تبريد حرارة المصيبة عند موت الأحباب وفقد ثمرات الأفئدة وفلذات الأكباد في ضوء الكتاب والسنة
سعيد بن وهف القحطاني
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه رسالة مختصرة في: ((تبريد حرارة المصيبة عند موت الأحباب وفقد ثمرات الأفئدة وفلذات الأكباد)) كتبتُ أصلها في يوم 21/ 7/1417هـ عندما فقد بعض الإخوة الأحباب بعض أولاده، أعظم الله أجره على مصابه، ولا حرمه جزيل ثوابه، وألهمه التسليم لأمره، والرضى بالقضاء: حلوه ومرّه، وأخلف عليه من مصابه أحسن الخلف بمنه وكرمه، وقد جمعت فيها بعض الآيات والأحاديث وأرسلتها إليه؛ لتبرِّد حرّ مصيبته ويحتسب ويصبر، ثم كنت بعد ذلك أرسلها إلى كل من بلغني أنه مات له أحد من أولاده في مناسبات عديدة ولله الحمد، ثم تكررت المناسبات العظام في الابتلاء والمحن، والمصائب الجسيمة، لكثير من الأحباب، جبر الله مصيبة كل مسلم مصاب، فرأيت أن أضيف إليها بعض الآيات والأحاديث؛ ليبرِّد بها كل مسلم مصاب
حرارة مصيبته، وخاصة من أصيب بثمرات الأفئدة وفلذات الأكباد (¬1). وأرجو الله - عز وجل - أن يفتح قلوب الأحباب لاقتناء هذه الرسالة ثم إهدائها لمن أصابته مصيبة بفقد فلذات الأكباد وثمرات الأفئدة، أو موت الأحباب تعزية لهم وتبريدًا لحرارة مصيبتهم، ويبشر بالأجر؛ لحديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من مؤمن يُعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة)) (¬2). ولا شك أن المسلم المصاب إذا قرأ هذه الآيات والأحاديث انشرح صدره، وبردت حرارة مصيبته، وفرج كربه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من نفَّس عن مؤمن كربة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) (¬3). ولله در القائل: الصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل والله أسأل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجعل هذا العمل ¬
خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن يبرِّد به حرارة كبد كل مسلم مصاب، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. المؤلف أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر بعد عصر يوم الجمعة الموافق 6/ 10/1422هـ
1 - صلوات الله ورحمته وهدايته للصابرين
بسم الله الرحمن الرحيم من سعيد بن علي بن وهف القحطاني إلى كُلِّ مسلمٍ مُصابٍ بمصيبةِ موت الأحباب، أو فقد فلذات الأكباد، وثمرات الأفئدة، جبر الله مصيبتهم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فالله أسأل أن يُحسن عزاءكم، وأن يجمعكم ومن فقدتم في الفردوس الأعلى من الجنة، واعلموا ((أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبروا واحتسبوا)) (¬1)، وأبشروا بما وعد الله عباده المؤمنين الصابرين، وإليكم ما تطمئنُّ به قلوبكم، ويُبرِّد حرّ مصيبتكم العظيمة، ويشرح صدوركم، ويذهب همومكم وغمومكم من كلام ربكم الكريم، الحكيم، الرؤوف، الرحيم، الذي هو أرحم بالعباد من والديهم، ومن كلام نبيكم وقدوتكم وحبيبكم محمد - صلى الله عليه وسلم -: 1 - صلوات الله ورحمته وهدايته للصابرين: قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬2). {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي: بشرهم بأنهم يُوفَّوْن أجورهم بغير حساب، ¬
فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ}، وهي كلّ ما يُؤلم القلب أو البدن، أو كليهما، كما تقدم في الآيات، ومن ذلك موت الأحباب، والأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه، {قَالُواْ إِنَّا لله} أي مملوكون لله، مُدَبَّرون تحت أمره، وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأولادنا، وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء فقد تصرَّف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد: علمه بأن وقوع البلِيَّة من المالك الحكيم الذي هو أرحم بعبده من نفسه ووالدته، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره؛ لِمَا هو خير لعبده وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجاز كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفرًا عنده، وإن جزعنا وسخطنا لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله وراجع إليه من أقوى أسباب الصبر {أُولَئِكَ} الموصوفون بالصبر المذكور {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي ثناء من الله عليهم {وَرَحْمَةٌ} عظيمة، ومن رحمته إياهم أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع علمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به، وهو هنا: صبرهم لله (¬1). قال أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: ((نعم العدلان ونعمة العلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، فهذان العدلان، {وَأُولَئِكَ هُمُ ¬
2 - الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة
الْمُهْتَدُونَ}، فهذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا)) (¬1). 2 - الاستعانة بالصبر من أسباب السعادة، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬2). 3 - محبّة الله للصابرين، قال - عز وجل -: {وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬3). 4 - معيَّة الله مع الصابرين: قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬4). 5 - استحقاق دخول الجنة لمن صبر، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} (¬5). 6 - الصابرون يُوفَّون أجرهم بغير حساب، فلا يُوزن لهم، ولا يُكال لهم، إنما يُغرف لهم غرفًا، وبدون عدٍّ ولا حدٍّ، ولا مقدار (¬6)، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬7). 7 - جميع المصائب مكتوبة في اللوح المحفوظ، من قبل أن يخلق الله ¬
8 - ما أصاب من مصيبة في النفس
الخليقة ويبرأ النسمة، وهذا أمر عظيم لا تُحيط به العقول؛ بل تذهل عنده أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير (¬1)، قال الله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِير *، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬2). 8 - ما أصاب من مصيبة في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم إلا بقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علمه، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، فإذا آمن العبد أنها من عند الله فرضي بذلك وسلَّم لأمره، فله الثواب الجزيل، والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، ويهدي الله قلبه فيطمئن ولا ينزعج عند المصائب، ويرزقه الله الثبات عند ورودها، والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدَّخره الله له يوم الجزاء من الثواب (¬3)، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4)، قال علقمة عن عبد الله: {وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} هو الرجل الذي إذا أصابته مصيبة رضي بها وعرف أنها من الله)) (¬5). وما أحسن ما قال ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: ¬
9 - الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون
سبحان من يبتلي أناسًا ... أحبَّهم والبلاءُ عطاءُ فاصبرْ لبلْوى وكن راضيًا ... فإن هذا هو الدواءُ سلِّمْ إلى الله ما قضاه ... ويفعل الله ما يشاء (¬1) 9 - الله تعالى يجزي الصابرين بأحسن ما كانوا يعملون، قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَسَمٌ من الرب تعالى مؤكَّد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة؛ فإن الله لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملاً، أي ويتجاوز عن سيئاتهم (¬2)، ولله دَرُّ أبي يعلى الموصلي القائل: إني رأيت وفي الأيام تجربةٌ ... للصبر عاقبةٌ محمودةُ الأثر وقلّ من جدَّ في أمر يحاولُه ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر (¬3) 10 - ما يُقال عند المصيبة والجزاء والثواب والأجر العظيم على ذلك، فعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبدٍ تُصيبه مصيبةٌ فيقول: إنَّا لله، وإنَّا إليه راجعون، اللهم أْجُرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها)) قالت أم سلمة، فلما توفي أبو سلمة - رضي الله عنه - قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخلف الله لي خيرًا منه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: ((إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أجُرْني ¬
11 - الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة
في مصيبتي واخلِفْ لي خيرًا منها ... )) الحديث)) (¬1). وفي لفظ ابن ماجه: ((إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي، فأجُرْني فيها، وعوِّضني خيرًا منها)) (¬2). وحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسمّوه بيت الحمد)) (¬3). قال ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى: يجري القضاء وفيه الخير نافلة ... لمؤمن واثق بالله لا لاهي إن جاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ ... في الحالتين يقول الحمد لله (¬4) 11 - الأجر العظيم والثواب الكثير والفوز بالجنة لمن مات حبيبه المصافي فصبر، وطلب الأجر من الله تعالى، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) (¬5)، قوله: ((جزاء)) أي ثواب وقوله: ((إذا قبضت صَفِيَّه)) وهو الحبيب المصافي: كالولد، والأخ، وكل ما يحبه الإنسان، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت .. وقوله: ((ثم ¬
12 - أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل
احتسبه إلا الجنة))، والمراد: صَبَر على فقده راجيًا من الله الأجر والثواب على ذلك. والاحتساب: طلب الأجر من الله تعالى خالصًا. ووجه الدلالة من هذا الحديث ((أن الصفيَّ أعمّ من أن يكون ولدًا أم غيره، وقد أفرد ورتّب الثواب بالجنة لمن مات له فاحتسبه)) (¬1). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((صفيه: حبيبه: كولده، أو أبيه، أو أمه، أو زوجته)) (¬2). 12 - أشدّ الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ لحديث مصعب بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل: يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقةً ابتُلِيَ على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) (¬3). أكثر وأصعب بلاء: أي محنة ومصيبة؛ لأنهم لو لم يُبتلوا لتُوهِّم فيهم الألوهية؛ وليتوهن على الأمة الصبر على البلية؛ ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرُّعًا، والتجاءً إلى الله تعالى ((ثم الأمثل فالأمثل)) أي ¬
13 - من كان بلاؤه أكثر فثوابه وجزاؤه أعظم وأكمل
الفضلاء، والأشرف فالأشرف، والأعلى فالأعلى رتبة ومنزلة، فكل من كان أقرب إلى الله يكون بلاؤه أشد؛ ليكون ثوابه أكثر ((فإن كان في دينه صلبًا)) أي قويًا شديدًا ((اشتد بلاؤه)) أي كميَّة وكيفيَّة ((فما يبرح البلاء)) أي ما يفارق (¬1). ومما يزيد ذلك وضوحًا وتفسيرًا، حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه: ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلِّغه إياها)) (¬2). 13 - من كان بلاؤه أكثر فثوابه وجزاؤه أعظم وأكمل؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) (¬3). والمقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه لا الترغيب في طلبه للنهي عنه، فمن رضي بما ابتلاه الله به فله الرضى منه تعالى وجزيل الثواب، ومن سَخِطَ: أي كره بلاء الله وفزع ولم يرض بقضائه تعالى، فله السخط منه تعالى وأليم العذاب، ومن يعمل سوءًا يُجز به (¬4). ¬
14 - ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله وما عليه خطيئة
ولا شك أن الصبر ضياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والصبر ضياء)) (¬1). والضياء: هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق كضياء الشمس، بخلاف القمر، فإنه نور محض فيه إشراق بغير إحراق، ولَمّا كان الصبر شاقًّا على النفوس يحتاج إلى مجاهدة النفس، وحبسها، وكفّها عما تهواه، كان ضياءً (¬2)؛ ولهذا - والله أعلم - يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب، بفضل الله - عز وجل -. 14 - ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله وما عليه خطيئة؛ لأنها زالت بسبب البلاء (¬3)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة: في نفسه، وماله، وولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) (¬4). 15 - فضل من يموت له ولد فيحتسبه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث (¬5) إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم)) (¬6). ¬
15 - فضل من يموت له ولد فيحتسبه
والولد يشمل الذكر والأنثى. وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تعدُّون الرّقوب (¬1) فيكم))؟ قال: قلنا: الذي لا يُولد له. قال: ((ليس ذاك بالرّقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدِّم من ولده شيئًا)) (¬2). 16 - من مات له ثلاثة من الولد كانوا له حجابًا من النار؛ ودخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابًا من النار أو دخل الجنة)) (¬3). وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة مات لها ثلاثة من الولد: ((لقد احتظرت بحظار شديد (¬4) من النار)) (¬5)؛ ولحديث عتبة بن عبدٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا تلقَّوْه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)) (¬6). 17 - من قدّم اثنين من أولاده دخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن ¬
18 - من مات له واحد من أولاده فاحتسبه وصبر دخل الجنة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنسوة من الأنصار: ((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة))، فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: ((أو اثنين)) (¬1)، قال النووي رحمه الله: وقد جاء في غير مسلم ((وواحد)) (¬2). وعن أبي صالح ذكوان عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تُعلّمنا مما علّمك الله، قال: ((اجتمعن يوم كذا وكذا))، فاجتمعن فأتاهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلمهن مما علمه الله قال: ((ما منكن من امرأة تقدّم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كانوا لها حجابًا من النار))، فقالت امرأة: واثنين، واثنين، واثنين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((واثنين، واثنين، واثنين)) (¬3). 18 - من مات له واحد من أولاده فاحتسبه وصبر دخل الجنة؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفّيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا ¬
19 - من مات له ولد فاحتسبه وجده ينتظره عند باب الجنة
الجنة)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وهذا يدخل فيه الواحد فما فوقه وهو أصحّ ما ورد في ذلك، وقوله: ((فاحتسب)) أي صبر راضيًا بقضاء الله راجيًا فضله)) (¬2)، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه يدخل في ذلك حديث قرة بن إياس، وسيأتي في الحديث الآتي (¬3). وسيأتي أيضًا حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسمّوه بيت الحمد))، فهو يدلّ على أن من مات له ولد واحد دخل الجنة (¬4). 19 - من مات له ولد فاحتسبه وجده ينتظره عند باب الجنة، بفضل الله - عز وجل - ورحمته؛ لحديث قرّة بن إياس - رضي الله عنه - أن رجلاً كان يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ابن له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتحبه))؟ فقال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ما فعل ابن فلان))؟ قالوا: يا رسول الله مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه: ((أما تحبّ أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟)) فقال رجل: يا رسول الله: أله خاصة أو لكُلِّنا؟ فقال: ((بل لِكُلِّكم))، ولفظ النسائي: ((ما يسرّك أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك؟)) (¬5). ¬
20 - المؤمن إذا مات ولده سواء كان ذكرا أو أنثى وصبر واحتسب وحمد الله على تدبيره
20 - المؤمن إذا مات ولده سواء كان ذكرًا أو أنثى وصبر واحتسب وحمد الله على تدبيره وقضائه بنى الله له بيتًا في الجنة وسماه بيت الحمد؛ لحديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسمّوه بيت الحمد)) (¬1). وعن أبي سلمى راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعه: ((بخٍ بخٍ - وأشار بيده لخمس - ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والولد الصالح يُتوَفَّى للمرء المسلم فيحتسبه)) (¬2). 21 - السِّقط يجرّ أمّه بِسُرِّهِ إلى الجنة؛ لحديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: ((والذي نفسي بيده إن السقط ليجرُّ أُمَّهُ بسَرَرِه إلى الجنة إذا احتسبته)) (¬3). 22 - ومما يشرح صدر المسلم ويبرِّد حرَّ مصيبته أن أولاد المسلمين في ¬
الجنة، قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن ساق الأحاديث في فضل من يموت له ولد فيحتسبه: ((وفي هذه الأحاديث دليل على كون أطفال المسلمين في الجنة، وقد نقل جماعة فيهم إجماع المسلمين))، ونقل عن المازري قوله: ((ونقل جماعة الإجماع في كونهم من أهل الجنة قطعًا؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (¬1) (¬2). ويدل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أولاد المسلمين في الجنة، ((وأن أحدهم يلقى أباه فيأخذ بثوبه أو بيده فلا يتركه حتى يدخله الله وأباه، أو قال: أبويه الجنة)) (¬3). وسمعت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله يقول: ((أجمع المسلمون على أن أولاد المسلمين في الجنة، أما أولاد الكفار ففيهم خلاف، وأصح ماقيل فيهم أنهم يُمتحنون يوم القيامة، أو هم من أهل الجنة بدون امتحان، وهو أصحّ)) (¬4). وهو الصواب (¬5)؛ لحديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - في الحديث الطويل وفيه: ((وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة))، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬
23 - من تصبر ودرب نفسه على الصبر صبره الله وأعانه وسدده
((وأولاد المشركين)) (¬1). 23 - من تصبّر ودرَّب نفسه على الصبر صبَّره الله وأعانه وسدّده؛ لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ((ومن يستعفف يُعفّه الله، ومن يستغنِ يُغْنِهِ الله، ومن يتصبَّر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)) (¬2). 24 - من أراد الله به خيرًا أصابه بالمصائب؛ ليثيبه عليها (¬3)؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرد الله به خيرًا يُصب منه)) (¬4). وسمعت شيخنا عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((أي بالمصائب بأنواعها، وحتى يتذكّر فيتوب، ويرجع إلى ربه)) (¬5). 25 - أمر المؤمن كله خير في السرّاء والضرّاء، وفي الشدّة والرّخاء؛ لحديث صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له)) (¬6). ¬
26 - المصيبة تحط الخطايا حطا كما تحط الشجرة ورقها
26 - المصيبة تحطّ الخطايا حطًّا كما تحطّ الشجرة ورقها؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يُشاكها)) (¬1). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من مسلم يُصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطَّ الله به سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها)) (¬2). وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما يُصيب المؤمن من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ حتى الشوكةُ يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه)) (¬3)، وفي لفظ: ((ما يُصيب المؤمنَ من وَصَبٍ (¬4)، ولا نَصَبٍ (¬5)، ولا سَقَم ... )). 27 - يجتهد المسلم في استكمال شروط الصبر التي إذا عمل بها المصاب المسلم حصل على الثواب العظيم، والأجر الجزيل، وتتلخص هذه الشروط في ثلاثة أمور: الشرط الأول: الإخلاص لله - عز وجل - في الصبر؛ لقول الله - عز وجل -: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، ولقوله - عز وجل - في صفات أصحاب العقول السليمة: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً ¬
الشرط الثاني: عدم شكوى الله تعالى إلى العباد
وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (¬1)، وهذا هو الإخلاص في الصبر المبرّأ من شوائب الرياء وحظوظ النفس. الشرط الثاني: عدم شكوى الله تعالى إلى العباد؛ لأن ذلك ينافي الصبر ويخرجه إلى السخط والجزع؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي المؤمن ولم يشكني إلى عوّاده أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ثم يستأنف العمل)) (¬2). ولله دَرُّ الشاعر الحكيم حيث قال: وإذا عرتك بليّةٌ فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلمُ وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم (¬3) الشرط الثالث: أن يكون الصبر في أوانه، ولا يكون بعد انتهاء زمانه؛ لحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتّقِ الله واصبري)) [فقالت]: إليك عنِّي فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (¬4). أي الصبر ¬
28 - أمور لا تنافي الصبر ولا بأس بها
الكامل الذي يترتّب عليه الأجر الجزيل؛ لكثرة المشقة فيه، وأصل الصدم الضرب في شيء صلب، ثم استعمل مجازًا في كل مكروه حصل بغتة (¬1). 28 - أمور لا تنافي الصبر ولا بأس بها، منها ما يأتي: الأمر الأول: الشكوى إلى الله تعالى؛ فالتضرّع إليه، ودعاؤه في أوقات الشدّة عبادة عظيمة، فإن الله أخبر عن يعقوب بقوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬2). وقال تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬3). وقال تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬4). وأيوب عليه الصلاة والسلام أخبر الله عنه بقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬5). وقال الله تعالى عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬6)، فإذا أصاب العبدَ مصيبةٌ فأنزلها بالله، وطلب كشفها منه فلا ينافي الصبر (¬7). ¬
الأمر الثاني: الحزن ودمع العين
الأمر الثاني: الحزن ودمع العين؛ فإن ذلك قد حصل لأكمل الخلق نبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: دخلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سيف القين (¬1) - وكان ظئرًا (¬2) لإبراهيم - عليه السلام - فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم فقبَّله وشمَّهُ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه (¬3)، فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان (¬4)، فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله (¬5)؟ فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة)) ثم أتبعها بأخرى (¬6) فقال: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) (¬7). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه: فقلت يا رسول الله تبكي أَوَلَمْ تَنْهَ عن البكاء؟ وزاد فيه: ((إنما ¬
نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهوٍ ولعبٍ ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه، وشق جيوب، ورنّة شيطان)). قال: ((إنما هذا رحمة، ومن لا يَرحم لا يُرحم)) (¬1). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمّه، ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الإخبار عن الحزن، وإن كان الكتمان أولى، وفيه وقوع الخطاب للغير، وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما: صغره، والثاني نزاعه. وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله؛ ليظهر الفرق)) (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي [- صلى الله عليه وسلم -] يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، - رضي الله عنهم -، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله (¬3) فقال: ((قد قضى))؟ قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بَكَوْا، فقال: ((ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذِّبُ ¬
بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذِّب بهذا (¬1) - وأشار إلى لسانه - أو يرحم (¬2)، وإن الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه)) (¬3)، وكان عمر - رضي الله عنه - يضرب فيه بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب)) (¬4). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرّر عنده العلم بأن مجرّد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر)) (¬5). وفي حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - في قصةٍ لصبي لإحدى بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرسول ابنته: ((ارجع إليها فأخبرها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب))، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقسمت عليه أن يحضر، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأسامة معهم، وحينما رُفع الصبي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في النزع، فاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده ¬
29 - الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب كثيرة منها ما يأتي:
الرحماء)) (¬1). وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((شهدنا بنتًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان)) (¬2). 29 - الأمور التي تعين على الصبر على المصيبة بفقد الأحباب كثيرة منها ما يأتي: الأمر الأول: معرفة جزاء المصيبة وثوابها وهذا من أعظم العلاج الذي يُبَرِّد حرارة المصيبة، وتقدمت الأدلة على ذلك. الأمر الثاني: العلم بتكفيرها للسيئات وحطّها كما تحطّ الشجرة ورقها (¬3). الأمر الثالث: الإيمان بالقدر السابق بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب كما تقدم. الأمر الرابع: معرفة حق الله في تلك البلوى، فعليه الصبر والرضا، والحمد والاسترجاع والاحتساب. الأمر الخامس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، فإن لم يوفِ قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق. الأمر السادس: العلم بترتّبها عليه بذنبه، فإن لم يكن له ذنب كالأنبياء والرسل فلرفع درجاته. ¬
الأمر السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة دواء نافع ساقه إليه العليم
الأمر السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة دواء نافع ساقه إليه العليم بمصلحته، الرحيم به، فليصبر ولا يسخط ولا يشكو إلى غير الله فيذهب نفعه باطلاً. الأمر الثامن: أن يعلم أن عاقبة هذا الدواء: من الشفاء والعافية والصحة وزوال الآلام ما لم تحصل بدونه، قال الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬2). الأمر التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبيّن حينئذٍ: هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. الأمر العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السرّاء والضرّاء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال (¬3). الأمر الحادي عشر: معرفة طبيعة الحياة الدنيا على حقيقتها؛ فهي ليست جنة نعيم ولا دار مقام، إنما ممرّ ابتلاء وتكليف؛ لذلك فالكيِّس ¬
الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه
الفطن لا يفجأ بكوارثها، ولله دَرُّ القائل: إن لله عبادًا فُطَنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلمّا علموا ... أنها ليست لحيٍّ وطنا جعلوها لُجَّةً واتخذوا ... صالحَ الأعمال فيها سفنا فالحياة الدنيا لا تستقيم على حال، ولا يقر لها قرار، فيوم لك، ويوم آخر عليك، قال الله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬1). وقد أحسن أبو البقاء الرندي القائل: لكل شيء إذا ما تمَّ نُقصان ... فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسان هي الأيام كما شاهدتَها دول ... فمن سرَّه زمنٌ ساءته أزمان (¬2) الأمر الثاني عشر: معرفة الإنسان نفسه؛ فإن الله هو الذي منح الإنسان الحياة فخلقه من عدم إلى وجود، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فهو ملك لله أولاً وآخرًا، وصدق لبيد بن ربيعة - رضي الله عنه - القائل: وما المال والأهلون إلا ودائعُ ... ولا بُدَّ يومًا أن ترد الودائع الأمر الثالث عشر: اليقين بالفرج، فنصر الله قريب من المحسنين، وبعد الضيق سعة، ومع العسر يسرًا؛ لأن الله وعد بهذا، ولا يخلف ¬
الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله
الميعاد، وقال سبحانه: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). وقد أحسن القائل: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعًا وعند الله منها المخرجُ ضاقت فلما استحكمت ... حلقاتها فُرجت وكنت أظنها لا تفرجُ وقد وعد الله - عز وجل - بحسن العوض عما فات؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬2). ولله دَرُّ القائل: وكل كسرٍ فإن الله يجبرُه ... وما لكسرِ قناةِ الدين جبرانُ (¬3) الأمر الرابع عشر: الاستعانة بالله، فما على العبد إلا أن يستعين بربه أن يعينه، ويجبر مصيبته، قال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬4)، ومن كانت معية الله معه فهو حقيق أن يتحمل ويصبر على الأذى. ¬
الأمر الخامس عشر: التأسي بأهل الصبر والعزائم
الأمر الخامس عشر: التأسّي بأهل الصبر والعزائم، فالتأمل في سير الصابرين وما لاقوه من ألوان الابتلاء والشدائد يعين على الصبر، ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (¬1). الأمر السادس عشر: استصغار المصيبة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس أيما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليه من مصيبتي)) (¬2). وكتب بعض العقلاء إلى أخ له يعزّيه عن ابن له يقال له: محمد، فنظم الحديث الآنف شعرًا فقال: اصبر لكل مصيبة وتجلَّدِ ... واعلم بأن المرء غير مخلّدِ (¬3) وإذا ذكرت محمدًا ومصابَهُ ... فاذكر مصابك بالنبي محمّد الأمر السابع عشر: العلم أن المصيبة في غير الدين أهون وأيسر عند المؤمن، ولله دَرُّ القائل: وكل كسرٍ فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران وذكر أن امرأة من العرب مرت بابنين لها وقد قتلوا، فقالت: الحمد لله رب العالمين، ثم قالت: ¬
الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة
وكل بلوى تصيب المرء عافية ... ما يُصَبْ يومًا يلقى الله في النار (¬1) الأمر الثامن عشر: العلم بأن الدنيا فانية وزائلة، وكل ما فيها يتغير ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنة: أما الأدلة من الكتاب، فعلى النحو الآتي: 1 - قال الله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). 2 - وقال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). 3 - وقال - عز وجل -: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} (¬4). ¬
4 - وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} (¬1). 5 - وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). 6 - وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬3). 7 - وقال الله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬4). 8 - وقال سبحانه: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (¬5). 9 - وقال الله - عز وجل -: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬6). 10 - وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ¬
وأما الأدلة من السنة المطهرة.
الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1). 11 - وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬2). 12 - وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (¬3). وأما الأدلة من السنة المطهرة، فقد زهَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - النَّاس في الدنيا، ورغَّبهم في الآخرة، بفعله وقوله - صلى الله عليه وسلم -، على النحو الآتي. 1 - أما فعله فمنه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يشبع من خبز الشعير)) (¬4). 2 - وقالت: ((ما أكل آل محمد أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر)) (¬5). 3 - وقالت: ((إنا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار، فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء)) (¬6). 4 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كان لي مثل أُحد ذهبًا ما يسرني أن لا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء إلا شيء أرصُدُهُ لدَيْن)) (¬7). ¬
5 - وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه اضطجع على حصير فأثَّر في جنبه، فدخل عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: يا رسول الله لو أخذت فراشًا أوثر من هذا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ سار في يومٍ صائفٍ فاستظلّ تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها)) (¬1). 6 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض)) (¬2). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالبًا كان بسبب قلة الشيء عندهم، على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم (¬3). 7 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدَم وحشوُهُ ليف)) (¬4). 8 - ومع هذا كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا)) (¬5). 9 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((قد أفلح من أسلم، ورُزِق كفافًا، وقنَّعَهُ الله بما آتاه)) (¬6). ¬
وأما قوله في التزهيد في الدنيا والتحذير من الاغترار بها، فكثير، ومنه: 10 - حديث مطرف عن أبيه - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: ((يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت)) (¬1). 11 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، [و] ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه الناس)) (¬2). 12 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة لأصحابه: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله))؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحدٌ إلا ماله أحب إليه. قال: ((فإن ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر)) (¬3). 13 - ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - السوق يومًا فمرَّ بجدي صغير الأذنين ميت، فأخذه بأذنه ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم))؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبون أنه لكم))؟ قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسكٌّ (¬4)، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) (¬5). ¬
14 - وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) (¬1). والدنيا مذمومة إذا لم تستخدم في طاعة الله - عز وجل -: 15 - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونةٌ، ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله، وما والاهُ، وعالمٌ، أو متعلم)) (¬2)، وهذا يؤكد أن الدنيا مذمومة، مبغوضة من الله وما فيها، مبعدة من رحمة الله إلا ما كان طاعة لله - عز وجل -؛ ولهوانها على الله - عز وجل - لم يبلِّغ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها وهو أحب الخلق إليه. 16 - فقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير (¬3). وقوله: ((وما والاه)) أي ما يحبه الله من أعمال البر، وأفعال القُرَب، وهذا يحتوي على جميع الخيرات، والفاضلات، ومستحسنات الشرع، وقوله: ((وعالم أو متعلم)) العالم والمتعلم: العلماء بالله، الجامعون بين العلم والعمل، فيخرج منه الجهلاء، والعالم الذي لم يعمل بعلمه، ومن يعلم علم الفضول، وما لا يتعلق بالدين. والرفع في ((عالم أو متعلم)) على التأويل: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمدُ مما فيها ((إلا ذكر الله وما والاه، ¬
وعالم أو متعلم)) (¬1)،فإذا رأى العاقل من ينافسه في الدنيا فعليه أن ينصحه ويحذّره وينافسه في الآخرة (¬2). 17 - وفي قصة أبي عبيدة - رضي الله عنه - عندما قدم بمال من البحرين فجاءت الأنصار وحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، فلمَّا صلى بهم الفجر، تعرَّضوا له، فتبسَّم حين رآهم وقال: ((أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء))؟ قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا، وأمِّلوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم))، وفي رواية: ((وتلهيكم كما ألهتهم)) (¬3). 18 - وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض))، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا))، ثم قال: ((إن هذا المال خَضِرَة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع [ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة])) (¬4). ¬
19 - وقال خَبَّابٌ - رضي الله عنه -: ((إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب)) (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((أي الذي يوضع في البنيان وهو محمول على ما زاد على الحاجة)) (¬2). وذكر رحمه الله آثارًا كثيرة في ذمّ البنيان ثم قال: ((وهذا كله محمول على ما لا تمسُّ الحاجة إليه مما لا بدَّ منه للتوطّن، وما يقي البرد والحرّ)) (¬3). والمسلم إذا لم يجعل الدنيا أكبر همه وفقه الله وأعانه. 20 - فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ قلبك غنىً، وأملأ يديك رزقًا، يا ابن آدم لا تباعد عني فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً)) (¬4). 21 - وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسدَّ فقرك)) (¬5). قال ذلك عندما تلا: {مَن كَانَ ¬
يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} (¬1). ولا شك أن كل عمل صالح يُبتغى به وجه الله فهو عبادة، بل وحتى الأعمال المباحة. 22 - وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) (¬2). 23 - وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كانت الآخرة همّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)) (¬3). 24 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحب دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)) (¬4). ¬
الأمر التاسع عشر: العلم بأن الله تعالى يجمع بين المؤمن وذريته
25 - وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه لَمّا حضرته الوفاة قال: يا معشر الأشعريين ليُبلِّغ الشاهد الغائب، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((حلاوة الدنيا مرةُ الآخرة، ومرةُ الدنيا حلاوة الآخرة)) (¬1). الأمر التاسع عشر: العلم بأن الله تعالى يجمع بين المؤمن وذريته، ووالديه وأهله، ومن يحب في الجنة، وهذا الاجتماع الذي لا فراق بعده لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} (¬2)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((يخبر تعالى عن فضله وكرمه، وامتنانه، ولطفه بخلقه، وإحسانه: أن المؤمنين إذا اتّبعتهم ذرّيتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم؛ لتقرَّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذلك)) (¬3). وهذا فضله تعالى على الأولاد ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأولاد فثبت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رَبّ أنَّى لي هذه؟ فيقول: ¬
باستغفار ولدك لك)) (¬1). قال العلامة السعدي رحمه الله: ((وهذا من تمام نعيم أهل الجنة أن أَلحق الله بهم ذريتهم الذين اتّبعوهم بإيمان: أي الذين لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم فصارت الذرية تبعًا لهم بالإيمان، ومن باب أولى إذا تبعتهم ذريتهم بإيمانهم الصادر منهم أنفسهم، فهؤلاء المذكورون يلحقهم الله بمنازل آبائهم في الجنة، وإن لم يبلغوها، جزاء لآبائهم، وزيادة في ثوابهم، ومع ذلك لا ينقص الله الآباء من أعمالهم شيئًا)) (¬2). وهذا هو الفوز العظيم. نسأل الله تعالى أن يجمعنا في الفردوس الأعلى مع آبائنا، وذرّيّاتنا، وأزواجنا، وجميع أهلينا وأحبابنا في الله تعالى؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. ولا شك أن من فارق ذريته وأهله، وأحبابه في الآخرة فقد خسر خسرانًا مبينًا، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (¬3) أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبدًا، وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أسكنوا النار، ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور، ¬
وهذا هو الخسران المبين الظاهر الواضح (¬1). وقال الله - عز وجل -: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (¬2)، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ((أي ذُهِبَ بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم، وأصحابهم، وأهاليهم، وقراباتهم فخسروهم)) (¬3). وقد ذُكِرَ أن بعض الصالحين مات له ابن فجزع عليه جزعًا شديدًا، حتى امتنع من الطعام والشراب، فبلغ ذلك الإمام محمد بن إدريس الشافعي، فكتب إليه ومما كتب إليه: إني معزِّيك لا أنِّي على ثقةٍ ... من الحياة ولكن سنة الدين فما المعزَّى بباقٍ بعد ميته ... ولا المعزِّي ولو عاشا إلى حين (¬4) والله أسأل أن يحسن الختام وأن يجعل هذا العمل نافعًا لي ولكل من بلغ إليه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ¬