية والأحداث العظيمة وليس من سبب في إيمانهم بها إلا الأخبار المتواترة. المعجزة ذكر بعض معجزات الرسل اعلم أن من حكمة الله تعالى البالغة أنه يؤيد رسله بمعجزات من نوع ما فاق وأبدع فيه القوم المرسل إليهم حتى تنقطع حجتهم عن رسولهم، لأن الرسول لو جاء بمعجزة من نوع يجهلونه وطالبهم أن يأتوا بمثلها لكان لهم أن يقولوا: إن هذا شيء نجهله ولو علمناه لعارضناه، أما إذ تحداهم الرسول بمعجزاته في أمر قد برعوا فيه وأجادوه ثم لم يستطيعوا معارضته فإن ذلك يفحمهم ويلزمهم الحجة، فمثلا عندما أرسل الله تعالى سيدنا موسى عليه السلام كان فن السحر شائعا في القبط قوم فرعون، ولهم فيه المهارة التامة، ويعلمون من شأنه ما هو ممكن للبشر معرفته وصنعه منه وما ليس ممكنا لهم،

فلما سحر السحرة منهم الحبال والعصي بأمر فرعون، وصارت ترى حيات تسعى ألقى سيدنا موسى عليه السلام عصاه بأمر الله تعالى فقلبها الله ثعبانا عظيما فابتلعت تلك الحيات الكثيرة، ثم لما أخذها بيده عادت عصا كما كانت فخر السحرة لله ساجدين، وآمنوا برسالة موسى، وصبروا على تعذيب فرعون لهم، وما ذلك إلا لأنهم بسبب معرفتهم فن السحر وعلمهم بمقدار ما يدخل منه في طوق البشر وما لا يدخل أيقنوا أن تلك الخارقة، وهي انقلاب العصى ثعبانا ابتلع حبالهم وعصيهم المسحورة على صورة الحيات، ثم عودتها كما كانت مع تلاشي حبال السحرة وعصيهم دليل على أن ما حصل على يد موسى ليس سحرا، وإنما هو آية ومعجزة من عند الله تعالى. ولما بعث الله تعالى سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام كان فن الطب شائعا في بني إسرائيل، فكان من حكمته تعالى أن جعل كثيرا من معجزاته عليه السلام من قبيل أعمال أهل الطب، فأبرأ الله على يديه الأبرص والأكمه (الذي ولد أعمى) وأحيا الموتى، فأهل المعرفة في علم الطب لا يحتاجون في تصديق رسالته إلى أمر صعب، بل من الواضح لديهم أن يقولوا: إننا نعلم في الطب ومقدار ما يمكن الإنسان أن يبلغه فيه من الأعمال وما لا يمكنه- فيدخل في طاقة الأطباء الحذاق أن يشفوا الأبرص، ولكن ذلك يحدث بمعالجة مخصوصة مع مرور زمان مخصوص، وأما شفاؤه في الحال بمجرد لمسه أو الدعاء له فهذا ليس في طوقهم. ويمكنهم أن يشفوا مرضى العمى الذي يكون عرضيا ليس مخلا بجوهر البصر، وأما شفاء الأكمه عديم البصر فهذا ليس في طوقهم، وكذلك إحياء الموتى. وحيث أن عيسى قد أتى بهذه الخوارق التي لا يستطيعها حذاق الأطباء فإن ذلك دليل على صدق دعواه الرسالة. ولما بعث سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) - وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة- ولم يجتمع مع أهل القراءة والكتابة اجتماعا يمكنه من التعلم منهم ويؤهله لاكتساب جملة معارف الأمم وشرائع الأقدمين، وقوانين الممالك،

ولم يعلم عنه في تلك المدة أنه كان يدرس شيئا مما ذكر، وكذلك لم يحصل له في تلك المدة- مدة حياته قبل البعثة - أن مارس صناعة الفصاحة والبلاغة، فلم يكن له عناية بالأشعار والخطب والرسائل العربية، لا قولا ولا رواية، ولم يكن مولعا بمحاورة الفصحاء، ومغالبة البلغاء حتى تقوى فيه ملكة الفصاحة والبلاغة، وحتى يصبح أهلا لبلوغ الدرجة القصوى فيها (مع العلم بأنه مع عدم التعلم والممارسة كان أفصح العرب، وأوتي جوامع الكلم بما وهبه الله وعلمه)، فلما أرسل بين جماهير العالم من عرب وعجم فقر في المال، وفقد للناصر والمعين، فادعى أن الله تعالى أرسله إلى الناس كافة ليبلغهم شرعه ودينه. وليبشر من اتبعه بالفلاح في الدنيا والآخرة، ولينذر من تولى وأعرض بالخزي والشقاء فيهما، وأعلن فيهم الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وهدم كل ما ورثوه من شرك وكفر، وأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. عندما فعل ذلك وسمعت منه الجماهير هذه الدعوى العظيمة نفروا منه، وعادوه أشد المعاداة، وهجره الأهل والخلان، وكذبه الشيوخ والشبان، ثم أخذوا في مجادلته ومخاصمته وطلبوا الحجة على صدق دعواه الرسالة، فجاءهم (صلى الله عليه وسلم) بمعجزات كثيرة سنذكر بعضها فيما يأتي، غير أن المعجزة الخالدة التي استند إليها في إثبات رسالته وجعلها الأساس في ذلك، وتحداهم بها ثلاثة وعشرين عاما هي المعجزة العقلية المعنوية العظمى (القرآن الكريم) فقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ثم تحدهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا، ثم أعلمهم بأنه لو اجتمع البشر كلهم، وتظاهرت الجن معهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما استطاعوا، أن يأتوا بسورة مثله ولو كأقصر سورة منه. قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (¬1). ¬

(¬1) الطور: 34.

وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬1). وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). وإنما كان القرآن هو المعجزة الأساسية التي تحدى بها النبي (صلى الله عليه وسلم) قومه، لأنه كان في الأمة العربية أمراء الفصاحة والبلاغة وكان العرب أكثر الناس شاعرا وخطيبا، وفيهم العالمون بأساليب الفصاحة والبلاغة، والمحيطون بأسرارها، وبما هو في طوق البشر من مراتبها وبما ليس في طوقهم. لذلك لما عرض عليهم القرآن وأخذ يتحداهم كما سبق- وهو يسفه أحلامهم ويعيب أخلاقهم، ويندد بآثامهم- نظر فيه علماء البلاغة والفصاحة منهم ثم أيقنوا بعد المكابرة أنهم أعجز من أن يأتوا بآية واحدة مثل آياته. ولا يزال القرآن وسيظل يتحدى العالم كله في كل زمان ومكان، ولن يستطيع العالم مهما أوتي من علوم الفصاحة والبلاغة وغيرهما أن يعارض آية من كتاب الله تعالى وصدق الله إذ يقول: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (¬3). ¬

(¬1) هود: 13. (¬2) يونس: 38. (¬3) الإسراء: 88.

معجزات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)

المعجزة معجزات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) معجزاته (صلى الله عليه وسلم) التي أيده الله بها كثيرة منها ما هو متواتر كالقرآن، ومنها ما ليس متواترا كتسبيح الحصى في كفه ونبع الماء من بين أصابعه (صلى الله عليه وسلم). فمن أنكر المتواتر من المعجزات كان كافرا. ومن أنكر الصحيح الثابت منها كنبع الماء من بين أصابعه كان فاسقا. وتنقسم معجزاته (صلى الله عليه وسلم) إلى قسمين (1 - معنوية كالقرآن) (2 - وحسية كنبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام بدعائه). وقد أيده الله بمعجزات عقلية ليدركها أصحاب العقول السليمة فيقتنعوا وينقادوا، كما أيده بالمعجزات الحسية لتطمئن نفس المتردد، وتنقطع حجة الجاحد، وبهذا لا يكون لمكلف عذرا أيا كان إدراكه. أمثلة للمعجزات الحسية 1 - نبع الماء من بين أصابعه (صلى الله عليه وسلم): عن جابر رضي الله عنه قال: عطش الناس يوم الحديبية فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين يديه ركوة (¬1) وقالوا ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع (صلى الله عليه وسلم) يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فتوضأنا وشربنا، قيل لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا. كنا خمس عشرة مائة. أخرجه الشيخان. 2 - تكثير الطعام ببركة دعائه (صلى الله عليه وسلم): عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في مسير، فنفذت أزواد القوم حتى هموا بنحر حمائلهم (¬2) فقال عمر ¬

(¬1) الركوة ما يعد للماء. وجمعها ركاء أو ركوات بفتحات. (¬2) حمائلهم: ما يحملون عليه متاعهم وأنفسهم، والمراد هنا الإبل.

رضي الله عنه: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها، ففعل. فجاء ذو البر ببره (¬1) وذو التمر بتمره، وذو النواة بنواته قيل: ما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء. فدعا عليها حتى ملأ القوم مزاودهم (¬2) فقال عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقي الله بها عبد غير شاك فيها إلا دخل الجنة. أخرجه مسلم. 3 - تكليم الشجر له (صلى الله عليه وسلم): عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي رحمه الله يقول: سألت مسروقا: من آذن (¬3) النبي (صلى الله عليه وسلم) بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك يعني ابن مسعود أنه قال: آذنت بهم شجرة- أخرجه الشيخان. 4 - حنين الجذع له (صلى الله عليه وسلم): عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى لزق (¬4) جذع فلما صنعوا له المنبر فخطب عليه حن الجذع حنين الناقة. فنزل (صلى الله عليه وسلم) فمسه فسكن- أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. 5 - تسليم الحجر عليه (صلى الله عليه وسلم): عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت، إني لأعرفه الآن" أخرجه أحمد ومسلم. وله (صلى الله عليه وسلم) معجزات حسية كثيرة غير ما ذكر غير أننا، اكتفينا بالأمثلة السابقة لدلالتها على المطلوب. ¬

(¬1) أي صاحب القمح بقمحه. (¬2) جمع مزود بكسر فسكون: ما يُجعل فيه الزاد. (¬3) أعلم. (¬4) بكسر فسكون: أي إلى جنبه.

معجزة القرآن

المعجزة معجزة القرآن ... القرآن هو المعجزة الأساسية التي اعتمد عليها النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات رسالته وإعجازه قومه. وهو معجزة عقلية معنوية باقية إلى يوم القيامة. تعريفه: القرآن هو اللفظ العربي المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المنقول إلينا بالتواتر المتعبد بتلاوته المتحدي بأقصر سورة منه. بم كان إعجاز القرآن؟ ... زعم النظام من المعتزلة أن إعجاز القرآن بالصرفة (أي إن الله صرف العرب عن معارضته، وسلب عقولهم حتى لا يأتوا بمثله، وكان ذلك مقدوراً لهم، لكمن عاقهم أمر خارجي، فصار كسائر المعجزات). وهذا قول فاسد بدليل قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم. ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم، لأن اجتماعهم حين يسلبون القدرة بمنزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحفل بذكره، هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزاً وليس فيه صفة إعجاز، بل المعجز هو الله سبحانه وتعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله؟. وأيضاً يلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمن التحدي وخلو القرآن من الإعجاز، وفي ذلك خرق لإجماع الأمة على أن معجزة الرسول العظمى باقية، ولا معجزة له باقية سوى القرآن. إذن فالقول بأن الإعجاز القرآني سببه صرف الله الناس عن الإتيان بمثله قول باطل ومخالف باطل ومخالف لإجماع الأمة ولا يصح الاعتداد به.

أوجه الإعجاز في القرآن

لذلك اجتهد العلماء من السلف والخلف في استنباط أوجه الإعجاز في كتاب الله تعالى وسيظلون يجتهدون ويستنبطون إلى يوم القيامة. فإن كتاب الله تعالى يكفي في عظمته وسموه ورفعته أنه كتاب الله، ولأنه كذلك عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بسورة كأقصر سورة منه. لكن العقل الإنساني وإن عجز عن الإتيان بمثل القرآن فإنه لم يعجز عن المحاولات الكثيرة ليستشف بعض الأوجه في إعجاز القرآن الكريم. وساعد العقل على ذلك في صدر الإسلام تمكن العرب المسلمين من أساليب الفصاحة والبلاغة وبلوغهم فيها شأواً بعيداً، وساعده على ذلك بعد صدر الإسلام إلى يوم اطراد التقدم البشري في العلوم الكونية والإنسانية وغيرها مما جعل المسلمين المنصفين ينظرون إلى القرآن الكريم باعتباره الكتاب الإلهي الوحيد الذي (بقي) وسيظل شامخاً جامعاً شاملاً كل حاجات الإنسانية. فيجدون أن هذا القرآن الكريم يعايش الحياة كلها. أرضها وسماءها، محسوسها ومعنوياتها وأنه يجمع بين دفتيه علوماً لا حصر لها، وأن أي خطوة يخطوها الإنسان في اكتشاف أو اختراع أو تشريع أو تقنين عادل فإن القرآن الكريم يعتبر سابقاً بالإشارة أو العبارة كل ما يصل إليه البشر. ونحن حين نقدم للأمة بعض أوجه الإعجاز فإننا لا نريد الحصر بما نقدم. إنما نقدم الأهم الذي يفتح لك آفاق البحث والاستزادة إن أردت المزيد. فقد اقتصر بعض العلماء على أربعة أوجه لإعجاز القرآن، وأوصلها بعضهم إلى عشرة أوجه، وأوصلها آخرون إلى ستين وجهاً، وآخرون بلغوا بها أكثر من ذلك. أوجه الإعجاز في القرآن ... الوجه الأول: حسن تأليفه وتناسق كلماته، وفصاحته، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب. فإن العرب الذين كان الكلام طوع أمرهم، والبلاغة ملك قيادهم،

قد حووا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا كل باب من أبوابها، وعلواً لبلوغ أسبابها، وبلغوا من الفصاحة قمتها، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، وقالوا في الخطير والمهين، وتفننوا في الغث والسمين، وتساجلوا في النظم والنثر. ما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، أحكمت آياتهن وفصلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتضافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه (¬1) فلم يسعهم بعد المحاولات والمشاورات والمؤتمرات والافتراءات إلا أن يخضعوا مذعنين، وأن يقروا خاضعين بأن ما يسمعونه من القرآن ليس من نوع ما ألفوا، ولا من جنس ما عرفوا، ولا هو في طوق واستطاعة أحد منهم. وصدرت من مجالسهم الخاصة واجتماعاتهم المغلقة اعترافات تعلن عجزهم، وتشهد عليهم بأن موقفهم من القرآن ليس إلا مكابرة وعناداً. من هذه الاعترافات أن الوليد بن المغيرة لما سمع قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90]. قال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر. وسمع أعرابي رجلاً يقرأ: {فاصدع بما تؤمر .. } [الحجر: 94]، فسجد وقال: ¬

(¬1) الرسالة الحميدية.

سجدت لفصاحته. وسمع آخر رجلاً يقرأ: {فلما استيئسوا منه خلصوا نجيّاً} [يوسف: 80]. فقال أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا. وحكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية فقال لها: قاتلك الله! ما أفصحك؟ فقالت: أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 70]. فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟؟؟؟ (¬1). الوجه الثاني: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها. فإن الأسلوب الذي جاء القرآن عليه، ووقفت مقاطع آيه، وانتهت فواصل كلماته إليه، لم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر فهو نوع متميز كل التمييز في كل شيء وحتى في تسمية جملته قرآناً وفي تسمية أجزائه سوراً وآياته تنتهي بفواصل، وذلك بدلاً من الديوان والقصيدة والبيت والقافية مما تعارف عليه العرب. لذلك لما سمع عتبة بن ربيعة القرآن وهو من أشد الناس عداوة له - قال يا قوم ... قد علمتم أني لم أترك شيئاً إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، وما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. وفي صحيح مسلم أن أنيساً أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيت رجلاً بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: ¬

(¬1) الشفاء للقاضي عياض.

شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس شاعراً ناقض اثني عشر شاعراً في الجاهلية فقال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أمراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. والإعجاز بكل واحد من النوعين السابقين: 1 - الإيجاز والبلاغة بذاتها، 2 - والأسلوب الغريب بذاته - كل منهما نوع إعجاز على التحقيق. وهذان الوجهان لازمان كل سورة وكل آية وبهما يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر، وبهما وقع التحدي والتعجيز. الوجه الثالث: الإخبار عن الأمور التي تقدمت من نشأة الحياة إلى وقت نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم - وهو النبي الأمي الذي ما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وأجاب عن تحديات أهل الكتاب حين سألوه عن قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، وغير ذلك، فجاءهم بما عرفوا من الكتب الثابتة صحتها مع أنه أمي من أمة أمية لها علم بذلك، ومع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مختلطاً بأهل الآثار والتاريخ، وحملة الأخبار، ولم يكن متردداً إلى المتعلم منهم. فلم يبق سبب لعلمه بذلك كله إلا الوحي الذي أنزل عليه من ربه. الوجه الرابع: الإخبار بالمغيبات في المستقبل وهي التي لا يمكن الاطلاع عليها إلا بالوحي وهي التي أخبر عنها القرآن بأنها ستقع فوقعت كما أخبر ولم يتخلف منها شيء. من ذلك قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون} [الفتح: 27].

ومنه قوله تعالى: {غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين} [الروم: 2 - 3 - 4]. ومنه قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} [الفتح: 28]. ومنه قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 09]. ومنه قوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} [الحجر: 95]. وكان المستهزئون نفراً من بمكة ينفرون الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت هذه الآية بشر أصحابه بأن الله كفاه إياهم فهلكوا جميعهم. ومنه قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67]، فحفظه الله وعصمه من كل من رام قتله والفتك به صلى الله عليه وسلم. الوجه الخامس: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة تأثيره، وزيادة خطره. ولذلك كان وقع القرآن على المكذبين أعظم وأخطر، وكانوا يخشون تأثيره على أنفسهم ونسائهم وأولادهم، وكانوا يقولون - خوفاً من تأثيره عليهم-:

{لا تسمعوا لهذا القرآن، والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26]. وكان كبراؤهم هم يمنعون أتباعهم من الاستماع إلى القرآن الكريم، كما يؤذون من يجهر بالقرآن من المسلمين ولو كان يقرأ في فناء داره. والسيرة مليئة بالأمثلة الموضحة لذلك. وأما المؤمنون فإن روعة كتاب الله تعالى وقوة تأثيره في نفوسهم وهيبته في قلوبهم جعلتهم يعشقون هذا الكتاب الإلهي ويهجرون ما سواه من أشعار وخطب، ويعيشون مع القرآن الذي أخذ بمجامع قلوبهم، واستولى على مشاعرهم ووجدانهم، وأسر بروعته عقولهم، وهذب بكماله نفوسهم، ووصل بالله أرواحهم. فهم من يوم أن عرفوه عشقوه، وبمجرد أن قرأوه تمثلوه، فصارت أحرفه نغماً عذباً في أسماعهم، وكلماته نوراً يتلألأ في قلوبهم، وأحكامه وحكمه دواء روحياً لأمراضهم ومتاعبهم. وفي جوف الليل يسمع المار بأي بيت فيه مسلم دوياً عذباً حلواً مصدره قارئ يرتل كتاب الله، وفي شعاب الجبال ووديانها بمكة أفراد هربوا في جنح الظلام ليستمعوا بتلاوة كتاب الله. وسقطت سياط العذاب على رؤوس المسلمين وجسومهم فآلمت ومزقت، وألقيت الصخور الحامية على صدور المؤمنين فأثقلت وعذبت، ووضعت الأغلال في الرقاب والقيود في الأرجل فأنهكت وأتعبت. ومع ذلك كله انتفضت القلوب المؤمنة بحب الله هون عليها كل عذاب، وانطلقت ألسنة الموحدين باسم الله مخترقة كل حاجز وحجاب، وتحملت عذاب الجبابرة فتيات ناعمات، ونساء مرفهات، وصبية أعوادهم رطبة كنبت الربيع. ما السر في ذلك كله؟ وما هو الروح الجديد الذي سرى في دماء المؤمنين؟ وما هو السحر الذي استولى على نفوس المسلمين؟.

إنه كتاب الله. الذي جعله الله يفعل ذلك كله وهو القائل فيه: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23]. وهو القائل: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} [الحشر: 21]. الوجه السادس: كونه آية باقية، ومعجزة خالدة لا يؤثر فيها مر السنين ولا يقلل من شأنها توالي الأحقاب إلى يوم القيامة. وهو مع وجود أسباب بقائه وخلوده تكفل الله بحفظه وصيانته فقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 09]. وقال تعالى: {وإنه لكتاب عزيز. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد} [فصلت: 41 - 42]. مع العلم بأن سائر معجزات الأنبياء انقضت بانقضاء أوقاتها، ولم يبق إلا خبرها، أما القرآن الكريم فقد ظل باهرة آياته، ظاهرة معجزاته، سليمة حروفه وكلماته، لم يستطع أحد تغيير حرف منه بأخر، أو نقل كلمة عن مكانها، أو آية إلى سورة غير سورتها، ومن رام شيئاً من ذلك فضحه الله وكشفه وباءت بالفشل محاولاته، ولقد مضى على نزوله أربعة

عشر قرناً ولا يزال غضاً طرياً معجزاً جميع البشر محفوظاً بحفظ الله من أي تحريف أو تبديل مع مروره خلال تلك القرون على أهل البيان، وحملة علم اللسان، وأئمة البلاغة، وفرسان البراعة، والملحد فيهم كثير. والمعادي للشرع عدد وفير، فما منهم من أحد استطاع معارضته، أو قدر على مطعن صحيح فيه، وسيظل كذلك إلى يوم القيامة. الوجه السابع: جمعه لعلوم ومعارف لا عهد للعرب بها عامة، ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فقد جمع في هذا الكتاب من بيان علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجج العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين وأدلة بينة سهلة الألفاظ، موجزة المقاصد. كما حوى من علوم السير وأبناء الأمم والمواعظ والحكم، محاسن الآداب والشيم، وأخبار الدار الآخرة، وأخبار وأحوال كثير من العالم الغيبي، فلم يترك القرآن علماً إلا ذكره، ولا فناً إلا نبه إليه، ولا كمالاً إلا حض عليه. وسيظل القرآن بحر علوم وفنون لا ينفد، ومنار هداية لمن استرشد، وبرهان الحقائق ما كبر منها وما صغر وصدق الله القائل: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل: 89]. والقائل: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} [الزمر: 27]. وصدق صلى الله عليه وسلم إذ قال في هذا القرآن: "إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجراً، وسنة خالية، ومثلاً مضروباً، فيه نبؤكم،

وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الحق ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن قسم به أقسط، ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، الشفاء النافعن عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه ... " وهذا الحديث بالموقوف أشبة. الوجه الثامن: أن القرآن جمع بين الدليل ومدلوله. وبيان ذلك أن الاحتجاج على أن القرآن من عند الله أثبت بنظم القرآن وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته، وأثناء قراءتك للقرآن للوقوف على بلاغته وفصاحته وجمال أسلوبه وبراعة إيجازه. يقابلك أمر القرآن ونهيه، ووعده ووعيده، فالقارئ للقرآن يفهم دليل إعجازه، وأدلة أحكامه وتكليفه معاً، من كلام واحد، وسورة منفردة. الوجه التاسع: أن الله تعالى يسر حفظه لمن يريد تعلمه. قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكر} [القمر: 17]. فالقرآن ميسر حفظه للصغير والكبير، وللرجل والمرأة، في أقرب مدة وأقل زمن، لو قيس حفظه بحفظ أي شيء سواه. وسائر الأمم لا يحفظ كتبها منهم أحد، أما القرآن الكريم فيحفظه، في كل عصر مئات الألوف. ولذلك نقل القرآن الكريم من جيل إلى جيل عدد وفير حفظه في الصدور، وأحسن قراءته وترتيله، ولقنه تلامذته وأتباعه، وهذا التواتر السليم الصحيح الدقيق لم يحدث لكتاب غير القرآن. وذلك راجع إلى يسر حفظه وكثرة حفظته في كل عصر. الوجه العاشر: اشتمال القرآن على تشريع انتظم قانوناً عادلاً مؤلفاً من مواد قليلة تتضمن أحكاماً كلية، ومبادئ عامة في كل الفروع وذلك ما لم يحصل لغيره من الكتب السماوية: قال الله تعالى: {وكل شيء فصلناه تفصيلاً} [الإسراء: 12].

الوجه الحادي عشر: يتضح لقارئ كتاب الله تعالى المتصل بالعلوم الإنسانية والكونية وغيرها أنه ما من حقيقة علمية يصل العقل البشري إليها إلا ويجد لها أصلاً في كتاب الله تعالى عن طريق الإشارة أو العبارة. اقرأ في الدلالة على أن الأرض معلقة في الفضاء قوله تعالى: {خلق السموات بغير عمدٍ ترونها، وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} [لقمان: 10]. والمعنى أن الله أوجد الجبال في الأرض حتى تظل محتفظة بتوازنها فلا تميد (تميل) بمن عليها، ولا يفهم حفظ التوازن بالنسبة للأرض إلا على أنه دليل على تعلقها في الفضاء. واقرأ في علم الأجنة قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 12 - 13 - 14]. وسبقت أمثلة كثيرة في الأدلة على وجود الله تعالى. وإذا قرأت المزيد من ذلك فاقرأ التفاسير والكتب التي اهتمت بهذا النوع من الدراسات لتؤمن إيماناً قوياً بروعة القرآن الكريم، وبإعجازه الخالد، ولكن حذار أن تظن أن القرآن أنزل ليكون كتاب علوم كونية وإنسانية من هذا النوع. إن القرآن أنزل ليكون هداية للناس من ضلال وتقويماً من انحراف، وتيسيراً للوصول إلى الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة

عن طريق علاج الإنسان من أمراضه النفسية والقلبية والخلقية، وصبغه الصبغة التي تتفق مع تكريم الله له. وهذا هو الهدف من القرآن الكريم كما ذكر في غير آية منه، وما ذكر في القرآن من علوم وفنون وغيرهما فللوصول إلى الهدف المذكور، وهذا موضوع تورط فيه كثيرون حتى إن بعضهم جعل همه كله شغل الناس بتفسير زعم أنه عصري ولم يكن له علم بأصول التفسير، وموازينه الدقيقة فأخطأ كثيراً وأصاب قليلاً وصرف الناس عن الهدف إلى الوسيلة فغفر الله له ورحمه.

ما اختص الله به محمدا صلى الله عليه وسلم دون المرسلين

المعجزة ما اختص الله به محمداً صلى الله عليه وسلم دون المرسلين ... لقد اختص الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره من الرسل بأمور كثيرة وردت الأدلة الصحيحة بها ونوجز أهمها فيما يلي: أولاً - عموم رسالته: ... اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون تكليف الناس والتشريع لهم حسب استعدادهم ونضجهم وتقدمهم أو تأخرهم علمياً وفكرياً واجتماعياً، وحسب الظروف والأحوال التي يعيشون فيها ويتأثرون بها ليكون الغذاء النفسي كالغذاء الحسي ملائماً ومفيداً. لذلك كان الله تعالى يرسل إلى كل أمة رسولاً يصلح من شأنها ويبلغها الشرع الذي يناسبها. ولم تعم رسالة قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن العالم لم يكن قد ارتقى قبله إلى المستوى الذي يشعر فيه بالحاجة إلى تشريع وقانون عام يجمعه تحت راية واحدة. ولما جاء وقت الرسالة المحمدية كان المجتمع البشري قد بلغ أشده واستوى فكرياً واجتماعياً وسياسياً، وصار جمعه على تشريع واحد ممكناً وميسوراً. لذلك أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة سواء أكانوا عرباً أم غير عرب، وثنيين أم أهل كتاب، لهم دين أم لا دين لهم على الإطلاق. كما جعل الله تعالى رسولاً إلى الجن بنفس الشرع الذي جاء به إلى الإنس مع مراعاة طبائعهم وأحوالهم، وجعل رسالته ناسخة لجميع الرسالات قبله، فلا يحق لأحد بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يدين بغير دينه.

قال تعالى: {قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} [الأعراف: 158]. وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [سبأ: 28]. قال ابن عباس في هذه الآية: إن الله تعالى فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء. قالوا: فيم فضله الله على جميع الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} ... فأرسله الله إلى الجن والإنس. وقال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا، فلما قضي ولوا إلى قومه منذرين} [الأحقاف: 29]. وجاء في الحديث المتفق عليه: عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".

ثانيا - خاتم النبيين والمرسلين:

ثانياً - خاتم النبيين والمرسلين: ... جاءت الشريعة الإسلامية وقت اكتمال الإنسان في الإدراك، وتفهم المصالح والمنافع، فاقتضت حكمة الله تعالى أن تكون هذه الشريعة صالحة لجيمع البشر في كل زمان ومكان، كفيلة بإسعاد المجتمع العالمي كله إذا أخذ بها، لأنها عالجت جميع احتياجاته، ووضعت الحلول لجيمع مشكلاته إما عن طريق التفصيل وإما عن طريق الإجمال وترك التفصيل للعقل البشري يتصرف فيه حسب موازين الشرع وأصوله ... قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين} [النمل: 89]. لذلك أصبحت البشرية بعد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليها ونزول القرآن الكريم ليكون هادياً لها وتشريعاً حريصاً على سعادتها غير محتاجة إلى نبي أو رسول غيره، إنها محتاجة فقط إلى أن تجتهد فيما يحدث من أمور لا نص فيها، وقد أعطاها القرآن حق الاجتهاد اعترافاً منه ببلوغها رشدها فقال تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83]. ومن أجل هذا أعلن القرآن أن النبوة قد ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده وبالتالي فلا رسول بعده لأن نفي النبوة نفي للرسالة كما مر. قال تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين} [الأحزاب: 40].

ثالثا - نصره الله بالرعب وبينه وبين عدوه مسيرة شهر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين" (¬1). ثالثاً - نصره الله بالرعب وبينه وبين عدوه مسيرة شهر: ... بسير الإبل، لأنها كانت وسيلة للمواصلات البعيدة يومئذ، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدة على ذلك. رابعاً - جعل الله له ولأمته الأرض مسجداً وطهوراً: ... فأي رجل من أمته تدركه الصلاة في أي موضع فالموضع مسجده الذي يصلي فيه، وهو طهوره الذي يتيمم عليه إن لم يجد ماء يتوضأ به. فلا حرج ولا عسر ولا تضييق ولا اشتراط لمكان معين. خامساً - أحل الله الغنائم له ولأمته صلى الله عليه وسلم: ... والغنائم، ما يؤخذ من الكفار عقب الجهاد والنصرمن متاع وسلاح ومال وغيرها، وكانت هذه الغنائم محرمة على الأمم السابقة ولم تحل إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. سادساً - أعطاه الله الشفاعة العظمى يوم القيامة: ... وهي التي يحمده عليها الأولون والآخرون، وسيأتي ذكرها. سابعاً - جعله الله تعالى أفضل المرسلين: ... ومبدأ تفضيل الله بعض الرسل على بعض مقرر في كتاب الله تعالى، قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]. وقال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 55]. ¬

(¬1) البخاري ومسلم.

الإيمان بكتب الله تعالى

وأما دليل تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من المرسلين فهو من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: {وما أرسلناك إلى رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]. وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [آل عمران: 110]. قال ابن كثير في هذه الآية: وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأنا أول شافع وأول مشفع" (¬1). الإيمان بكتب الله تعالى الوحي - أصل معنى الوحي - أنواع وحي الله تعالى إلى أنبيائه يجب الإيمان والاعتقاد الجازم بأن الله تعالى أنزل على رسله كتباً فيها أمره ونهيه ووعده ووعيده وما شاء من كلامه تعالى. وأفضل هذه الكتب على الإطلاق القرآن الكريم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويليه في الفضل التوراة المنزلة على موسى عليه السلام، ثم الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام ثم الزبور: وهو كتاب داود عليه السلام. كما يؤمن بأن الله أنزل صحفاً ... المذكور منها في القرآن صحف إبراهيم وموسى. قال تعالى: ¬

(¬1) أخرجه أحمد وابن ماجه وقال صحيح.

{يأيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً} [النساء: 136]. وحديث جبريل في الإيمان والإسلام والإحسان معروف. ويجب الإيمان بأن الكتب السابقة حصل فيها تحريف وتغيير وتبديل. أما القرآن الكريم فهو كتاب محفوظ لم يغير فيه حرف واحد كما سبق. وذلك أن الكتب السابقة وُكّل حفظها إلى أهلها فلم يحفظوها، أما القرآن الكريم فإن الله تعالى هو الذي تولى حفظه. قال تعالى في شأن التوراة: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله} [المائدة: 44]. وقال تعالى في القرآن: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 09].

الوحي

الوحي الوحي هو الصلة بين الله تعالى وبين رسله وأنبيائه كي يوصل الله تعالى إليهم ما يريد إيصاله من علم وحكم وأمر ونهي وإرشاد وغير ذلك. قال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيين من بعده} [النساء: 163]. وقال تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} [الأنبياء: 07]. وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. أصل معنى الوحي ... معنى الوحي يطلق على التفهيم وعلى الإعلام بالشيء في خفاء سواء كان هذا التفهيم والإعلام بكلام أم بكتابة أم بإشارة أم بإلهام أم برؤيا. ومن الوحي بالإشارة قوله تعالى في شأن زكريا عليه السلام: {فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشياً} [مريم: 11].

أنواع وحي الله تعالى إلى أنبيائه

ومن الوحي بالإلهام قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 07]. ومعنى الوحي في اصطلاح أهل الشرع: كلام الله المنزل على نبي من أنبيائه. أنواع وحي الله تعالى إلى أنبيائه ... الله تعالى حين يكلم نبياً من أنبيائه بوحي فإنما يكلمه بأحد الأنواع الآتية: 1 - يكلمه عن طريق الوحي: والمراد به هنا الإلهام في اليقظة أو في النوم. قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي (¬1) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب". وهذا الإلهام في اليقظة. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} [الصافات: 102]. وأول الوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان في المنام مدة ستة أشهر. 2 - أو يكلم الله تعالى نبيه من وراء حجاب. قال تعالى: {وكلّم الله موسى تكليماً} [النساء: 164]. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر رضي الله عنه: "ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب وإن الله كلم أباك كفاحاً": أي من غير حجاب. 3 - أو يرسل الله رسولاً من الملائكة كجبريل عليه السلام ليبلغ النبي كلام الله تعالى: وهذا هو الغالب. ¬

(¬1) الروع بضم الراء: القلب والعقل.

قال تعالى مبيناً أن الأنواع الثلاثة السابقة هي الوسائل لتكليمه أنبياءه: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم} [الشورى: 51]. وكيفية مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نعلم عنها إلا أنه: 1 - كان يأتيه أحياناً على صورة رجل كما جاء في حديث الإيمان والإسلام والإحسان. 2 - وأحياناً كثيرة كان يأتيه مثل صلصلة الجرس ودقاته المتتابعة بهيئة وصورة لا نعلمها، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبرنا. 3 - وظهر جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء. بذلك وردت الأدلة ولا مجال للإطالة بذكرها وذكر أقوال العلماء فيها.

الأولياء

الأولياء تعريف الولي - تعريف الكرامة - تحذير ... من فضل الله على عباده ورحمته بهم ورعايته لهم أن فتح للمؤمنين أتباع المرسلين أبواب الترقي في الكمالات إلى آفاق بعيدة جداً لا يحدها إلا مقام الرسالة وحدودها، فكلما جاهد الإنسان نفسه وأكثرمن عبادة ربه وتخلص من أمراض القلب وأهواء النفس ونزعات الشيطان وإخوان السوء وظلمات المعاصي زاد إحساسه وشعوره بصفاء نفسه وإشراق قلبه ونشوة روحه وجمال حياته وزيادة معارفه، ذلك أن الفيوضات الإلهية لا تغزو إلا القلوب الربانية. والرحمات الربانية قريبة من النفوس النورانية. قال تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56]. وقال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي .... } [الأعراف: 156 - 157]. وهؤلاء الذين يؤمنون بالله إيماناً صادقاً ويواظبون على الطاعات ويجتنبون المعاصي والانهماك في الملذات والشهوات المباحة، ويعملون بالسنن والآداب الشرعية ما استطاعوا يسمون في عرف الشرع - الأولياء -.

تعريف الولي

تعريف الولي ... الولي شرعاً: هو العارف بالله وبصفاته حسب الإمكان، المواظب على الطاعة المجتنب للمعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات المباحة المحافظ على السنن والآداب الشرعية قدر الاستطاعة. وسمي ولياً: لأنه يتولى عبادة الله على الدوام، أو لأن الله تعالى تولاه برحمته ولطفه وعنايته. قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} [يونس: 62 - 63 - 64]. فالولي في الآية تولي عبادة الله بالإيمان والتقوى. وتولاه الله تعالى برفع الخوف والحزن عنه وبإدخال السرور عليه بما يبشره به من الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. والحديث القدسي يوضح نفس المعنى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب (¬1) وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه (¬2) الذي يسمع به وبصره الي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه" رواه البخاري. ¬

(¬1) آذنته: أعلمته والمراد انتقمت للولي ممن آذاه. (¬2) معنى كنت سمعه وبصره الخ ... أي وفقته للزيادة في الطاعة.

تعريف الكرامة

ومما يبشر به الأولياء في الدنيا الرؤيا الصالحة الحسنة يراها الرجل الصالح أو تُرى له. ومن ذلك الكرامة يكرمهم الله بها ويتفضل بها عليهم. تعريف الكرامة ... الكرامة: هي أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد عبد صالح غير مدع للرسالة. وهي من الأمور الجائزة عقلاً والواقعة فعلاً. جاء بها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، كما جاءت بها الأخبار الكثيرة المستفيضة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يومنا هذا. أما الدليل من القرآن فاقرأ قصة مريم الصديقة حيث وجد عندها الرزق بلا سبب، وحملت بعيسى عليه السلام بدون ملامسة رجل، وتساقط عليها الرطب من النخلة اليابسة، وأنطق الله لها وليدها في المهد صبياً. واقرأ قصة أهل الكهف حيث مكثوا في الغار ثلثمائة وتسع سنين تحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ويقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال. ومنها عرش بلقيس، فقد أحضره الذي عنده علم من الكتاب قبل أن يرتد طرف سليمان إليه. واقرأ في الحديث قصة الثلاثة الذين آواهم غار، وقصة جريج العابد وغيرهما، وتجد الكثير من الكرامات للصحابة ومن بعدهم، فاقرأ السير والتراجم وكتب الصفوة إن أردت المزيد. والواجب عليك هو اعتقاد وقوع الكرامة، وليس عليك أن تعتقد كرامة معينة لشخص إلا أن يأتي بذلك دليل من الكتاب أو السنة وكذلك الشأن في الولي. تحذير ... إذا عرفت معنى الولي ومعنى الكرامة، ووعيتهما وعياً سليماً استطعت أن تفرق بسهولة بين من يمكن أن يكون ولياً ومن يمكن أن يكون دجالاً نصاباً كذاباً.

فقد يستطيع بعض الدجالين بألاعيبهم وألاعيب أشياعهم أن يوهموا بعض الأغرار من الناس بأنهم أولياء وبأن لهم كرامات، ليأكلوا بذلك أموال الناس بالباطل، أو ليحتفظوا لأنفسهم بمكانة معينة عند الناس، وهؤلاء كثيرون جداً وهم يجيدون حبك مظاهرهم بأساليب عديدة ويوهمون الأغرار. كثيراً بأن من يعترض عليهم يؤذى في نفسه وأولاده وماله. كذباً وافتراءاً وتحايلاً، ولذلك حذر العلماء المحققون وكبار الصالحين من هؤلاء الناس فقالوا: إذا رأيت رجلاً يطير في الهواء أو يمشي على الماء أو يقطع المسافة البعيدة في طرفة عين فلا تغتر به. بل اعرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن وجدته ملتزماً به متأدباً مع الله، يشهد تاريخه بذلك فهو ولي وإلا فهو شيطان في صورة آدمي أو آدمي في جوفه شيطان. أعاذنا الله وحفظنا ورعانا.

السمعيات: معناها - مصدرها

السمعيات: معناها - مصدرها مقدمة ... هذا هو القسم الثالث من أقسام علم التوحيد الثلاثة: الإلهيات - النبوات - السمعيات وتسمى الغيبيات أيضاً: وسميت مباحثه بالسمعيات، لأنه لا طريق لمعرفتها إلا الكتاب والسنة: والأصل في وصولهما إلينا السماع فقط أو مع القراءة. فلا دخل للعقل في الوصول إلى ما يذكر في هذا القسم ويجب الإيمان به كالملائكة والجن والأرواح واليوم الآخر والجنة والنار إلا بالفهم عن الكتاب والسنة الصحيحة. أما تسميتها بالغيبيات فلأنها أمور غائبة عنا ولا أثر لها في حياتنا يدلنا عليها دلالة قطعية. ونحن فيما سبق اقتنعنا وآمنا بوجود الله تعالى بأدلة قطعية يقينية. وآمنا بوجود صفات الله تعالى بأدلة قطعية يقينية. وآمنا برسل الله تعالى وصفاتهم بأدلة قطعية يقينية. وآمنا بكتب الله تعالى التي أنزلها على رسله بأدلة قطعية يقينية. نحن ملزمون نتيجة هذا الإيمان بالله وصفاته ورسله وكتبه أن نؤمن بما جاء في الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسولنا من أجلنا، وأن نعمل بما جاء فيه، وهذا الكتاب نصوصه كلها (حروفه وكلماته وآياته وسوره) وردت إلينا بدليل قطعي، والذي ينكر شيئاً مما ورد عن الله بدليل قطعي يكفر بسبب هذا الإنكار. وأما معاني كتاب الله تعالى فمنها ما هو قطعي لم يختلف فيه العلماء بل أجمعوا كلهم عليه، وهذا إنكاره كفر أيضاً، مثل قوله تعالى: {قل هو الله أحد}.

ومنها ما هو ظني لم يتفق عليه العلماء، بل اختلفوا فيه فلك أن تأخذ برأي منهم ما دام هذا الرأي متفقاً مع اللغة ومع الأصول والموازين الإسلامية. وذلك مثل قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]. فإن القرء في اللغة يطلق على دم الحيض كما يطلق على الطهر منه، لذلك اختلف الفقهاء فيه وفي الأحكام المترتبة عليه. كما أنه يجب الإيمان بأن رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم بين لنا كتاب الله، وأوضح شرعه. قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44]. كما يجب الإيمان بأننا مكلفون بالأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبية لقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب} [الحشر: 07]. وهنا يقال: إن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث: إن كان متواتراً مقطوعاً به فإن الإيمان به واجب، وإلا كان كفراً: ويقال في نصه ومعناه ما قيل في القرآن. وإذا لم يكن الحديث متواتراً فإن إنكاره ليس كفراً، وإنما هو فسق إذا كان الحديث مجمعاً على صحته: والعمل بهذه الأحاديث واجب، وعليها بني أكثر الأحكام الفقهية، غير أن هذه الأحكام المأخوذة من الأحاديث

الملائكة

منها الواجب ومنها السنة، ومنها الحرام، ومنها المكروه، ومنها المباح، وكذلك الأحكام المأخوذة من القرآن أو منهما معاً. وبناء على هذا نستطيع أن نفهم، لماذا قلنا: إن العقائد الإسلامية مصدرها الأدلة القطعية "العقل، الكتاب، السنة المتواترة". فإنه صار واضحاً أن العقائد يترتب عليها الإيمان أو الكفر، وهما أخطر وصفين يوصف الإنسان بهما، ويترتب عليهما مصيره، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، ونستطيع أن ندرك الآن أن السمعيات التي سنذكرها فيما يأتي، ويجب الإيمان بها ثابتة بأدلة قطعية من كتاب الله تعالى، ولا يوجد دليل عقلي يمنع من وقوعها، بل هي داخلة في الأمور الجائزة عقلاً، لأنها أثر لقدرة الله تعالى وإرادته وعلمه، وإليك بيانها: السمعيات: معناها - مصدرها الملائكة ... يجب على كل مكلف شرعاً الإيمان بالملائكة: وذلك بأن يعتقد اعتقاداً جازماً بأنهم موجودون. وبأنهم مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وبأنهم قادرون على التشكل بالأشكال الحسنة المختلفة. وهم لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة: فمن قال إنهم إناث كفر، ومن قال إنهم ذكور فسق أي "ارتكب معصية صار بها فاسقاً" وهم لا يتزوجون، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا ينامون، وهم أنواع كثيرة: فمنهم حملة العرش ومنهم رسل الوحي، ومنهم الكتبة، والحفظة، والموكلون بقبض الأرواح، ورئيسهم ملك الموت، والموكلون بالأرزاق، ورئيسهم ميكائيل، والموكلون بالجنة ورئيسهم رضوان، والموكلون بالنار ورئيسهم مالك، ومنهم القائمان بالسؤال في القبر، ومنهم ملائكة ذكرت أسماؤهم

الدليل على وجود الملائكة، ووجوب الإيمان بهم:

في كتاب الله تعالى، وهم جبريل، وميكائيل ومالك. فالواجب علينا بالنسبة لمن ذكر بنوعه أن نصدق بالنوع الذي ذكر كحملة العرش وغيرهم، ومن ذكر بشخصه وجب علينا التصديق بشخصه كجبريل وميكائيل ومالك. والأدلة على ما ذكر أدلة قطعية من كتاب الله تعالى، ومعانيها لا تحتمل غير ما ذكر. الدليل على وجود الملائكة، ووجوب الإيمان بهم: ... قال تعالى: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً} [النساء: 136]. وقال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285]. وفي وصفهم قال الله تعالى: {وقالوا تخذ الرحمن ولداً سبحانه، بل عبادٌ مكرمون. لا يسبقونه بالقول. وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 26 - 27 - 28].

وقال تعالى: {وله من في السموات والأرض، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 29 - 30]. فهم لا ينامون ولا يكسلون عن عبادة الله أبداً. وفي تشكلهم بالأشكال الحسنة: قال تعالى في الذين نزلوا في صور آدميين حسان الوجوه شبان على سيدنا لوط عليه السلام: {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} [هود: 81]. وقال تعالى في الملك الذي أرسله إلى الصديقة مريم ليبشرها بحملها بعيسى عليه السلام: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً} [مريم: 17]. وأنكر الله على الكفار وصفهم الملائكة بالأنوثة، وتوعدهم على ذلك. قال تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عبادٌ الرحمن إناثاً، أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون} [الزخرف: 19]. وأما المنع من وصفهم بالذكورة فسببه أن الله تعالى لم يصفهم بذلك، فالذي يصفهم بذلك يعتبر كاذباً مفترياً، وبناء على عدم جواز وصفهم بالذكورة أو الأنوثة يجب الاعتقاد بأنهم لا يتزوجون، ولا يتناسلون.

ومن الافتراء على الله تعالى أيضاً القول بأنهم يأكلون أو يشربون، فإن أمرهم غيبي لا يعلمه إلا الله، ولا يجوز لنا أن نصفهم إلا بما وصفهم الله به، لا نزيد ولا ننقص. وفي حملة العرش قال تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} [غافر: 07]. وفي الكتبة الذين يكتبون الحسنات والسيئات: قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10 - 11 - 12]. وفي الحفظة الذين يحفظون الإنسان من كل شر سوى ما قدر عليه: قال تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11]. أي للإنسان ملائكة يتناوبون حفظه من بين يديه ومن خلفه، أمرهم الله بذلك وقد فصل الحديث مدة نوبتهم فقال صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون". رواه الشيخان والنسائي.

حكم إنكار الملائكة

وفي ملك الموت قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} [السجدة: 11]. وفي أعوانه قال تعالى: {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون} [الأنعام: 61]. والآيات في خزنة الجنة، وخزنة النار وغيرهم من الأنواع كثيرة في كتاب الله تعالى فارجع إليها إن شئت. وفي ذكر جبرائيل وميكائيل ومالك. قال تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوٌ للكافرين} [البقرة: 98]. وقال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال: إنكم ماكثون} [الزخرف: 77]. حكم إنكار الملائكة ... دل على وجود الملائكة الكتاب والسنة والإجماع فمنكر وجودهم كافر. من أي شيء خلقوا وما حقيقتهم؟ ... ورد في حديث صحيح أنهم خلقوا من نور.

عصمة الملائكة

فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" رواه أحمد والنسائي، أما حقيقتهم فالله أعلم بها، لأن القرآن والسنة لم يذكرا شيئاً عن حقيقتهم وكل ما ذكر أن لهم أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وورد أن جبريل له ستمائة جناح كما ثبت بالدليل القطعي أنهم أقوياء جداً فهم الذين حملوا قرى قوم لوط وقلبوها. ومنهم حملة العرش وبصيحة من ملك هلك قوم صالح، وبنفخة في الصور من الملك يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، وبنفخة أخرى يبعث الخلائق أجمعون. وبالجملة فالملائكة عالم خلقه الله تعالى على حقيقة يعلمها الله. وهذا العالم من الملائكة ينفذ أوامر الله تنفيذاً دقيقاً فهو أشبه بالإدارة الربانية التي تتلقى الأوامر من الله لتنفيذها، وهذه الإدارة مكانها السماء، فهي مسكن الملائكة. وليس الله تعالى في حاجة إليهم ولا إلى غيرهم، لأنه تعالى غني عن كل ما سواه، لكنه تعالى كما قال: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} [القصص: 68]. وكما قال تعالى: {فعالٌ لما يريد} [البروج: 16]. فالعالم كله عالمه وهو تعالى مدبر أمره، والأعلم بشأنه. ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء. عصمة الملائكة ... قول جمهور العلماء - وهو الحق الذي تدل عليه الآيات السابقة - أن الملائكة معصومون من الذنوب ومخالفة الله تعالى في أي أمر، وما ورد في القرآن مما يوهم غير لك يجب حمله على الوجه المناسب لعصمتهم.

فمن اعترض بأن إبليس كان من الملائكة فعصى، أجيب بأن الله توصف الملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، وقد ذكر القرآن أن إبليس كان من الجن كما استثنى من الملائكة وذلك يدل على أنه منهم. والتوفيق السليم أن يقال: إن إبليس كان من الجن حقيقة، وكان من الملائكة حكماً، أي إنه لشدة عبادته وبعده عن المخالفة أول الأمر كان شبيهاً بالملائكة فأخذ حكمهم. ومن اعترض بقول الملائكة لله في آدم قبل خلقه: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 20]. أجيب بأن الملائكة لم ترد بهذا القول غيبة آدم ولا تزكية أنفسهم ولا الظن السيء كما قد يتوهم، إنما أرادوا السؤال عن الحكمة في خلق آدم في الأرض، وكانوا قد علموا عن الله تعالى ما يحصل من ذريته من الإفساد، أو كان قولهم سببه أن الأرض كانت مسكونة قبل آدم بمخلوقات أفسدت وسفكت الدماء. ومن اعترض بأن هاروت وماروت كانا ملكين فعلما الناس السحر، وتعلم السحر للسحر معصية، أجيب بأن هاروت وماروت قيل إنهما كانا ملكين بكسر اللام، وقرئ بذلك، وحينئذ فلا إشكال لأنهما آدميان، والقول الثاني أنهما نزلا بأمر الله في زمن كثر فيه السحر والسحرة ودعوى السحرة أنهم أنبياء، لأنهم يأتون بأمور خارقة للعادة فنزل الملكان في صورة بشر وعلما الناس علم السحر حتى يكذبوا السحرة في ادعائهم النبوة، وتعلم السحر للتوقي من ضرره غير محظور وغير ممنوع. بل قد يكون مطلوباً وبهذا تثبت عصمة الملائكة، وتسقط الاعتراضات الموجهة إليهم.

الجن والشياطين

السمعيات: معناها - مصدرها الجن والشياطين ... الجن: هم عالم من العوالم الغيبية، لا يعلم حقيقتهم إلا الله تعالى. دليل ثبوتهم الكتاب والسنة وإجماع العلماء. قال تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين} [الأحقاف: 29]. وهم لا يرون على حقيقتهم. قال تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27]. منهم المؤمنون ومنهم الكافرون والفاسقون. قال تعالى في شأن الجن حاكياً قولهم عن أنفسهم: {وأنّا منا الصالحون، ومنا دون ذلك، كنا طرائق (¬1) قدداً} [الجن: 11]. ومن ذلك ندرك أنهم مكلفون كالإنس وأنهم مجازون مثلهم. قال تعالى حاكياً قولهم: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون، فمن أسلم ¬

(¬1) أي كنا أدياناً مختلفة.

لطيفة:

فأولئك تحروا رشداً. وأما القاسطون فكانوا لجنهم حطباً} [الجن: 14 - 15]. واقرأ سورة الرحمن يتضح لك ذلك أكثر وأكثر. منهم الشياطين ومنهم العفاريت. قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} [الأنعام: 112]. فذكرت الآية أن الشياطين تكون من الإنس ومن الجن. وقال تعالى: {قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} [النمل: 29]. لطيفة: ... قال ابن عبد البر: الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان منزلون على مراتب، فإذا ذكروا الجن خالصاً قالوا: جني، فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا: عامر والجمع عُمّار، فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا أرواح، فإن خبث وتعزم (أي تمرد) قالوا شيطان، فإن زاد على ذلك (أي في الإيذاء) قالوا: مارد، فإن زاد على ذلك وقوي فهو عفريت، والجمع عفاريت، والله تعالى أعلم بالصواب (¬1). والشيطان: - كما يؤخذ من الكتاب والسنة - لفظ يطلق على كل متمرد فاسق فاجر يدعو إلى عصيان ¬

(¬1) آكام المرجان في أحكام الجان للشبلي.

من أي شيء خلق الجن؟ وما حقيقتهم؟

الله. وقد اختلف العلماء في الفرق بين الجن والشياطين. فهناك رأي يقول: هما جنس واحد، ويطلق الشيطان على المتمرد من الجن وهو الأرجح الذي تدل الأدلة عليه كما سبق بعضها. وعلى هذا رأى جمهور العلماء. وهناك رأي يقول: إن الحقيقتين متغايرتان. فالجن أجسام هوائية لطيفة تتشكل بالأشكال المختلفة، وتظهر منها الأفعال العجيبة، ومنهم المؤمن والكافر. أما الشياطين فهي أجسام نارية شأنها إضلال الناس وإلقاؤهم في الغواية والهلاك. من أي شيء خلق الجن؟ وما حقيقتهم؟ خلق الجن من النار التي لهبها خالص من الدخان وصاف منه. قال تعالى: {وخلق الجانّ من مارج من نار} [الرحمن: 15]. وقال تعالى: {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} [الحجر: 27]. وقد مر حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" أخرجه أحمد ومسلم. وأما حقيقتهم التي خلقوا عليها فالله أعلم بها، لأنه لم يرد ما يدل عليها. ولكن العلماء استنبطوا من الأدلة الصحيحة الكثيرة التي مر بعضها وسيأتي بعضها "أن الجن أجسام نارية تتشكل بالأشكال الحسنة والأشكال القبيحة، وأنهم يعقلون، ويأكلون ويشربون، وينامون، ويتزوجون، ويتناسلون، وأن منهم الطائع، ومنهم العاصي، كما سبق، غير أن الشياطين منهم لا يراد بهم إلا العصاة المردة.

وقد سمعت الجن النبي صلى الله عليه وسلم بدون أن يراهم أول مرة وفي هذه المرة نزل قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن} الآيات. وجاء داعيهم إليه بعد ذلك فذهب صلى الله عليه وسلم إليهم ووعظهم وعلمهم، لأنه مرسل إليهم كما سبق. قال علقمة: قلت لابن مسعود: هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ قال ما صحبه منا أحد، ولكن افتقدناه ذات ليلة وهو بمكة، فقلنا اغتيل (¬1) أو استطير ما فعل به؟ فبتنا بشر ليلة بات بها قوم حتى إذا أصبحنا أو كان وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء. قال: فذكروا له الذي كانوا فيه. فقال: أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم، فانطلق فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم. وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم. فقال صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن. أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح فالحديث يدل على اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ورؤيته لهم ودعوتهم إلى الله ووعظهم بالقرآن، كما يدل على أنهم يأكلون ويشربون، ويدل على ذلك أيضاً الحديث الآتي: روى مسلم وأبو داود ومالك والترمذي من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها". أما تزواج الجن وتوالدهم فيدل عليهما قوله تعالى في وصف حور الجنة: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} [الرحمن: 74]. ¬

(¬1) اغتيل: مبني للمجهول - أي قتل سراً، واستطير - بصيغة المجهول - أي طارت، الجن حسب اعتقادهم في الجاهلية.

هل كان في الجن نبي منهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟

أي لم يلمس الحور العين أحد من الإنس والجن قبل أزواجهم من أهل الجنة، وهذا دليل على أن للجن اتصالاً جنسياً كما للإنس. وقال تعالى في شأن إبليس وجنوده: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو؟ بئس للظالمين بدلاً} [الكهف: 50]. والآية تدل على أنهم يتوالدون وأن لهم ذرية كذرية الإنسان. هل كان في الجن نبي منهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟ ... عرفنا فيما سبق أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم كانت بعثته عامة إلى جميع الإنس والجن، ولكن العلماء اختلفوا في الرسل الذين كانوا يرسلون إلى الجن قبل ذلك: هل كانوا من الإنس أم من الجن؟ فجمهور العلماء سلفاً وخلفاً على أنه لم يكن من الجن قط رسول .. ولم تكن الرسالة إلا من الإنس ونقل معنى هذا عن ابن عباس وابن جريج ومجاهد والكلبي وأبي عبيد والواحدي، وقال الضحاك وابن حزم وغيرهما: لم يرسل إلى الجن قبل محمد صلى الله عليه وسلم رسول من الإنس. قال ابن حزم: وباليقين ندري أنهم قد أنذروا، فصح أنهم جاءهم أنبياء منهم، قال الله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا شهدنا على أنفسنا} [الأنعام: 130]. وقال: لم يبعث إلى الجن نبي من الإنس قبل محمد صلى الله عليه

صلة الجن بالإنسان

وسلم، لأنه ليس الجن من قوم الإنس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة". والناس تشمل الإنس والجن في اللغة. صلة الجن بالإنسان ... إن اتصال الجن بالإنس ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة، غير أنه اتصال من نوع خاص، فهو ليس كاتصال الإنس بالإنس، لأن الجن كما عرفنا عالم غيبي يرانا ولا نراه، وليس اتصال المشاركة في الآلام والآمال، والمتاعب والمشاكل، والسلم والحرب، والأمن والخوف، كما هو الشأن بالنسبة للصلة بين الإنسان والإنسان إنما هو اتصال من نوع خاص يناسب طبيعة كل منهما وفي الحدود التي رسمتها سنن الله تعالى وقوانينه الكونية والشرعية. فالجن موجودون في كل مكان يكون فيه إنسي، ويحضرون أكله وشربه ومآدبه ومجالسه لا يفارقونه أبداً إلا أن يحجزهم بذكر اسم الله تعالى. والجن مسلطون على الإنس بالوسوسة والإغواء والإضلال، وأحياناً بالتمثل والتشبه بأشياء تزيد من إضلالهم للإنس وتكفيرهم، وأحياناً يلبسون جسم الإنسان، ويعيشون فيه بكيفية لا يعلمها إلا الله تعالى، فيصاب الإنسان عن طريقهم بمرض من الأمراض كالصرع والجنون والتشنج وغير ذلك. وكل ذلك بقدر الله، كما يصاب الإنسان بغير ذلك من الأمراض والمصائب بسبب الإنسان. وقد يسرق لصوصهم أموال الإنسان، وقد يكسر المشاغبون منهم الأواني والأشياء الثمينة، كما يظهر أحدهم للإنسان في صورة إنسان ليضله أو يوقعه في مهلكة كبئر أو نهر أو نار. والخلاصة: أنهم يتشكلون بالأشكال المختلفة التي عن طريقها يحاولون الإضرار بالإنسان أو نفعه. كما أن شياطينهم مسلطون بالوسوسة للإنسان، للإغواء والإضلال، فهم مضرون ظاهراً وباطناً. غير أنه لا يضر منهم إلا الكافرون أو الفاسقون، أما الصالحون منهم فشأنهم شأن صالحي

الجن تسخر لسليمان عليه السلام

الإنسان، لا يفعلون إلا الخير، ولا يسعون إلا فيه. والله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته أعطى الإنسان السر الذي به يفسد على الجن وسوستهم، ويحفظ نفسه من أضرارهم وأذاهم. فالإيمان الصادق عصمة لصاحبه من تسلط الشيطان عليه إلى النهاية. قال تعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} [النحل: 99 - 100]. وذكر اسم الله يحجبهم عن الإنسان ويمنعهم من إيذائه كما سيأتي. وقد كتب في موضوع الجن، وكل ما يتصل بهم وبصلتهم بالإنسان ابن تيمية في الفتاوى وابن القيم في كتاب "لقط المرجان في أحكام الجان" والقاضي بدر الدين الشبلي الحنفي في كتابه "آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان" وكتب غير هؤلاء من علماء الإسلام عن الجن ما يغني ويكفي. ونحن نورد لك بعض الأدلة على ما ذكرنا مكتفين بذكر الدليل عن التعليق عليه خوف الإطالة في موضوع يحتاج كتاباً مستقلاً. كذلك لن نتعرض لوسوسة الجن للإنس، لأن ذلك موضوع مفروغ منه ولا يشك فيه أحد، وقد مر بعض أدلته. الجن تسخر لسليمان عليه السلام ... قال تعالى: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون} [النمل: 17].

ظهور الجن والشياطين في صور شتى

وقال تعالى: {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير. يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدور راسيات، اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 12 - 13]. وقال تعالى: {ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنّا لهم حافظين} [الأنبياء: 82]. ظهور الجن والشياطين في صور شتى ... قال تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريءٌ منكم، إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب} [الأنفال: 48]. ذكر ابن إسحق وغيره في سبب نزول هذه الآية أن المشركين جاءوا إلى غزوة بدر ومعهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني - وكان سراقة من أشراف بني كنانة. وكانت قريش تخشى كنانة على نفسها

فقال لهم إبليس أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس نكص على عقبيه وهرب، فقال له الحارث بن هشام - وتشبث به - إلى أين يا سراقة؟ أين تفر؟ فلكمه إبليس لكمة طرحه على قفاه ثم قال: إني أرى ما لا ترون الخ .... وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه فذعته (¬1)، ولقد هممت أن أوثقه (¬2) إلى سارية (¬3) المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول سليمان {هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فرده الله خاسئاً. وقد روى النسائي على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وجدت برد لسانه على يدي ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقاً حتى يراه الناس. وعن أبي أيوب أنه كان في سهوة (¬4) له، وكانت الغول (¬5) تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فإذا رأيتها فقل باسم الله أجيبي رسول الله". قال فجاءت فقال لها فأخذها فقالت إني لا أعود، فأرسلها، فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، ما فعل أسيرك؟ قال أخذتها فقالت إني لا أعود فأرسلتها، فقال: إنها عائدة فأخذتها مرتين أو ثلاثاً كل ذلك تقول لا أعود وأجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "ما فعل أسيرك؟ " فأقول أخذتها فتقول: لا أعود فيقول: "إنها عائدة" فأخذتها فقالت أرسلني وأعلمك شيئاً تقوله فلا يقربك شيء، "آية الكرسي". فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "صدقت وهي كذوب". ¬

(¬1) ردعته. (¬2) أربطه. (¬3) عمود. (¬4) مكان بالمنزل. (¬5) الجن حين تظهر ليلاً تسميها العرب غولاً.

رواه أحمد والترمذي وروى البخاري مثل هذا الحديث عن أبي هريرة وروى الحافظ أبو يعلى مثله عن أبي بن كعب - راجع ابن كثير عند تفسير آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم ... }. وروى أبو نعيم عن الأحنف بن قيس قال: قال علي بن أبي طالب: "والله لقد قاتل عمار بن ياسر الجن والإنس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: هذا الإنس قد قاتل. فكيف الجن؟ فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. فقال لعمار: "انطلق فاستق لنا من الماء. فانطلق فعرض له الشيطان في صورة عبد أسود فحال بينه وبين الماء. فأخذه فصرعه عمار. فقال له: دعني وأخلي بينك وبين الماء. ففعل ثم أبى. فأخذه عمار الثانية فصرعه. فقال: دعني وأخلي بينك وبين الماء. فتركه. فأبى فصرعه. فقال له: مثل ذلك. فتركه فوفى له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد حال بين عمار وبين الماء في صورة عبد أسود. وإن الله أظفر عماراً به. قال علي. فلقينا عماراً. فقلت: ظفرت يداك يا أبا اليقظان. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا. قال: أما والله لو شعرت أنه الشيطان لقتله. ولقد هممت أن أعض بأنفه لولا نتن ريحه". حضور الشياطين كل شيء للإنسان إذا لم يذكر اسم الله تعالى. روى مسلم والترمذي من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضر عند طعامه". وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله. اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً". وروى مسلم من حديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها تركز رايته". وروى مسلم وأبو داود عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الله عند دخوله وعند طعامه. قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا ذكر اسم الله عند دخوله ولم يذكره عند طعامه يقول: أدركتم العشاء ولا مبيت لكم. وإذا لم يذكر اسم الله عند دخوله قال: أدركتم المبيت والعشاء". وروى مسلم وأبو داود عن حذيفة قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي طعاماً) لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده. وإنا حضرنا مرة معه طعاماً فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي فكأنما يدفع فذهب ليضع يده فأخذ يده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها. فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما". وروى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فليس يأمرني إلا بخير". وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان جنح (¬1) الليل وأمسيتم فكفوا صبيانكم. فإن الشيطان ينتشر حينئذ. فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم (¬2)، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله تعالى. وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئاً (¬3). وأطفئوا مصابيحكم". ¬

(¬1) جنح الليل: أي أول الليل. (¬2) أي اتركوهم ليخرجوا. (¬3) أي غطوا آنيتكم فإن لم تجدو غطاء فضعوا عليها شيئاً ولو عوداً مع ذكر اسم الله.

وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: كان فتى منا حديث عهد بعرس فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله. فاستأذنه يوماً. فقال له: خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة. فأهوى اليها بالرمح لكي يطعنها لما أصابته غيرة. فقالت له: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منصوبة على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به. ثم خرج فركزه (¬1) في الدار فاضطربت عليه فما ندري أيهما كان أسرع موتاً. الحية أم الفتى". يؤخذ من هذا الحديث ومما سبق أن الجن يظهرون في أشكال كثيرة. وخصوصاً أول الليل وآخره وفي الخربات والأماكن المظلمة والصحارى. والأماكن النجسة. فعلى الإنسان أن يأخذ دائماً حذره وألا يؤذي شيئاً مما يظن أنه قد يكون منهم إلا بعد أن يظهر أذاه ثم ينذره ثم يذكر اسم الله ويرد اعتداءه ولو بقتله. فقد روى الترمذي والنسائي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بالمدينة نفراً من الجن قد أسلموا. فإذا رأيتم من هذه الهوام شيئاً فآذنوه (¬2) ثلاثاً فإن بدا لكم فاقتلوه". وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية: "قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بغير حق والظلم محرم في كل حال. والجن يتصورون في صور شتى. فإذا كانت حيات البيوت قد تكون جنيات فتؤذن ثلاثاً. فإن ذهبت فبها وإلا قتلت". ¬

(¬1) ركزه فيها. (¬2) أعلنوه وأنذروه.

صرع الجن الإنس

صرع الجن الإنس قال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} [البقرة: 275]. قال ابن كثير في معنى الآية: أي لا يقوم الذين يأكلون الربا في الدنيا من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له. واستدل أهل السنة والجماعة بهذه الآية على أن الجن تدخل في بدن المصروع. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إن الجن لا تدخل في بدن الإنس، قال يا بني يكذبون. هو ذا يتكلم على لسانه (أي على لسان من مسه الجن). وذكر الدارقطني والدارمي بالسند إلى ابن عباس أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله. إن ابني به جنون، وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له. فتفتفه (¬1) فخرج من جوفه مثل الجرو (¬2) الأسود فسعى. وروى الإمام أحمد وأبو داود وأبو قاسم الطبراني من حديث أم أبان بنت الوازع عن أبيها أن أجدها انطلق إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم بابن له مجنون. أو ابن أخت له. فقال يا رسول الله. إن معي ابناً لي، أو ابن أخت لي مجنون، أتيتك به لتدعو الله تعالى له. قال: ائتني به قال: ¬

(¬1) أي قاء الجني. (¬2) الكلب الصغير حديث الولادة.

فانطلقت به إليه وهو في الركاب. فأطلقت عنه وألقيت عليه ثياب السفر، وألبسته ثوبين حسنين، وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدنه مني، واجعل ظهره مما يليني، قال. فأخذ بمجامع ثوبه بين أعلاه وأسفله فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطه ويقول: اخرج عدو الله. فأقبل (يعني المريض) ينظر نظر الصحيح ليس بالنظر الأول. ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له. فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه. وذكر صاحب كتاب "آكام المرجان" حكاية عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: هي أن المتوكل أنفذ إليه صاحباً له يعلمه أن جارية بها صرع وسأله أن يدعو الله لها بالعافية. فأخرج له أحمد نعلي خشب بشراك (¬1) من خوص للوضوء فدفعه إلى صاحب له وقال له: تمضي إلى دار أمير المؤمنين، وتجلس عند رأس هذه الجارية وتقول له (يعني الجني) يقول لك أحمد: أيما أحب إليك. تخرج من هذه الجارية، أو تصفع بهذه النعل سبعين؟ فمضى إليه وقال له مثل ما قال له الإمام أحمد. فقال له المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة. لو أمرنا أحمد ألا نقيم بالعراق ما أقمنا به. إنه أطاع الله، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء. وخرج من الجارية، وهدأت ورزقت أولاداً. ومما ذكر من الأدلة نعلم أن صرع الجن للإنس أمر ممكن وأنه وقع فعلاً. وقد كانت العرب وغيرها من الأمم تؤمن بذلك وتحكي فيه الحكايات الكثيرة. ولا غرابة فيما حكي وفيما يحكى اليوم عن الجن وتشكلهم بالأشكال المختلفة واتصالهم بالإنس بأنواع من الاتصالات. وهذا أمر مقرر في الإسلام حتى اختلف الفقهاء في جواز التزواج بين الإنس والجن فالقلة أجازته والكثرة منعته، لأن الجن جنس غير جنس الإنس. ¬

(¬1) رباط.

وتكلم كثير من علماء الإسلام عن صرع الجني الإنسي وكيفية علاج الإنسي منه وأكثر الكلام في هذا الموضوع أبو العباس ابن تيمية، وغيره وألفت في ذلك أبواب عالجت الموضوع علاجاً علمياً مبنياً على أسس إسلامية. والخلاصة في هذا الموضوع أن علاج الإنسي المصاب بلمس الجني أمر يمكن إما بالتصالح مع الجني والتعاهد معه إن كان ذلك يصلح معه، وإما بالرقى - والتعاويذ. وأهمها قراءة آية الكرسي. فقد ذكر ابن تيمية أن الله شفى بسببها كثيرين. ومنها التخويف والإرهاب إن كان الإنسي المعالج أهلاً لذلك، ومنها كتابة التعاويذ لتشرب أو لتحمل بشرط أن يكون المكتوب ليس استعاذة بغير الله تعالى، لأن ذلك شرك، وليس استعاذة بأسماء لا تعرف معناها، لأنها غالباً ليست من أسماء الله تعالى. فلا مانع من العلاج إذاً بأي شيء مباح. ولا يجوز بالشيء الممنوع شرعاً. ومعالجة هؤلاء المصروعين جائزة بل قد تكون مستحبة أو واجبة كما قال ابن تيمية، لأنها إغاثة لمسلم ونصرة له من ظالمه، ونصرة المظلوم واجبة لمن قدر عليها بالطريق المشروع. ويلاحظ أن تصرفات المصروع التي يفعلها رغماً عنه ولا قدرة له على ردها تصرفات لا يحاسب عليها المصروع ولا يؤاخذ بها، لأنها فوق طاقته، فهو مثل المجنون.

تحضير الأرواح

السمعيات: معناها - مصدرها تحضير الأرواح ... هذا الموضوع ذو أهمية ويستحق الدرس والعناية به، وليس المجال هنا متسعاً للاطالة فيه، ولكن حسبنا أن نقول: إن هناك قضايا إذا فهمت عن درس أمكن الوصول إلى نتيجة يقينية لا لبس فيها ولا غموض. الأولى: هي أن الجن ثبت وجودهم، وأنهم يتشكلون بما يريدون، وأنهم متصلون ببني آدم اتصالاً وثيقاً ويعيشون معهم على أرضهم، وأحياناً يدخلون في أجسامهم ويتسلطون عليها بكيفية لا يعلمها إلا الله، لأن حقيقتهم لا يعلمها إلا الله. وبناء على ذلك فالجني يمكنه أن يتشبه بالرياح وبالأنوار المختلفة الألوان وبالسحاب والدخان والشخصيات العظيمة. كما يمكن للجني أن يقلد أية شخصية حية أو ميتة بعد موتها، لأن أعمار الجن تصل أحياناً إلى مئات السنين، كما ثبت في ذلك في بعض الأحاديث والآثار - كما أن تكليم الجني للإنسان على لسان إنسان آخر أمر ثابت كما سبق، وتحريك الجني لقلم يكتب، أو لسلة ترسم بوساطة قلم، أو لأثاث حجرة ليكسر أو لغير ذلك مما نسمع عنه أمر ممكن وواقع فيما مضى ويقع الآن كثيراً، والمتتبع لهذا الأمر يجد الغرائب التي لا شك فيها. الثانية: أن أرواح الموتى بعد موتهم لا سلطان لأحد عليها بتسخير أو تحضير أو غير ذلك لأن هذه الأرواح ذهبت إلى خالقها لتلقى مصيرها حسب عملها، فهي في روضة من رياض الجنة، أو في حفرة من حفر النار، وتلك حياة برزخية غيبية لا سلطان لأحد عليها غير الله تعالى .... قال تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الإنشقاق: 06].

وقد قال تعالى في مصير الإنسان بعد موته: {فأما إن كان من المقربين. فروحٌ وريحان وجنة نعيم. وأما إن كان من أصحاب اليمين. فسلام لك من أصحاب اليمين. وأما إن كان من المكذبين الضالين. فنزل من حميم. وتصلية جحيم} [الواقعة: 88 - 94]. الثالثة: لم يثبت أن نبياً مرسلاً أو صحابياً أو تابعياً أحضر روح ميت ليسأله عن أمر من الأمور - وكثيراً ما تأزمت أمور وتعقدت مسائل ووجدت قضايا لو قال الميت فيها كلمة واحدة لانتهى الأمر المعضل، وكان ذلك يحدث في حياة المرسلين الذين جاءوا بالمعجزات الباهرة، ومع ذلك لم تحدث مرة واحدة في عصرهم أن أحضرت روح لتقول الكلمة المطلوبة فتفك الأزمة القائمة، وكل ما سمعناه عن الاتصال بأرواح الموتى إنماهو ما يحدث في المنام لا في اليقظة وأما إحياء عيسى عليه السلام الموتى فليس تحضيراً للأرواح إنما هو إحياء للجسم مع الروح، وكذلك إحياء الله ميت بني إسرائيل على يد موسى عليه السلام. الرابعة: أرواح الموتى لو أحضرت لفاحت منها ومن أخبارها وتصرفاتها رائحة النعيم أو العذاب، ولعرفنا منها أخباراً حقيقة عن أهل الجنة وأهل النار، وعن نعيم الجنة وعذاب النار، وأخبار القبور، والأسئلة والأجوبة بالنسبة للموتى، ولاتضح لنا كل ما يتصل بالعالم الآخر أو أكثره، ولأمكن نشر ذلك كله على الناس ودعوتهم لسماعه، وذلك ما لم يحدث بكيفية علمية مؤكدة. الخامسة: لو أنك تتبعت كل ما قيل عن تحضير الأرواح لخرجت بنتيجة واحدة هي: أن كل ما قيل عن الأرواح أنها قالته أو عملته، قيل وثبت عن الجن أنها قالت مثله وفعلت مثله.

فتحضير الجن كتحضير الأرواح - غير أن ما سمي تحضير الأرواح ألبس ثوباً علمياً كاذباً ووشاحاً يتفق مع عصر الصاروخ والقنبلة الذرية. السادسة: الأرواح التي تستحضر تراوغ، وتخلف الوعد، وترضى بالمنكر في مجالسها كأن ترضى بجلوس من يلبس الذهب والحرير من الرجال، وترتضي قوماً نساؤهم وبناتهم سافرات عاريات وقد يكون غير مصليات، كما أن الأرواح المستحضرة تكسر الأشياء أحياناً وتؤذي بعض الناس وقد تقوم بأعمال بهلوانية كالرقص والتلون بألوان مختلفة وإضاءة الحجرة والإخبار ببعض ما يحدث بين الناس وفي العالم مما لا يراه ولا يعلمه المحضرون ولكن تعلمه الجن لسعة كشفها وسرعة تنقلها بدرجة تفوق سرعة أسرع صاروخ اكتشفه العلم وكل هذه الأمور فعلتها الجن وفعلت أكثر منها وتجد لها أمثلة في القرى والمدن عند المتخصصين في أمور الجن، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقيموا حولهم هالة من الدعاية ونفخ الأبواق ليلبسوا أمورهم لباساً علمياً مزيفاً، ويقولوا للناس - افتراء - إننا نستحضر الأرواح، إنما يقولون صادقين، إننا نستحضر الجن أو هم يحضرون معنا. وكثيراً ما رأيت أناساً مضللين بادعائهم تحضير الأرواح أو حضور جلساتها وأن هذه الأرواح زينت لهم فعل منكر أو أباحت لهم ترك فريضة أو هونت عليهم فعل جريمة بحجة أنها أرواح من عند الله وأنها تعلم الحقائق عارية مكشوفة لا لبس فيها ولا خفاء. ولم يدر المسكين أنه واقع في شباك جني كذاب مضلل. السابعة: أن الأرواح بعد فراق الأجساد محكومة بناموس وسر إلهي فلا يمكن لأحد أن يتسرب إليها ولا أن يسخرها هذا التسخير المزري ولا يمكن لها إلا أن تكون صورة صادقة للعالم الآخر وذلك ما لم يحدث أبداً في عالم ما يسمونه تحضير الأرواح.

خلاصة ... وخلاصة القول بعد عرض الأمور السابقة أن كل ما قيل في تحضير الأرواح المزعومة قيل في تحضير الجن، وأن كل ما تفعله الجن تفعله الأرواح، وأن محضري الأرواح لو اتصلوا بمحضري الجن لقالوا: لقد كنا مخدوعين حين صدقنا أن ما نستحضره هو أرواح الموتى، والحقيقة أنها ألعاب الجن، ولو اتصل محضرو الجن بمحضري الأرواح لقالوا: لو علمنا حقيقة محضري الأرواح لادعينا ادعاءهم وأوهمنا الناس أننا نحضر أرواحاً علوية، ولكسونا أعمالنا كسوة علمية لكي يلبس الوهم ثوب الحقائق. فالكل يستحضر الجن بطرق شتى يستوي فيها طريقة المندل، والتعاويذ السحرية المبنية على امتهان القرآن والحديث وكل ما هو مقدس شرعاً، وطريقة السلة وعلبة السجاير، ولعبة الحروف الأبجدية، والأرقام الحسابية، وطريقة القاعة المغلقة وطريقة الآلات المتحركة والوسيط وغيرها. ويستوي ظهورهم على لسان إنسان، أو في شكل نور، أو ريح أو سحاب في سقف حجرة أو في شكل ولي، أو غير ذلك. ولن نستطيع حين ندرس تحضير الجن، وتحضير الأرواح أن نجد أي فارق في النتيجة والأثر. إذا عرفنا هذا وعرفنا أن هذا الذي يحدث في تحضير الأرواح المزعومة هو نفسه أعراض الجن وأعمالها، وأضاليلها ثم عرفنا مع ذلك أن أرواح الموتى لا تسخر لأحد، ولا تحيا حياتنا، ولا يمكن أن تكذب، أو تخدع، أو تدعي غيباً مستقبلاً كما أنها مشغولة بما هي فيه من نعيم أو عذاب ... الخ ما سبق ذكره. إذا ثبت هذا كله في ذهن القارئ أدرك أن تحضير الأرواح هو بيقين تحضيراً للجن لا لأرواح الموتى.

والجني بحكم طبيعته يستطيع أن يخبرك عن الماضي البعيد، وأن يتشكل في صور أهله وأن يعرف من قرين الميت ما كان عليه الميت، وما كان عنده من أسرار كما يستطيع الجني بسهولة أن يعرف أماكن بعض الأشياء، كما يدل على المسروقات أحياناً، ويخبر ببعض الأحداث التي تغيب عن كثير من الناس، أما علمهم بالمستقبل فأمر غير ممكن، لكن يمكن التخمين كتخمين البشر فيصدق أحياناً ويتحقق تخمينه، فيظن الناس أنه يعلم المستقبل وهو أبعد ما يكون عن علمه، فثبت بهذا أن تحضير الأرواح هو تحضير للجن لا لأرواح الموتى - وأي موتى هؤلاء الذين يرضون بعد لقاء ربهم أن يعودوا إلينا ويروا حياتنا التي ملأها الفسقة فجوراً وفسوقاً وكفراً وانحلالاً وسخرية من القيم الإنسانية والمبادئ الدينية؟!!! إن بعد الناس عن معرفة حقائق الدين وأحواله كبدهم تخبطات كثيرة والبقية تأتي؟!!!

الأجل

السمعيات: معناها - مصدرها الأجل ... يجب الإيمان بأن الإنسان وسائر الحيوانات، والجن والملائكة لا يموت أحد منهم حتى يتم أجله الذي قدره الله له سواء مات حتف أنفه، أم مات مقتولاً بأي سبب من الأسباب. قال تعالى: {لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [يونس: 49]. والأمة تشمل الأمة الإنسانية وغيرها. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام: 38]. وملك الموت هو الذي يقبض الأرواح بأمر الله تعالى، وله أعوان من الملائكة الكرام كما سبق ذكره، وعند الاحتضار (خروج الروح) يرى المحتضر الملائكة الذين يقبضون روحه ويعرف مصيره إن كان إلى الجنة أو إلى النار. قال تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32].

وقال تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام: 93]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب. اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج ثم يزج بها إلى السماء - فيستفتح - لها فيقال: من هذا؟ فيقال فلان. فيقولون: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب. ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها حتى يُنتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج. فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يُعرج بها إلى السماء فيستفتح لها. فيقال من هذا؟ فيقال فلان. فيقال لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء. فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر ... إلى آخر الحديث. رواه ابن ماجه. قال في التنقيح: ورجاله رجال الصحيح. قال ولحديث أبي هريرة هذا ألفاظ عند أحمد ومسلم وابن ماجه وابن حبان.

سؤال القبر، ونعيمه وعذابه

السمعيات: معناها - مصدرها سؤال القبر، ونعيمه وعذابه ... يجب الإيمان بأن أول ما ينزل بالميت بعد موته سؤال الملكين في القبر بأن يرد الله عليه روحه وسمعه وبصره ثم يسأله الملكان عن ربه ودينه ونبيه فإما أن ينعم أو يعذب حسب إجابته أن سوئها. وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة صحيحة بلغت حد الشهرة والتواتر المعنوي، منها: حديث عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" اخرجه أبو داود والبزار والدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه. ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"، أخرجه أحمد ومسلم والنسائي. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما جميعاً ويفسح له من قبره سبعون ذرعاً ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون. وأما الكافر أو المنافق فيقال له، ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري إني كنت أقول ما يقول الناس. فيقال له: لا دريت ولا تليت. ويضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه" أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي واللفظ للبخاري. هذا: والمنعم والمعذب عند أهل السنة الجسد والروح جميعاً.

ومما تقدم يستفاد أن لأهل القبور حياة يدركون بها أثر النعيم والعذاب، ولو تفتتت أجسادهم. وأما كيفية تنعيمهم أو تعذيبهم فأمرها غيبي لا نعرف حقيقته. وحال الميت في ذلك كحال النائم يرى الملاذ والمؤلمات ولا يرى من بجواره شيئاً. ويسأل من غرق أو أحرق أو أكله سبع بكيفية يعلمها الله تعالى. هذا، ولا يسأل الأنبياء، والصبيان، والشهداء للأدلة الواردة في ذلك.

اليوم الآخر

السمعيات: معناها - مصدرها اليوم الآخر هو يوم القيامة: وأوله من الموت لحديث هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له: أتذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتذكر القبر وتبكي؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه" أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وقيل: أول اليوم الآخر من النشر (وهو الخروج من القبور). وآخره على القولين دخول أهل الجنة الجنة، ودخول أهل النار النار. ولا يعلم وقت مجيئه إلا الله تعالى. قال تعالى: {يسألك الناس عن الساعة، قل إنما علمها عند الله، وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} [الأحزاب: 63]. وعن بريدة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل". {إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان: 34]. أخرجه أحمد بسند صحيح. والكلام عن اليوم الآخر ينحصر في علامات الساعة مشتملات يوم القيامة وعلامات الساعة نوعان: 1 - علامات صغرى، 2 - علامات كبرى.

1 - علامات الساعة الصغرى:

1 - علامات الساعة الصغرى: ... العلامات الصغرى لقرب يوم القيامة كثيرة وردت بها الأحاديث الشريفة، وخلاصتها انتقاض عرى الدين الإسلامي وانتكاس الفطرة الإنسانية. وإليك بعض الأمثلة لها كما جاءت بها الأحاديث النبوية الصحيحة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أشراط (¬1) الساعة أن يرفع العلم (أي العلم بالله وبدينه) ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويُشرب الخمر، ويكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد" أخرجه السبعة إلا أبا داود وقال الترمذي: حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، (أي تذهب بركة الأيام فتمر بدون الاستفادة المطلوبة منها) وتظهر الفتن، ويكثر الهرج (القتل) حتى يكون فيكم المال فيفيض". أخرجه الشيخان وابن ماجه. وعنه رضي الله عنه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فقال: "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال. وكيف إضاعتها؟ قال: إذا أسند الأمر لغير أهله فانتظر الساعة". أخرجه البخاري. وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود". أخرجه الشيخان وهذا لفظ مسلم. والغرقد بفتح الغين فسكون الراء: نوع من الشجر له شوك عظيم معروف ببلاد بيت المقدس. وكلام الحجر والشجر يحتمل أن يكون حقيقياً ويحتمل أن يكون كناية عن تمكن المسلمين من اليهود حتى لا يستطيعوا فراراً ولا هرباً. ¬

(¬1) أي علاماتها.

2 - العلامات الكبرى

2 - العلامات الكبرى وأهمها الآيات الآتية: 1 - طلوع الشمس من المغرب: وهي أول الآيات الكبرى المؤذنة بتغيير أحوال العالم العلوي حتى ينتهي بقيام الساعة. روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً" أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود ومسلم واللفظ له. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً". أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه. والمعنى أنه إذا طلعت الشمس من المغرب فإن الإيمان حينئذٍ لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنة قبل ذلك. كما لا تنفع التوبة نفساً كانت عاصية قبلها. وهذا بالنسبة لمن طلعت عليه الشمس وهو بالغ مكلف والله أعلم. وطلوع الشمس من المغرب يكون في يوم ثم تطلع من الشرق كعادتها وإذا طلعت من المغرب غربت في المشرق. وحينئذ يغلق باب التوبة إلى يوم القيامة على القول الراجح بالنسبة لمن طلعت عليهم وهم بالغون لقوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا يفنع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} [الأنعام: 158]. والمراد ببعض آيات الرب طلوع الشمس من المغرب كما في الحديث السابق.

2 - خروج الدابة:

2 - خروج الدابة: والظاهر أن خروجها يكون في زمن طلوع الشمس من مغربها كما في فتح الباري لابن حجر أخذاً مما سبق. قال تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} [النمل: 82]. قال ابن كثير: هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق. وهذه الدابة قيل تخرج من مكة وقيل من غيرها. وحين تخرج تكلم الناس وتخبرهم بما هم عليه من إيمان أو كفر، ومن صلاح أو فسق وبخروجها ينقطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم فائدة ذلك. فإن التوبة لا تقبل بالنسبة لمن رآها أو علم بها وهو مكلف. وقد سبق الدليل على إثباتها. 3 - خروج المسيح: وسمي المسيح بالحاء على الصحيح، لأنه يمسح الأرض ويقطعها في أربعين يوماً، ولأنه ممسوح نور العين اليمنى، وهو الآية الكبرى المؤذنة بتغيير الأحوال العامة في معظم الأرض. وهو أول هذه الآيات. وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً كافياً لنكون منه على حذر، ولننجو من فتنته. فعن أبي سعيد الخدري قال: "حدثنا النبي حديثاً طويلاً عن الدجال فكان فيما حدثنا قال: يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة (¬1) فينتهي إلى بعض السباخ (¬2) التي تلي المدينة. فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس، فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه فيقول الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر، فيقولون: لا. فيقتله ¬

(¬1) طرقها. (¬2) السباخ جمع سبخة وهي أرض بجوار المدينة تعلوها الملوحة لا تنبت إلا قليلاً.

4 - نزول المسيح عيسى عليه السلام وقتله الدجال:

ثم يحييه. فيقول حين يحييه: والله ما كنت فيك قط أشدّ بصيرة مني الآن فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلّط عليه" أخرجه أحمد والشيخان واللفظ لمسلم. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي إلا أنذر أمته من الدجال. وإنه يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه، فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس بأعور وإنه أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية (¬1) ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم عن الدجال حديثاً ما حدثه نبي قومه؟ إنه أعور وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار فالتي تقول: إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم به كما أنذر به نوح قومه". أخرجه مسلم. وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مع الدجال إذا خرج ماء ونار، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء عذب، وأما الذي يرى الناس إنه ماء فنار تحرق. فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنه نار فإنه ماء بارد عذب". أخرجه الشيخان وأبو داود. ومن حديث النواس بن سمعان قال: قلنا يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوماً. يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة. وسائر أيامه كأيامكم. قلنا يا رسول الله. فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال. لا. اقدُروا له قدره ... الخ. الحديث أحمد ومسلم وابن ماجه، والترمذي. وقال: غريب حسن صحيح. 4 - نزول المسيح عيسى عليه السلام وقتله الدجال: دلت السنة على أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل قرب الساعة، ويقتل الدجال ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكث في الأرض ما شاء الله أن يمكث. ثم يموت ويصلي عليه المسلمون. ¬

(¬1) طافية - ظاهرة فعيناه إحداهما طافية لا ضوء فيها والأخرى طافية يبصر بها.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها". ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً} [النساء: 159]. أخرجه أحمد والخمسة إلا النسائي. وعن عروة بن مسعود الثقفي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين: لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً. فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه. ثم يحكم الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة. ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه، فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً. ولا ينكرون منكراً فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون ما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دارٌّ رزقهم (¬1) حسن عيشهم. ثم يفنخ في الصور فيصعق الناس، ثم ينزل الله مطراً كأنه الطل (¬2) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: يأيها الناس هلم إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون، ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: من كم؟ فقال: من كل ألف تسعمائه وتسعة وتسعين، قال: فذلك يوم يجعل الولدان شيباً، وذلك يوم يكشف عن ساق" أخرجه أحمد ومسلم. والأحاديث في هذا كثيرة شهيرة صحيحة. قال القاضي عياض: نزول عيسى عليه السلام وقتله الدجال حق وصحيح عند أهل السنة للأحاديث الصحيحة في ذلك. وليس في العقل ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته. ¬

(¬1) كثير رزقهم. (¬2) مطر شديد الضعف.

5 - يأجوج ومأجوج:

5 - يأجوج ومأجوج: قال تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب (¬1) ينسلون} [الأنبياء: 96]. قال ابن كثير في تفسيره (¬2): إنهم من سلالة آدم عليه السلام، بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث، أي أبي الترك، والترك شرذمة منهم تركوا وراء السد الذي بناه ذو القرنين ... وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية، وأن خروجهم يكون مع وجود عيسى ونزوله، وإليك الدليل: فعن عبد الرحمن بن جبير بن نقير الحضرمي عن أبيه أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع (¬3) حتى ظنناه في ناحية النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، وإنه شاب جعد قطط (¬4)، عينه طافية، وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وشمالاً - يا عباد الله اثبتوا - قلنا يا رسول الله: ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً. يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا يا رسول الله. فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟؟ قال: لا. اقدروا له قدره، قلنا يا رسول الله: فما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح قال: فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون ¬

(¬1) يسرعون في المشي إلى الفساد. (¬2) جـ 3 ص 195. (¬3) هون من شأنه وبين فظاعته. (¬4) شديد الجعودة غير مرسل.

له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، وتروح عليهم سارحتهم (¬1) وهي أطول ما كانت ذرى وأمده خواصر وأسبغه ضروعاً، ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله، فتتبعه أموالهم، فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل - قال: ويأمر برجل فيقتل فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل إليه، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح عيسى بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً يديه على أجنحة ملكين، فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي - قال - فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرّز عبادي إلى الطور فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج (وهم من كل حدب ينسلون) فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل نغفاً (¬2) في رقابهم فيصبحون كموت نفس واحدة، فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب (¬3) عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البُخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله" قال ابن جابر: فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أوغيره قال فتطرحهم بالمهيل. قال ابن جابر: فقلت يا أبا يزيد: وأين المهيل؟ قال: مطلع الشمس قال: ويرسل الله مطراً لا يُكنّ منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة. ويقال للأرض: أنبتي ثمرك، ودري بركتك، قال: فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها، ويبارك في الرّسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت، قال فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم - أو قال مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون ¬

(¬1) أنعامهم. (¬2) هو الدود الذي يكون في أنوف الإبل والغنم. (¬3) يضرع هو ومن معه إلى الله.

6 - الريح التي تقبض أرواح المؤمنين:

تهارج الحُمُر وعليهم تقوم الساعة". رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي: حسن صحيح. ونكتفي بهذا الحديث مع ما سبق. 6 - الريح التي تقبض أرواح المؤمنين: وقد ذكرت الريح في الحديثين السابقين: حديث عروة ابن مسعود، وحديث النواس بن سمعان السالف، فلا داعي لإعادة ذكر الأدلة. السمعيات: معناها - مصدرها مشتملات اليوم الآخر ... يشتمل اليوم الآخر أموراً كثيرة المذكور منها ههنا أحد عشر وإليك بيانها: 1 - البعث: وهو إحياء الله الموتى ليلقى كل منهم جزاءه، الذي قدر له من نعيم أو عذاب. قال تعالى: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [المؤمنون: 15 - 16]. وقال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} [الحج: 06 - 07]. وقال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه، والله على كل شيء شهيد} [المجادلة: 06].

وقال تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير} [التغابن: 07]. وقال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} (أي هيّن عليه) [الروم: 17]. وقال تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} [يس: 78 - 79]. وعن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه". أخرجه مالك، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي بسند صحيح. وهذا البعث مع ثبوته شرعاً بأدلة قطعية فهو يعتبر ضرورة حيوية بالنسبة للإنسان، ولا يتصور عقل عاقل يؤمن بالله تعالى أن ينتهي أمر الخلائق بمجرد موتهم، لأن الله تعالى خلقهم لغاية، وأنزل إليهم الكتب وأرسل الرسل من أجل تحقيق هذه الغاية. فمن الناس من استجاب، ومنهم أعرض، ومن استجاب ضحى بكل شيء في سبيل مرضاة ربه، ومن أعرض فعل بمن استجاب الأفاعيل، وعاث في الأرض فساداً، وظلم العباد، وخرب ودمر، وفسق وفجر، وزرع في الناس أنواع الكفر والفسوق والضلال،

2 - الحشر:

فهل يخطر ببال عاقل أن يمر الأمر بدون مجازاة للمحسن على إحسانه وللمسيء على إساءته؟ تعالى الله وتنزه عن ذلك. قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون. فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} [المؤمنون: 115 - 116]. 2 - الحشر: وهو سوق الناس إلى مكان الحساب الذي يجتمع فيه الخلائق، وفيه يحاسبون وتوزن أعمالهم، ويعرف كل مصيره. قال تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون} [البقرة: 203]. وقال تعالى: {وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} [الكهف: 47]. وقال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124]. وقال تعالى: {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار

3 - الحساب:

يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين} [يونس: 45]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "يأيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا (¬1) {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين} ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام. إلا إنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوه بعدك فأقول: كما قال العبد الصالح (¬2): {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ... } إلى قوله: {العزيز الحكيم} قال: فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول: سحقاً، سحقاً". أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم". قيل: يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب (¬3) وشوك". أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. 3 - الحساب: وهو توقيف الله سبحانه وتعالى عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم أقوالاً وأفعالاً واعتقادات تفصيلاً بعد أخذهم كتبهم. وكيفيته أمر غيبي لم يرد ما يدل عليه. والناس فيه متفاوتون (فمنهم) من يحاسب حساباً يسيراً بأن يعرض عمله عليه فيطلعه الله على سيئاته سراً ¬

(¬1) أي غير مختونين. (¬2) هو عيسى عليه السلام. (¬3) الحدب: بفتحتين: المرتفع من الأرض.

بحيث لا يطلع عليها أحد، ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة. (ومنهم) من يناقش الحساب. بأن يسأل عن كل جزئية، ويطالب بالعذر والحجة، فلا يجد عذراً ولا حجة فيهلك مع الهالكين ويفتضح بين الخلائق. قال تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسب حساباً يسيراً. وينقلب إلى أهله مسروراً. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره. فسوف يدعو ثبوراً. ويصلى سعيراً} [الانشقاق: 7 .. 12]. وقال تعالى: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47]. وقال تعالى: {إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم} [الغاشية: 25 - 26]. وقال تعالى: {والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} [الرعد: 41]. وقال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} [النساء: 40].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نوقش الحساب عذب". فقلت: أليس يقول الله {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً} فقالت: إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك". أخرجه الشيخان والترمذي، وأبو داوود. وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ " أخرجه الترمذي، وقال حسن صحيح. والطبراني، وأبو نعيم في الحلية. هذا، واعلم أن سيشهد على العاصي يوم القيامة أحد عشر شاهداً: اللسان، والأيدي، والأرجل، والسمع، والبصر، والجلد، والأرض، والليل، والنهار، والحفظة والكرام، والمال، فضلاً عن الشهداء من الناس. قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]. وقال تعالى: {حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون} [فصلت: 20]. وقال تعالى: {وجاءت كل نفسٍ معها سائق وشهيد} [ق: 21].

4 - صحائف الأعمال:

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يومئذ تحدث أخبارها} فقال: "أتدري ما أخبارها؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا. قال فهذه أخبارها". أخرجه أحمد، والبغوي، وابن حبان، والترمذي وصححه. وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "هل تدرون مم أضحك؟ " قلنا الله ورسوله أعلم. قال: "من مخاطبة العبد ربه فيقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ يقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهداً إلا مني فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، والكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه، ويقول لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل". أخرجه مسلم. وفي الحديث: "ما من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه: يا بن آدم أنت خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شهيد. فاعمل خيراً أشهد لك به غداً، فإني لو مضيت لن تراني أبداً، ويقول الليل مثل ذلك". أخرجه أبو نعيم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا المال خضرة حلوة، ونعم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيداً عليه يوم القيامة". أخرجه مسلم. 4 - صحائف الأعمال: وهي الكتب التي كتبت فيها الملائكة ما فعله العباد في الدنيا من اعتقادات وأقوال وأفعال، وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع فمنكرها كافر. وقد سبقت الأدلة العديدة على ذلك في الحساب وغيره. وهذه الصحف لا يأخذها الأنبياء والملائكة ومن يدخلون الجنة بغير حساب، لأنهم لا يحاسبون. 5 - الميزان: هو ذو كفتين ولسان (كالميزان المعهود) توزن

فيه أعمال من يحاسب بقدرة الله تعالى دفعة واحدة. والصنج مثاقيل الذر والخردل تحقيقاً لإظهار تمام العدل. وقيل إن حقيقته لا يعلمها إلا الله تعالى. {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفسٌ شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47]. وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه. فهو في عيشة راضية. وأما من خفت موازينه. فأمه هاوية. وما أدراك ماهيه. نار حامية} [القارعة: 6 - 11]. وعن الحسن عن عائشة رضي الله عنهما أنها ذكرت النار فبكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قالت: ذكرت النار فبكيت. فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً. عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل؟ وعند الكتاب حين يقال: {هاؤم اقرءوا كتابيه} حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز". أخرجه أبو داوود. وعن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر فيقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا يا رب،

6 - الصراط:

فيقول الله عز وجل: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة له فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيقول: اخصر وزنك، فيقول: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لن تظلم. فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء ... ". أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حسن غريب والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". أخرجه أحمد، والشيخان، والترمذي. ومما تقدم يعلم أنه يوزن عمل كل من يحاسب حتى من لا حسنة له، ليزداد خزياً على رؤوس الأشهاد، وبالوزن يظهر العدل في العذاب والعفو عن الآثام. 6 - الصراط: وهو جسر ممدود على ظهر جهنم يمر عليه الأولون والآخرون كل بحسب عمله، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح العاصف، وناس كالجواد، وناس هرولة، وناس حبواً، وناس زحفاً، وناس يتساقطون في النار، وعلى جوانبه كلاليب، لا يعلم عددها إلا الله تخطف بعض الخلائق (الكلاليب مثل الخطاطيف). قال تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً. ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً} [مريم: 71 - 72]. وعن ابن مسعود: الصراط على جهنم مثل حد السيف. فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة

7 - الحوض:

كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: "اللهم سلم سلم". أخرجه ابن جرير. وعن السدي عن مرة عن ابن مسعود قال: "يرد الناس جميعاً الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى أن آخرهم مروراً رجل نوره على موضع إبهام قدميه فيتكفأ به الصراط. والصراط دحض مذلة عليه حسك كحسك القتاد حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس". الحديث أخرجه ابن حاتم، وذكره ابن كثيرن وقال: لهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة، وجابر وغيرهم ولشدة الهول حينئذٍ يقول المؤمنون "رب سلم سلم". عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شعار المؤمنين على الصراط يوم القيامة: "رب سلم سلم". أخرجه الترمذي، والحاكم، وصححاه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم} قال: "على قدر أعمالهم يمرون على الصراط .. منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة". أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير. 7 - الحوض: يجب الإيمان بأن لكل رسول حوضاً يرده الطائعون من أمته، وأن حوض النبي صلى الله عليه وسلم أكبرها وأعظمها. طوله مسيرة شهر، مربع الشكل له ميزابان يصبان فيه من الكوثر. ماؤه أشد بياضاً م اللبن، وأحلى من العسل، كيزانه أكثر من نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً ظمأ ألم. ولو دخل النار يعذب بغير العطش. ويكون شربه منه أو من غيره كالتنسيم بعد ذلك لمجرد اللذة، يرده الأخيار وهم المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم الآخذون بسنته وسنة

الخلفاء الراشدين المهديين، ويطرد عنه الكفار والمبتدعة في العقيدة وكل من تعامل بالربا أو جار في الأحكام أو أعان ظالماً أو جاوز حداً من حدود الله. وهو ثابت بأحاديث مشهورة تفيد التواتر المعنوي. منها حديث ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منه فلا يظمأ أبداً". أخرجه الشيخان. وحديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني لبعقر حوضي أذود الناس عنه لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفَضّ عليهم، فسئل عن عرضه فقال: من مقامي إلى عمان، وسئل عن شرابه فقال: أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل يُغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة. أحدهما من ذهب والآخر من ورق". أخرجه أحمد ومسلم والبغوي وفيه، حتى يرفضوا عنه (أي ينصرفوا عنه). وعن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه ضاحكاً فقيل: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت علي سورة آنفاً فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر} فقال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير. وهو حوض عرد عليه أمتي يوم القيامة. آنيته عدد نجوم السماء. فيختلج العبد منهم فأقول: ربي إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك". أخرجه الشيخان. (فائدة) صحح الغزالي أن الحوض قبل الصراط وكذا القرطبي وقال: المعنى يقتضيه. فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً. فناسب تقديم الحوض، وأيضاً فإنه من جاز الصراط لا يتأتى طرده عن الحوض فقد كلمت نجاته (ورجح) القاضي عياض أنه بعد الصراط، وأن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار. ويؤيده من جهة المعنى أن الصراط يسقط منه من يسقط من المؤمنين، ويخدش فيه من يخدش ووقوع ذلك للمؤمن بعد شربه من الحوض بعيد فناسب تقديم الصراط حتى إذا خلص

8 - الشفاعة:

من خلص شرب من الحوض. وقيل: يشهد له ما تقدم من أن للحوض ميزابين يصبان فيه من الكوثر. ولو كان قبل الصراط لحالت النار بينه وبين وصول ماء الكوثر إليه. ولكن وصول ذلك ممكن. والله على كل شيء قدير ويمكن الجمع بأن يكون الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم. وبعده لآخرين بسبب ما عليهم من ذنوب، فيؤخرون حتى يطهروا من الذنوب بالعذاب في النار. هذا ولم يقم دليل صريح على شيء مما يذكر. فالواجب اعتقاده هو أن للنبي صلى الله عليه وسلم حوضاً تعدد أو اتحد، تقدم على الصراط أو تأخر. ولا يضرنا جهل ذلك، والله الموفق. 8 - الشفاعة: وهي لغة الوسيلة والطلب. وعرفاً سؤال الخير للغير، وهي تكون من الأنبياء والعلماء العاملين والشهداء والصالحين. فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء". أخرجه ابن ماجه، وهو حسن. يشفع كل لأهل الكبائر على قدر منزلته عند الله تعالى. والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أول من يفتح باب الشفاعة حين يشفع في فصل القضاء. وهي الشفاعة العظمى المختصة به، والتي يغبطه عليها الأولون والآخرون، وهي المقام المحمود المذكور في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} [الإسراء: 79]. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود في الآية فقال: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي". أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في الدلائل. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تدنو

يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن. فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست بصاحب ذلك ثم بموسى فيقول كذلك ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة. فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم". أخرجه البخاري وابن جرير. وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان وأبو داوود والترمذي وقال: حديث غريب. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع". أخرجه مسلم وأبو داوود. والشفاعة خمسة أنواع: 1 - الشفاعة في فصل القضاء لإراحة الخلق جميعاً مسلمهم وكافرهم من طول الموقف وأهواله. وهي مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وتسمى الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود المذكور في الآية. 2 - الشفاعة في إدخال فريق الجنة بغير حساب. وهي مختصة به صلى الله عليه وسلم، أيضاً. 3 - الشفاعة في زيادة الدرجات: وهذه ليست خاصة بالنبي إجماعاً. وهذه الأنواع الثلاثة لم يخالف فيها أحد من علماء التوحيد. 4 - الشفاعة في مرتكب الكبيرة المستحق دخول النار قبل أن يدخلها. 5 - الشفاعة في إخراج مرتكب الكبيرة من النار. وهذان النوعان أنكرهما المعتزلة والخوارج، وكل من قال: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأثبتها الأشاعرة والماتريدية وأهل السنة لوجود الأدلة في ذلك، وقد مر بعضها وهناك شفاعات أخرى داخلة تحت ما ذكر.

9 - النار:

9 - النار: وهي دار العذاب والعقاب أعدها الله للكافرين والعصاة وثبتت بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة، لها سبعة أبواب لكل باب جزء مقسوم. والعذاب فيها مختلف الأنواع والأقسام وهي موجودة الآن باقية لا تفنى، والكفار فيها مخلدون. قال تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها}. وقال تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} [البقرة: 24]. وقال تعالى: {إن أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهال يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً} [الكهف: 29]. وقال تعالى: {فالذين كفروا قطعت لهم ثيابٌ من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم (¬1). يصهر (¬2) به ما في بطونهم والجلود. ولهم مقامع (¬3) من حديد. كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق} [الحج: 19 - 22]. ¬

(¬1) الماء البالغ الحرارة. (¬2) يذاب. (¬3) مضارب.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ناركم هذه التي توقدون فيها جزء من سبعين حزءاً من حر جهنم". قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال: "فإنها فضلت بتسعة وستين جزءاً كلهم مثل حرها". أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وقال حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخرج عنق من النار يوم القيامة، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين". أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن قطرة من الزقوم (¬1) قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟ ". أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم والترمذي وقال: حسن صحيح. واعلم أنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد ولو ارتكب الكبائر، أما من مات على الشرك والكفر فإنه لا يخرج منها أبداً. قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. وقال تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية} [البينة: 06]. فأهل الكبائر: من مات منهم قبل التوبة يدخله الله النار ليصلى جزاء ما فعل ثم تكون نهايته ومأواه الجنة إلا أن يغفر الله له فيدخله الجنة بدون سابق عذاب. ¬

(¬1) شجر كثير الشوك مر يطلع في البادية.

10 - الجنة:

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن بُرّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير". أخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح. 10 - الجنة: وهي لغة البستان. والمراد هنا دار الثواب والنعيم المقيم التي أعدها الله للمؤمنين. فيها الحور العين، والولدان المخلدون، ولحم طير مما يشتهون، وأنهار من الماء العذب والعسل المصفى، واللبن الذي لم يتغير طعمه، والخمر التي فيها لذة للشاربين، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أهلها إخوان على سرر متقابلين، نزع الله ما في قلوبهم من غلّ فصاروا أحبة متمتعين، تحيتهم فيها سلام، ونعيمهم دائم في دار السلام. وللجنة ثمانية أبواب، وهي أنواع وأقسام ودرجات، أعلاها جنة الفردوس، وأقل الناس في الجنة له من النعيم ما يعدل الدنيا وسبعة أمثالها معها، لا يلقى أهلها موتاً ولا يقربهم فناء، وهي موجودة الآن في مكان يعلمه الله وحده كما يعلم وحده مكان النار. دل على ذلك كله الكتاب والسنة وإجماع الأئمة. قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} [آل عمران: 133]. وقال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم

جنات الفردوس نزلاً. خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً} [الكهف: 107 - 108]. وقال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية. جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 07 - 08]. وقال تعالى: {إن المتقين في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 54 - 55]. وقال تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون، فيها أنهارٌ من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسلٍ مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات، ومغفرة من ربهم، كمن هو خالد في النار، وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} [محمد: 15].

11 - رؤية الله تعالى:

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت، ولا خطر على بال بشر". قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} أخرجه السبعة إلا أبا داوود. وعنه قال: قلت يا رسول الله: الجنة ما بناؤها؟ قال: "لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها (¬1) المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من دخلها ينعم ولا يبؤس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم". (الحديث) أخرجه أحمد والدارمي والبزار وابن حبان والترمذي. وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم (¬2) الألوة (¬3)، أزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء" أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه. 11 - رؤية الله تعالى: إعلم أن أهل أجمعوا على أن رؤية الله تعالى ممكنة عقلاً واجبة نقلاً، واقعة فعلاً في الآخرة للمؤمنين دون الكافرين، بلا كيف ولا انحصار. فيرى سبحانه وتعالى بلا حدود ولا مشابهة ولا كيفية من مقابلة أو اتصال شعاع، أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى، فإن الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، لا يشترط فيها الأشعة، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك، فلا يلزم من رؤيته تعالى تحديد له، بل يراه ¬

(¬1) ملاطها بكسر الميم: وهو الطين يصلح به الحائط. (¬2) المجامر ما يوضع فيه النار للبخور. (¬3) والألوة بفتح فضمة فواو مشددة مفتوحة. العود الذي يتبخر به - والكلام تشبيه لأن الجنة لا نار فيها.

المؤمنون رؤية تليق به كما يعلمونه كذلك، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك. قال تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22 - 23]. وقال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15]. وقال جرير بن عبد الله: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر، لا تضامون (¬1) في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا". ثم قرأ: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [ق: 39]. وعن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: "تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوههنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} أخرجه مسلم والأربعة إلا أبا داوود. وأما رؤيته تعالى في الدنيا فهي ممكنة: ولذلك طلبها سيدنا موسى عليه السلام فعلق الله حصولها له على استقرار الجبل حين يتجلى الله تعالى له ¬

(¬1) لا تشكون.

ولم يستقر الجبل حينئذٍ، ولم تحصل له عليه السلام مع إمكانها كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى: {قال رب أرني أنظر إليك، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً} [الأعراف: 143]. وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء يقظة بجسمه وروحه بعد السماء السابعة فالجمهور على أنها وقعت، وعلى ذلك الرأي بعض الصحابة ومنهم ابن عباس وأنس والحسن وغيرهم. وقال قوم: لم تقع له صلى الله عليه وسلم في الدنيا، ومنهم بعض الصحابة والسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، والخلاف في ذلك معروف ولكل أدلته (¬1) والله ولي التوفيق والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ¬

(¬1) 1. هـ. ملخصاً من الدين الخالص للشيخ محمود خطاب السبكي.

ما ليس من التوحيد

ما ليس من التوحيد معنى التوحيد - النذر لغير الله تعالى - دعاء غير الله والاستغاثة به - الغلو في الأنبياء والصالحين - الرياء - السحر إن القضايا التي ذكرت في هذا الكتاب وسبق الكلام عليها من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره من السهل الإيمان بها علمياً لأن الأدلة عليها قائمة واضحة، وإنكارها لا تسوغه العقول السليمة. ليس له دليل علمي يعتمد عليه. ولكن الأمر الذي تورط فيه كثير من المؤمنين هو إخلاص التوحيد لله تعالى، ولكي يتضح ذلك نبين لك معنى التوحيد أولاً، ثم نبين ما تورط فيه بعض المؤمنين حتى خرجوا من هذا التوحيد حقيقة أو حكماً أو كادوا يخرجون. معنى التوحيد ... قال ابن القيم: التوحيد نوعان: 1 - توحيد في المعرفة والإثبات: وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات بمعنى أن يعتقد المؤمن إثبات ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأنه تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو الخالق الرازق المهيمن المدبر العزيز العليم الحكيم المريد المتكلم إلى آخر ما يجب أن يتصف به تعالى من الصفات وما يسمى به من الأسماء. 2 - توحيد في العبادة والقصد: وهو توحيد الإلهية والعبادة. بمعنى أن المؤمن لا يعبد إلا الله ولا يقصد إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا ابتغاء وجهه ورضاه وحبه، ولا يسأل إلا الله ولا ينذر إلا له، ولا يخضع إلا لعظمته وجلاله وأمره ونهيه. والتوحيد بالمعنى الأول لم يكن مثار جدال ونقاش بين المسلمين والمشركين فإن المشركين كانوا يؤمنون بوجود الله تعالى، وبأنه هو الخالق الرزاق المدبر المهيمن المالك للسموات والأرض كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم.

قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} [الزخرف: 09]. وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون} [الزخرف: 87]. وقال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر، فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} [يونس: 31]. أما التوحيد بالمعنى الثاني فهو الذي لقي المعارضة الشديدة من المشركين وهو الذي بسببه سمي الكفار مشركين وخلد في النار من مات منهم غير موحد توحيد الإلهية السابق. وكثير من المسلمين تورطوا في أفعال وأقوال واعتقادات تتنافى مع هذا النوع من التوحيد عن حسن قصد أو عن سوء قصد، وفي كلا الحالين لا يعذر أحد منهم بعمله المنافي لتوحيد الألوهية والعبادة والقصد بعد أن بلغته الدعوة واستبان له السبيل. مع ملاحظة أن التوحيد بالمعنى الثاني هو الذي جاءت به الرسل، وهو الذي وقعت بسببه الحروب بين المؤمنين والمشركين، وهو الذي حاول المشركون القضاء على الدعوة إليه بكل طريقة استطاعوها متمسكين بأصنامهم.

وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. وقال تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون} [الزمر: 03]. وقال تعالى حكاية لقول المشركين المتعجبين من الدعوة في التوحيد: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إنّ هذا لشيء عجاب} [ص: 05]. وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]. فإشراك غير الله مع الله تعالى في العبادة هو الكفر الذي حاربته الأديان وفضحت القائلين به، وهو الذي حاول الرسل القضاء عليه حتى يخلص التوحيد لله تعالى بلا شائبة من شرك خفي أو جلي. قال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين.

1 - إطاعة من حرم ما أحل الله وأحل ما حرم الله مع العلم بذلك

وأمرت لأن أكون أول المسلمين. قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل الله أعبد مخلصاً له ديني. فاعبدوا ما شئتم من دونه} [الزمر: 11 - 15]. وإليك بعض ما ليس من التوحيد لتتقيه وتنأى عنه وتنهي الناس عن الوقوع فيه. 1 - إطاعة من حرم ما أحل الله وأحل ما حرم الله مع العلم بذلك قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عمّا يشركون} [التوبة: 31]. الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، وقد وقع النصارى في الشرك بسبب انحرافهم عن التوحيد الخالص لله وحده. وقد أمروا أن يعبدوا إلهاً واحداً هو الله وألا يتخذوا أحداً غيره رباً يعبد من دون الله، ولكنهم افتروا على الله وضلوا سواء السبيل فعبدوا المسيح واتخذوه رباً، كما عبدوا علماءهم وعبادهم، ولكن عبادتهم للعلماء والعباد كانت من نوع آخر غير عبادتهم المسيح عليه السلام. فإنهم بالنسبة للمسيح تشعبت أقوالهم، فمنهم من قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، ومنهم الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة: هم الأب والابن وروح القدس، ومنهم من قالوا: إن المسيح ابن الله. وكل ذلك ذكر في القرآن الكريم. أما بالنسبة للعلماء والعباد فإنهم لم يقولوا فيهم: إنهم آلهة أو أبناء الإله،

ولكن أشركوهم مع الله تعالى فيما هو من خصوصيات الإله أصلاً وحقيقة وهو التحليل والتحريم. فإن الحكم على الشيء بكونه حلالاً أو حراماً هو تشريع من الله وحده ولا يحق لبشر أن يفعله إلا بإذن من الله تعالى وفيه الحدود المرسومة، كما أذن الله للرسل في ذلك باعتبارهم معصومين ومبلغين عنه تعالى وكما أذن للعلماء أن يجتهدوا فيما لا نص فيه. وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم - وكان نصرانياً قبل أن يسلم - ولما جاء مسلماً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الأية: قال: - أي عدي - فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم" - رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى هذه الآية: هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين. أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر. وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك المخالف دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء. الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً لكنهم أطاعوا علماءهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف". ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهداً قصده اتباع الرسول لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخده الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه.

ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من الشرك الذي ذمه الله ولا سيما إن اتبع في ذلك هواه ونصره باليد واللسان، مع علمه أنه مخالف للرسل. فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يحوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال، وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه. فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله، من الاجتهاد في التقليد. فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما من قلد شخصاً دون غيره من نظرائه بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. 1. هـ. وهو كلام قيم وتفصيل نادر فافهمه واحرص عليه. وبهذا التفصيل الدقيق يتضح لك موضع الخطورة في اتباع الآخرين في التحليل والتحريم والتشريع. ويتبع هذا بالأولى أن يعتبر مشركاً كل من رضي بدين غير دين الإسلام وهو يعلم الإسلام. أو رضي بأي مبدأ أو مذهب من المذاهب الحديثة أو القديمة يناقض المبادئ الإسلامية ويضادها وهو يعلم أن ما ارتضاه لا يرتضيه الله ورسوله ولا هو من دين الإسلام في شيء. كما يدخل في هذا الشرك والكفر كل إنسان قدس وعظم أي دين أو مبدأ من المبادئ المضادة للإسلام وهو يعلم ذلك. فما بالك إذا قدمها على الإسلام وأخره؟؟!!!

2 - الذبح لغير الله تعالى

2 - الذبح لغير الله تعالى الذبح الذي تحل به الذبيحة ويجوز الأكل منها نوعان: 1 - ذبح أريد به التقرب إلى الله تعالى كالذبح للهدي في الحج والذبح للأضحية وللنذر، وكل ما هو مطلوب ذبحه شرعاً على سبيل الندب أو الوجوب. 2 - ذبح أريد به الانتفاع بلحم الذبيحة وتحليله حيث لا يحل إلا بالتذكية الشرعية وذلك كالذبائح التي تذبح كل يوم ويتداولها الناس بالبيع والشراء وغيرهما. والذبح الذي لا تحل به الذبيحة بحيث يحرم الأكل منها ثلاثة أنواع: 1 - الذبح الذي لم يستوفِ شروطه الشرعية مثل ذبح الحيوان من مكان غير مكان الذبح المشروع أو عدم قطع ما يطلب قطعه إلى غير ما ذكر من شروط في كتب الفقه. 2 - أن يذكر الذابح على الذبيحة وقت الذبح اسم غير الله تعالى كأن يقول: باسم المسيح أو باسم النبي الفلاني أو باسم الولي الفلاني لقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} [المائدة: 03]. ومعنى أهل لغير الله به: أي رفع الذابح صوته عند الذبح بذكر اسم غير اسم الله تعالى على عادة العرب في ذكر أصنامهم عند الذبح، فكأن الذابح يقول باسم اللات، أو باسم العزى، والله تعالى لم يحدد اسماً معيناً تحرم الذبيحة بذكره بل حرم الله تعالى كل ذبيحة يذكر عليها عند الذبح

اسم غير الله تعالى، سواء أكان اسم صنم أو انسان أو جني أو أي اسم غير اسم الله على الإطلاق. 3 - أن يريد الذابح بذبحه التقرب بالذبيحة لغير الله تعالى، وذلك كأن يذبح الذبيحة تقرباً إلى ولي أو نبي أو حاكم أو جني أو عفريت أو غير هؤلاء. والدليل على ذلك ما في الآية السابقة من قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به} فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ظاهره أنه ما ذبح لغير الله تعالى مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء تلفظ به أو لم يتلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه باسم المسيح أو نحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان هو أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله. فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك من باب أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله. وعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم ويعتبر هذا نوعاً من الشرك وإن قال عند الذبح: باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ... ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن. قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً ذبحوا ذبيحة خوفاً أن تصيبهم الجن فأضيفت إليهم الذبائح لذلك. 1. هـ. كلامه وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه، لأنه مما أهلّ به لغير الله. ومن الأدلة الصريحة على تحريم الذبح لغير الله تعالى أمره تعالى بأن يكون الذبح له وحده دون سواه. فقال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 162 - 163]. والمراد بالنسك في الآية الذبح كما قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير. ومعنى "ومحياي ومماتي" وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح. وعن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض". رواه مسلم. ومعنى اللعن: "الطرد والإبعاد من رحمة الله". ومعنى آوى محدثاً: منع ونصر جانياً حتى لا يقتص منه ولا يؤخذ منه الحق الذي عليه وينفد فيه حد الله، وينتصر منه للمظلوم. ومعنى غير منار الأرض: قيل أراد حدود الحرم خاصة، وقيل هو عام في جميع الأرض، أو أراد المعالم التي يهتدي بها في الطريق، وقيل: "هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلماً". ولا مانع من إرادة الجميع. وعن طارق بن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم. لا يجوزه (يمر به) أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما، قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فخلوا سبيله فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة". رواه أحمد.

4 - الذبح بمكان يذبح فيه لغير الله أو فيه معبود غير الله

4 - الذبح بمكان يذبح فيه لغير الله أو فيه معبود غير الله عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً بُبَوانة (¬1) فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". رواه أبو داوود. وإسناده على شرطهما. أي على شرط البخاري ومسلم. ويؤخذ من الحديث ما يأتي: 1 - أن يسأل المفتي ويستفصل عن الجوانب المتعلقة بالسؤال لتتضح له. 2 - أن تخصيص أي بقعة ليفي بنذره فيها لا بأس به إذا خلا من الموانع. 3 - يمنع الوفاء بالنذر في مكان معين إذا كان ذلك فيه وثن من أوثان الجاهلية أو فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زوال الوثن والعيد فإن فعل فقد عصى الله تعالى بتشبهه بالكافرين ما دام يعلم ذلك ولو لم يقصد التشبه. ويدخل في ذلك الذبح في مقبرة معينة أو أمام ضريح معين أو في أي مكان يزعم الناس أن الذبح فيه يرضي الجن مثلاً أو يطرد العفاريت والأمراض الخ هذه الخرافات. 4 - لا يجوز الوفاء بما نذر الناذر أن يذبحه في تلك البقعة، لأنه نذر معصية، وعليه كفارة يمين، وقيل: لا كفارة عليه ولا شيء. 5 - لا نذر لابن آدم فيما لا يملك. فإذا قال مثلاً: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أذبح بقرة فلان أو أتصدق بجزء معين من مال فلان فإن هذا النذر لاغٍ، أما إذا قال: إن شفى الله مريضي فعلي أن أنحر بعيراً مثلاً وهو لا يملك البعير فإن النذر يلزمه ويتعلق بذمته كجميع الديون إن حصل شفاء المريض المذكور. ¬

(¬1) بوانة بضم الباء وقيل بفتحها: موضع في أسفل مكة.

5 - النذر لغير الله تعالى

5 - النذر لغير الله تعالى قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب

العالمين. لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام: 162 - 163]. في هاتين الآيتين أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن يشركون مع الله غيره في العبادة: إن صلاتي بجميع أنواعها وذبيحتي التي أذبحها للتقرب إلى الله تعالى، وما أعمله في حياتي من القربات وما أعمله عند الممات منها مثل الوصية بالصدقة وغيرها. كل ذلك أجعله لله وحده خالصاً من إشراك أحد معه تعالى، وبهذا الإخلاص أمرت وأنا أول مسلمي أمتي وأول من علمها ودلها على الله والإخلاص له والصدق معه. والنذر بإجماع المسلمين نوع من العبادة التي يتقرب بها إلى الله تعالى فإن كان خالصاً له فهو نذر صحيح ومشروع وإن كان لغير الله فهو حرام وباطل وإليك أقوال العلماء في ذلك لتعرف حكم النذر للنبي أو للولي أو الأماكن أو الأشياء مما فتن به المسلمون. قال الرافعي في شرح المنهاج: وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأولياء، والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة - تعظيم البقعة أو المشهد أو الزاوية أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع به البلاء، ويستجلب

بها النعماء، ويستشفي بالنذر لها من الأدواء، حتى أنهم ليذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر، يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء المريض أو قدوم الغائب أو سلامة المال وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه الباطل لا شك فيه. وقال الشيخ الحنفي في شرح درر البحار: النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويقول: يا سيدي فلان، إن رد الله غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع كذا. فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه: منها أنه نذر لمخلوق، والنذر لمخلوق لا يجوز، لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها: أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر ... إلى أن قال: إذا علمت هذا، فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقرباً إليها فحرام بإجماع المسلمين، ولا يحل لأحد الانتفاع به بأكل أو غيره ولو كان فقيراً. وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء: فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله فيكون باطلاً، وفي التنزيل {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121]. {قل إن صلاتي ... } ثم قال: والنذر لغير الله إشراك مع الله كالذبح لغيره. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة أن يحلف بغير

الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، بل عليه أن يستغفر الله من هذا، ويقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف وقال في حلفه واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله". وقال في من نذر للقبور أو نحوها دهناً لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين، وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين، لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالاً لسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال الخليل فيهم: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} والذين مر موسى عليه السلام وقومه عليهم بعد النجاة من مصر، قال تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم} [الأعراف: 138]. فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند والمجاورين عندها. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، "زاد الطحاوي: "وليكفر عن يمينه" فيستدل من الحديث أن هناك نذراً بمعصية فلا يجوز تنفيذه، والنذر لغير الله تعالى هو نذر بمعصية فلا يحل أن ينفذ. قال الحافظ: وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح كما هو

6 - الاستعاذة بغير الله تعالى من الجن والشياطين وغيرها

مذهب أحمد وغيره، ويؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأحمد والترمذي عن بريدة أن امرأة قالت يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: "أوفي بنذرك". فيستفاد من الآية والحديث السابقين وجوب الحذر من الوقوع في المعصية بالنذر لغير الله تعالى، كما يستفاد مما سبق حرمة أكل المال المنذور لغير الله تعالى واستفادة الأشخاص به، لأنه سحت وشبيه بما كان يهدى لسدنة الأصنام فإن كان لا بد من صرفه في وجه الخير فليكن ذلك في بناء المساجد وتعميرها وبناء المستشفيات والملاجئ ونحوها مما ليس فيه تمليك لفرد أو لأفراد من الناس، والله الموفق. 6 - الاستعاذة بغير الله تعالى من الجن والشياطين وغيرها معنى الاستعاذة: هو الالتجاء والاعتصام ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذاً وملجأ. فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، واعتصم واستجار به والتجأ إليه. وهذا تمثيل وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله والاعتصام به، والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه، والتذلل له، أمر لا تحيط به العبارة. قاله ابن القيم رحمه الله، وقال ابن كثير: الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر، واللّياذ يكون لطلب الخير. وقد بين القرآن أن الاستعاذة بالجن والشياطين لا تفيد المستعيذ شيئاً. قال تعالى: {وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقاً} [الجن: 06].

قال ابن كثير: أي كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا: أي إذا نزل الإنس وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها - كما كانت عادة العرب في الجاهلية - يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان حتى لا يصيب شيء بسوء، فكلما رأت الجن أو الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادهم رهقاً: أي خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم. وقال ملا علي قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن فقد ذم الله تعالى الكافرين على ذلك وذكر الآية، وقال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، وقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، قال: النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله، إن ربك حكيم عليم} [الأنعام: 128]. فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات. واستمتاع الجني بإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به، وخضوعه له 1. هـ. هذا باختصار. وقال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به، وتقرب إليه بما يجب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة بل يسميه استخداماً. وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به. وقد بين الله تعالى لنا كيفية الاستعاذة في سورتين تامتين من كتابه هما: {قل أعوذ برب الفلق} إلى آخرها، و {قل أعوذ برب الناس} إلى آخرها.

7 - دعاء غير الله والاستغاثة به

كما بينها لنا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من نزل منزلاً، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك". رواه مسلم. 7 - دعاء غير الله والاستغاثة به الاستغاثة: هي طلب الغوث: وهو إزالة الشدة كالاستنصار: طلب النصر. والاستعانة: طلب العون، والفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، أما الدعاء فيكون من المكروب وغيره، فهو أعم منها وبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة وينفرد الأعم. وعلى هذا فكل استغاثة دعاء ولا عكس. وهذا الموضوع شائك خطير، وجدير بالتنبيه إليه وتناوله بالدقة والحكمة، فإن الفرق بين الجائز منه والممنوع قد يكون شعرة، ومع دقة الفارق فإن الوقوع في الممنوع قد يكون معناه الوقوع في الشرك الذي هو كفر يؤدي إلى الخلود في النار والعياذ بالله تعالى، لذلك نقول: إن الاستعانة إذا كانت بالله تعالى فهي عبادة كالدعاء، وهو تعالى الأحق بأن يستعاذ به، والأحق بأن يدعى ويطلب منه كل شيء، لأنه تعالى القادر على إغاثة من يستغيث به وإجابة من يدعوه ولذا قال تعالى: {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض} [النمل: 62]. وقال تعالى آمراً عباده بالتوجه إليه ودعائه: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]. وقال صلى الله عليه وسلم: الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم {الآية - رواه أبو داوود والترمذي وصححه وهذا لفظه.

وإذا كان هذا شأن الدعاء والاستغاثة فلا يجوز لإنسان أن يستغيث بغير الله تعالى، ولا أن يدعوه ويسأله قضاء حاجاته وإغاثته من مكروه نزل به إلا إذا كان المستغاث به والمدعو قد أذن الشرع بأن نستغيث به وندعوه. فالاستغاثة والدعاء الممنوعان هما الاستغاثة بالأصنام والأموات والجن والملائكة وأمثالهم، لأن هذا نوع من الشرك، وبسببه ضل كثير من الناس وانحرفوا عن الطريق الصحيح، وهذا النوع هو الذي نزل فيه مثل قوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداءاً وكانوا بعبادتهم كافرين} [الأحقاف: 05 - 06]. وقوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم، ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 14]. وهذا يوضح أن هذا النوع من الاستغاثة شرك بالله تعالى وكذلك ما يماثله من الدعاء، ولذا قال تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين} [يونس: 106]. والاستغاثة والدعاء، يجوز توجيههما إلى الإنسان الحي في حالات معينة أذن الشرع بها، وقد تكون واجبة. وذلك مثل أن يقع الإنسان في كارثة

8 - الغلو في الأنبياء والصالحين

ومصيبة يرجو الخلاص منها، كأن يقع في نهر أو بئر فيطلب من يغيثه وينقذه، وكأن يصطدم بسيارة، أو تشب فيه النار، أو يصاب بمرض من الأمراض، وأمثال هذه الأمور التي تعارف الناس واعتادوا على أن يطلبها الإنسان من الإنسان، ولم يأت من الشرع ما يمنع ذلك، وتلك أمور واضحة، والفرق بينها وبين الأمور الأولى الممنوعة لا يخفى على من له أدنى فهم. 8 - الغلو في الأنبياء والصالحين للأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكانة في نفوس المؤمنين، ولهم واجبات وحقوق وأنواع من التبجيل والاحترام مطلوبة ومشروعة، وقد فصّلها الشارع وبينها. ولكن النفوس البشرية جُبلت على ألا يقف تصورها عند حد إذا لم يرتبط بأصول معينة تمنعه من التغالي والزيادة عن الحد المشروع. وكذلك حدث في جميع الأمم أن غالت في تصوراتها لأنبيائها والصالحين فيها حتى أعطتهم ما ليس لهم من حق، وجعلتهم آلهة أو أشباه آلهة. فاستغاثت بهم بعد موتهم ووجهت الدعاء والاستغاثة إليهم، وركعت لهم وسجدت، ونذرت لهم الأموال والذبائح وسألتهم جلب المنافع ودفع المضار، ونسبت إليهم ما يحدث من كوارث ومصائب أحياناً، وأحياناً أخرى تنسب إليهم ما يحدث من رخاء ونعيم وشفاء أمراض ودفع بلاء وغير ذلك، سواء أكان الأنبياء والصالحون قابعين في قبورهم، أم اتخذ الناس لهم صوراً تمثلهم كالأصنام والتماثيل وغيرها. وبذلك جعلهم الناس شركاء لله، وقدموا إليهم من الولاء والطاعة والعبادة والقربات ما لا يجوز أن يقدم إلا لله تعالى، وذلك كفر صريح لا شك فيه. وقد حذر القرآن والسنة من هذا الانحراف ونبهنا إليه في مواضع كثيرة.

قال تعالى: {يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة، انتهوا خيراً لكم، إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات وما في الأرض وكفي بالله وكيلاً. لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون، ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً} [النساء: 171 - 172]. واضح من الآيتين أن الله تعالى ارتضى بالنسبة لرسوله عيسى عليه الصلاة والسلام حداً معيناً ونسبة محدودة من التقدير والتعظيم، وهي النسبة التي أخبر الله تعالى أنه أفاضها عليه وأكرمه بها، ولكنه تعالى لم يرتض الزيادة على ذلك والغلو في المسيح، وأنكر على أتباعه أن جعلوه إلهاً أو ابن الله أو ثالث ثلاثة كما جاء ذلك في سورة المائدة، فإن أي رسول أو ملك مقرب ما هو إلا عبد خاضع ذليل لله تعالى، فيجب على المؤمنين ألا يرفعوا أحداً إلى مرتبة الألوهية وإلا اعتبر ذلك غلواً مرفوضاً وشركاً مكفراً. وفي الصحيح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} [نوح: 23].

قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينصبوا إلى مجالسهم التي كانوا فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت". وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وعن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله". البخاري ومسلم. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" "قالها ثلاثاً". رواه مسلم، والمتنطعون المراد بهم هنا المغالون في الدين. ومن المغالاة المقيتة بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، واتخاذ القبور مساجد، وذلك بالصلاة في القبور أو بالتوجه إلى هذه القبور أثناء الصلاة بأن يجعل القبر بين يدي المصلي: وذلك بقصد التبرك بالقبور، وبمن فيها: فقد ترتب على ذلك أن عبدت القبور، وعبد من فيها على الوجه الذي سبق ذكره. ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً من هذا النوع من المغالاة، وظل يحذر منه إلى آخر وقت في حياته. فعن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". البخاري ومسلم.

9 - الرياء

وعنها قالت: "لما نزل (¬1) برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق (¬2) يطرح خميصة (¬3) له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر ما صنعوا - ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً". رواه البخاري ومسلم. وروى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". 9 - الرياء وهو أن يحسن المرء عمله أمام الناس حتى إذا خلا مع نفسه أو مع رفقة مماثلة له أساء العمل. قال صلى الله عليه وسلم: "من أحسن الصلاة حين يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه تبارك وتعالى". رواه عبد الرزاق وأبو يعلى وابن جرير الطبري. وقال تعالى مبيناً حال المنافقين: {إن المنافقين يُخادعون الله وهو خادعهم، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً} [النساء: 142]. وقال تعالى محذراً من الرياء وأمثاله من أنواع الشرك: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [الكهف: 110]. ¬

(¬1) حضر وقت موته. (¬2) أخذ. (¬3) نوع معين من النسيج.

10 - السحر

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: "من صام يرائي فقد أشرك، ومن صلى يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك". رواه البيهقي. 10 - السحر وهو عبارة عن تعاويذ شيطانية وأعمال معينة يترتب عليها خداع الآخرين حتى يتخيلوا أموراً لا حقيقة لها، كأن يتخيلوا العصا حية، واللبن دماً، والسحاب جيشاً. وقد اتفق العلماء على أن فعل السحر كفر إن فعل على الوجه المذكور من الاستعانة بالشياطين والاستهانة بالدين والقرآن وأمثالهما. وقال كثيرون: إن هذا الساحر يقتل حداً، ولم يجوز السحر أحد من العلماء إلا إذا تعلمه إنسان أو عمله ليدفع به ضرراً وقع بمسلم كأن يفك سحر ساحر ويبطل عمله، بشرط أن لا يعمله بشيء محرم شرعاً، وفيما عدا ذلك فهو حرام ممنوع تجب محاربته لما فيه من فتنة للناس والإضرار بهم. وقد يكون كفراً كما سبق وذلك للأدلة الآتية: قال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر} [البقرة: 103]. وقال صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله: وما هي؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم

11 - إتيان الكهان والعرافين بجميع أنواعهم

الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". رواه البخاري ومسلم. وعن جندب مرفوعاً "حد الساحر ضربه بالسيف" - رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف، وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبيد قال: "كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر". وصح عن حفصة رضي الله عنها: أنها أمرت بقتل جاريه لها سحرتها. قلت: وبهذا أخذ أبو حنيفة ومالك وأحمد فقالوا: يقتل الساحر إذا لم يتب، ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إذا عمل في سحره ما يبلغ الكفر، وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن أحمد. 11 - إتيان الكهان والعرافين بجميع أنواعهم هم الذين يزعمون أنهم يعرفون المغيبات من أمور الناس، فيضحكون عليهم، ويسخرون بهم، ويأكلون بالباطل أموالهم. فهؤلاء لا يليق بمسلم أن يأتي إليهم، ولا يحل له أن يصدقهم، ويجب عليه محاربتهم بالكلام، وبزجرهم، وبتبليغ الحاكم والمسئولين عنهم، وتنبيه الناس إلى أضرارهم. فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". قال ابن تيمية: العراف اسم الكاهن والمنجم والرمال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. والمراد بالكفر هنا هو التشبه بالكافرين في الجاهلية لا أنه كافر حقيقة. وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً سأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" (¬1). ¬

(¬1) الروضة الندية جـ 2 ص 293.

12 - كل قول أو فعل يتنافى مع الإيمان

قال الإمام النووي وغيره: معناه أنه لا ثواب له في هذه الصلاة. وإن كانت صحيحة ومجزية بسقوط الفرض عنه، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين يوماً. 12 - كل قول أو فعل يتنافى مع الإيمان قال الشوكاني: الذي يسب الله أو رسول الإسلام، أو الكتاب، أو السنة، والطاعن في الدين، كل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح ففاعلها مرتد، حده حد المرتد (يعني القتل) قال الشارح: أخرج أبو داوود والنسائي من حديث ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها، فأهدر النبي دمها. وقال: وكفر من فعل هذه الأشياء لا يحتاج إلى برهان. ومن اعترف بالدين ظاهراً وباطناً يفسر بعض ما ثبت من الدين بالضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة فهو الزنديق (أي الكافر) كما إذا اعترف بأن القرآن حق، وأن ما فيه من ذكر الجنة والنار حق، ولكن المراد بالجنة الابتهاج والسرور والفرح الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة أو الأفعال الحسنة. والمراد بالنار هي الندامة التي تحصل بسبب الملكات (الأخلاق) المذمومة، وليس في الخارج جنة ولا نار ... إلى أن قال: والتأويل (أي التفسير) للكتاب والسنة تأويلان: تأويل لا يخالف قاطعاً من الكتاب والسنة واتفاق الأمة، وتأويل يصادم ما يثبت بدليل قاطع فذلك هو الزندقة. فكل من أنكر الشفاعة أو أنكر رؤية الله تعالى يوم القيامة، أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، أو أنكر الصراط والحساب فهو مبتدع فاسق وحده القتل (¬1). ¬

(¬1) نفس المصدر السابق جـ 2 ص 296.

وعن ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً} [النساء: 65]. قال: يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً، ولهذا قال: "لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً". أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً (ضيقاً) مما حكمت وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة (¬1). وبذلك ندرك إدراكاً لا شك فيه أن أي مسلم يدعى إلى تحكيم كتاب الله تعالى وسنة رسوله فلا يرضى بذلك ظاهراً أو باطناً فهو كافر بإجماع المسلمين، ومثله من تدعوه إلى دين الله وكتابه وسنة نبيه وأحكام الشريعة فإذا به يمتنع ويفضل التشريعات غير الإسلامية على التشريعات الإسلامية، لأن هذا يكذب آية الله التي أخبرت أن الإسلام كمل فلا نقص فيه، وأنه نعمة تمت ودين ارتضاه الله لسعادة عباده قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3]. فمن لم يرض بحكم شرعي واحد فهو كافر، ومن ادعى أن دين الله ناقص فهو كافر، ومن لم يؤمن بأن شرع الله ودينه الإسلامي نعمة تامة فقد كفر. وهذا إجماع لا ينكره إلا مكابر مصادم صراحة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير جـ 1 ص 520.

وقال ابن كثير في معنى قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} [النساء: 65]. ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيزخان) الذي وضع لهم الباسق: وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها مجرد نظرة وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير (¬1). وبذلك ندرك خطورة ما عليه الناس اليوم فإنهم جميعاً إلا من رحمه الله تعالى، قد انصرفوا إلى الأخذ من كل منهل غير الإسلام، وارتضوا كل تشريع إلا تشريع الله ورسوله، وحكموا بغير ما أنزل الله راضين مستسلمين حانعين أذلاء متسولين. فبماذا يحكم ابن كثير عليهم وقد حكم على من هم أقل منهم انحرافاً بالكفر والقتل؟؟. سبحانك اللهم حول أمتنا إلى ربها ودينها ورسولها لتستحق نصرك وتأييدك. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المختار رحمة لسائر المخلوقات، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير جـ 1 ص 520.

العبادات وصلتها بالعقيدة

العبادات وصلتها بالعقيدة معناها العبادة مأخوذة من "عبد" بمعنى إنسان خاضع ذليل لسيده ومالك أمره قال تعالى: {إن كلُّ من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93]. أي خاضعاً ذليلاً للرحمن. وعبد الطريق ذلله، وعبد إنسان إنساناً أخضعه له، قال موسى عليه السلام رداً على فرعون في صلفه وكبريائه: {وتلك نعمةٌ تمنها عليّ أن عبدت بني إسرائيل} [الشعراء: 22]. والمعنى: هل تعتبر إخضاعك بني إسرائيل لظلمك وجورك وإذلالك لهم نعمة تستحق أن تمن بها علي؟ إن هذا قلب للحقائق. وعلم الله المسلمين أن يقولوا في كل ركعة من الصلاة: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]. والمعنى: لا نعبد أحداً غيرك، ولا نستعين بأحد سواك، فأنت وحدك المستحق للعبادة، وأنت وحدك المعين لمن يستعين بك. وكل شيء أخضعت نفسك له خضوعاً يتنافى مع إسلامك فأنت عابد له وهو مستعبد لك ولو كان لا يعقل هذا الاستعباد ولا يقصده، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة".

وعبادة الله تعالى معناها الخضوع لله تعالى خضوعاً كاملاً في جميع ما جاء به كتابه الكريم، وفي جميع ما بينه نبيه العظيم، عليه أفضل الصلاة والتسليم مع شدة الحب لله، وشدة الخوف منه، وهي بهذا المعنى تشمل الخضوع لله في العقيدة وأنواع القرب كالصلاة والزكاة والصوم وغيرها، وفي أنواع المعاملات كالزواج والطلاق والبيوع والشركات، والمداينات والتجارة والصناعة والزراعة، وفي أنواع الأخلاق كالوفاء، والصدق، والعدل والأمانة، وفي كل ما يتصل بنظام حياتنا الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بشرط واحد هو أن يريد المسلم بخضوعه وجه الله تعالى، ويطلب به رضاه. فإذا التزم المسلم بالعمل بالكتاب والسنة، وفعل ما أمره الله به، وترك ما نهاه الله عنه قاصداً بذلك وجه الله فهو عابد لربه يستحق على عبادته المثوبة في الدنيا والآخرة، ولو كان عمله في ظاهره عملاً دنيوياً محضاً، يشهد لذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك". وجاءت أحاديث كثيرة صحيحة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن الكلمة الطيبة صدقة، وأن السلام على المسلم يرفع الدرجات عند الله، وأن كف اللسان عن الشر صدقة، وأن إعانة المحتاج صدقة، وأن زيارة الأخ في الله، وعيادة المريض المسلم، والتبسم في وجه المسلم، وإرشاده إلى ما ينفعه، والسعي على النفس أو الزوجة والأولاد. كل ذلك وغيره وغيره يعتبر عملاً تعبدياً يثاب عليه المسلم ويؤجر على فعله، كما يؤجر على الصلاة والصيام والصدقة. ومن هنا ندرك أن معنى العبودية لله والخضوع له معنى عام شامل يدخل في دائرته كل أمر يفعل أو يترك على أساس الدين وشريعة الله تعالى مع

النية الصالحة. فمن شارك مسلماً والتزم في شركته العمل بالكتاب والسنة فهو عابد لله في هذه الشركة. ومن عاشر زوجته بالمعروف كما أمره الله يبتغي بذلك وجه الله فهو عابد لله. ومن تاجر فصدق في تجارته وبين ما فيها من عيوب يخشى الله في ذلك فهو عابد لله، ومن حكم بما أنزل الله في آية قضية بنية الخضوع لحكم الله فهو بذلك عابد الله. ومن اجتهد في طلب العلم - ولو كان علماً مادياً - يريد بذلك نفع أمته الإسلامية وكان صادقاً في إرادته فهو عابد لله. والخلاصة أن كل إنسان مسلم يلتزم بالكتاب والسنة مبتغياً بذلك رضاء الله تعالى فهو عابد لله تعالى بالمعنى العام المطلق لكلمة "عبادة" كما سبق. وهذا هو معنى العبودية الحقة التي يخرج بها الإنسان من الشرك والوثنية إلى الإسلام والتوحيد كما جاء في الكلمة التي أخبر الله ورسوله أنها كلمة التوحيد، وكلمة العبور من الشرك إلى الإيمان، والخلاص من جميع الآلهة من أجل الالتجاء إلى إله وحده هو الإله الحق ... وهو الله تعالى والكلمة هي كلمة: لا إله إلا الله. ومعناها: لا معبود يستحق العبادة إلا الله. فقائلها يرفض الخضوع لجميع الآلهة ما عدا إلهاً واحداً هو الله، لأنه الإله الحق. فهو يكفر بآلهة القبور والقباب وكل من قدسه الناس من الموتى بغير إذن من الله. ويكفر بآلهة الجن والملائكة والشياطين الذين توهمهم الناس فعظموهم وأحبوهم أشد من حبهم لله، ونذروا لهم النذور، وقدموا لهم القرابين، وجعلوهم شركاء في أموالهم بشكل يثير الاشمئزاز والنفور، ويخجل العقل البشري الواعي. ويكفر بآلهة البشر الأحياء من العلماء والزعماء والكبراء الذين اتخذهم الناس آلهة يخضعون لهم فيما يغضب الله، وأرباباً يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويتخذون للناس شرائع وقوانين مضادة لشريعة الله وقانونه.

العبادة حسب المفهوم الخاص

وما لم يكفر المسلم بجميع هؤلاء وأشباههم فهو ليس مسلماً ولا مؤمناً على وجه الحقيقة، لأنه لم يستسلم لله، ولم يوحده حين آمن به، لأنه خاضع لغيره فيما لا يرضيه. وحسب هذا المفهوم الواضح الخطير يستطيع أن يعرف كل إنسان نفسه هل هو عبد لله أم عبد للشيطان من الإنس أو الجن؟ وليحذر كل امرئ خطورة الموقف بين يدي الله تعالى يوم القيامة حين يفصل في القضاء بين الناس ويقول لأتباع الشياطين: {وامتازوا اليوم أيها المجرمون. ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [يس: 59 - 61]. العبادات وصلتها بالعقيدة العبادة حسب المفهوم الخاص عرفنا أن العبادة حسب المفهوم العام والأصلي لهذه الكلمة يراد بها الخضوع للمعبود مع شدة حبه والحرص على رضاه والخوف من غضبه. ولكن العرف الإسلامي جرى على حصر العبادة في أمور معينة: منها الصلاة والدعاء والزكاة والصيام والحج والذكر، والجهاد ... الخ، وذلك عندما صنفوا العلوم الإسلامية في عهد السلف الصالح تسهيلاً للتعليم، ووضعاً لكل نوع في الإطار الذي يناسبه من الخطورة والأهمية، والمميزات والشروط وغيرها. فقسموا العلوم الإسلامية إلى: عقائد، وعبادات، ومعاملات، وأخلاق ... وغيرها. والأسباب التي جعلتهم يحصرون العبادات في الأمور المذكورة أهمها ما يأتي: أولاً: هذه الأعمال لا تنعقد ولا تصح إلا بنية التقرب بها إلى الله تعالى، قال تعالى:

{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعلم عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} [آخر الكهف]. فمن صلى، أو صام، أو زكى، أو حج، أو اعتمر، أو جاهد بغير نية فإن عمله باطل، وإن نوى به غير وجه الله تعالى فكذلك، وهذا بخلاف المعاملات والأخلاق والسياسات وغيرها، فإن العقود فيها تصح بنية وبغير نية، وتصح سواء كانت النية لله أو لغيره. كل ما في الأمر أنها إن قصد بها وجه الله أثيب صاحبها وإلا فلا. فلو تزوج إنسان امرأة لمالها أو لجمالها أو لحسبها فإن الزواج صحيح، غير أنه لا ثواب فيه، لأن الثواب في المعاملات والأخلاق وأمثالها يأتي نتيجة نية صالحة. وكذلك عقود البيع والتجارة والشركات، والمعاهدات بين الدول، والاتفاقيات بينها، أو بين الأشخاص بعضهم مع بعض في جميع أمور الحياة لا يشترط في صحتها أن يراد بها وجه الله، بل تصح بدون هذه الإرادة، أو بإرادة سيئة كإرادة الرياء، والجاه والاستعلاء، والمنافع الشخصية، والإضرار بالآخرين. كمن اشترى داراً بنية الإضرار بالجيران أو بساكن معين في الشارع. ثانياً: هذه الأمور مطلوب من المسلم أداؤها كما أمر الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم سواء فهم المسلم الحكمة في أدائها أم لم يفهم. إنها خضوع خالص لله تعالى على الوجه الذي جاءت به الشريعة، فإن كان العبد مستسلماً حقاً نفذ أمر الله وأمر رسوله بدون أن يسأل: لم شرع؟ ولم كان على هذا النظام؟ ولم لم يكن على نظام كذا وكذا. إن عليه أن يقول: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285]. صحيح أن جميع شرع الله يجب أن يتلقاه المسلم بالقبول والتسليم والخضوع له سواء فهم الحكمة أو العلة أم لم يفهم، غير أن باب المعاملات أوضح

الشارع أنه قائم على مصلحة المسلم، وأنه ما دامت هناك مصلحة فهناك شرع الله، وما دام هناك ضرر فهناك منع الله وتحريمه. ومجال الاجتهاد في المعاملات متفوح دائماً، وتحدث للناس أحكام بعدد ما يحدث من أقضية ومشكلات كما قال عمر بن عبد العزيز، ولذلك من سن سنة حسنة في المعاملات من أجل مصالح المسلمين فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. وليس الأمر كذلك في العبادات فإن الواجب فيها الوقوف على ما جاء منصوصاً عليه في الكتاب والسنة بدون زيادة أو نقصان. فمن ابتدع فقد ضل وهوى. ولذلك جرى الفقهاء على أن يقولوا هذا "أمر تعبدي" يعني نأخذه كما جاء بدون تدخل مطلقاً من جهتنا وهذا "أمر غير تعبدي" يعني لنا فيه مجال واجتهاد حسب أصول مشروعة. ثالثاً: العبادات عبارة عن أعمال يعملها العبد بينه وبين الله مباشرة بدون أدنى حاجة إلى وسيط أو وسيلة من الخلق، ولو دخل فيها وسيط لتحولت إلى وثنية، وذلك كما كان الكفار يفعلون لأصنامهم من تقديم النذور، والدعاء والاستغاثة وطلب الحاجات، وتفريج الكربات قائلين: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 03]. فهي عقد بين العبد وبين الله مباشرة إذا وفى العبد بشروطه نال من فضل الله ثواب حسن جزائه. أما جميع المعاملات فهي أعمال بين عبد وعبد، فهي مرتبطة أصلاً بتعامل الناس بعضهم مع بعض على اساس الدين. رابعاً: العبادات مطلوبة من كل مسلم سواء كان هناك حسب نظره داع إلى فعلها أم لم يكن، لأن الله وحده هو العليم بأمرنا وبما يصلحنا فيما بيننا وبينه، فمثلاً لو لم يوجد إنسان محتاج للزكاة وجب إخراج الزكاة من المال وينتظر بها وقت الحاجة، ولا يجوز لمسلم إبقاء نصاب الزكاة داخل ماله اعتماداً على عدم وجود محتاج.

مكانة العبادة وصلتها بالعقيدة

وكذلك لو أحس إنسان أن كل آثار الصيام هو متصف بها فلا حاجة إلى صيامه رمضان، فإنه لا يجوز له أن يفطر ولو فعل لوجب تعزيره واعتبر فاسقاً ومجرماً، وهكذا قل في الصلاة والحج والذكر والدعاء والجهاد وغيرها. وهذا بخلاف المعاملات الاجتماعية والمالية والاقتصادية وغيرها فإنها موقوفة على الحاجة إليها فإن وجدت الحاجة كانت وإلا فلا. وهذا غير رقم (2) فإن هذا جانب آخر مختلف عنه في النظر. والخلاصة أن العبادات سميت بهذا الاسم وخصصت به عرفاً لأنها لم تصلح أن تؤدى إلا على وجه التعبد لله تعالى، ولذلك يوصف الملتزم بها، والمغرق فيها بأنه عابد وبأنه تقي وولي وصالح ... الخ. بشرط الالتزام بالكتاب والسنة في جميع تصرفاته وأن يكون ذلك كله مبنياً على عقيدة سليمة. العبادات وصلتها بالعقيدة مكانة العبادة وصلتها بالعقيدة 1 - حين تذكر العقيدة في الكتاب والسنة فإنما يراد بها العقيدة الحية المؤثرة التي تحدث تغييراً شاملاً في النفس، وفي الفكر، وفي الثقافة، وفي المبادئ والقيم، وفي السلوك والعمل، وفي تحديد الأهداف والغايات. ولن تكون العقيدة كذلك إلا إذا نشأت عن إعمال الفكر، واقتناع العقل، واطمئنان النفس إلى جميع قضاياها. أماعقيدة التقليد والوراثة، والمناخ والبيئة، والتبعية وضياع الشخصية، عقيدة المحاكاة للآخرين في غباء، وترديد ما يقوله الكبار في بلاهة وبلادة وصغار، فإنها لا تصلح أن تسمى عقيدة ولا أن يكون لها اعتبار في نظر الإسلام. وهي لذلك لا تكوِّن، شخصية، ولا تقوم معوجاً، ولا تنير لصاحبها طريقاً، ولا تعطيه عطاء جديداً يحدد له الهدف والغاية، ويرسم له السبيل والوسيلة. إن العقيدة الحية أصحابها أحياء، في مشاعرهم ووجدانهم، في صدقهم مع الله وثباتهم، في حبهم لله وخوفهم منه، في ذكرهم لله واندفاعهم في

طاعته، في خشيتهم لله ونفورهم من معصيته، فهم لهم شخصية تميزهم عن جميع البشر، ولذلك كانوا غرباء. إن الذين يدعون الإسلام والإيمان كثيرون، ولكن دعواهم يفضح كذبها سلوكهم المشين، وأخلاقهم السيئة، وانحرافهم عن الصراط المستقيم. وانخراطهم في سلك الغواية والضلالة والسقوط بدون خجل أو حياء. إن أمتنا الإسلامية اليوم تعيش في تناقض كبير بين الكلمة التي تقولها، وبين الأعمال التي تميزها عن غيرها ... فهي تنطق بكلمة الإسلام، وتردد شعائر الإيمان، وتكثر من قراءة القرآن .. بينما أعمالها تقليد لأعدائها، وحياتها في أكثريتها تعتبر ترديداً لحياة من غضب الله عليهم ولعنهم في جميع كتبه، وشعورها بشخصيتها شعور ناقص يزري بكرامتها ويحط من قدرها ... ومكانتها الرائدة قد اهتزت كثيراً حتى في نفوس أبنائها ... كل ذلك بسبب ضعف العقيدة، أو موتها. ولا أمل في إصلاح إلا على أساس إحيائها وتقويتها. إن الذي يقول: "لا إله إلا الله والله أكبر" بعمق فكر، وصدق صلة، ولذة معرفة بالله، يشعر بزلزلة كيانه، وانفعال وجدانه وأركانه، وامتلاء قلبه بنور الله، وامتزاج روحه بفيض رحمة الله، وعزة انتمائه إلى حزب الله، ويجد أبواب السماء مفتّحة له، وملائكة الرحمة محيطة به وحملة العرش يستغفرون الله له ويطلبون له ولذريته وأزواجه وآبائه الرحمة والجنة، لذلك يندفع في حب يطلب رضاء الله بطاعته، ويسهر الليل عابداً، أو يقضي النهار صائماً، ويحمل سيفه مجاهداً ويضحي بنفسه وماله في سبيل ربه، لا يبالي بمشقة أو تعب، ولا يشكون من بلاء أو نصب، له في كل خير قدم ثابتة، وفي كل عبادة وفضيلة منزلة سامية. لو منعته الصلاة لبكى وقال: "كيف تحرمني الركوع والسجود لعظمة الله؟ ".

ولو منعته الصيام أو الذكر لقال: "وكيف أحيا مؤمناً وأنا مقطوع الصلة بالله؟ ". ولو دفعته إلى منكر لقال لك: "قتلي أهون من إقدامي على معصية الله". وهكذا لا تجد مؤمناً صادقاً إلا وهو عابد صالح، ولا تجد عابداً صالحاً إلا وهو مؤمن صادق. فالعقيدة الحية هي: اندفاع في العبادة الحقة، والعبادة الحقة ناشئة عن عقيدة حية. العقيدة شجرة، والعبادة ثمرتها والعقيدة أصل والعبادة فروعه: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} [إبراهيم: 24 - 25]. فمن لا عبادة له فلا عقيدة له، ولذا جاء في حديث صحيح: "من ترك الصلاة فقد كفر". وأنت حين تقرأ القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف لا تجد العمل التعبدي إلا جُزءاً من العقيدة، وفرعاً قائماً على أصولها، وذلك في مثل قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم

يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} [الأنفال: 02 - 04]. وقوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون} [الحجرات: 15]. وجاء في حديث رواه البخاري وغيره: "الإيمان بضعٌ وستون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". وجاء في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم". وانظر قوة الربط بين الإيمان بالله وتحكيم آياته وسنة رسوله في حياة المؤمنين وما يعرض لهم من قضايا في قوله تعالى:

{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65]. وليس أصرح في نفي الإيمان عمن ادعاه وهو لم يعمل بمقتضاه من قوله تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} [النور: 47]. "ولهذا ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهوية وسائر أهل الحديث وأهل المدينة وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أن اسم الإيمان يراد منه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، بمعنى أن من آمن بقلبه ونطق بالشهادتين ولكنه لم يعمل بمقتضى الإيمان فإنه يسمى كافراً، بمعنى أنه كافر بنعمة الله تعالى، ولم يقم بواجب شكره، وليس المراد أنه كافر كفر التخليد في النار، فإن أحداً من المذكورين لم يقل بذلك". أ. هـ. ملخصاً من شرح الطحاوية ص 236. وبناء على ما تقدم ندرك أن فيض العقيدة الصادقة الحية، ونور الإيمان الغامر المؤثر والشعور بالقرب من الله ومراقبته في كل لحظة وخطوة، كل ذلك يجعل العبادة أمراً مطلوباً للنفس، وضرورياً لها بحيث لو لم يفرضه الشرع لطالبت النفس بالإذن به لأن فيه متعتها وسعادتها وقوام حياتها، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في البخاري وغيره: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" رواه البخاري وغيره.

2 - كل صاحب عقيدة يضبط سلوكه وجميع أقواله وأفعاله على مبادئ عقيدته، ويستمد قوة ارتفاعه أو هبوطه من الأصول التي اعتنقها وآمن بها. تجد ذلك واضحاً في حياة وتصرفات وسلوك الشيوعي والوجودي والانحلالي، كما تجده في سلوك الشيعي والسني والدرزي والقادياني والبهائي، كما تجده في سلوك اليهودي والنصراني والبوذي وغيرهم. فما لم يظهر على المسلم أثر عقيدته فمعنى ذلك أنه إنسان غير عقائدي، وبالتالي فهو لا شخصية له ... وأهم شيء يظهر ملامح عقيدته عباداته الممثلة في أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج وذكر ودعاء وقراءة قرآن، وحب الله وخوف منه وتوكل عليه ... الخ. 3 - للعبادات في الإسلام وظائف تقوم بها، وآثار تتفرع عنها وتترتب عليها، ولا يحيط علماً بهذه الوظائف والآثار أحد غير الله تعالى، ونحن يظهر لنا منها قدر ما تطيق عقولنا، فمن أقام هذه العبادات فقد أقام كل ما تفرع منها، ومن أضاعها فقد أضاع كل آثارها .. فكيف يسمى نفسه بعد ذلك مسلماً أو مؤمناً على وجه الحقيقة من أضاع أهم ما في هذا الدين وحطم أعظم أركانه التي ما خلق إلا لأجلها؟ قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. فالصلاة صلة مستمرة بين العبد وربه، تظهر فيها عبوديته لخالقه، وخضوعه لجلال الله وجماله وكماله ... فمن قطع هذه الصلة فقد قطع عن نفسه موارد الرحمة، وحرم مناجاة ربه، وعاش مبتوراً ضائعاً تلعب به الشياطين كيف تشاء. والصيام فترة تربية وتهذيب للنفس ومراجعة بين العبد وخالقه، تكشف للإنسان جوانب ضعفه، وتنمي فيه أسباب قوته، وتأخذه مما ألف واعتاد وهوى إلى ما يحب الله ورسوله، وفيه تربيته ونجاته وشفافية روحه.

آثار العبادة النفسية والاجتماعية

والزكاة كنز الله يفاض على أصحاب العقيدة الواحدة، فيجمع الصف، ويوحد الجمع، ويطهر القلوب من الحسد والحقد، والنفوس من البخل والأنانية، ويجعل الجميع يشعر بأن المؤمنين رحماء فيما بينهم، أقوياء بتعاونهم، سعداء بأخوتهم، قادرون على أن يكونوا أغنى أهل الأرض حين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. أما الحج فإنه مجمع الوفود والأفئدة، ورياضة للفرد والجماعة، ووقوف في المشعر يشبه الوقوف في المحشر، ومناجاة وضراعات، وبكاء واستغاثات، ومراجعة للنفس في اليوم المشهود يوم عرفات. فيه تلين القلوب لربها، وتخشع النفوس لمعزها ومذلها، وتلتقي أفكار المسلمين وعقولهم في حل المشكلات وإقامة صروح المجد والكرامة والرخاء للمسلمين، فيه يشهد المسلمون منافع لهم، ويرفعون اسم الله ويذكرونه على ما هداهم، فلو صدر نداء من جميع ملوك الأرض لجمع المسلمين في صعيد واحد على الوجه المعروف يوم الحج الأكبر ما استطاعوا جمعهم. فهل يليق بمسلم بعد ذلك أن يهمل نداء الله إلى عبادته؟ وهل يسمى مسلماً من حرم قلبه وجوارحه عبادة الله فذبل عود عقيدته؟ وهل هناك شقاء أشد من حرمان من يدعي الإيمان بالله وهو يتمرغ في وحل كسله وشهوته؟ 4 - العبادات في كل دين هي شعائر الله المعلنة عن هذا الدين والمظهرة لقداسته وتعظيمه في النفوس، فإذا أضاعت الأمة هذه الشعائر فهي لما سواها أضيع، وإذا حافظت عليها فهي أشد محافظة على غيرها. فهي معيار الأمة ومخبارها، وعلامة نجاحها في الدين أو سقوطها، ولذا قال تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج: 32]. وشعائر الله هي معالم دينه وأماراته. العبادات وصلتها بالعقيدة آثار العبادة النفسية والاجتماعية 1 - الإشراق الروحي والنقاء النفسي: قال تعالى:

{قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى} [الأعلى: 14 - 15]. 2 - الاطمئنان القلبي والاستقرار العاطفي. قال تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28]. 3 - الهداية والتوفيق لما فيه خير المتعبد وسعادته في الدنيا والآخرة قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} [الأنفال: 29] والمراد بالفرقان: ما يفرق به المرء بين الحق والباطل، وبين الخير والشر]. 4 - الحصول على شرف ذكر الله لعبده وتكريمه له بإفاضة الرحمات عليه. قال تعالى: {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152]. وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبحوه بكرة وأصيلاً. هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيماً} [الأحزاب: 41 - 43].

5 - الحصول على نصر الله وتأييده وتمكينه للمؤمنين في الأرض. قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} [الحج: 40 - 41]. 6 - وجود الترابط الاجتماعي والتآخي الروحي، والتعاون بين المؤمنين العابدين. قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم} [التوبة: 71]. 7 - وحدة الصف، وجمع الكلمة، وقوة الأمة، وذلك بسبب اجتماع أفرادها كل يوم خمس مرات في الصلاة، وتعاطفهم وتراحمهم بأداء الزكاة، وتأمرهم وتشاورهم في الجمع والأعياد والحج ومواسم التجميع الرباني. ولو راجع المسلمون دينهم، ورجعوا إلى ربهم، وقاموا بواجبات التعبد لله كما أمروا لعادت لهم قوتهم ووحدتهم وعزتهم، واستخلصوا حقوقهم من أيدي أعدائهم بشرف الجهاد والتضحية والدماء الطاهرة، وما تخبطوا عشرات السنين في متاهات وظلمات وخزي لا يرضاه لنفسه كريم أبي.

بين العقيدة والأخلاق

بين العقيدة والأخلاق تقديم حين تكون العقيدة حية في أنفس المؤمنين، فإنها تضيء جوانب النفس، وتكتسح جميع الظلمات، وتشرق بسببها شمس الحقيقة في القلوب، وينتفض الكيان الإنساني بها انتقاضة الحق فيرمي بالباطل بعيداً بعيداً حتى كأنه لم يوجد. وهذه العقيدة كما عرفنا فيها جلال الربانية، وكمال الألوهية، وروح الكلمات القرآنية، ونور الإرشادات المحمدية، فلا مثيل لها على الإطلاق يمكن أن يملأ الوعاء الإنساني بالسعادة، ويحول الفكر الإنساني إلى التشبع بفيوضات الرحمة والعزة والقوة والاطمئنان والركون الكامل والخضوع الذليل السعيد لله الذي يقول للشيء كن فيكون. فإذا أضيف إليها الأعمال التعبدية السابقة فإن هذه العقيدة تظل حية مؤثرة، وتزداد في النفس فاعليتها، وتدوم أنوار إشراقها، وتطهر القلوب بما يعلق بها من ران وصدأ من آن لآخر بسبب غلطة، أو ذنب يرتكبه الإنسان ساعة حمق وجهالة ... وكل ابن آدم خطاء ... كما جاء في الحديث الصحيح. وبالعقيدة التي يرتكز عليها الفكر والتكوين العقلي الإسلامي، والتغيير إلى الخط الإلهي، وبالعبادة التي تنمي العقيدة، وتحافظ على إشراقها وحيويتها وفاعليتها يظهر الجانب الخلقي الجميل في الإنسان المؤمن أوضح ما يكون، وأحسن ما يكون. فالأخلاق الإسلامية وليدة العقيدة الإسلامية النقية المشرقة المؤثرة كما أنها أثر من آثار العبادة الحقة، والعبودية الصادقة لله وحده، ولا نقول:

إن هذا الأثر لازم للعقيدة والعبادة، ولكن نقول: إن شبيه باللازم في تأكد وقوعه، ما لم توجد موانع، ولذلك يربط القرآن والسنة كثيراً بين الإيمان والعبادة، وبين الأخلاق الإسلامية، فيقول تعالى في الصلاة: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45]. ومعنى ذلك أن الصلاة الحقة تطهر الإنسان من الأخلاق الذميمة، وتنمي فيه الأخلاق الحسنة، وذكر الله أكبر تأثيراً وتطهيراً، وسيتضح أمر الأخلاق ومعناها فيما يأتي. وقال تعالى في الزكاة: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]. فالزكاة مطهرة من الذنوب ومزكية لفاعلها بمعنى أنها تنمي في نفسه جوانب الجمال والكمال بعد أن طهرته من العيوب والذنوب والنقائص، والآيات في ذلك كثيرة بالنسبة للعبادة. وفي العقيدة يقول تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10]. ويقول تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71]. {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط (العدل) شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135].

معنى الخلق

ويقول صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [رواه البخاري ومسلم]. فالربط واضح بين الإيمان والأخلاق. وذلك كثير جداً لو تتبعته. بين العقيدة والأخلاق معنى الخلق ... قال في القاموس المحيط: الخلق: السجية والمروءة والطبع والدين. وهذا من معانيه في اللغة، أما عند علماء الأخلاق فإنه له تعاريف كثيرة سواء عند قدماء الفلاسفة أو محدثيهم أو عند علماء الإسلام، وأقرب تعريف إلى الصحة هو تعريف الإمام الغزالي المتوفي سنة 505 هفي كتابه "إحياء علوم الدين" وهو موافق ابن مسكويه الفيلسوف الإسلامي المتوفي سنة 421 هفي كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق". قال الغزالي في تعريف الخق اصطلاحاً: "الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً، سميت الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً" ثم ذكر أن الخلق ليس هو فعل الجميل أو القبيح، ولا القدرة على الجميل أو القبيح، ولا التمييز بين الجميل والقبيح، وإنما هو الهيئة النفسية والحالة التي بها تستعد النفس لأن يصدر عنها الجميل أو القبيح 1. هـ. من "الأخلاق عند الغزالي" للدكتور "زكي مبارك" ومن إحياء علوم الدين جـ 2 ص 1434 الصادر عن دار الشعب بالقاهرة.

الأخلاق طبيعية أم كسبية؟

فقوله "هيئة" معناها: حال أو صفة، أو ملكة. وقوله: "راسخة" معناها: ثابتة ومستقرة حتى تصلح أن تسمى خلقاً، فإن من تظهر منه الشجاعة أو المروءة على وجه الندور لا يسمى شجاعاً، ولا ذا مروءة. ولا يقال: إنه متخلق بالشجاعة أو المروءة. وأما قوله: "تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير فكر أو روية" فذلك لأن الذي يتكلف العمل بعد أن يفكر ويزن المصلحة والمنفعة المترتبة على فعله، والمضرة المترتبة على تركه لا يسمي ما صدر عنه هذا العمل خلقاً. كالشخص الي يدعى إلى البذل فينظر ويفكر حتى يصل إلى أن عدم البذل المطلوب سيفوت عليه منفعة، أو يجلب عليه مذمة ونقصاً، ثم يمد يده بالبذل بعد ذلك فإنه لا يسمى جواداً. ولا يخفى على القارئ الصلة بين المعنى اللغوي (السجية والطبيعة) والمعنى الاصطلاحي الذي سبق تفصيله. بين العقيدة والأخلاق الأخلاق طبيعية أم كسبية؟ ... هذا سؤال اختلف حوله العلماء كثيراً، قديمهم وحديثهم، فلاسفة وغير فلاسفة. والرأي المختار، وهو الذي نص عليه الكتاب الكريم والسنة النبوية هو: أن الأخلاق منها ما هو طبيعي، ومنها ما هو كسبي. والمراد من الطبيعي أن الإنسان بعد التمييز نجده مفطوراً على أخلاق معينة، فمثلاً نجد بعض الأطفال يتصف بالحياء، أو العفة، أو الشجاعة بدون تدريب أو تعليم، وكذلك نرى بعضهم في صغره يتصف بالجبن، أو البخل، أو الشر، بدون تدريب أو تعليم، أو حتى تقليد للأقربين. والمراد بالكسبي هو الخلق الذي يربى عليه الإنسان ويدرب بأساليب التربية المختلفة، والتي منها التلقين، والتقليد، والوعظ، والترغيب والترهيب ... الخ.

قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها} [الروم: 30]. فطري. وقال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11]. كسبي. وجاء في حديث مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمنذر بن عائذ ويلقب الأشج. (أشج عبد القيس): "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة". وزاد في مسند أبي يعلى وغيره أنه قال حين قال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك: يا رسول الله: كانا فيّ أم حدثا؟ قال: "بل قديم" قال: "الحمد لله الذي جبلني (خلقني) على خُلقين يحبهما" (¬1). وإذا ثبت أن من الأخلاق ما هو مكتسب ومنها ما هو فطري فإن علينا أن ندرك أن الاكتساب يكون بالعلم، والتدريب وأساليب التربية المختلفة كما يكون بالتقليد والمحاكاة للغير من أب وأم وإخوة وأصدقاء، وغيرهم من أفراد المجتمع، كما يكون للمعارف وأنواع العلوم تأثيرها الأخلاقي كذلك طبيعة الأمكنة والأحوال التي تعيشها الأمة، وأنواع المسارح والملاهي، ودور عرض الأفلام، وجميع أجهزة الإعلام لها تأثير واضح على الأخلاق في تكوينها، وتعديلها، وتغييرها. وهل يمكن التأثير على الأخلاق الفطرية الطبيعية (أي التي نشأت مع الطفل أو نشأ بها الطفل) أو لا يمكن ذلك؟ ¬

(¬1) شرح مسلم جـ 1 ص 189، "طبيعي وكسبي".

خطر يجب تداركه

والجواب: أن الطبيعة إن أريد بها الغريزة فإن التأثير فيها بالتغيير غير ممكن عادة، ولكن الممكن هو التحكم في الغريزة حتى تكون على مستوى وسطي بدون إفراط أو تفريط. وذلك مثل غريزة الحاجة إلى الطعام والماء، وغريزة القتال، وغريزة حب الاستطلاع، وغريزة الجنس وغيرها، وذلك ما يسمى في علم النفس "إعلاء الغرائز" أي التسامي بها لتؤدي ما خلقت له بدون انحراف. وإن أريد بالطبيعة الميول والرغبات فإن هذه يمكن التأثير فيها بالتعديل وبالتغيير ويشهد لذلك ويثبته ما جاء في الحديث "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه". وهذا هو المراد من كلمة "طبيعي أو فطري": أي الميول والرغبات التي ولد بها الإنسان. بين العقيدة والأخلاق خطر يجب تداركه إذا كانت الأخلاق كسبية في أكثرها، وما هو طبيعي منها يكون صالحاً للتغيير والتعديل، فمعنى ذلك أن البحث في المؤثرات التي يتأثر بها الإنسان حتى تتكون فيه ملكات أخلاقية معينة يعتبر أمراً لازماً وهاماً. وإذا عرفنا أن المؤثرات المحبوبة إلى النفوس العادية وهي في نفس الوقت تصل إلى الجميع بسهولة وبدون كلفة، كما أنها تكوِّن مناخاً عاماً يعيش فيه الأفراد، سواء قصدوه أم لم يقصدوه، إذا عرفنا ذلك ازداد الأمر أهمية وخطورة، فإن الناس في عصرنا هذا سواء منهم الكبار والصغار، والبنون والبنات قد فتحت عليهم جميع أبواب الآداب والفنون، ما هو صالح منها وما هو فاسد، كما فتحت عليهم جميع أجهزة الإعلام، الشرقية والغربية، المتحفظة والإباحية، الإيمانية والكفرية، ما يدعو منها إلى الفضيلة وما يدغدغ الغرائز، ويلهب المشاعر ويؤجج فيها الثورة على كل ما هو

دين وفضيلة وسمو، وعلينا أن ندرك أن الأسرة مناخ خاص، وأن المدرسة مناخ خاص، وكذلك الجامعة، والمسجد، والمكتب والشركة. وأن هذا كله متفاعل مع المناخ العام الذي هو البلد. والمجتمع. والأمة. والدولة والمنطقة. والعالم، وأن كلاً منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، والأقوى تأثيراً له الغلبة والكلمة الأخيرة في أخلاق الناس. وقد دخلت الإذاعة كل بيت، واقتحم التلفاز كل منزل، وأصبح الشبان والشواب، والناشئون والناشئات بين شقي رحى، فهذه أسرة تأمر بالدين وتحرص عليه، وتلقن البنين والبنات كل ما هو خير وفضيلة، ولكن أجهزة الإعلام ليست كلها مع الدين، أو الفضيلة، أو الخلق، ويستطيع أي إنسان أن يدير مفتاح المذياع ليسمع العهر والفجور والدعوة الصريحة إلى الفحش من بلاد كثيرة في العالم، ويستطيع أن يشتري من المجلات والكتب ما هو بؤرة فساد ودعارة، وما هو حرب على الدين والفضيلة وكل خلق كريم. زد على ذلك الشوارع العامة والمسارح، ودور العرض "السيمائي" وغيرها مما ملأ الجو العام فساداً، وكل من عاش مع الناس أدرك الحيرة والاضطراب، وأدرك الظلام والضباب والفتنة التي يعيش فيها الجميع. والواقع أن المناخ العام أفسد كل ما أصلحه المناخ الخاص، وكل جهود المصلحين اليوم تعتبر ضائعة، والنادر لا حكم له. لذلك يجب على الباحثين والمصلحين، والغيورين على الدين، وعلى الأخلاق، وعلى الشبان والشواب أن يطوروا كثيراً من المناهج الفكرية، والعلمية، والتربوية. وأن يبحثوا بحثاً جدياً من أجل إنقاذ أجيال أضاعوها أو كادوا بسبب الجمود، والروتينية البغيضة، والفهم الضيق للدين والحياة، والمؤثرات الخطيرة على الاثنين معاً. لقد قام مصلحون كثيرون. ونادوا، وبحت أصواتهم. ولا يزالون يفعلون، فمتى تستجيب أمتنا المسلمة، ومتى تدرك الخطر، ومتى تصدق مع نفسها ومع الله، ومع شبابها. حتى تنقذ الغرقى، والحرقى، ومن أصيبوا بطاعون الانهيار الخلقي، ومن انهالت عليهم جميع الأتربة والرمال التي حملتها رياح الكفر والفسوق والفجور والضياع والضلال؟؟؟.

الإسلام ومكارم الأخلاق

بين العقيدة والأخلاق الإسلام ومكارم الأخلاق ... مما سبق عرفنا أن الأخلاق منها ما هو حسن، ومنها ما هو قبيح والميزان في ذلك هو الشرع، فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع. أما العقل فهو تابع للشرع في ذلك. وهذا هو رأي أهل السنة والجماعة وهو الحق الذي لا يقبل غيره. وللأخلاق الحسنة في الإسلام مكانة عالية، ودرجة رفيعة، وأهمية كبيرة حتى جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم والبيهقي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". والحصر بـ "إنما" يفيد أن معنى الحديث: ما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق. وقد أثنى الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق فقال له: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 04]. واقرأ هذه الآية التي جمعت مكارم الأخلاق بشهادة الكفار أنفسهم: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90]. واقرأ الوصايا العشر في آخر سورة "الأنعام" ابتداء من قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم .... } إلى {تتقون} [الآيات من 151 - 153].

واقرأ الوصايا الخمس عشرة من سورة "الإسراء" ابتداء من الآية (22 إلى آخر 39) وغيرها وغيرها، فإنك لن تجد أمراً من أوامر الله ولا نهياً من نواهيه إلا وهو خلق يطلب منك أن تتصف به لحسنه، أو يطلب منك الابتعاد عنه والتطهر منه لقبحه، حتى العبادات والعقائد التي هي الأصول في التكوين والتشريع، إنها في نفس الوقت أصول في الأخلاق الكريمة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان فيما بينه وبين الله أولاً، ثم فيما بينه وبين الناس ثانياً. والمتتبع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سواء في الحض على مكارم الأخلاق أو في تفضيل وتبيين هذه الأخلاق وشمولها لجميع الجوانب والعلاقات الإنسانية يجد ما يبهر العقول، ويعجز الفكر البشري عن استيعابه واستيعاب أسراره وآثاره، ولذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على حض أمته على حسن الخلق وإظهار ثوابه وجزائه في الدنيا والآخرة. من ذلك ما روي: عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك (أي أثر فيه) وكرهت أن يطلع عليه الناس" (¬1). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلقٍ حسنٍ، وإن الله يبغض الفاحش البذيء". (¬2) ¬

(¬1) رواه مسلم والترمذي. (¬2) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

الضمير والأخلاق

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" (¬1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لأهله" (¬2). وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إليّ وأقربكم مني في الآخرة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم منّي في الآخرة أسوأكم أخلاقاً الثرثارون المتفيهقون المتشدقون" (¬3). الثرثارون: هم كثيرو الكلام تكلفاً. المتفيهقون: هم الذين يتوسعون في الكلام إظهاراً للفصاحة واستعلاء على غيرهم. المتشدقون: هم المتكلمون بملء أشداقهم تفاصحاً وتعظيماً لكلامهم. بين العقيدة والأخلاق الضمير والأخلاق كلمة الضمير تتردد كثيراً في كلام الأخلاقيين والاجتماعيين وعلماء النفس والفلسفة وغيرهم، والناس إذا أرادوا مدح إنسان لأنه تصرف طبقاً ¬

(¬1) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. (¬2) رواه أبو داود والترمذي واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) رواه أحمد، ورواته رواة الصحيح.

للمبادئ التي يؤمن بها وشعر بمسئوليته أمام نفسه فإنهم يقولون: إنه رجل ذو ضمير. وعندما يمتنع إنسان عن عمل لا يتفق مع تقديره للمثل العليا والمبادئ الكريمة فإنه يقول: إن ضميري لا يرضى عن ذلك، أو يقول: إنني أشعر بتأنيب ضميري. ومن الواضح أن المقصود بالضمير في هذه الأحوال كلها هو الحاكم الذي نطيعه والرقيب المشرف على إرادتنا في داخل أنفسنا، والحارس الساهر على المحافظة على المبادئ التي يجب أن نعمل بمقتضاها. ومن الواضح أن هذ الضمير يباشر وظيفته داخل الإنسان على أساس إدراكه قيمة الأفعال والأقوال، وإدراك أحكامها وآثارها من غير أن يبالي بالعواطف والأهواء والمصالح الشخصية. إن هذا الذي نسميه "الضمير" شيء يتميز به الإنسان، وهو من عجائب الطبيعة البشرية. وقد عرفه العلماء بأنه "صوت ينبعث من أعماق الصدور آمراً بالخير، وناهياً عن الشر، وإن لم ترج مثوبة أو تخشى عقوبة". والضمير حسب هذا التعريف الذي سار عليه الفلاسفة وعلماء الأخلاق وغيرهم، له جانب مشرق وجانب مظلم. فالجانب المشرق هو جانب خضوع الضمير للمبادئ الحسنة، والشرائع التي قدسها الإنسان وجعلها نظاماً لحياته، وأماناً لمن أخذ بها. والجانب المظلم هو جانب خضوع هذا الضمير لمبادئ ظالمة وفاسدة أملتها وكونتها ظروف البيئة أو الأمة، أو التقاليد والمواريث وغيرها، لأن التعريف تكلم عن ضمير له مبادئ مطلقة وغير مقيدة بشرع. فمثلاً: جريمة السرقة كانت فضيلة عند بعض الشعوب، وكان من تنقصه فيها المهارة عرضة للاحتقار وتأنيب الضمير.

ونهب مال الغريب لا حرج فيه عند فريق من القبائل البربرية، فمن الواضح أنهم لا يقاسون عند نهبه تأنيب الضمير، وليس هذا فقط، بل الشخص الواحد يختلف ضميره باختلاف سنه، وفي عصرنا هذا يوجد ناس ينكرون وجود الله، وآخرون يفعلون كل منكر ولا يشعرون أن ضميرهم ينكر ذلك. إذاً فالضمير حسب التعريف السابق لا يصلح أن يكون ميزاناً نعتمد عليه نحن الإسلاميين إنما يجب إذا أطلقناه تبعاً لغيرنا أن نخضع مفهومه لما جاء في الشرع. إن المسلم يشعر شعوراً كاملاً بأنه يجد داخل نفسه حاكماً يحكم تصرفاته، وحارساً يقظاً يبصره بأخطائه، ويؤنبه عليها، كما يشعر بوجود وازع ودافع إلى الخير، وإلى ما ينفع نفسه وغيره، وزاجر يزجر عن الشر، ويقيم في النفس معركة ضده. ولكنه يشعر أن هذا الحاكم فوقه قوة أعلى تأمره وتراقبه وتحذره. وهي قوة الله تعالى. وذلك إذا كان المسلم حياً في إيمانه، قوياً في يقينه، متصل القلب بربه. هذا الشعور يسمى عند المسلمين البصيرة، والمراقبة، والإيمان، والخوف من الله ... الخ. فإن أردت أن تسميه ضميراً فلا مانع، ولكن على أساس أنه حارس لحدود الله، وحاكم بحكمه، ومؤنب للإنسان بسبب مخالفته ومعصيته لربه، جاء في الحديث الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن الإحسان: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وجاء في كتاب الله تعالى قوله: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} [القيامة: 14].

ويؤسفني أن أجد الكتاب الإسلاميين قد وقع كثير منهم في غلطة فهم الضمير والكلام عليه حسب آراء الفلاسفة، ولم يفكر فيما وضعه كتاب الله وسنته من أسس للرقابة على أعمال الإنسان وأقواله. إن الفتاة التي تربت في مدرسة الإسلام خير من جميع العلماء والفلاسفة الذين فتن بهم المسلمون ... إنها حين قالت لها أمها: قومي اخلطي اللبن بالماء لتبيعه. قالت لأمها: إن أمير المؤمنين نهى عن ذلك، فلما قالت الأم: إن أمير المؤمنين لا يرانا. قالت الفتاة: "ولكن الله يرانا" أرأيت أجمل من هذا وأوقع منه في النفس؟. وجاء في الحديث الصحيح أن ابنة عم أحد الفتيان في الزمن الغابر أصابتها حاجة وشدة فقر، فطلبت من ابن عمها الغني مساعدتها، فأبى إلا إذا مكنته من نفسها، فأبت أول الأمر ثم رضيت بعد أن عضها الجوع، فلما تمكن منها قالت له: "اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه" فأثرت فيه الكلمة ... كلمة "الله" فانصرف عنها وترك لها المال. فهل نجد مثل هذا أو قريباً عند المتكلمين عن الضمير من خلال الفلسفة بعيداً عن الشرع؟. لقد أردت بذكر الضمير هنا تصحيح خطأ شائع، وتنبيه شبابنا إلى الدقة في التعبير عن الأشياء. والأصل في الإنسان المسلم أن رقابته لله، وخوفه منه، واستسلامه النفسي لأحكامه هي التي تحكم تصرفاته، وتهيمن على جميع شئونه، وتضبط كل أنواع سلوكه وأخلاقه. والأصل في المنهج الإسلامي أن يربي المسلم على العقيدة الحية، ويصله بالله صلة وثيقة، ثم يلقي إليه بجميع التعليمات والتوجيهات، والأوامر والنواهي ليكون بالعقيدة أميناً على تنفيذ ما يلقى إليه. وأي قارئ في تاريخ الإسلام، والمسلمين .. يجد ثروة أخلاقية لا مثيل لها، سواء في حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أو في حياة أصحابه

وأتباعهم وأتباع أتباعهم، وكل من جاء بعدهم واستمسك بدينه، وراقب ربه، ونفذ شرع الله تعالى كما جاء في الكتاب والسنة. ولن تجد صرح الأخلاق بين المسلمين منهدماً إلا إذا كان الإسلام في نفوسهم وفي حياتهم شعاراً فقط واسماً لا مدلول له في الجانب العملي، فقد سبق أن عرفنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث بشرع من عند الله من أجل إتمام مكارم الأخلاق. فأي إنسان يعمل بهذا الشرع ويلتزم به هو قمة أخلاقية، وأي إنسان يهمل هذا الشرع أو ينبذه هو مثل سيء في مجال الأخلاق، أو قل هو أسوأ مثل أخلاقي وإن ملأ الدنيا بالدعاوى، واستدرج البسطاء إلى تصديقه. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية

تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية نشأة علم الكلام أو علم التوحيد لكي تتم الفائدة بالنسبة لإلمام القارئ بعلم العقيدة الإسلامية رأينا أن نقدم للقارئ فكرة عن بدء تدوين هذا العلم، والأسباب التي دعت إلى ذلك وأهم الفرق التي تكونت بسببه، وإليك البيان. نشأة علم الكلام أو علم التوحيد كثر البحث في العصر العباسي في العقائد واتخذ ألواناً لم تكن أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولا الأولين من صحابته، وأخذت هذه البحوث تتركز ليتكون منها علم جديد يسمى علم الكلام. ولنشأته أسباب داخلية وأخرى خارجية. أما الأسباب الداخلية فهي: 1 - تعرض القرآن بجانب دعوته إلى التوحيد لأهم الفرق والديانات التي كانت منتشرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليهم ونقض أقوالهم. فكان طبيعياً أن يسلك علماء المسلمين مسلك القرآن في الرد على المخالفين، وكلما جدد المخالفون وجوه الطعن جدد المسلمون طرق الرد. 2 - كاد ينتهي العصر الأول في إيمان خالص من الجدل، ولما فرغ المسلمون من الفتح واستقروا أخذوا ينظرون ويبحثون، فاستتبع هذا اختلاف وجهة نظرهم فاحتلفت الآراء والمذاهب. 3 - خلافهم في المسائل السياسية كان سبباً في الخلاف الديني. وأصبحت الأحزاب فرقاً دينية لها رأيها: فحزب "علي" تكون منه الشيعة، ومن لم يرض بعلي تكون منهم الخوارج، ومن كره خلاف المسلمين كون فرقة المرجئة وهكذا.

نشأة الفرق الإسلامية

أما الأسباب الخارجية فهي: 1 - كثير ممن دخل الإسلام بعد الفتح كان من ديانات مختلفة يهودية ونصرانية ومجوسية وصابئة وبراهمة وغيرها وقد أظهروا آراء دياناتهم القديمة في لباس دينهم الجديد. 2 - جعلت الفرق الإسلامية الأولى وخاصة المعتزلة همها الأول الدفاع عن الدين، والرد على المخالفين، وكانت البلاد الإسلامية معرضاً لكل الآراء والديانات، يحاول كل فريق تصحيح رأيه وإبطال رأي غيره، وقد تسلحت اليهودية والنصرانية بالفلسفة فدرسها المعتزلة ليستطيعوا الدفاع بسلاح يماثل سلاح المهاجم. 3 - حاجة المتكلمين إلى الفلسفة اضطرتهم إلى قراءة الفلسفة اليونانية والنطق والتكلم في شأنها والرد عليها. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية نشأة الفرق الإسلامية ... كانت الخلافة هي المسألة التي اشتد نزاع المسلمين فيها وكان من أثره أن تكونت ثلاث فرق من أكبر الفرق الإسلامية وهي: 1 - الشيعة الذين يرون أن الأحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب. 2 - والخوارج القائلون بأن الخلافة يجب أن تكون باختيار حر بين المسلمين. 3 - والمرجئة وهم الذين كرهوا هذا الخلاف وابتعدوا عن الفريقين وأرجئوا الحكم فيهما لله. ولما انتهى المسلمون من الفتح ودخل في الإسلام كثير من أصحاب الديانات الأخرى: اليهودية والنصرانية والمجوسية والدهرية وغيرها أخذت تظهر أفكار جديدة صيغت من أصحاب الديانات القديمة في ثوب دينهم الجديد. وكانت العراق وخصوصاً البصرة مظهراً لجميع الملل والنحل،

الخوارج

فقامت جماعة يقولون بحرية الإرادة وعلى رأسهم معبد الجهني وتكونت منهم فرقة القدرية، كما كانت هناك جماعة أخرى يسلبون الإنسان إرادته وعلى رأسهم جهم ابن صفوان وتكونت منهم فرقة الجبرية. وسط هذا الاضطراب الفكري والمبادئ التي كونتها كل فرقة لنفسها قام جماعة من المخلصين يشرحون عقائد المسلمين على طريقة القرآن. ومن أشهرهم الحسن البصري، وكان من أثر اختلافه مع تلميذه واصل بن عطاء أن تكونت فرقة المعتزلة التي كان لها الفضل الأكبر في الدفاع عن العقيدة وكان هذا في أوائل القرن الثاني الهجري. وفي أواخر القرن الثالث ظهر الإمام "أبو منصور الماتريدي" واشتغل بالرد على أصحاب العقائد الباطلة وتكونت منه ومن أتباعه الماتريدية. كما ظهر الإمام "أبو الحسن الأشعري" وأعلن انفصاله عن المعتزلة وأعلن مبادئه الجديدة التي وافق عليها خيرة علماء المسلمين وظهرت بهذا فرقة الأشاعرة ومن هاتين الفرقتين تكونت جماعة أهل السنة. وسنكتب كلمة موجزة عن كل فرقة من هذه الفرق مؤخرين الكلام عن الشيعة إلى الانتهاء من الكلام عن غيرها. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية الخوارج لما رأى معاوية أن الدائرة عليه في حربه مع علي أمر جنوده برفع المصاحف وطلبوا تحكيم كتاب الله، ورضي علي بالتحكيم ولم يرض بهذا التحكيم فريق من المحاربين مع علي وقالوا: لا نحكم أحداً في دين الله (لا حكم إلا لله) وانشقوا على الإمام علي. وقد سميت هذه الجماعة بالخوارج وحاربهم علي وهزمهم كما كانت لهم حروب مع الأمويين. وقد قال الإمام علي في آخر أيامه: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه". وقال عمر بن عبد العزيز في شأنهم: "إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا أو متاع ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها".

المرجئة

مبادئهم: 1 - يجب أن تكون الخلافة باختيار حر من المسلمين، وإذا اختير إمام لها فلا يصح أن يتنازل عنها أو يُحكم فيها، وليس بضروري أن يكون الإمام من قريش. ويجب أن يخضع لما أمر الله وإلا وجب عزله. 2 - ثم وضعوا مبدأ دينياً وهو: أن الإيمان ليس اعتقاداً وإنما هو اعتقاد وعمل، ومرتكب الكبيرة كافر، ومن رجالهم عبد الله الراسبي ونافع بن الأزرق ونجد بن عامر. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية المرجئة ... لما انقسم اتباع علي بسبب رضائه التحكيم إلى خوارج وشيعة وكان الخوارج يكفرون علياً ومعاوية والقائلين بالتحكيم. والشيعة منهم من يقول بكفر أبي بكر وعمر وعثمان ومن ناصرهم وكلاهما يكفر الأمويين ويلعنهم ويرى أنهم مبطلون، كان هذا سبباً في ظهور جماعة كرهوا هذا النزاع وسلكوا طريقاً خاصاً حتى تنجلي الفكرة فقالوا بإيمان الجميع، وإن كان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً وحيث أننا لا نستطيع تعيين المصيب والمخطيء فلنرجئ أمرهم إلى الله، لأنهم جميعاً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وسميت هذه الجماعة بالمرجئة ثم تدرج بحثهم في أمور دينية فعرفوا الإيمان بأنه معرفة الله ورسوله ثم تغالت هذه الطائفة وقالت: الإيمان: الاعتقاد بالقلب، والعمل لا أثر له مطلقاً حتى قالوا: العبارة المشهورة لهم: (لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة)، وقد ذابت هذه الفرقة بعد العصر الأموي. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية الجبرية وزعيمهم جهم بن صفوان وهو من خراسان ومن الموالي الذين أقاموا بالكوفة، وقد تكون منه ومن أتباعه فرقة الجبرية، القائلين بأن الإنسان مجبور كالريشة في الهواء.

القدرية الأولى

مبادئهم: القول بنفي صفات الله تعالى حتى لا يشبه الناس. وخلق القرآن وإنكار رؤية الله في الآخرة وفناء الجنة والنار بعد نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار. وقد نهض كثير من العلماء للرد عليهم لأمرين: 1 - مسألة الجبر، لأنها تدعو إلى التعطيل وترك العمل والركون إلى القدر، لأن الإنسان لا عمل له ولا قدرة. 2 - ومسألة المغالاة في تأويل الآيات التي تثبت صفات الله، وفي هذا التأويل خطر على القرآن وتفهم معانيه. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية القدرية الأولى كانت العراق مجمعاً لعناصر من الأمم ذوات الديانات المختلفة، وكانت البصرة بحراً يموج بالآراء والنحل، وقد سمع معبد بن عبد الله الجهني - وكان ممن يجالس الحسن البصري - من يتعللون بالقدر فقام بالرد عليهم نافياً كون القدر سالباً للاختيار، وتطرف في الدفاع حتى قال قولته المشهورة (لا قدر والأمر أنف) ولما بلغ هذا ابن عمر تبرأ منه ومن أصحابه. وقد قيل أن أول من تكلم بهذا رجل نصراني أسلم وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وسمي أصحاب هذا الرأي بالقدرية. وأساس مذهبهم إنكار قدر الله والمغالاة في إثبات القدرة للإنسان وأنه حر الإرادة في أعماله كما كان من مبادئهم القول بخلق القرآن. وقد ذابت القدرية والجبرية في غيرهما من المذاهب ولم يعد لهما وجود مستقل وظهر على أثرهما مذهب المعتزلة. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية المعتزلة أساس نشأتهم اختلاف واصل بن عطاء مع أستاذه الحسن البصري في حكم مرتكب الكبيرة، وتبعه عمرو بن عبيد في رأيه وكان هذا في البصرة وانتشر مذهبهم في العراق واعتنقه بعض خلفاء بني أمية كما اعتنقه بعض

أهل السنة

الخلفاء العباسيين وكان لهم في العصر العباسي مدرستان، إحداهما بالبصرة والثانية ببغداد وقام بين المدرستين جدال وخلاف في كثير من المسائل. مبادئ المعتزلة 1 - القول بالمنزلة بين المنزلتين فمرتكب الكبيرة الذي مات ولم يتب مخلد في النار وليس مؤمناً ولا كافراً. 2 - القول بأن العبد يخلق أفعال نفسه بقدرة أودعها الله فيه. 3 - القول بالتوحيد، ولهذا نفوا صفات الله تعالى القديمة حتى لا يشبه المخلوقين. ودعاهم إلى هذا قيام جماعة تجسد الإله وتشبهه بالحوادث. 4 - قولهم بأن العقل يحكم بحسن الأفعال وقبحها. 5 - القول بخلق القرآن وعدم رؤية الله في الآخرة. وقد سمي المعتزلة القدرية لأنهم وافقوهم في إثبات قدر العباد واختبارهم. كما لقبوا بالجهمية (الجبرية) لأنهم وافقوهم في نفي الصفات وخلق القرآن وعدم رؤية الله تعالى في الآخرة، والمعتزلة يتبرأون من الاسمين. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية أهل السنة هم أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي من سلك طريقهما وكانوا يسيرون على طريقة السلف الصالح في فهم العقائد، وقد جعلوا القرآن الكريم المنهل العذب الذي يلجأون إليه في تعرف عقائدهم، فكانوا يفهمون من الآيات القرآنية مسائل العقائد وما أشبه عليهم منها حاولوا فهمه بما توحيه أساليب اللغة ولا تنكره العقول فإن تعذر عليهم توقفوا وفوضوا. وقد سمي أتباع أبي الحسن الأشعري (الأشاعرة) وأبي منصور الماتريدي (بالماتريدية) ولم يكن بين الأشاعرة والماتريدية خلاف إلا في أمور يسير كمفهوم الإيمان والإسلام ومعنى القضاء والقدر وغير ذلك مما يقع عادة بين أهل الطريقة الواحدة ولا يقتضي تخالفاً في المذهب.

الشيعة

تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية الشيعة الشيعة أقدم الفرق الإسلامية. وأصلهم أصحاب الرأي القائل بأولوية آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة وأحق آل البيت هو علي بن أبي طالب. وقد ظهروا بمذهبهم في آخر عصر عثمان رضي الله عنه ونما وترعرع في عهد علي كرم الله وجهه، ولما لعلي من المكانة الممتازة في الإسلام أخذوا ينشرون نحلتهم على الناس. ولما جاء العصر الأموي ووقعت المظالم على العلويين ورأى الناس في علي وأولاده شهداء هذا الظلم انتشر المذهب الشيعي وكثر أنصاره. مبادئ الشيعة 1 - إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز للنبي إغفالها، بل يجب عليه تعيين إمام لهم يكون معصوماً من الكبائر والصغائر. 2 - عين رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً للخلافة بنصوص ينقلونها ويؤولونها لا يعرفها نقلة الشريعة وأهل الحديث. ومن هنا نشأت فكرة الوصية ولقب علي الوصي، فهو إمام بالنص لا بالانتخاب، وقد أوصى علي لمن بعده وهكذا على كل إمام أن يوصي لمن بعده. 3 - علي أفضل الخلق في الدنيا والآخرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عاداه أو حاربه فهو عدو الله إلا إن ثبتت توبته ومات على حبه. 4 - ولم يكن الشيعة على درجة واحدة، بل منهم المغالي والمقتصد وقد اقتصر المعتدلون على تفضيله على بقية الصحابة من غير تكفير أو تفسيق لأحد. واعترفوا بصحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وقالوا ليس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين علي إلا مرتبة النبوة وأعطينا علياً

الزيدية

ما عداها من الفضل المشترك. أما المغالون المتطرفون فلم يكتفوا بتفضيله على الخلفاء وعصمته بل رفعوه إلى مرتبة النبوة، ومنهم من ألهه. أي زعم حلول الإله فيه، ومنهم من قال كل روح إمام حلت في الألوهية تنتقل إلى الإمام الذي يليه. وقد كان التشيع مباءة خصبة لظهور القول بالرجعة والحلول والتناسخ والتجسيم والتشبيه وعدم ختم النبوة. والحق الذي لا مراء فيه أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من يريد هدم الإسلام لعداوة أو حقد. ومن يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية ومجوسية وغيرها في الإسلام، ومن يريد استقلال بلاده والخروج على الدولة الإسلامية. كل هؤلاء كانوا يتخذون حب آل البيت ستاراً يضعون وراءه كل ما شاءت أهواؤهم. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية الزيدية من أشهر فرق الشيعة وتنسب إلى إمامها زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب وكان تلميذاً إلى مذهب أهل السنة والجماعة. فهي لم تغل في عقائدها ولم يكفر الأكثرون منها أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ترفع الائمة إلى مرتبة الألوهية ولا إلى مرتبة النبوة، وقد خرج إمامهم على هشام بن عبد الملك فقتله وصلبه سنة 121 هوخرج بعده ابنه يحيى فقتل سنة 125 هولا يزال مذهب الزيدية في اليمن. أصول مذهبهم: 1 - إن الإمام منصوص عليه بالوصف لا بالاسم وأوصاف الإمام أن يكون فاطمياً ورعاً تقياً سخياً شجاعاً يخرج داعياً الناس لنفسه ... ولا يقولون بالتقية. 2 - يجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، لأن هذه الصفات للإمام الأمثل فهو بها أولى من غيره فإن اختار أهل الحل والعقد إماماً لم

الإمامية - الإثنا عشرية - الإسماعيلية

يستوف الشروط وبايعوه صحت بيعته، وبني على هذا صحة بيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وعدم تكفير الصحابة ببيعتهما. وقد خذل زيداً أكثر الشيعة لقوله بهذا الأصل. 3 - يجوز خروج إمامين في قطرين مختلفين، ولا يجوز خروج إمامين في قطر واحد. 4 - تخليد مرتكب الكبيرة في النار ما لم يتب توبة نصوحاً، وهذا من أثر تلمذة إمامهم لواصل بن عطاء، كما أنه من أسباب خروج الشيعة عليه. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية الإمامية - الإثنا عشرية - الإسماعيلية الإمامية هم القائلون بأن إمامة علي ثابتة بالنص عليه بالذات من النبي صلى الله عليه وسلم نصاً ظاهراً من غير تعريض بالوصف، ولا بإشارة بالعين، وسموا إمامية لتركيز آرائهم حول الإمامة، وهي منتشرة في إيران والعراق والهند. أصول مذهبهم 1 - النص على الإمام بالذات، ولهذا نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي، لأنه ليس في الدين أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقة النبي للدنيا على فراغ قلب من أمر الأمة لأنه بعث لرفع الخلاف وتقرير الوفاق فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً، بل يجب عليه أن يعين شخصاً يرجع إليه. ويستدلون على تعيين علي بالذات بما يروونه عن النبي مثل (من كنت مولاه فعلي مولاه) ومثل (أقضاكم علي) وغير ذلك من الأدلة التي يرون فيها إثبات دعواهم ولا يوافقهم على ذلك مناهضوهم. 2 - ولم يقتصروا على القول باستحقاق علي للخلافة دون سائر الصحابة بل حكموا بتكفير كل الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. 3 - إن الاعتراف بالإمام جزء من حقيقة الإيمان وبدونه يكون الشخص كافراً.

4 - القول باختفاء الأئمة ورجعتهم. 5 - جعل سلسلة الخلافة بعد علي في أولاد فاطمة. فاتفقوا على إمامة الحسن والحسين واختلفوا بعد ذلك في تسلسل الأئمة إلى فرق متعددة أشهرها: 1 - الإثنا عشرية. 2 - الإسماعيلية. الإثنا عشرية وهي تعيش في كثير من البلدان الإسلامية، وخصوصاً في إيران والعراق. وسموا "الإثنا عشرية" لأنهم يؤمنون باثني عشر إماماً متتابعين هم: علي بن أبي طالب، ثم ابناه الحسن فالحسين، ثم علي زين العابدين بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم محمد بن الحسن، وهذه الفرقة تسمى بالجعفرية حيناً، والإثني عشرية حيناً آخر، والإمامية حيناً ثالثاً. ولعلها أبعد الفرق الإمامية عموماً عن الاتصاف بالغلو وأقربها إلى التعقل في أمور دينها، ومن أقرب فرق الشيعة عامة إلى جمهور أهل السنة. وإذا كانت قد سميت بالجعفرية من باب تسمية العام باسم الخاص، فإنها سميت بذلك لأمر هام وهي أنها تستمد أمور دينها من الإمام جعفر الصادق الذي كان رضي الله عنه غزير العلم في الدين وافر الحكمة كامل الأدب زاهداً ورعاً متسامحاً بعيداً عن الغلو، ولم يكن يؤمن بالغيبة أو الرجعة أو التناسخ، كما أنه كان بعيداً عن الاعتزال. والإثنا عشرية في حقيقة أمرها وروح عقيدتها تتميز بالآتي: 1 - دينهم التوحيد المحض بالنسبة لصفات الله، وتنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوقين أو ملابسة لهم في صفة النقص والإمكان والتغير والحدوث وما ينافي وجوب الوجود والقدم والأزلية إلى غير ذلك من التنزيه والتقديس، وبطلان التناسخ والاتحاد والحلول والتجسيم وغير ذلك مما تورّطت فيه فرق كثيرة من فرق الشيعة.

2 - باب الاجتهاد عند "الإثنا عشرية" لا يزال مفتوحاً، وللمجتهد أن يبدي رأيه، وأن يؤخذ به ما دام متفقاً مع الكتاب والسنة متمشياً مع المعقول، وإلا فلا قيمة له. 3 - والاثنا عشرية يزيدون على أركان الإسلام ركناً سادساً هو الاعتقاد بالإمامة على ما مر، ويتمسكون بهذا الركن تمسكاً شديداً لا سبيل إلى التهاون فيه. 4 - يعتقدون في اثني عشر إماماً متسلسلين، وهم الذين مر ذكرهم، وكل إمام سابق لا بد أن ينص على اللاحق ويوصيه فالنبي أوصى علياً، وعلي أوصى الحسن، والحسن أوصى الحسين، وهكذا. 5 - يرون أن الإمام معصوم كالنبي عن الخطأ، وأن الإمام دون النبي وفوق البشر. 6 - يرون أن من يشاركهم من المسلمين هذا الاعتقاد في الإمامة فهو مؤمن، وأما من يؤمن بالأركان الخمسة المعروفة فقط دون الركن السادس الخاص بالإمامة فإنه مؤمن بالمعنى العام ولا يخرج عن الإسلام. ولكن درجته بعد درجة الشيعة. 7 - لا يقبلون الأحاديث إلا إذا رويت عن طريق أهل البيت، وأما الأحاديث المروية عن غير طريق أهل البيت فإنها عندهم لا تساوي مقدار بعوضة - على حد تعبير السيد كاشف الغطاء - وهذا سبب كبير من أسباب الخلاف بين الشيعة وأهل السنة. 8 - مع العلم بأن "الاثنا عشرية" يقولون برجعة الإمام محمد القائم بالحجة الثاني عشر، هو المعروف عندهم باسم المهدي المنتظر. هذه أهم الفروق في الأصول، وهناك فروق في الفروع مثل تعطيلهم صلاة الجمعة بسبب غياب الامام وفرضية صلاة العيدين وفرضية زكاة الخمس لآل محمد زيادة على الزكاة المعروفة وإباحة زواج المتعة ... إلخ. مما يطول ذكره 1.هـ. باختصار من كتاب "الإسلام بلا مذاهب".

الإسماعيلية وسموا بذلك لأنهم يوقفون الأئمة عند إسماعيل بن جعفر ويقولون بتعيينه بالنص من أبيه. ويسمون أيضاً بالباطنية لقولهم: إن للقرآن ظاهراً وباطناً ولاعتقادهم بالإمام الباطن. ومن أئمتهم عبيد اله المهدي الذي انتسب إلى إسماعيل بن جعفر وملك المغرب واستولى بنوه على مصر ولم يثبت تاريخياً صحة هذا النسب. وقد أثبت التاريخ أن من وضعوا أساس مذهب الإسماعيلية من أولاد المجوس وضعوا تعاليم لهدم الإسلام درجوها تسع درجات تبتدئ بالتشكيك في أحكام الإسلام كقولهم: ما معنى رمي الجمار؟ ولم كانت الصبح ركعتين والظهر أربعاً؟ وهكذا. وتنتهي بهدم الإسلام والتحلل من قيوده. وأولوا آيات القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بما يوافق هواهم. أهم مبادئهم: 1 - القول بقدم العالم وأن له مدبرين: الأول الله والثاني النفس. 2 - الإمام يعين بالنص لا بالانتخاب وهو معصوم من الصغائر والكبائر. 3 - تكفير من اغتصبوا الخلافة من الإمام. 4 - للقرآن معنى ظاهر ومعنى باطن لا يعلم باطنه إلا الأئمة، لانهم ورثوا علم الباطن، ولا معنى للتمسك بحرفية القرآن ويجب فهمه على طريقة التأويل والمجاز. 5 - لا يؤمنون بعلم ولا بحديث إلا ما روي عن أئمتهم. 6 - الأنبياء سواس العامة وأما الخاصة فأنبياؤهم هم الفلاسفة فالشعائر الدينية للعامة وأما الخاصة فلا يلزمهم العمل بها. 7 - الجنة نعيم الدنيا والعذاب اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام وغيرهما. 8 - إنكار معجزات الأنبياء.

النصيرية

9 - إباحة المحرمات والمحارم: فأباحوا شرب الخمر والبنات والأخوات وجميع الملذات. وقد ظهرت هذه الطائفة في عهد الدولة العباسية، ولا يزال لها بقايا إلى اليوم في الهند وفارس وزنجبار والشام والخليج الفارسي، وكان يتزعم فريقاً منهم آغاخان الزعيم المشهور، وخلفه أحد أحفاده، وتقدم إليه الأموال والهدايا كل عام. وزعماء هذه الطائفة يغيرون ويبدلون في المبادئ حسب أهوائهم ... وأتباعهم يعتقدون أن لهم التصرف في أمور الدنيا والآخرة ولهذا تجمع الأموال للإمام لا للفقراء، وكلما امتد الزمان زاد مذهبهم فساداً ولحق الناس من أعمالهم شر كبير. تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية النصيرية ومقرهم شمال سوريا بالجبال المعروفة بجبال النصيرية ومنهم قسم في ولاية أطنة والاسكندرونة وقد سموا أنفسهم بالعلويين. وينسبون لمحمد بن نصير من موالي بني نمير وكان شيعياً إمامياً من أتباع إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري وقد أسس طائفة النصيرية على مبادئ معينة. أهم مبادئهم: 1 - الديانة عندهم سر من الأسرار ولا تلقن للنساء لعدم استطاعتهن حفظ الأسرار، أما الرجل فلا يباح له بسر دينه إلا بعد أن يبلغ التاسعة عشرة ويقسم على اليمين أن لا يبوح به ولو أريق دمه. 2 - يدعون ألوهية علي والأئمة من بعده، ويزعمون أن علياً مسكنه السحاب فإذا مر عليهم السحاب قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن. 3 - يقولون بتناسخ الأرواح فالخيرة تحل في النجوم، والشريرة في أجسام الحيوانات النجسة.

البابية - البهائية - القاديانية (الأحمدية)

4 - يستعملون الأسماء الإسلامية ما عدا اسم عمر وأبي بكر ولا يصومون رمضان ويحتفلون بالأعياد المسيحية. 5 - الجنة والنار رمز دنيوي والصلوات الخمس أسماء علي والحسن والحسين ومحسن وفاطمة. وذكر هذه الأسماء يغني عن غسل الجنابة وعن الوضوء وسائر شروط الصلاة. 6 - إباحة الخمر وأن أكبر الأبالسة عمر ويليه أبو بكر فعثمان. وهؤلاء أخطر على الإسلام من اليهود وقد أفتى ابن تيمية في زمانه بوجوب قتالهم وقتال الدروز تكملة ذات أهمية - أهم الفرق الإسلامية البابية - البهائية - القاديانية (الأحمدية) البابية ظهرت هذه النحلة في دولة إيران على يد المرزا محمد علي الملقب بالباب المولود في سيراز سنة 1819 م وقد ادعى أنه المهدي المنتظر ثم ادعى النبوة والرسالة وأن الله أوحى إليه بكتاب (البيان) الناسخ للتوراة والإنجيل والفرقان ثم ادعى أنه المسيح المنتظر ثم ارتقى إلى ادعاء الألوهية. وقد عهد بالخلافة من بعده إلى أحد أتباعه وهو مرزا يحيى الملقب بصبح أزل ومن بعده إلى أخيه حسين الملقب بالبهاء. ولما قتل الباب بفتوى من العلماء سنة 1850 م تنازع الأمر من بعده يحيى وأخوه حسين وأخذ كل منهما يدعي بأن الله أوحى إليه بكتاب يصدق دعواه ويكذب دعوة أخيه وكانت الغلبة في هذا النزاع للبهاء فظهرت البهائية خلفاً للبابية. البهائية هم أتباع المرزا حسين علي الذي لقب نفسه بالبهاء المولود في بلدة نور من ضواحي مازندران سنة 1223هقام في أول أمره بخلافة الباب ثم تدرج إلى المهدوية ثم النبوة والرسالة ثم الربوبية والألوهية. وقد عهد بالخلافة من بعده إلى ابنه عباس المسمى عبد البهاء وقد دان البهائيون لكل خليفة بعد البهاء وقدسوه وعبدوه مثل عبادتهم للبهاء.

وقد نزل خليفتهم بمصر سنة 1892 هوأسس فيها الدعوة للبهائيين وهلك البهاء في مدينة عكا سنة 1309 هـ (1892م). دين البابية والبهائية 1 - إن للوحي تأويلات سامية ومفاهيم خفية لا يجليها إلا ربها (الباب) أو البهاء) وما يعلم تأويله إلا الله: أي الباب أو البهاء. 2 - ادعى البهاء المهدوية ثم الرسالة وأنه نزل عليه كتاب الأقدس الذي نسخ جميع ما تقدمه من الكتب السماوية ثم ادعى الألوهية وأمر بعبادة البشر. 3 - إنكار معجزات الأنبياء والبعث والحشر والوعد والوعيد والجنة والنار ولهذا ارتكبوا تأويل النصوص الدالة عليها بما يتنافى مع اللغة والدين. 4 - نسخ جميع الأديان ورسوم عبادتها والحدود الواردة فيها لعدم صلاحيتها للعالم في عصر التقدم ولهذا جاء البهاء بدينه الجديد للأحمر والأسود وقد رود في أحكامه: إن الصلاة تسع ركعات في البكور والزوال والآصال، وقد بطلت صلاة الجماعة، والقبلة عكا والحج إليها للرجال دون النساء، وتحريم الحجاب وإباحة السفور والاختلاط وجعل الحدود عقوبات مادية وغير ذلك من مفترياتهم وكذبهم. قال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيئٌ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب

الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} [الأنعام: 93]. طريقهم في الدعوة إلى مذهبهم مخاطبة أهل كل ملة ودين بما يوافق هواهم فتجد الداعية منهم مسلماً مع المسلمين، ويهودياً مع اليهود، يوهم أهل كل دين بأنه منهم وأنه يريد الإصلاح وإزالة الضغائن والتوفيق بين أهل المذاهب فإذا آنس الضعف من أحد أخذ يشككه في دينه وأورد عليه الشبه وأول الآيات بما ينطبق على مزاعمه في دينه ثم يدعوه إلى عبادة البشر والعياذ بالله. وهذا شأنهم في ممالك الشرق، خداع ونفاق مع المسلمين، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، أما في أوروبا وأمريكا فدعوتهم جهاراً لا يخشون حساباً. القاديانية (الأحمدية) هم أتباع غلام أحمد المولود في (قاديان) مركز بجانب مديرية كورداسور بامند سنة 1252 هـ. وقد ظلوا فرقة واحدة مدة حياته وأيام خليفته نور الدين. وفي آخر حياة نور الدين ابتدأ الخلاف وكان من أثره انقسامها بعد وفاته إلى شعبتين: 1 - شعبة قاديان: ورئيسهم محمود بن غلام أحمد. 2 - شعبة لاهور: وزعيمهم محمد علي الذي ترجم القرآن إلى اللغة الانجليزية. والشعبة الأولى تدين بنبوة أحمد، والثانية تعتقد أنه مصلح وهذا خلاف ما ورد في كتاب مبتدع النحلة من أنه مهدي ثم نبي مرسل ثم عيسى الموعود

به، وتوفي أحمد بعد حياة حافلة بنبوة تحرم الجهاد وتدعو إلى مساعدة الإنجليز، لأنهم أرباب نعمته وأصحاب الفضل عليه في حمايته ونشر دعوته. مبادئ القاديانية 1 - القول بعدم ختم النبوة وتأويل ما يدل على ختمها. 2 - غلام أحمد هو المهدي والنبي المؤيد لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وهو المسيح الموعود به. 3 - باب الوحي مفتوح للناس وقد نزل عليه ويسمعه بعض أتباعه. 4 - تحريم الجهاد والدعوة لطاعة ولاة أمر الانجليز. 5 - قاديان ومسجدها تماثل مكة ومسجدها، والحج إليها مثل الحج إلى مكة فهي ثالث الأماكن المقدسة. 6 - تكفير من لا يصدق به من المسلمين وتمثيلهم باليهود الذين كذبوا المسيح (يعني نفسه) في السلسلة المحمدية. 7 - تفضيله وتفضيل أتباعه على جميع الأنبياء وأتباعهم. 8 - ادعاؤهم أن المعنى المقصود من الآيات لا يدركها إلا المسيح القادياني، وإنكارهم أن سنة الرسول أصل في التشريع وهم يدعون الناس عن طريق أنهم مسلمون مصلحون. والقاديانية والبهائية أخطر أصحاب المذاهب على الأمم الإسلامية وأشد كفراً من اليهود والنصارى والمجوس. ويبطل دعوتهم ما قدمناه من ثبوت عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وختمها للرسالات، وهم منتشرون في البلاد الإسلامية يعاونهم الاستعمار بسلطانه الخفي وماله، لأنهم أعوانه وأداته في إشاعة الفساد بين المسلمين. (¬1) ¬

(¬1) أ. هـ. كتاب التوحيد والفرق للشيخ حسين متولي.

خاتمة

خاتمة أيها القارئ الكريم: قدمت إليك كتاب (تبسيط العقائد الإسلامية) رجاء أن يملأ أهم جانب من جوانب الفراغ الذي يشعر به الجيل المعاصر، وأن يكون مبارك النفع هادياً إلى طريق النجاة والسعادة، دافعاً إلى انطلاقة سليمة تجدد آمال أمتنا، وتحيي موات قلوبها، وتأخذ بأيديها إلى ربها، لتشعر بلذة معرفته، وسعادة الحياة معه، ومتعة العمل والجهاد في سبيله. وقد حاولت قدر المستطاع الإلمام بأهم القضايا المتصلة بالعقيدة الإسلامية، وتقديمها إلى القارئ مدعمة بالأدلة القوية، ليجد زاده منها ميسراً، وليصير على علم بما يجب اعتقاده. ويستطيع أن يفيض من علمه هذا على أهله وذوي قرباه والمتصلين به. والله نسأل أن يجعل منه منار هداية للسائرين، وحجة دامغة للمعاندين، والمكابرين. إنه سميع مجيب.

المراجع

المراجع 1 - تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير. 2 - تفسير القرآن للإمام النسفي. 3 - تفسير القرآن للإمام الشوكاني. 4 - شرح النووي على صحيح مسلم للإمام النووي. 5 - فتح الباري شرح البخاري لابن حجر. 6 - زاد المعاد لابن القيم. 7 - طريق الهجرتين لابن القيم. 8 - الشفاء للقاضي عياض. 9 - الفتاوى الكبرى لابن تيمية. 10 - عصمة الأنبياء للفخر الرازي. 11 - الرسالة الحميدية لحسين أفندي الجسر. 12 - رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده. 13 - الدين الخالص للشيخ محمود خطاب السبكي. 14 - عقيد المسلم للشيخ محمد الغزالي السقا. 15 - التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب. 16 - لقط المرجان في أحكام الجان لابن القيم. 17 - آكام المرجان في غرائب وأحكام الجان للقاضي بدر الدين الشبلي. 18 - مذكرة التوحيد والفرق الإسلامية للشيخ حسين متولي. 19 - الدين والحياة للمكتب الفني بوزارة الأوقاف المصرية. 20 - إحياء علوم الدين للإمام الغزالي. 21 - الروح لابن القيم. 22 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم. 23 - فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.

24 - دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي. 25 - لغز الحياة للدكتور مصطفى محمود. 26 - الله جل جلاله لسعيد حوى. 27 - جواهر القرآن لطنطاوي جوهري. 28 - تفسير المنار لمحمد رشيد رضا. 29 - رياض الصالحين للإمام النووي. 30 - الترغيب والترهيب للمنذري. 31 - الروضة الندية للقنوجي. 32 - تفسير الفخر الرازي. 33 - الإسلام وحاجة الإنسانية إليه للدكتور محمد يوسف موسى. 34 - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز. 35 - شرح العقائد النسفية للتفتازاني.

§1/1