تاريخ نزول القرآن

محمد رأفت سعيد

مقدمة

مقدمة تاريخ نزول القرآن الكريم الأستاذ الدكتور محمد رأفت سعيد أستاذ الشريعة والدراسات الإسلامية وكيل كلية الآداب- جامعة المنوفية عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك، ونصلى ونسلم على خاتم أنبيائك ورسلك سيدنا محمد. وبعد: فإن مدارسة موضوع تاريخ نزول القرآن الكريم تفتح أمامنا روضات نرتع فيها، يأخذ القلب فيها حظه من ركائز الإيمان وبرد اليقين، وتأخذ النفس حظها من التزكية والسكينة، ويأخذ العقل حظه من الصقل، والانطلاقة الرشيدة إلى الحركة العلمية النشيطة، والتأمل والتدبر فى الأنفس والآفاق. وتأخذ الحياة كلها حظها من الهدى والنور الذى يبدد ظلماتها ويهديها للتى هى أقوم فى جوانبها ونظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقضائية وغيرها إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 7] إن مدارسة تاريخ نزول القرآن الكريم حياة فى رحابه منذ أن قال جبريل عليه السّلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرأ» إلى أن أكمل الله الدين، وأتم النعمة، وختم آياته المتلوة المعجزة بآخر آية من كلامه العزيز. فما أعظمها من حياة ونحن ننصت خاشعين إلى صوت الوحى، ونتتبع تنزلاته المباركة والتى تنزل ابتداء، أو تجيب عن تساؤل يوجه، أو تحل مشكلة قائمة، أو تمنح تجارب الأمم السابقة لهذه الأمة الخاتمة؛ فى قصة قرآنية محكمة، أو تقدم وصايا غالية لا غنى عنها، أو تجتث عقائد باطلة بالبرهان العقلى القوى، وتبنى وترسخ العقيدة الصحيحة الصافية النقية بالبرهان العقلى نفسه، والجيشان العاطفى القلبى، أو تعرفنا معرفة يقينية بأسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلا، أو تقدم لنا الإشباع العقلى عن العالم الذى لا سبيل للعقل فى الوصول إليه بمنهج الاستقراء المادى التجريبى، فتقدم لنا أخبارا هى الحق والصدق واليقين عن عالم الغيب وما فيه، وعن مصير الإنسان بعد لقاء ربه، عن قبره وبعثه وجزائه، وجنته وناره، وما أعد من نعيم لأهل الجنة يأخذ باللب، ويدفع إلى المسارعة فى الخيرات، وما توعد به أهل الكفر والمعاصى من صنوف العذاب لكى تحجز الكفر وأهله من العبث فى هذه الحياة الدنيا، وإفسادها بالظلم للنفس

وللآخرين من المستضعفين. أو تقدم لنا ترشيدا وتوجيها لأخلاقنا حتى نصل إلى مكارم الأخلاق، ولعلاقاتنا حتى نصل إلى مجتمع المودة والرحمة، أو لمكانتنا بين الأمم لنصل إلى مكانة العزة والمنعة والهيبة، أو لمسيرتنا الاقتصادية حتى لا نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وحتى نسعى جادين فى حرث الأرض، وتطوير الصناعات، والتعاون على البر والتقوى بتحقيق التكامل الاقتصادى الذى يغنى الأمة عن غيرها ويحررها من التبعية أيا كان شكلها، أو يقدم لنا نظام القسط والعدل فى الحكم بين الناس فلا ظلم ولا ميل مع العصبية أو الهوى. إنها حياة فى أرقى صورها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 34]. إن العيش فى رحاب تاريخ نزول القرآن الكريم نعمة تجمع لنا متعة التدبر لوحى الله فى تنزيله القرآنى أى فى كلامه الكريم المتلو المعجز والذى تعبدنا بتلاوته، وأثابنا على ذلك بوعده الذى جاء فى حديث رسوله صلّى الله عليه وسلم بمنح عشر حسنات على الحرف الواحد من كلامه. «اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته؛ كل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها؛ لا أقول «الم» حرف، ولكن «ألف» حرف، و «لام» حرف، و «ميم» حرف». وتجمع لنا كذلك متعة العيش فى ظلال السنة المطهرة، وكيف كان رسول الله يتلقى الآيات القرآنية بترتيب نزولها؟ كيف حفظها؟ وكيف عمل بها؟ وكيف حفظها لأصحابه؟ وكيف دونت؟ وكيف عمل بها أصحابه؟. أى كيف تم التفاعل مع الوحى فى تنزلاته بطريقته؛ الكتاب والسنة؟ باعتبار السنة البيان الذى أوحاه الله لنبيه، وصاغه الرسول بأسلوبه، وهو أفصح العرب وأبلغهم، بما يتناسب مع حال المبين لهم. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44]. وكيف كان أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم يتفاعلون مع الوحى؟ حرصا على السماع، وفهما لما يسمع، وحفظا لما فهم، وعملا بما حفظ، وكيف ظهرت فيهم ثمرات الوحى؟ فصاروا كما وصفهم الوحى المنزل المعجز بقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح: 29]. إننا بهذه المدارسة لتاريخ نزول القرآن الكريم سنتعرف على مسيرة الوحى المبارك فى

ثلاثة وعشرين عاما، هى عمر النبى صلّى الله عليه وسلم منذ أن أوحى إليه إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، سنقرأ فيها قصة الوحى، وصفحة الحياة مرتبطة بالمصدرين العظيمين؛ الكتاب والسنة، ولا يخفى ما فى هذا من خير عظيم لحياتنا المعاصرة لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) [الأحزاب]. وعلينا فى هذه المدارسة إن شاء الله تعالى أن نبدأ ببيان الطريق الذى جاء به القرآن الكريم وهو طريق الوحى لنتعرف عليه. ما معناه لغة واصطلاحا؟ وما صور تكليم الله لأحد من خلقه فى مثل قوله الكريم: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) [الشورى]. وما مراتب الوحى، وصوره التى تحققت للنبى صلّى الله عليه وسلم؟ وما صور نزول القرآن الكريم عليه؟ والرد على الشبهات فى ذلك. وما تنزلات القرآن الثلاثة، ونزوله على الرسول صلّى الله عليه وسلم مفرقا؟ وما حكمة ذلك وتحديد أولى الآيات المنزلة، وختام الآيات المنزلة، ومتابعة نزول الآيات والسور فيما بين ذلك. نسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، وجلاء همومنا وأحزاننا ... وصلّ اللهم على سيدنا محمد. أ. د. محمد رأفت سعيد

التعريف بالوحى

التعريف بالوحى إن كلمة الوحى تطلق فى اللغة ويراد بها مجموعة من المعانى نجملها فيما يلى: الوحى يطلق على الإعلام فى خفاء وفى سرعة، فأما أصل الخفاء والسر فيمثل له بتسمية الإلهام وحيا، ومنه قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: 121]. أى يوسوسون فى صدورهم، وهذه الوسوسة من الشيطان تعرف؛ لأن حديث الشيطان وأمره فى الصدر قد كشفه القرآن الكريم وبينه، وحذرنا منه، وأعاننا عليه، فأما الكشف والتحذير فمثاله قوله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) [البقرة]. فأى حديث فى النفس يأمر بالسوء، أو يأمر بالفحشاء، أو يشكك فى عقيدة، أو يحدثك عن الله بغير ما جاء فى كتابه الكريم وسنة رسوله فإنما هو حديث الشيطان ووحيه ووسوسته، وأما الإعانة عليه فأرشدنا القرآن إلى الاستعاذة بالله عند ما ينزغ الشيطان: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، أو «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم». وأرشدنا إلى أن الشيطان خناس فلا يمكث فى مكان يذكر فيه اسم الله، ولا يقوى على الاستمرار فى صدر تقى يعمر بذكر الله. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) [الأعراف]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) [الناس]، ولا يخفى ما فى وسوسة الشيطان بهذا المعنى من خفاء وسرعة تدخل على الغافلين وتدفعهم إلى السوء إن استجابوا لوسوسته ولم يدفعوها باللجوء إلى الله وذكره. وأصل السرعة فى كلمة الوحى لغويا كذلك جعل تسمية الخط وحيا لسرعة حركة اليدين لكاتبه، ووحى الحاجب واللحظ سرعة إشارتهما، ومنه «الوحا» أى السرعة. ومن المعانى اللغوية كذلك للوحى: الإلهام الفطرى، والإلهام الغريزى الذى يتضمن معنى التسخير. ومثال الإلهام الفطرى قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ

فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) [القصص] فهذه المعانى العظيمة التى تجمع أمرين، ونهيين، وبشارتين تمت لأم موسى فى موقف مخيف عصيب عن طريق الوحى، بمعنى إلقاء هذه المعانى فى قلبها، وتبعها حركة وسلوك وعمل يبين كيف أن هذا الإلقاء فى القلب، والإلهام له قوة الأمر الصادر المباشر والمواجه بالمعاينة لأم موسى، فبمقتضى هذا الإلهام كان ربط الله على قلبها؛ حتى لا يعصف به الخوف من فرعون وعمله فى قتل الأطفال، وابنها طفل منهم؛ فلم يظهر عليها ما ينبه إلى وجود طفل تخفيه، وبهذا الإلهام أرضعته كما ترضع الأم طفلها؛ إبقاء على حياته، وهذا أقصى ما تستطيعه أم موسى. وبهذا الوحى تؤمر بما يستوقفنا للتدبر واستخراج العظة والاعتبار. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، كنا نتوقع أن يكون الخطاب: إن خفت عليه فابذلى أقصى جهدك فى إخفائه، ولكن الإلهام كان إلى غير ذلك: فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ. وكان موقف القرآن الكريم- هنا- يعلمنا أن الإنسان فى مواجهته للأمور- مهما كانت شدتها- عليه أن يبذل أقصى ما يستطيعه، مستعينا ومتوكلا فى بذله هذا على ربه، دون كسل أو خمول، وأما ما لا يستطيعه بعد ذلك فإن توكله هذا سيحول مصدر الخطر إلى مصدر أمان، كما حول الله البحر الهائج المخيف الذى تملأ أمواجه القلوب رعبا إلى حصن دافئ، ومكان أمين للطفل موسى. فتصنع له الصندوق بمقتضى هذا الإلهام، وتلقيه فى اليم، وتأمر أخته بأن تقص أثره لتجد أن الصندوق تحمله الأمواج إلى مصدر الخطر نفسه؛ إلى البيت الذى صدر فيه الأمر بقتل الأطفال، وموسى طفل، إذن يعلو صوت فرعون: «اقتلوه»، ولكن يلقى الله محبة موسى فى قلب زوج فرعون فتصدر أمرا آخر: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ [القصص: 9] وينتصر أمر الزوجة، ويبقى موسى، ولكن كيف يتحقق الإلهام الآخر لأم موسى بالبشرى فى رد موسى إلى أمه؟ تعرض المراضع على موسى فيعرض عنهن، ويشار على بيت فرعون بأنه بقيت امرأة لم تأت بعد وهى أمه، وجىء بها، وعرض عليها الطفل، وأقبل على ثديها. فقيل لها: امكثى فى البيت لترضعيه، فأبت لأنها مطمئنة إلى ما ألهمت به إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وتعللت بشغل بيتها، فأخذت طفلها معها وعادت إلى بيتها وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) [طه]، ويظل حتى يصير من المرسلين. فهذه المعانى تحققت عن طريق هذا المعنى من الوحى. وأما مثال الإلهام الغريزى الذى يحمل معنى التخيير ففي قوله تعالى: وَأَوْحى

رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) [النحل]. ومن المعانى اللغوية كذلك الإشارة، وذكر هذا فى قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) [مريم] هذا وقد يطلق لفظ الوحى ويقصد به الموحى به. وأما معنى الوحى اصطلاحا فهو: إعلام الله تعالى لنبى من أنبيائه بحكم شرعى ونحوه؛ فالموحى هو الله سبحانه، والموحى إليه نبى من أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم جميعا، والموحى به حكم شرعى من أمر أو نهى ونحو هذا مما يوحى به الله تعالى من أنباء من سبق وما حدث لهم، وما سيأتى، وما يبنى عقيدة التوحيد خالصة نقية، وما يؤسس الخلق الكريم ويغرى بالتحلى به، وما ينفر من رذائل الأخلاق، وما يقيم مجتمعا فاضلا على حسن العبادة لله وحسن التعامل فيما بينهم. ومن فضل الله على خلقه أن اصطفى منهم من يقوم بتبليغ وحيه إليهم حتى يسيروا فى حياتهم على هدى، وحتى لا يضلوا: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) [آل عمران]. ويوحى الله إلى خلقه ما يسعدهم فى جميع فتراتهم الزمنية، وما يناسب بيئاتهم المكانية، حتى كان وحيه إلى خاتمهم صلّى الله عليه وسلم يحمل من خصائص الاستمرار ما يجعله معطاء لكل الأجيال إلى قيام الساعة. ويذكرنا الله سبحانه بهذه المنة على خلقه جميعا فى خطابه لرسوله صلّى الله عليه وسلم فى قوله الكريم: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) [النساء]. فهؤلاء ممن اصطفى الله، وذكر الله تعالى أسماءهم، وقص علينا من أخبارهم، وما أوحى به إليهم، وكيف كان حال أقوامهم معهم، لنفيد من هذه التجارب باعتبارنا الأمة الأخيرة فى حياة الأمم. وهذه المجموعة من صفوة البشر ليسوا وحدهم، بل هناك آخرون قاموا بهذه المهمة، وأوحى الله إليهم ولم يقصصهم علينا ربنا. وما قصّه علينا فيه الجمع المفيد لكل طبائع البشر وكيف كان حالهم مع الوحى؛ فمنهم من استجاب ونجا، ومنهم من فتن بماله، ومنهم من فتن بجاهه، ومنهم من فتن

بما أوتى من بنين وذرية، ومنهم من فتن بشهواته المتعددة، وكانت عاقبتهم هلاكا وخسرانا. والأمة الخاتمة تقرأ كل هذا فى صفحة السابقين فيما أوحى به إلى النبى الخاتم صلّى الله عليه وسلم: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) [آل عمران]. ولكن كيف كلم الله هؤلاء وهم صفوة البشر؟. لقد ذكر القرآن الكريم لنا ثلاثا من الصور التى يكلم الله بها من شاء من البشر فقال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) [الشورى]. فالصورة الأولى: من تكليم الله لمن شاء من البشر تكون بإلقاء المعنى الذى يريده الله فى نفس من شاء، وهذا معنى الإلهام، أو الإلقاء فى الرّوع، أو النفث فى الرّوع. الصورة الثانية: أن يكلم الله نبيا من أنبيائه من وراء حجاب، كما كلم الله موسى عليه السلام وناداه، وسمع موسى نداءه دون أن يراه؛ لأن الرؤية لا يطيقها البشر، ومن حكمة الله ولطفه بخلقه أنهم لا يرونه فى هذه الدنيا، وإلا لأمسكهم الخوف فلا يتحركون لعمل أو أكل أو غير ذلك من مقتضيات البشرية، ويكفى أن يرى الخلق مظاهر القدرة وآيات الإبداع والنظام فى مخلوقاته، فله فى كل شىء آية تدل على أنه القادر، وفى أنفسنا وما بث فى أرضنا من دابة، وما خلق فى السموات آيات تنطق بالحق: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) [آل عمران]. على أن المؤمنين سيمتعون إن شاء الله برؤية ربهم فى الآخرة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) [القيامة]. ولذلك لما طلب موسى عليه السّلام فى تكليم الله له أن يرى ربه وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143]. وأراه آية العجز البشرى فى هذا الجانب وأنه لا يقوى على ذلك، فقال جل شأنه لموسى عليه السلام: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الأعراف: 143]. فالجبل لم يقو على تجلى الله سبحانه له وجعله دكا، ورؤية موسى عليه السّلام لتجلى

الله للجبل جعلته يخر صعقا، فكيف لو كان التجلى مباشرا؟ وأما الصورة الثالثة: فى تكليم الله لمن شاء من خلقه فتكون فى إرسال ملك الوحى إلى نبى من أنبياء الله، ليلقى إليه ما كلف بتبليغه، وهذا الملك هو الناموس أى صاحب السر، والذى وصف بالقوة والأمانة، وهما صفتان ضروريتان للاطمئنان على مسيرة الوحى إلى أنبياء الله ورسله، فقد وصف جبريل عليه السّلام بقول الله سبحانه فيه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) [النجم]، ووصفه بقوله الكريم: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) [التكوير]، كما وصف بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) [الشعراء]. وملك الوحى قد يراه النبى فى صورته التى خلق عليها، وقد يأتيه فى صورة رجل يكلمه، وفى هذه الحالة يراه الحاضرون ويسمعون قوله، وقد ينزل خفية فلا يراه الحاضرون، ولكن يشاهدون آثار الوحى على النبى صلّى الله عليه وسلم وقت نزوله. هذه صور الوحى الثلاث التى ذكرت فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) [الشورى] فماذا تحقق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم منها؟ وما مراتب الوحى معه؟

صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لقد تحقق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من صور الوحى ومراتبه ما سنذكره تفصيلا على ما يلى: أولا: الرؤيا الصادقة فى النوم. وهى أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحى، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، كما جاء فى رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والتى أخرجها البخارى رحمه الله. وإذا كان ما يراه النائم إدراكا يقوم بجزء من القلب لا يحله النوم فإن الأنبياء لا يستولى النوم على قلوبهم، ولا على جزء منها، ولذلك فإن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، وما يرونه فى نومهم ليس من أضغاث الأحلام؛ ولا يستطيع الشيطان أن يعبث بقلوبهم، ولا أن يريهم فى نومهم أحلاما كالتى يمكن أن يقوم بها الشيطان لإزعاج النائمين من البشر، فما يراه الأنبياء فى نومهم حق ووحى يوحى الله به لرسله، وقد حكى لنا القرآن الكريم نماذج من هذه الصورة فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السّلام يرى فى المنام أنه يذبح أحب الناس إليه إسماعيل، ويقول لإسماعيل حاكيا له رؤيته: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى [الصافات: 102]، ولكن قد يسأل سائل إذا كنا نقول إن رؤيا الأنبياء وحى وحق، وإبراهيم أبو الأنبياء يعرف هذا فلماذا يسأل ابنه ويطلب نظره ورؤيته فى وحى واجب التنفيذ؟ والجواب عن ذلك: إن إبراهيم عليه السّلام يرى أن الرؤيا حق وأنه واجب التنفيذ والطاعة، ولكن التنفيذ والطاعة هنا لا تتعلق به وحده، وإنما تتعلق بطرف آخر له إرادته وله اختياره وله رأيه، ولكن هل يتوقع من إسماعيل أن يكون رأيه ونظره مخالفا لحالة أبيه؟ إن إسماعيل بن إبراهيم وابن هاجر وهما الوالدان المسلّمان التسليم الكامل لأمر الله تبارك وتعالى؛ فإبراهيم سلم الأمر لله، وجاء بأحب الناس وأضعف الناس وهما الزوجة هاجر والطفل إسماعيل إلى واد وصفه القرآن الكريم بأنه: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: 37] تنفيذا لأمر ربه، ولما هم بالانصراف سألته زوجته: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ وإبراهيم يجد المكان بلا بشر يأنس الإنسان بالإقامة معهم ومشاركتهم حياتهم، وهذا معنى دعاء إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: 37].

وتقطع هاجر صمت إبراهيم وتريحه من مشقة الإجابة وتقول له: آلله أمرك بهذا؟ قال إبراهيم: نعم، قالت: إذن لن يضيعنا، وهذه الكلمة من الأم هاجر قمة الحكمة، وقمة التسليم فلا ضياع لإنسان وهو يطيع أمر ربه، ولا ضياع لمن سلم أمره لخالقه. وهذا ما تحقق، فما ضاعت هاجر، وما ضاع إسماعيل، بل كان فى تسليمهما الخير والبركة وعمران المكان عند بيت الله المحرم، فهل يتوقع من إسماعيل أن يكون على خلاف حال أمه، وحال أبيه؟ وعلى ذلك كان قول إسماعيل لإبراهيم: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) [الصافات]. فقول إسماعيل كقول أمه فى التسليم: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. أى أنه ما دام مأمورا فلا مجال للنظر ولا للرؤية. بل الفعل الفورى والتنفيذ لأمر الله، ويزيد إسماعيل أبيه عونا على طاعة ربه فى أحب الناس لديه: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102). أى لن تسمع منى كلمة تثير فيك عطفك، ولن ترى منى حركة تثير فيك رحمة الأبوة، وتؤثر فى تنفيذك لأمر ربك. فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) [الصافات]، وأصبح إسماعيل فى موضع الذبح، ووضع إبراهيم السكين نودى أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وفدى الله إسماعيل بالذّبح العظيم، فهذا البلاء العظيم، وهذا الأمر الخطير تم عن طريق الرؤيا لإبراهيم عليه السّلام. وقد ذكر القرآن الكريم نموذجا منها مع رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ [الفتح: 25]. ولقد تم الفتح المبين على ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى رؤياه الحق على الرغم مما سبق الفتح من أحداث، وشروط أوغرت صدور المسلمين وكانت شروطا فى ظاهرها الظلم ولكنها كانت فتحا وتمهيدا له أيقن به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقبل الشروط، ومنها أن يعود المسلمون عام الحديبية دون دخول مكة وزيارة البيت الحرام، وهذا سبّب غضبا شديدا لدى المسلمين، ورغبة فى مقاومة ظلم الكافرين بدخول مكة ولو حربا، فلم يعطى المسلمون الدنية فى دينهم؟ ولكن اطمئنان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لوعد ربه جعله يرضى بما أملاه المشركون من شروط، وأمر أصحابه أن يذبحوا هديهم، ولكن الغضب ما زال مسيطرا، وغضب الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولكن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها تذكر له حب أصحابه

له، وطاعتهم لأمره واقتداءهم به فى فعله، وأشارت بأن يخرج ويذبح هديه، وسيفعلون مثل فعله، وكانت مشورة طيبة؛ ذبح الرسول الكريم هديه، فذبح أصحابه، وحسم الموقف. وتحقق وعد الله لرسوله، وصدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وتحولت الشروط الظالمة إلى تمهيدات للفتح المبين، ومن نماذج ذلك: أن الشرط الذى قيل فيه من أسلم من أهل مكة وهاجر إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فعليه أن يعيده، وأما من جاء من المدينة إلى مكة فلا يرجعونه، فقد تحول إلى صالح المسلمين حيث كان المسلم الذى يهاجر من مكة إلى المدينة- بعد الصلح- يجد حرص الرسول صلّى الله عليه وسلم على الوفاء بالعهد، فلا يستطيع البقاء فى المدينة، ولا يحب أن يعود إلى المشركين بمكة، فيذهب إلى مكان آخر اختاره هؤلاء فى موقع استراتيجى على طريق تجارة المشركين، وتكونت قوة مسلمة تهدد مصالح المشركين، مما جعلهم يطلبون تغيير هذا الشرط الذى وضعوه بأنفسهم. إن الرؤيا التى رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى دخول المسجد الحرام مع أصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين كانت وحيا تحقق لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذه هى الصورة الأولى والمرتبة الأولى من مراتب الوحى التى تحققت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم.

رؤية النبى صلى الله عليه وسلم للملك

رؤية النبى صلّى الله عليه وسلم للملك المرتبة الثانية: التى تناولها تتمثل فى رؤية النبى صلّى الله عليه وسلم للملك فى صورته التى خلق عليها، ولقد ذكر القرآن الكريم المرتبتين فى قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) [النجم]. فهذه هى المرة الأولى. وأما الثانية فذكرت فى السياق نفسه فقال تعالى: أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) [النجم]. فالمرة الأولى كانت فى بداية الوحى والتى جاء ذكرها فى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والتى أخرجها الإمام البخارى رحمه الله. حيث قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، فيتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطنى- أى ضمنى وعصرنى- حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق]. فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملونى زملونى. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسى، فقالت خديجة: «كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك تصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الدهر».

ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخا قد عمى، وله اطلاع على كتب الأقدمين، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبره النبى صلّى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: قدوس، هذا هو الناموس (أى صاحب السر) الذى أنزل على موسى، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «أو مخرجيّ هم؟»، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم يلبث ورقة أن توفى، وفتر الوحى. هذه هى المرة الأولى التى رأى الرسول صلّى الله عليه وسلم فيها جبريل عليه السّلام فى هيئته الملكية يملأ الأفق، ولا شك أن هذه الرؤية الأولى أحدثت فى نفس النبى صلّى الله عليه وسلم الروع، وجعلته يرجع إلى خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده، ويقول: زملونى، ويغطونه حتى ذهب عنه الروع، وذهبت خشيته على نفسه، ولا شك أن رؤية الملك فى صورته الملكية لأول مرة تحدث مثل هذا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولكن ما ذكر من رجف الفؤاد والروع والخشية على النفس، لا تذهب وعى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحفظه لما قال جبريل، وما بلغه، بل وصف ما حدث له بدقة، واتضح ذلك فى حكاية ما حدث لخديجة رضي الله عنها، وحكاية ذلك أيضا لورقة بن نوفل؛ حيث أخبره خبر ما رأى، وكيف قال له: اقرأ، وكيف أخذه وضمه ضمة شديدة حتى بلغ منه الجهد، مع ذكر عدد الضمات على شدتها، وكان فى هذه المرة تبليغ جبريل لأولى الآيات المنزلة من القرآن الكريم فى شهر رمضان، وفى الليلة المباركة التى هى ليلة القدر. قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185]. وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) [الدخان]، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) [القدر]. وسنحقق إن شاء الله هذه المسألة فى تحديد أول ما نزل من القرآن فى حينه، غير أن الذى نرى أن نؤكده أن ضبط ما بلغ مع هذا الروع كان فى أحسن حالاته: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) [القيامة]، فقراءة النبى، وحفظه لما يوحى إليه، بإذن ربه، وبفضله، وتوفيقه، وقوته: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق]. وتعليق أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها على هذه الرؤية الأولى وما صحبها من الروع والخشية والرجفة ليس من قبيل ما اعتاده الناس فى مثل هذه الحالات، فمثل النبى صلّى الله عليه وسلم

وما يتصف به من شمائل لا يخزيه الله أبدا؛ فهو الذى يصل الرحم، ويعين الضعفاء، ويعطى المحتاجين، ويأخذ بأيديهم، ويكرم الضيف، ويعين على المصائب التى تقع على الناس، ومن يفعل هذا صاحب نفس مطمئنة، وقلب سليم، فما يجده إنما يكون من روعة اللقاء الأول مع جبريل فى هيئته الملكية. وأما الرؤية الثانية التى رأى فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم جبريل عليه السّلام على هيئته، ففي ليلة المعراج، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ولم يأت فى حديث النبى صلّى الله عليه وسلم ما يفيد أنه خشى، أو رجف فؤاده، من هذه الرؤية الثانية، وهذا يدعم ما ذهبنا إليه من روعة اللقاء الأول، وعلى الصورة التى فصلناها. وفى الثانية كذلك كانت الرؤية مصحوبة بالوعى التام، ما زاغ البصر من النبى صلّى الله عليه وسلم، وما مال بصره عن مرئيه المقصود له ولا جاوزه تلك الليلة. هذه هى المرتبة الثانية من مراتب الوحى وصوره التى تحققت للنبى صلّى الله عليه وسلم، وهى مجىء ملك الوحى على هيئته الملكية.

صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل

صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل وهى صورة أخرى من صور الوحى مع النبى صلّى الله عليه وسلم، يتكلم معه الملك فى مشهد من أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم. ويعنى هذا أن الجالسين يرونه، ويسمعون قوله، يتضح ذلك بتأملنا فى الحديث الذى رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبى صلّى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد: أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرنى عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال: صدقت، قال: فأخبرنى عن الإحسان، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، قال: فأخبرنى عن الساعة، قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل»، قال: فأخبرنى عن أماراتها، قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون فى البنيان»، قال: ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال لى: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» «1». ففي هذا الحديث الجامع الذى قال عنه القاضى عياض رحمه الله فيما حكاه النووى، فى شرحه للحديث فى صحيح مسلم: «وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة؛ من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه، قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألّفنا كتابنا الذى سميناه ب «المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان»؛ إذ لا يشذ شىء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة، والله أعلم «2».

_ (1) صحيح مسلم 157 - 160. (2) صحيح مسلم بشرح النووى 1/ 158.

ففي هذا الحديث جاء جبريل فى صورة رجل يعلم الجالسين على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمور دينهم، فى صورة سؤال وجواب، وهى طريقة لطيفة تيسر توصيل المفاهيم وتثبيتها، وتعين على حفظها، كما أن مجىء جبريل فى صورة رجل ليعلم الجالسين وغيرهم أدب طلب العلم فى حسن الجلوس وحسن المتابعة والإنصات، وهذه مهمة أساسية فى الإسلام فالرسول الكريم بعث معلما للعالمين، وهذا العلم الذى يعلمه هو علم النجاة، وأصحابه هم حملة هذا العلم عنه، وهم المبلغون له من بعده، ولا بدّ من حسن المنهج والسير عليه فى تلقيهم لهذا العلم وتبليغه فكانت مهمة جبريل عليه السّلام فى أداء هذا الدرس العملى. والذى يحكى لنا هذا المشهد صحابى جليل من تلاميذ مجالس النبى الكريم العلمية، إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووصفه للمجلس كان دقيقا، ورؤيته للسائل وطريقة سؤاله كانت دقيقة، أشعرنا فيها منذ قراءتنا الأولى للحديث أن السائل ليس رجلا عاديا. فالرجل- كما جاء فى وصف عمر- طلع عليهم وهم جلوس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يعرفه من الجالسين أحد، ومعنى ذلك أنه غريب عن المكان، ويقتضى ذلك أنه قادم من سفر، ولكن المدهش أنه لا يرى عليه أثر السفر؛ لا فى ثيابه، ولا فى شعره؛ فثيابه وصفت بأنها شديدة البياض، وشدة البياض مع السفر تجعل أثر الغبار واضحا مهما كان يسيرا، فالبياض يظهره، وكذلك الشعر، شديد السواد، لا أثر لغبار الطريق عليه، وبعد وصف عمر للرجل فى ذاته، يصفه فى هيئته التعليمية؛ حيث جلس إلى النبى صلّى الله عليه وسلم جلسة الأدب، فاقترب من المعلم حيث أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، كما يضع الإنسان وهو جالس للتشهد، وأخذ يسأل، ويتابعه عمر فى أسئلته ليقدم لنا تعجبا آخر يشعرنا به أن شيئا وراء هذا الرجل، فسأل عن الإسلام، ولما أجابه النبى صلّى الله عليه وسلم قال له الرجل: صدقت. وسبب التعجب أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل، وإنما هذا كلام خبير بالمسئول عنه، ولم يكن فى ذلك الوقت من يعلم هذا غير النبى صلّى الله عليه وسلم، ولذلك قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه، وصدق عمر فى تعجبه وتوقعه فالرجل ليس عاديا، فإنه لما انتهى من أسئلته وانصرف وطلب النبى صلّى الله عليه وسلم أن يردوه لم يجدوا أحدا، أى أنه منذ تركه للمجلس قد اختفى عنهم، فليس غريبا مسافرا، وليس بشرا منهم، بل جاء على صورة بشر ليقوم بهذه المهمة، قال الرسول لهم: «إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم». ووصف عمر يفيد أن جبريل عليه السّلام عند ما كان يأتى فى هذه الصورة البشرية ليعلم جديدا، أو ليراجع ما علم، أو غير ذلك كان مشاهدا يسمعه الجالسون ويرونه، وهذه

صورة من صور الوحى ومرتبة من مراتبه تم فيها بيان معنى الإسلام، ومعنى الإيمان ومعنى الإحسان، وبيان مصير الإنسان فيما يتعلق بالساعة وعلاماتها. وإذا كان جبريل قد أتى إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فى صورة رجل فإنه قد يلقى ما لديه من معانى فى روع النبى صلّى الله عليه وسلم بدون أن يتمثل له رجلا، وهذه صورة أخرى من صور الوحى.

النفث فى الروع

النفث فى الرّوع والنفث لغة: قذف الريق القليل، وهو أقل من التفل، كما ذكر الراغب فى مفرداته، ويرى الإمام البغوى أن النفث شبيه بالنفخ، والروع: الخلد والنفس، والمعنى هنا أن ملك الوحى- وهو الروح الأمين، أو الروح القدس- يلقى المعنى من غير أن يراه، ولنتأمل معنى من هذه المعانى التى جاءت عن مثل هذا الطريق، وهذه المرتبة. قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا فى الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته». وهذا حديث صحيح بشواهده، أخرجه أبو نعيم فى الحلية من حديث أبى أمامة، وفى سنده عفير بن معدان وهو ضعيف وباقى رجاله ثقات، وأورده الهيثمى فى مجمع الزوائد، ونسبه للطبرانى فى الكبير وأعله بعفير بن معدان، لكن له شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم، وآخر من حديث جابر عند ابن ماجة وابن حبان والحاكم كذلك، وأبى نعيم فى الحلية، وله شاهد ثالث من حديث حذيفة عند البزار. فيصح الحديث بها «1». وهذا المعنى الذى ألقى فى روع النبى صلّى الله عليه وسلم من المعانى العظيمة التى توجه الإنسان وترشده فى أخطر القضايا التى قد تزعجه وتقلقه، والتى تقوم الصراعات الدموية حولها نتيجة الجهل بحقيقتها. إنها قضية الرزق وطلبه، فجبريل عليه السّلام يلقى فى قلب النبى صلّى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة، فالرزق مقسم ولا بدّ أن تصل إلى كل نفس قسمتها، ولن تموت حتى توفى مالها من هذه القسمة، فأما قسمة الرزق فقد جاء ذكرها صريحا فى قول الله تعالى ردا على من زعم لنفسه جدارة التنزيل عليه- أو على عظيم آخر- على مقياس العظمة الذى تخيلوه فى المال الكثير والجاه العريض، حتى يخيل إليهم أن الإنسان لا يكون أهلا لأى مكرمة إلا على أساس حجم ما يملك من هذه، ولو كانت هذه المكرمة وحيا من الله، قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا

_ (1) زاد المعاد 1/ 79.

بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) [الزخرف] فمسألة الرزق- إذن- بيد الرزاق ذى القوة المتين وحده وقد قسمه بين خلقه فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأمرنا بالسعى والحركة والعمل الجاد النافع، ليكون جلب هذه القسمة حلالا يوافق ما يرضيه سبحانه، ولن يموت الإنسان إلا وقد استوفى ما كتب الله له من رزق، وما قدر له من مأكول ومشروب وملبوس وغيره. فإذا كان الأمر كذلك فليطمئن الإنسان إلى هذا الوعد الكريم الذى جاء فى هذه الصورة من صور الوحى، ويتقى الله ويجمل فى الطلب، أى لا يطلب هذا الرزق المقسوم إلا من طريق جميل أحله الله، ومن كسب مشروع أباحه الله، على أن الإنسان يخطئ عند ما لا يفرق بين رزق حلال يغطى حاجاته ومسئولياته وما يتزين به فى حياته، وهذا يكفيه الحلال؛ لأن حاجات الإنسان محدودة؛ فليست له أكثر من بطن للطعام والشراب، وبدنه محدود، وحاجاته إذن محدودة يغطيها ما أحل الله من رزق، ولكن ينسى الإنسان ولا يفرق بين هذا المعنى وبين جمع المال وتكثيره حتى يصير حبه للمال حبا جما يدفعه إلى طلب المزيد منه للتكاثر فقط، وعندئذ لا يبالى؛ من حلال جمعه أم من حرام. فعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) [التكاثر]، قال: «يقول ابن آدم مالى، وهل لك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت». أخرجه مسلم والترمذى والنسائى وأحمد «1». وهذا الجمع الكثير للمال وبهذه الكيفية؛ أى بغير مبالاة من حرام أم من حلال يدل على حماقة وجهل بحقائق الأمور؛ فإنه بهذا الحب يجمع الكثير ويبخل به فلا ينفق احتسابا فى وجوه البر، وقد لا ينفق على نفسه، فيصير هذا الجمع لغيره، ويصبح هم الطلب له، والانتفاع بالمال لغيره، وعليه بعد ذلك حمل السؤال عنه، ويتضح لنا هذا المعنى من السؤال النبوى الكريم الذى وجهه الرسول صلّى الله عليه وسلم لأصحابه فى قوله: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟» قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: «اعلموا ما تقولون»، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال: «ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله»، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «إنما مال أحدكم ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر». حديث صحيح «2». فإذا أدرك الإنسان هذه الحقائق، وعرف قسمته، وأنها بيد خالقه اتقى الله واكتفى

_ (1) انظر: شرح السنة النبوية 14/ 258. (2) شرح السنة 14/ 259، 260.

بالطلب الحلال الطيب الجميل، وليس عليه حرج فى أن يصل بهذا الطريق الحلال إلى ما شاء الله من مال كثير، فهذه قسمته، ولكنه بهذا الطلب الجميل سيعرف الحق ويتجنب المظالم، ويعرف سبل البر وإخراج الحقوق من ماله، فيسعد ويسعد أمته، «فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب». ويحذر الرسول صلّى الله عليه وسلم فى هذا الحديث الشريف من أمر نفسى خطير قد يدفع الإنسان إلى سلوك محرم فى الطلب وهو: استبطاء وصول هذا الرزق، فإنه يأتى بالحجم الذى يقدره الله، وفى الوقت الذى يشاء فيه، رحمة بخلقه، وعلما بما يصلحهم، فلا يحمل التأخير على أن يطلب الإنسان هذا الرزق بمعصيته وارتكاب مخالفة شرعية؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، ولا يبارك فيه إلا إذا اكتسب بطرقه المشروعة. بهذا التوجيه الذى جاء فى هذه المرتبة من مراتب الوحى وهى النفث فى الروع تحل قضية الرزق فيقنع المرء بالحلال، ويطلب منه المزيد، ولا يتشوف إلى مال حرام، ولا يسعى إليه، ولا يحقد، ولا يحسد إخوانه على ما آتاهم الله من فضله فلكلّ قسمته، ولا يتعجل الشيء فتحمله العجلة إلى المخالفة.

كيفية إتيان الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم

كيفية إتيان الوحى إلى النبى صلّى الله عليه وسلم صلصلة الجرس: ونتناول مرتبة أخرى وهى أنه كان يأتيه فى مثل صلصلة الجرس. فعن أم المؤمنين عائشة. رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده علىّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول»، قالت عائشة رضي الله عنه: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا «1». وصلصلة الجرس صوت الجرس، والصلصلة فى الأصل: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت لا يدرك فى أول وهلة «2». وهذه المرتبة هى أشد المراتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر صلى الله عليه وسلم، ويذكر ابن حجر فى شرحه لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «وهو أشده علىّ» أنه يفهم منه أن الوحى كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، ويذكر الحكمة فى ذلك؛ أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهى هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية، وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية، وهو النوع الثانى، والأول أشد بلا شك، وقال شيخ الإسلام البلقينى: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به، وقال بعضهم: وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه، فيكون أوعى لما سمع، ومن مظاهر هذه الشدة: أن جبينه صلى الله عليه وسلم يتعصر عرقا فى اليوم الشديد البرد، ويتفصد مأخوذ من الفصد، وهو قطع العرق لإسالة الدم، فشبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة فى كثرة العرق، وذكر العرق فى اليوم الشديد البرد دليل على كثرة المعاناة، والشدة عند نزول الوحى، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق فى شدة البرد، فينزل من الرسول مثل حبات الفضة من العرق فى اليوم الشديد البرد، ومن مظاهر الشدة كذلك: أن راحلته صلى الله عليه وسلم لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها.

_ (1) فتح البارى 1/ 18. (2) المرجع السابق 1/ 20.

أخرج أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحى إليه وهو على ناقته وضعت جرانها، والجران: هو مقدم عنقها من المذبح إلى المنحر «1»، فلم تستطع أن تتحرك. صحّح الحاكم هذه الرواية ووافقه الذهبى «2». ومن مظاهر الشدة كذلك: أن جاءه الوحى مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه، فثقلت عليه حتى كادت ترضها، فقد أخرج البخارى رحمه الله فى التفسير من حديث زيد بن ثابت أن النبى صلى الله عليه وسلم أملى عليه «لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فى سبيل الله» فجاء ابن أم مكتوم وهو يملها، علىّ، قال: يا رسول الله! والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذى، فثقلت على حتى خفت أن ترض فخذى، ثم سرى عنه، فأنزل الله «غير أولى الضرر». ولا يفهم من مظاهر هذه الشدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغيب عن إحساسه، كلا، بل يظل الوعى حاضرا أثناء نزول الوحى، وبعد أن يذهب ملك الوحى، ولذلك جاءت صيغة الوعى فى الروايات بالماضى والحاضر، أى فقال صلى الله عليه وسلم: «فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال» ويفصم: بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وتقرأ كذلك بفتح أوله وسكون الفاء وكسر الصاد أى يفصم بمعنى يقلع ويتجلى ما ينشأ، وأصل الفصم: القطع. وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة، والقاف القطع بإبانة، فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود مرة أخرى. فالوعى حاضر أثناء نزول الوحى بوجود الملك، وموجود بعد أن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد تبليغ ما أمر به وقد وعى عنه ما قال وما بلغه وما جاء به. وأما صيغة الحاضر ففي الرواية نفسها حيث يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «فيكلمنى فأعي ما يقول». وفى هذا رد على المغرضين والمشككين الذين يحاولون إثارة الشبهات بلا عقل فتكلموا فى هذه المظاهر على أنها أعراض مرضية، ويرد عليهم بأن هذه المظاهر لم يكن معها غيبة عن الحس كما يحدث فى الأعراض المرضية، فقد ثبت فى الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما نزل الحجاب، وأن أم المؤمنين سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا (والمناصع: هى المواضع التى يتخلى فيها البول أو حاجة) «3» فقال عمر: قد عرفناك يا سودة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته وهو جالس يتعشى والعرق فى يده (والعرق العظم، فإذا أكل لحم فعراق، أو كلاهما لكلتيهما) «4»، فأوحى الله إليه

_ (1) القاموس المحيط 4/ 210. (2) زاد المعاد 1/ 79، 80. (3) القاموس المحيط 3/ 92. (4) المرجع السابق 3/ 272.

والعرق فى يده، ثم رفع رأسه فقال: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» فهذا دليل على أنه لم يكن الوحى يغيب عنه إحساسه بدليل أنه جالس، ولم يسقط العرق من يده صلوات الله وسلامه عليه «1». وفى مسند أحمد وغيره من حديث ابن لهيعة حدثنى يزيد بن أبى حبيب عن عمرو ابن الوليد عن عبد الله بن عمرو قلت: يا رسول الله هل تحس بالوحى؟ قال: «نعم أسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إلىّ إلا ظننت أن نفسى تغيض منه» وتغيض يعنى تقبض، وقال الإمام أحمد- أيضا- يرويه عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها «1». فالنزول وهو راكب دليل على الوعى، والنزول مع ثقل الوحى على الدابة استمرار لهذا الوعى. ثم نتساءل بعد ذلك، هل تكون هذه المظاهر أعراضا مرضية- كما يزعم الزاعمون- وتكون عاقبة هذا الوحى قرآنا معجزا فى أسلوبه وموضوعه وجوانبه العلمية؟

_ (1) انظر: الرسول المعلم د. محمد رأفت سعيد 62، 63.

ما فرض من الله تعالى ليلة المعراج

ما فرض من الله تعالى ليلة المعراج ونتناول مرتبة أخرى وهى ما أوحاه الله سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها. وهذه المرتبة تبين لنا فضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعظيم قدرة الله تبارك وتعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) [الإسراء]. وقد تواترت الروايات فى حديث الإسراء ووصف ما حدث تفصيلا عن عمر بن الخطاب وعلىّ وابن مسعود وأبى ذر ومالك بن صعصعة وأبى هريرة وأبى سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبىّ بن كعب وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وأبى أيوب وأبى أمامة وسمرة بن جندب وصهيب الرومى وأم هانئ وعائشة وأسماء رضي الله عنهم أجمعين، منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع فى المسانيد وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون، ذكر ذلك الحافظ أبو الخطاب عمر بن وهب بعد ذكره حديث الإسراء من طريق أنس. ومن مجموع هذه الأحاديث التى جمعها الإمام ابن كثير فى تفسيره يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرة واحدة قبل الهجرة، وأنه كان يعطيه الزمام راكبا على البراق. فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى فى قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذى درج يرقى فيها، فصعد فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السموات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها، وسلم على الأنبياء الذين فى السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم حتى مر بموسى الكليم فى السادسة وإبراهيم الخليل فى السابعة، ثم جاوز منزلتيهما صلى الله وسلم عليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى وقد غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها، ورأى هناك جبريل على صورته، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل- بانى الكعبة الأرضية- مسندا ظهره إليه؛ لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس، رحمة منه ولطفا بعباده، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت

الصلاة، ومن الناس من يرى أنه أمّهم فى السماء، والذى تظاهرت به الروايات أنه فى بيت المقدس، ولكن فى بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه؛ لأنه لما مر بهم فى منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدا، واحدا وهو يخبر بهم؛ ويرى ابن كثير أن هذا هو اللائق لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوى ليعرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى، ثم لما فرغ من الذى أريد به اجتمع هو واخوته، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه للإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السّلام له فى ذلك، ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة. والله سبحانه وتعالى أعلم. وكان ذلك ببدنه وروحه- عليه الصلاة والسلام- يقظة وليس- كما يزعم البعض- بروحه فقط وأنه كان مناما. والدليل على ذلك قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الإسراء: 1]. فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شىء، ولم يكن مستعظما، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، وأيضا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقد قال تعالى: أَسْرى بِعَبْدِهِ وقال تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60]. قال ابن عباس: هى رؤيا عين، أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به، وقال تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) [النجم]. والبصر من آلات الذات لا الروح، وأيضا فإنه حمل على البراق- وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان- وإنما يكون هذا للبدن لا للروح؛ لأنها لا تحتاج فى حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم «1». وعلى هذا كانت صورة الوحى هنا فوق السموات، وكان مما فرض فيها الصلاة، وفرضية الصلاة فى هذه المرتبة يدل على شرفها وقدرها ومنزلتها بين الفرائض الأخرى، وكذلك أهميتها فى حياة الإنسان، وثمرتها فى حياته، أما منزلتها من الفرائض الإسلامية فتأتى بعد كلمتى الشهادة، فالإسلام بنى على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. وهى من الإسلام عماده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله»، وهى أول ما يحاسب عليه العبد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة؛ فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» «2». وهى آخر وصية وصى به رسول الله

_ (1) تفسير ابن كثير 4/ 324، ط الأندلس. (2) رواه الطبرانى.

صلى الله عليه وسلم أمته عند موته حيث جعل يقول: «الصلاة، الصلاة وما ملكت أيمانكم». وأما أهميتها وثمرتها فى حياة الفرد والأمة، فإنها العمل الذى بإقامته على وجهه الصحيح يذكر بها ربه، فيطمئن قلبه، وتهدأ نفسه، وينشرح صدره، وتسعد بها حياته، ولولا هذه الصلة لضاق الصدر، وضاقت الحياة، ووضع فى الضنك، وصار الشيطان قرينه، مفسدا عليه حياته، وهى التى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهى التى تجمع المسلم بإخوانه كل يوم خمس مرات فى بيت من بيوت الله، فتأتلف قلوبهم، ويعالجون أمور حياتهم، فهذه الفريضة بهذه المكانة العظيمة، وبهذا الأثر العظيم كان إيجابها بمخاطبة الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من غير واسطة، قال أنس: «فرضت الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نودى يا محمد: إنه لا يبدل القول لدى، وإن لك بهذه الخمس خمسين». رواه أحمد والنسائى والترمذى وصححه «1». هذه هى مرتبة ما أوحاه الله إليه وهو فوق السموات ليلة المعراج. ومن مراتب الوحى وصوره مع الرسول الكريم والتى ذكرها ابن القيم رحمه الله: كلام الله له كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة ثابتة لموسى عليه السّلام قطعا بنص القرآن الكريم، وبثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم وهو فى حديث الإسراء، وقد ذكرنا بعضا من ذلك سابقا. ويقول ابن القيم: وقد زاد بعضهم مرتبة وهى تكليم الله له كفاحا من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى، وهى مسألة خلاف بين السلف والخلف، وإن كان جمهور الصحابة مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمى إجماعا للصحابة «2». وبعد تناولنا لهذه المراتب ينبغى أن نبرز ما يلى: أولا: رؤي الأنبياء- كما مر بنا- ليست من قبيل أضغاث الأحلام، فإذا كانت الرؤيا إدراك يقوم بجزء من القلب لا يحله النوم فإن الأنبياء لا يستولى النوم على قلوبهم، ولا على جزء منها. ثانيا: لم ينزل شىء من القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم بل نزل كله يقظة، وأما ما جاء فى صحيح الإمام مسلم عن أنس قال: مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا فى المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: «أنزل علىّ آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ

_ (1) فقه السنة 1/ 90. (2) زاد المعاد: 1/ 80.

الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) [الكوثر]. فقد أجاب الإمام الرافعى رحمه الله فى أماليه على الفاتحة بقوله: فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت فى تلك الإغفاءة وقالوا: من الوحى ما كان يأتيه فى النوم لأن رؤيا الأنبياء وحى قال: وهذا صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إن القرآن كله نزل فى اليقظة وكأنه خطر له فى النوم سورة الكوثر المنزلة فى اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذى وردت فيه السورة فقرأها عليهم وفسرها لهم، ويقول الرافعى: وردت فى بعض الروايات أنه أغمى عليه، وقد يحمل ذلك على الحالة التى كانت مقترنة عند نزول الوحى، ويقال لها: برحاء الوحى ... ويعلق الإمام السيوطى رحمه الله على قول الرافعى بقوله: والذى قاله الرافعى فى غاية الاتجاه وهو الذى كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه، والتأويل الأخير أصح من الأول، لأن قوله: أنزل علىّ آنفا يدفع كونها نزلت قبل ذلك، بل نقول: نزلت فى تلك الحالة وليست الإغفاءة إغفاءة نوم، بل الحالة التى كانت تعتريه عند الوحى فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا «1». ولا يفهم من الأخذ عن الدنيا أنه كان يغيب عن الوعى. كلا فقد مر بنا ما يفيد الوعى المستمر أثناء نزول الوحى، وبعد أن يفصم عنه صلى الله عليه وسلم، حيث يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك: «فيكلمنى فأعي ما يقول». ويقول: «فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال». كما أنه أوحى إليه والعرق فى يده كما حكى عمر رضي الله عنه فى الحديث الذى جاء فيه قول النبى صلى الله عليه وسلم: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ». وأنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها، فالوعى إذا مستمر مع نزول الوحى، وليس عرضا مرضيا أو عصبيا كما يدعى المغرضون. وكيف يكون مع المرض إعجاز وعلم وهدى للعالمين؟! ثالثا: ليس الوحى اختياريا، أو تكلفا، أو طوع أمره صلى الله عليه وسلم فقد طلبه فى أشد الأوقات، وكان يشتاق إلى كثرة نزول جبريل عليه، ولكن لا ينزل الوحى إلا بأمر الله، وفى الوقت الذى يشاء، روى الترمذى عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟» قال: فنزلت هذه الآية: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) «2» [مريم]. ورواه البخارى عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟» فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية، قال: كان هذا الجواب

_ (1) التحبير فى علم التفسير للسيوطى 84، 85. (2) القرطبى 11/ 128، وقال الترمذى: «هذا حديث حسن غريب».

لمحمد صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبى: احتبس جبريل عن النبى صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذى القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوا عنه، قال عكرمة: فأبطأ عليه أربعين يوما، وقال مجاهد: اثنتى عشرة ليلة، وقيل خمسة عشر يوما، وقيل: ثلاثة أيام، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «أبطأت حتى ساء ظنى واشتقت إليك» فقال جبريل عليه السّلام: إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، فنزلت الآية: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، وأنزل: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضحى]. رابعا: إن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم كانوا يشاهدون مظاهر الوحى، وكانوا يشاهدون ملك الوحى جبريل عليه السّلام عند ما كان يأتى فى صورة رجل، ليعلم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أمور دينهم وقد وصفه عمر- كما مر بنا وصفا دقيقا. خامسا: إن وحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم سار فى طريقين ميسرين للعالمين؛ أولهما: متلو معجز وهو القرآن الكريم، والثانى: سنة النبى صلى الله عليه وسلم والتى هى بيان للسبيل الأول الذى نسعد بصحبته ونتتبع تنزلاته.

تنزلات القرآن الكريم

تنزلات القرآن الكريم لقد جاء التعبير بمادة الإنزال وما تصرف منها أو التقى معها تنويها بشرف ذلك الكتاب العزيز، وعلو منزل الكتاب علوا كبيرا، قال تعالى فى فاتحة سورة الزخرف: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4). ومن صيغ التنزيل ما جاء مقترنا بصفات المنزّل سبحانه، ومنها ما جاء بوصف المنزّل، ومنها ما يتعلق بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بالمخاطبين به لإدراك نعمة الله عليهم فى هذا التنزيل. فمما جاء فيه صفات المنزّل سبحانه قوله جل شأنه: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) [غافر]. وقوله سبحانه: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) [فصلت]. وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصلت]. وقوله جل شأنه: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) [الجاثية] وقوله تبارك وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) [الواقعة]، فالمنزل للقرآن سبحانه رب العالمين، هو الذى خلق، ورزق خلقه ورعاهم ورباهم، منحهم رزقه ووحيه، وهو العزيز الذى لا يغلب، والعليم بكل شىء، وبما يصلح خلقه، فأنزل لهم ما يأخذ بأيديهم فى كل شئونهم، وهو غافر الذنب والزلات، وقابل التوب، وهو شديد العقاب لمن كفر وخالف وطغى، إنه القوى الذى لا إله إلا هو، وهو الرحمن وهو الرحيم، وهو الحكيم والحميد. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) [الكهف]. وأما المنزل عليه فيذكر من صفاته ما جاء فى قوله جل شأنه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء]. فالذى نزل به أمين، على قلب الرسول الأمين، ليكون من المنذرين. وكذلك ما جاء فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136]. وجاء الوصف هنا بالرسالة ردا على التصورات الفاسدة فى استبعاد أن ينزل الله على بشر قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ

مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الأنعام: 91]. وجاء كذلك قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) [الفرقان]، فوصف بالعبودية لله فهو عبد الله وهو النذير للعالمين. وكذلك قوله جل شأنه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التنزيل باسمه فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) [محمد]. كما ذكر مع التنزيل وصف للمنزل فقال تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) [الإسراء] وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) [الزمر]. وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر] وقال تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) [النحل] وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [الإسراء] وقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء]، وقال جل شأنه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) [الفرقان]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) [الشورى]، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) [التغابن]، وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) [الأنعام]، وقال تبارك وتعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) [طه]، وقال جل شأنه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) [الحج]، وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) [ص]. فهذه مجموعة من الصفات المتعلقة بالقرآن الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبالحق أنزله الله، ونزل وفيه الحق، وهو أحسن الحديث، وهو الذى يملأ قلوب قارئيه وسامعيه خشية من ربهم وسكينة وطمأنينة وهدى، وهو الذكر المحفوظ بوعد الله ليكون معطاء للعالمين إلى قيام الساعة، وهو التبيان لكل شىء بما فيه من أصول تعود إليها الأحكام فى كل شىء، وهو الرحمة والبشرى للمسلمين، وهو الشفاء للمؤمنين، وهو الذى أنزل مفرقا ليقرأه الرسول على الناس فى يسر وسهولة ليحسنوا فى تلقيه، وكذلك لتثبيت فؤاده، وهو النور الكاشف الهادى، وهو المبارك والمصدق لما بين يديه، وهو القرآن الذى نزل بلسان عربى مبين. ولقد نعم المؤمنون بهذه الصفات وغيرها

واستمتعوا بها فى كتاب الله وسعدوا بثمراتها. وقد اختار الله لإنزال كتابه الوقت الذى جاء وصفه فى قوله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) [الدخان] وفى قوله جل شأنه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) [القدر]. وفى قوله سبحانه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185] فالليلة التى أنزل فيها القرآن الكريم ليلة مباركة، وهى ليلة القدر، وهى خير من ألف شهر، وهى فى شهر رمضان وهو الشهر الكريم المبارك. إن هذا التنزيل الذى وصف معه المنزّل سبحانه بما عرفنا ووصف المنزّل عليه، ووصف المنزّل، شد انتباه المنزّل إليهم ليتدبروا هذا الذكر الذى فيه خيرهم، وفيه سعادتهم وشرفهم. فماذا جاء بشأن المنزل من أجلهم؟ وما مراحل تنزلات القرآن الكريم حتى وصل إلى قلب النبى صلّى الله عليه وسلم؟ يقول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد: 16] وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (136) [النساء]، وقال تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) [النساء]، وقال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) [الأنبياء]، وقال تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) [إبراهيم]، فالذين أنزل من أجلهم الكتاب عليهم أن يحسنوا فى تلقيه وذلك بالإيمان به إيمانا تخشع به القلوب لذكر الله وما نزل من الحق. وينطلق به المؤمن للعمل بهذا الكتاب الذى أنزل من أجله ليحل حلاله، ويحرم حرامه، وليقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، ويتعظ به سلوكه فى الإيمان باليوم الآخر وكل ما جاء فيه من أنباء الغيب. والإنسان بهذا الإيمان وتلك الاستقامة يخرج بإذن الله من الظلمات إلى النور وكفى بذلك شرفا وتكريما لمن كان له عقل إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ

الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) [الإسراء]. ويتضح لنا من هذا العرض القرآنى الكريم للتنزيل وما يتعلق به كيف كانت مسيرة الوحى لهداية العالمين فى هذا النور، وفى الطريق الأمين حتى تنزل على قلب النبى صلّى الله عليه وسلم؟ وكيف هيئت النفوس لاستقبال هذا النور والانتفاع به، وجنى ثمراته فى النفس والقلب والسلوك وشئون الحياة جميعا؟ فماذا بعد ذلك من تنزلات القرآن الكريم؟ إن المتأمل فى النصوص القرآنية السابقة يرى أن نزول القرآن الكريم عبر عنه فى آيات بقول الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر]، وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: 3] وكذلك قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] فيفهم من ذلك أن القرآن نزل كله فى الليلة المباركة وفى الشهر المبارك. فإذا قرأنا قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الإسراء: 106] وكذلك قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] ثم واقع نزول القرآن على الرسول صلّى الله عليه وسلم مدة ثلاثة وعشرين عاما، دل ذلك على نزول القرآن الكريم على فترات، فكيف يكون التوجيه فى ذلك؟ إن الوقوف على تنزلات القرآن الكريم الثلاثة يبين لنا هذا. التنزل الأول: إلى اللوح المحفوظ ودليل ذلك قوله جل شأنه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) [البروج]. واللوح المحفوظ هو السجل الجامع لكل ما قضى الله وقدّر وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين، وهذا من مظاهر قدرة الله وعظمته وعلمه وإرادته وحكمته وواسع سلطانه وقدرته، وهذا يبعث على الرضا ويغرس السكينة فى مواجهة ما يصيب الإنسان، قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) [الحديد]. التنزل الثانى: إلى بيت العزة فى السماء الدنيا والذى جاء فيه قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: 3] وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر] وقوله جل شأنه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]. وهذا التنزل بهذا المعنى يذهب التعارض بين النزول جملة والنزول على الرسول مفرقا، وقد جاءت الروايات بما يؤيد هذا الاتجاه فقد أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس

رضي الله عنهما أنه قال: فصل القرآن من الذكر فوضع فى بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل يتنزل به على النبى صلّى الله عليه وسلم. كما أخرج النسائى والحاكم والبيهقى من طريق داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك فى عشرين سنة، ثم قرأ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [الفرقان]. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء] وأخرج الحاكم والبيهقى وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعضه فى إثر بعض. فهذه أحاديث مما ذكره السيوطى- موقوفة على ابن عباس رضي الله عنهما. ولها حكم المرفوع إلى النبى صلّى الله عليه وسلم لما هو معروف من أن قول الصحابى فيما لا مجال للرأى فيه، ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات له حكم المرفوع. ونزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التى لا تعرف إلا من المعصوم صلّى الله عليه وسلم، وابن عباس رضي الله عنهما لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات، وعلى ذلك يثبت الاحتجاج بهذه الروايات. التنزل الثالث: وهو تنزل النور الذى أضاء الدنيا وأخرج الناس من ظلماتهم، والذى جاء فى قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء]. وهذا التنزل الثالث هو نزول القرآن فيه مفرقا ومنجما والذى سنتعرف- إن شاء الله- بعد ذلك على أول ما نزل وآخر ما نزل بعد مدارستنا لحكمة هذه التنزلات.

الحكمة من هذه التنزلات

الحكمة من هذه التنزلات يرى بعض العلماء فى تعدد النزول وأماكنه- مرة فى اللوح المحفوظ، وأخرى فى بيت العزة، وثالثة على قلب النبى صلّى الله عليه وسلم- تأكيدا على نفى الشك عن القرآن الكريم، وزيادة للإيمان به، وباعثا على الثقة فيه؛ لأن الكلام إذا سجل فى سجلات متعددة، وقسمت له وجودات كثيرة كان ذلك أنفى للريب عنه وأدعى إلى التسليم بثبوته، وأدنى إلى وفرة الإيقان به مما لو سجل فى سجل واحد، أو كان له وجود واحد. وأما نزول القرآن الكريم مفرقا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذلك لحكمة عظيمة يمكن أن نتدارسها لنرد بها على مطلب الكافرين الذين قالوا ما حكاه القرآن الكريم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32]. ولنبين أن الإنزال جملة واحدة على الرسول الكريم ما كان يحقق هذه الغايات وتلك الحكم، وأن الخير كله فيما قدره الله وأنفذه من إنزال كتابه الكريم مفرقا على رسوله صلّى الله عليه وسلم ونتعرف على هذه الحكمة فى اتجاهات ثلاثة: الأول: ما يتعلق بالنبى صلّى الله عليه وسلم. الثانى: ما يتعلق بالأمة. الثالث: ما يتعلق بالمنهج. أما ما يتعلق بالنبى صلّى الله عليه وسلم فهذا ما ذكره الله سبحانه فى قوله الكريم: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [الفرقان] فمن الحكم العظيمة: تثبيت قلب النبى صلّى الله عليه وسلم وشرح صدره، وتدرك هذه الحكمة وهذه الثمرة عند ما نطالع صفحة حياة النبى صلّى الله عليه وسلم فى دعوته المباركة وما واجهه من تحديات خطيرة تحتاج إلى تثبيت فقد واجهه المشركون، وواجهه أهل الكتاب، وواجهه المنافقون، وكان لكل فريق من هؤلاء صور من التحديات الخطيرة؛ فأما المشركون فواجهوه ومن آمن به بالفتنة فى الأبدان والأموال وشمل ذلك النبى صلّى الله عليه وسلم بدءا بوضع الشوك فى طريقه وإلقاء النجاسات والقاذورات عليه وهو ساجد، وانتهاء بالتدبير لقتله،

وشمل ذلك أصحابه تعذيبا وتحريقا وقتلا. وواجهوه وأصحابه بالفتنة فى الأموال مغالاة ومقاطعة ومصادرة إلى درجة شاقة جعلت خبابا يقول للرسول صلّى الله عليه وسلم: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ ويجيبه الرسول صلّى الله عليه وسلم: «إن الرجل ممن قبلكم كان يؤخذ فتحفر له الحفرة، ويوضع فيها ويجعل السيف على رأسه فيشقّ نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يزيده ذلك إلا تمسكا بدينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون». كما واجهوه وأصحابه بالسخرية والاستهزاء، والمساومة والإغراء، والقتال المنظم وكان ذلك شاقا، ويحتاج إلى تثبيت قلب النبى صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يشعروا دائما أن الله معهم، والوحى يؤيدهم ويوجههم. كما واجهه صلّى الله عليه وسلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى بعداءات انطلقت من حقد قلوب عرفت الحق فجحدته، ووجهت تحدياتهم بعلم مصحوب بتحريف وتغيير وتبديل، فبعد أن ذهب حيىّ بن أخطب وأخوه أبو ياسر إلى النبى صلّى الله عليه وسلم وعادا كالّين كسلانين ساقطين، سمعت السيدة صفية عمها أبا ياسر يقول لأخيه حيى: أهو هو؟، قال: نعم، والله إنه هو. قال: أتعرفه وتثبته، قال: نعم. قال فما فى نفسك منه؟ قال: عداوته ما بقيت. وكان فى مواجهة هذه العداوة وصورها حاجة إلى تثبيت وتوجيه وبيان للحق الذى يحرف. وواجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم تحديات أخرى من الفئة الثالثة التى أظهرت الإسلام وأبطنت الكفر وعاشت على النفاق، ووضعت يدها فى يد أعداء النبى صلّى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب، وصاروا الداء الخبيث الذى يعمل داخل الأمة فى خفاء، ولا يحجم عن الظهور بالأعمال الصالحة التى يخفى وراءها تدبيرا قاتلا. كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يواجه كل هؤلاء مجتمعين ومتفرقين، وكان مع هذه المواجهة فى حاجة إلى تثبيت قلبه ليمضى في تبليغ رسالة ربه، ولا يخفى ما فى تكرر نزول جبريل عليه بالقرآن من شد الأزر وتثبيت القلب وتفريج الكرب وإذهاب الحزن كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32]. كما أن ما يتعلق بالنبى صلّى الله عليه وسلم فى نزول القرآن الكريم مفرقا يظهر جليا فى تيسير الحفظ والترتيل، وتجدد الإعجاز والتدرج فى تربية الأمة تعليما ورعايتها عملا وسلوكا. ولنتدبر إلى بعض هذه التوجيهات القرآنية فى مواقف متكررة من حياة

النبى صلّى الله عليه وسلم. يحكى القرآن الكريم له قصص الرسل ثم يقول الله: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود: 120]. ومرة يقول له: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 49] وفى موقف آخر: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]، وفى موقف مواجهة أخرى يقول له: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر] وفى موقف آخر يقول له: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) [فاطر] وفى غيره يقول له: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) [النحل]. وفى موقف آخر يخوف عواقب حزنه من كفر أعدائه فيقول: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) [الشعراء]. ويضعه فى مرة أخرى أمام تعرية لنفوس هؤلاء وبيان لنتيجتهم فيقول: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) [الأنعام].

حاجة الأمة للنزول المفرق

حاجة الأمة للنزول المفرق ونتناول وجها آخر يتعلق بالأمة وحاجتها إلى هذا النزول المفرق: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) [آل عمران]. بهذا وصف الناس قبل بعثة النبى صلّى الله عليه وسلم؛ كانوا فى ضلال مبين، شمل ضلال العقيدة، والتصورات التى بنيت عليها نحو الكون والإنسان والحياة، كما تشمل الضلال فى السلوك العملى للإنسان والعلاقات بين الناس، ومن مظاهر الضلال فى العقيدة: أن يصنع الإنسان إلهه بيده ثم يسجد له ويعلق حياته به رغبة ورهبة، ومن ضلال تصورات الإنسان نحو الحياة أن جعلوها كل شىء ولا حياة بعدها، وهذا التصور يفسد الحياة حيث يتحول فى هذا التصور الإنسان إلى حيوان مفترس يريد أن يحظى بكل شىء، ولو على حساب الآخرين، وأن يشبع شهواته ولو أفسد حياة غيره، فهذا التصور يقيم حياة الناس على أساس الظلم الذى قال عنه زهير الشاعر الجاهلى: ومن لا يظلم الناس يظلم ومن ضلال التصور للإنسان أن الإنسان يقاس بما يملك من مال وما ينتمى إليه من عصبية، فمن ملك ذلك فهو العظيم فى تصورهم، ومن حرم من شىء من ذلك كان وضيعا، وليس أهلا للمكرمات، فصارت النظرة قائمة على عنصرية ظالمة لا دخل للإنسان فيها. ومن خلال التصور نحو الكون الذى يعيش فيه وبين آياته أن اتخذت بعض هذه الآيات للتقديس والعبادة من دون الله. ومن مظاهر الضلال فى العلاقات أن النفوس التى بنيت على المعانى الفاسدة السابقة صارت نفوسا ضعيفة وشحنت بالعداوة والبغضاء، وصار الطيش والسفه من سمات هذه النفوس، وأصبحت الحروب تشن لأتفه الأسباب، وصار التناصر فى الحروب لا يقوم على الحق وإقامة العدل بل تحكمت فيه العصبية. لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... للنائبات على ما قال برهانا ومن هذا السفه وهذه الحماقة أخذت هذه الحياة صفة الجاهلية: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومن مظاهر الضلال المبنى على التصورات السابقة أن أموال الناس صارت تؤكل بالباطل، وأن امتصاص دماء الآخرين عن طريق التعامل بالربا صار متبعا، وأما العلاقات الاجتماعية فوجد فيها الضلال فى علاقة الزوج بزوجته حيث كانت من سقط المتاع؛ لا يعبأ برأيها زوجة ويتشاءم منها، وتنشأ بينهما طفلة، وتورث إذا مات زوجها، وامتهنت كرامتها فيما شاع من سفاح وفاحشة. هذه صورة موجزة لحالة الأمة قبل البعثة والتى وصفت بالضلال المبين مرة ووصفت بالجاهلية أخرى، ووصفت بالظلمات مرة، وبالموت والخمول أخرى. فكيف يعمل الوحى عمله فى هذه الضلالات المتراكمة والمترابطة؟ هل يجدى أن ينزل الوحى جملة واحدة ليعالج مثل هذه الحالات المتشابكة؟ أم أن ينزل على فترات ليأخذ بيد الناس أخذا رفيقا يرتب فيه الأهم فالمهم، ويقدم العلاج الذى يجتث هذه الأمراض المتمكنة؟ وإن كنا سنتناول ذلك تفصيلا فيما يتعلق بوجه المنهج إلا أننا نركز هنا أن النزول مفرقا كان لا بدّ منه لمواجهة هذه الحالات المتشعبة والضاربة فى كل اتجاه. فإذا أضفنا إلى ذلك حالة الأمة فى كونها أمة أمية وأن عدد الكتاب والقراء فى بداية الوحى كان قليلا، أدركنا الحكمة من نزول القرآن الكريم مفرقا ليقرأه الرسول على الناس على مكث وليرتله ترتيلا يسهل معه حفظه وفهمه والعمل به. وإذا كانت تصورات الناس فى الرسل أن يكونوا ملائكة، وأن هذا جعل بعضهم يستبعد أن يرسل الله بشرا رسولا. ونظر بعضهم بالمقاييس السابقة فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) [الزخرف] ويقصدون بالعظمة هنا عظمة المال والجاه. كان لا بدّ فى مواجهة هذه التصورات الفاسدة نحو النبوة أن يظل اتصال جبريل برسول الله صلّى الله عليه وسلم مستمرا، وعلى فترات طويلة؛ حتى يتأكد لهم الدليل بعد الدليل على نبوته ورسالته، وحتى تؤتى المعجزة ثمارها فى قلوب هؤلاء. وحالة الناس هذه على قدر شدة ضلالها وشدة ظلماتها وخمولها تحتاج إلى زمن وجهد متواصل فى نقلهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ومن الموت والخمول إلى الحياة الطيبة النقية: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء]. ومما يتصل بحالة الأمة كذلك أن من آمن منها تعرض لتحديات فى حاجة إلى تثبيت مستمر كذلك، وتسليحهم بالصبر وتوجيههم إلى سبيل المواجهة الصحيحة، ومنحهم

تجارب الأمم السابقة مع رسلهم وكيف كانت عاقبة المؤمنين، وفى الوقت نفسه تعرض أمام المعاندين نتائج عناد من سبقهم، وهذا لا يتأتى بنزول القرآن جملة واحدة، فكيف يخاطب قوم بمثل قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) [النور]، كيف يخاطبون بذلك ولم يدخلوا مثل هذه التجربة؟ وكيف تحكى غزوة الأحزاب ولما تحدث بعد؟ وكيف يحكى يوم حنين ولما يأت بعد؟ إن من دلائل الإعجاز أن يكون كل هذا مسطورا فى اللوح المحفوظ قبل أن يحدث بين المؤمنين والكافرين، وأن يكون محفوظا فى بيت العزة، وأن ينزل مفرقا حسب ما شاء الله وعلى ما يناسب وقت التنزيل: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) [الفرقان] ويتضح ذلك جليا عند تمام الحديث عن حكم نزول القرآن مفرقا فى الوجه الثالث الذى يتعلق بمنهج التبليغ للناس.

نقل الناس من الضلال إلى الهدى

نقل الناس من الضلال إلى الهدى إن تناول المنهج الذى يناسب حالة هؤلاء، وكيف ينقلون من الضلال إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور، وهل يناسب هذا المنهج أن ينزل القرآن جملة واحدة أم أن يكون نزوله كما أنزله الحق تبارك وتعالى مفرقا؟ إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]، وقد جعل من أسس توجيهاته للناس ألا يتبعوا ما لم يعلموا فقال تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] فالعلم أولا ثم العمل، فكيف يعلم هؤلاء؟ هل التعليم الذى يكون محتواه متناولا لجوانب متعددة من عقيدة وأخلاق وأحكام عملية تتمثل فى عبادات ومعاملات وما يدور حول هذا المحتوى من المعانى يصلح أن يكون جملة أم أن يعلم بالمنهج الجزئى؟ لقد فهم أحد علماء الأمة الأوائل هذه الحقيقة فصاغها فى عبارة تجرى مجرى الأمثال فقال معمر بن راشد الصنعانى وهو أول من جمع العلم باليمن: «من أخذ العلم جملة ذهب منه جملة». وهو يعنى بهذا أن المنهج الجزئى الذى تستوعب فيه المسائل الجزئية مسألة مسألة هو الذى يثبت فى القلب ثبوتا مصحوبا بالفهم والحفظ وهو الذى يثبّت ويمكّن صاحبه من العمل المصحوب بالدليل، وهو الذى يعين كذلك على تبليغ هذا العلم للآخرين. هذه الحقيقة تؤكد أن من أجلّ الحكم أن ينزل القرآن الكريم مفرقا ليسهل على الناس استقباله بالفهم والحفظ والعمل والتبليغ والتعليم. الجانب الثانى: من المنهج أن الرسول صلّى الله عليه وسلم يقوم بهذا الوحى بتزكية الناس وتربيتهم ونقلهم من حالة إلى أخرى وهذا يقتضى منه أمرين: الأول: هدم السيئ من الماضى. الثانى: إقامة البناء الجديد بصيغته الربانية. وهذه التربية بجزأيها تحتاج إلى وقت، وتحتاج إلى فترات تربوية متكررة تعالج فيها القلوب والنفوس، ويهذب السلوك تدريجيا، ويكون لكل مرحلة ما يلائمها حتى يصل بها إلى الهداية والرشاد، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة. قلنا إن النفوس فى الجاهلية كانت نفوسا ضعيفة لا تقوى على مواجهة ما يصيبها من خير أو شر، فالخير يدفعها إلى الكبر والبطر، والمصيبة تلقى بها فى دائرة اليأس. فكيف تعالج هذه النفوس؟ إنها فى

حاجة إلى مجموعة من العناصر التى يتم بها العلاج فهى فى حاجة إلى تصحيح نظرتها إلى الحياة وفى حاجة إلى الإيمان بخالق الحياة، وفى حاجة إلى تخليص هذا الإيمان من مظاهر الشرك وفى حاجة إلى بيان عاقبة الإنسان مع الابتلاء بالشر والخير. وكل هذا لا يتم جملة بل تنزل آيات تفصل فى مفهوم الإيمان وتبينه، وآيات بعد ذلك تبين حقيقة الابتلاء ومجالاته، وآيات تقدم نماذج سابقة لمن وقع فى البلاء بنوعيه، ونماذج ممن نجح فى الابتلاء، ونماذج لم توفق، وعاقبة النموذجين، والأخذ بأيدى الناس فى مواقف عملية يعقب عليها بآيات قرآنية لنخرج من هذه العناصر المترابطة ببناء النفسية القوية فى إيمانها، والقوية فى مواجهتها. فهذه الخنساء مع قولين لها ندرك كيف تغيرت المفاهيم؟ وكيف تغيرت المواجهة لعنصر من عناصر الابتلاء؟ قالت فى جاهليتها فى رثاء أخيها: يذكرنى طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى وقالت فى إسلامها تعقيبا على استشهاد أبنائها الأربعة: الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم جميعا، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته. فالنفسية الأولى جزعة يصل بها الجزع إلى الحزن القاتل والتفكير فى التخلص من الحياة؛ وذلك لأن مفهوم الحياة مفهوم «جاهلى» كما سبق، وحقيقة الموت غير واضحة، والإيمان بالخالق سبحانه والبعث والجزاء ليس متحققا فى نفوسهم فكم من الوقت، وكم من التوجيهات، وكم من الجهد يبذل لتصل النفس إلى الإيمان الذى يعد صاحبه الموت فى سبيل الله شرفا، وأن الشهادة والموت لا يفرق تفريقا لا لقاء بعده، بل هناك الجمع واللقاء، والأمل أن يجمع الله الخنساء بأبنائها فى مستقر رحمته. الجانب الثالث: والمتصل بالتربية: أن تفاعل الناس مع الوحى وظهور مشكلات ذهنية أو اجتماعية أو خصومات فيما بينهم كل ذلك يحتاج إلى تنزلات الوحى ليجيب عن سؤال سائل، أو ليعالج مشكلة وقعت، أو ليبين وجه الحق فى موقف من المواقف، وكل هذه أساليب تربوية تثبت المعانى حيث يعرف السؤال أو الموقف بجوانبه ويعرف الجواب فيعلق ذلك ليستفاد منه وقت النزول وبعده عند حدوث النظير والمشابه من الحوادث، وهذا كله لا يتحقق لو أنزل جملة واحدة. الجانب الرابع: من المنهج أن التدرج فى التربية يقتضى أن ينسخ حكم سابق بحكم لاحق يدرك الناس منه لطف الله بهم، وتيسيره عليهم، ورفع الحرج عنهم، ورحمته بهم، وهذا يوقع فى اللبس لو أنزل جملة واحدة فكيف يعرف الناسخ من

المنسوخ؟ وإن من دلائل الإعجاز فى نزول القرآن الكريم مفرقا أن يدرك الناس مع هذا التفريق ومع الترتيب الذى رتب عليه القرآن الكريم توقيفا بما يحقق الوحدة العضوية والترابط الدقيق بين أوائل السور وأوسطها وأواخرها كما سنجده واضحا بعد ذلك يدل على أنه كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [هود].

أول ما نزل من القرآن

أول ما نزل من القرآن ونتناول أول ما نزل من القرآن الكريم لنتبعه ببحث آخر ما نزل من القرآن، ثم نعيش بين أول ما نزل، وآخر ما نزل فى صحبة «متدبرة» وننعم فيها بأحسن الحديث وخير الذكر. وسبيلنا فى تحديد تاريخ نزول الآيات الكريمة، وتحديد ما ينزل من آيات كريمة بعد أخرى، إنما هو سبيل النقل الصحيح، والروايات الموثقة مع تدبرها، والجمع بين ما يكون من روايات فى ظاهرها التعارض. فأما أول ما نزل من القرآن الكريم فأمامنا مجموعة من الأقوال المعتمدة على روايات سأذكرها ثم أرجح ما يكون دليله أقوى؛ فمن هذه الأقوال: القول الأول: أن أول ما نزل صدر سورة العلق إلى قوله سبحانه: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) ودليل هذا القول الروايات الآتية: الدليل الأول: ما رواه البخارى ومسلم (واللفظ للبخارى) عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب له الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى. فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فضمنى الثالثة ثم أرسلنى فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) [العلق]» وفى بعض الروايات حتى بلغ « ... ما لَمْ يَعْلَمْ (5). فرجع بها إلى خديجة يرجف فؤاده ... » إلى آخر الحديث. الدليل الثانى: ما صححه الحاكم فى مستدركه والبيهقى فى دلائله عن عائشة أم المؤمنين- أيضا- رضي الله عنها أنها قالت: أول سورة نزلت من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.

الدليل الثالث: ما صححه الطبرانى فى الكبير بسنده عن أبى رجاء العطاردى، قال: «كان أبو موسى يقرئنا فيجلسنا حلقا وعليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ قال: هذه أول سورة نزلت على محمد صلّى الله عليه وسلم. كما وردت آثار أخرى بهذا المعنى مثال ذلك ما جاء فى رواية الزهرى: أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان بحراء إذ أتى الملك بنمط من ديباج مكتوب فيه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) إلى ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق] والنمط: هو الثياب، والديباج: هو الحرير. فهذا هو القول الأول الذى يرى بهذه الأدلة أن أول ما نزل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)، والأدلة كما نرى قوية فهى روايات وشهادات موثقة وصحيحة فيها التصريح بذلك ونزداد يقينا بصحة هذا القول عند ما نعرض الأقوال الأخرى من باب الأمانة العلمية، وحتى لا يبقى فى النفس شىء. فأما القول الثانى: فيرى أن أول ما نزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ودليل هذا القول ما رواه الشيخان عن أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: «سألت جابر بن عبد الله: أى القرآن أنزل قبل؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: أو اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وفى رواية نبئت أنه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنى جاورت بحراء فلما قضيت جوارى نزلت فاستبطنت الوادى زاد فى رواية: «فنوديت فنظرت أمامى وخلفى وعن يمينى وعن شمالى، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو- يعنى جبريل- قاعد وفى رواية جالس على عرش بين السماء والأرض فأخذتنى رجفة فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثرونى، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) [المدثر]. وهذا الحديث الذى ذكره جابر بن عبد الله رضي الله عنه فيه ما يشير إلى أن رؤية الرسول صلّى الله عليه وسلم للملك جبريل لم تكن الأولى فكلمة «فإذا هو» تدل على أنه يشير إلى أنه الملك الذى جاء مرة قبل ذلك بغار حراء فيكون ما نزل فى هذه المرة قد سبق بغيره، ونقل جابر بن عبد الله هذا على أنه أول ما نزل بإطلاق، ولكنه أول ما نزل بعد فترة الوحى. والذى يرجح ما نقول به ما جاء فى رواية جابر بن عبد الله نفسه رضي الله عنه ورواها الشيخان كذلك وفيها: «فبينا أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصرى قبل السماء فإذا الملك الذى جاء بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض فجثثت حتى هويت إلى الأرض (أى ثقل جسمى عن القيام من الخوف) فجئت أهلى فقلت: دثرونى فدثرونى فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ

فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر]. والظاهر من هذا أن جابرا رضي الله عنه سمع الرسول الكريم وهو يحدث عن فترة الوحى وفاته ما ذكرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه فى القول الأول، وإن كان ذلك اجتهادا منه رضي الله عنه فإن النص مقدم على الاجتهاد وعلى ذلك يبقى القول الأول أصح. وأما القول الثالث: فيرى أصحابه أن أول ما نزل سورة الفاتحة ودليلهم على ذلك ما رواه البيهقى في الدلائل بسنده عن أبى ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إنى إذا خلوت وحدى سمعت نداء فقد والله خشيت على نفسى أن يكون هذا أمرا» قالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك، إنك لتؤدى الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه لها وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة فانطلقا فقصا عليه فقال: «إذا خلوت وحدى سمعت نداء خلفى يا محمد يا محمد، فأنطلق هاربا فى الأفق»، فقال: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول. ثم ائتنى فأخبرنى. فلما خلا ناداه يا محمد قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حتى بلغ: وَلَا الضَّالِّينَ (7) [الفاتحة]. وهذا الحديث مرسل سقط من سنده الصحابى فلا تقوى على معارضة حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فى القول الأول وهو مرفوع إلى النبى صلّى الله عليه وسلم. ثانيا: ليس فيه ما يتعارض مع القول الأول فإنه يفهم من هذه الرواية أن الفاتحة لم تسبق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ لأن ذهاب الرسول مع أم المؤمنين خديجة إلى ورقة كان عقب نزول اقرأ والذهاب هنا مع أبى بكر بعد هذه المرة الأولى وبعد سماع الصوت من الخلف ويبقى القول الأول أصح الأقوال. القول الرابع: تناولنا فيما سبق ثلاثة أقوال فى تحديد أول ما نزل من القرآن الكريم الأول: وهو أصحها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1). الثانى: يا أيها المدثر. الثالث: سورة الفاتحة. وناقشنا أول هذه الأقوال ورجحنا أدلة القول الأول، ونتابع الآن القول الرابع فى تحديد لأول ما نزل. فيرى أصحاب هذا القول أن أول ما نزل «بسم الله الرحمن الرحيم» ودليلهم ما أخرجه الواحدى بسنده عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن «بسم الله الرحمن الرحيم» وأول سورة «اقرأ» ومن وجهة النظر الحديثية نرى

أن الحديث هنا لا يقوى- أيضا- على معارضة حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والمرفوع إلى النبى صلّى الله عليه وسلم: لأن الحديث هنا مرسل كذلك. الأمر الثانى: إن البسملة كانت تنزل صدرا لكل سورة إلا ما استثنى كسورة التوبة، وعلى ذلك نقول: إنها نزلت مع ما نزل من صدر سورة «اقرأ» ولا يعد نزولها مستقلا يقال به ليعارض القول الأول، وبناء على ذلك نرجح القول الأول الذى يرى بالأدلة الصحيحة أن أول ما نزل هو قوله تعالى: «بسم الله الرحمن الرحيم» اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق]. وقبل أن نتدبر أول ما نزل نكمل القول فى آخر ما نزل، ثم نتناول ما يتعلق بترتيب الآيات والسور حتى يصبح الأمر واضحا، عند ما نتتبع تاريخ نزول الآيات بعضها إثر بعض، والثمرات التى نجنيها من ذلك، وكيف أن الترتيب الذى تم بتوقيف النبى صلّى الله عليه وسلم والذى عليه المصحف الآن مظهر من مظاهر الإعجاز القرآنى، حيث بظهر الأحكام والوحدة العضوية مع النزول المفرق والممتد مع حياة النبى صلّى الله عليه وسلم فى الدعوة. آخر ما نزل: فأما ما قيل فى آخر ما نزل فقد وجدنا كذلك مجموعة من الأقوال بأدلتها نذكرها ونناقش أدلتها ونرجح ما نراه قويا منها. الأول: يرى أن آخر ما نزل قول الله تعالى فى سورة البقرة: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) أخرجه النسائى من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك أخرج ابن أبى حاتم قال: «آخر ما نزل من القرآن كله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... الآية وعاش النبى صلّى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال، ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول. وهذا القول وإن لم يكن مرفوعا إلى النبى صلّى الله عليه وسلم إلا أن ما ذكر فيه من الجانب التاريخى والذى يؤكد أن النبى صلّى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها تسع ليال يرجح هذا القول على ما سيأتى من أقوال. الثانى: فيرى أصحابه أن آخر ما نزل قول الله تعالى فى سورة البقرة كذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) وأخرجه البخارى عن ابن عباس وأخرجه البيهقى عن ابن عمر رضي الله عنهما.

الثالث: فيرى أصحابه أن آخر ما نزل قوله تعالى من سورة البقرة أيضا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وهى آية الدين، وهى أطول آية فى القرآن الكريم. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدين. وأخرج أبو عبيد فى الفضائل عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين. هذه أقوال ثلاثة جمع بينها السيوطى رحمه الله بقوله: إن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها فى المصحف؛ لأنها فى قصة واحدة فأخبر كلّ عن بعض ما نزل بأنه آخر. ولكن كما ذكر فى القول الأول أن آخر هذه الثلاثة نزولا قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) [البقرة] فضلا عن الجانب التاريخى الذى أشرنا إليه نجد المعنى مع ختام الوحى القرآنى فى تهيئة الناس للاستعداد لليوم الآخر الذى يرجع فيه الناس إلى الله لتوفى كل نفس ما كسبت بالقسط. الرابع: فيرى أصحابه أن آخر ما نزل قوله تعالى فى سورة آل عمران: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ... [آل عمران: 195] الآية ودليلهم على هذا ما أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ... إلى آخرها، وذلك أنها قالت يا رسول الله: أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء، فنزلت: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) [النساء] ونزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35] ونزلت هذه الآية، فهى آخر الثلاثة نزولا، وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل فى الرجال خاصة. وهذا القول لا يفيد أن هذه الآية آخر ما نزل بإطلاق، وإنما كما هو واضح من الرواية أنها آخر ما نزل فى موضوع بعينه، وهو موضوع مخاطبة القرآن الكريم للنساء.

الخامس: فيرى أصحابه أن آخر ما نزل قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) [النساء]، ودليلهم على ذلك ما أخرجه الإمام البخارى وغيره عن ابن عباس قال: هذه الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ وهي آخر ما نزل، وما نسخها شىء، وواضح من قول ابن عباس رضي الله عنهما: وما نسخها شىء أنه يتحدث عن موضوع معين وهو موضوع قتل المؤمن عمدا، وأن هذه الآية آخر ما نزل فيه وليست آخر ما نزل بإطلاق. السادس: يرى أصحابه أن آخر ما نزل قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176]. وهي خاتمة سورة النساء، وأن آخر سورة نزلت سورة: «براءة» ودليل هذا القول ما يرويه البخارى ومسلم عن البراء بن عازب أنه قال: آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، وآخر سورة نزلت «براءة». ويرد على هذا بحمل الخبر المذكور على أن الآية- هنا- آخر ما نزل فى موضوع المواريث وليست آخر ما نزل بإطلاق، وأن السورة كذلك آخر ما نزل فى شأن تشريع القتال والجهاد فكلاهما آخر بالنسبة إلى موضوع خاص وليس بإطلاق. السابع: فيرى أصحابه أن آخر ما نزل «سورة المائدة» ودليلهم رواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أخرجها الترمذى والحاكم ولكنها أيضا آخر ما نزل فى الحلال والحرام فلم تنسخ فيها أحكام وليست الآخر بإطلاق. الثامن: فيرى أصحابه أن آخر ما نزل خاتمة سورة براءة: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [128] إلى آخر السورة ودليلهم ما رواه الحاكم، وابن مردويه عن أبى بن كعب، ولكن يجاب عن ذلك أيضا بأنها آخر ما نزل من سورة «براءة» وليس الآخر المطلق. ويؤيد ذلك ما قيل من أن هاتين الآيتين مكيتان بخلاف سائر السورة. التاسع: فيرى أصحابه أن آخر ما نزل آخر سورة الكهف: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) ودليلهم ما أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه ورد ابن كثير على ذلك بقوله: هذا أثر مشكل، ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها، ولا غير حكمها، بل هى مثبتة محكمة فهو آخر مقيّد وليس بإطلاق. العاشر: فيرى أصحابه أن آخر ما نزل سورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ

ودليلهم ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه ولكن يرد على ذلك بأن هذه السورة آخر ما نزل مشعرا بوفاة النبى صلّى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا ما روى عن أنه صلّى الله عليه وسلم قال حين نزلت: «نعيت إلىّ نفسى». وفهم بعض كبار الصحابة ذلك كما ورد وأن عمر رضي الله عنه بكى حين سمعها وقال: الكمال دليل الزوال، كما يحتمل كذلك أنها آخر ما نزل من السور فقط، ويدل على ذلك رواية ابن عباس: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) [النصر]. الحادى عشر: يرى أصحابه أن آخر ما نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] من سورة المائدة ودليلهم على ذلك أنها منبئة بكمال الدين وتمام النعمة، ولأن إكمال الدين لا يكون إلا بأن تتم الأحكام والشرائع، ولا يكون هذا إلا بتمام نزول القرآن، ولكن يجاب عن هذا بأن هذه الآية الكريمة نزلت فى يوم عرفة فى حجة الوداع بالسنة العاشرة من الهجرة، وتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك ببضع وثمانين ليلة، فإذا تذكرنا ما قلناه سابقا من أن قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) [البقرة] قد عاش النبى صلّى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول عرفنا أن الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ليست آخر ما نزل وترجح أن قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ هى آخر ما نزل، وأما تأويل إكمال الدين وإتمام النعمة فهو إنجاحه وإقراره وإظهاره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولا شك أن الإسلام فى حجة الوداع قد ظهرت شوكته وعلت كلمته على كلمة الشرك وضربه الكفر وجنده، والنفاق وأهله حتى لقد أجلى المشركون عن البلد الحرام ولم يخالطوا المسلمين فى الحج والإحرام. قال ابن جرير فى تفسير الآية الكريمة: «الأولى أن يتأوّل على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون لا يخالطهم المشركون». وأيد هذا التأويل بما رواه عن ابن عباس: قال: «كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا فلما نزلت سورة «براءة» نفى المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم فى البيت الحرام أحد من المشركين. فكان ذلك من تمام النعمة». وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3]. وبعد تحديد أول ما نزل وآخر ما نزل، وقبل أن نرتع فى رياض الجنة بتتبع نزول الآيات القرآنية الكريمة من قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي

خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق]، إلى قوله جل شأنه: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) [البقرة] نتناول قبل هذا التتبع مسألة جديرة بالذكر والدراسة وهى ما يتعلق بالآيات القرآنية الكريمة والسور من جهة معنى الآية، وطريقة معرفتها، وترتيب الآيات فى المصحف، وتقديم الأدلة على كونه توقيفيا، ودلالة ذلك على الإعجاز القرآنى فى النزول المفرق والترتيب المعجز، وكذلك نتعرف على معنى السورة، وأقسام السور، وهل هو توقيفى؟ ومناقشة ما يتعلق بذلك من أقوال، وذلك لندرك الغاية من تتبعنا لتاريخ نزول الآيات الكريمة والسور، ومطالعة صفحات التنزيل المشرقة، وكيف عالج القرآن الكريم أمة كانت ضالة فهداها الله، وكانت جاهلة فعلمها، وكانت فى ظلمات فأخرجها إلى النور، وكانت خاملة الذكر فأحياها وجعلها خير أمة أخرجت للناس؟ وكيف تم هذا خطوة خطوة؟ وكيف أعطيت التوجيهات، وتفاعل الناس معها فى كل الشئون؟ كما نقف فى الوقت نفسه على الإحكام بعد هذا التنزيل فى الترتيب القرآنى لآياته وسوره.

ترتيب الآيات القرآنية

ترتيب الآيات القرآنية ونتناول فى ذلك مسألة ترتيب الآيات القرآنية الكريمة، وما يتعلق بها بعد أن عرفنا أول ما نزل وآخر ما نزل، ونرى أن ذلك ضرورى قبل أن نرتع فى روضات الآيات حسب نزولها: وكلمة «آية» قد جاءت فى كتاب الله بمعان نذكر منها ما يلى: الآية بمعنى: العلامة ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 248]. يعنى علامة ملكه. وجاءت كذلك بمعنى: العبرة ومن هذا قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً [الشعراء: 8] بمعنى عبرة لمن أراد أن يعتبر. كما جاءت بمعنى الأمر العجيب، وفى هذا قوله جل شأنه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] أى أمرا عجبا، ودالا على قدرة الله سبحانه وتعالى. كما وردت بمعنى البرهان والدليل كما جاء فى قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم: 22]. أى من البراهين والأدلة على قدرة الله الخالق البارئ المصور سبحانه ما خلق من السموات والأرض وما فيهما من آيات، ومنها ما تشاهدونه من اختلاف الألسنة والألوان فيكم. فهذه المعانى التى جاءت فى هذه الآيات القرآنية إطلاقات لغوية مترابطة المعانى، ومناسبة لمعنى الآية القرآنية فى الاصطلاح، والتى تتضمنها السورة القرآنية، فالآية القرآنية معجزة، وهى علامة على صدق من أنزلت إليه صلّى الله عليه وسلم، وفيها العبرة والعظة والذكرى لمن أراد أن يعتبر، وهى من الأمور العجيبة لما فيها من السمو والإعجاز إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن]. وفيها معنى البرهان والدليل لما تتضمنه من هداية وعلم، وكذلك دلالتها على قدرة الله سبحانه وعلمه وحكمته وصدق رسوله صلّى الله عليه وسلم. وبعد معرفة معنى «الآية» نتساءل ما السبيل إلى معرفة حدود الآية الكريمة؟ هل هو

توقيفى أم اجتهادى؟ ونجد للعلماء فى هذا رأيين: الأول: يرى أنه توقيفى، ويقدمون أدلتهم على ذلك، وسنوردها إن شاء الله تعالى. الثانى: يرى أن معرفة الآيات منه ما هو توقيفى ومنه ما هو اجتهادى. والراجح من الرأيين أولهما، وهو الذى يرى أن تحديد الآيات توقيفى وليس للقياس والرأى مجال فيها بدليل أن العلماء عدوا «المص» آية ولم يعدوا نظيرها وهو «المر» آية، وعدوا «يس» آية، ولم يعدوا نظيرها وهو «طس» آية، وعدوا حم (1) عسق (2) [الشورى] آيتين، ولم يعدوا نظيرها وهو كهيعص (1) [مريم] آيتين بل آية واحدة. فلو كان الأمر قائما على الاجتهاد والقياس لكان حكم النظيرين والمثلين واحدا فيما ذكر. ومن أدلة التوقيف فى هذا الأمر ما جاء فى الأحاديث الآتية والتى يصرح فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذكر الآية والآيات وتسميتها. أخرج البخارى وأبو داود والنسائى عن أبى سعيد بن المعلى: كنت أصلى فى المسجد فدعانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إنى كنت أصلى: فقال: «ألم يقل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ» [الأنفال: 24] ثم قال: «لأعلمنك سورة هى أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد». ثم أخذ بيدى فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هى أعظم سورة فى القرآن؟ قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هى السبع المثانى والقرآن العظيم الذى أوتيته». فهذا الحديث فيه دلالة على أن الفاتحة سبع آيات، وعلى أنها هى المرادة بالسبع المثانى فى قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) [الحجر: 87]. وأخرج الترمذى والحاكم عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إن لكل شىء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هى سيدة آى القرآن: آية الكرسى». وكذلك أخرج مسلم والترمذى عن أبى بن كعب: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر. أتدري أى آية من كتاب الله معك أعظم؟» قلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُ

الْقَيُّومُ [البقرة: 255]، فضرب فى صدرى وقال: «ليهنك العلم أبا المنذر». كما أخرج الخمسة إلا النسائى عن أبى مسعود البدرى أنه قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه». وأخرج الإمام أحمد فى مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم سورة من الثلاثين من آل حم، قال: يعنى الأحقاف؛ لأن السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين، وقال ابن العربى: ذكر النبى صلّى الله عليه وسلم أن: «الفاتحة سبع آيات، وسورة الملك ثلاثون آية». فإذا قيل: إذا قلنا بالتوقيف فلماذا ترى بعض الخلاف فى هذا؟ فالكوفيون- مثلا- يقولون بالتوقيف وعدوا كل فاتحة من فواتح السور التى فيها شىء من حروف الهجاء آية سوى حم (1) عسق (2) [الشورى] فإنهم عدوها آيتين، وسوى «طس» ولم يعدوا من الآيات ما فيه «ر» وهو «الر» و «المر» وما كان مفردا وهو «ق» و «ص» و «ن» أى لم يعدوا شيئا منها آية. وأما غير الكوفيين فلا يعتبرون شيئا من الفواتح آية إطلاقا. نقول إن هذا الخلاف لا يتعارض مع القول بالتوقيف، فكلّ وقف عند حدود ما بلغه أو علمه. وإذا تأملنا الرأى الثانى رأيناه لا يخرج كثيرا عن القول بالتوقيف؛ لأنه يجعل القياس مبنيا على الفاصلة والوصل والوقف، وكل هذا فى حق أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم قائم على الاتباع والسماع من الرسول الكريم ليس اتباعا للرأى والهوى. لقد وقفنا على سبيل معرفة تحديد الآية القرآنية الكريمة، وأنه توقيفى، وأن الاختلاف الذى قد نجده بين العلماء فى ذلك يرجع إلى وقوف كلّ عند حدود ما بلغه أو علمه، كما يرجع ذلك فى عد الآيات إلى أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآى؛ تعليما لأصحابه أنها رءوس آى، حتى إذا علموا ذلك وصل صلّى الله عليه وسلم الآية بما بعدها لاكتمال المعنى وتمامه فيظن بعض الناس أن ما وقف عليه النبى صلّى الله عليه وسلم ليس فاصلة فيصلها بما بعدها عادا أن الجميع آية واحدة، والبعض عدها آية مستقلة فلا يصلها بما بعدها، ولا يترتب على هذا الخلاف خطورة، ولا يترتب عليه زيادة ولا نقص فى كتاب الله تعالى، ولكنها الدقة العلمية والتحرى الدقيق الذى جعل العلماء يقبلون على كتاب ربهم إقبالا متدبرا فى جزئياته وكلياته. ومما ذكروا فى ذلك أيضا: أن آيات القرآن الكريم مختلفة فى الطول والقصر،

فأطول آية هى آية الدّين من سورة البقرة التى هى أطول سورة، وأقصر آية كلمة «يس» والتى هى فى صدر سورة يس. كما ذكر العلماء من فوائد معرفة الآيات وتحديده ما يلى: أولا: العلم بأن كل ثلاث آيات قصار معجزة للنبى صلّى الله عليه وسلم، وفى حكمها الآية الطويلة التى تعدل بطولها تلك الثلاث القصار. ووجه ذلك أن الله تعالى أعلن التحدى بالسورة الواحدة فقال سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]. والسورة تصدق بأقصر سورة كما تصدق بأطول سورة، وأقصر سورة فى القرآن هى سورة الكوثر، وهى ثلاث آيات قصار فثبت أن كل ثلاث آيات قصار معجزة، وفى قوتها الآية الواحدة الطويلة التى تكافئها. ثانيا: حسن الوقف على رءوس الآي عند من يرى أن الوقف على الفواصل سنّة، بناء على ظاهر الحديث الذى استدلوا به فيما يرويه أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها: أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية يقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) ثم يقف الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة] ثم يقف». وقال بعض العلماء: وفى الاستدلال بذلك الحديث على ما ذكر نظر، وذلك لأنه حديث غريب غير متصل الإسناد. رواه يحيى بن سعيد الأموى وغيره عن ابن جريج عن ابن أبى مليكة عن أم سلمة، والأصح ما رواه الليث عن ابن أبى مليكة عن يعلى ابن مالك أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصلاته فقالت: ما لكم وصلاته؟ ثم نعتت قراءته مفسرة حرفا حرفا. ذكر ذلك الترمذى. وجمع بعض العلماء بين هذين الحديثين بأن النبى صلّى الله عليه وسلم كان تارة يقف على كل فاصلة، ولو لم يقم المعنى بيانا لرءوس الآيات. وكان تارة يتبع فى الوقف تمام المعنى فلا يلتزم أن يقف على رءوس الآى لتكون قراءته مفسرة حرفا حرفا، وعلى هذا يمكن أن يقال: حيثما كان الناس فى حاجة إلى بيان الآيات حسن الوقف على رءوس الآى، ولو لم يتم المعنى، وحيثما كان الناس فى غنى عن معرفة رءوس الآى لم يحسن الوقف إلا حيث يتم المعنى. ويحتمل أن كلمة: «مفسرة حرفا حرفا» فى الحديث السابق يراد بها الترتيل وإخراج الحروف من مخارجها فلا تعارض الحديث الأول. ثالثا: اعتبار الآيات فى الصلاة والخطبة، قال السيوطى ما نصه: يترتب على معرفة الآى وعددها وفواصلها أحكام فقهية منها: اعتبارها فيمن جهل الفاتحة، فإنه

يجب عليه بدلها سبع آيات. ومنها اعتبارها فى الخطبة فإنه يجب قراءة آية كاملة، ولا يكفى شطرها- إن لم تكن طويلة وكذا الطويلة على ما حققه الجمهور- ثم قال: ومنها اعتبارها فى السورة التى تقرأ فى الصلاة أو ما يقوم مقامها، وفى الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الصبح بالستين إلى المائة، ومنها اعتبارها فى قراءة قيام الليل ... إلى آخر ما قال. هذا ما يتعلق بتعريف الآيات وتحديدها وعددها، فماذا عن ترتيبها على النمط الذى نراه اليوم فى المصاحف؟ لقد انعقد إجماع الأمة على أن ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذى نراه اليوم فى المصاحف كان بتوقيف من النبى صلّى الله عليه وسلم عن الله تعالى، ولا مجال للرأى والاجتهاد فيه، فكان جبريل عليه السّلام ينزل بالآيات على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويدله على موضع كل آية من سورتها، ويقرؤها الرسول صلّى الله عليه وسلم على أصحابه كما علمه جبريل، كما يأمر كتّاب الوحى بكتابة الآيات المنزلة فى سورها مبينا لهم موقع الآيات من هذه السور الكريمة، وكان يقرأ الآيات بترتيبها فى سورها على المسلمين فى صلواتهم، وفى خطبه ومواعظه. كما كان جبريل عليه السّلام ينزل كل ليلة من ليالى رمضان ليدارس رسول الله القرآن الكريم، فكان يعرض عليه القرآن كل عام مرة، وفى العام الأخير عرضه عليه مرتين، وجاء فى صفة النبى صلّى الله عليه وسلم: «كان أجود الناس وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلّى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة»، وكان هذا على الترتيب الذى بين أيدينا الآن. وكذلك كان كل من حفظ القرآن أو شيئا منه من الصحابة حفظه مرتب الآيات على هذا النمط، وشاع ذلك وذاع وملأ الأسماع، ويتدارسونه فيما بينهم فى حلقات علمهم على ذلك، ويأخذ بعضهم عن بعض بالترتيب القائم. فليس لواحد من الصحابة والخلفاء الراشدين يد ولا تصرف فى ترتيب شىء من آيات القرآن الكريم، بل الجمع الذى كان على عهد أبى بكر رضي الله عنه لم يتجاوز النقل من

العسب واللخاف وغيرها فى مصحف واحد، والجمع على عهد عثمان رضي الله عنه لم يتجاوز نقله من المصحف فى مصاحف، وكلا هذين كان وفق الترتيب المحفوظ والمستفيض عن النبى صلّى الله عليه وسلم عن الله تعالى، وعلى ذلك انعقد الإجماع وممن حكى هذا الإجماع، جماعة منهم الزركشى فى البرهان وغيره. وأما دليل هذا الإجماع فنذكره إن شاء الله مستقبلا فيما يلى.

دليل هذا الإجماع (وجمع المصحف)

دليل هذا الإجماع (وجمع المصحف) يقوم هذا الإجماع على نصوص كثيرة: منها ما رواه الإمام أحمد عن عثمان بن أبى العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه، ثم قال: أتانى جبريل فأمرنى أن أضع هذه الآية هذا الموضع من السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ... إلى آخرها [النحل: 90]. ومنها ما يثبت فى السنن الصحيحة من قراءة النبى صلّى الله عليه وسلم بسور عديدة كسورة البقرة وآل عمران والنساء. ومن قراءته لسورة الأعراف فى صلاة المغرب، وسورة «قد أفلح المؤمنون»، وبسورة الروم فى صلاة الصبح، وقراءة سورة السجدة، وسورة «هل أتى على الإنسان» فى صبح يوم الجمعة، وقراءته سورة الجمعة، والمنافقين فى صلاة الجمعة، وقراءته سورة «ق» فى الخطبة، وسورة «اقتربت» و «ن» فى صلاة العيد، وكان يقرأ ذلك كله مرتب الآيات على النحو الذى فى المصحف على مرأى ومسمع من الصحابة. ومنها ما أخرجه البخارى عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [البقرة: 234] نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها (والمعنى لماذا تكتبها؟ أو قال: لماذا تتركها مكتوبة؟ مع أنها منسوخة)، قال: يا ابن أخى لا أغير شيئا من مكانه. فهذا حديث واضح الدلالة فى أن إثبات هذه الآية فى مكانها مع نسخها توقيفى، لا يستطيع عثمان رضي الله عنه باعترافه أن يتصرف فيه لأنه لا مجال للرأى فى مثله. ومن ذلك ما رواه مسلم عن عمر قال: ما سألت النبى صلّى الله عليه وسلم عن شىء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه فى صدرى وقال: تكفيك آية الصيف التى فى آخر سورة النساء، فالرسول صلّى الله عليه وسلم دله على موضع تلك الآية من سورة النساء، وهى قوله سبحانه: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176]. هذا ما يتعلق بترتيب الآيات وقد رأينا أنه توقيفى وعرفنا أدلة ذلك، فما القول فى السورة القرآنية وما يتعلق بها؟

إن معنى السورة فى اللغة: المنزلة، وهى فى الاصطلاح قريبة الصلة بهذا المعني اللغوى، فهى فى القرآن منزلة بعد منزلة، ومن معانيها اللغوية كذلك الشرف، وما طال من البناء وحسن، وكذلك العلامة وغير ذلك. وقيل فى وجه العلاقة بين اسم السورة القرآنية وسور المدينة: إن فى سور القرآن وضع كلمة بجانب كلمة، وآية بجانب آية كالسور توضع كل لبنة منه بجانب لبنة، ويقام كل صف منه على صف، ولما فى السورة من معنى العلو والرفعة المعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته الحسية وإما لأنها حصن وحماية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وما جاء به من كتاب الله القرآن ودين الحق الإسلام باعتبار أنها معجزة تخرس كل مكابر، ويحق الله بها الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، وهذا أشبه بسور المدينة؛ يحصنها ويحميها غارة الأعداء وسطوة الأشقياء. وسور القرآن الكريم تختلف طولا وقصرا؛ فأقصر سورة فيه سورة الكوثر وأطول سورة فيه سورة البقرة، وبين سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثيرة تختلف طولا وتوسطا وقصرا. ويرجع الطول والقصر والتوسط إلى الذى أنزله وحده جل شأنه لحكم سامية تعلمها ويدركها من رسخ فى العلم، وصفت سريرته، ومن هذه الحكم ما أشار إليه المتأملون فيما يلى: التيسير على الناس وتشويقهم فى حسن استقبالهم للقرآن الكريم استقبال الفهم والحفظ والعمل والمدارسة والتدوين والتعليم. ومن ذلك أيضا: معالجة الموضوعات معالجة تتلاءم مع حجم الموضوع وأهميته، والدلالة على موضوع الحديث ومحور الكلام، وهذا يتضح بما ورد فى سورة البقرة مثلا من موضوعات، وسورة يوسف وسورة النحل وسورة الجن وهكذا. ومنها: الإشارة والبينة إلى أن طول السورة ليس شرطا فى إعجازها، بل هى معجزة وإن بلغت الغاية فى القصر كسورة الكوثر. ومنها: أن القارئ إذا أتم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ فى الآخر كان أنشط له وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله، ومثل هذا كمثل المسافر إذا قطع مسافة معينة نفّس ذلك عنه ونشط للسير ومن ثم جزّأ القرآن أجزاء وأخماسا. ومنها: أن الحافظ إذا صدق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيعظم عنده ما حفظه ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه: «فإن الرجل إذا قرأ البقرة

وآل عمران جل فينا». وقسمت سور القرآن إلى أربعة أقسام، خص كل منها باسم معين وهي: الطوال، والمئين، والمثانى، والمفصل. فالمئون: هى السور التى تزيد آياتها على مائة أو تقاربها. والمثانى: هى التى تلا المئين في عدد الآيات، وقال الفراء: هى السور التى آيها أقل من مائة آية لأنها تثنّى (أى تكرر) أكثر مما تثنّى الطوال والمئون. والمفصل: هو أواخر القرآن وسمى بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وقيل لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى المحكم أيضا كما روى البخارى عن سعيد بن جبير قال: «إن الذى تدعونه المفصل هو المحكم». والمفصل ثلاثة أقسام: طوال، وأوساط، وقصار؛ فطواله من أول «الحجرات» إلى سورة «البروج»، وأوساطه من سورة «الطارق» إلى سورة «لم يكن»، وقصاره من إِذا زُلْزِلَتِ إلى آخر القرآن. هذا ما يتعلق بمعنى السورة، وتقسيمات السور القرآنية، أما ما يتعلق بترتيبها فسنوضحه فى الصفحات التالية.

ترتيب السور القرآنية

ترتيب السور القرآنية لقد وجد فى ترتيب سور القرآن الكريم ثلاثة أقوال: الأول: يرى أن ترتيب السور كلها بتوقيف من النبى صلّى الله عليه وسلم كترتيب الآيات القرآنية تماما، وأنه لم توضع سورة فى مكانها إلا بتوجيه منه- عليه الصلاة والسلام- ويستدل أصحاب هذا القول بما يلى: إن الصحابة أجمعوا على المصحف الذى كتب فى عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد رضوان الله عليهم، وإجماعهم لا يكون إلا إذا كان الترتيب الذى أجمعوا عليه عن توقيف، ولأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم، لكنهم لم يتمسكوا بترتيبهم بل عدلوا عنه، وأحرقوا الصحف التى كانت معهم، ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه. وذكر أصحاب هذا القول روايات تؤيد هذا الإجماع؛ منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفى قال: كنت فى الوفد الذين أسلموا من ثقيف- وجاء فى هذه الرواية- فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «طرأ علىّ حزب من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه» فسألنا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزّبون القرآن؟ قالوا نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة، وحزّب المفصل من «ق» حتى تختم. قالوا: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو فى المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واحتجوا كذلك بأن السور المتجانسة فى القرآن لم يلتزم فيها الترتيب والولاء، ولو كان الأمر بالاجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما، لكن ذلك لم يكن بدليل أن سور المسبّحات لم ترتب على التوالى بينما هى متماثلة فى افتتاح كل منها بتسبيح الله. بل فصل بين سورها بسور «قد سمع»، و «الممتحنة»، و «المنافقون»، وبدليل أن «طسم الشعراء» و «طسم القصص» لم يتعاقبا مع تماثلهما، بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهى «طس» وأيد هذا المذهب أبو جعفر النحاس فقال: والمختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحديث واثلة: «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال»، وكذلك انتصر أبو بكر الأنبارى لهذا المذهب فقال: أنزل الله القرآن إلى سماء الدنيا ثم فرقه فى بضع

وعشرين سنة فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابا لمستجد، ويوقف جبريل النبى صلّى الله عليه وسلم على موضع السورة والآيات والحروف كله من النبى صلّى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن. وأخرج ابن أشتة فى كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدمتا وألف القرآن على علم من ألفه به إلى أن قال: فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه. ويناقش أصحاب هذا القول بأن الرواية التى ساقوها وأمثالها خاصة بمحالّها، فلا ينسحب حكم التوقيف على الكل. ثم هى ظنية فى إفادة كون الترتيب عن توقيف، وأن حديث ابن عباس والذى جاء فيه قوله: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى وإلى براءة وهى من المئين ففرقتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموها فى السبع الطوال؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه شىء دعا بعض من يكتب فيقول: «ضعوا هذه الآيات فى السورة التى يذكر فيها كذا وكذا»، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتهما فى السبع الطوال، فهذا الحديث من ابن عباس صريح فى أن عثمان قد اجتهد فى ترتيب الأنفال والتوبة ويونس. كما يناقش أصحاب هذا القول بأن الإجماع الذى استندوا إليه لا يدل علي توقيف فى ترتيب جميع السور؛ لأنه لا يشترط أن يسند الإجماع إلى نص فى ترتيب جميع السور، فحسب الصحابة أن يحملهم الاجتهاد الموفق على أن يجمعوا على ترتيب عثمان للسور ويتركوا ترتيب مصاحفهم، توحيدا لكلمة الأمة، وقطعا لعرق النزاع والفتنة إذا ترك كلّ ورأيه فى هذا الترتيب. وأما القول الثانى: فيرى أصحابه أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبى صلّى الله عليه وسلم، وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة، وقد ذهب إلى هذا الرأى مجموعة

من العلماء، ويرى بعض المحدثين أنه أمثل الآراء، ويعلل ذلك بأنه وردت أحاديث تفيد ترتيب البعض- كما مر بنا في الرأى السابق والقائل بالتوقيف- وخلا البعض الآخر مما يفيد التوقيف بل وردت آثار تصرح بأن الترتيب فى البعض كان عن اجتهاد، كالحديث السابق المروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولكن المؤيدين لهذا القول اختلفوا فى السور التى جاء ترتيبها عن توقيف، والسور التى جاء ترتيبها عن اجتهاد، فقال القاضى أبو محمد ابن عطية: إن كثيرا من السور قد علم ترتيبها فى حياة النبى صلّى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل، وأما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوّض الأمر فيه إلى الأمة بعده. وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية، ويبقى فيها قليل يمكن أن يجرى فيه الخلاف كقوله صلّى الله عليه وسلم: اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران» رواه مسلم. وكحديث سعيد بن خالد: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالسبع الطوال فى ركعة، رواه ابن أبى شيبة فى مصنفه وفيه: أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يجمع المفصّل فى ركعة. وروى البخارى عن ابن مسعود أنه قال: قال صلّى الله عليه وسلم فى بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: «إنهن من العتاق الأول وهن من تلادى»، والعتاق: جمع عتيق وهو القديم من كل شىء، والمراد بالعتاق- هنا: ما نزل أولا، والتّلاد ضد الطارف وهو: المستحدث من المال ونحوه، والمراد بالتلاد هنا: ما نزل أولا- أيضا- وفى الحديث: «هن من تلادى» يعنى: السور أى من الذى أخذته من القرآن قديما. فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها. وفى صحيح البخارى أنه صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ: «قل هو الله أحد، والمعوّذتين». القول الثالث: فيرى أن ترتيب السور كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم، وينسب هذا القول إلى جمهور من العلماء منهم: مالك والقاضى أبو بكر فيما اعتمده من قوليه، وإلى هذا المذهب يشير ابن فارس فى كتاب المسائل الخمس بقوله: جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور كتقديم السبع الطوال، وتعقيبها بالمئين فهذا هو الذى تولّته الصحابة رضي الله عنهم، وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات فى السور فذلك شىء تولاه النبى صلّى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه عز وجل. ودليلهم على هذا ما يلى:

أولا: أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة فى ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن فى عهد عثمان، فلو كان هذا الترتيب توقيفيا منقولا عن النبى صلّى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه، ويتجاوزوه، ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذى تصوره الروايات؛ فهذا مصحف أبى بن كعب روى أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام .. إلخ، وهذا مصحف على كان مرتبا على النزول فأوله «اقرأ» ثم «المدثر» ثم «ق» ثم «المزمل» ثم «تبت» ثم «التكوير»، وهكذا إلى آخر المكى والمدنى. ثانيا: ما جاء فى المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحيى عن أبى محمد القرشىّ قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة فى السبع، ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو يشير بهذا إلى ما رواه أحمد والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى، وإلى براءة وهى من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ وقد ذكرنا هذه الرواية بتمامها فى مناقشة القول الأول. ويناقش هذا القول وهذا المذهب بالأحاديث الدالة على التوقيف- والتى ذكرناها فى القولين السابقين- كما يناقش دليلهم الأول باحتمال أن اختلاف من خالف من الصحابة فى الترتيب إنما كان قبل علمهم بالتوقيف، أو كان فى خصوص ما لم يرد فيه توقيف دون ما ورد فيه. كما يمكن مناقشة دليلهم الثانى بأنه خاص بمحل وروده، وهو سورة الأنفال والتوبة ويونس فلا يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن الكريم كله. وبعد أن عرضنا للأقوال الثلاثة بأدلتها، ومناقشة هذه الأدلة نذكر ما قاله السيوطى رحمه الله فى هذا فيقول: والذى ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقى وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفى إلا براءة والأنفال، ولا ينبغى أن يستدل بقراءة سور أوّلا على أن ترتيبها كذلك، وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء قبل آل عمران، لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب ولعله فعل ذلك لبيان الجواز. والإمام الزركشى يرى: أن الخلاف من أساسه لفظى، فقال فى البرهان: والخلاف بين الفريقين- أى القائلين بأن الترتيب عن اجتهاد، والقائلين بأنه عن توقيف- لفظى لأن القائل بالثانى يقول: إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته،

ولهذا قال مالك: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى صلّى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور كان باجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قوليّ أو بمجرد إسناد فعلىّ بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر، وتبعه فى ذلك جعفر بن الزبير. وحتى لو قيل بالاجتهاد من الصحابة فى بعض المواضع من الترتيب فقد علمنا من قبل أن اجتهاد الصحابة قائم على الاتباع، وعلى ما ألفوا وسمعوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وليس اجتهادا قائما على الرأى والهوى. وسواء أكان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا، فإنه ينبغى احترامه، خصوصا فى كتابة المصاحف؛ لأنه عن إجماع الصحابة- رضوان الله عليهم- والإجماع حجة، ولأن خلافه يجر إلى الفتنة، ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب. أما ترتيب السور فى التلاوة فليس بواجب، إنما هو مندوب قال الإمام النووى فى كتابه البيان: قال العلماء: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف، فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران، ثم ما بعدها على الترتيب سواء أقرأ فى الصلاة أم فى غيرها، حتى قال بعض أصحابنا: إذا قرأ فى الركعة الأولى سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) [الناس] يقرأ فى الثانية بعد الفاتحة من البقرة، قال بعض أصحابنا: ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التى تليها، ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة، فينبغى أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة، يقرأ فى الأولى سورة السجدة، وفى الثانية: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ، وصلاة العيد فى الأولى «ق» وفى الثانية: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وركعتى الفجر فى الأولى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) وفى الثانية: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)، وركعات الوتر فى الأولى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)، وفى الثانية: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)، وفى الثالثة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) «والمعوّذتين». ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلى الأولى، أو خالف الترتيب فقرأ بسورة قبلها جاز، فقد جاءت بذلك آثار كثيرة، وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فى الركعة الأولى من الصبح بالكهف، وفى الثانية بيوسف. وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا فقال: ذلك منكوس القلب.

وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا متأكدا؛ لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز، ويزيل حكمة ترتيب الآيات. وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن، ليس هذا داخلا فى قولنا، وذلك من باب تسهيل الحفظ عليهم. وننتقل بعد هذا لنرتع فى روضات القرآن الكريم مع آياته الكريمة وسوره المباركة على حسب نزولها.

ليلة نزول القرآن الكريم

ليلة نزول القرآن الكريم بدأ تنزل النور الذى أضاء الله به الأرض وما عليها فى الليلة المباركة، وفى هذا لفت نظر إلى أن هذا التنزيل سيبدد الظلمات بالنور، وسيفرق فيها بين الحق والباطل، وسيقيم الناس على المحجة البيضاء، وكانت الليلة المباركة التى هى خير من ألف شهر. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) [القدر]، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) [الدخان]، وكانت الليلة المباركة فى الشهر المبارك شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185] وشاء الله أن يكون شكر الأمة لله على هذه المنة بنزول القرآن الكريم فى هذا الشهر العظيم أن يصومه المسلمون فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]، فالصيام فى نهاره، ويقوم المسلمون ليله بهذا الذكر الحكيم، فكان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، فيدارسه القرآن فلرسول الله صلّى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. فى مثل هذا الزمن الفاضل كان نزول أولى الآيات القرآنية الكريمة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غار حراء حيث كان يتحنث فيه الليالى ذوات العدد، فجاءه الملك « ... وقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [العلق]». وعند ما تكون بداية الوحى أمرا بالقراءة لإمام هذه الأمة ولمن تبعه فإنها بداية موجهة للأمة إلى الوجهة التى شرفها الله بها، وإلى المهمة التى يعدها الله لها، إنها مهمة التعليم والتزكية والتربية والتبليغ والدعوة، بهذه المهمة كانت البعثة: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ

عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) [آل عمران]. وعلى هذه المهمة تكون أمته كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] والطريق إلى القيام بهذه المهمة يتضح منذ اللحظة الأولى، ومن التوجيه الأول والأمر الكريم «اقرأ»، وتستطيع بناء على ذلك أن تقرر أن أول مبدأ يقرره الوحى، القراءة والتى هى مفتاح العلم الذى سيرد ذكره بعد قليل. وعلى ذلك يمكن أن نقول أيضا: إن من بين المقاييس بل ومن أهمها فى قياس درجة تفاعل الأمة مع إسلامها، ومع وحى ربها مقياس القراءة، فالأمة المسلّمة لربها أمة قارئة عالمة. وتتبع هذا المبدأ ملازمة ومنهج صحيح يرش طريق القراءة، وهو مبدأ القراءة باسم الله الرب الخالق العظيم سبحانه وتعالى، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وللعلماء فى توجيه ذلك أقوال منها: ما قاله أبو عبيدة: أن الباء زائدة وعلى ذلك يكون المعنى اقرأ اسم ربك، ومعنى ذلك اذكر اسمه. ولكن يذكر الرازى ضعف هذا الرأى لوجوه يقول فيها: أحدها أنه لو كان معناه اذكر اسم ربك ما حسن منه أن يقول ما أنا بقارئ. أى لا أذكر اسم ربى. وثانيها: أن هذا الأمر لا يليق بالرسول؛ لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله فكيف يأمره بأن يشتغل بما كان مشغولا به أبدا، وثالثها: أن فيه تضيع الباء من غير فائدة. ولكن يمكن أن نناقش رد الرازى لهذا الرأى بقولنا: إن إجابة الرسول عن قول جبريل: «اقرأ» فقط كما جاء فى الرواية التى ذكرناها سابقا، فكان يضمه ويقول له: «اقرأ» فيقول: «ما أنا بقارئ» وليست الإجابة إذن كما يذكر الإمام الرازى عن قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1]. بل نزلت الآية بعد الضمة الثالثة وإجابة الرسول: «ما أنا بقارئ»، تقرير للأمية التى هى دليل إعجاز للنبى صلّى الله عليه وسلم، حتى لا يقال ما قاله بعض المشركين أنه قرأ كتب الأولين: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) [العنكبوت]. وهذا يناسب أيضا الآية الكريمة التى تنبهه أن قراءته ستكون باسم الله وتعليمه وقوته وليست من ذاتك أو جهدك الشخصى أو تعلمك السابق. أما قول الرازى: إن هذا لا يليق بالرسول؛ لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله،

فإنه يجاب عن هذا بأن هذا الأمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر لأمته، ولا يعنى الأمر بذكر اسم الله عند القراءة، وعند طلب العلم، وعند القيام بالعمل أن الرسول لا يذكر الله فى كل أحيانه، بل هذا تدعيم لما كان عليه من الذكر الدائم، وأمر لأمته بأن يكونوا على ذلك. والقول الثانى: فى تفسير ذلك أن المراد من قوله: «اقرأ» أى اقرأ القرآن إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه، قال تعالى: فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) [القيامة] وقال وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء] وقوله بِاسْمِ رَبِّكَ تحتمل وجوها أحدها: أن يكون التقدير: اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أى قل: باسم الله ثم «اقرأ» وفى هذا دلالة علي أنه يجب قراءة التسمية فى ابتداء كل سورة كما أنزل الله تعالى وأمر به، وفى هذه الآية رد على من لا يرى ذلك واجبا ولا يبتدئ بها. وثانيها: أن يكون المعنى: اقرأ القرآن مستعينا باسم ربك، وتحقيق ذلك أنه لما قال له: «اقرأ» فقال له: «لست بقارئ»، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، أى استعن باسم ربك واتخذه معينا فى تحصيل ما تيسر عليك، وثالثها: أن قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أى اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله كما تقول: بنيت هذه الدار باسم فلان ولأجله فإن العبادة إذا صارت لله تعالى فكيف يجترئ الشيطان أن يتصرف فيما هو لله تعالى، فإن قيل: كيف يستقيم هذا التأويل فى قولك، قبل الأكل: باسم الله، وكذا قبل كل فعل مباح؟ ويجيب الرازى عن هذا بوجهين: أحدهما: إن الإضافة هنا للفعل إلى العظيم- جل جلاله- ليقطع الشيطان طمعه عن مشاركتك، فقد روى أن: من لم يذكر اسم الله شاركه الشيطان فى ذلك. والثانى: أنه ربما استعان بذلك المباح على التقوى، وعلى طاعة الله فيصير المباح طاعة، فيصح ذلك التأويل فيه. إذا كانت الآيات الكريمة الأولى في التنزيل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ تقرر مبدأ القراءة أولا، ومبدأ أن تكون هى والعمل جميعا باسم الله استعانة وطلبا لمرضاته، يبقى أن نتأمل ذكر كلمة «الرب» - سبحانه- فى قوله تعالى: بِاسْمِ رَبِّكَ، وذلك مناسب غاية المناسبة لموقفين: أحدهما: مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم والآخر مع الناس؛ أما مع النبى صلّى الله عليه وسلم فإن الرسول الكريم بلقائه مع جبريل فى صورته الملكية والتى خلق عليها فزع وخشى على نفسه،

وذكر كلمة الرب مع هذا تزيل ما فى نفسه من خشية أو فزع، وكأنما يقال للرسول الكريم: هو الذى رباك فكيف يفزعك؟ ومعنى آخر فيه تذكر للنبى صلّى الله عليه وسلم بما منّ الله به عليه من تربية: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) [الضحى]، فالتذكير بهذه النعم التى منحها الرب سبحانه تطمين للنبى صلّى الله عليه وسلم، وفى الوقت نفسه تحفيز لهم للقيام بواجب الشكر عليها، وقضاء هذا الدين بلا تكاسل. والأمر الثانى: أن الشروع ملزم للإتمام، وقد ربى الله رسوله منذ البداية فكيف يضيعه، أى منذ أن كان علقة لم يدعه، فكيف بعد أن صار خلقا نفسيا موحدا عارفا بالله كيف يضيعه؟ وأما ما يتعلق بالناس فكذلك تذكير لهم بما صنع من آيات يقرون بها تدعو إلى الإيمان بالرب الخالق الرازق المنعم سبحانه، وتؤهلهم بهذا الإيمان إلى الاستجابة لما يوحى به إليهم من أمر أو نهى فناسب ذلك أن يقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ولذلك جاء عقبها الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق]، فكأن العبد يقول: ما الدليل على أنك ربى؟ فيقول له: لأنك كنت بذاتك وصفاتك معدوما ثم صرت موجودا، فلا بد لك فى ذاتك وصفاتك من خالق، وهذا الخلق والإيجاد تربية يدل ذلك على أنى ربك، وأنت مربوبى، وفى هذا تقرير لمبدأ ثالث وهو الخلق لله وحده: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] فله الخلق الذى يلفت نظرنا إليه بصورة مطلقة تشمل كل مخلوق. «فالذى خلق» الأولى تكون بمعنى أنه الذى جعل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه، إنه خلق كل شىء. وخَلَقَ الثانية تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات، وذلك إما لأن التنزيل إليه، أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض باختصاص الله له بوحيه وشرعه وتكريمه، وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) [الإسراء] ففي ذلك التخصيص تعميم لخلق الإنسان ودلالة على عجيب قدرته؛ ولذلك احتج جماعة من العلماء بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى، قالوا: لأنه سبحانه جعل الخالقية صفة مميزة لذات الله تعالى عن سائر الذوات، وكل صفة هذا شأنها؛ فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها. فالربوبية إشارة إلى الخالقية. وهذه المعانى التى نقف عليها فى هذا التنزيل تضع

أمامنا مبدأ آخر، وهو: وجوب معرفة الرب الخالق- سبحانه وتعالى- وهذه المعرفة من أول الواجبات، ومن أهمها وقد بدأ بها القرآن الكريم مع الناس بداية تتلاءم مع ما كانوا عليه من عبادة الأوثان، فالحكيم- سبحانه وتعالى- لما أراد أن يبعثه رسولا إلى المشركين لو قال له: اقرأ باسم ربك الذى لا شريك له لأبوا أن يقبلوا ذلك منه، لكنه تعالى قدم لذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به، فكأن الحق سبحانه يقول: إن هؤلاء عباد الأوثان فاذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره، ثم قل: ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه، فهذا التدريج مقرون بأنى أنا المستحق للثناء دون الأوثان، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] فإذا أيقنوا بذلك وصلوا إلى التفريق بين من يخلق ومن لا يخلق أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] ووصولا بذلك إلى الإذعان لأمره ونهيه، وحققوا فى أنفسهم توحيد الألوهية مع توحيد الربوبية. وفى ذكر الخلق من علق غير مشاهد للإنسان وقت نزول الوحى وأصبح اليوم معلوما مشاهدا بالأدوات الطبية والمناظير وأصبحت أطوار خلق الإنسان التى حكى عنها القرآن الكريم تفصيلا معروفة، دليل واضح على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى تبليغه لكلام ربه الذى لا يعلم الغيب إلا هو ولا خالق سواه، وعلى ذلك يكون الترتيب كما سبق «اقرأ» فالقراءة مفتاح العلم، وإذا كان العلم دليل العمل والعمل باسم الله الرب الخالق الرازق الكريم، وأول ما ينبغى أن يعلم ويعرف توحيد الله توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ثم يأتى التكرار المؤكد لما سبق الذى يقدم مع التأكيد مزيدا من المعانى فيقول تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) [العلق]. ويوجه بعض العلماء هذا الأمر بالقراءة مع الأمر السابق أن الأول لنفسه والثانى للتبليغ. أو الأول للتعلم من جبريل والثانى للتعليم. وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ فمن كرمه تعالى أن خلق ورزق، وربّى ومنح خلقه بلا عوض، وهذا هو معنى الكريم، فالكرم إفادة ما يبتغى بلا عوض وهو سبحانه أكرم، وفى بيان وجوه بعض أكرميته يقول بعض العلماء: إنه كم من كريم يحلم وقت الجناية، لكن لا يبقى إحسانه على الوجه الذى كان قبل الجناية وهو تعالى أكرم، لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية، ومنه قول القائل: متى زدت تقصيرا تزد لى تفضلا ... كأنى بالتقصير أستوجب الفضلا

وثانيها: إنك كريم لكن ربك أكرم، وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعا ويدفع ضررا، أما الله سبحانه فالأكرم إذ لا يفعله إلا لمحض الكرم. ثالثها: أنه الأكرم؛ لأن له الابتداء فى كل كرم وإحسان، وكرمه غير مشوب بالتقصير. رابعها: يحتمل أن يكون هذا حثا على القراءة، أى هذا الأكرم؛ لأنه يجازيك بكل حرف عشرا، وحثا على الإخلاص أى اقرأ لأجلى، ودع علىّ أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك، ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحدا فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكليف الشاق ثم لا أنصرك. ومع وصف الله سبحانه لنفسه جل شأنه بأنه خلق الإنسان من علق، وأنه علّم بالقلم فما المناسبة بين الأمرين؟ إن الآيات الكريمة تبين مزيد كرم الله الأكرم سبحانه حيث تفضل على الإنسان بخلقه أولا، وتفضل عليه ثانيا بنقله من حالة مهينة إلى تشريفه بالعلم وإدراك حقائق الأشياء، وصيره إلى أشرف مراتب المخلوقات ويذكر ذلك فى هذا السياق القرآنى الكريم وفى بداية نزول الوحى ليرتبط بقضية التوحيد الكبرى فى حياة الإنسان، فهذا التحويل من أحسن المراتب إلى أشرفها يلفت نظر الإنسان إلى وجود المدبر والمقدر فيذعن لأمره ونهيه، كما أن فى هذا تنبيها على أن العلم أشرف الصفات الإنسانية، وكأن الآيات الكريمة تقول لنا الإيجاد والإحياء والأقدار والرزق كرم ربوبيته، أما الأكرم فهو الذى أعطاك العلم؛ لأن العلم هو النهاية فى الشرف. كما أن العلاقة بين المعنى السابق فى خلق الإنسان من علق بفضل ربه وكرمه وبين الذى علم بالقلم، انتقال بالإنسان كذلك من الوقوف على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة إلى الوقوف على الأحكام التى لا يستقيم الخلق إلا بها، والتى لا سبيل إلى معرفتها إلا بالتعلم والاستماع إلى ما يأتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عند ربه، فالحالة الأولى معرفة الربوبية. والثانية: الوقوف على النبوة وتقديم الأولى على الثانية تأهيل للإنسان للإقبال على النبوة وما يتبعها من تكليف إقبالا صحيحا مستجيبا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24]. وأما قوله تعالى: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) [العلق] فإشارة إلى أهمية هذه الآلة وتلك

الأداة التى يتم بها تقيد العلم فيجتمع للإنسان فضلان عظيمان؛ فضل القراءة وبها يحصل العلم، وفضل تقييد العلم بالكتابة، ولذلك شبه الكلام بالريح الذى لا تبقى وقيده بالكتابة، وشبه العلم بالصياد الذى يصيد العلوم، والبدء بمبدإ الكتابة مع القراءة سبيلا للعلم النافع فى بداية نزول القرآن الكريم نقل للعرب خاصة، وللعالمين عامة من أمية متفشية، ومن جهالة مطبقة، ومن ضلال مبين، ومن ظلمات إلى حالة التعلم والتعليم، وإلى الحلم ونور المعرفة، وإلى الهدى والرشاد، إلى النور والوضوح والطريق المستقيم، فالعرب كانوا أميين، وكان عدد الذين يقرءون ويكتبون فى جزيرة العرب ضئيلا جدا، وكانت الجهالة عامة فيهم، وأما بقية العالمين فكانت تعيش ما يسمى بعصر الظلمات فى جوانب حياتها كلها. ولذلك وجدنا عناية الإسلام من اللحظة الأولى بنقل الإنسان إلى نور العلم وسبيل ذلك القراءة وكذلك الكتابة، وإذا اجتهد الإنسان وسلك سبيل العلم بالقراءة والكتابة باسم ربه وامتثالا لأمره وجد المزيد من توفيق الله له فعلمه ما لم يكن يعلم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة: 282]، فمن علم بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. هذه هى الآيات الأولى التى عطرت الدنيا، فكانت أول ما نزل من وحى ربنا من فضله وكرمه ومنته على العالمين، ورأينا كيف اجتمع فيها من المبادئ ما يمكن أن نقول: إنها المفاتيح لهذه الأمة لتبدأ مكانتها، ولتنقل إلى الرشد والهدى، إن هذه الآيات الكريمات ذكرت الناس بربهم ليستجيبوا، وليمسكوا بمفتاح فلاحهم، وليقرءوا ما أنزل إليهم من ربهم، وما ينفعهم فى حياتهم، وليكتبوا ما تعلموه حتى يفيد منه أبناؤهم، وحتى يتمكنوا من تبادل معلوماتهم. بهذا أمرهم من خلقهم من علق، ومن نقلهم إلى هذا الشرف العلمى، ومن أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، ومنحهم العيون التى يقرءون بها، والآذان التى يسمعون بها، والشفاه التى يتكلمون بها، والبيان الذى ينطقون به، والأيدى التى يكتبون بها، فإذا استجابوا منحهم المزيد من علمه. إنها ربطت المخلوقين بربهم، ووضعتهم على سبيل رشادهم، ونلاحظ مع هذه الآيات الكريمة أنها بدأت بأمر «اقرأ» ولكنه أمر ممتزج ببيان ما يتيسر تنفيذه، وما يرشد استعماله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وتلا ذلك الإخبار والتذكر والنظر المتدبر، فأخبرت الآيات عن أن الله سبحانه خلق، وخلق الإنسان من علق؛ ليتأمل السامع والقارئ ذلك وتكون هذه من الأسس والقواعد التى تفصل بعد ذلك فى كتاب الله تعالى؛ لتشتمل

على الأمر والنهى فيما يسمى بالأحكام المتعلقة فيما بين العباد وربهم، وفيما بين العباد وبعضهم، وتشتمل على العقيدة التى هى أساس الأحكام وغيرها، فتربط الناس بربهم سبحانه بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتشتمل كذلك على ما تصحب هذا التعلم من معرفة شاملة لما يتحلى به من خلق كريم، وما يعرف من أخبار سبقت أو حوادث تجرى، كما تدعو إلى التأمل والتدبر فيما يكون فى حياة الإنسان وخلقه، هذه هى البدايات المباركة فى آيات الذكر الحكيم، ويبقى بعد ذلك أن نذكر المناسبة بين هذه الآيات الكريمة الأولى والآيات التى تلتها والتى تبدأ بقول الله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) [العلق]. فمتى نزلت وهل هى تالية فى نزولها لهذه الآيات الأولى أم لا؟ لقد تتابعت الآيات فى السورة الكريمة في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) ... إلى آخر السورة الكريمة فهل هذا الترتيب على ترتيب نزولها؟ نقول إن ما تضمنته الآيات الكريمة من معانى تدل على تأخر نزولها، وأنه نزلت آيات أخر بعد الآيات السابقة سنذكرها إن شاء الله فى حينها- بعد إكمال سورة العلق- ولكن لم يعرف على وجه التحديد الدقيق متى نزلت الآيات الكريمة من قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) إلى قوله جل شأنه: لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق] حتى نجعلها فى مكانها من ترتيب نزولها إلا أن ما تضمنته من المعانى يجعل وقت نزولها قريبا من هذه الآيات الأولى، كما أن ترتيب هذه الآيات الكريمة بالآيات السابقة- وهو ترتيب توقيفى كما مر بنا- يجعل المعانى مترابطة ترابطا وثيقا تتحقق فيه الوحدة العضوية لتكون سورة العلق بمجموعها مشتملة على المبادئ الأساسية فى حياة الدعوة، وفى حاجة الناس، والتى فصلت بعد ذلك فى السور القرآنية والأحاديث النبوية وعلى ذلك سنتناول هذه الآيات بالحديث عنها هنا. ففي قوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) [العلق] يذكر أكثر المفسرين أن المراد من الإنسان هنا: إنسان واحد هو أبو جهل، ومنهم من قال: نزلت السورة من هنا إلى آخرها فى أبى جهل، وقيل: نزلت من قوله أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إلى آخر السورة فى أبى جهل: قال ابن عباس: كان النبى صلّى الله عليه وسلم يصلى فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبى صلّى الله عليه وسلم فقال أبو جهل: تالله إنك لتعلم أنى أكثر أهل

الوادى ناديا فأنزل الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) [العلق] قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله، فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق، فلا يليق به التكبر فهو عند ذلك ازداد طغيانا وتعززا بما له ورئاسته فى مكة، ويروى أنه قال: ليس بمكة أكرم منى، ولعله- لعنه الله- قال ذلك ردا لقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) وعلى ذلك نقول: إن المناسبة بين الآيات قائمة وخاصة عند من يقول: بأن المراد من الإنسان المذكور فى هذه الآية جملة الإنسان، فبين الله تعالى أنه خلقه من علقة، وأنعم عليه بالنعم التى قدمنا ذكرها؛ إذ أغناه، وزاد فى النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد فى المعاصى واتباع هوى النفس، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة هكذا يستمر السياق إلا أن القول الأول أظهر بحسب الروايات وهذا ما يجعلنا نقول: أن هذا يقتضى أن يكون الرسول الكريم قد صدع بأمر ربه، وعرف المؤمنون به والمعارضون له والواقفون فى طريق دعوته، والذين تمادوا بعد ذلك فى المبالغة والتجاوز فى إيذائه وتعذيب أصحابه، وعلى ذلك يكون نزول هذه الآيات الكريمة بعد فترة زمنية ليست بالقصيرة، نزلت فيها آيات أخرى سنتناولها- إن شاء الله- فى مكانها، وقد عرفت هذه الفترة بالفترة السرية والتى انتهت بصعود النبى صلّى الله عليه وسلم على جبل الصفا وندائه على بطون قريش وإعلانه لهم بأنه رسول الله إليهم، وأنه نذير لهم بين يدى عذاب شديد، ومن يومها كانت الشرارة الأولى فى التحديات، والتى أطلقها عمه أبو لهب قائلا: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ ومن هذه الساعة أخذت الفتنة البدنية والمالية طريقها وشملت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن هذه الفتنة التى لحقت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضع القاذورات والنجاسات عليه وهو ساجد، وكذلك وضع الشوك فى طريقه كما كانت تصنع امرأة أبى لهب وابنتها، بالتدبير لقتله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) [الأنفال]، وكانت هذه المحاولات لصرف الرسول عن دعوته وتخويف الناس حتى لا يؤمنوا به ومحاولة التأثير على من آمن به للعودة إلى الكفر. ولذلك تجد الآيات من سورة العلق تذكر مثل هذه التصرفات الطائشة من المشركين الذين وقفوا فى طريق الدعوة؛ لتردعهم ولتزجر غيرهم؛ ولتعلمهم أنهم بقوتهم ضعفاء أمام قوة الله وقدرته، وأن الله سينصر رسوله ويعلى كلمته ولو كره المشركون. قال تعالى: (كلا) وجاء فى معناها أنها للردع والزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه، والكلام يدل عليه وإن لم يذكروا الوجه الثانى- وقال به مقاتل: كلا لا يعلم الإنسان أن الله

هو الذى خلقه من العلقة، وعلمه بعد الجهل؛ وذلك لأنه عن صيرورته غنيا يطغى ويتكبر ويصير مستغرق القلب فى حب الدنيا، فلا يتفكر فى هذه الأحوال ولا يتأمل فيها. والوجه الثالث: ذكره الجرجانى صاحب النظم وهو: أن (كلا). هاهنا بمعنى حقا لأنه ليس قبله ولا بعده شىء تكون (كلا) ردا له، وهذا كما قالوه فى كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) [المدثر] فإنهم زعموا أنه بمعنى «إى والقمر» والطغيان هو التكبر والتمرد، وتصبح العلاقة بعد هذا البيان بين الآيات أن الله تعالى لما ذكر فى مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة؛ بحيث بعد من العامل ألا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها اتبعتها بما هو السبب الأصلى فى الغفلة عنها وهو حب الدنيا، والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة، فإنه لا سبب لعمى القلب فى الحقيقة إلا ذلك، وخاصة عند ما نعلم أن معنى: (استغنى) أن الإنسان رأى نفسه إنما نالت الغنى؛ لأنها طلبته وبذلت الجهد فى الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد لا أنه نالها بإعطاء الله وتوفيقه وهذا من الحماقة والجهل بحقائق الأمور، فكم من باذل وسعه فى الحرص والطلب وهو يموت جوعا. ولذلك فإن الطغيان يأتى نتيجة هذا المفهوم الخاطئ للغنى، وأما المفهوم الصحيح الذى يسعى فيه المؤمن سعيا نشيطا وهو مستعين بالله ومتوكل عليه ويعلم أن رزقه بيديه فإنه يزداد بالغنى شكرا وتواضعا وهكذا كان حال الأنبياء كسليمان عليه السّلام. ومن المبادئ والقيم التى أرستها الآيات الأولى من التنزيل والتى تسهم في تأسيس الأفراد والأمم: المبدأ الأول: أن الأمر لله سبحانه وكان الأمر الأول منه اقرأ؛ فالقراءة إذن أساس عظيم من أسس البناء الفردى والجماعى. المبدأ الثانى: أن الخلق له سبحانه فهو الذى خلق وخلق الإنسان من علق، ويرتبط بهذا المبدأ مبدأ آخر وهو النظر والتأمل، فذكر الخلق بصورة عامة والتخصيص في خلق الإنسان من علق- دعوة إلى النظر والتأمل فى الخلق والآفاق، وفى النفس، وفى امتزاج الأمر والخلق فى الآيات الكريمة توجيه إلى ضرورة تحقيق الجانبين، ومقتضياتهما فى نفس الإنسان، فنظره وتأمله فى الخلق والنفس يملأ قلبه حبا وتعظيما للخالق البارئ المصور سبحانه، ويهيئ القلب للاستجابة لأمر الآمر النّاهى جل شأنه.

ولذلك نجد المبدأ التالى يدعم ما مضى حيث يقترن الأمر بالقراءة بالتذكير بالرب الأكرم سبحانه؛ فمنه وحده النعم التى يسديها بلا مقابل، وهذا يملأ القلوب حبا للمنعم تبارك وتعالى. المبدأ الثالث فى الآيات: أن أجل نعم الله على الإنسان أن علّمه وهداه إلى الانتفاع بهذا العلم، فأرشده إلى تقييده بالقلم واستثارته بالقراءة؛ فالعلم إذن منه سبحانه، ولا علم للإنسان إلا من خالقه الأكرم سبحانه، فهو الذى خلقه وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا وأمده بأجهزة التعلم فجعل له السمع والأبصار والأفئدة، وعلمه ما لم يكن يعلم. وذكر العلم فى هذا السياق وامتزاجه بالمبادئ السابقة يجعله علما نافعا مفيدا للإنسان وللبشرية؛ فهو علم مسبوق ومصحوب بذكر الخالق سبحانه، وذكر آلائه ونعمه، ومسبوق بالتهيئة النفسية للاستجابة لأمر الله، وتحقيق التوحيد فى قلب الإنسان؛ توحيد الألوهية والربوبية. من هذا، نستنتج تاريخ هذه المبادئ القرآنية، وأنها تمثل أهمية كبرى حيث بدئ بها وعنيت بها الآيات الأولى من التنزيل الحكيم وهي إذن مفاتيح البناء التى ينبغى أن نعنى بها فى تربية أبنائنا ونفوسنا. وتمضى بنا آيات السورة الكريمة الأولى فى تقرير مجموعة أخرى من المبادئ التى تمثل تحذيرا من الخروج عن المبادئ الأولى السابقة، فالأول منها التحذير من الوقوع فى دائرة الطغيان، ويرتبط بذلك بيان عامل هذا الطغيان الأساسى، وهو أن يتصور الإنسان فى لحظة من اللحظات أنه يمكن أن يستغنى عن خالقه ورازقه وآمره وناهيه، فينسب ما فيه من رزق إلى مهارته وجهده ناسيا كيف خلق من علق؟ وكيف رزق وعلم؟ وكيف وجه وأمر من ربه ليرشده إلى فلاحه؟ أو أن يصل إلى الغنى المادى بطريق غير مشروع فيرى نفسه غنيا فيدعوه هذا الغنى بالباطل إلى الطغيان، وتجاوز الحد فى البغى والعدوان. المبدأ الثانى فى هذه التنبيهات والتحذيرات- والذى يمثل وقاية للإنسان من هذا الطغيان: أن يتذكر مبدأ الرجوع إلى الله إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)، وهذا أول تنبيه من الوحى للإنسان نحو هذه الحقيقة التى نسيها أو تعامى عنها أو أنكرها، وحول حياته نتيجة لهذا الإنكار أو التغافل إلى حياة ظالمة طاغية عاشت على الظلم واستمرأته،

ودافعت عنه ووقفت فى وجه من أراد أن ينقذ البشرية من هذا الطغيان، ومن ظلم الإنسان لنفسه ولغيره. فتقرير مبدأ الرجعى والمنتهى والمعاد مبدأ فى السورة الأولى، وهو- كما أشرنا- أساسى وضرورى يعصم الإنسان من الطغيان لنفسه ولغيره، وتقدم لنا الآيات الكريمة فى استفهام بلغت للسامع صورة من صور هذا الطغيان المواجه للخير والاستقامة، والذى يدل على إصرار صاحبه فى المحافظة على جو الظلم وظلماته، فيمنعه أن يسمع كلمة يهدى الحيارى، أو أن يرى فعلا يوقظ فى الإنسان معنى العبودية لله تعالى، إنه لا يحب أن يرى صالحا فى نفسه أو هاديا إلى البر والصلاح والتقوى فيقول الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) [العلق]. والذى يلفت نظرنا هنا: أن الآيات الأولى تقرر الحقائق بصورة مجملة ليتبعها التفصيل بعد ذلك، فذكر المعاد يذكر إجمالا؛ ليفصّل بالأدلة والبراهين بعد ذلك لتنتقل بنا الآيات الكريمة إلى معوقات البناء الإنسانى المتمثلة فى نماذج الطغاة، ومنهم الطاغية الذى أشارت إليه الآيات بهذا الاستفهام، وهو أبو جهل- لعنه الله. أخرج ابن المنذر عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفر وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه فى التراب، فأنزل الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى ... (6) الآيات. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلى فجاءه أبو جهل فنهاه، فأنزل الله: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) إلى قوله تعالى: كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16). وفى رواية أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الصلاة فنكص على عقبه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بينى وبينه لخندقا من نار وهولا شديدا، وفى هذا الموقف دلالة على أن الآيات الأخيرة من السورة الكريمة نزلت بعد أن انتشر الأمر وعرف الناس الصلاة بالصورة التى بدئت بها فى أول الأمر، ولكن ليس الفارق الزمنى كبيرا. لقد تعرفنا على مجموعة من المبادئ التى تضمنها القسم الأول من السورة، ثم تعرفنا على المبادئ الضابطة للسلوك الإنسانى ليستقيم على هذه المبادئ؛ ومنها حمايته من الطغيان بتذكره لربه وفقره إليه عدم استغنائه عنه، ثم بتذكر الرجعى، ثم بالوقوف

على نموذج الطغاة متمثلا فى أبى جهل، وكيف كان حاله؟ إن حاله يدعو إلى العجب الذى نجده فى الخطاب مع الرسول على سبيل التعجب أَرَأَيْتَ؟ ووجه التعجب فى ذلك أمور منها: أن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان يدعو: اللهم أعز الإسلام إما بأبى جهل بن هشام أو بعمر فكأنه تعالى قال له: كنت تظن أنه يعز به الإسلام أمثله يعز به الإسلام؟ وهو ينهى عبدا إذا صلى، ومن وجوه التعجب كذلك: أن أبا جهل كان يلقب بأبى الحكم فكأنه تعالى يقول: كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن طاعة ربه؟ أيوصف بالحكمة من يمنع عن طاعة الرحمن ويسجد للأوثان؟ ومن هذه الوجوه كذلك: أن ذلك الأحمق يأمر وينهى، ويعتقد أنه يجب على الآخرين طاعته مع أنه ليس بخالق ولا رب، ثم إنه ينهى عن طاعة الرب والخالق ألا يكون هذا غاية الحماقة؟ وينهى من؟ ينهى عبدا، والتنكير هنا يفيد أمورا منها: الدلالة على كون العبد كاملا فى العبودية، كأنه يقول: إنه عبد لا يفى العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه فى عبوديته، يصدق هذا المعنى ما روى من أن يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر فى أيام خلافته فقال: أخبرنى عن أخلاق رسولكم، فقال عمر: اطلبه من بلال فهو أعلم به منى. ثم إن بلالا دله على فاطمة ثم فاطمة، دلته على على رضي الله عنهم فلما سأل عليّا عنه قال: صف لى متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه، فقال الرجل: هذا لا يتيسر لى، فقال على: عجزت عن وصف متاع الدنيا، وقد شهد الله على قلته حيث قال: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النساء: 77]. فكيف أصف أخلاق النبى وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم]، فكأنه تعالى قال: ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عن الجهل الحمق. كما يدل التنكير على أن هذا النهى كان دأبه وعادته فينهى كل من يرى وهذا أبلغ فى الندم. كما أن هذا له دلالة كذلك فى التخويف لكل من نهى عن الصلاة، ويستمر التعجب فى خطاب الله سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12)؟ [العلق] وهذا ينسجم مع الخطاب السابق أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً، وينسجم مع الخطاب اللاحق: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)؟ ويكون المعنى: أرأيت إن كان هذا الكافر على الهدى، أى صار على الهدى، واشتغل بأمر نفسه، أما كان يليق به ذلك

إذ هو رجل له عقل وذو ثروة، فلو اختار الدين والهدى والأمر بالتقوى، أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله والنهى عن طاعته؟ فكيف فوت على نفسه المراتب العالية، ووقع بالمراتب الدنيئة؟ وهذا الخطاب المبكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الآيات الأولى وفى بداية الدعوة، والمتضمن لما كان ينبغي أن يكون عليه هذا الناهى عن الصلاة، وهو أن يكون على الهدى أو أن يكون آمرا بالتقوى، فالذى شق على أبى جهل من الرسول صلّى الله عليه وسلم أمران: الصلاة والدعاء إلى الله؛ فالرسول الكريم كان يرى فى أحد هذين الأمرين ويدعى إلى ذلك كل مؤمن، وهو كذلك سبيل الخروج من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، وأن يكون فى إصلاح نفسه وذلك بفعل الصلاة، وفى إصلاح غيره وذلك بالأمر بالتقوى كما كان عليه الصلاة والسلام فى صلاته على الهدى وآمرا بالتقوى؛ لأن كل من رآه وهو فى الصلاة كان يرق قلبه فيميل إلى الإيمان، فكان فعل الصلاة دعوة بلسان الفعل، وهو أقوى من الدعوة بلسان القول، وهذا كان يطغى أبا جهل وهذا يدعو إلى العجب. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)؟ ويستمر الخطاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم لبيان حال هذا المستغنى الطاغى الذى كذب بالدلائل القوية السابقة المذكورة فى الآيات الكريمة من الخلق والرزق والكرم والتعليم وتولى عن طاعة مولاه بل منع غيره عن الطاعة، أيعلم بعقله السليم أنه على الباطل وأنه لا يفعل ذلك إلا عنادا أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) يرى منه هذه الأعمال القميئة ويعلمها، أفلا يزجره ذلك عن هذه الأعمال؟ ولذلك نجد هنا الضابط الآخر والمهم فى ضبط السلوك الإنسانى، وهو يعين الإنسان بمراقبة الله له، وأنه يسمعه ويراه فهذا يعصم الإنسان من الطغيان، ويعصمه من الظلم لنفسه وللناس، وهذا المبدأ العاصم الذى يقرر منذ اللحظات الأولى فى عمر الدعوة المباركة يفصل تفصيلا بعد ذلك فى آيات الكتاب العزيز، وفى أحاديث النبى صلّى الله عليه وسلّم ليجعل من المسلم محسنا فى أقواله وأفعاله وأحواله فيعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه، وتختم السورة بمضامين تحتاج إلى تفصيل نذكرها إجمالا: أولا: الذى يقع فى دائرة الطغيان لنفسه ولغيره يعرض نفسه للعقوبة التى تلائم طغيانه. ثانيا: عقوبة تجاوز حدود الله فى الدنيا والآخرة. ثالثا: التوجيه للمؤمنين بعدم السير فى ركاب الطغاة وطاعتهم والاستقامة على وحى الله وهديه.

تفصيل ما تضمنته سورة العلق

تفصيل ما تضمنته سورة العلق وتأتى الآيات بعد ذلك للردع والزجر لتذكّر بما سيصيب هؤلاء الطغاة فيقول الله تعالى: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق]. فهذا ردع لأبى جهل ومنع له عن نهيه عن عبادة الله تعالى، وأمره بعبادة اللات وما يفهم من (كلا) كذلك: كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول من أنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه بل إن تلميذ محمد هو الذى يقتله ويطأ صدره. ومن المعانى التى قال بها مقاتل كذلك: كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا نفع بما يعلم فكأنه لا يعلم. ثم يقول تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أى عما هو فيه مما سبق ذكره لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)، والسفع له وجوه من المعانى منها: لنأخذنه بناصية، ولنسحبنه بها إلى النار، فيكون السفع هنا بمعني القبض على الشيء وجذبه بشدة، ومثال ذلك قوله تعالى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) [الرحمن]، ومنها السفع الضرب أى لنلطمن وجهه ومنها: لنسودن وجهه قال الخليل: تقول للشيء إذا لفحته النار لفحا يسيرا يغير لون البشرة: قد سفعته النار، قال: والسفع: ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر، سميت بذلك لسوادها، قال: والسفعة: سواد فى الخدين، وبالجملة فتسويد الوجه علامة الإذلال والإهانة. ومنها: لَنَسْفَعاً قال ابن عباس فى قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) [القلم] إنه أبو جهل ومنها: لنذلنه. وهذا التهديد لهذا الطاغية من الله- جل فى علاه- جزاء وفاقا، ويذيقه للطغاة فى الدنيا والآخرة، وإن كانت الآخرة أشد وأبقى، فالسفع- هنا- لهذا الطاغية يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار فى الآخرة، وأن يكون المراد منه في الدنيا وذلك لما يلى: أولا: ما روى من أن أبا جهل لما قال: إن رأيته يصلى لأطأن عنقه، فأنزل الله هذه الآيات، وأمر جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقرأ على أبى جهل ويخر لله ساجدا فى آخرها، ففعل فقدم إليه أبو جهل ليطأ عنقه، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا،

فقيل له: ما لك؟ قال: إن بينى وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لالتقمنى. ثانيا: إن الله تعالى مكن المسلمين من ناصيته يوم بدر لما لم ينته عن غيه وطغيانه، فروى أنه لما نزلت سورة الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: من يقرؤها منكم على رؤساء قريش، فتثاقلوا مخافة أذيتهم فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله فأجّله الرسول صلّى الله عليه وسلم ثم قال: من يقرؤها عليهم؟ فلم يقم إلا ابن مسعود، ثم ثالثا كذلك إلى أن أذن له، وكان صلّى الله عليه وسلم يبقى عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جسمه، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه ورماه، فانصرف وعيناه تدمع، فلما رآه النبى- عليه الصلاة والسلام- رق قلبه، وأطرق رأسه مغموما فإذا جبريل عليه السّلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال: يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكى؟ فقال: ستعلم، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ فى المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى، فإذا أبو جهل مصروع يخور، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح فى منخره من بعيد فطعنه، دليل هذا قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) [القلم]، ثم لما عرف عجزه، ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: لقد ارتقيت مرتقى صعبا، فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلىّ منه فى حياتى، ولا أحد أبغض إلىّ منه حال مماتى، فروى أنه- عليه الصلاة والسلام- لما سمع ذلك قال: «فرعونى أشد من فرعون موسى، فإنه قال: آمَنْتُ [يونس: 90] وهو قد زاد عتوا»، ثم قال أبو جهل لابن مسعود: اقطع رأسى بسيفى هذا؛ لأنه أحد وأقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجبريل بين يديه يعلمه ويقول: يا محمد أذن بأذن، ولكن الرأس هاهنا مع الأذن. ثالثا: أخرج الترمذى وغيره عن ابن عباس قال: كان النبى صلّى الله عليه وسلم يصلى فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبى صلّى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر منى، فأنزل الله فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) [العلق] قال الترمذى: حسن صحيح، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية من ساعته معاينة، وقيل هذا إخبار من الله تعالى بأنه يجر فى الدنيا كالكلب، وقد فعل به

ذلك يوم بدر، وقيل: بل هذا إخبار بأن الزبانية يجرونه فى الآخرة إلى النار. ويكون التوجيه الأخير فى السورة الأولى: ألا يعبأ أهل الطاعة بأهل المعصية، وألا يخافوهم، وألا يطيعوهم بل عليهم أن يستقيموا على صراط الله المستقيم: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [العلق] فلا طاعة للكافرين، وصل واخضع لأمر ربك وابتغ بسجودك قرب المنزلة من ربك، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، والله ينصرك ويقويك. هذه مجموعة المبادئ الأولى فى السورة الأولى، فماذا من آيات كريمة نزلت بعد هذه الآيات؟ وماذا تضمنت من مبادئ وقيم وتوجيهات؟ هذا ما نتناوله إن شاء الله فى الصفحات الآتية.

سورة «القلم»

سورة «القلم» ونتدبر روضة ثانية من روضات القرآن الكريم، مع السورة الثانية من سور التنزيل والتى تلا سورة العلق وهى سورة «ن» أو «القلم»، والسورة كلها مكية فى قول الحسن وعكرمة وجابر «1»، وأما ابن عباس وقتادة فيذهبان إلى التفصيل فى ذلك فيذكران أن فى السورة آيات مكية وآيات مدنية؛ فمن أولها إلى قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) مكى، ومن قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إلى قوله تعالى: كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) مدنى، ومن قوله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) إلى قوله تعالى: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) [القلم] مدنى، وما بقى مكى «1». وأخرج ابن أبى حاتم: أن أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذا فاربطوهم فى الحبال، ولا تقتلوا منهم أحدا، فنزلت: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ [القلم: 17] «3». وهذا ما دعا إلى التفضيل فى مكيّها ومدنيها من الآيات الكريمة، إلا أن التأمل فى مضمون هذه السورة الكريمة يرجح أنها نزلت دفعة واحدة، أو نزلت على دفعات متتابعة بعد سورة العلق على التفصيل الذى ذكر سابقا فى سورة العلق. فبعد إرساء مجموعة من المبادئ فى السورة الأولى، وبعد استماع الناس لها، وبعد رؤيتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلى ونهى أبى جهل له، وبعد الدعوة إلى التأمل والتعلم لبناء النفس والمجتمع يأتي التنزيل الحكيم بهذه السورة الكريمة التى تدور حول محور «هو وهم» الداعى والمدعو، رسول الله صلّى الله عليه وسلم والناس، وتبدأ بهذا القسم الذى استوقف ابن القيم، ووفق فى الربط بينه وبين مضمون سورة العلق، حيث وجدنا من المبادئ التى أرساها مبدأ القراءة والتعلم بالقلم لنجد التنويه بأداة التعلم قراءة وكتابة فى سورة «القلم»، فيقول الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) يقول ابن القيم: الصحيح أن «ن» و «ق» و «ص» من حروف الهجاء

_ (1) القرطبى 18/ 222. (3) لباب النفوس ص 219.

التى يفتتح بها الرب سبحانه بعض السور، وهى أحادية وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية ولم تجاوز الخمسة، ولم تذكر قط فى أول سورة إلا وأعقبها بذكر القرآن؛ إما مقسما به وإما مخبرا عنه، ما خلا سورتين سورة «كهيعص»، و «ن». كقوله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة]، وقوله جل شأنه: الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران]، وقوله تعالى: المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف]، وقوله تعالى: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ [الرعد: 1]، وهكذا ففي هذا تنبيه على شرف هذه الحروف، وعظم قدرها وجلالتها إذ هى مبانى كلامه وكتبه التى تكلم سبحانه بها، وأنزلها على رسله، وهدى بها عباده وعرفهم بواسطتها نفسه وأسماءه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه ووعيده ووعده، وعرفهم بها الخير والشر، والحسن والقبيح، وأقدرهم على التكلم بها بحيث يبلغون بها أقصى ما فى أنفسهم بأسهل طريق وأقل كلفة ومشقة، وأوصله إلى المقصود وأدله عليه، وهذا من أعظم نعمه عليهم، كما هو من أعظم آياته، ولهذا عاب سبحانه على من عبد إلها لا يتكلم، وامتنّ على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالتكلم فكان فى ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته، وكمال إحسانه وإنعامه، فهى أولى أن يقسم بها من الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والنجوم وغيرها من المخلوقات، فهى دالة أظهر دلالة على وحدانيته وقدرته وحكمته وكماله وكلامه وصدق رسله. وقد جمع سبحانه بين الأمرين- أعنى القرآن ونطق اللسان- وجعل تعليمها من تمام نعمته وامتنانه كما قال تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) [الرحمن] فبهذه الحروف علم القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها انتظمت مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها فى الأذهان، وكم جلب بها من نعمة ودفع بها من نقمة، وأقيلت بها من عثرة، وأقيمت بها من حرمة، وهدى بها من ضلالة، وأقيم بها من حق وهدم بها من باطل، فآياته سبحانه فى تعليم البيان كآياته فى خلق الإنسان، ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل فى لحم ولا عصب. فسبحان من هذا صنعه فى هواء يخرج من قصبة الرئة فينغم فى الحلقوم، وينغرس فى أقصى الحلق، ووسطه وآخره وأعلاه وأسفله، وعلى وسط

اللسان وأطرافه، وبين الثنايا، وفى الشفتين والخيشوم، فيسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوت غير صوت المقطع المجاور له فإذا هو حرف، فألهم سبحانه الإنسان بضم بعضها إلى بعض، فإذا هى كلمات قائمة بأنفسها، ثم ألهمهم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض فإذا هى كلام دال على أنواع المعانى أمرا ونهيا، وخبرا واستخبارا ونفيا وإثباتا، وإقرارا وإنكارا، وتصديقا وتكذيبا، وإيجابا واستحبابا، وسؤالا وجوابا إلى غير ذلك من أنواع الخطاب؛ نظمه ونثره وموجزه ومطوله على اختلاف لغات الخلائق، كل ذلك صنعته- تبارك وتعالى- فى هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره، فى مجار قد هيئت وأعدت لتقطيعه وتفصيله، ثم تأليفه وتوصيله، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين «1». ومن تأمّل الإمام ابن القيم فى شأن الحرف المخلوق، وافتتاح السورة به، تدرك كيف تكون بدايات التنزيل تحريكا للعقول البشرية؛ لتفكر وتتأمل وتنظر وتتعلم، فالسورة الأولى بدئت بقوله تعالى: اقْرَأْ [العلق: 1]، ووجهت إلى التعليم، والسورة الثانية يذكر فى بدايتها مع صيغة قسم ما يذكر بالحروف وأداة الكتابة والتعلم. ويأتى القسم الكريم، والذى يذكر بالحروف التى هى أوعية المعانى وأبنيتها، وبالقلم الذى هو أداة العلم وتسطيره، ليؤكد هذا القسم على أهمية العلم الذى ذكره فى السورة الأولى، وتأتى الآية الكريمة التالية؛ لتستنبط منها كيف أن الناس قد خاضوا فى شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأن بعضهم رماه بالجنون، وهذا يدل على أن حديث الوحى وما نزل من القرآن قد شاع بين الناس وانقسموا تجاهه بين مؤمن وكافر، وأن الكافرين قد سلكوا مسلك التحدى والعناد والمواجهة، ومن صور ذلك الخوض فى هذه الشخصية الكريمة التى صيغت على عين الله تبارك وتعالى وبفضله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) [الضحى]. فقالوا عنه: «مجنون» فهل يعدون الخروج على باطلهم جنونا؟ وهل يعدون الذكر المنزل، والذى يحملهم ويشجعهم على الفكر والتعلم جنونا؟، وهل يعدون إنقاذه لهم من الضلال المبين الذى شمل عقائدهم وتصوراتهم وسلوكهم جنونا؟. إنّ الله يقسم ليسمعوا وليعلموا ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم].

_ (1) التبيان فى أقسام القرآن ص 126 - 128.

فهذا هو رسول الله المبرأ من محاولات تشويه أعدائه والذى أعطاه الله أجرا غير مقطوع لصبره عليهم، وشهد له بأنه على خلق عظيم. أما هم فستعلم ويعلمون من الذى به جنون. إنهم هم الذين فتنوا بالجنون وهم الذين ضلوا عن سبيل الله، وهم الذين كذبوا، وهم الذين يودون أن تركن إليهم، وأن تداهنهم على باطلهم. ومنهم الحلاف المهين، والعياب المغتاب، والساعى بالإفساد بين الناس. ومنهم المناع للخير، والبخيل بالمال عن الحقوق، والظالم الآثم، والغليظ الجافى، والدعى فى قريش على ماله الكثير وعلى البنين. إذا تليت عليهم آيات الله نسبها إلي أباطيل الأولين. تذكر السورة الكريمة هذا لبيان الحالين فيقول تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) [القلم]. وذكر ما كان من حال المشركين فى بداية الدعوة مناكبة لطريقها إلى الناس، وتعليما للدعاة فى كل عصر أن الأمر لا يقابل بالتسليم المطلق من الجميع، بل يوجد من يقبل عليها طائعا، ومن يرفضها، بل ومن يواجهها مواجهة المحارب العنيد، كما أن سورة القلم فى هذه الآيات الكريمة تحذر من صفات يعيش عليها المشركون، وتدعو إلى التطهر منها، وعدم الوقوع فيها، والتشبه بالمشركين فى التخلق بها وهى أخلاق ذميمة؛ منها ما يتصل بعقيدة الإنسان، ومنها ما يتصل بشخصه ومنها ما يتصل بعلاقاته الاجتماعية وسلوكه العام. وإذا انتقلنا إلى الآيات الكريمة التى نزلت بعد ذلك فى السورة نفسها وتركنا قليلا ما ذكر من أنه مدنى والذى يتمثل فى امتحان أهل مكة إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ [القلم: 17] نجد أن المعنى ينتقل من بيان وصف المشركين ووعيدهم إلى الحديث عن صفة المؤمنين، وبيان قيم جديدة تستحق الاهتمام والعناية فيقول تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) [القلم] فالقيمة الجديدة والتى سبق لها ذكر فى السورة الأولى هى قيمة

التقوى فقال تعالى فى سورة العلق: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) [العلق] وفى سورة القلم- هنا- بيان لمن اتصف وتخلق بها، وما أعد الله لهم من جنات النعيم. ويوضع من تخلق بالقيم الجديدة التى جاء بها الإسلام فى كفة ميزان، ومن أجرم فى حق نفسه وفى حق غيره فى كفة أخرى، فهل يستوى من أسلم مع من أجرم؟. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: قالت كفار مكة: إنا نعطى فى الآخرة خيرا مما تعطون فنزلت: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)، ثم وبخهم فقال: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) [القلم] هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين، أم لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصى، وزاد فى التوبيخ فقال: أم لكم عهود ومواثيق مؤكدة علينا أن يدخلكم الله الجنة وليس الأمر كذلك، وسل يا محمد هؤلاء المتقولين على الله أيهم كفيل بما ذكر، وأيهم قائم بالحجة والدعوى. أم أن لهم شركاء يشهدون على ما زعموا إن كانوا صادقين في دعواهم فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم «1». يقول الله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [القلم]. وفى هذه الآيات المنزلة فى السورة الثانية إرساء لعقلية جديدة ناجحة ينبغى أن تنظر فى الأمور وأن تزن الأعمال والمواقف، وأن تلزم فى نظرتها الحجة والبرهان، وليس التخير بالهوى وإلا تسلك سبيل الادعاء. وتستمر الآيات الكريمة المنزلة فى السورة الثانية فى تقديم الضوابط للسلوك الإنسانى حتى يستقيم وينهض من اعوجاجه، فتذكر باليوم الآخر الذى سبق ذكره فى السورة الأولى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) [العلق] ولكن هنا فى السورة الثانية يقول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً

_ (1) الجامع لأحكام القرآن 18/ 236، 237.

أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) [القلم]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو يوم القيامة يوم كرب وشدة «1». وهذه الآية من بدايات البيان والتفصيل لهول يوم القيامة، وما يحدث للناس فيه، تقرع به الآذان لتستيقظ من غفلتها، ولتثوب إلى رشدها، ولتكون على يقين الرجعى إلى الله، فينضبط سلوكها فى الحياة. فعن أبى بردة عن أبى موسى قال: حدثنى أبى قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون فى الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحيد، فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس، فيقولون: إن لنا ربا كنا نعبده فى الدنيا ولم نره، قال: وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون: نعم، فيقال: فكيف تعرفونه ولم تروه، قالوا: إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إلى الله تعالى، فيخرون له سجدا، وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصى البقر (يعنى قرونها) فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) «2». ويأتى التنبيه للربط بين العمل فى الدنيا والجزاء فى الآخرة على هذا العمل فى هذا المشهد الذى يدعى فيه هؤلاء إلى السجود فى هذا اليوم الشديد فلا يستطيعون، فإنهم كانوا يدعون فى الدنيا- وهى دار الأعمال- إلى هذا السجود فلم يستجيبوا من أجل هذا ذلت أبصارهم وذل حالهم فى الدار الآخرة. وتنتقل الآيات الكريمة لتضع أمام الناس سنة من سنن الله مع خلقه ممن كذب بهذا الحديث، إنها سنة الاستدراج وهى الأخذ قليلا قليلا من حيث لا يعلمون، فلا يستعجلون وكذلك من سنته سبحانه أن يملى لهم فلا يعاجلهم بل يعطيهم ويمهلهم حتى إذا أخذهم كان أخذ عزيز مقتدر. يقول الله تعالى مسليا لرسوله صلّى الله عليه وسلم- وهو يرى موقف من كذب بالوحى المنزل: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45). أى إن عذابى لقوى شديد فلا يفوتنى أحد. وتستمر الآيات الكريمة فى بيان شأن المشركين المعرضين عن الوحى، والمعاندين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لتتساءل هل تثاقلهم عن الاستجابة نتيجة لطلبك منهم أجرا على ما تقدم

_ (1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 407. (2) الجامع لأحكام القرآن 18/ 249، 250.

لهم من خير؟ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46). وفى هذا قطع للعوائق فليس رسول الله طالبا للأجر منهم بل هو الذى يبذل من نفسه وماله جهادا فى توصيل الخير إليهم فليطمئنوا إلى ذلك. أم أن هؤلاء ينزل عليهم وحى مما يقولون يخاصمونك به، وأنهم أفضل منكم، وأنهم لا يعاقبون، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون؟ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47). فإذا ما انتقلنا إلى الآية الواحدة والخمسين من سورة القلم وتركنا ما قبلها مما ذكر أنه مدنى، رأينا الآية الكريمة تخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشدة عداوة الكافرين له، ومحاولتهم إصابته بعيونهم الحاقدة الحاسدة لما سمعوا النبى يقرأ القرآن، ونسبوه إلى الجنون. وهكذا تأتى خاتمة السورة لتذكر بأولها فى تناسق بديع، وترابط قوى، ففي أولها القسم: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)، وفى ختامها وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52). فالقرآن الكريم ذكر للعالمين، والمنزل عليه القرآن ذكر للعالمين يتذكرونه به «1»، وقيل: معناه شرف أى القرآن كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44]، والنبى صلّى الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضا شرفوا باتباعه والإيمان به صلّى الله عليه وسلم. وأما ما ذكر من أنه مدنى فى آيات السورة الكريمة فإنه يتطابق مع محور السورة الكريمة فى الحديث عن النبى صلّى الله عليه وسلم والحديث عن المشركين. وهذه الآيات هى قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33). فالصلة بين حديث الآيات السابقة عن المشركين، وهذه الآيات قوية لدرجة ترجح

_ (1) الجامع لأحكام القرآن 18/ 256.

نزول هذه الآيات جميعا دفعة واحدة، فالمراد بالابتلاء هنا أهل مكة، والمعنى: أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا فلما بطروا وعادوا محمدا صلّى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وأما الآيات الأخرى والتى يذكر أنها مدنية فى السورة فقوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50). وفى هذه الآيات تدعيم لشخصية النبى صلّى الله عليه وسلم وتقويتها بالصبر فى مواجهة كيد المشركين؛ وذلك بتقديم صور من النماذج السابقة لطلب الفائدة منها، وهذا التدعيم سنراه جليا ومتتابعا بعد ذلك، ومنه ما جاء فى الآيات التى تلت آيات سورة القلم فى السورة الثالثة وهى سورة «المزمل».

سورة «المزمل»

سورة «المزمل» ومع روضة جديدة من رياض الذكر الحكيم مع سورة «المزمل» والتى نزلت بعد سورة «القلم»، وهى مكية كلها فى قول الحسن وعكرمة وجابر، وأما ابن عباس وقتادة فيستثنيان آيتين منها وهما قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) [المزمل]. كما يروى الإمام أحمد رحمه الله فى مسنده ما ذكره سعيد بن هشام من أسئلته لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث قال: «قلت: يا أم المؤمنين أنبئينى عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان القرآن فهممت أن أقوم ثم بدا لى قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قلت: يا أم المؤمنين أنبئينى عن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست تقرأ هذه السورة «يا أيها المزمل»؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل فى أول هذه السورة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله تحتها فى السماء اثنى عشر شهرا ثم أنزل الله التخفيف فى آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة. فهممت أن أقوم ثم بدا لى وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئينى عن وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلى ثمانى ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم ينهض وما يسلم، ثم يقوم ليصلى التاسعة ثم يقعد فيذكر الله وحده ثم يدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى، فلما أسنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعد ما سلم فتلك تسع. يا بنى وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا أثقله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة، ولا أعلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله فى ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان» «1». روى ذلك الإمام أحمد بتمامه، وقد أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه من حديث قتادة نحوه.

_ (1) تفسير ابن كثير 4/ 435، 436.

وعلى ذلك يكون بين نزول الآيات الأولى من السورة والآيات الأخيرة فيها عام. ويؤيد ذلك أيضا ما ذكره ابن أبى حاتم حيث قال: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة، عن مسعر، عن سمّاك الحنفى سمعت ابن عباس يقول: أول ما نزل أول «المزمل»، كانوا يقومون نحوا من قيامهم فى شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة، وهكذا رواه ابن جرير وقال الثورى ومحمد بن بشر العبدي كلاهما عن مسعر، عن سماك، عن ابن عباس: كان بينهما سنة، كما روى ابن جرير عن أبى كريب، عن وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن قيس بن وهب عن أبى عبد الرحمن قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20]، قال: فاستراح الناس، وقال هذا أيضا الحسن البصرى والسدى «1». وفى أسباب نزول السورة الكريمة نجد رواية جابر والتى أوردها ابن كثير فى تفسيره وفيها يقول: اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصد الناس عنه. فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبى صلّى الله عليه وسلم فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل عليه السّلام فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «2». والمزمل هو المتغطى بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف قد حصل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل نزول هذه السورة الكريمة فى أول لقاء جبريل عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غار حراء على التفصيل الذى جاء فى رواية الإمام البخارى رحمه الله، حيث عاد النبى صلّى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده ويقول: «زملونى. زملونى» كما أن المزمل تتسع كذلك لتشمل معنى المتزمل للنبوة؛ أى المستمر المجد فى أمرها «3». وعلى الأمرين فإن السورة الكريمة تنزل؛ لتدعم الشخصية المحمدية فى مواجهة ما يحيط بالرسول الكريم من تحديات، فالأمر قد انتشر واشتهر وظهرت الأحقاد واشتدت الخصومات، وظهر الكيد والتدبير من المعاندين، ولا بدّ من تبصير النبى صلّى الله عليه وسلم بطبيعة الأمر

_ (1) ابن كثير 4/ 436. (2) ابن كثير 4/ 434. (3) التسهيل لعلوم التنزيل 4/ 294.

من كل جوانبه فالمسئولية كبيرة والمهمة خطيرة، والتحديات كبيرة ومستمرة، ولا بدّ من تدعيم المؤمنين ليصمدوا وليثبتوا وليكونوا فوق الأحداث وأكبر من التحديات، وسبل التدعيم فى هذه المرحلة المبكرة كما يلى: قيام الليل فهو مدعم للنفس ويقويها، وتوجيه هذا الأمر إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فيه معنى آخر فى البناء النفسى وهو جانب الأسوة فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهو يضع أمامهم ما يؤمر به، وهم يقتدون به، وبهذا شهد القرآن الكريم لهم، وبدأ قيام الليل بصورة تلائم شدة الموقف، وتمنح النفس قوة تتجاوز بها المخاطر، وتشد بها العزائم فتهون المحن، وتذلل الصعاب، فقيام الليل المأمور به أول الأمر يشمل نصف الليل، أو أقل من النصف بقليل أى نحو الثلث، أو يزيد على النصف فيكون نحو الثلثين. وقبل أن نذكر بقية المدعمات نذكر أن قيام الليل سيجمع عددا من هذه المدعمات الطيبة؛ ولذلك فقيام الليل مع مضمون هذا القيام يكون هذه الشخصية القوية التى تقترب من ربها، وتنجو من آثار سيئاتها، وتطرد الأسقام عن البدن. فالقوة- إذن- فى قيام الليل قوة مادية وقوة معنوية. فعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد»، رواه الطبرانى فى الكبير ورواه السدى فى الدعوات من الجزء الأول منه «1». قيام الليل جامع لعناصر أخرى من هذه المدعمات منها: ترتيل القرآن الكريم، والترتيل هو التمهل والمد وإشباع الحركات وبيان الحروف، وذلك يعين على التفكر فى معانى القرآن الكريم «2». فإذا أضفنا الترتيل إلى قيام الليل، فإن أوقات الليل كما تشهد لها الآيات: وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) [المزمل]؛ لخلو الذهن من المشاغل والبعد عن مزعجات الأصوات والحركة، فالليل مقترن بالسكون والبعد عن الشواغل من بشر أو أعمال. وأما صلة الترتيل بهذه الهيئة وتدعيم النفس فقوية وواضحة؛ فإن الترتيل سيجعل المرتل دائم الاستيعاب لمعانى القرآن الكريم، وما أنزل من توجيهات، فيتفاعل معها وتهديه للتى هى أقوم فى كل شىء. وذكر هذا فى بدايات التنزيل مع الأمر الأول فى قوله تعالى: اقْرَأْ [العلق: 1]

_ (1) الترتيب 1/ 545، 546. (2) التسهيل لعلوم التنزيل 4/ 296.

تربية عملية وتوجيه للنبى صلّى الله عليه وسلم ولأمته أن تكون صلتهم بما نزل إليهم مستمرة فبهذا الذكر حياتهم، وعطاء القرآن الكريم لهم عطاء متجدد ومستمر فعليهم أن يتعاهدوه بالترتيل والتدبر لينتفعوا به، ولتقوى به نفوسهم. ومن المدعمات كذلك وضوح الرؤية أمام الإنسان ليقدر الأمور على حقيقتها وليهيئ نفسه على حجمها، ولا يفاجأ بما لم يحسب له حسابا: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) وقيل فى هذا الوصف خمسة أقوال: أحدها: أنه يسمى ثقيلا لما كان النبى صلّى الله عليه وسلم يلقاه من الشدة عند نزول الوحى عليه، حتى أن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد، وقد كان يثقل جسمه- عليه الصلاة والسلام- بذلك حتى إذا أوحى إليه وهو على ناقته بركت به، وأوحى إليه وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فكادت أن ترض فخذ زيد. الثانى: أنه ثقيل على الكفار بإعجازه ووعيده. الثالث: أنه ثقيل فى الميزان. الرابع: أنه كلام له وزن ورجحان. الخامس: أنه ثقيل لما تضمن من التكاليف والأوامر والنواهى، وهذا الوجه الأخير اختيار ابن عطية «1». ومن دعائم بناء النفس المسلمة وضع الأمور فى مواضعها فالنهار مجال للتصرف فى الأشغال، والليل للسكن والعبادة الصافية. ومن المدعمات ذكر الله سبحانه، فبه تطمئن القلوب، وتقوى العزائم، ويتجدد الأمل، وفيه التبتل وهو الانقطاع إلى الله، والإنابة إليه أى تخليص القلب من التعلق بالخلائق رغبة ورهبة وعملا. وفيها التوكل على الله وتفويض الأمر كله إليه؛ فهو الحافظ والمدبر للأمور كلها: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9). ومنها الصبر على أذى الأعداء فى أقوالهم وأفعالهم، فلا تتأثر النفس بقول العدو ولا ينبغى أن يؤثر فيها. ومنها الهجر الجميل للعدو، حيث اقتضت المصلحة الهجر الذى لا أذية فيه بل يعاملهم بالهجر والإعراض عن أقوالهم التى تؤذيه، ويستمر فى دعوتهم وجدالهم بالتى هى أحسن.

_ (1) التسهيل لعلوم التنزيل 4/ 296، 297.

ومنها اليقين فى وعد الله ووعيده فيما يراه المؤمنون من أحوال المسلمين وغيرهم فى القبض والبسط فى الرزق فإنما هو بتقدير الله وتيسيره فكثرة النعم مع الكفر لا تعنى الإهمال، وقلة النعم مع الإيمان لا تعنى الغضب من الله: ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13). وعلى ذلك فإن الجزاء ليس فى الدنيا وحدها بل الآخرة هى دار الجزاء وتكرار ذكرها حتى لا تنسى يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (14). وهذا الأمر من الجزاء الدنيوى والجزاء الأخروى ينبغى أن يكون واضحا لدى الناس جميعا والصورة التاريخية ينبغى أن يقرأها المعاندون؛ لأن التجارب التاريخية مكررة، وما حدث للأولين يحدث للآخرين، فالله أرسل إليكم رسولا يشهد عليكم فاقرءوا ما حدث للرسل وأقوامهم، فقد أرسل الله رسوله إلى فرعون فعصى فرعون الرسول فأخذ فى الدنيا مع عذاب الآخرة: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (19). ومنها: تقدير مسئولية الإنسان عن اختياره ومشيئته فإن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم ومكنهم منها «1» فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (19). ومنها: اليقين فى وعد الله لعباده المؤمنين من البشرى على أعمالهم الطيبة، فقد شهد الله لرسوله وللمؤمنين معه بامتثال ما أمروا به من قيام الليل على مشقته، ووجود الأعذار معهم وخفف عنهم، وفى هذا توجيه بتقدير العاملين ومكافأتهم حتى يزدادوا نشاطا: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ. وفى هذا تبشير للمؤمنين فى تلك الفترة أن العاقبة لهم، وأن النصر حليفهم، وأنهم سيمنحون الحياة المستقرة، منهم من يضرب فى الأرض يبتغى من فضل الله، ومنهم من يخرج مقاتلا فى سبيل الله، فمع وجود هذه الأعذار خذوا من الأعمال ما

_ (1) تفسير الكريم الرحمن 7/ 503.

تطيقون: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20). هذه مجموعة المدعمات التى جاءت فى سورة المزمل تثبيتا لفؤاد النبى صلّى الله عليه وسلم، وتدعيما له ولمن معه فى مواجهة التحديات.

سورة «المدثر»

سورة «المدثر» ومع روضة أخرى من رياض الذكر الحكيم مع سورة «المدثر»، والتى نزلت بعد سورة «المزمل» وهى مكية فى قول الجميع «1»، وهى ست وخمسون آية، والمدثر هو: الذى قد تدثر بثيابه، أى تغشى بها ونام، وجاء فى سبب نزولها ما جاء فى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وكان يحدث، فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو يحدث عن فترة الوحى: «فبينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالسا على كرسى بين السماء والأرض، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فجئثت منه فرقا- أى ذعرت وخفت «2» - فرجعت فقلت: زملونى زملونى، فدثرونى فأنزل الله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)». ثم تتابع الوحى والخطاب «3» فى هذه السورة الكريمة- كما كان فى السورة السابقة سورة المزمل فيه ملاطفة، إذ ناداه الكريم سبحانه بحاله، وعبر عنه بصفته ولم يقل: يا محمد، ويا فلان؛ ليستشعر اللين ومثل ذلك فى الأساليب قول النبى صلّى الله عليه وسلم لعلى رضي الله عنه إذ نام فى المسجد: «قم أبا تراب»، وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها، فسقط رداؤه، وأصابه ترابه، أخرجه مسلم. وهذه الملاطفة كان لها وقعها الكريم، وهى عنصر من عناصر التكوين النفسى لمواجهة التحديات الخطيرة فى تلك الفترة فالمشركون يكيدون كيدا، ويقفون فى طريق الدعوة، ويحاولون تشويه شخصية النبى صلّى الله عليه وسلم لدى من لا يعرفه من القادمين إلى مكة، ويتعرضون بالأذى للنبى صلّى الله عليه وسلم ولمن آمن معه فكان- كما سبق أن ذكرنا مع سورة المزمل- البناء والتدعيم من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين. ويستمر هذا العطاء الكريم فى هذه السورة الكريمة ففي المزمل قال الله لرسوله: «قم»، وفى المدثر قال له أيضا: «قم»، ولكن القيام السابق فى المزمل قيام الليل لبناء النفس وتقويتها فى حسن وقوفها بين يدى الله فى صلاة خاشعة، وفى المدثر قيام بهذه النفسية القوية لمواجهة الناس بالإنذار مع استمرار التدعيم والتقوية لاستمرار عناد

_ (1) القرطبى 19/ 59. (2) القاموس المحيط 1/ 169. (3) القرطبى 19/ 60.

المشركين وتحديهم، فقد اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاصى بن وائل ومطعم بن عدى، وقالوا: قد اجتمعت وفود العرب فى أيام الحج، وهم يتساءلون عن أمر محمد، وقد اختلفتم فى الإخبار عنه، فمن قائل يقول: مجنون، وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع فى رجل واحد، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام منهم رجل فقال: شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام ابن الأبرص، وأمية بن أبى الصلت، وما شبه كلام محمد كلام واحد منهما، فقالوا: كاهن، فقال: الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال: مجنون، فقال الوليد: المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط. وانصرف الوليد إلى بيته، فقالوا: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل، وقال: مالك يا أبا عبد شمس، هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونك، زعموا أنك قد احتجت وصبأت فقال الوليد: ما لى إلى ذلك حاجة، ولكن فكرت فى محمد، فقلت: ما يكون من الساحر؟ فقيل: يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فقلت: إنه ساحر. شاع هذا فى الناس وصاحوا يقولون: إن محمدا ساحر. ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا، فتدثر بقطيفة ونزلت: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) نزلت بما يقوى نفس النبى صلّى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه، وبما بين حال هؤلاء المعاندين المشوهين، وما توعدهم الله به من عقاب، ويذكر الناس باليوم العسير على الكافرين، ويكون التدعيم والتقوية النفسية بما يلى فى هذه السورة الكريمة: «النشاط فى الدعوة والإعلان بها» يتمثل ذلك فى قوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ (2) أى قم بجد ونشاط، ودع التدثر لتواجه أهل مكة بتخويفهم وتحذيرهم العذاب- إن لم يسلموا- وهذا يؤكد أن ما نزل سابقا من القرآن الكريم، ومن أمر الدعوة قد انتشر بين الناس، وأن الكافرين يصدون الناس عن اتباع الهدى والحق، فهم فى حاجة إلى الإنذار، فلا تحزن على ما يفعلون، وواجه هؤلاء بتخويفهم وبيان عاقبة كفرهم وعنادهم. «التكبير والتقديس والتنزيه لله سبحانه» وذلك يمنح النفس قوة فلا ترى فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه، ولا تتخذ النفس وليا غيره، ولا تعبد سواه كما أن وصف الرب سبحانه وتعالى ب «أكبر» فذلك- أيضا- ينبه ويحذر الكافرين من اتخاذ الأنداد والأصنام، ولذلك روى أن أبا سفيان لما قال يوم أحد: أعل هبل، قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «قولوا الله أعلى وأجل».

ولذلك لمّا قرأ النبى صلّى الله عليه وسلم: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) قام وقال: الله أكبر، فكبرت خديجة وعلمت أنه الوحى من الله تعالى وصار هذا اللفظ فى تكبير العبادات كلها أذانا- بعد ذلك- وصلاة وذكرا، وصار من موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله تخليصا له من الشرك وإعلانا باسمه فى النسك. «طهارة المظهر» فالدعوة التى جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس لا تفرق بين ظاهر وباطن، بل تجمل الاثنين معا وترى أنهما مترابطان وينبغى أن يكونا معا ظاهرين، فتبنى النفس على الطهر ويجمل الظاهر كذلك بالطهر، فالمسلم جميل نظيف طاهر فى مجتمعه وينبغى أن يرى الناس منه ذلك: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)، ولذلك جاء فى بيان هذه الآية الكريمة أقوال متضافرة لأداء هذا المعنى، فمنها: تطهير الثياب الظاهرة، ومنها: الأعمال كلها يقصد بتطهيرها؛ تخليصها والنصح بها وإبقائها على أكمل الوجوه وتنقيتها من المبطلات والمفسدات والمنقصات ومن شر ورياء ونفاق وعجب وتكبر وغير ذلك. ومن مدعمات النفس فى سورة «المدثر» ما جاء فى قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وجاء فى بيان الرجز ما ذكره مجاهد وعكرمة من هجر الأوثان، ودليله قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وأما ابن عباس يزيد على هذا المعنى هجر المآثم أى تركها ويذكر ذلك أيضا إبراهيم النخعى حيث يقول: الرجز الإثم، والرّجز والرّجز لغتان مثل الذّكر والذّكر، وأصل الرجز: العذاب، قال الله تعالى: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ [الأعراف: 134]، وقال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ [الأعراف: 162]، فسميت الأوثان رجزا لأنها تؤدى إلى العذاب وكذلك الآثام، وتكون تقوية النفس- إذن- بهجر أصل الشرور والآثام من الشرك والتعلق بالأوثان، واقتران الآثام بالبناء المبكر للنفس المسلمة يأخذ بيدها جملة وتصفيتها ظاهرا وباطنا. ثم يأتى توجيه آخر فى تدعيم النفس يتمثل فى قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6). وهذا بناء قوى تحتاجه النفس المسلمة فى هذا الوقت المبكر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم إمام المربين وقدوة المؤمنين فيخاطب فى هذه السورة بجملة هذه الآداب والأخلاق، فالنعمة عظيمة وهى منة الله على خلقه جميعا، والأذى شديد من المشركين ولا بدّ من توجيه النفس حتى تضع كل أمر فى موضعه، فلا تمنن النفس على الرب سبحانه بما تتحمله من أثقال، ولا تضعف أن تستكثر من الخير، ولا تعظم النفس عملها فى عينها، فإنه مما أنعم الله به عليها قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من

نفسك، إنما عملك منّة من الله عليك إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته. كما أنه لا ينبغى للنفس أن تمن على الله بالعمل فتستكثره، وإذا قامت النفس بعمل جليل فليكن تعلقها فى طلب الأجر والثواب من الله وليس من الناس. هذه المعانى وغيرها قيلت فى بيان هذه الآية الكريمة، وأظهرها ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال، يقال: مننت فلانا كذا، أى أعطيته، ويقال للعطية: المنة، فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا ارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يجمع الدنيا، ولهذا قال: «ما لى مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم»، وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين، ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة فى شىء من الدنيا، ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية فكان يقبلها، ويثيب عليها. وقال: «لو دعيت إلى كراع لأجبت (والكراع مسترق الساق من الرجل) ولو أهدى إلىّ ذراع لقبلت». والنفس تقوى بهذا التوجيه الكريم، لأنها سترى المنة فى كل شىء لله سبحانه فلن يكون العمل إلا له، ولن يكون التعلق إلا به، ولن يكون الطمع إلا فى رحمته وثوابه، ولن تستكثر شيئا من الأعمال التى ترضيه، فلو أطاع ابن آدم ربه العمر كله من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر. ثم نجد التوجيه الكريم المتكرر فى بناء النفس، والذى وجدناه فى السور السابقة وهو الأمر بالصبر لله وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) أى ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء رسالته وعلى حسن عبادته، وعلى ما أوذيت فى سبيله، وعلى ما حملت من أمر عظيم، وعلى مواجهة التحديات الخطيرة من قبل المشركين، وعلى موارد القضاء، وعلى البلوى، وعلى الأوامر والنواهى، وعلى فراق الأهل والأوطان. وكل ذلك كان يتعرض له المؤمنون فى تلك الفترة. فهذه مجموعة من المدعمات فى أول سورة المدثر تتبع ببيان ما ينبغى أن يحسب الناس له حسابا من اليوم العسير على الكافرين: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) وعلى ذلك تعطى الآيات لرسول الله صلّى الله عليه وسلم مادة الإنذار باليوم الآخر ثم تقديم الإنذار فى عرض نموذج لرجل من الكافرين خص بكفر النعمة، وإيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم وكان يسمى بالوحيد فى قومه.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد ليس لى فى العرب نظير ولا لأبى المغيرة نظير وكان يسمى بالوحيد فقال الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) أى وحيدا بزعمه لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد، وذرنى ومن خلقت وحيدا تهديد ووعيد لهذا المتكبر الذى حمله كبره على الكفر بالنعم والإيذاء لك وللمؤمنين، ويرى مجاهد أن هذه الصفة تعنى كيف خلق وحيدا فى بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعم الله عليه فكفر، وقيل: الوحيد الذى لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعى كما جاء فى تفسير قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) [القلم] فهو فى صفة الوليد أيضا «1». فالإنذار باليوم الآخر والإنذار بتقديم النماذج البشرية الفاسدة وما توعد الله به هذه النماذج من أساليب التربية المبكرة مع نزول السور الأولى من سور التنزيل الكريم. لقد أشرنا إلى تقديم سورة المدثر لوجهين من وجوه الإنذار التى ينبغى أن يعرفها الناس، الأول: التذكير باليوم العسير على الكافرين، الثانى: تقديم نموذج للبشر يظهر ما منح من نعم كانت تقتضى التعرف على المنعم وتقديم الشكر له والاستجابة لأمره ونهيه، ولكن حدث غير هذا ففصلت الآيات الكريمة مظاهر هذه النعم، ومظاهر عناده ورتبت العقوبات الرادعة، فيكون الإنذار بالخبر، ويكون كذلك بمعاينة النماذج التى عاصرت نزول الوحى، ويشاهدها الناس ويعرفونها معرفة يقينية فيقول الله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) فهو الوحيد- كما زعم- بمعنى، خلقه الله وحيدا فى بطن أمه لا مال له ولا ولد فأنعم الله عليه، فكفر «1». ومظاهر النعم التى يعرف بها، المال والبنون، فالمال جعله الله له ممدودا أى خوله وأعطاه مالا ممدودا يتمثل فيما كان له بين مكة والطائف من الإبل والخيل والنعم والجنان وتشير كلمة «ممدود» إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة. وأما البنون فجعل الله له البنين شهودا أى حضورا لا يغيبون عنه فى تصرف. وفضلا عن ذلك بسط له فى العيش بسطا حتى أقام ببلدته مترفا يرجع إلى رأيه. وهذا النموذج من البشر لا تجد لأطماعه حد فيطمع دائما فى الزيادة على الرغم من موقفه المعاند للدعوة، وكفره، بل يذكر بعض المفسرين أن الطمع قد زاد إلى حد

_ (1) القرطبى 19/ 71.

أنه يطمع أن يدخله الله الجنة استمرارا لنعمة المال والبنين، وما لذ وطاب من النعيم فينسب إلى الوليد قوله: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لى. وقطع الله رجاءه فى الجانبين كَلَّا أى لن أزيده، فلم يزل يرى النقصان فى ماله وولده حتى هلك، كما توعده سبحانه بقوله سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) قال ابن عباس: المعنى: سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه، وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع، وإن لم يعقبه موت ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه «1». وأما وعيد الله سبحانه له فى الآخرة فيقول الله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) أى سأدخله سقر لكى يصلى حرها. وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) أى وما أعلمك أى شىء هى؟ وهذه كلمة تعظيم ومبالغة فى وصفها، ثم فسر حالها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لا تذر لهم عظاما ولا لحما ولا دما إلا أحرقته ثم يعادون خلقا جديدا، فلا تزد أن تعاود إحراقهم هكذا أبدا لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) أى مغيرة فتلفح وجوههم لفحة تدعها أشد سوادا من الليل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وهذا الوعيد بتلك الحالة ينبه أصحاب الأموال الممدودة والبنين الشهود أن العواقب خطيرة، لا تبقى ولا تذر فى الدنيا ولا فى الآخرة، فالذى أعطى هو الذى يمنع فى الدنيا، والكفر والعناد من سبل الحرمان والنقم، ومن سبل الوصول إلى سقر التى لا تبقى ولا تذر. وتفصل الآيات بعد مظاهر النعم ومن خلالها مظاهر العناد من هذا البشر العجيب الذى يمنح الرزق فيكفر بالرازق ويعاند. فمن هذه المظاهر: كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) أى معاندا للنبى صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات ربه، كما يعنى العناد مخالفة الحق ورده مع معرفته بأنه حق، وقيل: يعنى المجاهر بعداوته، وعن مجاهد قال: مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعانى كما نرى متقاربة فى بيان هذا النموذج من الناس الذين لم يكتفوا بالإعراض بل عاندوا وجاهروا بالعدوان والصد عن دين الله، واستمروا على ذلك بتدبر خبيث وإصرار واستمرار لهذه العداوة، ومن مظاهر ذلك ما ذكر فى حق الوليد هذا من قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)

_ (1) القرطبى 19/ 74.

إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25). وهذا الوصف الدقيق له دلالات متعددة، إنه وصف لهذا العناد الذى أعمل فيه الوليد فكره، وخالط هذا الفكر نفسه، وخرج هذا فى سلوكه، فى فطرته، فى عيونه، فى سواد وجهه حقدا وغيظا، فى حركته إدبارا، واستكبارا، فى قوله وإشاعاته وحكمه الباطل على الحق بما ليس فيه. إنه فكر وقدر يعنى: فى شأن النبى صلّى الله عليه وسلم والقرآن الذى استمع إليه ونطق لسانه بما عرف فقال: «والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر» «1»، وفكّر فى موقف زعماء المشركين منه، ومكانته فيهم فلم تنفعه هذه المعرفة لما سمع، وغلبه هواه وغلبته عصبيته، واستكباره فيهم فهيأ الكلام فى نفسه، والعرب تقول: قدّرت الشيء إذا هيأته: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) أى لعن على أى حال قدر، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) إنه لأمر مهول أن يغالط الإنسان نفسه، فيعرف أمرا على وجهه الصحيح ثم يهيئ فى نفسه ما يخالف هذا الأمر، لعن لعنا بعد لعن كيف يكون هذا حاله؟ وبدأ أثر التفكير والتقدير يظهر فى نظراته الحسية غيظا، وفى نظره المعنوى بأى شىء يرد هذا الحق ويدفعه، ويظهر فى عبوسه فى وجوه المؤمنين عند ما دعوه إلى الإسلام، ويظهر كذلك فى كلاحة وجهه وتغير لونه، ويظهر كذلك فى إدباره وإعراضه وذهابه إلى جانب أهله المشركين، وفى استكباره أن يؤمن ويصير مع المؤمنين. ولكن ماذا يقول فى الرسول صلّى الله عليه وسلم وفى القرآن الكريم الذى عبر عنه التعبير السابق ولامه عليه المشركون، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) لقد كذب الوليد وكذب نفسه فى الوصفين، فقد رد على الناس وصفهم للرسول صلّى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وقال كذلك بعد سماعه القرآن الكريم: وما يقول هذا بشر. ولقد أراد بهذا تشويه شخصية النبى صلّى الله عليه وسلم عند ما لا يعرفه من القادمين إلى مكة، وأراد أن يقول لهم: إن من يتبعه ليس عن اقتناع منه بل نتيجة سحره، وبهذا يكون قد طعن فى القرآن الكريم- أيضا- ولذلك استحق لعنا بعد لعن: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20). ومن وجوه الإنذار التى أمر النبى صلّى الله عليه وسلم أن يبلغها الناس فى سورة «المدثر» والتى

_ (1) القرطبى 19/ 74.

بدأت بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) ما يتعلق «بسقر» والتى ذكرنا شيئا عنها، ونذكر بقية ذلك الآن، قال تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31). فعلى سقر تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها ويلقون فيها أهلها، ويذكر القرطبى فى تفسير هذه الآية الكريمة قوله: «والصحيح- إن شاء الله- أن هؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال الله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وقد ثبت فى الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها». وقد وصف أصحاب النار من الملائكة بأنهم غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) [التحريم] وذلك ليقوموا بما أمروا به من جزاء عادل وليحذر الكافرون من ذلك فيجتنبوا سبل سقر، ولا يكون الحال كما كان من أبى جهل- لعنه الله- ومن معه من المشركين، قال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبى كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدّهم- أى العدد- والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، قال السدى: فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحى: لا يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبى الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبى الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة، يقولها مستهزئا. وقيل: إن أبا جهل قال: أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فنزل قول الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أى لم يجعلهم رجالا فتتصورون فعاليتهم، وقيل كذلك: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ولا يستريحون إليهم؛ ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم، ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا «1». وإذا كان من وجوه الإنذار التى جاءت فى هذه السورة الكريمة ما يتعلق بالغيب

_ (1) القرطبى 19/ 81.

كالإنذار بسقر وما فيها، والإنذار بأصحابها فإن الله تعالى جعل فى هذا الإنذار آية اختبار فيما يتعلق بعدة أصحاب النار من الملائكة، فإن المنتسبين إلى التوراة والإنجيل سيجدون أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم، ويكون ذلك مدخلا لليقين إن كانوا أهلا لتقبل الحق والتسليم له، وأما المؤمنون المصدقون فيزدادون بهذا إيمانا، لأنهم يؤمنون بالغيب، وكل اخبار جديد فى آية منزلة تزيدهم إيمانا وتزيدهم معرفة يقينية بعالم الغيب، وأما الذين فى قلوبهم مرض من شك وارتياب، وهذا كان الحال فى الفترة المكية وفى بدايات التنزيل وذلك ما جعل الحسن بن الفضل يقول: السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض فى هذه الآية الخلاف «1»، ولكن أكثر المفسرين يذهبون إلى القول: بأن الذين في قلوبهم مرض هم الذين فى صدورهم شك ونفاق من منافقى أهل المدينة الذين ينجمون فى مستقبل الزمان بعد الهجرة- سيقول هذا الفريق المريض: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أى ماذا أراد بهذا العدد الذى ذكر عن خزنة جهنم، وهذا موقف المرضى أمام التنزيل، فهم لا يريدون العمل به فيكثرون من التساؤلات والتشكيك ويضيعون الوقت فى ذلك بدلا من التلبية والإذعان والعمل، ولقد جمع الله- سبحانه وتعالى- بين الذين فى قلوبهم مرض، وطائفة الكافرين فى هذا التساؤل لا تحادهم فى الهدف واتحادهم من حيث نفوسهم مع خطورة إخفاء المنافقين لحالهم وإظهارهم الإسلام. وعلى ذلك تكون هذه السورة الكريمة قد نبهت إلى طوائف التحدى لهذا الدين من وقت مبكر ليكون الرسول الكريم والذين معه على بينة من أمرهم فيتعرفون على أساليب الطوائف التى ظهرت، والطوائف التى ستظهر بعد ذلك. ولا يعلمها إلا الله: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) وبهذا يعطى القرآن الكريم عظته مع بيان حال الناس منها وقت التنزيل، وتبقى الآيات وما ذكر منها من المعانى ذكرى للبشر، ليحسنوا التعامل معها إيمانا وتصديقا وامتثالا وعملا بمقتضى هذه العظة، ولا يكونوا كالذين حرموا من الانتفاع بهذه الآيات. فالقرآن الكريم للأجيال كلها إلى يوم القيامة، وما يذكره من وجوه الإنذار يخاطب به الناس إلى يوم القيامة. فبعد هذا الذكر لهذا الإخبار عن أمر غيب، تأتى الآيات الكريمة لتؤكد الإنذار بما شاهده الناس من آيات كونية يقسم الله بها إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) أى أن هذه النار لإحدى الكبر الدواهى وتكذيبهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من الوحى لكبيرة من الكبائر الخطيرة التى تهلك الإنسان فى حياته الدنيا والآخرة.

_ (1) حكى هذا القرطبى 19/ 80.

وهذه النار التى وضعت فى هذه السورة نذيرا للبشر. حتى قال الحسن: والله ما أنذر الخلائق بشيء أدهى منها. ومن وجوه الإنذار التى أمر النبى صلّى الله عليه وسلم بتوجيهها إلى الناس، الإنذار بوعيد الله بنماذج من البشر كفرت بأنعم الله، وأنذر بسقر وما يتعلق بها من أخبار غيبية: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) وأكد هذا الإنذار بآيات كونية يلفت القرآن الكريم النظر إليها: كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37). فالقسم بآيات كونية هنا ينبه إلى أمور يحتاجها الإنسان فى إنذاره وبنائه على العقيدة الصحيحة التى بعث بها النبى صلّى الله عليه وسلم، منها: التأمل والنظر فى مظاهر قدرة الله سبحانه فى آياته الكونية فالقمر الذى جعله نورا، والليل الذى ولى بظلامه، والصبح الذى أضاء، آيات كونية تنبه الإنسان إلى عظيم خلق الله وقدرته، وتنبهه إلى منة الله عليه ونعمته، وكيف سخر له هذه الآيات لينتفع بها، وإذا كانت هذه الآيات الكونية المذكورة تنكشف بها الأشياء انكشافا لا خفاء فيه فالقمر بنوره الهادئ والصبح كذلك، وذهاب ظلمات الليل تجعل الإنسان يبصر الأشياء ويدرك وجودها فالذى جلى الأشياء للإنسان بهذه الآيات الكونية وكشفها هو الذى يخبر عن سقر ويقسم: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37). ومن هنا ندرك من بدايات التنزيل كيف يوجه القرآن الكريم الإنسان إلى النظر والتفكير فى آيات الله المبثوثة فى هذا الكون، وفى النفس الإنسانية نظرة تأمل واعتبار، ونظرة إدراك تسخير الله سبحانه لهذه الآيات الكونية لانتفاع الإنسان بها، ونظرة التوافق التى تجعل الإنسان لا يشعر برهبة أمام هذه الآيات الكونية، لأنها مخلوقة ومسخرة، ولا حول لها ولا قوة إلا بخالقها ومسيرها سبحانه وتعالى. ومع وجوه الإنذار فى هذه السورة الكريمة يأتى تقرير المسئولية الفردية والتى تقوم على ما منح الله الإنسان من القدرة على الفعل والترك والتقدم والتأخر والاختيار لما يعمل من خير أو شر، فالنذارة كذلك لمن شاء منكم أن يتقدم إلى الخير والطاعة، أو يتأخر إلى الشر والمعصية نظيره: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ [الحجر: 24]، أى فى الخير وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) [الحجر] أى عنه. ويذكر الحسن أن قوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) وعيد وتهديد وإن خرج مخرج الخبر كقوله

تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29]، ويجمع ابن عباس بين المعنيين فيقول: هذا تهديد وإعلام أن من تقدّم إلى الطاعة والإيمان جوزى بثواب لا ينقطع، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلّى الله عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع، وأما السدى فيقول: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ- إلى النار (المتقدم ذكرها) - أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) - عنها إلى الجنة. وعلى كل حال فتقرير المسئولية عما يكتسب الإنسان تنبيه «مبكر» يجعل الإنسان يسأل نفسه عن الإقدام والإحجام، ويربى فى النفس هذه الملكة التى تسأل وتراجع وتراقب قبل العمل، وبعده لنجد النفس المحامية المراقبة اللوامة قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) أى مرتهنة بكسبها، مأخوذة بعملها، إما خلصها وإما أوبقها. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) وهذا الاستثناء الحكيم ليس فيه ما قد يفهمه البعض من الخروج عن قاعدة المسئولية الفردية، بل هو تدعيم لها فإن أصحاب اليمين لا يرتهنون بذنوبهم؛ لأنهم إما أن يكونوا غير مكتسبين للذنوب، أو أدوا ما كان عليهم. ولذلك اختلف فى تعيينهم، فابن عباس فى الدين يقول: إنهم الملائكة وهؤلاء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وعلىّ بن أبى طالب رضي الله عنه يقول: إنهم أولاد المسلمين لم يكتسبوا فيرتهنوا بكسبهم، وقال الحسن وابن كيسان: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم، وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. فالمسئولية- إذن- مقررة كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38). ويأخذ الإنذار وجها آخر فى هذه السورة الكريمة المنذرة، وهو عرض للمقارنة بين تبصير المؤمنين والكافرين، وذكر ما يتصل بالفريقين من أعمال، ومعنى ذلك أن من فضل الله على خلقه أن تتعدد الأساليب تشجيعا لأهل الإيمان، وحفزا لهممهم للقيام بتبعات الدعوة ومسئولياتها، وتحذيرا لأهل الشرك حتى يعودوا إلى الحق والرشاد ويتخذوا سبيل المؤمنين وإلا فالمصير أليم، فالمؤمنون الصالحون أصحاب اليمين فى الجنات وما أعد الله لهم فيها، والمشركون يوصفون بالإجرام؛ لأنهم أجرموا فى حق أنفسهم، وفى حق غيرهم ممن وقفوا منهم موقف الإيذاء والتعذيب والسخرية والاستهزاء، وحال الفريقين مكشوف وظاهر، أما أهل الإيمان فهم فى أمن وسلام ونعيم يسمح لهم بهذا التساؤل عن غيرهم، والتساؤل- هنا- عن المجرمين، وعن الأعمال التى أدخلتهم سقر وكانوا بها مجرمين، وتعرض السورة الكريمة المنذرة أقوال أهل سقر والتى تتضمن

قواعد الفساد فى علاقة الإنسان بربه سبحانه، وفى علاقته بصفات قومه، وفى مساندته ووقوفه مع أهل الباطل، وفى فساد معرفته وتصوراته، وفى استمرار هذا الفساد طيلة حياتهم الدنيا ... قال تعالى: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48). إن أساس الإجرام والفساد عدم الإيمان الذى يجعل المجرم يقطع صلته بربه بترك الصلاة، ويتبع هذا الفساد قسوة القلب على الضعفاء فلا يطعمون المسكين ولا يتصدقون، ويغذى هذا الفساد مخالطة أهل الباطل فى باطلهم، والخوض فى أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مثل قولهم- لعنهم الله: «كاهن أو مجنون»، أو «شاعر أو ساحر»، ومما يزيد من حجم هذا الإجرام التكذيب بيوم الجزاء والحكم. ومما يدل على تعمق الإجرام وتحكمه فى هؤلاء الاستمرار على هذا الحال إلى الموت. فهؤلاء بهذا الإجرام محرومون من الشفاعة التى جعلها الله للمذنبين من أهل التوحيد الذين يعذبون بذنوبهم ثم شفع فيهم، فرحمهم الله بتوحيدهم والشفاعة فأخرجوا من النار وليس للكفار شفيع يشفع فيهم «1». ونتابع القول فى وجوه الإنذار التى جاءت فى سورة المدثر، والتى فصلت فيها من بدايتها إلى آخر السورة الكريمة حيث يقول الله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56). فالإنذار- هنا- له وجهان عظيمان، الوجه الأول: التذكرة بالقرآن الكريم، والوجه الثانى: الإنذار بالآخرة والتخويف بما يكون فيها. فأما الوجه الأول: فيكون فى هذا التساؤل عن إعراض أهل مكة، وتوليهم عما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو إعراض عجيب بنى على تصور فاسد، إنه إعراض عن التذكرة بالقرآن الكريم يتمثل فى الجحود والإنكار، ويتمثل تبعا لذلك فى ترك العمل بما

_ (1) القرطبى 19/ 88.

فيه، وأما فساد التصور الذى قام عليه هذا الإعراض فيتمثل فى فهمهم الفاسد للنبوة ووظيفتها ومهمة الرسل فى تبليغ ما أمروا به، وأن الله مصطف من عباده من يشاء لهذه المهمة، ولا يخاطب كل فرد من خلقه خطابا منفردا كما أراد أبو جهل، وجماعة من قريش حين قالوا: يا محمد: ائتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها: إنى قد أرسلت إليكم محمدا صلّى الله عليه وسلم «1»، وقال ابن عباس: كانوا يقولون: إن كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: أرادوا أن يعطوا بغير عمل. وقال المشركون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: بلغنا أن الرجل من بنى إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، قال مجاهد: أرادوا أن ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل: إلى فلانا بن فلان. إنه فساد فى تصور النبوة من جانب وحقد على رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جانب آخر لفساد نفوس المشركين، وفساد مقاييسهم للبشر، فهم لا يريدون هذا الأمر لمحمد صلّى الله عليه وسلم؛ لأن مقياس العظمة عندهم لم يكن فيما يرزق الإنسان من كمال الأخلاق ومكارمها، بل من كثر ماله وكثر رجاله يعد عظيما فيهم، وحصروا بهذا المقياس الأمر فى رجلين ذكر القرآن الكريم قولهم فيهما: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) [الزخرف] ورد عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: 32]. وأما العجب فى هذا الإعراض فإنه يكمن فى مظهر هذا الإعراض، إن الإعراض يكون طبيعيا عند ما يكون من شىء يضر الإنسان، أما الإعراض عما ينفع فهذا يدعو إلى العجب، ويدل على أسباب فاسدة وراء هذا الإعراض، وقد ذكرنا بعضها من فساد التصورات والحقد والحسد، والذى يجعل هذا العجب شديدا أن ترى هذا الإعراض مصحوبا بحركات هستيرية، كأن الداعى لهم يريد الفتك بهم، فتراهم يفرون منه يمينا وشمالا وهم فى ذعر وخوف عجيب، وهذا دليل على أن الجوانب الإنسانية التى تقدر ما يفيدها قد امتهنت فيهم، وصاروا كما وصفهم القرآن الكريم فى هذا الإعراض كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) فوصفهم بالحمر يدل على أن الإنسان الذى جعله الله فى محل التكريم قد يتدنى وينزل من دائرة التكريم إلى دائرة الحيوانية المهينة بإعراضه عن وحى ربه، إن الوحى يحمله ويرقيه ويجعله إنسانا كريما،

_ (1) القرطبى 19/ 90.

وإعراضه بشقه يجعله كالأنعام التى لا تدرى قيمة ما تدعى إليه، ولا تفرق بين دعوة إلى مرعى، أو دعوة متربح. إن صورة فرار الحمر من الرماة- على ما يذكر بعض أهل اللغة من تفسير القسورة بالرامى والصياد، أو من الأسد على ما ذكر أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما أو من طلبه أول الليل على ما يذكر ابن الأعرابى «1». صورة ذعر وخوف لا تنسجم أبدا مع الداعى إلى الحق، والداعى إلى الخير والذى يهدى للتى هى أقوم. ولكن ليس هذا بالمستغرب لمن تساوى بإعراضه مع الحمر وكان هذا شأن المعرضين فى كل عصر كلما دعوا إلى الحق جعلوا أصابعهم فى آذانهم، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا. وأما ما يتعلق بالوجه الثانى، وهو مرتبط بالوجه السابق هو التخويف بالآخرة وما يكون فيها من صنوف العذاب التى لا يقوى عليها الإنسان الضعيف. فهؤلاء لو كانوا يقدرون هذا المصير ما سلكوا سبيل الإعراض، بل الإعراض بهذه الصورة العجيبة. إن الفطنة بالقرآن الكريم وما يتضمنه من صور وجوه الإنذار فيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54). وتختم السورة التى فصلت وجوه الإنذار بتنبيه الإنسان بما منحه الله من القدرة على العقل والترك، وبما منحه من المشيئة والاختيار تقريرا لهذه المسئولية التى سبق ذكرها فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) ولكن هذه المشيئة التى منحت من الله للإنسان لا غنى لها عن المشيئة العليا لمن خلق وسير، ومن بيده ملكوت كل شىء فعليه نتوكل وهو رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. فذكر المشيئة فى السورة الكريمة فى قوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) وفى قوله جل شأنه: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) تقرير لهذه المشيئة من الله للإنسان فى اختيار العمل الذى سيحاسب عليه الإنسان ولا يتعارض ذلك مع الحقيقة الكبرى فى مشيئة الله المهيمن القدير الذى أحاط كل شىء علما، وأحصى كل شىء عددا، والذى خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، ويمنحه بما يعلمه من شأنه وحاله ونيته. وعلى ذلك فالمؤمن يشغل بمشيئة الخير وفعله والإقدام عليه وترك المنكر والإحجام عنه، ولا يقع فيما يقع فيه من قصر نظره، وترك العمل؛ لأن العبد مأمور ولا يعلم ماذا يشاء الله به. ولكن عليه من حسن ظنه بربه أن يطمئن إلى فضله ورحمته وكرمه ومغفرته

_ (1) القرطبى 19/ 86.

فهو أهل التقوى وأهل المغفرة. هذه مجموعة المعانى على ترتيبها فى نزولها على البشير النذير صلّى الله عليه وسلم فى سورة المدثر والتى تتضمن وجوه الإنذار التى أمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى قوله تعالى فى بداية السورة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2).

سورة «الفاتحة»

سورة «الفاتحة» ومع روضة قرآنية كريمة نمتع بها قلوبنا فى كل صلاة، إنها سورة الفاتحة، فاتحة الكتاب. وهى السبع المثانى، وأم القرآن، وأم الكتاب، وقد جاءت السنة الصحيحة بهذه الأسماء، فأما تسميتها بفاتحة الكتاب فقد جاء فى ذلك قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وروى الترمذى عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الحمد لله ... أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى» قال: هذا حديث حسن صحيح، وفى البخارى قال: وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها فى المصاحف ونبدأ بقراءتها فى الصلاة. وقال يحيى بن يعمر: أم القرى: مكة، وأم خراسان: مرد، وأم القرآن: سورة الحمد، وعلى ذلك يكون الفهم الصحيح لمعنى تسميتها بفاتحة الكتاب، وليس المراد إذن بصفة الفتح للكتاب أنها أول الكتاب الكريم نزولا، فهذا رأى ضعيف يعتمد على حديث منقطع لا يقوى فى الاحتجاج به، وقد ذكر هذا الحديث البيهقى فى دلائل النبوة عن أبى ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إنى إذا خلوت وحدى سمعت نداء وقد- والله- خشيت أن يكون هذا أمرا»، قالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدى الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر- وليس رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثمّ (أى هناك) ذكرت خديجة حديثا له، قالت: يا عتق، اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: «ومن أخبرك»، قال: خديجة، فانطلقنا إليه فقصا عليه، فقال: «إذا خلوت وحدى سمعت نداء خلفى يا محمد يا محمد، فأنطلق هاربا فى الأرض»، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتنى فأخبرنى، فلما خلا ناداه: يا محمد، قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حتى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ (7) [الفاتحة] قل: لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذى بشر به عيسى ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبى مرسل، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، وإن يدركنى ذلك لأجاهدنّ معك، فلما توفى ورقة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد رأيت القس فى الجنة عليه ثياب الحرير لأنه أحسن بى

وصدقنى- يعنى ورقة» قال البيهقى رحمه الله: هذا منقطع يعنى: هذا الحديث، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزل عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1». ولا يفهم من قول الإمام البيهقى رحمه الله أنها السورة الثالثة، ولكن يعنى أن بداية التنزيل كان فى الآيات الأولى من سورة اقرأ باسم ربك، وأن سورة الفاتحة لم تكن الأولى فى ترتيب النزول، وإنما كانت بعد يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وهذا هو الترتيب الراجح وإلا فقد حكى الخلاف فى تحديد زمن نزولها على ما يلى: الجمهور على أنها نزلت بمكة لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) [الحجر]، والحجر مكية بإجماع، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كان فى الإسلام صلاة بغير الفاتحة. وذكر هذا الرأى ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياض- واسمه رفيع- وغيرهم. وأما أبو هريرة رضي الله عنه ومجاهد وعطاء بن يسار والزهرى وغيرهم فيرون أنها مدنية. وجمع بعض العلماء بين القولين بأنها تكرر نزولها فنزلت بمكة ونزلت بالمدينة حين حولت القبلة وحكى أبو الليث السمرقندى أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة، ويعلق ابن كثير على هذا بقوله: وهو غير مجاهد نقله القرطبى عنه، وعلى ذلك نصل إلى تقرير أن سورة الفاتحة فى ترتيب نزولها بعد سورة المدثر، وأنها نزلت كاملة غير منجمة، وأن المسلمين قرءوا بها فى الصلاة عند فرضها، وأنها فاتحة الكتاب المنزل المتضمنة لمقاصد الكتاب العزيز إجمالا، فالقرآن الكريم فيه البيان لحقوق الخالق على خلقه، وحاجة الخلق إلى خالقهم، وتنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، فهذا من جملة المقاصد التى جاء بها القرآن الكريم، وقد أشارت إليها الفاتحة- على ما سنفصل إن شاء الله تعالى- فآياتها الأولى بيان لحقوق الله على خلقه، وإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) مع طلب الهداية منه تعالى إلى الصراط المستقيم بيان لحاجة الخلق إلى خالقهم، والصراط المستقيم هو نظام هذه الصلة بين المخلوق والخالق سبحانه، كما تضمنت الفاتحة كذلك الإشارة إلى الرد على كل طوائف المبطلين الخارجين عن الصراط المستقيم، وبيان أسباب هذا الخروج، وهى لا تتعدى الغضب عليهم أو الضلال منهم، وبهذا استحقت الفاتحة أن يطلق عليها أم القرآن «2».

_ (1) القرطبى 1/ 116، وروح المعانى 1/ 31. (2) محاسن التأويل 1/ 3، 4، وروح المعانى 1/ 31، 32، والدر المنثور فى التفسير بالمأثور 1/ 2، وابن كثير 1/ 18، 19، رسالتان فى التفسير: حسن البنا ص 45، والتحرير والتنوير 1/ 134.

ونتابع الحديث فى سورة الفاتحة، وقد تناولنا فى الجزء السابق تسمية الفاتحة بأم القرآن وخاتمة الكتاب، وسميت السورة الكريمة بالسبع المثانى، ففي صحيح البخارى عن أبى سعيد بن المعلى رضي الله عنه، قال: كنت أصلى فدعا فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلم أجبه، حتى صليت، قال فأتيته. فقال: «ما منعك أن تأتينى؟»، قال: قلت: يا رسول الله إنى كنت أصلى قال: «ألم يقل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» [الأنفال: 24] ثم قال: «لأعلمنك أعظم سورة فى القرآن قبل أن تخرج من المسجد»، قال: فأخذ بيدى، فلما أراد أن يخرج من المسجد، قلت: يا رسول الله إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة فى القرآن، قال: «نعم «الحمد لله رب العالمين»، هى السبع المثانى والقرآن العظيم الذى أتيته» «1»، ووجه تسميتها بالسبع المثانى أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصرى فقال: هى ثمان آيات، وإلا الحسن الجعفى فقال: هى ست آيات، ولا يعنى هذا أنهم يزيدون أو ينقصون شيئا من الفاتحة وإنما يرجع ذلك إلى عد البسملة من الفاتحة، أو يرجع إلى إدماج آيتين فى آية واحدة أو الفصل. فعلى السبع وهو ما عليه الاتفاق تجد حديث الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: قسمت الصلاة نصفين بينى وبين عبدى فنصفها إلىّ، ونصفها لعبدى، ولعبدى ما سأل، يقول العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)، فأقول: حمدنى عبدى ... وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)، قال الله: هذا بينى وبين عبدى، وإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)، قال الله: هؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل». فهنّ ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية، وتعد أنعمت عليهم جزء آية، والحسن البصرى عد البسملة آية، وعد أنعمت عليهم آية «2». وأما وصفها بالمثانى فلأنها تثنى فى الصلاة أى تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير، وهذا ما عرف من الأسلوب العربى من استعمال المثنى فى مطلق المكرر نحو ثُمَّ ارْجِعِ

_ (1) رواه أحمد فى مسنده وأبو داود والنسائى وماجة من طرق. تفسير التحرير والتنوير 1/ 134. (2) التحرير والتنوير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور 1/ 136.

الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] وقولهم: لبيك وسعديك، وعلى ذلك يكون المراد بالمثانى فى وصف الفاتحة مثل المراد بالمثانى فى قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] أى مكرر القصص والأغراض «1». ومن أسمائها كذلك «2» ما ذكره القرطبى فى تفسيره زيادة على ما ذكر: إنها سميت بالصلاة، وهذا الاسم مأخوذ من الحديث القدسى الذى يقول الله عز وجل فيه: «قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين» وهذه القسمة تتناول آيات الفاتحة التى يقرأها المصلى فى كل ركعة. وسميت كذلك سورة الحمد، لأن فيها ذكر الحمد كما يقال: سورة الأعراف، والأنفال والتوبة ونحوها. وسميت كذلك بالشفاء لما جاء فى مسند الدارمى عن عبد الله بن عمير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فى فاتحة الكتاب شفاء من كل داء». وفى رواية عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فاتحة الكتاب شفاء من كل سم». وسميت كذلك بالرقية لما أخرجه أبو عبيدة وأحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجة والحاكم والبيهقى عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى سريّة: ثلاثين راكبا فنزلنا بقوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا فلدغ سيدهم فأتونا فقالوا: فيكم أحد يرقى من العقرب، فقلت: نعم أنا، ولكن لا أفعل حتى تعطونا شيئا، قالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة، فقال: فقرأنا عليه «الحمد» سبع مرات، فبرأ فلما قبضنا الغنم عرض فى أنفسنا منها فكففنا حتى أتينا النبى صلّى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: «أما علمت أنها رقية، اقتسموها واضربوا لى معكم بسهم» «3». فجاء فى هذه الرواية تسمية السورة باسم الحمد على لسان أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه، وجاء تسميتها بالرقية على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وزادهم اطمئنانا على سلامة ما صنعوا وعدم تحرجهم مما أخذوا بأن قال لهم: «واضربوا لى معكم سهم».

_ (1) التحرير والتنوير 1/ 135، وروح المعانى 1/ 38. (2) فتح القدير 1/ 15، التحرير والتنوير 1/ 131، والدر المنثور 1/ 14، والقرطبى 1/ 111، 112. (3) الدر المنثور 1/ 4، المطبعة الشعبية ببيروت.

وسميت كذلك بالوافية ذكر ذلك سفيان بن عيينة، لأنها لا تقبل التنصيف وقال الثعلبى: ألا ترى أن كل سورة من القرآن لو قرئ نصفها فى ركعة والنصف الآخر فى ركعة أخرى لجاز، وهذا التنصيف غير جائز فى هذه السورة. وسميت كذلك بالكافية، جاء ذلك عن عبد الله بن يحيى بن أبى كثير أنه سأله سائل عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، فقال: عن الكافية تسأل؟ قال السائل: وما الكافية؟ قال: الفاتحة، أما علمت أنها تكفى عن سواها ولا يكفى سواها عنها «1». بهذه الأسماء والصفات والألقاب سميت الفاتحة، وسميت ووصفت بغيرها أيضا، فقد ذكر الإمام السيوطى فى الأنقاض منها أكثر من ذلك بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء والعلماء، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. ونتابع القول فى سورة الفاتحة بعد أن تناولنا نزولها وأسماءها، بقى أمامنا أمران: الأول: ما قيل فى البسملة وعدّها من آيات، سورة الفاتحة، والثانى: يحمل المعانى على ترتيبها من التنزيل الكريم. فأما الأمر الأول: فإن ذكر البسملة بصيغتها الكاملة «بسم الله الرحمن الرحيم» مع سورة الفاتحة وإن كان معناها تقدم فى أولى آيات الكتاب الكريم من سورة العلق فى قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق] وفى هذا توجيه من بداية التنزيل إلى أن يعود الأمر كله لله سبحانه، فهو رب العالمين، وهو الله الرحمن الرحيم، فبسم الله أى: بالله، ومعنى بالله أى: بخلقه وتقديره، وكذلك من معانيها باسم الله يعنى: بعون الله وتوفيقه وبركته فيذكر اسم الله تعالى عند افتتاح القراءة وغيرها؛ حتى يكون الافتتاح ببركة الله- عز وجل- وعلى هذا جاءت التوجيهات القرآنية لتؤكد هذا المعنى وكذلك وردت أحاديث للنبى صلّى الله عليه وسلم لتأكيده فى أول كل فعل كالأكل والشرب والنحر والجماع والطهارة وركوب البحر إلى غير ذلك من الأفعال قال الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 118]، وقال تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41]، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وقمر إناءك واذكر اسم الله، وأوكئ سقاءك واذكر اسم الله»، وقال صلّى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتى

_ (1) فتح القدير 1/ 15، والقرطبى 1/ 111، 112، والتفسير الكبير للرازى 1/ 173 - 177.

أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدّر بينهما ولد فى ذلك لم يضره شيطان أبدا». وقال- عليه الصلاة والسلام- لعمر بن أبى سلمة: «يا غلام سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك» وقال صلّى الله عليه وسلم: «إن الشيطان لا يستحل الطعام الذى يذكر اسم الله عليه». وقال: «من لم يتربح فليتربح باسم الله»، وشكا إليه عثمان بن أبى العاص وجعا يجده فى جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذى تألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر»، فهذه التوجيهات كلها ثابتة فى الصحيح كما روى ابن ماجة والترمذى عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «ستر ما بين الجن وعورات بنى آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله»، وروى الدارقطنى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى ثم يفرغ الماء على يديه. فهذا ما وجه الشرع الحنيف إليه نحو البسملة وذكرها في بداية الأقوال والأفعال وما جعل الله فى ذكر هامش الخير والبركة، وأما اعتبارها من آيات سورة الفاتحة وغيرها فإن للعلماء أقوالا فى ذلك منها: أولا: إنها آية من القرآن الكريم فى سورة النمل باتفاق الجميع وهى قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النمل]. ثانيا: إنها آية من كل سورة، وهو قول عبد الله بن المبارك. ثالثا: إنها آية فى الفاتحة، قال بذلك الشافعى، أما فى سائر السور فتردد قوله، فمرة قال: هى آية من كل سورة، ومرة قال: ليست آية إلا فى الفاتحة وحدها. رابعا: إنها ليست آية من الفاتحة ولا غيرها، وهو قول مالك وقدم أصحاب هذه الأقوال حججهم فى ذلك، فأما حجة ابن المبارك وكذلك الحجة لأحد قولى الشافعى ما رواه مسلم عن أنس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «نزلت على آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)» [الكوثر]، ومعنى ذلك أن البسملة ذكرت فيما أنزل من السور الأخرى كسورة الكوثر «1».

_ (1) القرطبى 20/ 216.

وأما حجة الشافعى فى أنها آية من سورة الفاتحة ففيما رواه الدارقطنى من حديث أبى بكر الحنفى عن عبد الحميد بن صفر عن نوح بن أبى بلال عن سعيد بن أبى سعيد المقبرى عن أبى هريرة عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين» فاقرءوا: «بسم الله الرحمن الرحيم» إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثانى وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها». رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر، وعبد الحميد هذا وثّقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين وأبو حاتم يقول فيه: محله الصدق، وكان سفيان الثورى مضيفه ويحمل عليه ونوح بن أبى بلال ثقة مشهور. لقد ذكرنا فى الجزء السابق بعضا من أقوال العلماء فى اعتبار البسملة من آيات سورة الفاتحة، ونكمل القول فى ذلك مع ذكر الأدلة. فأما قول مالك: بأنها ليست من الفاتحة ولا غيرها، فإن القرطبى يصحح هذا القول، ويذكر أن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعى الذى لا يختلف فيه. والأخبار الصحاح التى لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا فى النمل وحدها، ويعنى بذلك قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النمل] ويورد القرطبى على ذلك الأدلة الآتية: ما رواه مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)، قال الله تعالى: حمدنى عبدي، وإذا قال العبد: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) قال الله تعالى أثنى علىّ عبدى، وإذا قال العبد: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) قال: مجدنى عبدى- وقال مرة: فوض إلىّ عبدى- فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) قال: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل». فقوله سبحانه: «قسمت الصلاة» يريد الفاتحة، وسماها الصلاة لأن الصلاة؛ لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأولى لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها. ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده؛ لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة

منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله: هؤلاء لعبدى أخرجه مالك ولم يقل: هاتان، فهذا يدل على أن أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، قال ابن بكير قال مالك: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية ثم الآية السابعة إلى آخرها، فثبت بهذه القسمة التى قسمها الله تعالى، وبقوله- عليه الصلاة والسلام- لأبيّ: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟» قال: فقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حتى أتيت على آخرها- إن البسملة ليست آية منها، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة وأكثر القراء عدوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية وكذا روى قتادة عن أبى نضرة عن أبى هريرة قال: الآية السادسة: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» ولم يعدوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. وبعد أن يصحح القرطبى قول مالك السابق يورد بعض الاعتراضات، ويجيب عنها فيقول «1»: إن قيل: فإنها ثابتة فى المصحف ومكتوبة بخطه ونقلب نقله كما نقلت فى النمل، وذلك متواتر عنهم. قلنا: ما ذكرتموه صحيح، ولكن لكونها قرآنا، أو لكونها فاصلة بين السور، كما روى عن الصحابة- رضوان الله عليهم: كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل: «بسم الله الرحمن الرحيم» أخرجه أبو داود، أو تبركا بها، كما قد اتفقت الأمة على كتابتها فى أوائل الكتب والرسائل، كل ذلك محتمل. وقد قال الجريرى: سئل الحسن عن «بسم الله الرحمن الرحيم» قال: فى صدور الرسائل، وقال الحسن أيضا: لم تنزل «بسم الله الرحمن الرحيم» فى شيء من القرآن إلا فى «طس» (آية) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النمل] والفيصل وأن القرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعى الاضطرارى، ثم قد اضطرب قول الشافعى فيها فى أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة، والحمد لله. فإن قيل: فقد روى جماعة قرآنيتها، وقد تولى الدارقطنى جمع ذلك فى جزء صححه، قلنا: لسنا نفكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليه، ولنا أخبار ثابتة فى مقابلتها رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات، فقد روت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فى صحيح مسلم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين. الحديث.

_ (1) القرطبى 1/ 94 - 97.

وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبى صلّى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون «بسم الله الرحمن الرحيم» لا فى أول قراءة ولا فى آخرها. يقول القرطبى: ثم إن مذهبنا يترجح فى ذلك بوجه عظيم، وهو المعقول وذلك أن مسجد النبى صلّى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور، من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط: «بسم الله الرحمن الرحيم» اتباعا للسنة، وهذا يرد أحاديثكم. بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها فى النفل، وعليه تحمل الآثار الواردة فى قراءتها، أو على السنة فى ذلك. قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها فى النافلة، ومن يعرض القرآن الكريم عرضا. هذه مجموعة الأقوال فى البسملة ومنها يتضح لنا أنه لا خلاف بين العلماء فى أن «بسم الله الرحمن الرحيم» من القرآن الكريم كما جاء فى قوله تعالى من سورة النمل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) [النمل] فهى جزء من آية. وإنما الخلاف فى هل هى آية من سورة الفاتحة، ومن أوائل السور غير براءة أى أن الاختلاف ليس فى كونها قرآنا، ولكنه فى تكرر قرآنيتها، والله الهادى إلى سواء السبيل. لقد تناولنا فى الأجزاء السابقة. ما يتصل بنزول الفاتحة وما يتعلق بآياتها، ونتناول الآن ترتيب ما تضمنته من المعانى حسب النزول، لقد جاءت معانى سورة الفاتحة جامعة حتى عدت السورة ولقبت بأم الكتاب، وكان نزولها بعد السور السابقة، وما تضمنته من توجيه الخلق إلى الله والقراءة باسمه والعمل له وتدبر آياته، وأن المصير إليه، وما تضمنت من تدعيم للمؤمنين، والشد من أزرهم بدءا برسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبيان حال الطوائف المعادية من المشركين وغيرهم، والتفصيل فى وجوه الإنذار، وكل هذه المعانى جعلت حركة الدعوة تزداد قوة ونشاطا وظهورا كما ازداد عدد المؤمنين، وأصبح لهم كيان بشرى ملموس أى صاروا جماعة تتكون من الرسول صلّى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين والمؤمنات، وكان نزول الفاتحة لتعليم المؤمنين وتوجيههم إلى أصول عامة وقواعد كلية فى علاقتهم بربهم، وفى علاقتهم فيما بينهم، وفى سلوكهم، وفى الحذر مما يضرهم،

فهى إذن رعاية من الله تبارك وتعالى لهؤلاء المؤمنين فى مسيرتهم، وهذه الأصول الجامعة فيما يلى: أولا: توجيه المؤمنين إلى الحمد أى إلى الثناء الكامل على الله وحده، فله الثناء الحسن الجميل، وهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه، إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ومع بذل غاية الجهد البشرى فى الثناء على الله لا يصلون إلى ما يستحق الخالق البارئ المصور المنعم- جل جلاله- ولذلك جاء فى دعوات النبى صلّى الله عليه وسلم: «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فلله الحمد وله الشكر كذلك على ما أولى من الإحسان؛ ولذلك روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وإن آدم عليه السّلام قال حين عطس: الحمد لله، وقال الله لنوح عليه السّلام: فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) [المؤمنون]، وقال إبراهيم عليه السّلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [إبراهيم: 39]، وقال فى قصة داود وسليمان وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) [النمل] وقال لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء: 111] وقال أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34]، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] فهى كلمة كل شاكر. فتوجيه المؤمنين إلى الحمد توجيه إلى ما يرضى الرب سبحانه، ويربى فى المؤمنين الحسن المرهف الذى يقدر النعمة ويقدم الشكر لمسديها، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام والإيمان والهداية، فعن أبى هريرة رضي الله عنه وكذلك عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ قال: صدق عبدى، الحمد لى» وروى مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها». فالحمد لله. ثانيا: التوجيه الثانى يتضمن الإقرار بالربوبية، فالله سبحانه الذى يستحق الحمد وحده هو رب العالمين مالكهم ومربيهم. والعالمون جمع عالم وهو كما يقول قتادة: كل موجود سوى الله تعالى «1» فيشمل كل مخلوق وموجود، وهذا ما ذكر من قوله

_ (1) القرطبى 1/ 139.

تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشعراء]. ثالثا: التوجيه إلى التعيين فى ربكم «رحمن رحيم»، وعلى ذلك يكون المؤمن دائما بين الخشية والرغبة فما يستشعره من الربوبية مع الرحمة تجعله خائفا من غضب الله وعذابه راجيا فى رحمته وثوابه ورضاه. رابعا: إن الذى بيده الملك فى الدنيا هو مالك يوم الدين فدنياكم بيده وأخراكم بيده فلا تجعلوا له أندادا. خامسا: التوجيه إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة المؤمنين، والتكلم بلسان هذه الجماعة فى بيان منهج حياتها، وفى بيان صلتها بربها، وفى طلب الخير والنجاة لها فى سلامتها من انحراف الخارجين. ويبدأ هذا التوجيه والإرشاد فى قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) فالحديث هنا بلسان الجماعة التى عرفت ربها، وأيقنت بهيمنته وأنه رحمن رحيم يستحق العبادة وحده ومنه العون والتوفيق.

سورة «المسد»

سورة «المسد» فمع روضة جديدة من رياض القرآن الكريم مع سورة «المسد» وقد نزلت بعد سورة الفاتحة التى جمعت الأصول العامة، ووجهت إلى الثناء الحسن الجميل على الخالق العظيم رب العالمين الرحمن الرحيم من له الآخرة الأولى، وإياه نعبد، وبه وحده نستعين، ومنه تطلب الهداية إلى ما عرفنا من طريق مستقيم، طريق من أنعم الله عليهم وأن يجنبنا طريق من ضل وطريق من غضب الله عليهم، وعلى ذلك فإن معالم الدعوة صارت واضحة، وإن أصناف الناس صارت معلومة فمنهم المهتدون، ومنهم المشركون، ومنهم الضالون، ومنهم من غضب الله عليهم، وعلى ذلك يستطيع المسلمون أن يعرفوا من أين يأتيهم الخطر، وكيف تكون التحديات. وتنزل سورة «المسد» وعيدا وتهديدا لمن يقف فى طريق الدعوة وتقريرا لوقوع الهلاك الحتمى بمن توعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ظلما وعدوانا، كما تبين أن هذا التحدى قد يكون من أقرب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذا من دلائل عالمية الدعوة، وإدراك الناس لهذه الحقيقة، فلو كانت دعوة قبلية، أو محدودة ما توقع أحد أن يقف عم للنبى صلّى الله عليه وسلم فى وجهه وأن يقول له تبا لك، وأن يجند ماله وأهله فى محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. روى البخارى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبى صلّى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصعد الجبل فنادى «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش فقال: «أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوننى؟» قالوا: نعم، قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد»، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا، تبا لك، فأنزل الله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)، وفى رواية فقام ينفض يديه وهو يقول: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) الأولى دعاء عليه والثانية خبر عنه. ومن دلائل الإعجاز فى هذه السورة الكريمة وجود هذا الإخبار عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، والاستمرار على ذلك فلم يؤمنا ولم يؤمن واحد منهما لا باطنا ولا ظاهرا، لا مسرا ولا معلنا فكان هذا كما يقول ابن كثير رحمه الله: من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة. وأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب،

وقيل فى تسميته بأبى لهب: لإشراق وجهه، ولكن لم يكن إشراقه بإيمان بل كان إشراق إحراق فوجه هذا كان يخفى غيظا وحقدا وبغضا وازدراء وتنقصا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان من مظاهر هذا البغض أن يسير خلف الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو يدعو الناس ليصرف الناس عنه ويحذرهم منه. فهذا ربيعة بن عباد الديلى يقول: إنى لمع أبى؛ رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتبع القبائل ووراءه رجل أحول وضىء الوجه ذو جمة يقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: «يا بنى فلان، إنى رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، وأن تصدقونى وتمنعونى حتى أنفذ عن الله ما بعثنى به»، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بنى فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بنى مالك بن أقيس إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تسمعوا له ولا تتبعوه، فقلت لأبى: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب. رواه أحمد والطبرانى بهذا اللفظ. وكان من مظاهر هذا الحقد كذلك أن يستعمل ماله فى هذه الحرب. فيقول السهيلى: كانت الصحابة إذا قدمت عير إلى مكة يأتى أحدهم السوق ليشترى شيئا من الطعام قوتا لعياله فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار: غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، وقد علمتم مالى ووفاء ذمتى، فأنا هنا من لا كساد عليكم فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا، حتى يرجع أحدهم إلى أطفاله يتضاغون من الجوع، وليس فى يده شىء يطعمهم به، ويعدو التجار على أبى لهب فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعا وعريا. فكان عداؤه وحقده فى جهده وسعيه وماله. وكان من مظاهر هذا الحقد وهذه العداوة هذا التظاهر على الأذى من أبى لهب وزوجته أم جميل واسمها أروى بنت حرب، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده، وكانت تضع الشوك فى طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانت تمشى بالنميمة. جاءت مرة وهو جالس بالمسجد وبيدها حجر تريد أن تضربه به فصرف الله بصرها عنه، فلا ترى إلا أبا بكر فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغنى أنه يهجونى والله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه، أما والله إنى لشاعرة، ثم قالت شعرا تهجو به الرسول: مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا

ثم انصرفت، وقال أبو بكر يا رسول الله: أما تراها رأتك؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما رأتنى لقد أخذ الله بصرها عنى». وتشم فى كلام امرأة أبى لهب رائحة الاستعلاء القائم على الحسد فعند ما تطرح الشوك على الطريق أمام رسول الله صلّى الله عليه وسلم- حسدا وحقدا- فهذا عمل عادى، لا تلام عليه، بل لا تريد أن تسمى به أى أحزنها أن تسمى «حمالة الحطب» وناقضت شهادة أهل مكة جميعا فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ما هجت وقالت: «مذمما» وهو محمد صاحب الخلق العظيم عند من آمن به، وعند من لم يؤمن به، ولكنه رفض وكره ما جاء به دون تفكير. قاتل الله الحسد فكم أعمى قلوب البشر فحرمهم مما فيه خيرهم. لقد تناولنا فى الجزء السابق ذكر سورة المسد ونتابع القول فيها وفيما ذكر من أسباب نزولها، ونبدأ بذكر ما ورد فى سبب نزولها مما يتعلق بآية كريمة من سورة الشعراء وهى قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) [الشعراء] وسورة الشعراء مكية فى قول الجمهور، وقال مقاتل: منها مدنى، الآية التى يذكر فيها الشعراء وقوله: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197)، وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة من قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) إلى آخرها «1». والذى يرجح نزول الآية الكريمة: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) قبل سورة المسد مجموعة من الروايات الصحيحة منها: الحديث الأول: قال الإمام أحمد رضي الله عنه: حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عز وجل وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) أتى النبى صلّى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، يا بنى فهر، يا بنى لؤى، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتمونى؟» قالوا: نعم. قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد»، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، ورواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى من طرق عن الأعمش به. الحديث الثانى: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب، يا بنى عبد المطلب لا أملك لكم من

_ (1) القرطبى 13/ 87، 143، وابن كثير 3/ 349.

الله شيئا سلونى من مالى ما شئتم» انفرد به مسلم. ويذكر الإمام ابن كثير مجموعة الروايات الأخرى فى تفسيره. فهذه الآية الكريمة إذن يأتى ترتيب نزولها قبل سورة المسد، وإذا كان النبى صلّى الله عليه وسلم قد أمر قبل ذلك فى سورة المدثر بقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ (2) [المدثر] فإن الأمر هنا موجه إلى العشيرة الأقربين، ولا يفهم من هذا ما فهمه المغرضون من أن الدعوة إذن خاصة بالأقربين وليست عامة، وهذا فهم ترده النصوص الصريحة من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، ومن واقع الدعوة، فالآيات الكريمة تصرح بأن الرسول الكريم أرسل للناس كافة بشيرا ونذيرا، وأنه أرسل رحمة للعالمين وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) [الأنبياء] فهو بتصريح الآيات الكريمة أرسل للناس أجمعين ويذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا المعنى فى أن كل نبى كان يرسل إلى قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة وإلى كل أحمر وأسود. وأما واقع الدعوة فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم خاطب الناس جميعا وأرسل رسله وكتبه إلى ملوك الأرض دون تفريق وشاء الله أن يشتهر من صحابته- رضوان الله عليهم- من ينتمون إلى غير العرب فبلال مؤذنه- رضوان الله عليه- حبشى، وصهيب الذى ربح فى بيعه روميّ، وسلمان الذى قربه رسول صلّى الله عليه وسلم فارسى، وهكذا يكون الفهم لهذه الآية الكريمة مع الآيات الكريمة الأخرى؛ أنها تبين مراحل الدعوة واتساعها الطبيعى، فيبدأ الرسول صلّى الله عليه وسلم بدعوة زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ويدعو صديقه أبا بكر وأهل البيت والعشيرة الأقربين وأهل مكة أم القرى، ثم من حولها، ثم ترسل الكتب إلى الأمم جميعا، وهكذا فهم أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم وواصلوا مسيرة الدعوة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وأشار الإمام ابن كثير- رحمه الله- إلى هذا عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فيقول: وهذه النذارة الخاصة لا تنافى العامة بل هى فرد من أجزائها كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) [يس]، وقال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الشورى: 7]، وقال تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ [الأنعام: 51]، وقال تعالى: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) [مريم] وقال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17]، وفى صحيح مسلم: «والذى نفسى بيده لا يسمع بى أحد من هذه الأمة يهودى ولا نصرانى ثم لا يؤمن بى إلا دخل النار» «1».

_ (1) ابن كثير 3/ 349.

وأنذر الرسول الكريم عشيرته الأقربين فآمن من آمن وهلك من أعرض، وتوعد وخسر فى الدنيا والآخرة فلم تنجه قرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفى ذلك تنبيه من اللحظات الأولى فى الدعوة أن الأنساب لا تغنى عنهم من الله شيئا؛ ولذلك جاء هذا المعنى صريحا من النبى صلّى الله عليه وسلم فى الحديث السابق، والذى خاطب فيه فاطمة وصفية وبنى عبد المطلب كما أنه لن يغنى عن الكافرين أموالهم ولا أولادهم. ذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما دعا قومه إلى الإيمان قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخى حقا فإنى أفتدى نفسى يوم القيامة من العذاب بمالى وولدى فأنزل الله تعالى: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2). كما ينبه الناس فى هذه السورة الكريمة إلى أن الجزاء من جنس العمل فخسرت يداه وشقى لاستعمال يديه فى أذى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واللقب الذى لقب به لإشراق وجهه، واستعمال هذا الوجه فى صد الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يناسبه من نار ذات لهب، وامرأته التى كانت تحمل الحطب وتسعى بالنميمة سيكون فى عنقها حبل من نار جهنم. نعوذ بالله من النار وما يقربنا إليها.

سورة «التكوير»

سورة «التكوير» ومع روضة جديدة من روضات القرآن الكريم مع سورة التكوير، والتى نزلت بعد سورة المسد وهى مكية كلها بالإجماع. وجاء فى ذكر هذه السورة وما تستعمل عليه ما رواه أبو عبد الله الحاكم فى صحيحه من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قول الله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»، وأخرجه أحمد فى مسنده وإسناده صحيح ووافق الذهبى تصحيح الحاكم وأورده السيوطى فى الدر المنثور «1». وتأتى هذه السورة لتضع أمام الناس مشاهد كونية تجمع بين العظمة والنعمة، والناس يشاهدونها وينعمون بها ليلا ونهارا، ولكن استمرارها واستغراق الناس فيها يجعل بعضهم فى غفلة منها تنسيه خالقها ومسيرها، والمتفضل بتسخيرها سبحانه وتعالى؛ ولذلك نجد السورة الكريمة تطرق آذان الناس وأبصارهم وحواسهم، وتوقفهم على آيات العظمة والنعمة، وحتى تتبدل وتتغير وتتحول ويحدث فيها تغير هائل، وفى وسط هذه الآيات الباهرة، وما تحدثه فى نفس السامع ينبه إلى خطأ اجتماعى قاتل يدل على قسوة بالغة فى القلوب يعالجه القرآن الكريم مع هذه الزلزلة القلبية والعقلية؛ لأنه خطأ ضخم ضخامة هذه الآيات وضخامة هذا التعبير الكونى. إنه تنبيه إلى حقيقة الآيات والتنعم بها وتنبيه إلى مسئولية الإنسان عن عمله، والتسجيل الدقيق عليه وتنبيه إلى الأخطاء التى يقعون فيها، وإلى المصير الذى سيصلون إليه. فهذه المعانى على ترتيبها البديع فى قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14). فإذا أظلمت الشمس بعد ضوئها وحراراتها، أو ذهبت أو اضمحلت أو غورت أو

_ (1) زاد المسير 9/ 37.

فنيت ومحيت، وكل ذلك جاء فى معنى كُوِّرَتْ وتؤدى إلى معنى ذهاب هذه النعمة والوقوع فى الظلمة وعدم الانتفاع بتسخير الله للشمس وقت النهار. وإظلامها دليل قدرة ودليل ذهاب نعمة نهارية. وإذا النجوم التى يهتدى بها فى ظلمات البر والبحر تناثرت وتهافتت، وتناثرها دليل قدرة وكذلك ذهاب نعمة ليلية. وإذا الجبال الرواسى الشامخة سيرت عن وجه الأرض فاستوت مع الأرض، وهذا دليل قدرة وقوة، وذهاب نعمة ثبات الأرض التى أرسيت بالجبال، وإذا النواق الحوامل الْعِشارُ والتى يتعلق الناس بها للخير الذى أودعه الله فيها فهى أنفس مال العرب عندهم، لم تجد اهتمام الناس بها فسيبت وأهملت لاشتغال الناس بأهوال القيامة. وإذا الوحوش ماتت- على قول ابن عباس- أو جمعت إلى القيامة للقصاص فهى مع توحشها لا تفلت، وإذا البحار سُجِّرَتْ فاشتعلت نارا، أو يبست أو ملئت بأن صارت بحرا واحدا وكثر ماؤها. وإذا النفوس قرنت بأشكالها الصالح مع الصالح والفاجر مع الفاجر، أو ردت الأرواح إلى الأحياء فزوجت بها، أو زوجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين بالشياطين. وإذا البنت التى دفنت وهى حية وكان هذا من فعلهم فى الجاهلية، وفى سؤالها تبكيت لقاتليها فى القيامة، لأن جوابها قتلت بغير ذنب وهذا دليل قسوة قلبية أن تقوم الأم وهى أحن الناس على ولدها بهذا الصنيع، فيقول ابن عباس رضي الله عنهما: كانت المرأة فى الجاهلية إذا حملت، فكان أوان ولادها حفرت حفرة فمخضت على رأس الحفيرة، فإن ولدت جارية رمت بها فى الحفيرة، وإن ولدت غلاما حبسته «1». وإذا الصحف نشرت أى صحائف أعمال بنى آدم تنشر للحساب، وإذا السماء نزعت فطويت أو قلعت كما يقلع السقف، وإذا الجحيم أو قدت مرة، بعد مرة وإذا الجنة قربت من المتقين، وإذا حدثت هذه الأشياء التى تتعلق بآيات كونية تتبدل إلى ما يهول ويعظم، وتتعلق بنعم لا غنى للإنسان عنها حوله وفى بيته وفى مطعمه ومشربه، ومنها ما يتصل بسلوكه وحسه وعمله، ومنها ما يتصل بمصيره، وكما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما من أول السورة إلى هاهنا اثنتى عشرة خصلة: ستة فى الدنيا، وستة فى الآخرة، إذا حدثت هذه علمت نفس ما أحضرت، أى علمت فى ذلك الوقت كل نفس

_ (1) زاد المسير 9/ 40.

ما أحضرت من عمل فأثيبت على قدر عملها. لقد مر التذكر ببعض الآيات الكونية فى السورة السابقة ولكنها جمعت هنا وفصلت بطريقة تلفت الانتباه وتبين عظيم النعمة وخطورة المسئولية عما يقدمه الإنسان ويراه ويوم تتبدل هذه الآيات. كما بدأت السورة بمعالجة وضع المرأة الاجتماعى فى أخطر ما كانت تتعرض له من الوأد الذى يدل على قلوب قاسية من ناحية، وعلى عدم الثقة فى رزق الله من ناحية أخرى فهو لفقر أو لخوف عار. والأمران مرفوضان فالرزاق هو خالق هذه الآيات التى تشاهدونها، ويحكم إمساكه بها وهو القادر عليها فيغيرها عند القيامة فثقوا برزقه، ورققوا قلوبكم نحو بناتكم فهن الضعيفات ولا ذنب لهن، وأحسنوا تربيتهن على ما يأتيكم من وحى ربكم. فإنه عقب استنفار الفكر والقلب للوقوف على آيات القدرة وآيات النعمة السابقة فى مطلع السورة الكريمة؛ لتهيئة النفوس لتكون على مستوى المسئولية نحو عملها الذى سيعرض عليها عند ما تنشر الصحف ويعلم الإنسان ما قدم، تعرض آيات كونية أخرى لقضية أخرى، لها أهميتها القصوى فى حدوث الاطمئنان القلبى إلى ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم من وحى ربه، وأنه لا يتطرق إليه أى شك فمسيرة الوحى من الله العزيز العليم إلى رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم حفت بالأمانة والقوة فلا يتسرب إليه أى عبث، ولا تستطيع الشياطين أن تعبث بهذا الوحى لأن حامله قوى يرهب جانبه وأمين لا يفرط فيه. وأنه ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد عرفته من المرة الأولى فرأت صورته، وعرفت صوته، وما يأتى به يأخذ مكانه إلى قلب النبى صلّى الله عليه وسلم ويخرج إلى الناس بلسان عربى مبين، وبعد هذا التطمين يصبح الإنسان على يقين من سلامة المنهج ولا يكون أمامه إلا الامتثال لما جاء به الوحى إن أراد أن يستقيم فأين يذهب؟ وما عليه كذلك إلا أن يطلب العون والهداية من رب العالمين فهو الهادى والموفق إلى الصراط المستقيم. فهذه الحقيقة الكبرى التى تطمئن الإنسان على مسيرة الوحى، يقدم لها بقسم يلفت الانتباه إلى آيات كونية غاية فى الوضوح والجلاء، إنها آيات الظلمة والنور، آيات الوضوح والإيهام حيث يصبح التمييز بين هذه الآيات تمييزا لا يعجز عنه إنسان فكل آدمى لا يعجزه أن يفرق بين ليل مظلم وصبح مشرق فيقول الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ

بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29). فالقسم الذى يؤكد به على المعنى الكبير من سلامة طريق الوحى بالنجوم التى تخنس بالنهار وإذا غربت، وتكنس فى وقت غروبها أى تتأخر عن البصر لخفائها فلا ترى، والليل إذا عسعس أى: أدبر بظلامه، أو أقبل بظلامه، ويرى المبرد أنه من الأضداد والمعنيان يرجعان إلى شىء واحد وهو ابتداء الظلام فى أوله وإدباره فى آخره. والصبح إذا تنفس أى: امتد حتى يصير نهارا واضحا. والتذكير فى هذا القسم بهذه الآيات الكونية لوضوح الفرق بينها وبين الظلمة والنور فهى آيات بينة، ولا يختلط الأمر فيها على أحد. وكذلك الحال فى المقسم عليه فجواب القسم إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) والرسول الكريم هنا هو جبريل حامل الوحى عن الله، سبحانه فهو كريم على الله ووصف كذلك بصفتين مناسبتين للاطمئنان فهو ذو قوة ظاهرة، فروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه، ومعنى القوة أى: لا يستطيع شيطان أن يسلب منه شيئا من وحى الله تعالى، وهو كذلك ذو مكانة ومنزلة ومطاع فى السماوات من الملائكة، والصفة الأساسية كذلك فى الاطمئنان على طريق الوحى الأمانة وهو أمين أى مؤتمن على الوحى الذى يجيء به، وأما رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم فليس كما قال المشركون: بأنه مجنون حتى يتهم فى قوله. كما أن الرسول صلّى الله عليه وسلم رأى جبريل فى صورته التى خلق عليها بالأفق المبين، فليس مجهولا عنده أو يختلط عليه الأمر فيه. فمع هذا الاطمئنان فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبلغ إليكم ما يؤمر به فليس هو على الغيب ببخيل بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه، فالقرآن وصل إذن إليكم بهذا الطريق المأمون. فليس بقول شيطان مرجوم ملعون- كما قالت قريش- فإلى أين تعدلون عن هذا القول وعن طاعته؟ إن هو- أى القرآن الكريم- إلا ذكر للعالمين فى الموعظة، وفيه الهداية للتى هى أقوم لمن أراد اتباع الحق والإقامة

عليه، وقال أبو هريرة وسليمان بن موسى: لما نزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، وهذا هو القدر، وهو إذن رأس القدرية فنزلت: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيرا إلا بتوفيق الله، ولا شرا إلا باختياره، وقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ [الأنعام: 111]، وقال تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 145]، وقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] «1». فلا تعارض بين مشيئة الله تعالى، وما منح الله عبده من حرية الاختيار وأن تكون له مشيئة يحاسب عليها.

_ (1) القرطبى 19/ 243.

سورة «الأعلى»

سورة «الأعلى» ومع روضة جديدة من روضات القرآن الكريم مع سورة الأعلى، وقد نزلت بعد سورة التكوير فهى سورة مكية، روى البخارى حديثا جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرءاننا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب فى عشرين ثم جاء النبى صلّى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد جاء فما جاء حتى قرأت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فى سورة مثلها «1» وانفرد الإمام أحمد برواية عن على رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب هذه السورة: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى» كما روى الإمام أحمد رضي الله عنه- أيضا- عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ فى العيدين بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا، وقد روى ذلك- أيضا- الإمام مسلم- رحمه الله- فى صحيحه. وفتح هذه السورة بالأمر الكريم من الله سبحانه بالتسبيح سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)، ويأتى هذا التسبيح بعد ذكر الآيات الكونية العظيمة السابقة فى سورة التكوير ويستمر التذكير بآيات الله سبحانه فى خلقه فى سورة الأعلى، فهو الرب الأعلى، وهو الذى خلق فأحسن كل شىء خلقه، ويرى الناس هذا جليا فى الآيات المحيطة بهم، وكان هدى الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يستجيب لهذا الأمر على الفور، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «سبحان ربى الأعلى»، وهذا تنبيه صريح مباشر لما ينبغى أن يكون عليه المسلم نحو آيات الله الكونية، وأن ينظر فيها نظرة تأمل واعتبار؛ ليقف فيها على عظيم صنع ربه الأعلى، فيمتلئ القلب خشية وحبا، ويهتف اللسان بالتسبيح والتنزيه والذكر لله

_ (1) ابن كثير 7/ 267 ط الأندلس.

سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا. وهذا شأن أولى الألباب كما جاء ذكر هذا المعنى فى قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) [آل عمران]. فالله سبحانه خلق مخلوقاته دالة على كمال القدرة وأن أتقن كل شىء كان، وقدر للخلائق ما شاء وهدى إليه كما ثبت فى صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء»، وترى آيات هداية المخلوقات لما خلقت له فى كل شىء؛ فى الطفل الذى يخرج من بطن أمه- مثلا- لا يعلم شيئا فمن الذى هداه إلى مكان غذائه؟ ومن الذى هداه إلى كيفية تقلصات عضلات وجهه ليمتص لبنه؟ إنه سبحانه الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3)، وقس على ذلك جميع المخلوقات من حيوانات وطيور، ونباتات وغيرها فتبارك الله أحسن الخالقين. وهو الذى أنزل من السماء ماء فأنبت به أزواجا من نبات شتى ليرتع فيه الناس والبهائم، ولكى يتحول هذا من الخضرة إلى السواد وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5). إن هذا الفتح القرآنى لقلوب الناس وعقولها للتأمل فى آيات الله الكونية يحرك العقول ويصقل القلوب، ويجعلها أهلا للترقى والإقلاع من الجاهلية بعقائدها وسلوكها وأخلاقها، ومع حرص الرسول صلّى الله عليه وسلم على تلقى آيات الله الكريمة التى ينزل بها جبريل عليه السّلام وحفظها، وخاصة أن السور تتتابع فى نزولها المبارك، يأتى وعد الله سبحانه فى منته على رسوله وعلى العالمين فى أنه سبحانه سيحفظ رسوله ما يوجه إليه من الكتاب العزيز فلا ينسى منه شيئا سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ واقتضت حكمته ألا ينسيه إياه لحكمة أو تيسير يريده بخلقه فهو يعلم الجهر وما يخفى، كما تأتى البشائر المفصلة بهذا المعنى، والتى تعرض للناس فى بدايات الوحى خصائص ما أرسل به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من البشر فى أمره كله فيما يوحيه الله من عقائد وعبادات ومعاملات وسلوك، فما جعل الله على خلقه من حرج وإنما يريد بهم اليسر فى الأمر كله. وهكذا كان شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومنهجه فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) ومع هذه الآيات الكونية ومع آيات الوحى المنزل ذكّر الناس فإن الذكرى نافعة، ولكن الناس مع التذكر ليسوا سواء فمنهم من

يستجيب للذكرى، ومنهم من يغلق قلبه وعقله فلا ينتفع بها فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) وتبقى رعاية الرب الأعلى الذى نسبح بحمده مستمرة بخلقه فى نهاية السورة، حيث تحفز الآيات الهمم للانتفاع بتذكر الرسول صلّى الله عليه وسلم والتحذير من سبيل الأشقياء، فالأشقى هو الذى يتجنب التذكرة فيصلى النار الكبرى، لا يقضى عليه فيموت ولا يخفف عنه من عذابها، وأما من ينتفع بالذكرى فهو من المفلحين الذين طهروا نفوسهم بها من الشرك والظلم ومساوئ الأخلاق، وذكر ربه فى كل أحواله وأقام الصلاة لذكره. وفى ختام السورة الكريمة نجد التذكير بحقيقتين: الأولى: ما يكون عليه حال الناس من تقديم العاجل على الآجل واختيار الحياة المحدودة على الحياة الأخرى، والتى هى خير وأبقى، وفى ذكر هذه القضية لفت نظر لمن يقع فى هذا الاختيار الذى ليس فى صالح الإنسان فالمؤمن العاقل لا يختار المتاع القليل ويترك النعيم المقيم، إنه يجنى ثمرة الدارين فى استقامته على الصراط المستقيم. الحقيقة الثانية: أن هذا الخير المذكور هو فضل الله على خلقه فى الأمم جميعا فإن وحى الله وهدايته قد وجهت إلى البشرية جميعا منذ آدم عليه السّلام، وأن هذا المذكور فى سورة الأعلى والذى تقرأه: أنه محمد صلّى الله عليه وسلم: لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) عليهما السلام.

سورة «الليل»

سورة «الليل» ومع روضة جديدة من روضات القرآن الكريم مع سورة الليل. وهى سورة مكية نزلت بعد سورة الأعلى، والذى يشد انتباهنا فى ترتيب هذا التنزيل المبارك تتابع الحديث عن آيات الله سبحانه فى هذا الكون الكبير فى السور الكريمة السابقة، وفى هذه السورة وما نزل بعدها من سورة الفجر وسورة الضحى. أنها تبعث الإنسان من نومه ليفكر فيما حوله، وليتنبه من الاستغراق فى هذه النعم ليذوق حلاوتها، وليستثمرها ويشكر المتفضل بها سبحانه، فالليل والنهار آيتان عظيمتان جعلهما الله فى حياة الإنسان وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء: 12] إنهما يمثلان صفحة من كتاب العمر الذى يضم بين دفتيه الأيام والليالى، والإنسان فى الليل والنهار، بنوعيه الذكر والأنثى ليس على حالة واحدة إنه فى تفرقة العقدى وتفرقة الخلقى وتفرقه السلوكى يشبه الليل والنهار فى الظلمة والنور، ولكن الليل مع ظلامه مسخر لسكن هذا الإنسان ونومه، والنهار كذلك مسخر لحركة الإنسان ومعاشه ونشاطه. وكذلك للذكورة خصائصها ووظيفتها التى تلائمها وللأنوثة- أيضا- خصائصها ووظائفها، فعلى الرغم من اختلاف هذه الآيات الكونية فى الخلق، فإن لكل آية بتسخير الله سبحانه لها وظيفة ومهنة، أما تفرق السلوك الإنسانى والسعى البشرى فهو تفرق لا يتلاءم مع نعمة الله عليه، فإن من صفت نفسه وسما قلبه ونظر فى آيات ربه سيكون سلوكه سلوك التقى المعطى والمصدق بالحسنى، فيزيده الله توفيقا وتيسيرا، وأما من لم يفتح لآيات الله قلبه وعقله فسيكون على الطرف الآخر فى سلوكه تكذيبا وبخلا واستغناء، ولا يغنى عنه استغناؤه ويزيده الله من جنس عمله. قال الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) ونزول السورة الكريمة بهذه المعانى التى تحفز همم المتقين المعظمين المصدقين، والتى تحذر الفريق الآخر المكذب البخيل تدل على ترشيد الوحى المستمر لمسيرة الدعوة وتفاعل الناس معها، قال ابن جرير وذكر أن هذه

الآية نزلت فى أبى بكر الصديق رضي الله عنه: حدثنا مروان بن إدريس الأصم حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربى حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضي الله عنه عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن فقال له أبوه: أى بنى أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك فقال: أى أبت إنما أريد- أظنه قال- ما عند الله، قال: فحدثنى بعض أهل بيتى أن هذه الآية نزلت فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) «1». وترسى هذه السورة الكريمة مجموعة من القيم وتدعمها فمنها: الدعوة إلى العمل الصالح وعدم التعلل بالمكتوب فى ترك العمل، فكلّ ميسر لما خلق له، فالله سبحانه يجازى من قصد الخير بالتوفيق له ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر. وقد تضافرت الأدلة من أحاديث النبى صلّى الله عليه وسلم على ذلك منها رواية أبى بكر رضي الله عنه والتى يقول فيها: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا رسول الله أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مستأنف؟ قال: «بل على أمر قد فرغ منه»، قال: ففيم العمل يا رسول الله؟، قال: «كلّ ميسر لما خلق له». رواه الإمام أحمد، ومنها ما رواه البخارى رضي الله عنه عن علىّ رضي الله عنه قال: كنا فى جنازة فى بقيع الغرقد فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة «2» فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد- أو ما من نفس منفوسة- إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة»، فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء؟ فقال: «أما أهل السعادة فيسيرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فيسيرون إلى عمل أهل الشقاء ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)، وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق عن سعيد بن عبيدة به. ومنها كذلك ما روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله: أتعمل لأمر قد فرغ منه، أو لأمر تستأنفه؟ فقال: «لأمر قد فرغ منه» فقال سراقة: ففيم

_ (1) ابن كثير 4/ 519، 520. (2) المخصرة: كالسوط وكل ما اختصر الإنسان بيده فأمسكه من عصا ونحوها، مختار الصحاح ص 138.

العمل إذن؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل عامل ميسر لعمله» رواه ابن جرير ورواه مسلم عن أبى الطاهرة. ومنها ما رواه ابن جرير كذلك عن بشير بن كعب العدوى قال: سأل غلامان شابان النبى صلّى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فى شىء يستأنف؟، فقال: «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير»، قالا: ففيم العمل إذا؟ قال: «اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذى خلق له»، قالا: نجدّ ونعمل. وهذا الفهم وتلك الاستجابة من الشابين هى المقصودة، أن نجدّ ونعمل بما أمرنا. ومن هذه القيم البذل والعطاء حتى يتكافل الناس ولا يقع إنسان فى آلامه صريع الحاجة، روى ابن جرير عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت فيه شمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين: اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا»، وأنزل الله فى ذلك القرآن: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) ورواه ابن أبى حاتم عن أبيه «1» عن ابن أبى كبشة بإسناده مثله. ونتابع القول فى سورة الليل وما تضمنته من معان وقيم، يقول الله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21). فمن هذه القيم العظيمة التى ترسيها هذه السورة، الاطمئنان إلى فضل الله بعباده ورحمته بخلقه فى هداية الفطرة من ناحية، فهو الذى خلق فسوى وقدّر فهدى، كما مر بنا فى السورة السابقة، ومن فضله كذلك ما بينه لخلقه من الهداية بإرسال الرسل بالكتب والآيات حتى لا يكون هناك حجة لأحد. والقيمة الأخرى التى يطمئن بها قلب المؤمن أن الكل لله، والآخرة والأولى لله فهو المالك والمتصرف فيهما، وهذا ما أكد عليه فى أكثر من سورة سابقة فهو رب العالمين ومالك يوم الدين وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) وسيأتى هذا بعد ذلك فى

_ (1) ابن كثير 4/ 518، 519.

سور كثيرة أخرى: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) [النجم]. القيمة الأخرى فى الإنذار بالنار، والتخويف بها لينضبط السلوك البشرى وليكون الإنسان على طريق المتقين الذين يؤتون أموالهم؛ ليزكوا أنفسهم ويجتنوا عذابها، وأما الذى يصلاها فإنه الأشقى فيدخلها دخولا يحيط به من جميع جوانبه، ويكون أهون أهل النار عذابا يوم القيامة فى حالة لا يقوى عليها إنسان، روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل توضع فى اخمصى قدميه جمرتان يغلى منهما دماغه»، رواه البخارى، وقال مسلم فى رواية كذلك عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلى منهما دماغه، يغلى الرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا». والأشقى الذى يصلى هذه النار هو الذى كذب بقلبه وتولى عن العمل بجوارحه وأركانه. القيمة الأخرى والمتصلة بما سبق فيه: لا يعرفها الإنسان إلا فى ظل الإيمان بالله سبحانه عند ما يملأ الإيمان قلبه فلا يطمع إلا فى رضاه ولا يريد إلا وجهه سبحانه فلا يكون عمله فى انتظار حمد من الناس أو فى رد جميل سابق لأحد من إخوانه عليه. إن هذا المعنى لا وجود له إلا فى تربية النفوس على منهج الله ليكون عطاؤها له إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) [الإنسان]. قال تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21). أى سيزحزح عن النار التقى النقى الأتقى الذى يصرف ماله فى طاعة ربه، ليزكى نفسه وماله، وما وهبه الله من دين ودنيا، وليس بذله ماله فى مكافأة من أسدى إليه معروفا، فهو يعطى فى مقابلة ذلك، وإنما سارع إلى ذلك طمعا فى أن يحصل له رؤيته فى الدار الآخرة فى روضات الجنات. القيمة الأخيرة: وتمثل ثمرة تسعد الإنسان فى حياته إنها ثمرة الرضى التى لا تتحقق إلا لمن اتصف بهذه الصفات. إنها نعمة كبرى أن يرزق الإنسان الرضى النفسى، فلا يزعجه شىء، ويرضى بما منحه الله من شىء فلا يرى إلا منشرح الصدر مطمئن القلب.

وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فى أبى بكر الصديق رضي الله عنه حتى أن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها لفظ العموم، ولكنه مقدم الأمة، وسابقهم فى جميع هذه الأوصاف، وسائر الصفات الحميدة؛ لأنه كان صديقا تقيا كريما بذالا لأمواله فى طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حكيم دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منّة يحتاج إلى أن يكافئه بها ولكن كان إحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود- وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية: أما والله لولا يدلك عندى لم أجزك بها لأجبتك، وكان الصديق قد أغلظ له فى المقالة، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم ولهذا قال تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21). هذه المجموعة من القيم ترسيها سورة الليل فى المجتمع الذى فتح قلبه لوحى ربه، وصار يطارد ظلمات الجاهلية كما يطارد النهار ظلمات الليل، فالليل لا يبقى مع هذا المنهج بظلماته، ولكن يكون بسكنه وهدوئه ليجد النائم فيه راحته وسكنه، وليكون فى جزء منه مجال قيام ودعاء واستغفار بالأسماء؛ لنجد السورة الكريمة التى تنزل بعد ذلك تذكر الناس بجوانب أخرى مع قسم جديد بالفجر وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) [الفجر].

سورة «الفجر»

سورة «الفجر» ومع روضة جديدة من روضات القرآن الكريم مع سورة الفجر، والتى نزلت بعد سورة الليل فهى مكية، وتبدأ بهذا القسم الذى يفتح العيون والعقول والقلوب على آيات الله الكونية فى هذا التتابع القرآنى الكريم فى مجموعة من السور المباركة وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14). فآيات الفجر بنوره وظهوره ووضوحه، والليالى العشر التى تؤثر كذلك بصنوف من العبادات فهى عشر ذى الحجة على ما ذكر ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف. وقد جاء فى صحيح البخارى عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام- يعنى ذى الحجة» قالوا: ولا الجهاد فى سبيل الله، قال: «ولا الجهاد فى سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» «1»، والشفع والوتر يتصلان بهذا المعنى الزمنى المنير فى قول ابن عباس وعكرمة والضحاك حيث قالوا: إن الوتر يوم عرفة لكونه التاسع وإن الشفع يوم النحر لكونه العاشر. ثم يأتى ذكر الليل إذا يسر، أى إذا ذهب، ذكر ذلك العوفى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال عبد الله بن الزبير حتى يذهب بعضه بعضا. فالآيات التى ذكرت هنا مقترنة بالوضوح، والنور الذى تتجلى فيه الرؤية الصائبة للأمور، إنه النور الحسى فى الفجر وضيائه، والنور المعنوى فيما يكون مع الفجر والليالى العشر والشفع والوتر من عبادات تنير القلوب؛ ليأتى بعد القسم بهذه الآيات بيان المقسم عليه، وتفضله والذى يتمثل فى مجموعة من القضايا المتعلقة بالطغيان والفساد والتظالم بين العباد، والمتعلقة كذلك بنظرة الإنسان إلى ما يصيبه من حقائق الابتلاء، وموقفه من البسط والقبض فى الرزق،

_ (1) ابن كثير 4/ 505.

وكذلك ما يتعلق بالسلوك الاجتماعى مع ضعاف الناس، وتقويم السلوك الإنسانى بتذكر المصير والرجوع إلى الله سبحانه، وبيان حالة النفس الراضية المرضية. ويكون التعليم فى هذه القضايا بأساليب قرآنية كريمة منها ما يتصل بعرض نماذج الفساد والطغيان السابقة والتى وقعت فى الأمم، وكان مصيرها الهلاك، ولا يخفى ذلك على ذى لب، فإن كان المشركون فى عنادهم وتحديهم يرون أنهم فى قوة فقد كان الطغاة قبلهم أشد منهم قوة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (16) وهؤلاء كانوا متمردين عصاة جبارين عن طاعة الله مكذبين لرسله، جاحدين لكتبه فانظر كيف أهلكهم الله ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبرا. ونجى الله رسوله هودا من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلك الآخرين ب صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) [الحاقه]. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التى ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس فى زمانهم خلقة وأقواهم بطشا، ولهذا ذكرهم نبيهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها فى طاعة ربهم الذى خلقهم فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) [الأعراف] وقال تعالى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15] والنموذج الآخر من الطغيان يتمثل فى ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، يعنى يقطعون الصخر بالوادى، وهذا دليل قوة. قال تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) [الشعراء]، والنموذج الثالث: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) فكان يوتد الناس بالأوتاد تعذيبا لهم على ما ذكر مجاهد فهؤلاء يمثلون نماذج من الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فانظروا إليهم وانظروا كيف أنزل الله عليهم رجزا من السماء، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين. فلا يحسبن هؤلاء أن الله غافل عن المجرمين إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) يسمع ويرى ويرصد خلقه فيما يعملون ويجازى كلا بسعيه، فى الدنيا والأخرى، وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلا بما يستحقه وهو المنزه عن الظلم والجور.

وعلى ذلك يكون تعليم الناس بتقديم النماذج المعاصرة، والتى تمثل الجوانب المظلمة فى حياة الناس وكذلك بعرض النماذج المشرقة كما مر بنا فى السورة الكريمة السابقة، ويكون أيضا بتقديم النماذج من الأمم السابقة كما رأينا فى سورة الفجر، وذكر النماذج السابقة يفيد أكثر من معنى فى التربية والتوجيه، فمن هذه المعانى: ما يتصل بإعجاز ذلك الكتاب حيث يخبر عن أحوال أقوام، وليس من مصدر للمعرفة التعينية عن هؤلاء إلا ما يخبر الله سبحانه وتعالى به وخاصة فى هذه الفترة المكية، ومنها: وقوف الناس على تجارب واقعية للفساد والصلاح؛ لينظروا إليها نظرة الناقد المستعيد، والذى استعرض ما سبق من أحداث على نفسه، وهل يرضى أن يكون على حالة من سبق فى الفساد أو فى الصلاح. الأمر الأخير فى وقوف الناس على نتائج المواقف السابقة والتى تحققت فعلا فى هلاك المفسدين مع قوتهم، وفى نجاة المؤمنين المطيعين. فالتعليم- إذن- أخذ أسلوب تقديم تجارب السابقين فى سورة الفجر ونتابع إن شاء الله بقية المعانى على ترتيبها فى النزول المبارك فى الجزء القادم. ومن المعانى التى تضمنتها «سورة الفجر» ما جاء فى قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) وتعالج هذه الآيات الكريمة جوانب نفسية فى حياة الإنسان ونظرته إلى ما يصيبه فى الحياة من خير أو شر. فتبين الآيات للناس أنهم مبتلون من ربهم وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] فليكن الإنسان على بصيرة من حقيقة الابتلاء حتى يفوز فى جانبيه وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ [البقرة: 155] فالابتلاء يتعرض له البشر. والمعنى الثانى: يصحح خطأ يقع فيه الإنسان نتيجة حبه الشديد للمال إذ يعتبره مقياسا لإكرام الله له، أو إهانته إياه. وهذا غير صحيح فالبسط والقبض للاختبار. قال تعالى فى جانب الإمداد بالمال للإنسان: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) [المؤمنون] وكذلك فى الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه فى الرزق يعتقد أن ذلك من الله سبحانه إهانة له، قال الله

تعالى: كَلَّا أى ليس الأمر كما زعم لا فى هذا ولا فى ذاك فإن الله تعالى يعطى المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار فى ذلك على طاعة الله سبحانه فى كل من الحالين إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرا بأن يصبر. وإكرام الله لعبده يأتى فى استجابة العبد لأمر ربه، فمن جهة المال يكون الإنسان فى موضع التكريم عند ما يكرم ضعاف الأمة وضعاف الجماعة متمثلين فى اليتامى الذين فقدوا آباءهم، ووقعوا فى دائرة الحاجة المالية والعطف النفسى، ومواجهة السورة الكريمة الناس بالتقصير فى هذا الجانب، وأنهم لا يكرمون اليتيم لشدة تعلقهم بالمال حيث يأكلون التراث أكلا لما أى: لا يبقون على شىء من ولائهم يحبون المال حبا شديدا- مواجهتهم بذلك قد تخفف من حدة هذا التعلق فيعرفون واجبهم نحو اليتامى، وكذلك نحو الضعاف الآخرين من المساكين فيصلون إلى التكريم إن أرادوا التخلص من أخلاق الجاهلية والتحلى بأخلاق الإسلام، روى عبد الله بن المبارك عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «خير بيت فى المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت فى المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه- ثم قال بإصبعه- أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا» وفى رواية أبى داود عن سهل يعنى ابن سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهاتين». وقرن بين إصبعيه الوسطى والتى تلا الإبهام. ولما كان حب المال جما، ولما كانوا يأكلون التراث أكلا، لما وكانت آثار هذا الحب فى عدم إكرام اليتيم، وعدم الحض على طعام المسكين كان الأسلوب القرآنى الحكيم لمعالجة ذلك فى التهديد والوعيد الشديد واستحضار جلال الموقف العظيم فقال تعالى: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30). فتخبر السورة الكريمة عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة فأمام الناس يوم عظيم وهول جسيم، تدك فيه الأرض والجبال، وما عليها يسوى، ويجيء الله سبحانه لفصل القضاء بين خلقه وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلّى الله عليه وسلم بعد ما يسألون أولى العزم من الرسل واحدا بعد واحد فكلهم يقول: لست بصاحب ذاكم حتى تنتهى النوبة إلى محمد صلّى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها، أنا لها» فيذهب فيشفع عند الله تعالى فى أن يأتى لفصل القضاء، فيشفعه الله تعالى فى ذلك، وهى

أولى الشفاعات وهى المقام المحمود، فيجىء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قال الإمام مسلم فى صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» فهذه الصورة المهيبة التى يطالعها الإنسان فى سورة الفجر وكأنه يشاهدها رأى عين عندها يتذكر الإنسان عمله وما كان أسلفه من خير أو شر، ولكن يومئذ هل تنفعه الذكرى؟ ساعتها سيندم على ما كان سلفا منه من المعاصى إن كان عاصيا، وسيودّ- أيضا- لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعا. كما قال الإمام أحمد- رحمه الله- فيما يرويه عن محمد بن عمرة «1»، وكان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لو أن عبدا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت فى طاعة الله لحقره يوم القيامة، ولودّ أنه ردّ إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب. فيومئذ ليس أحد أشد عذابا من تعذيب الله سبحانه من عصاه، وليس أحد أشد قبضا من الزبانية لمن كفر بربهم عز وجل. وهذا العرض القرآنى يزجر الناس ويعينهم على الخلاص من أدران الجاهلية ومن الإجرام والظلم والاستقامة على صراط ربهم المستقيم، وتكتمل هذه الصورة بما يحفز أصحاب النفوس الزكية المطمئنة التى تستقبل وحى ربها لتسير عليه، وتدور مع الحق حيث دار، عند ما يوجه إليهم هذا الخطاب الكريم الذى يغمر النفس بالسعادة والهناء والرضى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) وهذا يقال لها عند الاحتضار، وفى يوم القيامة. وقال ابن أبى حاتم فيما يرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما فى قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) قال: نزلت وأبو بكر جالس فقال: يا رسول الله ما أحسن هذا، فقال: «أما إنه سيقال لك هذا» «2» وروى الحافظ ابن عساكر فى ترجمة رواحة بنت أبى عمرو الأوزاعى عن أبيها حدثنى سليمان ابن حبيب المحاربى حدثنى أبو أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لرجل: «قل اللهم إنى أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك».

_ (1) ابن كثير 4/ 510. (2) ابن كثير 4/ 510، 511.

سورة «الضحى»

سورة «الضحى» ومع روضة جديدة من روضات القرآن الكريم مع سورة الضحى التى نجد فيها الخطاب الرحيم من الله سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلم بعد فترة للوحى، وانقطاع زاد فيه حنين رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنزول جبريل بوحى ربه الذى تشرق به الحياة، والذى به يخرج الناس. من الظلمات إلى النور، وكان هذا الانقطاع فرصة للمشركين أن يتقولوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأن يقولوا: إن ربّ محمد قلاه فنزلت سورة «الضحى» الكريمة بردا وسلاما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم تخبره وتخبر الناس بما له عند ربه، وما يدخره له، وما كان من فضل الله عليه، والذى لا يحرمه منه أبدا. ذكر الإمام أحمد فيما يرويه عن جندب قال: اشتكى النبى صلّى الله عليه وسلم فلم ينم ليلة أو ليلتين فأتت امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله عز وجل: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11). رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن أبى حاتم وابن جرير من طرق عن الأسود بن قيس عن جندب هو ابن عبد الله البجلى. وفى رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس سمع جندبا قال: أبطأ جبريل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال المشركون: ودع محمدا ربه فأنزل الله تعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3). وقال العوفى عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فتغير بذلك، فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء، والليل إذا سجى أى: سكن وأظلم وادلهمّ. وفى هذا القسم استمرار بالتذكير بهذه الآيات الكونية العظيمة التى جاءت فى السور السابقة من الليل والفجر فهنا القسم بالضحى، وما جعل الله فيه من النور والليل إذا أقبل وسكن وأظلم؛ لينظر الناس فى هذه الآيات؛ ولينظروا أيضا فى نعمة الله عليهم فى تنوير بصائرهم وهدايتهم للتى هى

أقوم بما كان ينزل من سورة القرآن الكريم، وكيف يقع الناس فى الظلمات إذا انقطع عنهم وحى الله وحرموا منه. وأما فترة انقطاع الوحى فليست كما زعم المشركون من ترك الله له، أو إهماله إياه أو بغضه له. بل يتنزل الوحى بأمر الله وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: 64] وفى الوقت الذى يشاء وبالأمر الذى يريد سبحانه: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ أى ما تركك، وَما قَلى أى وما أبغضك، فهذه حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم دائما، وهذه مكانته عند ربه فهو معه يحفظه ويكلؤه ويحبه دائما. وهذا رد على المشركين فيما مضى من حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأما فيما يستقبل فالآخرة خير لك من الأولى، فكل حالة متأخرة من أحوالك فإن لها الفضل إلى الحالة السابقة فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرتفع فى درجات الصعود والتمكين له والنصر على أعدائه حتى لقى ربه. وكذلك ما يكون من أمر حياته فى الآخرة فهى خير له من الأولى؛ ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أزهد الناس فى الدنيا وأعظمهم لها إطراحا كما عرف من سيرته، ولما خير رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى آخر عمره بين الخلد فى الدنيا إلى آخرها ثم الجنة، وبين الصيرورة إلى الله عز وجل اختار ما عند الله على هذه الدنيا، روى الإمام أحمد- رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلّى الله عليه وسلم على حصير فأثر فى جنبه فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت: يا رسول الله، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا؟، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا، إنما مثلى ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ورواه الترمذى وابن ماجة من حديث المسعودى، وقال الترمذى: حسن صحيح. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) وهذا عطاء جامع يشمل كل ما يرضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يرضى الخير لأمته فى الدنيا والسعادة لهم فى الآخرة، وفيما أعد له من الكرامة. ومن دلائل إكرام الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم والتى يشاهدها الناس من المؤمنين ومن المشركين الحاقدين ما ذكره الله سبحانه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) فقد توفى أبوه وهو فى بطن أمه، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان فى كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفى وله من العمر ثمانى سنين، فكفله عمه أبو طالب ثم لم يزل يحوطه بنصره ويرفع من قدره، ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره المبارك. هذا وأبو طالب على دين قومه، كل ذلك بقدر الله وتدبره الحسن الجميل، إلى أن توفى أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم

عليه سفهاء قريش وجهالهم فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار، إلى المدينة المنورة كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل فلما وصل إليهم آووه ونصروه وقاتلوا بين يديه رضى الله عنهم أجمعين، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وذلك مثل قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52]، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) أى كنت فقيرا ذا عيال فأغناك الله عمن سواه، فجمع الله له بين درجتى الفقير الصابر والغنى الشاكر. وفى ذلك قدوة لكل أفراد أمته ممن يكون فقيرا، وممن يكون غنيا فصلوات الله وسلامه على سيدنا محمد. ونتابع ما تضمنته سورة الضحى من المعانى الكريمة على ترتيب نزولها، فبعد أن ذكر الله رسوله صلّى الله عليه وسلم بما منّ عليه من نعم ظاهرة وباطنة تدل على إكرامه له وعنايته به ورعايته له، وحبه إياه رادا على قول المشركين وزعمهم أن ربه قلاه. تتناول السورة الكريمة معانى جليلة تتلاءم مع النعم المذكورة من ناحية، ولا غنى للناس عنها من ناحية أخرى فترسيها السورة فى نفوس المؤمنين، ليؤسسوا أمتهم على مكارم الأخلاق وحسن الصفات والتكافل الصحيح فى الجوانب المادية والمعنوية، وهذا الربط بين ذكر النعم الخاصة برسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذه الأوامر الربانية فى السورة من قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) ربط يعين الناس على تحقيق هذه الأوامر. فقد رأوا هذه الحالات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحالة اليتم- مثلا- وجدوها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى نشأته وعرفوا ما منّ الله به عليه وهو اليتم حتى أصبح قلبه يسع الجميع حبا ورحمة ولينا وعطفا فلا ينبغى- إذن- أن يستمر الناس فيما هم عليه من أمر الجاهلية فى النظر إلى اليتيم نظرة القهر والازدراء والضعف حتى يشعره الناس بأنه منبوذ وأنه ضعيف وأنه لا مجال له فى الحياة بعد أن فقد سنده من الأبوة الحانية. إن تذكير الرسول صلّى الله عليه وسلم بحالة اليتم وإيواء الله له، وهو سيد ولد آدم رفع لمكانة اليتيم فى نظر الناس وأنه لا يجوز لهم أن يضعوه موضع الامتهان، أو أن يحتقروه ولا يتوقعوا منه خيرا. وما رآه الناس من هذه النعمة، وما جعل الله على يد رسوله من الرحمة والخير

للعالمين يؤكد النظرة الجديدة التى ترسيها سورة الضحى ثم يأتى الأمر الملزم والموجه إلى الرسول الكريم والمؤمنين: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وهذا النهى عن قهر اليتيم قمة التكافل الاجتماعى الذى يتناول الجوانب المادية الظاهرة والجوانب المعنوية كذلك. فلا يجوز للأمة المسلمة أن تعرض اليتامى الذين حرموا من عطف آبائهم إلى الشعور بالذلة أو الإهانة بسبب يتمهم بل يكونوا لهم آباء حتى إذا حرم اليتيم من أب وجد له من أمته آباء رحماء يمسحون على رأسهم عطفا وحنانا، ويقومون على رعايتهم إنفاقا وإشباعا لحاجاتهم المادية. وهذا رفع لما يمكن أن يقعوا فيه من القهر بسبب اليتم. وهذا ما فهمه علماؤنا من هذا الأمر الكريم قال قتادة فى تفسير ذلك: كن لليتيم كالأب الرحيم. وقال ابن كثير: أى كما كنت يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم أى لا تذله وتنهره وتهنه ولكن أحسن إليه وتلطف له «1». وفى هذا علاج لعدد كبير من أبناء الأمة، وتخفيف من حدة الأثرة وحب الذات التى كانت أبرز سمات الجاهلية، إنها توجيه إلى التفكير فى الآخرين وخاصة فى الضعفاء منهم، والإحساس بهم والشعور الكريم نحوهم. وفى الوقت نفسه حماية للأمة من فساد يمكن أن تقع فيه بإهمال هذا الأمر حيث أن إهمال أمر اليتيم وقهره يجعل منه عضوا حاقدا على أمته، لم تكتمل فيه معانى العطف والرحمة، إلا من رحمه الله. ويؤكد هذا المعنى الإيجابى نحو الآخرين فى الأمر الثانى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) فاليتيم بحاله فى حاجة إلى مد اليد إليه معنويا وماديا، سأل أو لم يسأل، وليس اليتيم هو الضعيف الوحيد فى الأمة، بل قد يصل الضعف ببعض حالات الأمة التى بدأ بناؤها منذ نزول الوحى إلى حد رفع الصوت بطلب ما يحتاجه الضعيف من الفقراء والمساكين، وهؤلاء أيضا ينبغى أن يكونوا محل عناية الأمة التى تربى على التكافل الصحيح فالأمر بعد الوحى لم يصبح نفسى نفسى، بل صار الخلق الجديد وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) فالمفترض أن السائل لا يسأل إلا عن حاجة وأن المسئول إما أن يكون مستطيعا للوفاء بهذه الحاجة وإما أن يكون عاجزا عن ذلك، وعلى الحالين يربى الإسلام فى أبنائه الشعور المرهف نحو السائلين فمع القدرة تكفى الحاجات، ومع العجز تكون الكلمة الطيبة والوعد الحسن حفاظا على ماء الوجوه وصيانة للروابط بين أفراد الأمة، ويأتى هذا الأمر الكريم كذلك فى معرض التذكير بأن الإغناء من الله، وأن

_ (1) ابن كثير 4/ 523.

الناس فى حالتى الفقر والغنى تحت مشيئة الله وقدره. وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8) فالله يعطى ويغنى. ويتسع هذا الأمر كذلك يشمل الجوانب المادية والمعنوية فقد يسأل السائل عن فقر، وقد يسأل عن جهل ليتعلم، وقد يسأل عن ضلالة ليهتدى، وعلى كل الأحوال ينهى ربنا تبارك وتعالى عن نهر السائل فى كل أحواله: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10). وبعد النهيين السابقين، النهى عن قهر اليتيم، والنهى عن نهر السائل يأتى الأمر فى قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) لإشاعة الخير والنعم فى الناس ومنها النعم السابقة والتحدث بنعم الله سبحانه فيه اعتراف بما أنعم الله به على الإنسان وهذا يزيد الإنسان حبا للمنعم سبحانه، ورغبة فى طاعة أمره، وفيه حث على شكر هذه النعمة وتصريفها فى الوجوه التى ترضى من تفضل بها سبحانه، وهذا المعنى يتفق مع الدعاء النبوي المأثور: «واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا». وذكر ابن جرير عن أبى نضرة قال: كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها. كما يدخل فى هذه النعم ما يوفق الإنسان إليه من فعل الخيرات وأعظمها الدعوة إلى الله سبحانه قال الحسن بن على رضي الله عنهما: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) قال: ما عملت من خير فحدث إخوانك، وقال محمد بن إسحاق: ما جاءك من الله من نعمة وكرامة من النبوة فحدث بها واذكرها وادع إليها «1». اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

_ (1) ابن كثير 4/ 523، 524.

سورة «الشرح»

سورة «الشرح» ومع روضة من روضات القرآن الكريم من سورة «الشرح» التى نزلت بعد سورة الضحى فى مكة المكرمة، وقد مر بنا ما منّ الله به على رسوله صلّى الله عليه وسلم فى مواجهة أعدائه وحربهم النفسية حيث جاء فى جواب القسم القرآنى ما يفيد أن الله تعالى ما ودعك وما قلاك كما زعم أعداؤك، وأن العاقبة لك فى الأمور كلها وأن الآخرة خير لك من الأولى، وأن الله سيرضيك بعطائه الذى لا ينفذ، وأن مظاهر هذه النعم يشاهدها هؤلاء الأعداء فهم يعرفونك ويعرفون نشأتك، وكيف آواك الله من يتم، وكيف هداك، وكيف أغناك، فهذه جملة من النعم والعطايا تستوجب شكر المنعم فى القيام بالأعمال الصالحة التى من جنسها فى المسح على قلوب اليتامى، وعدم قهرهم وتسليمهم لضوائق اليتم المتوقعة، وفى إشباع حاجات السائلين وعدم نهرهم، وفى التحدث العام بنعمة الله التى لا تعد ولا تحصى، ولا يدرك الإنسان عظيم حجمها وجليل فضلها. وتنزل سورة الشرح لتفصل مجموعة جليلة أخرى من النعم التى منّ الله بها على رسوله صلّى الله عليه وسلم ليرفع عنه المعاناة الشديدة فى مواجهة قوم تربصوا به وبدعوته ولم يألوا جهدا فى محاولة تعويق تبليغه، والكيد له. فيقول الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم فى أسئلة سورة الشرح: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8). فنعمة شرح الصدر من أجلّ النعم فى مواجهة ما يثقل كاهل الإنسان فى هذه الحياة من الناس والأحداث، فالله شرح لرسوله صدره ونوّره وجعله فسيحا رحيبا واسعا، فماذا يصنع الكيد مع من شرح الله صدره؟ وشرح الصدر يشمل الشرح المعنوى، وكذلك الشرح الذى ورد فى رواية أبى بن كعب رضي الله عنه والتى ذكرها عبد الله ابن الإمام أحمد رحمه الله، وأوردها ابن كثير فى تفسيره وفيها: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان جريئا على أن يسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا وقال: «لقد سألت يا أبا هريرة، أنى فى الصحراء ابن عشر سنين وأشهر. وإذا بكلام فوق رأسى، وإذا رجل يقول لرجل

أهو هو؟ فاستقبلانى بوجوه لم أرها قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلىّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدى لا أجد لأحدهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه فأضجعانى بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: أفلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدرى ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذى أخرج شبه الفضة ثم هز إبهام رجلى اليمنى فقال: أعد واسلم، فرجعت بها أعدو رقة على الصغير، ورحمة للكبير». إن نعمة شرح الصدر، لرسول الله صلّى الله عليه وسلم جعلته أرحب الناس وأوسعهم صدرا لمعانى الإيمان واليقين والثقة فى نصر الله وتأييده، وجعلته أفسح الناس صدرا لوحى الله وأقواهم على تحمل تبعات الدعوة إلى ربه، وجعلته أرحم الناس بالناس وأرقهم ولذلك تأتى النعمة الثانية فى السورة الكريمة لتؤكد أن الله تعالى وضع عنه صلّى الله عليه وسلم ما أثقل ظهره من الأعباء الخطيرة فى دعوته للناس على غلظة الكثير منهم وعدائهم وكيدهم، فالأعباء مع انشراح الصدر يسيرة، أو كما ذكر بعض المفسرين: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) بمعنى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] وعلى المعنيين تكون النعمة جليلة وتخفف الأعباء. وتأتى النعمة الثالثة فى رفع ذكره صلّى الله عليه وسلم وهذا الرفع عطاء عظيم وتشريف وهو فى الوقت نفسه إعلاء لدعوته فذكره مرفوع يسمع به الجميع وآثار دعوته مشهودة للجميع. قال قتادة: رفع الله ذكره فى الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادى بها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» وذكر ابن جرير حديث أبى سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أتانى جبريل فقال: إن ربى وربك يقول: كيف رفعت ذكرك؟، قال: الله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معى». وحكى البغوى عن ابن عباس ومجاهد: أن المراد بذلك الآذان يعنى ذكر فيه وأورد من شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه: أغرّ عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبى إلى اسمه ... إذا قال فى الخمس المؤذن أشهد وشقّ له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وقال آخرون: رفع الله ذكره فى الأولين والآخرين ونوه به حين أخذ الميثاق على

جميع النبيين أن يؤمنوا به وأن يأمروا أممهم بالإيمان به ثم شهد ذكره فى أمته، فلا يذكر الله إلا ذكر معه «1». هذه نعمة شرح الصدر، ونعمة وضع الوزر الذى يثقل الظهر، ونعمة رفع الذكر، هذه المجموعة من النعم فى مواجهة ما يضيق الصدر من نكران الكفار للجميل وردهم على الإحسان بالإساءة وإعراضهم وعنادهم لمن يدعوهم إلى نجاتهم، ومحاولتهم إطفاء نور الله بأفواههم. وانشرح الصدر وخف الحمل ورفع الذكر، ليتأكد معنى الفرج مع العسر. ونتابع القول فى روضات القرآن الكريم مع سورة الشرح التى تذكر بنعم الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم فى شرح الصدر ووضع الوزر الذى يثقل الظهر ورفع الذكر، وكان لهذه النعم أثرها العظيم فى مواجهة الشدائد التى أثارها المشركون فى طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنجد تأكيد معنى الخروج من الشدة إلى اليسر فى قوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) أى إن مع الضيق والشدة يسرا، أى سعة وغنى. والتكرار- هنا- يزيد هذا المعنى تأكيدا فإن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معروفا ثم كرروه فهو هو، وإذا أنكروه ثم كرروه فهو غيره، وهما اثنان ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر «2». قال ابن مسعود رضي الله عنه فى رواية عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده، لو كان العسر فى حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، ولن يغلب عسر يسرين»، وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم، وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنهما: أما بعد، فإنه مهما ينزل بمؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجا، وأنه لن يغلب عسر يسرين، وأن الله تعالى يقول فى كتابه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) [آل عمران] «3». وبعد هذا التأكيد لتيسير الله سبحانه وبفرجه القريب يأتى الأمر بالنصب الممتع عند ما يكون لله فى صلاة خاشعة بالليل، والناس نيام أو فى مواصلة التبليغ والدعوة، أو فى الجهاد وما يصاحبه فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) قال

_ (1) انظر: ابن كثير 4/ 524، 525، والظلال 8/ 605، 606، وتيسير الرحمن للسعدى 7/ 645. (2) قاله الثعالبى انظر: القرطبى 20/ 107. (3) المرجع السابق 20/ 107، 108.

ابن مسعود: «إذا فرغت من الفرائض فانصب فى قيام لله، وقال الكلبى: إذا فرغت من تبليغ الرسالة «فانصب» أى استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات، وقال الحسن وقتادة: إذا فرغت من جهادك وعدوك، فانصب لعبادة ربك، وعن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب فى صلاتك، ونحوه عن الحسن، وقال الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق فاجتهد فى عبادة الحق وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) فالذى أنعم بالنعم السابقة هو الذى يرغب فيما عنده لا سواه» «1». إن سورة الشرح التى نزلت بعد سورة الضحى تؤكد فى النفسية المؤمنة تقدير النعم والتأمل فيها والقيام بواجب شكر المنعم تبارك وتعالى، وخاصة فى القيام بالأعمال الصالحة التى هى من جنس ما أنعم الله به على الإنسان، فهذا أدعى إلى الإقبال على الصالحات برغبة وإتقان، فإن الذى ذاق شدة ثم خرج منها بفضل الله ورحمته هو أعرف الناس بحقيقتها وشدة تأثيرها على الإنسان، وعلى ذلك يكون أسرع الناس بمنطق إيمانه إلى تقديم العون لمن وقع فى مثلها، فالناس جميعا معرضون للابتلاء فالذى وقع فيه مبتلى، ومخرجه الصبر والرضا، والذى عوفى مبتلى بموقفه من أهل البلاء ومخرجه شكر الله على نعمه وتقديم العون لإخوانه من أهل الابتلاء. وهذا المخرج للفريضة هو سبيل الفلاح والنجاح للإنسان فى هذه الحياة، والذى فضل فى السورة الكريمة التى نزلت بعد سورة الشرح وهى سورة العصر.

_ (1) أضواء البيان 9/ 321.

سورة «العصر»

سورة «العصر» فهى مكية إلا ما قال قتادة من أنها مدنية وروى عن ابن عباس كذلك يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3). فالقسم هنا فى السورة الكريمة بالعصر وهو اسم للزمن كله أو جزء منه «1» فقيل: هو الدهر كله أقسم الله عز وجل به لما فيه من العجائب، ولما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من دلالة على عظيم قدرة الخالق سبحانه، فأمة تذهب وأمة تأتى، وقدر ينفذ وآية تظهر وهو هو لا يتغير ليل يعقبه نهار، ونهار يعقبه ليل، فهو فى نفسه عجب كما يقول الشيخ الشنقيطى- رحمه الله: فهو فى نفسه آية سواء فى ماضيه لا يعلم متى كان، أو فى حاضره لا يعلم كيف ينقضى، أو فى مستقبله. وكما قيل: وأرى الزمان سفينة تجرى بنا ... نحو المنون ولا نرى حركاته وقيل فى معنى العصر- أيضا- الليل والنهار، وقيل: هو صلاة العصر لكونها الوسطى، وقيل: عصر النبى صلّى الله عليه وسلم أو زمن أمته، وقيل: عمر الإنسان ومدة حياته لأنها كل الكسب والخسران، وعلى كل حال فالقسم ينبه الإنسان إلى قيمة الزمن وقيمة العمر الذى يقضيه الإنسان فى هذه الحياة وأنه أغلى ما يملك وأنه محل لسعادته أو لخسرانه وتبين السورة الكريمة سبيل الفلاح والنجاة من الخسران للإنسان فى هذا الزمان والذى يتمثل فى الإيمان والعمل الصالح والتواصى بالحق والتواصى بالصبر. وبعد تناولنا لسورة العصر التى يقسم فيها الحق تبارك وتعالى بالعصر ويأتى جواب القسم فى السورة الكريمة فى قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) والخسر قيل هو الغبن، وقال الأخفش: هلكة. وقال الفراء: عقوبة «2» ومنه قوله تعالى: وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) [الطلاق]. وقيل: لفى شر، وقيل: لفى نقص، والمعانى المذكورة متقاربة والإطلاق يعم، والأسلوب يشعر أن الإنسان مستغرق فى

_ (1) أضواء البيان 9/ 492. (2) القرطبى 2/ 180.

الخسران وهو محيط به من كل جهة، حتى يشعر الإنسان بخطورة ما هو فيه، ويتنبه إلى سبيل الخروج منه، والذى سيذكر بعد هذا التأكيد والقسم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) فمفهوم المستثنى هنا يشتمل أربعة أمور: الأول: عدم الإيمان وهو الكفر، والثانى عدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد: والثالث: عدم التواصى بالحق وهو انعدام التواصى كلية أو التواصى بالباطل، والرابع: عدم التواصى بالصبر، وهو إما انعدام التواصى كلية أو الهلع والجزع «1» فيكون الخسران متحققا للإنسان- إذن- بسبب الكفر، وترك العمل، والتلهى بالباطل، وترك الحق، وفى الهلع والفزع وكلها أمراض خطيرة ينبه إليها الإنسان فى وقت التنزيل المبكر ليعان على الخروج منها واستمر التنزيل المبارك بعد ذلك ينبه إلى خسارة من يقع فيها أو يقيم عليها، فمن هذا قوله تعالى فى الخسران بسبب الخسر: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) [الزمر] وقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ [الأنعام: 31]. ومنه قوله تعالى فى خسران الإنسان بسبب ترك العمل: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأعراف] لأن الموازين هى معايير الأعمال فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة]. وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) [النساء] لأنه يطيع أمره ويصير من حزبه: أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) [المجادلة] خسروا بطاعتهم للشيطان وعصيانهم لله سبحانه. ومن قوله تعالى فى الخسران بترك التواصى بالحق: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) [آل عمران] فإن الإسلام هو الحق وليس بعد الحق إلا الضلال. ومن قوله تعالى فى الخسران بترك التواصى بالصبر والوقوع فى الهلع والفزع: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى

_ (1) أضواء البيان 9/ 495.

وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) [الحج]. ونزول سورة العصر مع تزايد عدد الجماعة المسلمة فى مكة المكرمة ليرسى دعائم هذه الجماعة على الأسس القويمة من الإيمان الذى هو صلاح الجنان بسلامة الاعتقاد وصلاح اللسان النطق بكلمة التوحيد والطيب من الأقوال، وصلاح للجوارح لسعيها الموافق لما وقر فى القلب ونطق به اللسان فالإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالجوارح. كما تؤسس الجماعة على العمل الصالح الذى يدخل فى هذا الإيمان وبه يزيد وينقص. وهذا التأسيس على الإيمان يجعل العمل الصالح ابتغاء مرضاة الله، ويجعله موافقا لما يتنزل من وحى الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم ليكون مقبولا عند الله. ثم تؤسس الجماعة هذه بعد ذلك على التواصى بالحق، والتواصى بالصبر، وإن كان هذا التواصى يدخل فى عموم الأعمال الصالحة إلا أنه لأهميته فى الجماعة المسلمة يخص بعد العموم ولأن هذه الجماعة فى حاجة إلى التواصى بهذا الحق ليزيد تمسكها به وسط المحن والتحديات ولتستمر النفوس المؤمنة على ثباتها فلا تجزع ولا تيأس إذا اشتدت الخطوب فالتواصى أن يوصى بعضهم بعضا بالحق والحق كلمة جامعة لكل ما كان ضد الباطل؛ ولذلك يعد هذا التواصى أساسا للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى لا بدّ منه لتهيئة المناخ السليم للجماعة المسلمة «1». وقيل: الحق: هو القرآن لشموله على كل أمر ونهى وكل خير قال تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء: 105] وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) [الزمر]. وقد جاءت آيات فى كتاب الله تعالى تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة كلها، أصولها وفروعها، ماضيها وحاضرها من ذلك ما أوحى الله به إلى الأنبياء عموما، من نوح وإبراهيم ومن بعدهم فى قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]. وإقامة الدين القيام به جميعا، وكانت هذه وصية الرسل لأممهم ومن بعدهم،

_ (1) انظر: أضواء البيان 9/ 503 - 505.

فإبراهيم عليه السّلام يقول الله تعالى فيه: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) [البقرة] ويعقوب يقول الله تعالى فيه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) [البقر]. فالتواصى بأصل الإيمان وعموم الشريعة وكذلك بالعبادة قال تعالى عن نبى الله عيسى عليه السّلام: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي [مريم] وفى الوصية بالوالدين وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) [لقمان]. وفى الأبناء قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] وهكذا تأتى سورة العصر لترسى هذه الدعائم الجامعة للجماعة المسلمة، والتى تنقذ الإنسان من الخسران، ويرتبط ذلك بالتنبيه على أهمية عمر الإنسان الذى يحياه فى خسر أو فى صلاح وفلاح.

سورة «العاديات»

سورة «العاديات» وهى سورة مكية فى قول ابن مسعود وجابر وعكرمة وعطاء، ونزلت بعد سورة العصر وأما فى قول ابن عباس وأنس ومالك وقتادة فمدنية. وبدأ السورة الكريمة بالقسم الذى ينبهنا إلى أهمية المقسم به، وخطورة المقسم عليه ولكن وقت نزول السورة الكريمة فى مكة لم يكن المؤمنون قد أمروا بقتال ولكنّ السورة الكريمة تهيئ النفوس بما تقدمه من مشاهد القتال التى ستكون مستقبلا جهادا فى سبيل الله وإعلاء لكلمته، يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11). فمشهد القتال الذى يعدّ له المؤمنون ترى فيه الأفراس تعدو فى سبيل الله فتضبح أى تحمحم «1»، فالضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدون، والعدو تباعد الأرجل فى سرعة المشى، فالعين تشاهد سرعة الخيل، والأذن تسمع ضبحتها، ويشتد المشهد عند ما ترى للخيل نار حين تورى النار بحوافرها وهى: سنابكها، فالخيل من شدة عدوها تقدح النار بحوافرها. والخيل هذه تغير على العدو عند الصبح، وهذا من التوجيه والبشريات فلعزّهم سيغيرون صبحا، أى علانية تشبيها بظهور الصبح «2»، ولقد سار المؤمنون على هذا بعد ذلك فكانوا إذا أرادوا الغارة سروا ليلا، ويأتون العدوّ صبحا؛ فكما أنه دليل عزّة المؤمنين فإنه كذلك وقت غفلة الناس، ومنه قوله تعالى: فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) [الصافات] والخيل كذلك تثير الغبار لشدة عدوها حتى تتوسط الأعداء فتفرقهم وتشتت شملهم. فهذه المشاهد للخيل عند ما تذكر للمؤمنين قبل أن يؤذن لهم بالقتال توجيه لهم وتهيئة للنفوس لتعد نفسها، ولترتفع النفسية المؤمنة ثقة بأن العاقبة لها، وأنها ستخوض هذه الغمار، ويكون لخيلها هذا النشاط وهذه الحركة السريعة التى تربك العدو وتشتته. وأما قول أنس بن مالك وابن عباس وقتادة من أن السورة

_ (1) القرطبى 20/ 153. (2) القرطبى 20/ 158.

مدنية، فتكون هذه المشاهد إخبارا عما حدث فعلا، ولكن الرواية التى ذكرها الواحدى فى سبب النزول والتى يذكر فيها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث خيلا سرية إلى بنى كنانة وأمّر عليها المنذر بن عمرو الأنصارى، فأسهبت (أى أمعنت فى سهب وهى الأرض الواسعة) شهرا وتأخّر خبرهم فأرجف المنافقون وقالوا: قتلوا جميعا، فأخبر الله عنهم بقوله وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) إعلاما بأن خيلهم قد فعلت جميع ما فى تلك الآيات. فإن فى سنده حفص بن جميع وهو ضعيف «1» قال ابن كثير: وقد روى أبو بكر البزار هاهنا حديثا غريبا جدا فذكره، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد «2» من رواية البزار وقال: فيه حفص بن جميع، وهو ضعيف، وأورده السيوطى فى «الدر المنثور» «3» وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبى حاتم والدارقطنى فى (الأفراد) وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعلى ذلك يبقى معتمدا قول ابن مسعود وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة: إنها مكية نزلت بعد سورة العصر وقبل سورة الكوثر. وأما المقسم عليه بعد هذه التهيئة بذكر الخيل على ما سبق فيتمثل فى حقائق يشاهدها المؤمنون فى الناس، وهذا نوع من بسط الحقائق النفسية التى تفسر للمؤمنين إعراض الإنسان عن ربه وجحوده وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له «4» إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) والكنود قيل فيه: إنه الكفور، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. وقيل: الكنود هو الذى يأكل وحده ويمنع رفده، ويضرب عبده. وأما الإنسان فقد ذكر الضحاك أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة، وقال مقاتل: نزلت فى قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشى «5». وهو مع هذا الجحود شهيد على نفسه بما يصنع وهذا قول الحسن وقتادة ومحمد بن كعب وروى هذا عن مجاهد أيضا، وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين أن الله عز وجل على ذلك من ابن آدم لشهيد «6». وعلى الوجهين فإن هذا الكشف للنفس الإنسانية أمام المؤمنين يخفف عنهم ما

_ (1) انظر: زاد المسير لابن الجوزى 9/ 207، والتحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور 30/ 497، وروح المعانى للآلوسى 30/ 274. (2). 6/ 142 (3). 6/ 383. (4) تفسير المراغى 30/ 223. (5) زاد المسير 9/ 209. (6) القرطبى 20/ 162.

يرونه من جحود الكافرين من ناحية، ويعينهم على النفور من الجحود ومقاومة النفس من الوقوع فيه من ناحية أخرى، ومع هذا الجحود فى الإنسان حب شديد للمال وهذا الحب يجعله متعلقا به شديد البخل فلا ينفق منه. وعلى ذلك تكون التهيئة للبذل من النفس والمال فى سبيل الله مبكرة فى مشهد الخيل فى ساحات الجهاد وفى نزع حب المال من النفس والتنفير من البخل فلا ينفق منه. وأما تسمية المال خيرا فهو ما جاء ذكره فى قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] أى مالا. قال ابن زيد: سمى الله المال خيرا، وعسى أن يكون شرا وحراما، ولكن الناس يعدّونه خيرا فسماه الله خيرا لذلك «1». ويعان الإنسان على هذه التزكية والتهيئة والتنقية النفسية بما تكرر ذكره فى الآيات الكريمة سابقا من تذكر ما يكون فى الآخرة من إثارة ما فى القبور وقلبه وإخراج ما فيها، ومن إبراز ما فى الصدور وتمييز ما فيها من خير وشر إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) سبحانه لا تخفى عليه خافية.

_ (1) القرطبى 20/ 162.

سورة «الكوثر»

سورة «الكوثر» وهى مكية فى قول ابن عباس والكلبى ومقاتل نزلت بعد سورة العاديات وأما فى قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة فمدنية. ومن دلائل مكيّتها ما ذكره ابن كثير رحمه الله من قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: إنها نزلت فى العاص بن وائل، وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له فإذا هلك انقطع ذكره فأنزل الله هذه السورة، وقال شمر بن عطية: نزلت فى عقبة بن أبى معيط، وقال ابن عباس أيضا وعكرمة: نزلت فى كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش، وقال البزار: حدثنا زياد بن يحيى الحسانى، حدثنا ابن عدى عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا الصغير المنبتر من قومه؟ يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية، فقال: أنتم خير منه، قال: فنزلت: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) هكذا رواه البزار وهو إسناد صحيح وعن عطاء: نزلت فى أبى لهب وذلك حين مات ابن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال: بتر محمد الليلة فأنزل الله فى ذلك: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) «1». وأما أدلة كونها مدنية فما رواه الإمام أحمد رحمه الله بإسناده الثلاثى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسما، إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنه أنزلت علىّ آنفا سورة» فقرأ: بسم الله الرّحمن الرّحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) ... حتى ختمها، فقال: «هل تدرون ما الكوثر؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هو نهر أعطانيه ربى عز وجل فى الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتى يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول: يا رب إنه من أمتى، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك». وقد روى مسلم رحمه الله كذلك حديث أنس بلفظ: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين

_ (1) ابن كثير 4/ 559.

أظهرنا فى المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟. قال: «لقد أنزلت علىّ آنفا سورة» فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ»، ثم قال: «أتدرون ما الكوثر؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه نهر وعدنيه ربى عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة آنيته عدد النجوم فى السماء فيختلج العبد منهم فأقول ربّ إنه من أمتى، فيقول: إنك لا تدرى ما أحدث بعدك» «1». وقول النبى صلّى الله عليه وسلم فى هذه الرواية: «إنه أنزلت علىّ آنفا سورة» يرجّح قول من ذكر أنها مكيّة، وأنه تكرر حال «2» نزولها لما فيها من تأكيد العطاء الكثير والخير الوفير من الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم تدعيما له فى مواجهة عداوة قومه وسبّهم له وعنادهم. روى البخارى رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال فى الكوثر: هو الخير الذى أعطاه الله إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن ناسا يزعمون أنه نهر فى الجنة، فقال سعيد: النهر الذى فى الجنة من الخير الذى أعطاه الله إياه، وقال الثورى عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- أيضا- قال: الكوثر: الخير الكثير، وهذا التفسير يعم النهر وغيره لأن الكوثر من الكثرة وهو الخير الكثير ومن ذلك النهر، وقال مجاهد: هو الخير الكثير فى الدنيا والآخرة، وقال عكرمة: هو النبوة والقرآن وثواب الآخرة، وقد صح عن ابن عباس أنه فسّره بالنهر- أيضا- فروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال: الكوثر نهر فى الجنة حافتاه ذهب وفضة، يجرى على الياقوت والدر، ماؤه أبيض من الثلج، وأحلى من العسل. كما روى ابن جرير بسنده عن ابن عمر أنه قال: الكوثر نهر فى الجنة حافتاه ذهب وفضة يجرى على الدر والياقوت ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل. وكذا رواه الترمذى بسنده عن ابن السائب موقوفا، وقد روى مرفوعا فقال الإمام أحمد: حدثنا على بن حفص حدثنا ورقاء قال: وقال عطاء عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الكوثر نهر فى الجنة حافتاه من ذهب، والماء يجرى على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل» وهكذا رواه الترمذى وابن ماجة وابن أبى حاتم وابن جرير من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب

_ (1) ابن كثير 4/ 556. (2) انظر: قول الإمام الرافعى فى توجيه ذلك- الإتقان 1/ 31.

مرفوعا، وقال الترمذى: حسن صحيح. ويكون مع هذا العطاء العظيم والخير الكثير فى الدنيا والآخرة توجيه الأمر كلّه لله سبحانه فالصلاة له والنسك له، فلا سجود لغيره ولا ذبح بغير اسمه وفى هذا تأصيل لمعنى العبودية لله سبحانه وتغيير مظاهر الشرك الوثنية وجعل الحياة كلها لله سبحانه، وهذا ما دعم بعد ذلك تفصيلا قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) [الأنعام].

سورة «التكاثر»

سورة «التكاثر» وهى مكية فى قول جميع المفسرين غير أن البخارى رحمه الله روى أنها مدنية «1». وهذه السورة الكريمة تعالج ظاهرة إنسانية تستبد بالإنسان عند ما يغفل وينسى مصيره، وهى ظاهرة التكاثر، وهذا التفاخر من الأمور التى تقف عقبة فى طريق إسلام الناس واتباعهم للهدى. قال ابن عباس ومقاتل والكلبى: «نزلت فى حيّين من قريش: بنى عبد مناف، وبنى سهم، تعادّوا وتكاثروا بالسادة والأشراف فى الإسلام، فقال كل حىّ منهم: نحن أكثر سيدا وأعزّ عزيزا، وأعظم نفرا، وأكثر عائذا، فكثر بنو عبد مناف سهما، ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم سهم فنزلت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) يعنى بأحيائكم فلم ترضوا حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) مفتخرين بالأموات، وروى سعيد عن قتادة قال: كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعدّ من بنى فلان، وهم كلّ يوم يتساقطون إلى آخرهم والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم، وعن عمرو بن دينار: حلف أن هذه السورة نزلت فى التجار «2». وأما على ما روى البخارى رحمه الله من أنها مدنية فيأتى قول مقاتل وقتادة وغيرهما: نزلت فى اليهود حين قالوا: نحن أكثر من بنى فلان، وبنو فلان أكثر من بنى فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالا، وقال ابن زيد: نزلت فى فخذ من الأنصار، وعن شيبان عن قتادة قال: نزلت فى أهل الكتاب «2»، وعلى ذلك فإن السورة الكريمة مع كونها مكية على قول جميع المفسرين- كما سبق- فإنها تعم جميع ما ذكر وغيره وتعالج فى الإنسان هذه الظاهرة الخطيرة منذ وقت مبكر ففي صحيح مسلم عن مطرّف عن أبيه قال: أتيت النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو يقرأ: «ألهاكم التكاثر» قال: «يقول ابن آدم: مالى مالى، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» وفى رواية أبى هريرة فى مسند آخر: «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس». وروى البخارى رحمه الله عن ابن شهاب: أخبرنى أنس بن مالك أن رسول الله

_ (1) القرطبى 20/ 168. (2) المرجع السابق 20/ 168، 169.

صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب، لأحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب». وقال ابن عباس فى بيان معنى التكاثر: قرأ النبى صلّى الله عليه وسلم: «ألهاكم التكاثر» قال: «تكاثر الأموال، جمعها من غير حقها، ومنعها من حقها، وشدّها فى الأوعية». وذكر المقابر مع ظاهرة التكاثر سبيل قوى من سبل معالجة هذه الظاهرة، وما تحدثه فى القلب من فتن لا ينزعها من القلب إلا بذكر الموت، وما يتبعه من قبر، وكما يذكر القرطبى رحمه الله: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا فى هذه السورة. وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسى؛ لأنها تذكّر الموت والآخرة وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد فى الدنيا، وترك الرغبة فيها. قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور؛ فإنها تزهد فى الدنيا وتذكر الآخرة» رواه ابن مسعود وأخرجه ابن ماجة، وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه: «فإنها تذكّر الموت» وفى الترمذى عن بريدة: «فإنها تذكّر الآخرة». قال: هذا حديث حسن صحيح. وتذكّر المقابر يوقظ الإنسان على حقيقة سعيه وعمله، روى البخارى بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» «1» كما تذكر زيارة المقابر بما يكون بعدها، يقول ميمون بن مهران: كنت جالسا عند عمر بن عبد العزيز فقرأ: «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر» هنيهة ثم قال: يا ميمون، ما أرى المقابر إلا زيارة، وما للزائر بدّ من أن يرجع إلى منزله: يعني أن يرجع إلى منزله أى إلى الجنة أو إلى النار. فالزائر سيرحل من مكانه ذلك إلى غيره «2». ومما يعين على معالجة ظاهرة التكاثر أيضا أن تهز القلوب هزّا بهذا الوعيد المتكرر بما سيرون من الجحيم. قال الحسن البصرى رحمه الله فى قوله مقامى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4): هذا وعيد بعد وعيد، وقال الضحاك: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) يعنى أيها الكفار ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) يعنى أيها المؤمنون «2»، ولو علم الناس حق العلم ما سيكون لما ألهاهم التكاثر عن طلب الدار الآخرة حتى جاءوا إلى المقابر. إن أمامهم جحيما مروّعا، فالنار إذا زفرت زفرة واحدة خر كلّ ملك مقرب، ونبىّ

_ (1) ابن كثير 4/ 544. (2) المرجع السابق 4/ 545.

مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال على ما جاء به الأثر المروىّ فى ذلك «1». وأمام الناس السؤال عن النعيم الذى عاشوا فيه بدنياهم قبل أن يزوروا المقابر بالموت فهل قاموا بشكره، وأدّوا حقه ولم يستعينوا به على معصية المنعم سبحانه فيجزيهم بهذا نعيما أفضل منه أم اغتروا به ولم يقوموا بشكره، واستعانوا به على معصية المنعم سبحانه فيعاقبون على ذلك. إن عقيدة عذاب القبر ونعيمه وما يكون بعده من رؤية الحقائق المرتبطة بالنعيم والعذاب فى الجنة والنار، تغرس فى نفوس الناس، ويذكّرون بهذه الحقائق حتى يتخلصوا من القيم الفاسدة التى عاشوا عليها، ومنها هذا التكاثر الذى عالجته هذه السورة الكريمة علاجا شاملا، حيث ذكر التكاثر الملهى ولم يذكر المتكاثرون به ليشمل كلّ ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون فى غمرة وغفلة ونسيانهم لربهم.

_ (1) ابن كثير 4/ 545.

سورة «الماعون»

سورة «الماعون» وهى مكية فى قول عطاء وجابر وأحد قولى ابن عباس. ومدنية فى قول له آخر، وهو قول قتادة وغيره «1»، وقيل الآيات الثلاث الأولى مكية والأربع الأخرى مدنية. يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7). وهذه السورة الكريمة تنبه الناس بالنظر والرؤية إلى حقيقة ما نزّل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنّه الخير كله، وأن سعادة الناس فيه، وأن مقتفى التصديق بما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذكر المعاد والجزاء والثواب، وما جاء به من كل أمر ونهى يجعل الإنسان مستقيما فى سلوكه مع ربه، وفى سلوكه مع الناس، وفى استقامته بنفسه وتزكيتها، والتكذيب بما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم يبقى على معانى الجاهلية فى الناس من قسوة فى القلب على الضعفاء من اليتامى والمساكين، ومن وقوع الناس فى النفاق والرياء فلا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، ويقفون من مجتمعهم موقفا سلبيا فلا تعاون ولا بذل لما فى أيديهم مما اعتاد الناس أن يتعاونوا فيه. وعلى ذلك يكون الفهم الصحيح لمفهوم الدين الذى جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إنه لا يمثل جزئية واحدة من جزئيات الحياة ويترك بقية الأجزاء إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] وهذه الهداية فى كل شئون الحياة. وتبدأ السورة الكريمة بهذا التساؤل وهذا الاستفهام «أرأيت يا محمد الذى يكذب بالدين؟» إن هذا الذى يكذب بالدين هو ذلك القاسى الذى يقهر اليتيم ويدفعه بعنف وشدة، ويظلمه حقه، ولا يطعمه ولا يحسن إليه، وهو الذى لا يعرف قلبه الرحمة فلا يطعم المسكين، ولا يحض غيره على هذا الإطعام، وهذه المظاهر القاسية لها وجودها فى الناس، وتأصّلها بالتكذيب بالدين ولو استجابوا لتغير الحال وتمضى السورة الكريمة فى كشف فساد آخر يقع فيه الإنسان وهو فساد النفاق الذى ظهر بعد هجرة النبى صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وبعد أن قوى شأن المسلمين

_ (1) القرطبى 20/ 210.

وأصبحت لهم فى نفوس الناس مكانة مهيبة فأظهر بعض الناس الإسلام وأبطنوا غيره. وهذا المعنى ينسجم مع القول بأن الأربع آيات الأخيرة والتى تبدأ بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) مدنية. وأما على أنها مكية فيكون هذا تحذيرا مما سيقع فيه بعض الناس من السهو عن الصلاة ومراءاة الناس ومنع الماعون. قال ابن عباس رضي الله عنهما فى قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) يعنى المنافقين الذين يصلون في العلانية ولا يصلون فى السر «1». ولهذا قال: لِلْمُصَلِّينَ الذين هم من أهل الصلاة، وقد التزموا بها ثم هم عنها ساهون، إما عن فعلها بالكلية- كما قال ابن عباس- وإما عن فعلها فى الوقت المقدر لها شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية كما قاله مسروق وأبو الضحى. وقال عطاء بن دينار: الحمد لله الذى قال: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) ولم يقل فى صلاتهم ساهون. وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخرة دائما أو غالبا، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله ولكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها وكمله له النفاق العملى، كما ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» فهذا آخر صلاة العصر التى هى الوسطى كما ثبت به النص إلى آخر وقتها وهو وقت كراهة ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب لم يطمئن ولا خشع فيها أيضا، ولهذا قال: لا يذكر الله فيها إلا قليلا، ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس لا ابتغاء وجه الله فهو كما لم يصل بالكلية قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (143) [النساء] وقال الله تعالى هاهنا: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) ومما يتعلق بذلك أن من عمل عملا لله سبحانه فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك لا يعدّ رياء. فإن العمل مرتبط بنيته وما دامت لله سبحانه فليست من الرياء «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». وهؤلاء المراءون يضافون إلى معنى المكذبين بالدين وتضاف إليهم هذه الصفة

_ (1) ابن كثير 4/ 554.

الذميمة التى تدل على سلبيتهم وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) فهم كما قال زيد بن أسلم: هم المنافقون ظهرت الصلاة فصلّوها، وخفيت الزكاة فمنعوها «1». وقال الحسن البصرى: «إن صلّى راءى، وإن فاتته لم يأس عليها، ويمنع زكاة ماله- وفى لفظ- صدقة ماله». وعلى ذلك لا أحسنوا عبادة ربهم ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا بإعادة ما ينتفع به، ويستعان به مع بقاء عينه، ورجوعه إليهم فهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى. فالماعون يشمل كل ما ينتفع به، وعلى هذا كان فهم أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم. فقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الماعون فقال: هو ما يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والقدر والدّلو وأشباه ذلك. بهذا التوجيه تم نقل الناس من الجاهلية ومعانيها الفاسدة إلى الإسلام وقيمه الرشيدة.

_ (1) ابن كثير 4/ 555.

سورة «الكافرون»

سورة «الكافرون» بعد سورة «الماعون» التى نبهت إلى صفات من يكذب بالدين، وتنزل سورة «الكافرون» لتعلن فى صورة حاسمة البراءة من عمل الكافرين الذين اتخذوا من دون الله أندادا، ولتأمر بالإخلاص لله وحده فلا إله إلا هو، ولتحسم الأمر فى المساومة التى حاولها المشركون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد فشلهم فى الفتنة البدنية والمالية، وفى السخرية والاستهزاء، وفى محاولات التشويه لشخصية النبى صلّى الله عليه وسلم والطعن فى مضمون دعوته. فلجأ المشركون بعد هذا الفشل إلى أسلوب المساومة على المبادئ، وإذا ساغ لهم هذا باعتبار أنهم ليسوا على شىء، وليسوا على مبدأ يقينى، فإنه لا يجد قبولا لدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولدى أصحابه، فقد استقرت عقيدة التوحيد فى القلوب واطمأنت بها فلا تقبل تحويرا ولا تبديلا ولا شركا، فقد روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يطوف بالكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمى، وكانوا ذوى أسنان فى قومهم، فقالوا: «يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه» «1». فهذا العرض وتلك المساومة، تدل على أنهم ليسوا على شيء، وكان الجواب الذى لا جواب سواه رفضه هذه المساومة وينزل فى ذلك قول الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6). ويقول ابن كثير فى تفسيره: هذه السورة سورة البراءة من العمل الذى يعمله المشركون وهى أمره بالإخلاص فيه فقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهون بهذا الخطاب هم كفار قريش، وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده

_ (1) السيرة لابن هشام 2/ 388.

سنة فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) يعنى من الأصنام والأنداد، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وهو الله وحده لا شريك له، ف «ما» هاهنا بمعنى من، ثم قال: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) أى ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدى بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذى يحبه ويرضاه ولهذا قال: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) أى لا تقتدون بأوامر الله وشرعه فى عبادته بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم كما قال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) [النجم] فتبرّأ منهم جميع ما هم فيه فإن العابد لا بدّ له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه، فالرسول صلّى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه ولهذا كانت كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أى لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله ولهذا قال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)» كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) [يونس]، وقال: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [الشورى: 15]. وهذا التكرار فى الآيات الكريمة يوجه إلى واحد من المعانى الآتية: الأول: التأكيد على هذه التفرقة بين الحق الذى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين الباطل الذى عليه الكافرون ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد كقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الشرح] وحكاه كذلك ابن الجوزى وغيره عن ابن قتيبة. والثانى: ما حكاه البخارى وغيره من المفسرين أن المراد: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) أى فى الماضى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) فى المستقبل. الثالث: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أن المراد بقوله «لا أعبد ما تعبدون» نفى الفعل لأنها جملة فعلية، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) نفى قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفى بالجمة الاسمية آكد فكأنّه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك، ومعناه نفى الوقوع، ونفى الإمكان الشرعى أيضا. وبهذا التأكيد وهذا القطع فى السورة الكريمة يعرف المؤمنون والكافرون أن الإيمان والكفر لا يلتقيان، وأن المساومة من الكافرين على العقيدة والمبادئ مرفوضة، فالمؤمنون بربهم يعبدونه وحده لا شريك له، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، والكافرون

لهم منهجهم الذى انحرفوا به عن عقيدة التوحيد فاتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، ويعملون لهم، وليس بنافعهم أن يقولوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] فإن القرب من الله بإخلاص العبودية له، وبما شرعه لعباده وجاء به رسوله صلّى الله عليه وسلم، وهذه البراءة فى سورة «الكافرون» حرص النبىّ صلّى الله عليه وسلم على غرسها واستمرارها فى نفوس أصحابه وأتباعه فكان من هديه الذى علّمه ما ثبت فى صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة وبقل هو الله أحد فى ركعتى الطواف، وفى صحيح مسلم كذلك من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ بهما فى ركعتى الفجر، وروى الإمام أحمد رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ فى الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة- أو بضع عشرة مرة- قل يا أيها الكافرون وقل وهو الله أحد. كما روى الإمام أحمد كذلك حديث الحارث بن جبلة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله علّمنى شيئا أقوله عند منامى، قال: «إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ: «قل يا أيها الكافرون» فإنها براءة من الشرك» «1».

_ (1) تفسير ابن كثير 4/ 559، 560، وتفسير السعدى 7/ 681، وأسرار ترتيب القرآن للسيوطى 159.

سورة «الفيل»

سورة «الفيل» ونزلت بعد سورة «الكافرون». والتى أعلنت البراءة مما يعبد «الكافرون» وأنه لا مساومة على العقيدة، نزلت سورة الفيل لتنبه وتذكر المؤمنين، ولتفتح أيضا عيون الكافرين على واقعة تاريخية يعرفونها ولكن لا يحسنون الانتفاع بها، نزلت السورة الكريمة يقول الله تعالى فيها: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5). فبداية السورة بهذا الاستفهام الذى يدعو إلى النظر، والرؤية التاريخية والاعتبار بما حدث قريبا فى العام الذى اتخذوه عاما للتأريخ فكانوا يقولون: حدث هذا عام الفيل أو قبله أو بعده. ومن ذلك ما عرف من مولد النبى صلّى الله عليه وسلم فى عام الفيل على أشهر الأقوال «1». فأما تذكير المؤمنين وأوّلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنه جاء بعد إعلان البراءة من الكافرين وعبادتهم ومما يعبدون ورفض المساومة، وهذا التذكير يتصل باليقين الذى ينبغى أن يملأ قلوب المؤمنين فى ضعف الكافرين، وضعف المعتدين على السواء، وأن الله تعالى ناصر لجنده ومؤيد لحزبه، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، فأما ضعف الكافرين فإنهم هزموا أمام جيش أبرهة، ولم يستطيعوا مواجهته فى طريقه إليهم، وبعد وصوله إلى ديارهم، وأما ضعف أصحاب الفيل، فمع قوتهم وقدومهم بأسلحة لا قبل للعرب المشركين بها، ومنها الفيلة فإنّ الله تعالى جعل كيدهم فى تضليل، فلم يصلوا إلى ما يريدون من هدم بيت الله الحرام، وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول. وهذا تلقين لسنة من سنن الله تعالى فيما يكون من مواجهة بين أهل الحق وأهل الباطل تذكّرنا بها سورة الفيل ومن عناصر هذه السنة: أولا: أن الحق منتصر دائما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء: 18]. ثانيا: أنه إذا كان للحق من ينتسب إليه انتسابا صحيحا يعتد به فإنهم يختبرون فى

_ (1) تفسير ابن كثير 4/ 549.

هذا الانتساب فإن صدقوا، وكانوا على حالة ترضى الله تبارك وتعالى أيدهم على قلتهم وضعفهم المادى. ثالثا: إذا لم يكن للحق من ينتسب إليه انتسابا صحيحا كما كان الحال فى انتساب المشركين إلى البيت الحرام، حيث عبدوا الأوثان، ووضعوها حوله، فإن الله تعالى يحمى بيته وينصر الحق لا لكرامة هؤلاء المشركين، وإنما لأنه حق بلا أهل يعتدّ بنسبتهم إليه. وهذه السنة بهذا الإيجاز تطمئن المؤمنين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم، وأنه يجبر ضعفهم وقلتهم، وأنه سبحانه سيمكن لهم فلا يرهبون كافرا، ولا يخشون معاديا متربصا. وأما التنبيه ولفت النظر للمشركين فإنما يمكن فى تجنبهم مخاطر أبرهة وجيشه وكيف أنعم الله عليهم بهذه النجاة حتى حسبوا ذلك نصرا لهم. قال ابن كثير رحمه الله: فهذه من النعم التى امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة، ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيّب سعيهم وأضلّ عملهم وردّهم بشرّ خيبة، وكانوا قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنه فى ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ولسان حال القدر يقول: لم ينصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذى سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبى الأمى محمد- صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء. فكان مقتضى هذا الإنعام أن يفتحوا صدورهم ويقبلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستجيبين طائعين، وأن يعبدوا رب هذا البيت، وأن يخلعوا من قلوبهم عبادة الأصنام. فهذا تنبيه لهم يشبه التنبيه فى سورة قريش حيث يقول الله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4). إن سورة الفيل تفتح عيون المؤمنين والكافرين كذلك للعبرة التاريخية، فالقرآن الكريم يمنح الناس جميعا خلاصة تجارب السابقين من المؤمنين والكافرين وكيف كان

حالهم فى الإيمان والكفر وما عاقبة الفريقين، والسعيد من وعظ بغيره وتدبر صفحة التاريخ وأفاد لحاضره منها. وسميت السورة سورة الفيل، فقد كان الفيل وأصحاب الفيل يمثلون عدوانا واضحا على الحق، وكانت نهايتهم أن صاروا كالعصف المأكول، وسمى عام هذه الحادثة بعام الفيل. وهى حادثة قريبة، وعلى الرغم من قربها، فالقرآن الكريم يذكّر بها، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكّر بها ففي يوم الحديبية لما أطلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الثنية التى تهبط به على قريش بركت ناقته، فقالوا: خلأت القصواء أى حرنت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل- ثم قال- والذى نفسى بيده لا يسألونى اليوم حطة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها»، ثم زجرها فقامت. وفى الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ألا فليبلغ الشاهد الغائب».

سورة «الفلق» و «الناس»

سورة «الفلق» و «الناس» سورة «الفلق» نزلت بعد سورة الفيل، ونزل مع سورة الفلق سورة «الناس»، فهما نزلتا معا كما فى الدلائل للبيهقى فلذلك قرنتا، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوّذتين، ومن الافتتاح «بقل أعوذ» وهما كما ذكرنا مكيتان غير أن ابن كثير يذكر فى تفسيره أنهما مدنيتان. وروى مسلم فى صحيحه حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط «قل أعوذ برب الفلق» و «قل أعوذ برب الناس» وهذه الرواية من حديث قتيبة عن جابر عن بيان عن قيس بن أبى حازم عن عقبة. ورواه أحمد ومسلم- أيضا- والترمذى والنسائى من حديث إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن عقبة به، وقال الترمذى: حسن صحيح. وقال النسائى: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر، وسمعت النعمان عن زياد بن الأسد عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الناس لم يتعوذوا بمثل هذين «قل أعوذ برب الفلق» و «قل أعوذ برب الناس». وقال النسائى- كذلك-: أخبرنا محمود بن خالد حدثنا الوليد حدثنا أبو عمرو الأوزاعى عن يحيى بن أبى كثير عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبى عبد الله بن عابس الجهنى أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال له: «يا ابن عابس ألا أدلّك- أو ألا أخبرك- بأفضل ما يتعوّذ به المتعوّذون؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «قل أعوذ برب الفلق- وقل أعوذ برب الناس، هاتان السورتان» كما قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل، حدثنا الجريرى عن أبى العلاء قال: قال: رجل: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى سفر والناس يعتقبون، وفى الظّهر قلة [أى ما يركب قليل] «1» فحانت نزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونزلت فلحقنى فضرب منكبى فقال: «قل أعوذ برب الفلق» فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأتها معه، ثم قال: «قل أعوذ برب الناس» فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأتها معه فقال: «إذا صلّيت فاقرأ بهما» يقول ابن كثير رحمه الله: الظاهر أن هذا الرجل هو عقبة بن عامر، والله أعلم.

_ (1) هذا شرح من عندى وليس فى النص، انظر: تفسير ابن كثير 4/ 571، 572، وأسرار ترتيب القرآن 161.

كما روى النسائى حديثا لجابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اقرأ يا جابر» قلت: وما أقرأ بأبى أنت وأمى؟ قال: «اقرأ قل أعوذ برب الفلق، و «قل أعوذ برب الناس» فقرأتهما فقال: «اقرأ بهما ولن تقرأ بمثلهما». وأما أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنه فتبين كيف كان النبى صلّى الله عليه وسلم يقرأ بهن، وينفث فى كفّيه ويمسح بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، وقالت أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه بالمعوذات، وأمسح بيده عليه رجاء بركتها روى ذلك الإمام مالك، عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، ورواه البخارى عن عبد الله بن يوسف. ومسلم عن يحيى بن يحيى وعيسى بن يونس، وابن ماجة من حديث معن وبشر بن عمر ثمانيتهم جميعهم عن مالك به. وفى حديث أبى سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما، رواه الترمذى والنسائى وابن ماجة، وقال الترمذى: حديث حسن صحيح «1». ونزول المعوذتين بعد ذكر أصحاب الفيل فى سورة الفيل وعداوتهم، وقدومهم لهدم البيت العتيق، وبعد ذكر الكافرين وعداوتهم الملحوظة والمشاهدة، ومنها هذه المساومة على العقيدة والمبادئ، وحسم الأمر فيها فى سورة «الكافرون»، يبصّر المؤمنين بمصادر أخرى للعداوة والشر، ولكنها مصادر ضعيفة على خطرها وعلى استعمال شرها، وأن المؤمن يجد فى اللجوء إلى ربه والاعتصام به ما يحميه من هذه الشرور. فهذا تنبيه وتعريف بالمخاطر من جهة وحتى يكون المؤمنون على بينة من أمرهم ومعرفة بمصادر الخطر حولهم، وأن يتعرفوا فى الوقت نفسه كيف يسلمون من هذه المخاطر، وكيف يطمئنون إلى حماية الله لهم فهو ربهم ورب الخلق أجمعين، وأنه سبحانه يوجههم إلى طلب هذه الحماية وهذا الاعتصام وينزّل من آياته ما يصلون به إلي هذا الأمن من المخاوف. وهذا تأكيد لهذه الحماية حيث عرفهم طريقها بقراءة المعوذتين فهما عوّذتا صاحبهما أى: عصمتاه من كل سوء «2». فما هذا السوء؟ وما المخاطر التى عرّف بها المؤمنون فى سورة الفلق، وفى

_ (1) تفسير ابن كثير 4/ 572، 573. (2) المصباح المنير 437.

سورة الناس؟ تضمنت المعوذتان التنبيه على مجموعة من المخاطر التى لا سلامة منها إلا باللجوء إلى رب الفلق وربّ الناس سبحانه وتعالى. وإذا كان الفلق هو الصبح كما يذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره «1»، ومثل ذلك قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: 96] أو كان الفلق بمعنى الخلق كما ذكر علىّ بن أبى طلحة عن ابن عباس أيضا فإنه يذكر للمؤمنين- هنا- وأمر للنبى صلّى الله عليه وسلم بأن يتعوذ بفالق الإصباح، فإنه وحده هو الذى يخرج من يقع تحت وطأة ظلمات الليل وما تصحبها من مخاوف وما يكتنفها من توقع للمخاطر، وما يحدث فيه من هجمات الهموم والأحزان، ومن هجمات اللصوص وقطاع الطرق، وما يثيره لدى ضعاف النفوس من إمكانية إيقاع الشرور فى خفاء دون أن يبصّرهم أحد. هذا الليل المشحون يمثل هذه المخاطر والتى عبر عنها شاعر جاهلى بقوله: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلى ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل إن هذا الليل بصورته هذه لا يكشفه إلا فالق الإصباح، ولا يذهب همومه ويبدّد مخاوفه، ويشيع فيه الأمن إلا اللجوء إلى فالق الإصباح سبحانه، ولا ينجّى من مخاطر الخلق وشرهم فيه وفى بقية الزمن إلا رب الخلق سبحانه. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وهذا ما يرجّح المعنيين فقد تجاور ذكر الله الاستعاذة من شر ما خلق أى: من شر جميع المخلوقات من إنس وجن وحيوانات، وما نجده من تخصيص لدى بعض العلماء، فإنما هو تركيز على ما يرونه أكثر شرّا، وأجمع خطرا فنجد ثابت البنانى والحسن البصرى يقولان: جهنم وإبليس وذريته مما خلق «1». وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) أى من شرّ الليل إذا أقبل بظلامه، قال ذلك مجاهد وحكاه البخارى. ففي هذا تحصين من الزمان وما يحدث فيه بصدق اللجوء إلى رب الفلق سبحانه، وتنبه سورة الفلق كذلك إلى مصادر أخرى للشرّ تكمن فى نفوس مريضة لم تحسن

_ (1) تفسير ابن كثير 4/ 573.

علاقتها بربها فأساءت إلى الناس، وكادت لهم وأخذت تدبر لإيقاع الأذى بهم، وتسعى جاهدة لإزالة النّعم التى يرونها على غيرهم، إنها فئة النفاثات فى العقد، وفئة الحاسدين، وبهما تشقى الأمم. فماذا يفيد السواحر من هذا الشر؟ وماذا يفيد الحسود من حسده لخلق الله. إنهما أشقى فئتين تتخصصان فى أذى الناس بلا عائد يعود عليهما اللهم إلا النار التى تحرق أكبادهم، وأما المؤمنون فلهم الله يلجئون إليه ويستعيذون به من شر النفاثات فى العقد ومن شر حاسد إذا حسد، فيبطل كيد الساحرين، ويرد بغى الحاسدين، ولا يصيبهم إلا ما كتب الله لهم. ومعنى ذلك أن المؤمنين وقت التنزيل المبارك للسورتين كانوا قد وصلوا إلى ما يسرّ من كثرة عدد وصلابة وقوة وثبات، وعليهم مع هذا أن يعرفوا أعداءهم وأساليبهم، وأنه لا عاصم لهم من شرورهم إلا الله سبحانه. سواء كانت هذه الشرور ظاهرة منهم أم خفية، وما على المؤمنين إلا أن ينتبهوا حتى لا يقعوا تحت تأثير بعض ما خفى، وهذا المعنى يتأكد كذلك فى سورة الناس حيث يقول الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6). فهذا بيان للعداوة والخطر والشر فى وسوسة الصدر من قبل شياطين الإنس والجن، قال تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] فالوسوسة فى الصدر لتحسين الشر والأمر بالسوء والفحشاء والتشكيك فى العقيدة وأن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم، والتثبيط عن الخير، من الجنّة والناس. والناس مشاهدون ويسمعون، ولكنّ وسوسة الجن تعرف بآثارها فإن وجد المرء شيئا من هذه المنهيات حديثا فى النفس للتشكيك فى الغيبيات أو للتثبيط عن الطاعات أو التزيين للشهوات والمحرمات فهذا دليل على وجود وسوسة الشيطان فى الصدر. لذلك يلجأ المؤمن مباشرة إذا وجد هذا إلى رب الناس ملك الناس إله الناس سبحانه ليحميه ولينقذه من شر الوسواس الخناس. فإذا قلنا إن الوسوسة من الجن والإنس وذكر صفات الله سبحانه وتعالى فى الآيات بأنه رب الناس وملك الناس وإله الناس فهل يدخل فى معنى الناس الجن، نقول: قد قال بهذا فعلا ابن جرير وأنهم دخلوا فى الناس تغليبا، وقد استعمل فيهم رجال من الجن، فلا بدع فى إطلاق الناس عليهم، والتفصيل قد بيّن ذلك فى قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) فصفات الله سبحانه- هنا- الربوبية والملك

والألوهية. فهو رب كل شىء ومليكه وإلهه فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة عبيد له. فما صلة الموسوسين مع من لجأ إلى الرب الملك الإله سبحانه؟ ولذلك فإن الوسواس خنّاسا إذا ذكر العبد ربه واستعان به على دفعه، خنس أي تأخر عن الوسوسة وانصرف. ففي المعوذتين ما ينبغى أن يكون عليه المؤمنون من الحذر تجاه شياطين الإنس والجن، وأن الملجأ إلى الله وحده فهو الذى ينجى من شرورهم، وهذا التنبيه القرآنىّ الكريم فى المعوّذتين يدل على الصيانة والحماية المبكرة للمؤمنين حتى يبقى نموّهم صحيحا لا تؤثر فيه العداوات المريضة فأما عداوة الجن فعداوة تاريخية تبدأ بآدم عليه السّلام وتفصّل هذه العداوة بعد ذلك يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: 27] ويقرر القرآن الكريم بعد ذلك أيضا هذه العداوة ويؤكدها حتى لا يبقى أحد من بنى آدم فى شك منها قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) [فاطر] وهذه العداوة تأخذ مظاهر شتى من الشيطان من القعود فى الصراط المستقيم لينحرف الناس عنه لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) [الأعراف] وكذلك الاحتيال للدخول إلى الإنسان من كل اتجاه وبذل كل حيلة للوقيعة بين آدم. والتعامل مع كل إنسان بما يناسبه فالعابد له أسلوبه، والزاهد له أسلوبه والعالم له أسلوبه وهكذا وغاية الشيطان من هذا واحدة وهى صرف بنى آدم عن الصراط المستقيم الذى يؤدى بهم إلى الجنة لينحرفوا إلى طريق الشيطان الذى يصل بأتباعه إلى السعير. ويبدأ فى وسوسته للإنسان بالقضية الكبرى فى حياته وهى قضية الإيمان فالإيمان يؤدى إلى الجنة «لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا» ... والكفر يؤدى إلى النار. ولذلك فإن الشيطان شديد الحرص على تزيين الكفر والتشكيك فى العقيدة ولا يمل من ذلك للوقيعة بالإنسان وإدخاله فى الإلحاد والكفر ولكن من فضل الله على المؤمنين أن يوجههم من اللحظات الأولى إلى طلب الحماية واللجوء إليه فهو الذى يعصم من هذه الوسوسة وذكره يطرد الشيطان. ولا يكون للشيطان بهذا تأثير. فإنه مع حرصه الشديد لم يجعل الله له قوة التنفيذ بل ردّ كيده إلى هذه الوسوسة وهذا التزيين فحسب. روى الإمام أحمد رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى لأحدّث نفسى بالشىء لأن أخرّ من السماء

أحب إلىّ من أن أتكلم به، قال فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «الله أكبر الله أكبر والحمد لله الذى ردّ كيده إلى الوسوسة» ورواه أبو داود والنسائى. وعلى ذلك فإن مثل هذه الوسوسة لا يخشى منه المؤمن بل تدلّ على صريح الإيمان المستهدف من الشيطان ويبقى أن يقاومه المؤمن بذكر الله تعالى والاستعاذة به فلا يضرّه الشيطان بشيء إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) [النساء] وعلى ذلك لا يعطيه المؤمن أكبر من حجمه هذا ولا ينسب إليه ما ليس له وقد صحح النبى صلّى الله عليه وسلم لرديف له قال عند تعثر الحمار: تعس الشيطان، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «لا تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال: بقوتى صرعته وإذا قلت: باسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب» تفرد به الإمام أحمد وإسناده جيد قوى وقال ابن كثير: فيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغلب وإن لم يذكر لله تعاظم وغلب. وإذا عجز الشيطان مع الإنسان فى عقبة الكفر استمرت محاولة الشيطان للوقيعة بالإنسان فى كبائر الذنوب بتصغيرها فى عينه، وبتزيين الفعل مع الأمل فى التوبة وغير ذلك من الأساليب الشيطانية، فإذا عجز زين له صغائر الذنوب ليستمرئها الإنسان ولا يستشعر خطرها، فإذا عجز زين له من المباحات ما يشغله بها شغلا كاملا عن فعل القربات والمسارعة فى الخيرات، وهكذا لا يدع له سبيلا إلا وقعد فيه، بل لم يترك كذلك ما يتعلق بالعلاقات بين الناس وما يحدثه من ظن سيئ ووقيعة حذّر منها النبى صلّى الله عليه وسلم فى توجيهه الذى رواه الشيخان فى الصحيحين عن أنس فى قصة زيارة أم المؤمنين صفية للنبى صلّى الله عليه وسلم وهو معتكف وخروجه معها ليلا لردّها إلى منزلها فلقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبى صلّى الله عليه وسلم أسرعا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «على رسلكما إنها صفية بنت حيى» فقالا: سبحان الله، يا رسول الله فقال: «إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم وإنى خشيت أن يقذف فى قلوبكما شيئا- أو قال شرا». هذا هو شر الوسواس الخناس من الجنّة- يحذّر منه المؤمنون فى مكة المكرمة، فهو الذى زين للناس اتخاذ الأصنام آلهة من دون الله، وهو الذى زين للناس تعليق حياتهم بها رغبة ورهبة، وهو الذى زين لهم شتى الضلالات ووقعوا فيها وجاء الرسول صلّى الله عليه وسلم ليخرج الناس بإذن ربه من هذه الضلالات إلى الهدى وإلى النور، ويبقى لاستقامة الناس على الهدى أن يحذّروا من معاودة التزيين الشيطانى لهم، فالزرع ينبغى أن ينمّى من جهة، وأن يحمى من العوادى من جهة أخرى وكان هذا منهج الإسلام فى بنائه

لنفوس الناس وقلوبهم. وأما الشر الذى يكمن فى وسوسة الناس بعضهم لبعض فإنه- فعلا- له تأثير شديد إذ تتغير القلوب به حبا وكرها عند ما يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ويزين بعضهم لبعض الباطل، وبه كذلك تفسد العلاقات عند ما يسعى الإنسان بالغيبة والنميمة، وعند ما يتحرك قلبه بالحسد، فيحسد المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله وعلى آثار الاستقامة فيهم، والحذر من هذا النوع واجب كذلك لاستمرار مسيرة البناء الإيمانى. بهذه المعانى نبّهتنا المعوّذتان من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات فى العقد، ومن شر حاسد إذا حسد. وكذلك من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس من الجنة والناس.

سورة «الإخلاص»

سورة «الإخلاص» تعدل ثلث القرآن كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4). والسورة الكريمة نزلت بعد عطاء قرآنى متتابع يحسم الأمر فى سورة «الكافرون» للتفريق بين عبادة الله وعبادة غيره ولا مساومة فى ذلك، وبعد التذكير بفضل الله الذى نجّى الناس من كيد أصحاب الفيل، وهو الذى ينجى وحده من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات فى العقد ومن شر حاسد إذا حسد، وهو الذى يلجأ إليه وحده، لينجى من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس من الجنّة والناس، فهو ربّهم وملكهم وإلههم- سبحانه- وتنزل السورة الكريمة لتعيد الناس إلى الصواب فى وصفهم لله سبحانه ولتنقذهم من الشرك والتوجه إلى غيره سبحانه، وتنزهه مما ادّعاه الضالون تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. فالسورة الكريمة مكية نزلت بعد سورة الناس، وهذا فى قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة وجابر. ولكن فى أحد قولى ابن عباس وقتادة والضحاك والسّدى مدنية. وجاء فى سبب نزول السورة الكريمة ما ذكره القرطبى رحمه الله ردّا على من أسقط من السورة «قل هو» وزعم أنه ليس من القرآن»، وغير لفظ «أحد» إلى «واحد» فقال: وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه، وجعل النار مقامه ومثواه، وقرأ «الله الواحد الصمد» فى الصلاة، والناس يستمعون فأسقط: «قل هو»، وزعم أنه ليس من القرآن. وغيّر لفظ «أحد» وادّعى أن هذا هو الصواب، والذى عليه الناس هو الباطل والمحال، فأبطل معنى الآية، لأن أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابا لأهل الشرك لمّا قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: صف لنا ربّك، أمن ذهب هو أم من نحاس أم من صفر؟ فقال الله عز وجل ردا عليهم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) ففي «هو» دلالة على موضع الردّ ومكان الجواب، فإذا سقط بطل معنى الآية، وصحّ الافتراء على الله عز وجل، والتكذيب لرسوله صلّى الله عليه وسلم. وروى الترمذى عن أبىّ بن كعب: أن المشركين

قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: «انسب لنا ربّك؛ فأنزل الله عز وجل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2). والصمد الذى لم يلد ولم يولد لأنه ليس شىء يولد إلا سيموت، وليس شىء يموت إلا سيورث. وأن الله تعالى لا يموت ولا يورث. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) قال: لم يكن له شبيه ولا عدل، وليس كمثله شىء. وروى عن أبى العالية: أن النبى صلّى الله عليه وسلم ذكر آلهتهم فقالوا: انسب لنا ربّك. قال: فأتاه جبريل بهذه السورة «قل هو الله أحد» فذكره نحوه، ولم يذكر فيه عن أبىّ بن كعب. وهذا أصحّ. قاله الترمذى. يقول القرطبى بعد إيراده هذا فى سبب النزول: ففي هذا الحديث إثبات لفظ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) وتفسير الصمد «1». وهذا الذى ذكر فى سبب النزول يقوي مكية السورة ويكون ما ذكر فى السورة الكريمة من تنزيه الله سبحانه عن ادعاء النصارى واليهود وغيرهم مما عرف وشاع عنهم وعن غيرهم من الضلالات فى تصورهم للألوهية وصفات الله سبحانه فقد نفى الله سبحانه فى السورة الكريمة عن نفسه أنواع الكثرة بقوله أحد، ونفى النقص والمغلوبية بلفظ الصمد (على ما سنعرف من معانى «الصمد») ونفى المعلولية والعلّيّة بلم يلد ولم يولد، ونفى الأضداد والأنداد بقول «لم يكن له كفوا أحد». ولذلك فالسورة تبسط فى مقام الرد أمام الناس جميعا ما انحرفت فيه البشرية وما وصفت به الطوائف الضالة ربّها فأبطلت السورة الكريمة مذهب الثنوية القائلين بالنور والظلمة وعرف هذا لدى الفرس وفى جنوب الجزيرة العربية الذين تبعوا الفرس فى هذا «2» وأبطلت قول النصارى فى التثليث، والصابئين فى الأفلاك والنجوم، وأبطلت السورة الكريمة قول من ادعى خالقا سوى الله سبحانه لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحقّ مصمودا إليه فى طلب جميع الحاجات. وأبطلت كذلك مذهب اليهود فى عزير والنصارى فى المسيح والمشركين فى أن الملائكة بنات الله. وأبطلت كذلك مذهب المشركين فى جعل الأصنام أكفاء لله وشركاء، سبحانه وتعالى عن قولهم وعن فعلهم «3». ومما ذكر فى سبب النزول كذلك أن عامر بن الطفيل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إلام تدعونا يا محمد؟ قال: «إلى الله عز وجل». قال: صفه لى، أمن ذهب هو، أو من فضة، أو من حديد، فنزلت هذه السورة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ذكر هذا ابن

_ (1) القرطبى 20/ 246. (2) الظلال 8/ 706. (3) التفسير الكبير للرازى 32/ 185

الجوزى رحمه الله «1» ولكن ذكره البغوى والخازن عن ابن عباس بغير سند. كما ذكر أن الذين قالوا هذا قوم من أحبار اليهود قالوا: من أى جنس هو، وممن ورث الدنيا، ولمن يورّثها؟ فنزلت هذه السورة، قاله قتادة والضحاك ولكن ما ذكره الطبرى عن قتادة مرسل «2». وما ذكره السيوطى فى الدر المنثور «3» من رواية الطبرانى فى «السنة» عن الضحاك مرسل «4» - أيضا. سورة الإخلاص- إذن- سورة مكية نزلت بعد سورة الناس؛ لترد على المنحرفين فى العقيدة انحرافهم، ولتغرس فى قلوب الناس العقيدة الصحيحة فى أسماء الله الحسنى وصفاته العلا. وسورة الإخلاص تضمنت من المعانى العظيمة التى غرستها فى وقت مبكر من الفترة المكية لإرساء دعائم العقيدة الصحيحة فى معرفة الله سبحانه وتعالى، وتنزيهه عما وقع فيه المبطلون من انحراف خطير فى الأسماء والصفات والأفعال. والسورة الكريمة على قصر آياتها الأربع جامعة لهذا الإثبات والتنزيه، وفى الوقت نفسه ميسرة فى حفظها، فالمسلم على صلة دائمة بها تدعيما لعقيدته، وردا على خصومه وخاصة بعد ما عرف من فضلها، وهذا ما حدث- فعلا- من أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم فقد ثبت فى صحيح البخارى عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه أن رجلا سمع رجلا يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) يردّدها؛ فلما أصبح جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالّها (أى يعتقد أنها قليلة فى العمل) «5»؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»، وعنه قال: قال النبى صلّى الله عليه وسلم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن فى ليلة»؟ فشق ذلك عليهم، وقالوا: أيّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: «الله الواحد الصمد ثلث القرآن» وفى شرح العينى على البخارى فى فضائل القرآن: قوله «الله الواحد الصمد»، كناية عن «قل هو الله أحد». وخرّج مسلم من حديث أبى الدرداء بمعنى الحديث السابق، وخرّج عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «احشدوا فإنى سأقرأ عليكم ثلث القرآن» فحشد من حشد (أى اجتمع من اجتمع)، ثم خرج نبى

_ (1) زاد المسير في علم التفسير 9/ 266. (2) الطبرى 30/ 343. (3) الدر المنثور 6/ 410. (4) زاد المسير 9/ 266. (5) هذا الشرح ليس فى المتن.

الله صلّى الله عليه وسلم فقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إنى أرى هذا خبرا جاءه من السماء، فذاك الذى أدخله، ثم خرج فقال: «إنى قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن» فبهذا التعليم النبوى الذى يشعر الناس بأهمية ما جمعوا له فى هذا الحشد الذى لا ينسى يستقر فى نفوس الناس المعنى العظيم الذى تتضمنه سورة الإخلاص، وذكر القرطبى فى معنى الثلث: قول بعض العلماء: إنها عدلت ثلث القرآن لأجل هذا الاسم الذى هو «الصمد»، فإنه لا يوجد فى غيرها من السور وكذلك «أحد». وقيل: إن القرآن أنزل أثلاثا، ثلثا منه أحكام، وثلثا منه وعد ووعيد، وثلثا منه أسماء وصفات، وقد جمعت «قل هو الله أحد» أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات، ودل على هذا التأويل ما فى صحيح مسلم رحمه الله من حديث أبى الدرداء رضي الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله جلّ وعزّ جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) جزءا من أجزاء القرآن» وهذا نص، وبهذا المعنى سميت سورة الإخلاص. والله أعلم. وأما تفاعل الصحابة معها وإدراكهم لمعانيها، والذى وقعهم فى حبها والإكثار منها فالشواهد عليه كثيرة، منها ما رواه مسلم رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه فى صلاتهم فيختم ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبى صلّى الله عليه وسلم فقال: «سلوه لأى شىء يصنع ذلك؟» فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أخبروه أن الله عز وجل يحبه». وروى الترمذى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم فى مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرؤها لهم فى الصلاة فقرأ بها، افتتح ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك فى كل ركعة، فكلّمه أصحابه، فقالوا: إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزيك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بسورة أخرى؟ قال: ما أنا بتاركها، وإن أحببتم أن أؤمّكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرونه أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبىّ صلّى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: «يا فلان ما يمنعك مما يأمر به أصحابك؟ وما يحملك أن تقرأ هذه السورة فى كل ركعة»؟ فقال: يا رسول الله، إنى أحبها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن حبها أدخلك الجنة»، قال: حديث حسن غريب صحيح.

فهذا الإقبال العظيم إدراك للمعانى واطمئنان بها وهذه المعانى هى: معنى الأحدية التى تخلص الإنسان من التعلق بأى شىء إلا بالأحد سبحانه، ولقد فرق أبو سليمان الخطابى بين معنى «الواحد» و «الأحد». فقال: الواحد هو المنفرد بالذات فلا يضاهيه أحد، والأحد هو المنفرد بالمعنى فلا يشاركه فيه أحد «1». ومع معنى الأحدية فالله وحده هو الذى يقصد فى جميع الحوائج، فالكل مفتقر إليه فهو السيد الذى يصمد إليه وحده فى الحوائج، وقال ابن عباس فيما رواه الطبرى: الصمد السيد الذى قد كمل فى سؤدده، والشريف الذى قد كمل فى شرفه، والعظيم الذى قد كمل فى عظمته، والحليم الذى قد كمل فى حلمه، والغنى الذى قد كمل فى غناه، والجبار الذى قد كمل فى جبروته، والعالم الذى قد كمل فى علمه، والحكيم الذى قد كمل فى حكمته، وهو الذى قد كمل فى أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفة لا تنبغى إلا له «2». ومن كماله سبحانه أنه لم يلد ولم يولد لكمال غناه، ولم يكن له كفوا أحد لا فى أسمائه ولا فى صفاته ولا فى أفعاله تبارك وتعالى.

_ (1) زاد المسير 9/ 267. (2) الطبرى 30/ 346.

سورة «النجم»

سورة «النجم» نزلت بعد سورة الإخلاص لتجلى حقيقة النبوة والرسالة ولتخلص المفاهيم من الباطل الذى شابها لدى المشركين، ولتطمئن النفوس إلى مسيرة الوحى المبارك من الله جل فى علاه إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، فالسورة مكية كلها فى قول الحسين وعكرمة وعطاء وجابر. واستثنى ابن عباس وقتادة آية منها مدنية وهى قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32). وقيل إن السورة كلها مدنية. ويقول القرطبى: والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال: هى أول سورة أعلنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة. وفى «البخارى» عن ابن عباس: أن النبى صلّى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، وعن عبد الله أن النبى صلّى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها، فما بقى أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفّا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفينى هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. متفق عليه، وهذا الرجل يقال إنه أمية بن خلف «1» وقيل: إنه عتبة بن ربيعة «2». وتبدأ سورة النجم بهذا القسم الذى يقرع الأسماع لتكون على يقين من الحقائق التى ستبسط فى السورة الكريمة والتى تتعلق بالرسول صلّى الله عليه وسلم، وما جاء به وكيف وصل إليه وحى ربه، ومكاشفة الناس بما لهم مع وحى الله وتبصيرهم بمواقف غيرهم مع وحى الله. وتأتى هذه الحقائق بعد مدة من الزمن سمع فيها الناس وحى الله، واشتد عناد المعاندين وشرح الله صدور المهتدين فأذعنوا لله مسلمين يقول الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4). فهذه هى الحقيقة الأولى التى تؤكدها السورة الكريمة أمام الناس والتى تبدأ بلفت النظر إلى النجم وهويّه، والنجم وحركته مشاهد للناس لا ينكرون فى تزيينه للسماء، ولا ينكرونه فى ضوئه ونوره، ولا ينكرون ضوء النهار فى إقباله بعد

_ (1) القرطبى 17/ 81. (2) ابن كثير 4/ 246.

سقوط النجم فى الأفق فى آخر الليل عند إدباره. والذى أبدع هذه الآيات الكونية المشاهدة هو الذى أرسل صاحبكم إليكم، وهو الذى اختاره، وهو الذى حفظه من الضلالة والغواية. وأنتم قد عايشتموه أربعين عاما قبل أن يوحى إليه وصحبتموه فيها صحبة قريبة عرفتم فيها صفاته ولقبتموه بالصادق الأمين وكلمتموه فى معضلات أموركم، وعرف فيكم بصفات الإنسان الكامل فلا يليق بعد أن جاءكم برسالة ربه إليكم أن تغالطوا أنفسكم وأن ترموه بالضلال والغواية وهذه شهادة الله فيه مصحوبة بهذا القسم الكريم ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن هوى نفسه. ولا يتبع إلا ما أوحى إليه وما تسمعونه منه فيما يخبركم به عن الله تعالى وعن شرعه فإنه من وحي الله إليه. فهذه هى المسألة الأولى والأساسية والتى يؤسس عليها الدين كله، إنها التصديق بالوحى فالذى يؤمن بالوحى يؤمن بما يتبعه. والذى يكذب بالوحى فقد هدم أساس الرسالة ولا يرجى منه بعد ذلك خير. المسألة الثانية: والتى ترتّب على التصديق بالوحى. الاطمئنان على مسيرته من الله سبحانه إلى رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم فتذكر سورة النجم فى هذه المسألة قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. فالذى يحمل إليه وحى الله وصف بالقوة، وهذا يطمئن من أن الشياطين وغيرهم لا يستطيعون سلب ما معه من علم، ولا يستطيعون التأثير عليه لتغيير ما يؤمرون به، فجبريل الأمين شديد القوى. وقد أيقن الرسول من رؤيته بحالته التى خلقه الله عليها فى أول نزول الوحى بحراء، فقد دنا منه فكان فى قربه منه قدر قوسين أو أقرب من القوسين. فليس جبريل بعيدا عنه إنه عرف صورته وعرف صوته وعرف قوته وأمانته. وما يعلمه جبريل الأمين القوى الذى لا يخون والذى لا يجرؤ عليه أحد يجد هذا العلم سبيله إلى فؤاد النبى صلّى الله عليه وسلم أى فى أهم ما يحمل الإنسان وأهم ما يميز الإنسان فى القلب، فاتفق فؤاد الرسول صلّى الله عليه وسلم ورؤيته على الوحى الذى أوحاه الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وبصره وقلبه، وهذا دليل على كمال الوحى الذى أوحاه الله إليه،

وأن مسيرة الوحى لا شك فيها ولا شبهة «1». وأنه لا يحق لأحد أن يشك فى ذلك. المسألة الثانية فى السورة الكريمة: التأكيد على طريق المعرفة الغيبية التى خص الله بها رسوله صلّى الله عليه وسلم فيما يغيب عن الناس علمه، ولا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق إخبار الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم، وقد ذكرت السورة نماذج من ذلك يتضافر فيها علم الغيب مع ما يشاهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجبريل عليه السّلام الذى رآه بالأفق الأعلى رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى. ومعرفته بما يخبره الله من الغيب يقينية كالمشاهدة تماما. فالذى يحمل الوحى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجمع بين صفتى الأمانة والقوة فهو أمين لا يخون ولا يغير ولا يبدل وقوي لا يجرؤ أحد من استلاب شىء منه عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (10) وبهذا ينتفى الشك ويتأكد الاطمئنان ويثبت اليقين. وجبريل عليه السّلام الذى رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم على صورته وسمع صوته، فى غار حراء قد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى، وهنا تعرض السورة مسألة أخرى ينبغى أن يحيط الناس علما بها وهى أن ما يتعلق بالغيب الذى لا يشاهدونه، فلا سبيل لهم إلى معرفته إلا عن طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم فالله سبحانه يطلعه على ما شاء، ويريه من آياته ما يشاء، وقد عرفوا صدقه هو- أيضا- وأمانته فينبغى أن تفتح له العقول والقلوب؛ لتستقى منه علوم الغيب التى يطلعه الله عليها ويخبره بها. وذكر المرة الثانية التى رأى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل عليه السّلام فى قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) ترجح ما ذكره جماعة من العلماء من أن الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة بأعوام لأن الآيات الكريمة- هنا- تذكر رؤية النبى صلّى الله عليه وسلم لجبريل عليه السّلام نزلة أخرى عند سدرة المنتهى أى أنه قد وقع، وتأتى سورة الإسراء بعد ذلك بعد ست وعشرين سورة كريمة لتذكرنا بالإسراء، وسورة الإسراء مكية إلا بعض الآيات وسنذكرها- إن شاء الله- فى حينها- وقد حكى القرطبى الاختلاف فى تاريخ الإسراء فقال: وقد اختلف العلماء فى ذلك- أيضا- واختلف فى ذلك على ابن

_ (1) تفسير السعدى 7/ 205.

شهاب؛ فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسرى به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبى صلّى الله عليه وسلم بسبعة أعوام. وروى عنه الوقّاحيّ قال: أسرى به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرّمت الخمر بعد أحد. وقال ابن إسحاق: أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة فى القبائل، وروى عنه يونس بن بكير قال: صلّت خديجة مع النبى صلّى الله عليه وسلم «1». وقول يونس بن بكير هذا عن قول ابن إسحاق: ثم إن جبريل عليه السّلام أتى النبى صلّى الله عليه وسلم حين فرضت عليه الصلاة يعنى فى الإسراء فهمز له بعقبه فى ناحية وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلى ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء «2». قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بثلاث وقيل بأربع، وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدم. وقال الحربى: أسرى به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخرة قبل الهجرة بسنة، وقال أبو بكر: محمد بن على بن القاسم الذهبى فى تاريخه: أسرى به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبى، ولم يسند قوله إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم «3». وعلى كل حال فإن ذكر رؤية الرسول صلّى الله عليه وسلم لجبريل نزلة أخرى عند سدرة المنتهى تدل على أن الإسراء والمعراج كان قد تم قبل نزول سورة النجم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وارتباط المعراج بالإسراء جلىّ فيما ساقه الأئمة من أحاديث صحيحة «4».

_ (1) القرطبى 10/ 210. (2) المرجع السابق 10/ 210، 211. (3) المرجع السابق 10/ 210. (4) انظر: صحيح مسلم 1/ 99 - 104.

لقد عرضت سورة النجم مسائل أساسية لا بدّ منها فى مخاطبة المدعوين: منها الاطمئنان إلى أساس الدين كله والتمثل فى الوحى، والاطمئنان على مسيرة الوحى إلى النبى صلّى الله عليه وسلم وتزكية النبى صلّى الله عليه وسلم وأنه الأمين فى تبليغ الناس وتعريفهم بحقائق الغيب التى يطلعه الله عليها ويأمره بتبليغها. وإذا تم هذا البسط تخاطب السورة الكريمة الناس فيما وقعوا فيه من ضلال نتيجة عدم الإقبال على وحى الله، وأخذ المعرفة الصحيحة عنه وتصحيح المفاهيم منه، والتحرر من الظن وما تهواه الأنفس مما يخالف الحق فيقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى. ثم تعرض السورة الكريمة لمسألة نفسية عظيمة تحسم للإنسان تطلعاته التى تتبعه أحيانا لتربط هذه التطلعات بقضاء الله وقدره وأن مشيئة الإنسان ورغباته لا سبيل إلى تحقيقها إلا بمشيئة الخالق جل جلاله. فلتكن الأمنيات- إذن- كريمة، ولتكن التطلعات صالحة، وليكن هوى الإنسان على ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم. هذا يخاطب به الإنسان فى حدود أمانيه، وقدراته، ويخاطب به كذلك فى حدود محاولة الإنسان التعلق بغيره لتحقيق رغباته يقول الله تعالى: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26). وتكاشف السورة الكريمة الناس بجرأتهم على عالم الغيب والقول فيه بالظن، والظن لا يغنى فى هذا المجال شيئا. بل سبيله- كما ذكرنا- الوحى وحده، والإخبار الذى يأتيهم عن طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحده يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28). فكيف يعتقد هؤلاء المشركون أن الملائكة إناث ويزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عن قولهم هذا. فمن الذى أخبرهم بهذا؟ وهل شهدوا خلق الملائكة. إنها قضية لا تقتصر على تسمية الملائكة، ولا تقتصر على وصف الله سبحانه بما لا يليق بجلاله، وإنما القضية فى منهجهم الخاطئ فى اقتحام عالم الغيب، والخوض فيه بغير علم والسير فيه بالظن والظن لا يغنى من الحق شيئا. وماذا يصنع الرسول صلّى الله عليه وسلم مع هؤلاء المتبعين لأهوائهم، والذين فسدت مناهجهم وتولوا وأعرضوا عن الوحى وتعلقوا بدنياهم وساروا على ظنهم؟!!. إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحزنه هذا؛ لأنه حريص على

هداية الناس، وإنقاذهم من ضلالهم وحريص على نجاتهم، ولتخفيف هذه المعاناة وهذا الحزن تأتى المعالجة الكريمة والخطاب الرحيم والرفيق بالنبى صلّى الله عليه وسلم ومن اقتدى به فى دعوته فى قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30). ولتطمئن قلوب المستجيبين لوحى الله وأن استجابتهم لها جزاؤها عند الله، وليعان هؤلاء المعرضون على التخلص من إعراضهم والتفكير للخروج من حالهم يأتى قول الحق تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) والآية التى تلا هذه الآية مدنية. وترتيبها في السورة الكريمة فى بيان وصف هؤلاء الذين أحسنوا. إنهم استقاموا بحسن استجابتهم، وسلم سلوكهم فاجتنبوا كبائر الذنوب ونالوا فضل الله فى جبر ضعفهم لما يقع منهم من اللمم قال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32). وبعد هذه الآية المدنية تأتى بقية الآيات المكية لتخاطب الرسول صلّى الله عليه وسلم فى أمر المعرضين ولتبين لهم أنواعا من علم الغيب منه ما يتعلق بغيب مضى وانكشف وفيه العبرة، ومنه ما يتعلق بغيب يرون آثاره فى سنن الله الكونية والاجتماعية والنفسية، ومنه ما يتعلق بالمستقبل الذى هم إليه صائرون. قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ» (58). وبعد هذا البسط القرآنىّ الكريم لهذه الحقائق تختم السورة الكريمة بتساؤل عن طريقة استقبالهم لهذا الحديث، وغفلتهم عنه وما ينبغى أن يكون: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62).

سورة «عبس»

سورة «عبس» وبعد أن تعرفنا على مجموعة المسائل التى عرضتها سورة النجم؛ ومنها ما يتعلق بالوحى وتنزيه النبى صلّى الله عليه وسلم عن الضلال، والاطمئنان على مسيرة الوحى من الله سبحانه إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم، وأن طريق المعرفة اليقينية بعلم الغيب هو ما يخبر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ربه، وتعرفنا على حال الناس مع وحى الله بين مستجيب ومعرض ووصف المستجيبين والمعرضين تثبيتا لمن استجاب وتوجيها وتحريكا لمن أعرض حتى يفكر فى أمر نفسه ونجاتها لعله أن يهتدى. والإعانة على ذلك بتقديم مجموعة من آيات الله سبحانه فى الكون وفى النفس وفى سننه مع خلقه وفى المعاش والمعاد. تستمر سورة «عبس» فى مخاطبة المستجيبين والمعرضين لتربية الفرد والجماعة، ولإرساء قيم الإسلام فى حياة الناس وسلوكهم. فهى مكية فى قول الجميع، ونزلت بعد سورة «النجم» واسمها من أول كلمة فيها تحكى حدثا ملفتا فمن الذى «عبس» أى قبض وجهه تكرها- كما يقول الطبرى «1»؟ إنه صاحب الخلق العظيم والذى عرف بالرحمة واللين. ولذلك فإن السورة الكريمة تثير الانتباه، وتربى بموقف من مواقف الدعوة يتعرض لقيم عاش عليها الناس قبل الإسلام، وتحكمت في حياتهم وأوقعتهم فى كثير من المظالم، فليكن هذا التوجيه بارزا بهذا الموقف، وليكن الطرف الأهم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم والطرف الثانى رجل من أتباعه أسلم وحسن إسلامه وذاق حلاوة النقلة إلى وحى الله والعيش فى ظل طاعته، وطلب المزيد مما يزكى قلبه فجاء يسعى وهو يخشى يطلب الذكرى كشأن من ذاق حلاوة الإيمان من المؤمنين فقد سارت الدعوة وجرت فى دمائهم وصارت حلاوة الإيمان فوق ما يواجهون به من تحديات. وجاء وصف هذا الطرف الثانى للموقف بأنه أعمى. وهذا الوصف يفيد فائدتين: الأولى: التنبيه إلى القيمة الاجتماعية التى تكون لمثله فى مجتمع ما قبل الإسلام وقيمه. الفائدة الثانية: بيان ما يمكن أن يكون من نتائج العلاقة بين «عبس» و «الأعمى» فإن الذى لا يرى لن يكون تأثيره بقبض الوجه تكرها كتأثير غيره.

_ (1) تفسير الطبرى 30/ 50.

أما الطرف الثالث فى هذا الموقف فيتمثل فى جماعة من المعرضين عن وحى الله جاء وصفهم بالاستغناء وسواء كان هذا الاستغناء بالثروة والمال، أو الاستغناء عن وحى الله وتوجيهاته والإصرار على ما هم عليه من جاهلية، فإن النتيجة واحدة فى انشغالهم وإعراضهم عن وحى الله ودعوة رسوله صلّى الله عليه وسلم. أحببت أن أقدم لأطراف الموقف التربوى هذا قبل أن أذكر الموقف بأحداثه لأبرز المعنى الذى قد يغطّى عليه فى غمرة ما قيل من أن الموقف عتاب للنبى صلّى الله عليه وسلم، وهو أن الموقف يعلى من قيمة جديدة جاء بها الإسلام فى علاقة العبد بربه سبحانه وفى علاقة الناس ببعضهم فيكون قدر الإنسان فى إيمانه وتقواه. ويبطل الموقف قيمة جاهلية فى وزن الناس بمقدار ما يملكون من مال وما ينتمون إليه من عصبية وهذه القيمة الجاهلية وقفت عقبة أمام الكثير منهم، وحرمتهم من الدخول في دين الله والنجاة به خشية أن يكون بجوار مثل هذا الأعمى فضلا عن أنها أفسدت علاقة الناس ببعضهم، وما تبع هذا الفساد من مظالم شتى ولما كان هذا متحكما فى الناس لم يكن تغييره يسيرا. بل احتاج إلى توجيهات متعددة وبأساليب متنوعة وبتطبيقات عملية من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذين معه- كما سنرى بعد قليل- ومنها هذا الموقف التربوى فى قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16). قال المفسرون: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن أمّ مكتوم- وأمّ مكتوم أمّ أبيه، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهرى من بني عامر بن لؤى- وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل ابن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم، فقال للنبى صلّى الله عليه وسلم: أقرئنى وعلمنى مما علمك الله، وكرر ذلك، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه فنزلت هذه الآيات، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبنى فيه ربى» ويقول: «هل لك من حاجة»، واستخلفه على المدينة بعد ذلك مرتين «1» فى غزوتين غزاهما. قال أنس: فرأيته يوم القادسية

_ (1) انظر: تفسير الرازى 31/ 54، والقرطبى 19/ 211 وما بعدها، وزاد المسير 9/ 26، والطبرى 30/ 50، 51، وابن كثير 4/ 470، وفتح القدير 5/ 382، 383.

راكبا وعليه درع ومعه راية سوداء. وبعد أن تناولنا أطراف الموقف التربوى فى سبب نزول الآيات الكريمة من سورة عبس، والذى يعالج عقبة من العقبات التى وقفت فى وجه الدعوة من ناحية، وأفسدت علاقات الناس بعضهم ببعض من ناحية أخرى. نذكر أنه قد نبه كثير من العلماء الذين فسروا هذه السورة الكريمة إلى هذا الموقف التربوى وأدركوا هذه القيمة التى ترسيها سورة عبس بهذا الموقف، فمما يذكره القرطبى فى هذا إبراز الحالة التى كان عليها الموقف من إقبال ابن أم مكتوم، والنبى صلّى الله عليه وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الله تعالى، وقد قوى طمعه فى إسلامهم، وكان إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم فجاء ابن أمّ مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله علمنى مما علمك الله، وجعل يناديه ويكثر النداء ولا يدرى أنه مشتغل بغيره حتى ظهرت الكراهة فى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقطعه كلامه «1». كما يذكر القرطبى من قول العلماء فى ذلك أن الله تبارك وتعالى عاتب رسوله صلّى الله عليه وسلم حتى لا تنكسر قلوب الفقراء وليعلم الناس أن المؤمن الفقير خير من الغنى الذى أعرض، وكان النظر إلى المؤمن أولى- وإن كان فقيرا- من النظر إلى غيره من الأغنياء طمعا فى إيمانهم، وإن كان ذلك- أيضا- نوعا من المصلحة «2». وكل هذا يبرز لنا حرص الرسول صلّى الله عليه وسلم على هداية الناس وخاصة من كان بعيدا، وأما من آمن فإن الوقت متّسع له وكان منّ الله عليه بالإسلام. ويذكر القرطبى كذلك ما جاء نظير هذه الآية فى العتاب من قوله تعالى فى سورة الأنعام: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52] وكذلك قوله تعالى فى سورة الكهف: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 28] «3» وهذا تأكيد لإبراز هذين النوعين من الناس وأن النوع الأعلى هو المؤمن مع فقره. فالميزان الجديد والمقياس الصحيح الذى يقاس به الإنسان فى حكم الإسلام ما يتمتع به من إيمان وتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وأما ابتدعه الناس من مقاييس يتفاخرون بها ويعلو بعضهم على بعض من مال وعصبية فلا وزن لها عند الله وبهذا تسعد البشرية. وأما صاحب التفسير الكبير فيثير مجموعة من التساؤلات ليؤكد- أيضا- هذا المعنى

_ (1) القرطبى 19/ 212. (2) المرجع السابق 19/ 212، 213. (3) المرجع السابق 19/ 214.

التربوى، فمما ذكره فى ذلك: أن يقال- مثلا-: إن ابن أمّ مكتوم رضي الله عنه كان يستحق الزجر فكيف عاتب الله رسوله على أن عبس فى وجهه؟ وأما استحقاق الزجر فلوجوه أحدها: أنه وإن كان لفقد بصره لا يرى القوم لكنه لصحة سمعه كان يسمع مخاطبة الرسول صلّى الله عليه وسلم أولئك الكفار، وكان يسمع أصواتهم أيضا، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمام النبى صلّى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلام النبى صلّى الله عليه وسلم وإلقاء غرض نفسه فى البين قبل تمام غرض النبى صلّى الله عليه وسلم إيذاء. ثانيا: أن الأهم مقدم على المهم، وهو كان قد أسلم وتعلم ما كان يحتاج إليه من أمر الدين، أما أولئك الكفار فما كانوا قد أسلموا وإسلامهم سبب لإسلام جمع عظيم، فإلقاء ابن أم مكتوم ذلك الكلام فى البين كالسبب فى قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل. ومما أجاب به عن هذا التساؤل: أن الأمر وإن كان على ما ذكرتم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وانكسار قلوب الفقراء؛ ولهذا كانت المعاتبة ونظيره قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52]. ومن هذه التساؤلات: أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذونا فى أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة، وأنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء، وكيف لا يكون كذلك وهو- عليه الصلاة والسلام- إنما بعث ليؤدبهم وليعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان ذلك التعبيس داخلا فى إذن الله تعالى إياه فى تأديب أصحابه، وإذا كان ذلك مأذونا فيه، فكيف وقعت المعاتبة عليه؟ ويجيب عن هذا التساؤل أنه صلّى الله عليه وسلم كان مأذونا فى تأديب أصحابه لكن هاهنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء، وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة «1». بهذا يتضح وضوح فكرة إعلاء القيمة الجديدة فى النظرة إلى الإنسان، ووزنه على أساس سليم عادل يقدر فيه الإنسان بما يقدمه نفسه من تقوى، وهذا الأساس يتساوى فيه الناس جميعا ويكون فيه المجال للتسابق الذى يسعد البشرية، كما يتضح إهدار الأسس الظالمة فى تقويم الإنسان بما لا حيلة له فيه من عصبية أو ذرية أو مال أو غيره من مقاييس تثير العداوة والبغضاء بين الناس.

_ (1) تفسير الرازى 31/ 54، 55.

فكان الموقف الذى عالجته سورة عبس فى آياتها الأولى فى وضوح لدى المؤمنين ولدى المعرضين فهذا الموقف الاجتماعى يخص الفريقين. وظل هذا الغرس للقيمة الجديدة يجد غذاءه فى الآيات القرآنية الكريمة بعد ذلك، وفى توجيهات الرسول صلّى الله عليه وسلم وفى الممارسات العملية التى نتناول بعضا منها إن شاء الله. ومما تضمنته سورة «عبس» من الجوانب التربوية والمعانى الكريمة إبراز الجانب التربوى فى موقف الرسول صلّى الله عليه وسلم من ابن أم مكتوم رضي الله عنه أثناء دعوة جماعة من المشركين وهذا الجانب التربوى الذى أبرزه المفسرون فى تناولهم للسورة الكريمة والذى ركزنا عليه حتى لا يغيب فى جوّ العتاب والتربية الجديدة فى الموقف والتى تعلى الإنسان بتقواه وليس بماله وجاهه وعصبيته. ظل هذا المعنى مرعيا فيما يتنزل من قرآن كريم وما يقدمه الرسول الكريم من توجيهاته ومواقفه العملية التى يذيب فيها ما اعتاده الناس من قيم جاهلية؛ فساوى صلّى الله عليه وسلم بين أصحابه ولم يقدم أحدا إلا بالمقياس الجديد. فآخى بين المهاجرين والأنصار عند ما قدم المدينة فجعل عمه حمزة ومولاه زيد بن حارثة رضي الله عنهما أخوين، وجعل خالد بن رويحة الخثعمى وبلال بن رباح أخوين. وزوّج صلّى الله عليه وسلم بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية لمولاه زيد بن حارثة. كما بعث زيد بن حارثة أميرا في غزوة مؤتة وجعله الأمير الأول ويليه فى الإمارة جعفر بن أبى طالب، ثم عبد الله بن رواحة الأنصارى، على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار فيهم خالد بن الوليد رضي الله عنهما. وفى آخر العمر المبارك للنبى صلّى الله عليه وسلم أمّر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم يضم عددا كبيرا من المهاجرين والأنصار فيهم وزيراه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وفيهم سعد بن أبى وقاص وله قرابته وسبقه إلى الإسلام رضي الله عنه. ولما طعن بعض الناس فى إمارة أسامة لحداثته كان جواب النبى صلّى الله عليه وسلم فيما حكاه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بقوله: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعثا أمّر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنهما فطعن بعض الناس فى إمارته، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: إن تطعنوا فى إمارته فقد كنتم تطعنون فى إمارة أبيه من قبل. وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلىّ. وإن هذا لمن أحب الناس إلىّ» «1». وهو الذى قال عن سلمان الفارسى: «سلمان منا أهل البيت» «2» تحطيما للعصبية

_ (1) أخرجه الشيخان والترمذى، وانظر: الظلال 8/ 462 وما بعدها. (2) أخرجه الطبرانى والحاكم.

والقومية الضيقة ودخولا فى رحابة الإسلام وقيمه. ولما وقع بين أبى ذر الغفارى وبلال بن رباح رضي الله عنهما ما جعل لسان أبى ذر يخاطب بلالا بقوله: «يا بن السوداء» غضب لذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال: «يا أبا ذر طفّ الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل» «1» وتكون استجابة أبى ذر تكفير لهذه الفلتة أن يضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال. وكان صلّى الله عليه وسلم يقول عن عمار بن ياسر- وقد استأذن عليه- «ائذنوا له، مرحبا بالطيب المطيب» «2». وأما جليبيب وهو رجل من الموالى رضي الله عنه فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار فلما تأبى أبواها قالت هى: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان رضيه لكم فأنكحوه فرضيا وزوجاها «3». وقد افتقده رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الوقعة التى استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه. فعن أبى برزة الأسلمى رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى مغزى له فأفاء الله عليه. فقال لأصحابه: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم فلانا وفلانا وفلانا. ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟»، فقالوا: لا. قال: «لكنى أفقد جليبيبا» فطلبوه فوجدوه إلى جنب سيفه قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبىّ، صلّى الله عليه وسلم فوقف عليه، ثم قال: «قتل سبعة ثم قتلوه هذا منى وأنا منه». ثم وضعه على ساعديه، ليس له سرير إلا ساعدا النبى صلّى الله عليه وسلم- قال: فحفر له، ووضع قبره ولم يذكر غسلا. أخرجه مسلم. وقد أثمرت هذه التربية فى أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم الذين استجابوا لوحى ربهم، وعلى سبيل المثال فأبو بكر خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحفظ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أراده فى أمر أسامة فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة، هو إنفاذه بعث أسامة على رأس الجيش الذى أعده رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة فى مشهد عجيب، أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل يمشى. فيستحى أسامة أن يركب وهو الفتى وأبو بكر يمشى وهو الخليفة والشيخ: فيقول: يا خليفة رسول الله لتركبنّ أو لأنزلنّ، فيقسم الخليفة، والله لا تنزل. وو الله لا أركب. وما علىّ أن أغبّر قدمىّ فى سبيل الله ساعة.

_ (1) أخرجه ابن المبارك فى البر والصلة. (2) أخرجه الترمذى. (3) مسند أحمد عن أنس.

ولما أراد أن يبقى عمر ليساعده فى شئون الأمة يقول الخليفة لأسامة قائد الجيش وعمر أحد جنوده: إن رأيت أن تعيننى بعمر فافعل رضي الله عنهم أجمعين. كان التعليم بالموقف مبكرا وكان التوجيه القولى والعملى مستمرا. ومما تضمنته سورة عبس من المعانى الكريمة بعد الموقف التربوى التعليمى فى إعلاء الرجل الأعمى بتقواه وخفض وجهاء القوم باستغنائهم وإعراضهم- يأتى التوجيه بأن هذا الموقف وهذه الآيات وهذا القرآن الكريم تذكرة موجهة إلى الجميع فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) وأقبل عليه واستجاب له إنه فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16). وبعد هذا العرض يأتى قوله تعالى فى بيان نوعية من الناس تحرم من الخير بعد أن يصل إليها وتنقلب على عقبها فقال تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) أى لعن وعذّب هذا الإنسان الكافر. روى الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت فى عتبة بن أبى لهب وكان قد آمن، فلما نزلت «والنجم» ارتدّ، وقال: آمنت بالقرآن كلّه إلا النجم، فأنزل الله جل ثناؤه فيه «قتل الإنسان» أى لعن عتبة حيث كفر بالقرآن، ودعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «اللهم ابعث عليه كلبك يأكله» فخرج من فوره بتجارة إلى الشام فلما انتهى إلى الغاضرة تذكر دعاء النبى صلّى الله عليه وسلم، فجعل لمن معه ألف دينار إن هو أصبح حيا، فجعلوه فى وسط الرّفقة، وجعلوا المتاع حوله، فبينما هم على ذلك أقبل الأسد، فلما دنا من الرجال وثب، فإذا هو فوقه فمزقه، وقد كان أبوه ندبه وبكى وقال: ما قال محمد شيئا قط إلا كان. وهذا الفريق الكافر المعاند بكبره ... ألا ينظر إلى خلقه حتى يستحيى ولا يتكبر إنه خلق من ماء مهين، وفى مكان ضيق، ويسره الله للخروج إلى الحياة ثم أماته وأدخله القبر والإنسان يشاهد كل هذا فلا ينبغى أن يكذب بما يعده من نشور. وإن دخله شك واستبعاد فلينظر إلى من حفظ له حياته ونماءه بعد أن أخرجه من بطن أمه إنه هو الذى أمده بالطعام فلينظر إلى مظاهر قدرة الله فى هذا الطعام، وأن الذى أحيا الأرض وأخرج الطعام لكم ولأنعامكم هو الذى سيحييكم فلا مجال للكبر ولا مجال للتفاخر، ولا ينبغى أن يكون الكبر بالمال والعصبية عائقا عن الهداية فإن هذه المظاهر لا

تغنى عن الإنسان من الله شيئا يوم يكون لكل امرئ ما شغله بنفسه عن أقرب الناس إليه قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37). ويجد الناس أنفسهم فى هذا اليوم فريقين أيضا فكما كانوا بين مؤمن مستجيب لأمر الله ورسوله، ومعرض معاند سيكونون يوم القيامة بين ناجين فائزين. وخائبين خاسرين هالكين، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42). نسأل الله العافية.

سورة «القدر»

سورة «القدر» وبعد هذا البيان فى سورة عبس والذى تضمن وصف الذكر الحكيم الذى فيه هداية الناس، وأن من شاء ذكره فى صحف مكرمة بأيدى سفرة كرام بررة. يأتى مزيد من البيان للناس فى جلالة القرآن عند الله تعالى، وقدر الزمن الذى شرف بنزول القرآن فيه فى سورة القدر التى نزلت بعد سورة عبس: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5). فسورة القدر سورة مكية كما روى ذلك أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الماوردى: إنه قول الأكثرين كما ذكر ابن الجوزى رحمه الله. وهو الصواب أى أن سورة القدر نزلت بعد سورة عبس. وأما الضحاك ومقاتل فيقولان: إنها مدنية، وذكر الواقدى أنها أول سورة نزلت بالمدينة، وقال الثعلبى: إنه قول الأكثرين «1» ولكنّ الأرجح هو القول الأول وهذا- أيضا- ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة، وتبين للناس قدر ما نزل إليهم فهو كما وصف فى السورة التى سبقت فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة، إنه كتاب ذو قدر أنزل على رسول ذى قدر، على أمة ذات قدر فى ليلة مباركة ذات قدر ينزل فيها ملائكة ذوو قدر «2». هذا على معنى أن القدر يعنى العظمة، قال ذلك الزهرى ويشهد له قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91] وما قيل فى معنى القدر من المعانى الأخرى فإنه لا يخرج عن دائرة العظمة والشرف فقد قيل: إنه من الضيق ويفسر الضيق- هنا- بأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة الذين ينزلون، قاله الخليل بن أحمد، وهذا- أيضا- دليل احتفاء بهذه الليلة العظيمة ويشهد له قوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق: 7]. وقيل: إن القدر بمعنى الحكم قاله مجاهد وسميت بذلك لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره «3». وقيل: لأن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر، قاله أبو بكر الوراق. فكما نرى أن المعانى كلها تؤكد فيها معنى العظمة والشرف والقدر لأن القرآن

_ (1) انظر: زاد المسير 9/ 181، والقرطبى 20/ 129. (2) القرطبى 20/ 131. (3) القرطبى 20/ 131، وزاد المسير 9/ 182.

القرآن الكريم أنزل فيها أى أنزل إلى السماء الدنيا جملة ليلة القدر، ثم إلى الأرض نجوما كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وكان ابتداء إنزاله- كما قال الشعبى- ليلة القدر. ثم تتابع نزوله بعد ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم منجما على ثلاثة عشر عاما تقريبا. وهذا الوصف لهذه الليلة بالقدر، وأنها المباركة من الشهر الكريم المبارك شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185] يثير انتباه الناس إلى حقيقة ما هم فيه، ولكى يدركوا حق هذا القدر عليهم أن ينظروا نظرة سريعة إلى صفحة الحياة قبل ليلة القدر، وصفحة الحياة بعدها ليقفوا على شرف ما وصلت إليه الحياة، وعلى النقلة الكبيرة التى حدثت لهم من صورة مظلمة قاتمة قبل ليلة القدر لا تبصر فيها إلا الضلال المبين فى العقيدة، والتصورات للإنسان وللكون وللحياة، وفى النفس، وفى العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى صورة مشرقة منيرة عرف الإنسان فيها ربه، واقتدى بنبيه صار فى السراء شاكرا وفى الضراء صابرا وصار للحياة متفائلا مؤملا فى رحمة الله الواسعة، صار ذا قلب تقى نقى ونفس مطمئنة يعرف حق الله فيؤديه، وحق إخوانه فيفى به، يرعى من يعول ويحسن إلى الآخرين بل ويعفو عن المسيء ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. إنها صورة ترى فيها ملامح الحياة الطيبة العزيزة التى تليق بالإنسان وكرامته إذا أمعن الإنسان النظر فى الصورتين؛ صورة الجاهلية بظلماتها وضلالها وخمول الذكر فيها، وصورة ما بعد ليلة القدر التى عاش الناس فيها بالإسلام وهديه ونوره والحق الذى جاء به يدرك قيمة ليلة القدر. وزاد الله هذه الأمة خيرا بليلة القدر ونبههم إليه بقوله الكريم وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فجعل الله قيامها والعمل فيها خيرا من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر. وهذا قول قتادة واختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج «1» وهذا جبر لهذه الأمة التى تطمح فى الخير الكثير وعمرها دون طموحها، قال مالك فى الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت من أثق به يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرى أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم فى طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر «2».

_ (1) زاد المسير 9/ 191. (2) القرطبى 20/ 133.

ومن فضل الله تعالى أن جعلها باقية فى زمن النبى صلّى الله عليه وسلم وبعده «1» ولكى يحرص المسلمون على اغتنام فضلها مع مزيد من القربات التى تنمى الإيمان وتصلح القلوب جعلها محلا لتحرى المؤمنين فى شهر رمضان، وفى العشر الأواخر منه وخاصة فى ليالى الوتر منها. روى البخارى فى صحيحه من حديث ابن عباس عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «التمسوها فى العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر، فى تاسعة تبقى، فى سابعة تبقى، فى خامسة تبقى» «2» قال ابن كثير بعد ما ذكر حديث البخارى هذا: فسره كثيرون بليالى الأوتار، وهو أظهر وأشهر. وذكر ابن الجوزى الحكمة فى إخفائها فقال: ليتحقق اجتهاد العباد فى ليالى رمضان طمعا منهم فى إدراكها، كما أخفى ساعة الجمعة، وساعة الليل، واسمه الأعظم، والصلاة الوسطى، والولىّ فى الناس «3». هذه هى ليلة القدر التى جاء التنويه بفضلها فى سورة القدر والتى جاء فى الاحتفاء بها أيضا قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5).

_ (1) زاد المسير 9/ 191. (2) صحيح البخارى 4/ 226. (3) زاد المسير 9/ 189، 190.

سورة «الشمس»

سورة «الشمس» وهى مكية بلا خلاف نزلت بعد سورة القدر، لتفتح النفوس على ما يزكيها، فتبدأ السورة الكريمة بالقسم، والقسم- هنا بآيات كونية باهرة لها صلة وثيقة بما تضمنته السورة من مسألة جديرة بالعناية والاهتمام، إنها مسألة تزكية النفس التى تقترن بفلاح صاحبها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) فالفلاح والخيبة مرتبطان بتزكية النفس ودسّها والنجاة من دسها وسبيل تزكيتها فى وحى الله الذى جاء ذكره ووصفه فى السور القريبة السابقة فى سورة النجم وفى سورة عبس وفى سورة القدر ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بما جاء به من عند ربه يقوم بهذه التزكية: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) [آل عمران]. وإذا كانت الشمس فى ضوئها وإشراقها يتلوها قمر له ضياؤه ونوره، ويجليها نهار، ويغشاها ليل فيذهب بضوئها، فإنها آيات باهرة تغمر الإنسان وتحيط به وينعم بها وتورث فى نفس المتأمل لها الحبّ لبارئها والخشية منه وفى الوقت نفسه تنبه له أن نفسه يعتورها من الحالات ما تكون معها نفسها زكية، وما تكون معها نفسا خبيثة فليتعرف على طريق التزكية، ومنها: الإقبال على آيات الله القرآنية ليعمل بها ويزكى بها نفسه، وعلى آيات الله الكونية فيتأملها ومنها: مع الآيات السابقة السماء والأرض وآيات القدرة فيها من البناء والبسط، وليستعين بالله فى ذلك على تزكية نفسه كما كان يقول رسول الله فى دعائه: «اللهم آت نفسى تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» يقول الله تعالى فى بيان ذلك: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10). وفى هذا بيان مبكر أيضا للإنسان بمسئوليته عن نفسه، وأنها مهيأة للطريقين ومن فضل الله على الإنسان أن يسر له سبل التزكية وأعان من سلكها، فالنفس خلقت فى

البداية سويّة قال ابن كثير رحمه الله فى قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) أى خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهمة بهمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» أخرجاه من رواية أبى هريرة، وفى صحيح مسلم من رواية عياض بن حمار المجاشعى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» «1» ولكى يعينهم الله على شياطينهم أرسل إليهم رسولا كريما يتلو عليهم آياته ويزكيهم وأرشدهم الله وبين لهم الخير والشر ورغبهم فى الخير وأثابهم عليه وحذرهم من الشر، وعاقبهم عليه. ومن بين هذه المحاذير التى تعين على سبيل التزكية وتبعد عن طريق الفجور والمعصية أن يقدم الذكر الحكيم، وفى هذه السورة تجارب السابقين، وما صنعوا، ومن هذه التجارب إهمال الناس للعابثين والمفسدين حتى يجر عليهم هؤلاء العابثون الويل والدمار والخراب وهذا المعنى يذكر فى هذا الوقت لينبه إلى الزعامات الضالة التى تولت الصدّ عن سبيل الله، وتعذيب المؤمنين والجرأة على أموالهم وأعراضهم ونفوسهم كنموذج الذى تولى فى سورة النجم ونموذج من استغنى فى سورة عبس. وكيف أن هؤلاء يكونون مصدر بلاء وخطر شديد على أقوامهم يقول الله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15). فثمود كذبت رسولها بطغيانها وتكبرها وعتوها. ولم يعبئوا بقوله وتحذيره، وتجرءوا على مخالفة أمره، وانتدبوا لهذه الجرأة عزيزا فيهم فعقر الناقة، فأطبق عليهم العذاب. يقول ابن كثير رحمه الله فى قوله تعالى: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) أى أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف عاقر الناقة وهو أحيمر ثمود وهو الذى قال الله تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) [القمر] الآية وكان هذا الرجل عزيزا فيهم شريفا فى قومه نسيبا رئيسا مطاعا كما قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا هشام عن أبيه عبد الله بن زمعة قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذى عقرها فقال: «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) انبعث لها رجل عارم عزيز منيع فى رهطه مثل أبى زمعة» ورواه البخارى فى التفسير ومسلم فى صفة النار والترمذى والنسائى فى التفسير من سننهما وكذا ابن جرير وابن أبى حاتم «2».

_ (1) ابن كثير 4/ 515، 516. (2) ابن كثير 4/ 517.

سورة «البروج»

سورة «البروج» وهى مكية كلها بالإجماع ونزلت بعد سورة «الشمس» وقد عالجت سورة الشمس- كما مر بنا- مسألة تزكية النفوس قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كما نبهت إلى خطورة الطغيان وشؤم الطاغية على قومه حيث يعرّضون جميعا للهلاك، ويستمر فى مسيرة الدعوة وجود النوعين من الناس من استجاب لوحى ربه وزكى نفسه، ومن دساها وأعرض عن ذكر ربّه، والمرء عند ما ينصرف عن خير دعى إليه، فذلك حرمان له يصيبه، وعند ما يعرض عن إنذار له من شر يقيم عليه فإن الشر سيهلكه، وذلك الإعراض الذى يخصه يدل على قصور فيه، وجهل يعميه عن التمييز بين الحق والباطل، الخير والشر، ولكن يبقى ذلك فى دائرته، أما أن تجد المدعو لا يكتفى بهذا الإعراض، وتمتد يده الآثمة لتؤذى الداعى، فإن ذلك يدل على حماقة بالغة، ونفسية خبيثة، وحقد دفين، وأثره مفرطة، فقد يكون فى الدعوة خير للآخرين، وحماية لهم من مظالم هذا الحاقد الخبيث. وتزداد درجة الحماقة والحقد والحسد فيه عند ما نجده لا يكتفى بإيذاء الداعى، وإنما يغيظه أن يرى إنسانا آخر فى مجتمعه فتح عينيه وأعمل عقله، وأصغى بقلبه واستجاب بجوارحه للدعوة التى رفضها هذا الحاسد الحاقد، فتمتد يده بالأذى لمن آمن واستجاب، وأقام من نفسه قيما على عقول الناس وتفكيرهم فلا ينبغى أن يروا إلا ما يرى، وينبغى أن يكونوا تبعا له فى جهالته. وبمثل هؤلاء تعوّق الأمم، وتشغل بسفاهتهم، وكل هذا وقع مع الداعى الكريم والناصح الأمين رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم ومع أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم على اختلاف فى درجاتهم من حيث الانتماء إلى قوة عصبية تدفع عنهم بعض الأذى ويحسب لها حساب من قبل المشركين. فهذا عمار وأبوه ياسر وأمّه سميّة كان المشركون يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها، ومر بهم النبى صلّى الله عليه وسلم وهم يعذّبون فقال: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». ولم يكن التعذيب لفترة زمنية يسيرة، أو بدرجة معقولة، وإنما كان يشتد ويستمر

إلى درجة الإتلاف، فمات ياسر فى العذاب، وأما سمية فأغلظت القول لأبى جهل بعزة إيمانها، فتصرف معها تصرفا لا يليق بالرجال فطعنها فى قبلها بحربة فى يديه فماتت، وهى أول شهيدة فى الإسلام، وأما عمار فشددوا عليه بالحر تارة وبوضع الصخر على صدره تارة أخرى وكذلك التغريق، وأما بلال فتعذيبه مشهور فكان أمية ابن خلف إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يقلبه على الرمال الملتهبة ظهرا لبطن ويأمر بالصخرة الجسمية فتلقى على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فما يزيد بلال عن ترديد: أحد أحد. واشتدت ضراوة قريش بالمستضعفين وذهب أحلمهم وهو «خباب بن الأرت» إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال خباب: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة فى ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون». فالرسول صلّى الله عليه وسلم يحثهم على الصبر، ويذكرهم بما كان يفعل بالمؤمنين فى الأمم السابقة، وتنزل سورة البروج لتربط على قلوب هؤلاء المؤمنين، ولتنذر وتحذر أولئك الطغاة الآثمين الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات، ولتذكر الجميع بما حدث فى الأمم السابقة قال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22).

سورة البروج- إذن- من السور التى تربط على قلوب المؤمنين فى مواجهة ما يلاقون من تحديات وآلام نتيجة إيمانهم، ولذلك كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يقرأ بها فى العشاء الآخرة ويأمر بقراءتها. روى الإمام أحمد بسنده عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ فى العشاء الآخرة ب وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ووَ السَّماءِ وَالطَّارِقِ، وعنه أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسماوات فى العشاء، تفرد به أحمد «1». وعن جابر ابن سمرة: أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الظهر والعصر، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أخرجه الطيالسى وابن أبى شيبة فى المصنف وأحمد والدارمى وأبو داود والترمذى وحسنه والنسائى وابن حبان والطبرانى والبيهقى فى سننه. كان نزول سورة البروج ربطا على القلوب فى مواجهتها للإيذاء والتحديات، وما فيها من المعانى لا غنى للمؤمنين عنها فى مسيرتهم، وهى ضرورية أيضا لمن أراد أن يعتبر من الطغاة. إن السورة الكريمة افتتحت بالقسم، والقسم هنا بالسماء ذات النجوم وذات المنازل لهذه النجوم إنها السماء فى إحكام بنائها وخلقها وزينتها وإحاطتها بمن تحتها واليوم الموعود وهو يوم القيامة، وشاهد ومشهود وهو كما يقول الطبرى بعد إيراده لما قيل فى المعنى: إن الله أقسم بشاهد شهد ومشهود شهد ولم يخبرنا مع إقسامه بذلك أىّ شاهد وأى مشهود أراد، وكل الّذى ذكرنا أن العلماء قالوا: هو المعنىّ مما يستحق أن يقال له وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3). والقسم بهذه له مناسبته بما تتضمنه السورة الكريمة من فعل الكافرين بالمؤمنين عيانا ونسوا عقاب الجبار جل جلاله ونسوا اليوم الذى يجمع فيه العباد للحساب، وإذا أمهل الظالمون فى هذه الحياة فإن اليوم الموعود آت إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) [إبراهيم]. ويأتى بعد هذا الإقسام ما حدث فى السابقين من لعن الله لأصحاب الأخدود الذين عذبوا المؤمنين وحرقوهم بالنار لا لذنب إلا لكونهم مؤمنين. روى الإمام أحمد بسنده عن صهيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك: إنى قد كبر سنى وحضر أجلى فادفع إلى غلاما لأعلمه السحر فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين

_ (1) تفسير ابن كثير 4/ 491. أخرج الإمام أحمد فى المسند 2/ 327 عن أبى هريرة أن النبى صلّى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسماوات فى العشاء، يعنى السور الأربع المفتتحة بذكر السماء، انظر: أسرار ترتيب القرآن للسيوطى ص 149.

الملك راهب فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسنى أهلى، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسنى الساحر. قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحبّ إلى الله أم أمر الساحر؟ قال: فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أى بنى أنت أفضل منى وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلّ علىّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس فعمى فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفنى ولك ما هاهنا أجمع، فقال: ما أنا أشفى أحدا إنما يشفى الله عز وجل فإن آمنت به دعوت الله فشفاك فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك: يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال: ربى؟ فقال: أنا؟ قال: لا، ربى وربك الله، قال: أو لك رب غيرى؟ قال: نعم ربى وربك الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام فبعث إليه فقال: أى بنى بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء، قال: ما أشفى أحدا إنما يشفى الله عز وجل، قال: أنا، قال: لا، قال: أولك رب غيرى؟ قال: ربى وربك الله، فأخذه أيضا بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار فى مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار فى مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض. وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه فذهبوا به فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك. فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، فبعث به مع نفر فى قرقور فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه فى البحر فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك. فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى ثم قال

للملك: إنك لست بقاتلى حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتنى، وإلا فإنك لا تستطيع قتلى، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس فى صعيد واحد ثم تصلبنى على جذع وتأخذ سهما من كنانتى ثم قل: باسم الله رب الغلام فإنك إذا فعلت ذلك قتلتنى. ففعل ووضع السهم فى كبد قوسه ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام فوقع السهم فى صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك. قد آمن الناس كلهم. فأمر بأفواه السكك فخدّت فيها الأخاديد، وأحرقت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع فى النار، فقال الصبى: اصبرى يا أماه فإنك على الحق». وهكذا رواه مسلم فى آخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به نحوه. ورواه النسائى عن أحمد بن سلمان عن عثمان عن حماد بن سلمة، ومن طريق حماد بن زيد كلاهما عن ثابت به واختصروا أوله، وقد جوّده الإمام أبو عيسى الترمذى فرواه فى تفسير هذه السورة «1». ومع ما حدث للمؤمنين من أصحاب الأخدود، وأن ذنبهم الذى عوقبوا به هو إيمانهم بالله سبحانه. ولكى يكون من التوجيه القرآنى الكريم ما يحذر الكافرين من الاستمرار فى تعذيب المؤمنين من أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم، ولكى يطمئن المؤمنون كذلك تذكر السورة الكريمة تعقيبها على ما حدث لهؤلاء المؤمنين السابقين. أن الذى آمن به المؤمنون سبحانه عزيز غالب منيع له العزة التى قهر بها كل شىء، وهو الحميد فى صفاته وكلامه وأفعاله والمحمود فى كل حال فهل أمن هؤلاء الكافرون المعذّبون للمؤمنين أن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر؟ وهل هؤلاء المؤمنون الذين عذّبوهم قد تجاوزوا الحق وقد آمنوا بالمحمود فى كل حال، والذى له ملك السموات والأرض، والذى يعلم أعمال خلقه ولا تخفى عليه خافية، إن هؤلاء المعذّبين للمؤمنين والمؤمنات إن لم يتوبوا من قبيح صنيعهم فإن الجبار جل جلاله سيعاقبهم بجنس صنيعهم حيث يحرّقون ويكونون وقودا لجهنم مع انتقامه منهم فى الحياة الدنيا، وأما المؤمنون الصالحون فإنهم فائزون بإيمانهم وصلاحهم، ما هى إلا لحظات يسيرة حين يحرقون بنار الكافرين، ليجدوا ما أعدّ

_ (1) ابن كثير 4/ 493، 494.

لهم من نعيم وليصيروا إلى جنات تجرى من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير. كما تقدم السورة الكريمة تحذيرا آخر، وربطا على القلوب المؤمنة عسى أن تفيد الكافرين من التحذير، وليطمئن المؤمنون على صلة الودود سبحانه بهم. إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) كما قال تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) [هود] وهو الذى خلق خلقه ابتداء وهو الذى يعيدهم عند البعث، أو كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: يبدئ لهم عذاب الحريق فى الدنيا، ثم يعيده عليهم فى الآخرة. وهذا اختيار الطبرى «1». وهو سبحانه الغفور الذى يغفر الذنوب لمن تاب ورجع واستغفر وهو المحب لأوليائه ولعباده الصالحين الذين يحبونه قال ابن عباس: المتودد إلى أوليائه بالمغفرة. وذكر الصفتين معا توجيه إلى قيمة التوبة والمغفرة «والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بفلاة» وهذا من فضل الله سبحانه على عباده. وهو سبحانه ذو العرش المجيد، فعّال لما يريد. ألا يخشى هؤلاء من هذه صفاته؟ سبحانه. وإذا كانت قلوبهم قد غلّقت فلينظروا إلى أمثالهم من المكذبين الذين عذبوا المؤمنين من أمثال فرعون الذى ذبح الأطفال واستحيا النساء وأراد الفتك بالمؤمنين فتبعهم بجيشه وكيف أغرقه الله؟ وكذلك ثمود كيف أهلكهم الله؟ ولكن الكافرين لا ينتفعون بهذه الدروس فلتكن هذه الدروس ربطا على قلوب المؤمنين أما الكافرون فالله من ورائهم محيط يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود. وهذا الذى حكى للمؤمنين وللكافرين كلام الله سبحانه عظيم المعانى متناه فى الشرف والبركة كثير الخير والعلم ومكتوب فى اللوح، المحفوظ من وصول الشياطين إليه ومحفوظ من التغيير والتبديل.

_ (1) القرطبى 19/ 296.

سورة «التين»

سورة «التين» ومع المعانى التى عالجتها سورة البروج تنزل بعدها سورة «التين»، لتستمر فى بيان الموضوع نفسه مثيرة فى الإنسان جوانب التفكير فى شأن من سبق مع تعدد أماكنهم، وأنهم امتداد بشرى لهولاء السابقين، وأنهم جميعا تحت سلطان أحكم الحاكمين الذى لا يجور ولا يظلم أحدا، ومن عدله أن يقيم القيامة فينتصف للمظلوم فى الدنيا ممن ظلمه «1». وأنه سبحانه لا يجعل المحسنين كالمسيئين كما تنبه السورة الكريمة الإنسان إلى قيمته وكيف يحافظ عليها قال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. هكذا روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «فإذا قرأ أحدكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فأتى على آخرها أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين». فسورة التين مكية فى قول الجمهور ومنهم الحسن وعطاء وهو الصواب، ونزلت بعد سورة البروج- كما سبق- غير أن الماوردى حكى عن ابن عباس وقتادة أنها مدنية «2». وبدأت السورة الكريمة بالقسم بهذه الأشياء الثلاثة بالتين والزيتون وطور سينين يقول ابن كثير رحمه الله: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة بعث الله فى كل واحد منها نبيّا مرسلا من أولى العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محله التين والزيتون وهى بيت المقدس التى بعث الله فيها عيسى ابن مريم عليه السّلام والثانى: طور سينين وهو طور سيناء الذى كلّم الله عليه موسى بن عمران عليه السّلام والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذى من دخله كان آمنا وهو الذى أرسل فيه محمدا صلّى الله عليه وسلم «3». فهذا المعنى يؤكد ما سبق ذكره فى سورة البروج من أخذ الاعتبار عن شواهد التاريخ حتى لا يقع فى ظلم نفسه وظلم غيره، وحتى يكون من فريق المؤمنين الصالحين.

_ (1) ابن كثير 4/ 527. (2) زاد المسير 9/ 168، والقرطبى 20/ 110. (3) ابن كثير 4/ 526.

إن السورة الكريمة تنبه الإنسان إلى قيمة نفسه، وما جعله الله عليه من تكريم، ليعرف قدره وليحافظ على هذا التكريم بالمنهج الذى ذكرته السورة والذى فصل فى السور السابقة واللاحقة من الإيمان الصحيح والعمل الصالح وما يتفرع عنهما، فمنذ الآية الأولى فى التنزيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) [العلق] والآيات القرآنية تعرف الإنسان بحقيقة نفسه ومقوّمات وجوده، وكيف يسعد فى مصيره وتفصيل القول فى الجوانب المتعلقة بالإنسان حتى يصبح الإنسان عارفا بما ينبغى أن يعلم من أمر نفسه قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) [الذاريات] وقال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] وعلى ذلك فإن الإنسان كما جاء فى كتاب الله تعالى: هو هذا المخلوق الذى خلقه الله بيده وهذا شرف للإنسان الأول أبى البشر آدم عليه السّلام بهذا التخصص فى الخلق فقال الله تعالى: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وهذا تشريف وتكريم لمن استقام من ذريته. ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله فى أحسن تقويم، وفى أجمل صورة ركّبه. وهو المخلوق المكلّف، وهذا التكليف بنى على ما منح الله الإنسان من ملكات، ومن القدرة على الاختيار وعلى المشيئة، وهو الإنسان المسئول عن عمله والمجزىّ به على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة عقوبة، وهو بهذا التكليف والوفاء به والقيام بواجب المسئولية استحق الخلافة فى الأرض والقيام بشئونها يوجّهه وحى الله وهديه وهو الإنسان المكرم والمفضل على كثير مما خلق الله، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) [الإسراء] ولكنّ هذا التكريم- مرتبط بمدى استجابة الإنسان لوحى ربه وامتثاله لأمره ونهيه، فإذا كان لله طائعا ظل فى دائرة التكريم، وإن أعرض وتولى خرج من التكريم إلى دوائر أخرى مهينة، وقد خرج القرآن الكريم بذلك وأعطى نماذج تدل عليه، ومن هذا قوله تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر] ومنها ما فى هذه السورة الكريمة من قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6).

كما يقدم القرآن الكريم- لنا- نماذج بشرية آتاها الله الآيات فأعرضت عنها، ولم تنتفع بها فشبّهت بحيوانات مهينة كما جاء فى قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف] كما أن فى التعبير عن هذه الحالة بالانسلاخ دلالة على أن الاستجابة للآيات تجمّل الإنسان وتجعله فى موضع الكرامة، والإعراض عنها يقبّحه، كما يكون جميلا بجلده الحسن، قبيحا وهو مسلوخ، ومنظره تشمئز منه النفس. كما يعرض لنا القرآن الكريم نماذج أخرى عطلت القلوب فلم تعقل بها وعطلت الآذان فلم تسمع بها الحق، وعطلت العيون فلم تبصر بها فقال عنهم: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179]. وكذلك مثل من أوتى العلم النافع فلم يستجب له شبّه بالحمار يحمل أسفارا وعلى ذلك نقول: إن بقاء الإنسان فى دائرة التكريم مرتبط باستجابته لوحى ربّه. ومن مظاهر هذا التكريم فى السورة الكريمة أيضا أن تكتب لهم حسناتهم وتمحى عنهم سيئاتهم قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهم الذين أدركهم الكبر لا يؤاخذون بما عملوه فى كبرهم. وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد فى شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضعف عما كان يعمل فى شبابه أجرى الله عز وجل له ما كان يعمل فى شبابه وفى حديث قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إذا سافر العبد أو مرض كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا»، وقيل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنه لا يخرف ولا يهرم ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به، وعن عاصم عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر». فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) أى غير مقطوع أى يستمر الأجر بغير عمل بعد أن يصل المؤمن الصالح إلى الكبر.

سورة «قريش»

سورة «قريش» وهى مكية فى قول الجمهور نزلت بعد سورة «التين» وأما فى قول الضحاك والكلبى فمدنية «1» والسورة الكريمة تقرع آذان قريش بما منحوا من نعم تستوجب عبادتهم لربهم الذى منّ عليهم بها قال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4): فهل يليق مع هذه النعمة أن يعبدوا غيره ولذلك قيل فى معنى اللام من لِإِيلافِ قُرَيْشٍ أنها لام التعجب كأن المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة ربّ هذا البيت. قاله الأعمش والكسائى. وقيل: إن معناها متصل بما بعدها ويكون المعنى: فليعبدوا ربّ هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف لأنهم كانوا فى الرحلتين آمنين، فإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرّض لهم. وقيل: إن المعنى متصل بما كان من أصحاب الفيل وإهلاك الله لهم لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف وهذا قول الفراء والجمهور. وعلى ذلك فإن السورة الكريمة تنبه هؤلاء الذين وقفوا من الدعوة موقفا متباينا، فأما من آمن منهم فقد هدى إلى شكر هذه النعمة، وأما من ظل على كفره وعناده وتكذيبه وتعذيبه للمؤمنين فقد غفل عن هذه النعمة التى خص الله بها أهل مكة. فقد جعل فيها أول بيت وضع للناس إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران]. وجعل الله لهذا البيت حرمته، وجعل مكة حراما لا يحل لأحد أن يفكر فى إحداث أمر فظيع بها وإلا عاقبه الله بالعذاب الأليم، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) [الحج] أى من يهم فيه بأمر فظيع من المعاصى الكبار عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأوّل كما قال ابن جريج عن ابن عباس. حتى أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم «2». وقد عرف الناس من أهل مكة هذا، وقد مرت بنا سورة الفيل لتذكّر

_ (1) القرطبى 20/ 200، وزاد المسير 9/ 238. (2) ابن كثير 3/ 214، 215.

بهذا فلما همّ أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول، ويبين النبى صلّى الله عليه وسلم أن هذه الحرمة منذ خلق الله السموات والأرض وهى دائمة ومستمرة إلى يوم القيامة فيقول: «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى، ولم يحلّ لى إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفّر صيده» متفق عليه «1». وثبت فى الحديث أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» الحديث «2». ولذلك كان القاتل يمشى فى الحرم مع ولى المقتول، ويقف السّبع عن الظّبى ونحوه من الصيد إذا دخل الحرم وذلك بدعاء إبراهيم عليه السّلام إذ قال ما جاء فى كتاب الله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) [البقرة]. ولذلك لما تعلل المشركون بأنهم إن اتبعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإن هذه المكانة ستضيع كان من رد القرآن الكريم عليهم أن ذكر بهذه النعمة، وأنه سبحانه هو الذى منح المكان حرمة، ومنحه رزقا عظيما قال تعالى: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) [القصص]. فالنعمتان عظيمتان: إطعام من جوع، وأمن من خوف، وذلك أن الله تعالى آمنهم بالحرم فلم يتعرّض لهم فى رحلتهم، فكان ذلك سببا لإطعامهم بعد ما كانوا فيه من الجوع. فالأمن بالحرم إن حضروا حماهم، وإن سافروا قيل: هؤلاء أهل الحرم فلا يعرض لهم أحد، قال ابن كثير رحمه الله: ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) أى فليوحدوه بالعبادة كما جعل لهم حرما آمنا وبيتا محرّما كما قال تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) [النمل]. ثم يقول: فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا. قال: ولهذا من

_ (1) حدائق الأنوار لابن الديبع 1/ 86. (2) ابن كثير 3/ 215.

استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) [النحل]. نعوذ بالله من الخذلان ونسأله الأمن فى الدنيا والآخرة.

سورة «القارعة»

سورة «القارعة» وهى سورة مكية بالإجماع نزلت بعد سورة «قريش» وهى امتداد لبيان الصنفين من الناس، والمصير الذى إليه يصيرون فى الآخرة قال تعالى: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11). فالسورة الكريمة تقرع آذان الناس بما سيكون من أمر المصير وسميت بالقارعة وهى من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامّة والصّاخّة والغاشية، وغير ذلك؛ لأنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها. ولكى ينتبه الناس إلى حقائق يوم القيامة كان الأسلوب القرآنىّ فى السورة الكريمة آخذا بالقلوب لبيان عظم أمرها وهول ما فيها، وأن مصير الناس فى هذا اليوم مرتبط بحالهم مع وحى الله فى هذه الحياة فمن سلك الصراط المستقيم وعاش على قيم الإسلام عقيدة وخلقا وسلوكا كان ذا قيمة عند الله وثقل ميزانه، ومن أعرض ولم يستجب خفت موازينه، وهوى فى الجحيم والعياذ بالله، روى عن أبى بكر رضي الله عنه أنه قال: «إنما ثقل ميزان من ثقل ميزانه؛ لأنه وضع فيه الحقّ، وحقّ لميزان يكون فيه الحقّ أن يكون ثقيلا، وإنما خفّ ميزان من خف ميزانه، لأنه وضع فيه الباطل، وحق لميزان يكون فيه الباطل أن يكون خفيفا» «1». وفى الخبر عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «أن الموتى يسألون الرجل يأتيهم عن رجل مات قبله، فيقول: ذلك مات قبلى، أما مرّ بكم؟ فيقولون: لا والله، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية»، وقد ذكره القرطبى بكماله فى كتابه التذكرة، وأورد ابن كثير مثله فى تفسيره وأورده فى كتاب صفة النار «2». كما تقدم السورة الكريمة بيانا للناس فى شأن ما يشاهدون فى حياتهم الدنيا وكيف يكون حاله فى الآخرة. أما الناس الذين ترى فيهم الكبر والغرور والإعراض والتمرد

_ (1) القرطبى 20/ 167. (2) ابن كثير 4/ 543.

فى الدنيا، فسيكونون يوم القيامة كالفراش المبثوث فى انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم من حيرتهم مما هم فيه كأنهم فراش مبثوث، كما قال تعالى فى الآية الأخرى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) [القمر]. وذكر الماوردى: أن هذا التشبيه للكفار فهم يتهافتون فى النار يوم القيامة تهافت الفراش «1». وروى مسلم فى صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مثلى ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب (وهى كالجراد) والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدى» «2». فأول حال الناس كالفراش لا وجه له يتحيّر فى كل وجه، ثم يكونون كالجراد لأن لها وجها تقصده. وأما الجبال التى يشاهدها الناس فى شدة خلقها وضخامتها فتكون يوم القيامة كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) أى الصوف الذى ينفش باليد أى يصير هباء وتزول كما قال جل ثناؤه فى آية أخرى: هَباءً مَنْثُوراً (23) [الفرقان]. فإذا عرف الناس حقائق المصير فقد تكون هذه المعرفة سبيلا إلى تصحيح مسيرتهم فى الدنيا حتى يكونوا ممن ثقلت موازينه أى رجحت حسناته على سيئاته- كما يذكر ابن كثير رحمه الله- وليكون فى عيشة راضية يعنى الجنة وما أعده الله فيها لعباده الصالحين من أنواع النعيم وحتى لا يكونوا ممن خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) أى رجحت سيئاته على حسناته فيهوى إلى جهنم وسمّاها أمّا لأنه يأوى إليها كما يأوى إلى أمه. فبئست الأم وبئست المربية: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) أى شديدة الحرارة وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «ناركم هذه التى يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنم» قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: «فإنها فضّلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرّها». وهل يقوى الإنسان على نار الدنيا؟ إن التفكير فى هذا يورث الخشية وكما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبى صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان يغلى

_ (1) زاد المسير 9/ 214. (2) مسلم 4/ 1790 رقم (2285).

منهما دماغه» رواه أحمد «1» وروى البخارى «2» ومسلم «3» عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضى بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس فى الشتاء، ونفس فى الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشدّ ما تجدون من الزمهرير»، واللفظ لمسلم، وفى الصحيحين- أيضا- من حديث أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا اشتد الحرّ فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» وفيح جهنم: سطوع حرّها وانتشاره وغليانها. نعوذ بالله من النار وما يقرب إليها من قول أو عمل ونسأله تعالى الجنة وما يقرب إليها من قول أو عمل.

_ (1) ابن كثير 4/ 544. (2). 6/ 238. (3) رقم 617.

سورة «القيامة»

سورة «القيامة» وهى سورة مكية نزلت بعد سورة القارعة فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة القيامة، وفى لفظ سورة «لا أقسم بمكة» «1»، وعن ابن الزبير قال: أنزلت سورة «لا أقسم بمكة» «2». ونزول سورة القيامة بعد سورة القارعة يعالج مجموعة من القضايا منها ما يتعلق بأخطرها وهى قضية البعث وموقف الإنسان منه بين مؤمن وكافر، وكيف يقدّم الإقناع العقلى والإشباع القلبى للانتفاع بركن الإيمان باليوم الآخر، فالسورة السابقة سميت بصفة من صفات هذا اليوم فهى القارعة. وهذه السورة سميت كذلك بما يحدث فى هذا اليوم من قيام الناس لرب العالمين، قال تعالى فى شأن هذا القيام: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) [المطففين] فهى سورة القيامة، وفيها بيان علاقة النفس بهذا اليوم ومعالجة هذه العلاقة وتحذير الإنسان من عاقبة الإنكار ومن عاقبة التغافل أيضا وبيان حقيقة المصير الذى إليه يصير الإنسان فى هذا اليوم. ولصلة هذه القضية بالوحى المنزل وما يخبر به عن حقائق هذا اليوم كان البيان القرآنى فى السورة، والذى يطمئن النبى صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين والبيان لغيرهم- أيضا- فى أن هذا الوحى فى حفظه وبيانه يعود إلى الله وحده. وتعرض السورة قضية النفس بين العاجلة والآخرة، وحالة الوجوه المتباينة، وأصحابها فى الآخرة، وكيف يساق الإنسان إلى مصيره سوقا لا يجدى معه عمل بشرى فى رقية أو مداواة، وكيف يكون حال المكذب المعرض عند ما يجد نفسه أمام هذا المصير، وهل يحسب الإنسان أنه يترك بلا أمر أو نهى بعد أن خلقه الله بهذا الإحكام من نطفة ومرورا بالأطوار الدالة على كمال القدرة. كل هذه القضايا تبسطها السورة أمام الناس فى مكة المكرمة؛ حتى لا يبقى مجال للإنكار، فالحجة واضحة والبرهان جلى والأدلة مقنعة ومشاهدة، وما حضر يدل على ما غاب وخفى دلالة قوية، وحتى

_ (1) أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل من طرق عن ابن عباس، انظر: فتح القدير 5/ 334. (2) أخرجه ابن مردويه، انظر: المرجع السابق، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 19/ 91.

لا يبقى مجال للنسيان، والغفلة فالتذكير والتفضيل يأخذ باللب من كل جانب ليدرك الإنسان موقعه ولتصحّح النفس من حالها، ولترتقى فى شأنها حتى يكون صاحبها من أصحاب الوجوه الناضرة. فالمقسم به فى السورة الكريمة على ما أجمع عليه المفسرون يوم القيامة والنفس اللوامة، وإقسامه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيمه ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وأقسم سبحانه بالنفس اللوامة كما أقسم بيوم القيامة. والنفس اللوامة هى التى تلوم صاحبها على تقصيره، أو تلوم جميع النفوس على تقصيرها. قال الحسن: هى والله نفس المؤمن لا يرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكذا ما أردت بكذا، والفاجر لا يعاتب نفسه، قال مجاهد: هى التى تلوم على ما فات وتندم، فتلوم نفسها على الشر لم لم تعمله؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه؟ قال الفراء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهى تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءا قالت: ليتنى لم أفعل «1». وعلى ذلك «فلا أقسم» بمعنى أقسم وهذا ما ذكره أبو عبيدة وجماعة من المفسرين وقال السمرقندى: أجمع المفسرون أن معنى لا أقسم: أقسم واختلفوا فى تفسير لا، فقال بعضهم: هى زائدة وزيادتها جارية فى كلام العرب كما فى قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12]- يعنى أن تسجد- وقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29]. وقال بعضهم: هى ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال: ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة، وهذا قول الفراء وكثير من النحويين وقيل: هى للنفى، لكن لا لنفى الإقسام بل لنفى ما ينبئ عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه، كأن معنى لا أقسم بكذا: لا أعظمه بإقسامه به حق إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من ذلك، وقيل: إنها لنفى الإقسام لوضوح الأمر. ويرى الشوكانى رحمه الله ترجيح القول الأول «1». فالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة وذكر الاثنين فى موضع واحد يحرك النفس الإنسانية؛ كى تعرف موقعها فى هذا اليوم وصلتها به وإعدادها له، وتجنب ما يعكر صفوها ونضارتها فى هذا اليوم.

_ (1) فتح القدير 5/ 335.

والسورة الكريمة تبين للناس جرم ما وقع فيه الإنسان من إنكار البعث: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) ويرد عليه بتذكيره بقدرة الله سبحانه وأنه سبحانه قادر على تسوية البنان، ومعنى ذلك أن البعث يرجع إلى قدرة الله فى إعادة الأشياء إلى ما كانت عليه بدقتها وتميزها عن غيرها وقد نبه المفسرون على هذا المعنى الدقيق فقال الشوكانى: على أن نجمع بعضها إلى بعض فنردها كما كانت مع لطافتها وصغرها فكيف بكبار الأعضاء فنبه سبحانه بالبنان، وهى الأصابع على بقية الأعضاء، وأن الاقتدار على بعثها وإرجاعها كما كانت أولى فى القدرة من إرجاع الأصابع الصغيرة اللطيفة المشتملة على المفاصل والأظافر والعروق اللطاف والعظام الدقاق. فهذا وجه تخصيصها بالذكر، وبهذا قال الزجاج وابن قتيبة «1»، وفى ختام السورة يستمر التدليل على البعث بالتذكير بقدرة الله سبحانه فى خلق الإنسان؟ ومع معالجة السورة الكريمة لقضية البعث بالتذكير بقدرة الله سبحانه وفى ختام السورة نجد هذا التذكير أيضا بالنظر إلى خلق الإنسان من نطفة ثم تحول النطفة إلى علقة وكيف سوى خلقه فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى. فهل ينكر الإنسان مظاهر هذه القدرة فى هذا الخلق؟ أليس من خلق هذا بقادر على أن يبعث الإنسان. إن بداية السورة ونهايتها فى معالجة هذه القضية؛ لأنها أساس ما بين البداية والنهاية، وهى التى تؤثر فى السلوك الإنسانى، والنفس الإنسانية وهذا ما عولج فى القضايا المبثوثة فى السورة الكريمة، ومنها: ما أخبر عنه الله سبحانه من سوء حال الإنسان وإصراره على المعصية والفجور، وأنه لا يرعوى، ولا يخاف يوما يجمع الله فيه عظامه ويبعثه حيا، بل هو مريد للفجور ما عاش، فيفجر فى الحال ويريد الفجور فى غد وما بعده، وهذا ضد الذى يخاف الله والدار الآخرة، فهذا لا يندم على ما مضى منه ولا يقلع فى الحال ولا يعزم فى المستقبل على الترك، بل هو عازم على الاستمرار، وهذا ضد التائب المنيب. ثم نبّه سبحانه على الحامل له على ذلك، وهو استبعاده ليوم القيامة وليس هذا استبعادا لزمنه مع إقراره بوقوعه، بل هو استبعاد لوقوعه كما حكى عنه فى موضع آخر

_ (1) فتح القدير 5/ 336.

قوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) [ق]. أى بعيد وقوعه، وليس المراد أنه واقع بعيد زمنه. هذا قول جماعة من المفسرين منهم ابن عباس وأصحابه قال ابن عباس: يقدّم الذنب ويؤخر التوبة وقال قتادة وعكرمة: قدما قدما فى معاصى الله لا ينزع عن فجوره «1». وتنبه السورة المكذبين بالبعث وبيوم القيامة وما يحدث فيه فتذكر حال المكذب إذا شاهد اليوم الذى كذّب به فقال تعالى: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) فبرق بصره أى يشخص لما يشاهده من العجائب التى كان يكذب بها وخسف القمر ذهب ضوؤه وانمحى، وجمع الشمس والقمر ولم يجتمعا قبل ذلك بل يجمعهما الذى يجمع عظام الإنسان بعد ما فرقها البلى ومزقها، ويجمع للإنسان يومئذ جميع عمله الذى قدمه وأخّره من خير أو شر، ويجمع ذلك من جمع القرآن فى صدر رسوله، ويجمع المؤمنين فى دار الكرامة، فيكرم وجوههم بالنظر إليه، ويجمع المكذبين فى دار الهوان، وهو قادر على ذلك كله كما جمع خلق الإنسان من نطفة من منىّ يمنى ثم جعله علقة مجتمعة الأجزاء بعد ما كانت نطفة متفرقة فى جميع بدن الإنسان، وكما يجمع بين الإنسان وملك الموت ويجمع بين الساق والساق، ساق الميت أو ساق من يجهز بدنه من البشر، ومن يجهز روحه من الملائكة، أو تجمع عليه شدائد الدنيا والآخرة فكيف أنكر هذا الإنسان أن يجمع بينه وبين عمله وجزائه، وأن يجمع مع بنى جنسه ليوم الجمع، وأن يجمع عليه بين أمر الله ونهيه، وعبوديته فلا يترك سدى مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب فلا يجمع عليه ذلك. يقول ابن القيم: فما أجمع هذه السورة لمعانى الجمع والضم وقد افتتحت بالقسم بيوم القيامة الذى يجمع الله فيه بين الأولين والآخرين، وبالنفس اللوامة التى اجتمع فيها همومها وعمومها وإرادتها واعتقاداتها. وتضمنت ذكر المبدأ والمعاد، والقيامة الصغرى والكبرى، وأحوال الناس فى المعاد، وانقسام وجوههم إلى ناظرة منعمة وباسرة معذبة وتضمنت وصف الروح بأنها جسم ينتقل من مكان إلى مكان فتجمع من تفاريق البدن حتى تبلغ التراق ويقول الحاضرون: مَنْ راقٍ (27) [القيامة] أى من يرقى من هذه العلة التى أعيت

_ (1) التبيان فى أقسام القرآن لابن قيم الجوزية ص: 94.

على الحاضرين، أى التمسوا له من يرقيه، والرقية آخر الطب «1». ومما يتصل بالإيمان بيوم القيامة أن الملك فيه لله وحده فلا مفر، ولا ملجأ من الله إلا إليه: كَلَّا لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12). فالمرجع والمنتهى والمصير إليه سبحانه. ومما يتصل بذلك أيضا أن الإنسان يخبر يوم القيامة بما عمل من خير وشر يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) أى بما أسلف من عمل سيئ أو صالح، أو أخّر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود «2». وفى هذا توجيه إلى مسئولية الإنسان عن عمله وعن أثر عمله فيمن حوله وفيمن يأتى بعده، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علّمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورّثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله فى صحته وحياته تلحقه من بعد موته» «3». وخرّجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سبع يجرى أجرهن للعبد بعد موته وهو فى قبره: من علّم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورّث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته». وفى الصحيح: «من سنّ فى الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سنّ فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء» «4». ومع ما يتصل بقضية البعث ويوم القيامة، وما يكون من أمر الإنسان فيه يقول الله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) [القيامة] وفى

_ (1) التبيان فى أقسام القرآن لابن قيم الجوزية ص 96. (2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 19/ 98. (3) أخرجه ابن ماجة فى سننه من حديث الزهرى أبو عبد الله الأغر عن أبى هريرة. الجامع لأحكام القرآن 19/ 98. (4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبى 19/ 99.

هذا تنبيه آخر إلى حقيقة يغفل عنها الإنسان الذى يلهو فى هذه الحياة ويلعب دون أن يدرى أن الشواهد عليه من نفسه وجوارحه. قال الأخفش: جعله هو البصيرة كما تقول للرجل: أنت حجة على نفسك. وقال ابن عباس: «بصيرة» أى شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. ودليل هذا قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) [النور] وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح؛ لأنها شاهدة على نفس الإنسان فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة، ولو اعتذر وقال: لم أفعل شيئا. وقال مقاتل: لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك نظيره قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: 52] وقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات] «1». ومن القضايا التى تعالجها السورة الكريمة وهى من أسس الإيمان بالدين كله قضية الاطمئنان إلى الوحى وحفظه وذكرت فى السورة فى قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. روى الترمذى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) قال: فكان يحرّك به شفتيه. وحرّك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبى صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لى ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ قال: جمعه فى صدرك ثم تقرؤه فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قال: فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه قال: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السّلام قرأه النبى صلّى الله عليه وسلم كما أقرأه» خرّجه البخارى أيضا «2» ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ

_ (1) القرطبى 19/ 100، 101. (2) القرطبى 19/ 106، وانظر: لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى ص 224، 225.

وَحْيُهُ [طه: 114] وقال عامر الشعبى: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبّه له، وحلاوته فى لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع؛ لأن بعضه مرتبط ببعض. وقيل: كان عليه السّلام إذا نزل عليه الوحى حرّك لسانه مع الوحى مخافة أن ينساه، فنزلت: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ونزل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) [الأعلى] ونزل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ قاله ابن عباس. وَقُرْآنَهُ أى وقراءته عليك. وقال قتادة: فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أى فاتبع شرائعه وأحكامه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أى تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام قاله قتادة وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما «1». وهذا يطمئن من عقل إلى مصدر الوحى، وأنه من عند الله، وأن وعد الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم بحفظ كتابه يتضمن جمعه وقراءته وبيانه ورسول الله صلّى الله عليه وسلم مبلغ عن الله سبحانه، فلا ريب فى الكتاب ولا فيما تضمنه الكتاب العزيز. ومما يتصل بيوم القيامة والنفس الإنسانية ما تذكره الآيات الكريمة كاشفة ميول النفس التى لم تركن إلى الحق، ولم تؤمن به فأحبت الدنيا وتعلقت بها وتركت الآخرة والعمل لها، وهذا من الأسباب القوية فى عناد الكافرين واستمساكهم بكفرهم ظنا منهم أن الإيمان وتبعاته ستذهب عنهم متعة الحياة الدنيا. قال تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وما علم هؤلاء أن الدنيا عاجلة ولن يطول مكثهم فيها وأن الآخرة خير وأبقى لمن آمن وعمل صالحا ونظير هذا قوله تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) [الإنسان]. ومما يتصل بيوم القيامة والنفس الإنسانية انقسام الناس إلى قسمين قسم له الوجوه الناضرة الممتعة بالنظر إلى وجه ربها الكريم، وقسم له وجوه كالحة كاسفة عابسة توقن بالهلاك قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25). فوجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة تنظر إلى ربها وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم «2». ووجوه الكفار كالحة كاسفة عابسة يوم القيامة. ومما يتصل بيوم القيامة والنفس الإنسانية أنها ستساق سوقا إلى هذا اليوم ولا يجدى عندئذ أن يلوذ الإنسان برقية أو دواء يؤخر النفس إذا جاء أجلها: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ

_ (1) القرطبى 19/ 106. (2) المرجع السابق 19/ 107.

التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (29). فكيف يكون حالها عند ما تأتى إلى هذا المصير وهى مكذبة معرضة: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) فلا صدق بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه. قال قتادة: فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله، وقيل فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه «1» ولكن كذب بالرسول وبما جاء به وتولى عن الطاعة والإيمان. وهذا الإنسان الذى كذب وتولى لم يكتف بهذا العمل السيئ بل تفاخر به، وذهب إلى أهله يتبختر ويختال فى مشيته افتخارا بذلك. قال الواحدى: قال المفسرون: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيد أبى جهل، ثم قال: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) فقال أبو جهل: بأى شىء تهددنى لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بى شيئا، وإنى لأعز أهل هذا الوادى، فنزلت هذه الآية «2». وأخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس قال: لما نزلت: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) [المدثر] قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم يخبركم ابن أبى كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فأوحى الله إلى رسوله أن يأتى أبا جهل، فيقول له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) «3». ومعناه: الويل لك، وقيل: ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات: الويل لك حيا والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار. وقيل المعنى: إن الذم لك أولى لك من تركه، وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب قاله ثعلب، وقال الأصمعى: أولى فى كلام العرب معناه مقاربة الهلاك «4». ومما يتصل بيوم القيامة والنفس الإنسانية أن يدرك الإنسان أنه مع خلقه قد أرسل الرسول صلّى الله عليه وسلم بوحى الله له يأمره وينهاه وأنه سيحاسب أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) [القيامة: 36] أى هملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب ولا يعاقب. إن تأمل الإنسان فى خلقته من نطفة، وما مرّ به من أطوار يجعله مدركا لفضل الله

_ (1) فتح القدير 5/ 341. (2) المرجع السابق 5/ 342. (3) لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى ص 255. (4) فتح القدير 5/ 341، 342.

عليه ومقدرا لعظمة الله وقدرته ومؤمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) بلى قادر. فهذه الكلمة الأخيرة نتيجة التأمل فى هذه الأطوار وفى مظاهر هذه القدرة ولذلك أخرج عبد بن حميد وابن الأنبارى عن صالح أبى الخليل قال: كان النبى صلّى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) قال: «سبحانك اللهم وبلى» وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سبحانك ربى وبلى» وأخرج ابن النجار فى تاريخه عن أبى أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند قراءته لهذه الآية: «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» وأخرج أحمد وأبو داود والترمذى وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فانتهى إلى آخرها أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، ومن قرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) فليقل: آمنا بالله». وعلى الرغم من أن فى إسناد هذا الحديث رجل مجهول إلا أنه يرشدنا مع غيره من الأحاديث إلى تأمل الآيات وتدبرها والتفاعل مع معانيها. ومنها هذه السور الكريمة التى بدأت بذكر يوم القيامة والنفس اللوامة فى أسلوب قسم يبرز المعنى ثم تتابعت الآيات الكريمة، التى تبين ما يتعلق بيوم القيامة والنفس الإنسانية فى حالاتها، وعرض أخطر القضايا فى هذه العلاقة وهى قضية البعث والاطمئنان إلى الوحى، والتصديق بما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم وغير ذلك من القضايا التى كانت قريش فى أمس الحاجة إليها فى الفترة المكية، وما بعدها.

سورة «الهمزة»

سورة «الهمزة» وتستمر معالجة النفس الإنسانية وعلاقتها بالدنيا والآخرة فى السور التى نزلت بعد سورة القيامة وهى سورة «الهمزة» والتى يقول الله تعالى فيها: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9). وهى سورة مكية بإجماع نزلت بعد سورة القيامة؛ لتعالج مرضا نفسيا خطيرا تصاب به بعض النفوس البشرية، وبهذا المرض تقع كثير من المشكلات بين الناس، إنه مرض الحب الجمّ للمال والذى يدفع بصاحبه إلى الحرص الشديد على جمعه وتعديده من أى طريق، ليفاخر به ويكاثر ويتصور أنه بهذا المال سيكون من الخالدين، وأن هذا المال سيحميه من الكوارث التى يتعرض لها من ليس لديه مال وفى غمرة هذه الحالة النفسية وما تبعها من جمع المال وعدّه يتعدى سلوكه البشرى على غيره بهذا المرض الخطير، والذى أبرزته السورة الكريمة فى اسمها وهو «الهمز واللمز». وقد كان من صور التحديات التى واجهت الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين فى الفترة المكية من شرار الكفار الذين يسخرون ويعيبون ويغتابون ويطعنون فى المؤمنين لمحاولة التأثير فيهم ومن هؤلاء الأخنس ابن شريق فقد روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ نزلت فى الأخنس بن شريق. وكان يلمز الناس ويعيبهم: مقبلين ومدبرين. وقال ابن جريج: فى الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبى صلّى الله عليه وسلم من ورائه ويقدح فيه فى وجهه. وقيل: نزلت فى أبىّ بن خلف، وقيل فى: جميل بن عامر الثقفى (أو الجحمى) «1». ومن مظاهر هذا الهمز واللمز والسخرية فى تلك الفترة أن هؤلاء المشركين كانوا إذا رأوا أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم يتغامزون بهم ويقولون: قد جاءكم ملوك الأرض الذين سيغلبون غدا على ملك كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون، السخرية- هنا- من المؤمنين وكذلك من مضمون الدعوة لفساد قلوب المشركين حيث يتهكمون على ما وعد به المؤمنون فى ضعفهم هذا- من التمكين فى الأرض وفتح ملك كسرى وقيصر، ولذلك

_ (1) القرطبى 19/ 183، ولباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى 234، 235.

وصف الله عز وجل هؤلاء الساخرين بالإجرام فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) [المطففين]. وهذا المسلك الساخر إنما يقوم على قصر نظر المشركين وعلى هوائهم واستبعادهم للوصول إلى ملك كسرى وقيصر، لقوتهم وشدة منعتهم وكبر حجمهم فى نفوس المشركين. ومن نماذج العيب والسخرية بالمبادئ كذلك ما كان من موقف العاصى مع خباب فقد عمل خباب بن الأرت (وكان حدادا يعمل السيوف بمكة) للعاصى عملا حتى كان له عليه مال، فجعل يتقاضاها منه، فقال العاصى: يا خباب، أليس يزعم محمد صاحبكم الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب وفضة وثياب وخدم، قال خباب: بلى، قال: فأنظرنى إلى يوم القيامة يا خباب، حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك حقّك هناك فوالله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند الله منى ولا أعظم حظا فى ذلك فنزل فيه قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) [مريم]. فهؤلاء بهمزهم ولمزهم وسخريتهم وإفسادهم واستغنائهم بالمال، وظنهم أن معه الخلود فى الدنيا لهم فى هذه السورة الكريمة ما يزجرهم، ويوقظهم من غفلتهم وإلا فالويل لهم. والمال الذى جمعوه وعدّدوه وظنوا معه الخلد فإنه لن يدوم لهم وما أخلد المال أحدا بل طريق الخلود فى النعيم الإيمان والعمل الصالح، وإذا ركنوا إلى المال وعددوه للحماية فقد أخطئوا الطريق كذلك، فعن الحسن أنه عاد موسرا فقال: ما تقول فى ألوف لم أفتد بها من لئيم، ولا تفضلت على كريم؟ قال: ولكن لماذا؟ قال: لنبوة الزمان وجفوة السلطان ونوائب الدهر ومخافة الفقر، قال: إذن تدعه لمن لا يحمدك وترد على من لا يعذرك «1». وسيطرح هذا المال فى الحطمة وهى نار الله؛ سميت بذلك لأنها تكسّر كل ما يلقى فيها وتحطمه وتهشمه كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) قال محمد بن كعب: تأكل النار جميع ما فى

_ (1) الكشاف للزمخشرى 4/ 284.

أجسادهم حتى إذا بلغت إلى الفؤاد خلقوا خلقا جديدا فرجعت تأكلهم، وكذا روى خالد بن أبى عمران عن النبى صلّى الله عليه وسلم: «أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صدروا تعود فذلك قوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)» وخصّ الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. أى أنه فى حال من يموت وهم لا يموتون كما قال الله تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) [طه] فهم إذا أحياء فى معنى الأموات. وقيل: معنى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) أى تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب، وذلك بما استبقاه الله تعالى من الأمارة الدالة عليه ويقال: اطّلع فلان على كذا: أى علمه وقد قال الله تعالى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) [المعارج] وقال تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) [الفرقان] فوصفها بهذا، فلا يبعد أن توصف بالعلم «1».

_ (1) القرطبى 19/ 185.

سورة «المرسلات»

سورة «المرسلات» نزلت بعد سورة «الهمزة» فهى مكية فى قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر إلا قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) فإنها مدنية ذكر ذلك ابن عباس وقتادة «1» وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة المرسلات بمكة «2» وأخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما نحن مع النبى صلّى الله عليه وآله وسلم فى غار بمنى إذ نزلت سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فإنه ليتلوها وإنى لأتلقاها من فيه، وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «اقتلوها»، فابتدرناها فذهبت، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «وقيت شرّكم كما وقيتم شرّها» «3». والسورة الكريمة تقدم للناس تخويفا ووعيدا يزجرهم وينذرهم عاقبة التكذيب على الرغم من وضوح الآيات الباهرة فيما يشاهدون وفى عبرة التاريخ وفى أنفسهم ولذلك تكررت الآية الكريمة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) والويل الهلاك، أو هو اسم واد فى جهنم، ويرى الشوكانى رحمه الله أن تكرير هذه الآية فى هذه السورة، لأنه قسّم الويل بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر، وربّ شىء كذّب به هو أعظم جرما من التكذيب بغيره فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب «4» وقد ذكر هذا الوعيد وهذا التخويف على المنهج الآتى: أولا: القسم بمخلوقات له صلة مباشرة بالخلق فيما يسرهم وفيما يسوؤهم، قال تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فالمرسلات على قول جمهور المفسرين هى الرياح، والرياح من روح الله تعالى تأتى بالرحمة، وتأتى بالعذاب. وقد جاء ذكر الرياح مع إرسالها فى مثل قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ [الحجر: 22]، وقوله جل شأنه: يُرْسِلُ الرِّياحَ [النمل: 63] وغير ذلك وقيل عن المرسلات- أيضا- إنها الملائكة ترسل بأمر الله ونهيه، وقيل: إنها تعنى الرسل لتبليغ

_ (1) القرطبى 19/ 153، وفتح القدير 5/ 355. (2) أخرجه النحاس وابن مردويه والبيهقى عن ابن عباس، فتح القدير 5/ 355. (3) انظر فتح البارى 8/ 685 باختلاف يسير فى اللفظ، حديث (4930). (4) فتح القدير 5/ 357.

ما أرسلوا به، وقيل المراد بالمرسلات: السحاب لما فيها من نعمة ونقمة «1». وعلى قول جمهور المفسرين فإن المرسلات عرفا هى الرياح المتتابعة ليذكر بعد ذلك التفصيل فى كونها قد تأتى عاصفات وهى الرياح الشديدة الهبوب وفيها إهلاك، وقد تكون ناشرات وهى رياح تأتى بالمطر وتنشر السحاب نشرا، وتأتى كذلك فارقات على ما قال مجاهد: هى الريح تفرق بين السحاب فتبدده «2». وقيل: يعنى الملائكة تأتى بما يفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام ثم الملقيات ذكرا وهى الملائكة تلقى الوحى» إلى الأنبياء للإعذار والإنذار أى إعذارا من الله سبحانه إلى خلقه وإنذارا من عذابه وقيل: عذرا للمحقين ونذرا للمبطلين. فالقسم بهذه المخلوقات جميعا يثير انتباه المخاطبين إلى ما يشاهدونه ويجدونه من آثار هذه الآيات مع الجمع بين ما هو حسى منها وبين ما هو معنى وشاهدة على قدرة مسيّرها سبحانه وتعالى وأنه يحقق وعده فيكون جواب القسم: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7). أى إن الذى توعدونه من مجىء الساعة والبعث كائن لا محالة. ثانيا: يأتى بيان متى يقع ما وعد الله به من البعث والساعة فى عرض مظاهر القدرة التى تظهر آيات هى أشد من خلق الإنسان وبعثه فالذى قدر عليها فهل يعجزه أن يبعث الإنسان بعد موته وأن يحاسبه ويثيبه ويعاقبه. قال تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) فالنجوم التى يرونها فى نورها وضخامتها سيمحى نورها ويذهب ضوؤها وهى أشد خلقا والسماء كذلك إذا فتحت وشقت، والجبال- أيضا- مع ضخامتها وثقلها تقلع من مكانها بسرعة فالنسف الأخذ بسرعة، وقد جعل للرسل وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، كما قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: 109]. فيوم الدين جعل لها وقتا وأىّ يوم هذا؟ إنه يوم عظيم يعجب العباد منه لشدته ومزيد أهواله، إنه يوم الفصل يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة والنار والويل فى هذا اليوم لمن كذب ولم ينتفع بالتفكير فى هذه الآيات البينات. ثالثا: إذا كانت الآيات المذكورة ستقع فى مستقبل الأيام فإن السورة الكريمة تحيط

_ (1) فتح القدير 5/ 355، 356. (2) المرجع السابق 5/ 356.

فى بيانها بالإنسان حتى لا تدع له فرصة تفيده فى العبرة واليقظة والانتباه فتبصّره السورة بالعبرة التاريخية فى قوله تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19). فأخبرهم الله تعالى عن إهلاك الكفار من الأمم الماضية من لدن آدم إلى خاتم المرسلين محمد صلّى الله عليه وسلم ثم اتباع الآخرين بالأولين. فى ذلك. وأن هذه سنة مع المجرمين فما فعلنا بمن تقدّم نفعل بالمكذبين المشركين فليكن الحذر. رابعا: ومع التوجيه الفكرى نحو المستقبل الزمنى ونحو العبرة التاريخية ونحو الآيات المشاهدة يأتى التوجيه إلى الآيات الذاتية أى التى تتعلق بذات الإنسان وخلقه والتى تتكرر فى الأبناء كل يوم قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24). ومع ما قدمته السورة الكريمة من وجوه التذكير والوعيد التى تعين الإنسان للخروج من دائرة الويل والهلاك والتذكير بما يحدث للإنسان نفسه من الخلق من نطفة من ماء مهين، فجعله الله فى مكان حريز، وهو الرحمن إلى مدة الحمل التى تنطق بآيات القدرة فى رعاية هذا الجنين إلى أن يصير خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، ويل لمن كذّب بعد رؤية هذه الآيات البينات. وإذا عجز الإنسان عن التفكير فى نفسه وخلقه، فإن السورة الكريمة تعرض أمامنا أمرا آخر فى شأن هذا الوعيد. خامسا: نجد بعد هذا البيان للآيات فى خلق الإنسان التوجيه إلى التفكير فى الأرض إلى نسير عليها، قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28). فهذه الأرض ألم ير الإنسان كيف تضم وتجمع الأحياء على ظهرها، والأموات فى باطنها، وكيف جعل الله الجبال الطوال والرواسى الثوابت، وكيف يسقى الإنسان الماء عذبا فراتا برحمة الله أليس كل هذا أعجب من البعث، فويل لمن كذب ولم يفد من هذه الآيات البينات. سادسا: ويأتى التخويف بعد هذه الآيات المشاهدة بقرع الآذان بمفاجأة الواقع الذى سيقبلون عليه، ولكنهم كذبوا به فكيف يكون حالهم ولا يستطيعون له دفعا وكيف يتبدد

وهمهم فلا ينفعهم توهمهم الظل الظليل وقت اللهب، قال تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34). سابعا: كيف يكون حال المكذبين فى يوم الفصل عند ما لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37). عن عكرمة عن ابن عباس قال: سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وفَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) [طه] وقد قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) [الصافات] فقال له: إن الله عز وجل يقول: «وإنّ يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون» فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان. وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. قال الحسن: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. وقيل: إن هذا وقت جوابهم قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) [المؤمنون]. وقيل: أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب. وأىّ عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه؟ ثامنا: بيان عجزهم يوم الفصل ويوم الجمع، وأنهم لا يستطيعون حيلة فى الخلاص من الهلاك. قال تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40). تاسعا: بيان حال الفريق الآخر الذى اتقى وأحسن وكيف يكون مصيره فى ظلال وعيون يوم لا يجد المكذبون ظلا يغنى من اللهب. قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45). عاشرا: الربط بين ما يتصوره المكذبون نعيما فى الدنيا وأنه لا يساوى شيئا فى نعيم الآخرة فما قيمة تمتع بأكل وغيره ويكون المصير الأبدى بعد ذلك عذاب جهنم قال تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47). إن الذين كذبوا ولم يفيدوا من وجوه الوعيد السابقة ستكون نهايتهم أليمة عند ما يطلب منهم أن يركعوا فلا يستطيعون قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) قال ابن عباس: إنما يقال لهم هذا فى الآخرة حين يدعون

إلى السجود فلا يستطيعون «1». إنهم إن لم يفيدوا من كل هذا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50). ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ بالمرسلات فى المغرب أخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فقالت: يا بنىّ لقد ذكّرتنى بقراءتك هذه السورة. إنها آخر ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها فى المغرب «2».

_ (1) القرطبى 19/ 168. (2) فتح القدير 5/ 355.

سورة «ق»

سورة «ق» وقد نزلت بعد سورة المرسلات فهى مكية كلّها فى قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فإن ابن عباس وقتادة ذكرا أنها آية مدنية «1». وبنزول سورة «ق» يتتابع العلاج القرآنى للناس فى أهم ما ينقذهم من عبث الجاهلية الذى تشبث به الضلال المبين وصار يضرب فى كل اتجاه فى العقيدة وفى النفوس وفى السلوك وفى العلاقات الاجتماعية، واختلطت عليهم المفاهيم وواجهوا الوحى مواجهة المتعجب الذى لا يتصور تغييرا ولا تبديلا، ولا يتصور كذلك أن يخص الله رسولا من أنفسهم بوحيه فيرسله إليهم بشيرا ونذيرا وهذا الموقف منهم جعلهم يتعجبون كذلك من كل ما جاء به الرسول الكريم وخاصة ما يتصل بالبعث ولذلك تستمر معالجة التنزيل الحكيم لإنقاذ الناس من هذا الضلال المتراكم فيقول تعالى فى هذه السورة: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15). فتكذيب المشركين بما جاء به النبى صلّى الله عليه وسلم جعلهم فى أمر مريج، وأصل المرج الاضطراب والقلق فيقال: مرج أمر الناس وفى الحديث: «كيف بك يا عبد الله «2» إذا كنت فى قوم قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا هكذا وشبك بين

_ (1) القرطبى 17/ 1، وفتح القدير 5/ 70. (2) هو عبد الله بن عمرو بن العاص كما فى مسند أبى داود تفسير القرطبى 17/ 5.

أصابعه، أخرجه أبو داود «1» فهذا الاضطراب والاختلاط الذى وقع الناس فيه عالجه الذكر الحكيم فى سورة «ق» على النحو التالى: أولا: مكاشفة الناس بنعمة الله عليهم بنزول القرآن المجيد. وبواقعهم وموقفهم المتعجب من بعثة النبى صلّى الله عليه وسلم، ومن البعث. ثانيا: إخبارهم بعلم الله سبحانه بما تأكل الأرض من أجسادهم فلا يضل عنه سبحانه شىء حتى تتعذر عليه الإعادة التى يتعجبون منها. ثالثا: توجيه النظر إلى السماء وإلى الأرض وإلى ما بينهما. أما النظر إلى السماء فيقفون فيه على ثلاثة أدلة: الأول: دليل القدرة فى قوله تعالى: وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) فالسماء على شدة خلقها زيّنت بالنجوم والكواكب التى يشاهدها هؤلاء وأمسكها الله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41]. والأرض كذلك مدّت وألقيت فيها الرواسى، وأنبت الله فيها من مظاهر الجمال والزينة من كل زوج بهيج تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8). وأما ما بينهما فإن الله أنزل من السماء ماء مباركا فأنبت به مظاهر الجمال والنظام فى الجنات، وفى حب الحصيد والنخل الباسقات ذات الطلع النضيد، وفى هذا رزق للعباد يحيون به ويحيى الله به بلدة ميتا، وفى ذلك من مظاهر البعث المتجدد بتجدد الرزق ما ينقذ هؤلاء من خلطهم واضطرابهم فى أمر البعث ففي كل يوم جديد مظاهر بعث لما يشاهدون فلماذا يتعجبون؟! رابعا: توجيه النظر إلى العبرة التاريخية فى أن المكذبين لم يتركوا وعوقبوا. خامسا: الاستدلال العقلى بالقدرة على الخلق الأول فى عدم استبعاد الإعادة والبعث. سادسا: تجمع الآيات الكريمة بين خلق الإنسان، وأنه تحت سلطان خالقه وعلمه بما توسوس به نفسه، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأن أعماله وأقواله مراقبة، وأنه ماض فى طريقه إلى ربه رغما عنه وأن غفلته لن تغنى عنه، وأنه سيقف على حقائق الأمور بعد الموت والنفخ فى الصور، ليرى كيف يكون مصير الكفار المعاندين وكيف

_ (1) القرطبى 17/ 5.

يتلاومون وكيف يصاحبهم الذل والهوان وكيف يكون جزاء المتقين المنعمين بما يشاءون. قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35). سابعا: ذكر المقارنة بين حال المشركين وحال من قبلهم مّمن كانوا على شاكلتهم بل كانوا أشدّ منهم بطشا فما استطاعوا هربا من إهلاك الله لهم. ثامنا: بيان أجهزة التفاعل فى الإنسان بآيات الله القرآنية وآياته فى خلقه عبر التاريخ وهى القلب أو العقل والسمع. وهى أجهزة جعلها الله فى الإنسان وحمّله المسئولية نحوها فبها يبنى الكيان الإنسانىّ وبها يهدم كذلك إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) [الإسراء]. قال تعالى فى بيان ذلك من سورة «ق»: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37). تاسعا: التذكير بقدرة الله سبحانه فى خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام. والتنبيه إلى أن الله سبحانه وتعالى فى صفاته ليس كخلقه. فالخلق يعملون ويتعبون ويستريحون. وقد زعم اليهود هذا فقالوا: إن الله تعالى خلق السموات والأرض فى ستة أيام أوّلها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت فجعلوه

راحة فأكذبهم الله تعالى فى ذلك «1»، ولذلك قال ابن عباس وقتادة إن السورة كلها مكية إلا هذه الآية: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ «2». وبعد هذه المعالجة القرآنية الكريمة لما وقع فيه المشركون من الاضطراب والاختلاط يأتى الأمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقول هؤلاء وتدعيم النفس وتقويتها فى كلّ الأحوال وفى مواجهتهم وذلك بذكر الله فى كل الأحوال وترقّب اليوم الموعود وما يحدث فيه من أمر البعث والحشر. قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ قال ابن عباس: قالوا: يا رسول الله لو خوّفتنا فنزلت: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) «3». فالتذكير بالقرآن يفيد أصحاب القلوب السليمة. كما يحرك غيرهم بما يتضمنه من توجيه العقول للنظر والاعتبار. ولما كان التذكير جليا فى سورة «ق» على نحو ما رأينا وجدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها على الناس يوم الجمعة وفى العيدين وفى الفجر. ففي صحيح مسلم عن أمّ هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تنّورنا وتنّور رسول الله صلّى الله عليه وسلم واحدا سنتين- أو سنة وبعض سنة- وما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا عن لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ يقرؤها كلّ يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثى ما كان يقرأ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وعن جابر بن سمرة أن النبى صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وكانت صلاته بعد تخفيفا «4».

_ (1) القرطبى 17/ 24. (2) القرطبى 17/ 1. (3) القرطبى 17/ 28، وفتح القدير 5/ 82. (4) القرطبى 17/ 1.

سورة «البلد»

سورة «البلد» وبعد المعالجة السابقة فى سورة «ق» تنزل سورة البلد لتذكر الناس بنعمة المكان الذى يقيمون فيه. وموقع الإنسان فى هذه الحياة وما يكابده، وكيف تلعب الظنون بهذا الإنسان فيترك الطريق السوىّ وينسى نعم الله عليه. وتقدم السورة الكريمة للإنسان طريق أصحاب الميمنة، وتحذره من طريق أصحاب المشأمة فالسورة كلّها مكية باتفاق ونزلت بعد سورة «ق» قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20). وعالجت سورة البلد مجموعة من المسائل والقضايا المتعلقة بالإنسان وما أنعم الله به عليه من نعم كثيرة، منها ما يخصّ أهل مكة من تمتعهم بأمن الحرم، فقد مكّن الله لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كلّ شىء، وجعله الله مثابة للناس وأمنا. وشرفهم بحلول الرسول وبعثته فى هذا البلد الأمين أفضل البلدان على الإطلاق. روى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذى وصححه عن عبد الله بن عدى بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «والله إنك لخير أرض الله وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت». وروى الترمذى وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمكة: «ما أطيبك من بلد، وأحبّك إلىّ، ولولا أن قومى أخرجونى منك ما سكنت غيرك» «1» فنعمة الحرم ونعمة حلول الرسول وبعثته فى مكة المكرمة ونعمة التوالد والخروج المستمر والذى تعمر به هذه الحياة بدءا بآدم عليه السّلام وما نسل من ولده وما فى هذا التوالد المتنوع من آيات القدرة والإبداع فذكر المكان وذكر الإنسان

_ (1) فقه السنة 1/ 691.

المنعم بهذا المكان يقتضى أن يكون هذا الإنسان مقدرا لحرمة هذا المكان شاكرا لأنعم الرحمن سبحانه حتى يجد مع الشكر ومع الصبر أى مع الإيمان ما يجعله يتجاوز المتاعب التى سيمر بها رغما عنه براحة القلب وطمأنينة النفس وفى هذا إشعار لهذا الإنسان الذى تكبر ونسى نفسه أنه لا حول له ولا قوة إلا بخالقه والمتفضل عليه سبحانه ولهذا قال القرطبى رحمه الله فى وصف هذه المكابدة: قال علماؤنا أول ما يكابد قطع سرّته، ثم إذا قمط قماطا وشدّ رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع ثم يكابد نبت أسنانه وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذى هو أشدّ من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلّم وصولته، والمؤدّب وسياسته والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور وبناء القصور ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، فى مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين وغمّ الدّين، ووجع السنّ وأ لم الأذن ويكابد محنا فى المال والنفس مثل الضرب والحبس، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسى فيه شدّة ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك وضغطة القبر وظلمته ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقرّ به القرار إما فى الجنة، وإما فى النار، قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد ودلّ هذا على أن له خالقا دبّره وقضى عليه بهذه الأحوال فليمتثل أمره» «1». وعلى الرغم من تجسيد هذا الوصف لما يكابده الإنسان، فإن هذا الإنسان عجيب عند ما يتصور الأمور على غير حقائقها، فيظن أن قدرته مطلقة، ولن يقدر عليه أحد ويستعمل نعمة الله فى المال مثلا فيما يغضب الله عليه. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) أى كثيرا مجتمعا. عن ابن عباس قال: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت فى عداوة محمد مالا كثيرا، وهو فى ذلك كاذب. وقال مقاتل: نزلت فى الحارث بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبى صلّى الله عليه وسلم، فأمره أن يكفّر فقال: لقد ذهب مالى فى الكفّارات والنفقات منذ دخلت فى دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه. أيظن هذا الإنسان أن الله سبحانه لا يراه ولا يحاسبه على أعماله ومنها إهلاكه

_ (1) القرطبى 20/ 62، 63.

لنعمة المال فالمال الذى يوجه إلى المعاصى والشهوات أهلك وأهلك صاحبه، وتقرّر السورة الكريمة هذا الإنسان بنعم الله القريبة منه، من العينين واللسان والشفتين ومن الدلالة على طريقى الخير والشر. فهلّا أقر هذا الإنسان بهذه النعم الظاهرة فأنفق ماله الذى يزعم أنه أنفقه فى عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن، وذلك بعتق الرقاب وتخليصها من الأسر أو من الرق، وفى حديث البراء «وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها» «1». وفى هذا فتح كبير يقدمه الإسلام للإنسان فى تخليصه من الأسر ومن الرق وهذا الفتح يأتى مبكرا فى الفترة المكية من نزول القرآن الكريم. وكذلك يوجه المال إلى الإطعام وخاصة عند الحاجة فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) وكذلك يوجه المال فى هذا المجال إلى صاحب الحاجة القريب فإذا عنى كلّ بقريبه كفى المجتمع كله: يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16). فاقتحام العقبة فى الدنيا والآخرة يكمن فى هذا السلوك المستقيم الذى يؤدى إلى التراحم بين الناس، والعناية بضعافهم ممن يقع فى الأسر أو الرق أو يقع فى الجوع أو اليتم أو شدة الفقر. وهذا السلوك لا بدّ أن يكون منطلقا من أساس الإيمان الذى تقبل به الأعمال، ولكى يستمر هذا لا بدّ من التواصى بالصبر والتواصى بالمرحمة. وهذا مسلك أصحاب الميمنة. أما من وقع فى الكفر بآيات ربه فلن يسلك هذا السلوك أولئك أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة. لقد نبهت سورة البلد الناس إلى نعم الله عليهم فى المكان، وفى حلول النبى صلّى الله عليه وسلم فيه وإلى وجود فريقى الخير والشر وبيان سلوك أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. وكيف تكون النجاة من العقبة.

_ (1) القرطبى 20/ 68.

سورة «الطارق»

سورة «الطارق» نزلت بعد سورة البلد بمكة المكرمة أخرج البيهقى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ بمكة. وأخرج أحمد والبخارى فى تاريخه، والطبرانى وابن مردويه عن خالد العدوانى أنه أبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغى النصر عندهم، فسمعه يقرأ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها، قال: فوعيتها فى الجاهلية، ثم قرأتها فى الإسلام، قال: فدعتنى ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل، فقرأتها فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه «1». وسورة الطارق تأخذ بأبصار الناس إلى السماء ذات النجوم الساطعة التى تطلع ليلا، ليهتدى بها الناس فى ظلمات البر والبحر. وذات الرجع ترجع بالمطر وترجع أيضا بالأقدار، وتأخذ السورة أبصارهم كذلك إلى الأرض ذات الصدع فتنصدع الأرض للنبات، وتنصدع الأرض كذلك عن الأموات وتأخذ الأبصار كذلك إلى ما بين السماء والأرض، وما يتعلق بالإنسان نفسه فى خلقته من الماء الدافق الذى يخرج من الموضع الصعب من الصلب والترائب، تأخذ السورة الناس فى هذه الجولة الفكرية التى يدركون بها مظاهر قدرة الخالق سبحانه ولطفه بعباده ورحمته بهم فالذى صنع هذا هو الذى جعل على كل نفس حفظة يحفظون عليها رزقها وعملها وأجلها «2». وهو الذى سيعيد الإنسان مرة أخرى فهو على رجعه لقادر. وهو الذى سيبدى يوم القيامة كلّ سرّ خفى فيكون زينا فى الوجوه وشينا فى الوجوه «3». وما كان منكتما فى الدنيا فإنه يظهر عيانا للناس فيظهر برّ الأبرار وفجور الفجار وتصير الأمور إلى علانية. والإنسان فى هذا الموقف ليست له من نفسه قوة يدفع بها وليس له ناصر من خارجه ينتصر به. لمن الملك اليوم لله الواحد القهار. والذى خلق هذا هو سبحانه الذى يقرر أن هذا القرآن هو القول الفصل البين

_ (1) فتح القدير 5/ 417. (2) القرطبى 20/ 3. (3) المرجع السابق 20/ 9.

الواضح والذى يفصل بين الحق والباطل روى الحارث عن على رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «كتاب فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بعدكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله». فإذا كانت الحقائق فى هذا الوضوح وظل الكافرون على كيدهم فليعلموا أن الله يكيد كيدا لإظهار الحق الذى كادوا له، ولدفع ما جاءوا به من الباطل فكيف يكون كيد المخلوق الضعيف أمام كيد الخالق العظيم، وفى هذا من الربط على قلب النبى صلّى الله عليه وسلم وعلى قلوب المؤمنين الذين تعرضوا لكيد الكافرين ما يفتح باب الأمل فى النجاة والنصر، والتمكين لدين الله فى الأرض ولو كره الكافرون. ولمزيد من الاطمئنان تذكر السورة الكريمة سنة من سنن الله فى معاملة الكافرين وهى الإمهال والاستدراج من حيث لا يعلمون فإذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر. قال تعالى فى بيان ذلك كله: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17).

سورة «القمر»

سورة «القمر» وبعد سورة الطارق مع هذا البيان الذى فصّل للناس فيها تنزل سورة القمر لتذكر الناس باقتراب الساعة وظهور أدلة صدق النبى صلّى الله عليه وسلم وإعراض المشركين وتقديم أخبار السابقين من الهالكين حتى يكون لهم فى أنبائهم مزدجر، فالسورة مكية كلّها فى قول الجمهور. وأما مقاتل «فيستثنى ثلاث آيات هى قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) فيقول مقاتل فى ذلك: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه فأنزل الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) ولكن القرطبى لا يرى صحة هذا «1» ويورد قول سعيد بن جبير قال سعد بن أبى وقاص: لما نزل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) كنت لا أدرى أىّ الجمع ينهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبى صلّى الله عليه وسلم يثب فى الدرع ويقول: «اللهم إن قريشا جاءتك تحادّك وتحادّ رسولك بفخرها وخيلائها فأخنهم «2» الغداة» - ثم قال: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)» فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات النبى صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر. وقال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين فالآية على هذا مكية «3». وفى البخارى عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلم بمكة وإنى لجارية ألعب: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)، وعن ابن عباس أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال وهو فى قبّة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك؛ وهو فى الدّرع فخرج وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ يريد القيامة وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) أى أدهى وأمرّ مما لحقهم يوم بدر «3». وفى سبب نزولها أخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن أنس: أن أهل مكة سألوا

_ (1) تفسير القرطبى 17/ 125، 146، وفتح القدير 5/ 119. (2) أخنى عليه الدهر: أى أتى عليه وأهلكه ومنه قول النابغة: «أخنى عليه الذى أخنى على لبد». تفسير القرطبى 17/ 146. (3) القرطبى 170/ 146.

رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما»، وروى عنه من طريق أخرى عند مسلم والترمذى وغيرهم وقال: فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وأخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اشهدوا» وأخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل عنه قال: رأيت القمر منشقا شقتين مرّتين: مرّة بمكة قبل أن يخرج النبى صلّى الله عليه وسلم: شقة على أبى قبيس، وشقة على السويداء وذكر أن هذا سبب نزول الآية «1» ويعلق القرطبى على الروايات التى وردت فى انشقاق القمر فيقول: «وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوى الناس فيها؛ لأنها كانت آية ليلية، وأنها كانت باستدعاء النبى صلّى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدى «2». فظهور هذه الآية الحسية الباهرة كان كافيا لتحريك القلوب وتسليم أصحابها وإيمانهم، ولكنّ كثافة الكفر على القلوب جعلت هؤلاء ينسبون هذه الآية إلى السحر، قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقالوا: إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبى قبيس ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنون» قالوا: نعم. وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا؛ فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ينادى المشركين: «يا فلان يا فلان اشهدوا»، وفى حديث ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا من سحر ابن أبى كبشة؛ سحركم فاسألوا السّفّار فسألوهم فقالوا: قد رأينا القمر انشق فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا أى إن يروا آية تدل على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم أعرضوا عن الإيمان وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) فالآيات مع أمثال هؤلاء. لا تغنى فالإعراض والتكذيب واتباع الهوى حجب تحول بين الإنسان وبين الإيمان والنظر العقلى. وإذا كانت الآيات الحسية لا تغنى مع هؤلاء فإنهم كذلك لا يعتبرون بالأنباء التاريخية وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5). وأمام

_ (1) فتح القدير 5/ 123. (2) القرطبى 17/ 126.

هذا الإعراض والادعاء والاتهام بالسحر والتكذيب واتباع الهوى وما يتبع ذلك من تحديات كان التخفيف على النبى صلّى الله عليه وسلم فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ثم يكون الترهيب بالمصير الذى إليه يصيرون: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8). وتعرض السورة الكريمة أنباء السابقين مع تنوع أحوالهم، ووجوه الشبه فى أفعالهم وأفعال هؤلاء المشركين، فهؤلاء قوم نوح كذبوا نوحا وقالوا مجنون فكانت عاقبتهم الإهلاك غرقا، ونجّى الله نوحا والذين آمنوا معه، ويسر الله القرآن وما تضمنه من المعانى للذكر فهل من متّعظ معتبر: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17). كما تذكر السورة تكذيب عاد وكيف أهلكهم الله بريح صرصر فى يوم نحس مستمر: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22). وأما ثمود فكذبوا كذلك ونظروا إلى رسولهم نظرة ليست صحيحة، فقالوا: هل نتبع واحدا منا، وهل خصّه الله بالذكر من بينهم، وأرسل الله إليهم آية حسية تتمثل فى الناقة فعقروها فأهلكهم الله بالصيحة: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. كما قدمت السورة الكريمة أنباء قوم لوط وتكذيبهم وأفعالهم وكيف أهلكهم الله كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا

فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40). ومع ما قدمته السورة الكريمة من أنباء السابقين الذين كذّبوا رسلهم فأهلكهم الله ومن هؤلاء آل فرعون الذين كذبوا فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وبعد تقديم أنباء هؤلاء تستخلص العبرة فهل الكفار المعاصرون لنزول القرآن الكريم خير من أولئك أم لهم براءة مكتوبة من الهلاك والعذاب؟ أم يعتدون بقوتهم وجمعهم، فقد كان السابقون أشد منهم قوة؟! إن سنة الله ماضية فى أخذ الكافرين بأعمالهم ومعاقبة المجرمين بضلالهم قال تعالى: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48). وبعد هذا البيان لعاقبة الكافرين فى الدنيا وفى الآخرة. يخاطب الناس بما يذهب الهمّ ويبدّد الحزن إنه الإيمان بالقدر إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وأن قضاء الله فى خلقه أسرع من لمح البصر وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) فهل يعى المشركون ذلك ليحذروا من الاستمرار فى غيهم وأما المؤمنون فإنهم يطمئنون إلى نصر الله وفرجه القريب والتمكين لهم فى الأرض. لقد أهلك الله أشباه الكافرين من الأمم الخالية وكل ما فعلوه لا ينسى وإنما هو مسطور. وتبقى العاقبة للمتقين وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55).

سورة «ص»

سورة «ص» وبعد هذه الآيات الكريمة تنزل سورة «ص» لتستمر فى كشف مواقف الكافرين وتهديدهم، وبيان ما حدث لمن كان قبلهم. فهى سورة مكية فى قول الجميع، ونزلت بعد القمر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة «ص» بمكة «1»، وأخرج ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذى وصححه والنسائى وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبى صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبى طالب قدر مجلس رجل، فخشى أبو جهل أن يجلس إلى أبى طالب ويكون أرقى عليه فوثب، فجلس فى ذلك المجلس، فلم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أى ابن أخى ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم. وتقول وتقول، قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «يا عم إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدّى إليهم بها العجم الجزية»، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك عشرا، قالوا: فما هى؟ قال: «لا إله إلا الله»، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون- أجعل الآلهة إلها واحدا إنّ هذا لشىء عجاب- فنزل فيهم: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) «1». فالسورة الكريمة تبرز جانبا من أسباب الكفر والعناد لدى الكفار وذلك لمعرفة حالتهم

_ (1) فتح القدير 4/ 418.

الضالة وتهديدهم ووعيدهم حتى يتمكن من تدبر حاله وخشى العاقبة من تدارك أمره والإذعان لما جاء فى القرآن ذى الذكر، فمن هذه الأسباب: الكبر والاستعلاء فى الأرض بغير الحق والذى يحول بين الإنسان وبين الاستجابة للحق والانقياد له. فالذين كفروا فى عزة وشقاق. ومن هذه الأسباب: فساد تصور الكافرين عن الألوهية، وركونهم إلى تعدد الآلهة فكان تعجبهم من عقيدة التوحيد التى جاء بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان قولهم الذى ذكرته السورة الكريمة: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5). ومن هذه الأسباب: فساد تصور الكافرين للنبوة فكان عجبهم أن يأتيهم منذر منهم، وكان قولهم الذى ذكرته هذه السورة الكريمة: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا. فقد ربطوا النبوة فى أذهانهم بالمقاييس الجاهلية التى تقدر الإنسان بما لديه من مال وبما ينتمى إليه من عصبية، فالنبى فى نظرهم لا يخرج عن هذه المقاييس، وهذا جاء على لسان الوليد بن المغيرة حيث قال: أينزل على محمد وأترك؟ وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفى سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين «1». كما أنهم لم يتصوروا أن يكون الرسول رجلا بل ينبغى أن يكون ملكا. وهذا المعنى قد حكاه القرآن الكريم بعد ذلك فوجدناه فى مثل قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) [الأنعام] وفى قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) [الإسراء]. وفى بيان أسباب إعراض الكافرين وعنادهم نذكر من هذه الأسباب ما يقوم به السادة والكبراء من إضلال العامة وتوصيتهم بالاستمساك والصبر على باطلهم: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6). واعتبار السادة أن هذا شىء يراد يشعر بسبب له تأثيره فى الاستمساك بالكفر وهو نظرهم إلى النبى صلّى الله عليه وسلم على أنه يريد العلو عليهم وليصيروا أتباعا له، وهذا المعنى جاء على ألسنة كثير منهم من هذا ما قاله أبو سفيان فى فتح مكة عند ما وقف بمضيق الوادى لتمرّ به جنود الله، ومعه العباس عم النبى صلّى الله عليه وسلم وبعد أن رأى جند الله قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم

_ (1) الإسلام فى مواجهة التحديات د. محمد رأفت سعيد ص 120.

قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، قال العباس: قلت يا أبا سفيان: إنها النبوة، قال: فنعم إذا «1». فكلمة أبى سفيان تمثّل تصور المشركين لبعثة النبى صلّى الله عليه وسلم، وأنه سينزع عنهم مكانتهم وسلطانهم وهيبتهم من القبائل، من أجل ذلك ناصبوه العداء، وتفننوا فى عدائه وكادوا له كيدا كبيرا. ومما يدلّ على ذلك- أيضا- اجتماع وفد من المشركين برسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا فيه للنبى صلّى الله عليه وسلم: «يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلّمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثلما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسببت الآلهة، وسفّهت الأحلام، وفرقت الجماعة ... فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيّا تراه قد غلب عليك- وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا- بذلنا لك أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما بى ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثنى إليكم رسولا، وأنزل علىّ كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوا علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» أو كما قال صلّى الله عليه وسلم «2». فإذا كانت هذه من جملة أسباب عداء المشركين للنبى صلّى الله عليه وسلم فإن السورة الكريمة تزجرهم وترد عليهم مزاعمهم وتتوعدهم وتعرفهم بحقيقة الأمر، ليصححوا تصوراتهم ويقلعوا عن غيهم وذلك بذكر ما يلى: أولا: لا ينبغى أن يفتر هؤلاء بطول إمهال الله لهم، لأنهم لو ذاقوا العذاب لزال عنهم ما يجدون من كبر وعناد، قال تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8). ثانيا: لا يملك هؤلاء من الأمر شىء فرحمة ربّك العزيز الوهاب يخص بها من

_ (1) جند الله فى معارك رمضان د. محمد رأفت سعيد 35، 36. (2) الإسلام فى مواجهة المخدرات د. محمد رأفت سعيد 30.

يشاء، فهل يملك هؤلاء رحمة ربك ليمنعوا أحدا نعمة الله عز وجل، قال تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. وكما جاء فى قوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32]. ثالثا: هل لهؤلاء ملك السموات والأرض وما بينهما، إن ادّعوا ذلك فليصعدوا إلى السموات وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحى على محمد صلّى الله عليه وسلم قال تعالى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10). رابعا: توعدهم الله بالهزيمة فيما ادّعوا من ناحية وفى مواجهتهم للنبى صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين من ناحية أخرى، قال تعالى: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11). خامسا: العبرة التاريخية فى عقاب من كان على شاكلتهم فى الكفر والعناد والكبر؛ قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ (13) الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14). ومع ذكر استهزائهم بالعذاب، واستعجالهم له يقول الله تعالى مسليا لرسوله صلّى الله عليه وسلم: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17). ويذكّر الله سبحانه رسوله بما كان من أمر مجموعة من رسل الله السابقين مع بعض المواقف التى حدثت معهم وكيف كان تصرفهم وفى هذا تصبير من ناحية ودليل على صدق نبوته ورسالته؛ لأنه لا يعلم هذه الأخبار بصدقها وتفاصيلها أحد فيهم، وأن الله يهب من يشاء من خلقه ما يشاء من ملك وحكمة، فهو سبحانه الوهاب فهذا داود يقول الله فى شأنه: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20). ثم تذكر الآيات حادثة مع نبى الله داود لا يعلمها إلا الله قال تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ

نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24). لقد تابعت السورة الكريمة ما حدث مع داود عليه السلام بعد استغفاره لربه وركوعه وإنابته قال تعالى: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26). وفى هذا البيان القرآنى الكريم عن طريق القصة تؤكد المبادئ الآتية: - إن من ولى من أمور الناس شيئا فعليه أن يحكم بين الناس بالحق. - ومن كان الحق رائده فلن يتبع الهوى. فاتباع الهوى فيه الضلالة عن سبيل الله، ونتيجة هذه الضلالة أن ينسى الإنسان يوم الحساب حتى يقع فى العذاب الشديد. - والذى يتبع الهوى لا ينظر إلى الأشياء نظرة صحيحة ولا يتبع فى نظرته اليقين، فالسماء والأرض فيهما من آيات الحق ما يجعل المؤمنين فى قوة إيمان والتزام بصالح الأعمال، وأما الذين كفروا فلا ينتفعون بهذه الآيات، ويتبعون الظنّ الذى يحرمهم من الانتفاع بالآيات. وإذا كان هذا شأن الإنسان مع الآيات الكونية فإنه كذلك مع آيات الكتاب العزيز فإن ثمرات الكتاب العزيز تجنى بالتدبر، قال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29). وبعد أن تعطى الآيات ما يجتنى من القصة السابقة تستأنف عطاء جديدا يمنحه الله لداود عليه السّلام قال تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40).

وتقديم النموذجين الكريمين للناس فى هذه الفترة المكية تهيئة صالحة لما سيقبلون عليه من استقرار الدولة المسلمة التى يقضى فيها بين الناس بالحق، وبيان كذلك للناس أن من عباد الله من أوتى الملك الذى لم يصل إليه واحد ممن يمنعه ماله وجاهه من الإذعان والامتثال لأمر الله ورسوله، والإنسان يبتلى بألوان من البلاء بالشر والخير، ولكن عاقبة المؤمنين دائما أن يتذكروا، وأن ينيبوا إلى ربهم، وأن يستغفروا ليجدوا مغفرة الله وإكرامه لهم. ثم تقدم السورة الكريمة نموذجا آخر من صفوة الناس يبتلى، وكيف يكون حاله فى الابتلاء وكيف تكون عاقبته، قال تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) فأيوب عليه السّلام يبتلى بهذا الابتلاء الشديد فى بدنه، ويلجأ إلى الله ويدعوه رغبا ورهبا، فيكشف الله ما به من ضر ويؤتيه أهله ومثلهم معهم. وتقص الآيات تفصيلات حدثت مع هذا الابتلاء فى كيفية الضرب بالرجل على الأرض ليغتسل وليشرب فيبرأ بإذن الله، وكيف يضرب بالضغث ولا يحنث. وفى هذا تأكيد على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أحد بهذه التفاصيل إلا الله الذى أنزل الكتاب وما عند أهل الكتاب يكتمونه، وليسوا معه فى مكة المكرمة مع ما حرفوه وبدّلوه وشوّهوا أحداث هؤلاء الصفوة. وتستمر السورة الكريمة فى تقديم هذه النماذج المشرقة، ليقتدى بها فإن مواقفهم قابلة للتكرار، والتحلى بما كانوا عليه من صفات يحقق ما وصلوا إليه من نتائج، وما منحهم الله من عطايا. يقول الله تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48). وفى الوقت الذى يضع التنزيل المبارك أمام الناس هذه النماذج الكاملة يبشر من اقتدى بهم، واتصف بصفاتهم، ويذكر ما أعد الله لهم من نعيم معنوى وحسى من تفتيح الأبواب والاتكاء والفاكهة الكثيرة والشراب الطهور والحور العين، قال تعالى:

هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54). ومع تقديمها للنماذج الكاملة من صفوة خلق الله، ليقتدى بهم فيما كانوا عليه من كريم الخصال وحميد الصفات، وحثّ الناس على اتباع سبيلهم، وبيان ما أعدّ من نعيم لمن سار على ذلك. تذكر الآيات بعد هذا البيان ما ينتظر الطغاة الذين انحرفوا عن هذا السبيل، وأصروا على الكفر واستكبروا استكبارا، وكيف يكون حالهم فى جهنم من خزى وعذاب، فبئس المسكن والمستقر وكيف يذوقون الماء الحار الذى يقطع أمعاءهم، وما يشبه ذلك من أنواع وأصناف، وكيف لا يرحّب بهم ويلعن بعضهم بعضا، ويلقى بعضهم على بعض سبب الوصول إلى هذا المصير. وتذكر الآيات الكريمة مشهدا ينبه الساخرين من المؤمنين وأنهم مخطئون فى سخريتهم، قال تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64). وبعد هذا الإنذار وقبله التبشير يؤمر النبى صلّى الله عليه وسلم بتقرير مهمته وما جاء به من عند ربه من التوحيد والتذكير بالله سبحانه وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وما يقبلون عليه من مصير إذا أعرضوا عنه، ويقدم لهم أدلة صدقه فى إخباره عن أشياء لا سبيل إلى العلم بها إلا عن طريق الوحى، قال تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70). ومن أخبار هذا الغيب ما يتعلق بخلق آدم عليه السّلام من طين وكيف سواه الله، ونفخ فيه من روحه وأمر ملائكته بالسجود له، وكيف سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس

استكبر وكان من الكافرين. وذكر ما حدث من إبليس تنبيه للناس وتذكير لهم بحقائق لها صلة بكفر الكافرين، واستكبارهم وعنادهم، وتبصير لهم كذلك بسبب من أسباب الكفر والعناد، وما يحاوله الشيطان مع الإنسان بمحاولة إقحامه فى عقبة الكفر. وهذا ما وقع فيها الكافرون فلما أمروا باتباع رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) [الزخرف] ونظروا كذلك إلى من آمن من المستضعفين نظرة احتقار، وأن الكافرين خير منهم. ثم تذكر الآيات الكريمة حرص الشيطان وإصراره على إغواء بنى آدم. والعاقل مع وضوح هذه الحقائق يحسن السير ويتجنب المخاطر. قال تعالى: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83). ومع بيان جهد الشيطان ومحاولته فى إغواء بنى آدم وتحذير الناس من هذه العداوة يأتى الوعيد للشيطان ولمن تبعه قال تعالى: قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (84). وبعد هذا التبشير والإنذار وبيان مصدر من مصادر العداوة للإنسان، وكيف يكون حرص الشيطان على الإغواء يأتى التأكيد على حرص النبى صلّى الله عليه وسلم على تذكير العالمين دون أجر، وأنه يسلك فى هذا سبيل الفطرة دون تكلف فى أمره كله فلا تكلف فى أى مظهر من مظاهر الاعتقاد أو الأخلاق أو السلوك أو المعاملات. وأن ما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الحق الذى سيدرك الناس أجمعون أنه الحق الآتى الذى لا ريب فيه. قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88). فالرسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يتكلف ولا يتخرص ما لم يؤمر به، روى مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من سئل عما لم يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلف، فإن قوله لا أعلم علم، وقد قال الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86).

وروى الدارقطنى من حديث نافع عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره. فسار ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له فقال له عمر: يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة فى مقراتك؟ فقال له النبى صلّى الله عليه وسلم: «يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت فى بطونها ولنا ما بقى شراب وطهور». ولقد تعلم عمر من هذا الموقف فحدث معه موقف آخر يدل على استيعابه لهذه الفطرة، ففي الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج فى ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص: يا صاحب الحوض، هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا.

سورة «الأعراف»

سورة «الأعراف» نزلت بعد سورة «ص» فهى مكية إلا الآيات الآتية: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170). قال ابن عباس: سورة الأعراف نزلت بمكة «1» وأخرج ابن مردويه عن عبد الله ابن الزبير مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال: آية من الأعراف مدنية وهى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ... إلى آخر الآية، وسائرها مكية، وأما القرطبى والشوكانى فقد ذكرا ما جاء عن كونها مكية إلا الآيات الثمانى التى ذكرناها «2». وهى آيات تخاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يسأل اليهود الذين هم جيرانه- ولم يكن ذلك إلا فى المدينة المنورة- سؤال تقرير وتوبيخ عن أخبار أسلافهم، وما مسخ الله منهم قردة وخنازير. وكان هذا من دلائل صدق النبى صلّى الله عليه وسلم إذا أطلعه الله على تلك الأمور من غير تعلم، وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. فقال الله عز وجل

_ (1) أخرجه ابن الضريس والنحاس فى ناسخه وابن حزم وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل من طرق عن ابن عباس فتح القدير 2/ 187. (2) القرطبى 7/ 160.

لنبيه صلّى الله عليه وسلم: سلهم يا محمد عن القرية، أما عذّبتهم بذنوبهم؛ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة واختلف فى تعيين هذه القرية فقال ابن عباس وعكرمة والسّدّى: هى أيلة، وعن ابن عباس- أيضا- أنها مدين بين أيلة والطور. وأما الزهرى فيرى أنها طبريّة. وأما قتادة وزيد بن أسلم فيذكرون أنها ساحل من سواحل الشام بين مدين وعينون يقال لها: مقتاة. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم «1». وسورة الأعراف أول سورة طويلة تنزل بمكة، فقد بلغت آياتها مائتين وست آيات بالآيات المدنية الثمانى. وقرأ النبى صلّى الله عليه وسلم بهذه السورة على طولها فى صلاة المغرب. فقد روى النسائى عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ فى صلاة المغرب سورة الأعراف، فرّقها فى ركعتين «2». وعلى ذلك فإن سورة الأعراف تفصّل للناس من المعانى ما يدعم القضايا التى أثيرت فى السور السابقة، ومن هذه القضايا ما يتصل بالكتاب العزيز، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم الذى أنزل إليه الكتاب، واستقبله بشوق وهمة وأنذر به الناس وبشرّ، والناس نحوه على قسمين: قسم مستجيب مؤمن، وقسم معرض معاند. وتبين السورة أمرا جديرا بالعناية نحو الكتاب والذى أنزل إليه وهو أمر الاتباع لما جاء به النبى صلّى الله عليه وسلم فالعلم وحده لا يكفى وإنما يجمع بين العلم والعمل. وأن عدم الاتباع والوقوع فى الكفر يؤدى إلى التهلكة، ولهم فى القرى السابقة عبرة فقد جاءهم العذاب بغتة ليلا أو نهارا قال تعالى: المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5). ومن القضايا الأساسية فى السورة الكريمة ما يتصل بالسؤال الذى سيوجّه إلى الجميع: إلى المرسلين، والذين أرسل إليهم وإخبارهم بما عملوا، فالله أحصى ما صنعوا وما يغيب عنه سبحانه شىء: ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) [المؤمنون] قال تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7). وما يسجّل على الإنسان أو له فإنما يسجّل بدقة بالغة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً

_ (1) القرطبى 7/ 304، 305. (2) القرطبى 7/ 160، وفتح القدير 2/ 187.

يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة] فالوزن يومئذ القسط والذى يثقل ميزانه بصالح عمله وحسن اتباعه فهو من المفلحين، والذى خفّت موازينه بالسيئات فقد خسر نفسه قال تعالى فى هذه السورة: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9). وتأتى السورة الكريمة لتذكر الناس بتمكين الله لهم فى الأرض، وتهيئة أسباب المعايش لهم فيها، ولتذكرهم بنعمة الخلق والتصوير والتكريم بأمر الملائكة بالسجود لآدم قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) ومع ذكر هذا التكريم تنبيه لبنى آدم، ليدركوا عداوة الشيطان لهم، وليقفوا على سوء منطقه وكبره وجزائه وإمهاله قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15). تضع السورة الكريمة أمام بنى آدم توعّد الشيطان لبنى آدم وحيله معهم من كل طريق لإغوائهم: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18). وكانت التجربة الأولى لبنى آدم فى أن ينهى آدم عليه السّلام عن الاقتراب من الشجرة مع وجوده فى نعيم يغنيه عنها، ولكنّ الشيطان العدو المبين يسلك سبيله فى الوسوسة لآدم وزوجته، وتكون المعصية، ويظهر أثر المعصية على آدم وزوجته ولكن يتوبان إلى الله ويتوب الله عليهما، قال تعالى: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23).

واستمرت العداوة واستمر الكيد من الشيطان لبنى آدم وأهبط آدم وزوجته إلى الأرض يمارسان الحياة فيها وليكون الموت فيها، ومنها يكون الخروج وخير حال لبنى آدم أن تستر الثياب أجسادهم، وأن يتجملوا بها ظاهرا، وأن يلبسوا ثياب التقوى ليتجملوا بها خلقا وسلوكا وأعمالا. وإذا كان الشيطان قد فتن آدم وزوجته لينزع عنهما لباسهما بالمعصية فينبغى ألا يقع بنو آدم تحت تأثير الشيطان نفسه وإغوائه فالسورة الكريمة تربط للناس الحاضر بالماضى ليأخذوا العبرة وليكونوا على حذر قال تعالى: قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وفى هذا بيان لعمل الشيطان ولطبيعته وصلته ببنى آدم حتى يأخذوا حذرهم منه. وتصحح السورة الكريمة مفاهيم خاطئة لدى الناس من التقليد للآباء فى الفواحش وتبرير هذا التقليد بأن الله أمر بهذا، كما تصحح جهلا وقع الناس فيه وتوجه إلى الصواب فى الأمر قال تعالى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وتنبه السورة الكريمة الناس إلى البعث وأنهم سيعودون إلى الحياة مرة أخرى للحساب ولكن فريقا هدى وفريقا ضل الطريق قال تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30). وتهيئ السورة النفوس لكى تتحلى بالمظهر الطيب عند لقاء الجماعة المؤمنة فى بيوت أذن الله أن ترفع، وأن تتحلى كذلك بالتوازن فى حياتها المادية والروحية والعقلية، فعند ما تنمى أبدانها بالطعام والشراب ينبغى ألا يكون ذلك على حساب الروح أو العقل فلا إسراف فى مأكل أو مشرب، فالإسلام جاء ليحقق التوازن فى كل شىء، ويجعل

أتباعه يتمتعون بما أحل الله من الطيبات والزينة، ويحصنون أنفسهم من الموبقات التى حرمها الله سبحانه قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33). كما تذكر السورة الكريمة أن للأمم آجالا كآجال الأفراد، وأن هذه الأمم يمنّ الله عليها ببعثة الرسل يتلون عليهم آيات ربهم، والعاقبة لمن استجاب واتقى وأصلح، وأما الذين كذبوا واستكبروا فمصيرهم إلى النار. وبعد هذا البيان فمن أظلم ممّن كذّب بآيات الله إنهم ظلموا أنفسهم ومهدوا لها بظلمهم السبيل إلى النار. قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41). ومن المعانى التى تضمنتها سورة الأعراف بيان منهج المؤمنين الذين يعملون الصالحات فى يسر العمل، وأخذ ما يستطيعون، وكيف يصيرون إلى الجنة بصدور لا غل فيها ونعيم تطيب به نفوسهم، واعتراف بفضل الله عليهم وهدايتهم، وتوفيقهم فى اتباع

الرسل واستقامتهم على صالح الأعمال، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43). وتعرض سورة الأعراف مشهدا لفريقين من الناس فى الآخرة: فريق الجنة، وفريق النار، وما يكون بين الفريقين من كلام، كما تعرض لفريق ثالث بين الفريقين: ويمثل هذا الفريق رجالا على الأعرف أى ما يكن من سور أو حجاب يقال له: الأعراف لا من الجنة ولا من النار بل بينهما، ومن يكن عليه ير حال الفريقين الآخرين. فأما أصحاب الجنة فينادون أصحاب النار بأنهم وجدوا ما وعدهم ربهم حقا. وأما أصحاب النار فكانوا فى شك من وعد الله فكفروا فى الدنيا، أما الآن فإنهم يقولون: نعم. ولكن لا ينفعهم إيمانهم فى هذا الموقف، وقد ظلموا وصدوا عن السبيل وأرادوها عوجا وكفروا بالآخرة. وأصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة والنار بسيماهم، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم- وهم- إلى الآن- لم يدخلوا الجنة ولكنهم يطمعون فى دخولها، ولم يجعل الله الطمع فى قلوبهم إلا لما يريد بهم من كرامته. وإذا وجّهت أبصارهم تلقاء أصحاب النار رأوا منظرا شنيعا، ودعوا ربّهم ألا يكونوا مع هؤلاء الظالمين. ويجد أصحاب الأعراف عند رؤيتهم النار وأهلها رجالا يعرفونهم وكانوا فى الدنيا أصحاب أموال وأولاد وجاه؟ فيقولون لهم: ما أغنى عنكم ما كنتم تحتمون به وتفاخرون به من عصبية وجاه، لقد ذهب كل هذا ولم يغن عنكم شيئا. ثم أشاروا لهم إلى أناس من أهل الجنة كانوا فى الدنيا فقراء ضعفاء يستهزئ بهم أهل النار فيقولون لهم: أهؤلاء الذين احتقرتموهم وأقسمتم أنهم لا ينالهم الله برحمة. لقد قيل لهؤلاء الضعفاء- إكراما لهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون. لقد كان هذا واقعا من المشركين مع المؤمنين، وقد مر بنا فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) [المطففين]. وأما موقف أصحاب النار فإنه موقف خزى نفسى، وعذاب أليم فهم ينادون على

أصحاب الجنة سائلين ماء أو شيئا مما رزقهم الله، ولكنّ الله حرّم هذا على الكافرين اللاهين اللاعبين الذين جحدوا ونسوا لقاء يومهم هذا فظلموا وطغوا. قال تعالى فى بيان هذا المشهد من سورة الأعراف: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51). وتقدم السورة الكريمة ما يفيد أن أهل النار لم ينتفعوا بالكتاب الذى جاءهم مفصلا فهل إعراض هؤلاء عن الكتاب يرجع إلى انتظارهم لتحقق ما جاء فيه، إنه عند وقوع ما أخبروا به لن ينفعهم وقوفهم على هذا الحق يوم القيامة، ولن يجدوا شفعاء، ولن يردّوا إلى الحياة مرة أخرى، بل تكون عاقبتهم الخسران المبين قال جل شأنه: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53). وبعد هذا يأتى التوجيه الكريم فى السورة الكريمة إلي المعرفة الصحيحة بالرب المعبود وحده لا شريك له، فهو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام فلما قضاهما وأودع فيهما من أمره ما أودع استوى تبارك وتعالى على العرض العظيم استواء يليق بجلاله وعظمته وسلطانه. ومن آياته فى هذا الخلق الليل والنهار فيغشى الليل المظلم النهار المضىء، فيظلم ما على وجه الأرض، ويسكن الآدميون، وتأوى المخلوقات إلى مساكنها، ويستريحون من النصب والكد والكدح فى النهار. وكلما جاء الليل ذهب النهار، وكلما جاء النهار ذهب الليل، وهكذا ومن آياته المرتبطة بالليل والنهار: الشمس

والقمر والنجوم وما جعل فيها من آيات ومنافع، وما جعل فيها من إحكام ونظام وإتقان يدل على حكمته وقدرته ورحمته بخلقه. فله سبحانه الخلق وهذا يتضمن أحكامه الكونية، وله الأمر وهذا يتضمن أحكامه الشرعية، وله أحكام الجزاء والتى ذكرت من قبل الله رب العالمين، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54). وفى السورة توجيه إلى المعرفة الصحيحة بالرب المعبود سبحانه ولمّا ذكر من عظمته وجلاله ما يدل ذوى الألباب على أنه وحده المعبود المقصود فى الحوائج كلها أمر بما يترتب على ذلك من دعائه وحده، والاستجابة لأمره ونهيه وعدم الإفساد فى الأرض بالمعاصى بعد إصلاحها بالطاعات، ودعائه سبحانه خوفا وطمعا فهو الذى يحقق الرجاء ويدفع الضر، وهو الذى يرسل الرياح المبشرات بالغيث الذى ترتاح له القلوب، وهو الذى سخر هذه الرياح لتلقّح السحب ولتسوقها إلى أرض لا غنى لها عن الماء لتحيا ويخرج الله به من كل الثمرات. والذى أحيا الأرض بعد موتها هو الذى سيحيى الإنسان بعد موته. وإذا كانت الأمّة كالأفراد صلاحا وفسادا، فإن القرى التى تضم الأفراد والجماعات كذلك قد تكون بلدا طيبا يخرج نباته بإذن ربه، فليست الأسباب وحدها هى التى تخرج، وإنما تخرج بإذن ربها فينعم أهل البلد الطيب بثمراته، وأما الذى خبث من الأرض فلا يخرج إلا نباتا لا نفع فيه ولا بركة، كذلك حال القلوب وأصحابها مع وحى الله وآياته منهم: من يكون كالأرض الطيبة التى تستقبل الماء فتنتفع به وتخرج بإذن ربها للناس من كل زوج بهيج، ومنها: الأرض التى لا تنتفع بالماء ولا تخرج زرعا. قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58). وبعد هذا العرض الجامع للقضايا الأساسية فى حياة الدعوة ونقل الناس من

الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى يأتى التعليم القرآنىّ بالقصة المفصّلة التى تعرض ما حدث مع رسل الله السابقين وأممهم. فهذا نبى الله نوح أرسله الله إلى قومه فأمرهم بعبادة الله وحده، وكانوا يعبدون الأوثان وخوّفهم من عذاب الله إن لم يطيعوه، وتصدّى له الملأ من قومه وهم الرؤساء الأغنياء المتبوعون، ولم يكتفوا بالكفر والإعراض بل قدحوا فيه واتهموه بالضلال المبين، وتلطف نوح فى ردّه عليهم فليس به ضلالة ولكنه رسول من رب العالمين يبلّغ وينصح ويعلم ما لا يعلمون، ولا مجال لعجبهم أن يخصّ بهذا الخير رجل منهم هو نوح عليه السّلام لكنهم كذبوه، وكانت العاقبة أن أنجاه الله ومعه المؤمنون فى الفلك وأغرق المكذبين قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64). وهذا نبى الله هود أرسله الله إلى عاد فقال لهم ما قال نوح من قبل: أن اعبدوا الله وحده، وأن اتقوا سخطه وعذابه، وتصدى له الملأ كذلك واتهموه بالسفاهة ورموه بالكذب، وخاطبهم برفق كذلك وأنه ليس به سفاهة ولكنه رسول من رب العالمين يبلغهم رسالة ربه وهو لهم ناصح أمين، وما لهم أن يعجبوا من أن يكون الرسول واحدا منهم وزاد هود فى نصحه ما يذكّرهم بما حدث لقوم نوح قبلهم، وأن الله زادهم بسطة فى الخلق ولكنهم عجبوا من التوحيد بعد التعدد وتعجلوا العذاب، فوقع عليهم وأنجاه الله والذين آمنوا معه. قال تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها

أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72). وهذا نبى الله صالح أرسله الله إلى ثمود فدعاهم إلى التوحيد، وقال لهم ما قاله نوح وما قاله هو: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وجاءهم بآية خارقة ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فكان للناقة شرب ولهم شرب يوم معلوم، فكان عندهم بئر كبيرة يتناوبونها هم والناقة وهى المعروفة ببئر الناقة، فللناقة يوم تشربها، ويشربون اللبن من ضرعها، ولهم يوم يردونها، وتصدر الناقة عنهم. وقال لهم نبيهم صالح عليه السّلام ذروها تأكل فى أرض الله فلا عليكم من مئونتها شىء، ولا تمسوها بسوء، وذكّرهم بنعم الله عليهم حيث مكّن لهم فى الأرض، ويسّر لهم الأسباب التى توصلهم إلى ما يريدون فاتخذوا القصور ونحتوا الجبال بيوتا، وجاءوا بعد عاد وعرفوا ما حدث لهم ونهاهم عن الفساد. فتصدى له كذلك الملأ الذين استكبروا، وحاول الملأ أن يشككوا المستضعفين ويتنوهم عن الإيمان بنبى الله صالح عليه السّلام وعقروا الناقة ولم يستجيبوا لأمر ربهم وتعجّلوا العذاب فأبادهم الله وقطع دابرهم، قال تعالى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79). وقد حذر الرسول الناس من سلوك سبيل هؤلاء، فأخرج أحمد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى فى الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وصححه، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نزل الحجر قام فخطب فقال: «يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات. فإن قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله لهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها، ويحتلبون من لبنها

مثل الذى كانوا يأخذون من مائها يوم غبّها، وتصدر من هذا الفجّ فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدا من الله غير مكذوب، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا كان فى حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله»، فقيل: يا رسول الله من هو؟ فقال: «أبو رغال؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» قال ابن كثير: هذا الحديث على شرط مسلم وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أبى الطفيل مرفوعا مثله. وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو بالحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين. فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم». وأصل الحديث فى الصحيحين من غير وجه، وفى لفظ لأحمد من هذا الحديث قال: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود. وتناولت سورة الأعراف كذلك لوطا مع قومه الذين وقعوا فى الفاحشة التى ما سبقوا إليها، وهى: إتيان أدبار الرجال لقضاء الشهوة دون أن يمنعهم حياء وكانوا كالبهائم التى ينزو بعضها على بعض لما يتقاضاها من الشهوة، ويتجاوزون فى فعلهم هذا الزوجات من النساء اللاتى هن محل لقضاء الشهوة. ولما فسدت حالهم فى هذه العلاقات الآثمة فسدت نظرتهم إلى الأمور، والحكم على الناس فقالوا: أخرجوا آل لوط وأتباعه من قريتكم؛ لأنهم يتطهرون عن الإتيان فى هذا المأتى قال قتادة: عابوهم والله بغير عيب. وأصبح فى نظرهم الطهر عيبا يستوجب العقوبة. فأنجى الله لوطا وأهله إلا امرأته كانت من الباقين فى عذاب الله. قال تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84). وجاء بعد ذكر لوط عليه السّلام وقومه ذكر شعيب وإرساله إلى مدين، وأمره لهم بعبادة الله سبحانه وحده وحثّه لهم على الاستقامة فى البيع والشراء بإتمام الكيل والميزان، وألّا

ينقصوا الناس أشياءهم، وألا يفسدوا فى الأرض، وألا يصدوا الناس عن الحق والهدى، وألا يبغوها عوجا، وأن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن ينتفعوا بعاقبة المفسدين. وتناولت السورة شعيبا عليه السّلام وإرساله إلى مدين وأمره لهم بعبادة الله سبحانه وحده والإصلاح الاقتصادى، وعدم الإفساد فى الأرض، وعدم الصدّ عن الحق وتذكّر نعم الله عليهم والانتفاع بما وقع لغيرهم قال تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93). ولقد قدّمت سورة الأعراف نماذج متعددة من سلوك الناس مع رسل الله فى شركهم واستهانتهم بالحق وسخريتهم وفساد تصوراتهم وكبرهم وتكذيبهم، ووقوعهم فى الفاحشة، وسوء معاملاتهم الاقتصادية، وصدّهم عن سبيل الهدى، وإرادتهم للفساد فى الأرض وعدم انتفاعهم بما حدث لغيرهم، وكل هذا يمثل دروسا نافعة للناس؛ كى يفيدوا من أحداث السابقين والسعيد من وعظ بغيره. ولذلك كان التعقيب القرآنى بعد ذكر هذا القصص الحق: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95). وإذا كان العقلاء هم الذين ينتفعون بما يحدث لغيرهم على مرّ الأيام والليالى فإن

الغافلين عن سنة الله فى خلقه لا يفيدون من حالات البأساء والضراء والتقلب فى الغنى والصحة بعد العذاب، ويعدّون هذا من قبيل العادات حتى يفاجئهم العذاب. وتذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك سبيل الفتح والبركات لأهل القرى فى الإيمان والتقوى، وسبيل العذاب فى التكذيب والذنوب وعدم الوفاء، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102). وبعد هذا البيان الشافى والمبيّن لسنة الله فى خلقه عبر التاريخ يأتى التفصيل فى سورة الأعراف لما حدث من فرعون الذى يمثل قمة الطغيان البشرى، وكيف واجهه موسى عليه السّلام بالآيات والبراهين؛ ليرجع عن طغيانه وإفساده، ولكنه كذّب وأبى فأغرقه الله وأذاقه وآله العذاب الأليم، وتعرض الآيات الكريمة تفصيلا للمواقف التى حدثت مع نبى الله موسى ومن آمن معه من فرعون وملئه، قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122).

ولو كان فرعون على بصيرة لأذعن من رؤيته لموقف سحرته، وأن ما جاء به موسى ليس من قبيل سحرهم، ولكنه لم يفد من هذا، وادعى لنفسه السلطة على عقول الناس وقلوبهم فلا ينبغى أن يرى أحد إلا ما يراه فرعون، قال جل شأنه: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126). ثم تذكر الآيات تسلط فرعون على قومه فى عقولهم وقلوبهم، وموقف السحرة بعد إيمانهم بآيات ربهم، واستعلائهم على عذاب فرعون وطلبهم من ربهم رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك إغراء الملأ من قوم فرعون له بموسى ومن آمن معه لإيقاع المزيد من الأذى بهم، واستجابة فرعون لهذا، وموقفه من ضعاف القوم من الأبناء والنساء ويأمر موسى قومه بالاستعانة بالله والصبر والأمل فى العاقبة الطيبة. وتصريح قوم موسى بوقوع الأذى بهم من قبل أن يأتيهم ومن بعد إيمانهم به وتعقيب موسى عليه السّلام بالرجاء فى استخلافهم فى الأرض، وإهلاك عدوّهم فماذا سيعمل هؤلاء بعد هذه المنّة. وأما آل فرعون فقد أخذهم الله بالقحط فلم يتعظوا، وإذا جاءهم الخصب والغنى لم يشكروا، وإذا جاءهم الجدب تشاءموا بموسى ومن آمن معه، وكان بعد ذلك إصرارهم على الكفر، وأنهم مهما جاءهم موسى بآية فلن يؤمنوا فأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكان منهم الاستكبار والإجرام، فلما وقع عليهم العذاب بالإضافة إلى ما سبق من الآيات، وقيل فى العذاب: إنه الطاعون طلبوا من موسى أن يدعو ربّه إن كشف عنهم العذاب أن يؤمنوا فلما كشف عنهم العذاب إلى أجل نقضوا عهدهم، وأصروا على كفرهم، فأغرقهم الله فى البحر بتكذيبهم، وأورث المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها. وفى هذا العرض لما حدث لموسى وقومه وفرعون وقومه بيان للناس؛ حتى يفيدوا من تجارب السابقين وفى الوقت نفسه بيان لطبيعة بنى إسرائيل ليتهيأ المؤمنون فى معاملتهم بعد تأسيس الدولة بالمدينة المنورة فسيجدون اليهود- هناك- قال تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا

إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137). وبعد هذا الإنعام من الله تعالى على بنى إسرائيل وعبورهم البحر يأتون على قوم يقيمون على عبادة الأصنام فيقولون لموسى عليه السّلام: اجعل لنا صنما نعبده كما لهم آلهة، وهذا يدل على جهلهم وعدم استيعابهم لدعوة موسى عليه السّلام فذكّرهم موسى عليه السّلام بنعمة الله عليهم، وضلال أهل الوثنية، وأن المعبود بحق هو الله وحده، وتذكر الآيات ما كان من تهيؤ موسى لميقات ربّه، واستخلافه لهارون فى قومه ووصيته له بالإصلاح والتحذير من سبيل المفسدين. وهذه الأمور من الغيب الماضى الذى لا يعلمه إلا الله، وهو دليل على أن هذا القرآن كلام الله. وتقصّ الآيات ما كان من مطلب موسى عليه السّلام بعد أن كلّمه ربّه فى النظر إليه سبحانه، وكان بيان الحكمة من عدم تحقيق هذه الرؤية لموسى عليه السّلام فى الدنيا بتجلى الله سبحانه للجبل، وهو أشدّ خلقا من الإنسان فلم يقو الجبل على ذلك، فكيف يطيق الإنسان فى الدنيا النظر إلى خالقه سبحانه. قال تعالى: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ

فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143). ويأتى بعد ذلك ذكر اصطفاء الله سبحانه لموسى عليه السّلام برسالاته وبكلامه وتوجيه موسى إلى أخذ ما أوتى والشكر لله عليه: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) فالذى أوتى موسى نعمة كبرى تستوجب الشكر ففيها الإنقاذ لقومه مما حلّ بهم من فرعون وملئه، وفيه الشفاء مما أصاب عقولهم ونفوسهم من الضلال فى العقيدة حيث تشوّفوا إلى عبادة غير الله، وحيث استبدت بهم الجوانب المادية وملكت نفوسهم فجعلوها محورهم الذى عليه يدورون. وتبين الآيات الكريمة فى سياقها التعليمى للأمة الخاتمة أن الانتفاع بما أوتى موسى لن يكون إلا بأخذه بقوة وهمة ونشاط وأخذ أحسن ما يسمع قال تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145). وتبين الآيات الكريمة فى توجيهاتها الحكيمة الصوارف للناس عن الانتفاع بالآيات، ومن أخطرها الكبر فى الأرض بغير الحق مما يدفع المتكبرين إلى عدم الإذعان لوحى الله، والميل والاختيار لطريق الغىّ فى الوقت الذى يرون فيه الطريقين، وهؤلاء الذين لم ينتفعوا بالآيات لتكذيبهم بها وغفلتهم عنها، وعما تضمّنته من الوعد والوعيد فى لقاء الآخرة خسروا أعمالهم وسيجدون جزاء موقفهم هذا، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا

يَعْمَلُونَ (147) وفى بيان ما ضلّ فيه بنو إسرائيل من أمر العقيدة تذكر الآيات الكريمة صنيع قوم موسى للعجل من حليّهم دون أن يعملوا عقولهم فى حالهم، وكيف أنقذهم الله بالتوحيد الذى جاء به موسى، ولما وقعوا فى الضلال استدركوا فلولا رحمة الله ومغفرته لكانوا من الخاسرين، قال جل شأنه: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149). ورجع موسى عليه السّلام ليجد هذه الحالة المؤسفة فى قومه فيذمهم بغضب على ما صنعوا، وأخذ برأس أخيه ولكنّ أخاه عبر عن موقفه مع القوم بأنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه. ومعنى ذلك أنه قاومهم ولم يحدث منه إقرار لهم على صنيعهم فليس من هؤلاء الظالمين، فدعا موسى لنفسه ولأخيه بالمغفرة والرحمة. وأما الذين اتخذوا العجل فسينالهم الغضب من ربهم والذلة. وأما الذين عملوا السيئات ثم استدركوا أنفسهم بالتوبة وصدق الإيمان فإن الله غفور رحيم. وذكر هذه الأحداث بهذه السورة المكية تهيئ النفوس لمعرفة طبيعة قوم سيكون لهم خطر شديد، وبيان حقيقة نفوسهم تجعل المؤمنين على بصيرة من أمرهم، وهذا التجاور الذى سيتحقق فى المدينة بعد الهجرة ينبغى أن يحسب حسابه، ليجنب الله عباده المؤمنين كيد اليهود، وليدرك من شاء من اليهود حقيقة الوحى المنزل على رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم والذى يذكر ما حدث لهم مع نبى الله موسى عليه السّلام ولا يعلم ذلك إلا أحبارهم على ما فى أيديهم من بقايا التوراة التى عبثوا بها وغيروها وبدّلوها، ومن هذه التفصيلات كذلك أن موسى عليه السّلام لما سكت عنه الغضب أخذ الألواح بما فيها من هدى ورحمة، واختار سبعين رجلا لميقات ربه، فلما أخذتهم الرجفة كان تذكر موسى عليه السّلام لأفعال السفهاء من قومه قال: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ. قال تعالى فى بيان ذلك من سورة الأعرف: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ

الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156). ومع ذكر هذه العبرة التاريخية للأمة الخاتمة فى دعاء موسى عليه السّلام من أن عذاب الله يصيب به من يشاء، وأن رحمته سبحانه وسعت كلّ شىء، وأنه سيكتبها لأهل التقوى والزكاة وأهل الإيمان بآياته. يأتى الوصل اللطيف والذى يوجه للناس جميعا، ومنهم هؤلاء اليهود فالدعوة عامة وذكرهم قد تحقق قبل الهجرة فقد نزل قدر عظيم من القرآن الكريم، فليهيئوا أنفسهم لاستقبال الرسالة الخاتمة، فإن رحمة الله التى وسعت كل شىء، والتى ذكرت بعد دعاء موسى عليه السّلام ستكتب لهؤلاء المتقين ومن أبرز علاماتهم كذلك: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) وفى هذا توجيه لليهود وللنصارى كذلك: وبيان لهم وللناس أجمعين أن الرسول الكريم جاءهم برسالته العظيمة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويحقق للإنسان كرامته ويضع عنه الأغلال التى كبّل بها. وأن الواجب على من أراد الفلاح أن يؤمن به، وأن يقف بجانبه مؤيدا ونصيرا وأن يتبع النور الذى أنزل معه. وهذا الحال للناس جميعا فرسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين من المشركين واليهود والنصارى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) فالله سبحانه له ملك السماوات والأرض وهو المعبود بحق وهو يحيى ويميت ومنّ على خلقه السابقين والحاضرين برسله وخاتمهم النبى الأمىّ الذى جاء مصدّقا بكلمات ربه فليس أمام من يريد الهدى من العالمين إلا أتباعه صلّى الله عليه وسلم. وتذكر الآيات المنزلة بعد ذلك ما كان من شأن قوم موسى من وجود أمة يهدون بالحق، وما كان من فضل الله عليهم بموسى وسقيهم بالماء وتظليلهم بالغمام، وإنزال المنّ والسلوى وطيبات الرزق، وتوجيه القول لهم بسكنى هذه القرية، وماذا يصنعون لتحقيق المغفرة، لكن بدّل الذين ظلموا منهم قولا غير الذى قيل لهم فكان العذاب قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162). وأما قوله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ فقد نزلت بالمدينة على نحو ما فصّلنا فى بداية السورة الكريمة وفيها ذكر صنيع اليهود فى التحايل وصولا إلى ما يريدون: إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وفيها ذكر موقفهم من المواعظ وقسوة قلوبهم ونسيانهم، مما جعلهم أهلا للعقوبة الشديدة والمسخ وتسليط غيرهم عليهم وتقطيعهم فى الأرض، قال تعالى: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170). وتستمر الآيات الكريمة من سورة الأعراف فى بيان ما حدث مع قوم موسى لكشف ما كانوا عليه من ناحية، ولبيان أن رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين، وأن مسيرة الوحى منذ آدم عليه السّلام مستمرة إلى خاتمة الوحى فى رسالة رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم إلى العالمين، وتؤكد الآيات على معنى الأخذ بهمة وقوة لوحى الله؛ حتى يثمر فى الأخذ كما تأخذ الآيات على من يفصل بين العلم والعمل فلا يأخذها للعمل بهمة ونشاط، فلا ينتفع بها، ولا يتجمل بها ويصبح كالإنسان الذى انسلخ من جلده، فصار فى منظر كريه تشمئز منه النفس السوية فالجلد يجمّل الإنسان، وبه عناصر الحسّ الإنسانى فمن ينسلخ منه يفقد زينته، ويفقد حسّه وكذلك الذى تأتيه الآيات، فلا يحسن فى أخذها والانتفاع بها والعمل بما تضمنته من المعانى. ويخرج كذلك الإنسان بهذا الإهمال وهذا التعطيل من دائرة التكريم الذى جعل الله عليه الإنسان، فهو تكريم مرتبط بمدى استجابة الإنسان لربّه، وإذا لم يستجب خرج من دائرة التكريم إلى دوائر مهينة- كما ذكر فى الآيات الكريمة هنا- حيث يكون كالكلب إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ كما تحذر الآيات من الغفلة والتقليد الأعمى للمبطلين وأن هذا لا يصلح للتبرير يوم الحساب قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178). وتستمر الآيات الكريمة فى بيان أن الإنسان يبقى فى دائرة التكريم الإلهى ما دام مستجيبا لوحى ربه فإذا لم يكن كذلك خرج من هذه الدائرة إلى دوائر أخرى مهينة فالذى آتاه الله قلبا ولكن لا يفقه به وآتاه عينا ولكن لا يبصر بها الحق وآتاه الله أذنا ولكن لا يسمع بها. إن الذى أوتى هذه الأجهزة، ورزق هذه النعم فلم يحسن الانتفاع بها فى حسن تلقيها لوحى ربها خرج من دائرة التكريم وصار فى دائرة الأنعام، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179). وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك تعريفا للناس بالله سبحانه فله جل شأنه الأسماء الحسنى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180). وتبين الآيات الكريمة انقسام الخلق إلى أمة تهدى بالحق، وإلى المكذبين بالآيات وهؤلاء يستدرجون من حيث لا يعلمون. ثم تنبه المخاطبين بالوحى فى أن يفكروا، لأنهم بالفكر السليم والنظر الثاقب سيدركون خطورة تكذيبهم وسيعلمون منّة الله عليهم فى بعثة الرسول من أنفسهم لينذرهم، قال تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186). وتقدم الآيات بعد ذلك جوابا عن سؤال وجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الساعة ومتى هى فتبين الآيتان علمها عند الله وأنها ستأتى فجأة. وفى هذا بيان للناس أن ما يتعلق بعلم الغيب فلا أحد يعلم عنه إلا ما شاء الله وأن رسوله صلّى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ

إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188). تأتى بعد ذلك الآيات الكريمة لتنبه الناس إلى حقيقة الخلق وما ينبغى أن يكون الإنسان عليه مع تذكّره، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) فالخالق هو الله سبحانه وتعالى فله الخلق وحده. والناس جميعا خلقهم الله من نفس واحدة، ومنّ الله على الإنسان بنعمة السكن النفسى فجعل من آدم عليه السّلام زوجة ليسكن إليها فهذه بداية البشرية. فالكل يعود إلى أصل واحد «كلكم لآدم» وزوجته منه، وليست من شىء آخر منفصل عنه. فلا تمايز- إذن- بين الناس من ناحية الخلق يجعلهم فى تحاسد وتباغض وكبر وأمراض تدفع بهم إلى الصدود عن الهدى، وعدم الاستجابة للداعى إلى الحق والرشاد. والخالق سبحانه الذى أنعم على الإنسان بنعمة الخلق والسكن والذرية من حقه على خلقه أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ولكنّ البشرية قد نكبت بوقوع الشرك فيها من الشرك فى التسمية، كأن يسمّى الإنسان بعبد الحارث وعبد العزى وهكذا، أو ما حدث من بعض البشر من الشرك فى العبادة. وقد نبّه المفسرون إلى الانتقال من النوع إلى الجنس، فإن أوّل الكلام فى آدم وحواء ثم انتقل الكلام فى الجنس أى ما حدث من الذرية. وتقدم الآيات الكريمة ما يعين الإنسان على التخلى عن عبادة غير الله سبحانه والتطهر من الشرك. فإن هؤلاء الشركاء لا يخلقون شيئا بل هم مخلوقون ولا

يستطيعون دفع مكروه عمن يعبدونهم ولا عن أنفسهم. إنهم لا يسمعون ولا يبصرون. إنهم يشتركون مع عابديهم فى أنهم مملوكون لله سبحانه فهى مخلوقة كذلك. بل الإنسان له رجل يمشى عليها وله يد يبطش بها وله عين يبصر بها وله أذن يسمع بها، أما هؤلاء فحجارة وأخشاب فكيف تعبد من الإنسان. وإذا ذكّرت الآيات الكريمة الإنسان بهذه الحقائق فإنها توجهه إلى العبودية الحقّة لله سبحانه وحده إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ كما ترشده إلى سبيل الصلاح وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196). ومن المعانى التى تذكر فى الآيات الكريمة بعد بيان بطلان الشركاء ما يدعّم مكارم الأخلاق وحسن المعاملة، قال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) ونزول الآية الكريمة بهذه المعانى فى الفترة المكية تعين الرسول صلّى الله عليه وسلم على مواجهة الأذى من المشركين، كما تعين المؤمنين على ذلك، قال جابر بن سليم أبو جرىّ: ركبت قعودى ثم أتيت إلى مكة فطلبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنخت قعودى بباب المسجد فدلّونى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك السلام». فقلت: إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء؛ فعلّمنى كلمات ينفعنى الله بها. قال: «ادن» ثلاثا، فدنوت، فقال: «أعد علىّ» فأعدت عليه، فقال: «اتق الله ولا تحقرنّ من المعروف شيئا، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط، وأن تفرغ من دلوك فى إناء المستسقى وإن امرؤ سبّك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبّن شيئا مما خوّلك الله تعالى» قال أبو جرىّ: فو الذى نفسى بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا. أخرجه أبو بكر البزار فى مسنده بمعناه «1». فهذه الأخلاق التى تبلغ الذروة من المكارم يوجّه الناس إليها فى مواجهة الجاهليين والمسيئين والقاطعين. روى البخارى من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير فى قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا فى أخلاق الناس. وجاء فى تفسيرها: «إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطى من حرمك وتصل من قطعك» «2». وبعد ذكر هذه المكارم الخلقية يأتى التوجيه إلى التحصين من الشيطان إذا استثار الإنسان ليغضبه أو ليأمره بالسوء والفحشاء أو القول على الله بما لا يعلم الإنسان. وأن

_ (1) القرطبى 7/ 233، 345. (2) القرطبى 7/ 345.

المتقين على بصيرة ووعى، لا يستطيع الشيطان أن يدخل إليهم وأما إخوانه الشياطين وأولياؤهم فإنهم إذا اقترفوا الذنوب لا يزالون يمدونهم فى الغى ذنبا بعد ذنب. قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202). وتختم سورة الأعراف بذكر قضية كبرى ينبغى أن يعرفها الناس، وهى أن الوحى يتنزل بأمر ربك وأن مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم التبليغ واتباع الوحى بما فيه من حجج وهدى ورحمة. وأن الواجب مع القرآن الكريم الاستماع والإنصات حتى يؤخذ بهمة، وينال المتلقى رحمة الله. وأن يتحصن الإنسان بذكر ربه وألا يقع فى دائرة الغفلة، وأن ما يؤديه المرء من وجوه العبادات، فإنما هى لخيره وسعادته، فالناس فى أشد الحاجة إلى عبادتهم لله سبحانه وهو الغنى عنهم، قال تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206).

سورة «الجن»

سورة «الجن» نزلت بعد سورة «الأعراف» فهى مكية، قال القرطبى: فى قول الجميع وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت سورة «الجن» بمكة «1»، وعن عائشة رضي الله عنها وابن الزبير مثله «2». وقد أخرج أحمد والبخارى ومسلم والترمذى وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «انطلق النبى صلّى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شىء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها لتعرفوا ما هذا الأمر الذى حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبى صلّى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا والله الذى حال بينكم وبين خبر السماء، فهنا لك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: «يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا» فأنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وسلم: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وإنما أوحى إليه قول الجنّ». وأخرج ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذى وصححه والنسائى وابن جرير والطبرانى وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «كانت الشياطين لهم مقاعد فى السماء يسمعون فيها الوحى، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم: ما هذا إلا من أمر قد حدث فى الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين بمكة فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذى حدث فى الأرض» «3». وأما ما تضمنته سورة الجن من المعانى على ترتيب نزولها فإنها تعالج معارف الناس عن نوع من مخلوقات الله سبحانه قد اختلط على الناس الفهم لحقيقة هذا النوع المتمثل

_ (1) فتح القدير 5/ 302 وقد أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقى. (2) أخرجه ابن مردويه- المرجع السابق 5/ 302. (3) فتح القدير 5/ 306، 307.

فى الجن. فنظرا لكون الجن يمثل للإنسان غيبا مجهولا فإن نظرة الناس إلى الجنّ شابها كثير من الأخطاء حيث تصور البعض من الناس أن الجن يعلم الغيب، واستعاذ بعض الإنس بالجن، واستعان بعضهم كالشعراء مثلا بالجن فى قرض الشعر، وهكذا نزلت سورة الجن لتبرز هذه المعانى المتصلة بالجن فهم أمة كالإنس منهم المؤمنون ومنهم غير ذلك، ومنهم المخدوعون بأكاذيب الإنس والجن عن الله سبحانه ونسبة الصاحب والولد إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5). وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من استعاذة الإنس بالجن وعاقبة ذلك. قال الحسن وابن زيد وغيرهما: كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال: أعوذ بسيد هذا الوادى من شرّ سفهاء قومه فيبيت فى جواره حتى يصبح فنزلت هذه الآية «1»: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) قال مقاتل: كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بنى حنيفة، ثم فشا ذلك فى العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم «1»، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان القوم فى الجاهلية إذا نزلوا بالوادى قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادى من شرّ ما فيه، فلا يكون بشيء أشدّ ولعا منهم بهم فذلك قوله فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) «3». كما تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك وقوع بعض الجن فى التكذيب بالبعث قال تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7). كما تذكر الآيات تحصين السماء من استراق السمع وخاصة بعد بعثة النبى صلّى الله عليه وسلم قال تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9). وقد ذكر الإمام الشوكانى أنهم قد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم: لم يكن ذلك. وحكى الواحدى عن معمر قال: قلت للزهرى: أكان يرمى بالنجوم فى الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها ... الآية، قال: غلّظت وشدّد أمرها حين بعث محمد صلّى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه ولكن لم يكن مثله فى شدة الحراسة بعد مبعثه

_ (1) فتح القدير 5/ 305. (3) المرجع السابق 5/ 307.

وكانوا يسترقون فى بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلا «1». وفى مواجهة ظن بعض الناس أن الجن تعلم غيبا جاء قوله تعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10). وعلى ذلك فلا يلجأ إلى الجن لطلب معرفة الغيب فهم لا يعلمون شيئا. ثم يأتى بعد ذلك تعريف الناس بحقيقة الجن فى قول الله تعالى فى شأن الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) فالجن جماعات متفرقة وأصناف مختلفة، قال السدى والضحاك: على أديان مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة، وقال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس، وكذا قال مجاهد. وقال الحسن: الجنّ أمثالكم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة «2». وعلى ذلك فليسوا سواء فمنهم الصالحون ومنهم غير الصالحين على اختلاف درجات السوء. وهؤلاء الذين يعرفون حقيقة أنفسهم ويعترفون بما هم فيه من اختلاف يقرّرون كذلك ضعفهم وعجزهم أمام قدرة الخالق جل جلاله قال تعالى: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12). وهذه المجموعة المؤمنة من الجن تحكى كيف آمنت بعد سماعها للهدى كما تذكر الآية الكريمة عاقبة هذا الإيمان قال تعالى: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) بل تذكر الآية الكريمة بعد ذلك إدراك هؤلاء الجن لمعنى الإسلام كذلك كما أدركوا من قبل معنى الإيمان كما تنبه الآية الكريمة إلى عاقبة الإسلام أيضا، وعاقبة من حاد عن الطريق الحق. قال تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وبعد هذا التعريف بالجن وحقيقته حتى لا يضل الناس الفهم لهذا النوع من المخلوقات يأتى تذكير الناس بأن الاستقامة على وحى الله وهديه هى سبيل الرزق الحسن الذى يتطلع إليه الناس مع تعريف الناس بأن ما يرزق به الإنسان يكون موضع اختبار لهم. وفى مقابل هذه الاستقامة الإعراض عن ذكر الله، وهذا الإعراض سبيل لدخول الإنسان فى العذاب الشاق. قال تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17). وبعد ذكر هذا التوجيه الكريم للإنس وللجن. يقول سعيد بن جبير: قالت الجنّ: كيف لنا أن نأتى المساجد ونشهد معك الصلاة، ونحن ناءون عنك؟ فنزلت: وَأَنَ

_ (1) فتح القدير 5/ 305، 306. (2) فتح القدير 5/ 306.

الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وعلى ذلك يكون ذكر المساجد هنا يعنى المواضع التى بنيت للصلاة فيها، وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلّها مسجد، وقال سعيد بن المسيب: أراد بالمساجد الأعضاء التى يسجد عليها العبد وهى القدمان والركبتان واليدان والجبهة، يقول هذه أعضاء أنعم الله بها عليك فلا يسجد بها لغيره فتجحد نعمة الله. أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما فى قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال: لم يكن يوم نزلت هذه الآية فى الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد إيلياء ببيت المقدس. وتذكر الآية الكريمة بعد ذلك كيف كان ازدحام الجن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يعبد ربّه ويقرأ القرآن الكريم، وفى هذا توجيه للإنس للإقبال على القرآن الكريم وسماعه، قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19). أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس فى الآية قال: لما سمعوا النبى صلّى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى آتاه الرسول فجعل يقرئه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وأخرج عبد بن حميد والترمذى وصححه وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء فى المختارة عنه أيضا فى الآية قال: «لما أتى الجنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلى بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم: لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا. ثم تذكر الآية بعد ذلك التأكيد على توحيد الربوبية والألوهية فى هذا الأمر الإلهى فى قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً وأنه لتخليص هذا التوحيد فلا يعتقد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يملك لأحد ضرا ولا رشدا، قال تعالى: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) وسبب نزول هذه الآية: أن كفار قريش قالوا للنبى صلّى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذ فنحن نجيرك قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) أى لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا، ولا أسوق إليكم خيرا كما تؤكد آيات السورة الكريمة أن الناس جميعا أمام الله فى الطاعة والمعصية سواء، وأن مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم هى البلاغ. وعلى ذلك فتكون آيات سورة الجن لتخليص المخلوقين: من الجن والإنس من كل شوائب الشرك والتعلق بغير الله رغبة ورهبة، قال تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23).

كما حذرت الآيات من المعصية ببيان عاقبتها، وأن وعد الله ووعيده يتحققان، وأن وعيد الله سبحانه لا يقربه استعجال أحد، وإنما ينزله الله إن شاء، وأن هذا فى الغيب الذى لا يعلمه إلا الله. وأن الله سبحانه لا يطلع على غيبه إلا من شاء من رسله ولا تستطيع أى قوة أن تأخذ من هذا الغيب شيئا فيتحقق إبلاغ رسالات الله فى أمن تام. قال الله تعالى: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28).

سورة «يس»

سورة «يس» نزلت بعد سورة «الجن» وهى مكية بإجماع إلا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) نزلت فى بنى سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم أى أنها مدنية «1». أخرج عبد الرزاق والترمذى وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقى فى الشعب عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: «كان بنو سلمة فى ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنه يكتب آثاركم». ثم قرأ عليهم الآية، فتركوا «2» وأخرج الفريابى وأحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وفى صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه قال: إن بنى سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحوّلوا قريبا من المسجد، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا بنى سلمة دياركم تكتب آثاركم» «2» وعلى ذلك فالآية مدنية وأما بقية السورة فمكية. أخرج ابن مردويه وأبو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فى المسجد فيجهر بالقراءة، حتى تأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم عمى لا يبصرون، فجاءوا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا للنبى صلّى الله عليه وسلّم فيهم قرابة، فدعا النبى صلّى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد يقول الإمام الشوكانى رحمه الله: وفى الباب روايات فى سبب نزول ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة «4».

_ (1) القرطبى 15/ 5، وفتح القدير 4/ 362، 363. (2) فتح القدير 4/ 362، 363. (4) فتح القدير 4/ 362.

وعلى ذلك فإن الآيات الكريمة تؤكد بهذا القسم صدق الرسول فى رسالته، ووصف القرآن الكريم بالحكمة فهو يهدى للتى هى أقوم، ويضع أمور الناس فى مواضعها لتستقيم حياتهم فى شتى صورها، وأن رسوله صلّى الله عليه وسلّم على صراط مستقيم فى كل شىء فيما جاء به من عقيدة التوحيد، وفيما دعا إليه من مكارم الأخلاق، وفيما يبسطه للناس من وحى ربه ليخرجهم فى معاملاتهم من الظلمات إلى النور. وأن الله سبحانه هو الذى أنزل على رسوله كتابه وهو العزيز الذى يحمى كتابه بعزته عن التغيير والتبديل وهو الرحيم بعباده فى بعثة رسوله إليهم بهذا الكتاب الكريم، لينذر الناس الذين غرقوا فى الغفلة والجهالة وعمتهم الضلالة. وتكاشفهم الآيات الكريمة بما صاروا إليه مع التنزيل الحكيم فمنهم من أعرض ورفض الحق وهؤلاء حق القول عليهم فلم يؤمنوا وظلوا على شركهم وكفرهم وكان فيهم قول الله تعالى بعد ذلك: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10). وأما الآخرون الذين يفيدون من البشير النذير صلّى الله عليه وسلّم فهم الذين يخشون الرحمن بالغيب وهم الذين يتبعون النبىّ الكريم وهؤلاء لهم البشرى بالمغفرة والأجر الكريم، قال تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11). تأتى بعد ذلك الآية الكريمة المدنية لتقرر ما سبق تأكيده فى السور الكريمة السابقة من إحياء الله سبحانه للموتى وتذكر ما يصحب هذا الإحياء من المحاسبة على ما قدّم الإنسان من أعمال وعلى آثار هذه الأعمال. فالمسئولية ليست عن العمل فحسب وإنما المسئولية عن العمل وعن أثر هذا العمل. وهذا تنبيه للفريقين معا فإن من استجاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستكتب استجابته وسيكتب عمله الصالح، فإن دعا غيره إلى الاستجابة والهدى فله من الأجر مثل أجور من اتبعه. ومن أعرض وكذب وعمل سوءا فسيكتب إعراضه وسيكتب عمله. فإذا ما صدّ عن سبيل الله وآذى غيره فسيكتب أثر عمله فمن دعا إلى ضلالة فعليه مثل آثام من اتبعه. قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12). ويضرب المثل لهؤلاء المكذبين بما يشبه حالهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتكذيبهم وكيف كانت عاقبة المكذبين بعد حرص الرسل على هدايتهم، وفى هذا المثل كشف لفساد تصور المكذبين للرسل، واصطفاء الله لهم من البشر، وبيان مهمة الرسل فى التبليغ. وسوء ظن المكذبين وتطيرهم وإيذائهم للرسل. وموقف بعض العقلاء فى القوم الذين يدركون حقائق الأمور وينصحون أقوامهم ليهتدوا، ويسلكون فى نصحهم الأدلّة

القوية. فهذا رجل يسعى لنصح قومه ويأمرهم باتباع المرسلين ويذكر لهم أن المرسلين لا يريدون منهم مقابل دعوتهم أجرا وأنهم مهتدون، وكيف لا يعبد من خلقه ومن إليه المرجع وهو الذى بيده ملكوت كل شىء وليس للشركاء نفع ولا ضر. وعاقبة أمثال هذا الرجل الجنة ويتمنى هؤلاء أن يعرف القوم هذه العاقبة حتى يهتدوا. ولكنّ المكذبين لا ينتفعون حتى يقع بهم الهلاك، فليعتبر المخاطبون بالقرآن الكريم بهذا المثل. وفى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29). إن العباد تدركهم الحسرة فى الدنيا والآخرة إن استقبلوا دعوة الرسل بالاستهزاء، ولم يبصروا عبرة التاريخ وما حدث للسابقين عبر القرون، قال تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32). وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك آيات بينات تجمع بين دلائل القدرة وتحقيق البعث الذى ينكره المكذبون. فالأرض الميتة يشاهدونها ويشاهدون الحياة تدب فيها، إن الذى أحياها هو الله القادر سبحانه وهو الذى أخرج منها حبا يأكل منه هؤلاء. أى أنهم يلمسون موتها ويلمسون حياتها بالرؤية والأكل وما يتبعه من حواس. وجعل الله سبحانه فيها ما يجدونه من جنات ومن عيون. ومع الإيمان بقدرة الخالق سبحانه الذى لا يعجزه شىء تنبه الآيات الكريمة إلى مظاهر النعمة فى هذه الآيات، فهذه الخيرات التى جعلها الله فى الأرض ليأكل منها هؤلاء وليؤدوا حق الشكر للمنعم جل جلاله،

فسبحانه خلق الأزواج كلها مما يعلمه الناس من الأرض ومن أنفسهم وكذلك مما لا يعلمون. فهذه مظاهر القدرة والنعمة والإحياء بعد الموت فيما يشاهد الناس فى الأرض، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36). ثم تقدم الآيات الكريمة آية أخرى تتصل بالسماء وما فيها من آيتى الشمس والقمر وما يتبع ذلك من آيتى الليل والنهار، وفيها كذلك آيات القدرة والنعمة والإحياء والإحكام، فالليل يسلخ منه النهار فتكون الظلمة والشمس تجرى فيكون النهار، وتغيب فيكون الليل ومعه القمر بمنازله، والكل يسبح وفق تقدير الخالق سبحانه. قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40). ثم تقدم الآيات الكريمة آية أخرى فى الفلك المشحون وما يكون من أمر تطورها بفضل الله فى تعليم الإنسان وتوجيهه ليصل إلى تسييرها بما يكتشف من قوى حتى يصل بها إلى أقصى سرعة مستطاعة فى السير، ثم ما يكون على شاكلتها من مخترعات أخرى، فيحمل الإنسان على الماء كما يحمل فى الهواء وهذه من الآيات الباهرات كذلك والدالة على قدرة الله سبحانه فى تسيير الإنسان فى البر والبحر والجو برعايته وعنايته وحفظه، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44). وتكشف الآيات الكريمة بعد ذلك لهؤلاء المكذبين حقيقة موقفهم مع هذه الآيات البينة وأن نظرهم إليها لا يثمر؛ لأنهم معرضون ولا تجعلهم كذلك أهلا للنصح بل يظل هؤلاء فى تخبط أفكارهم الباطلة. فإذا دعوا إلى التقوى لا يتقون، وإذا دعوا إلى ملء بطون الجائعين أعماهم فكرهم السقيم. قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ

أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47). فمن المعانى على ترتيب نزولها، كشف الآيات الكريمة لحال المعرضين المكذبين وكيف فسدت تصوراتهم وضلّ فكرهم، ومن هذا ما حكاه القرآن الكريم من قولهم: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بمكة زنادقة؛ فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله، أيفقره الله ونطعمه نحن؟. وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئة فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، لو شاء الله لأعز، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب فخرج الاستهزاء بالمؤمنين، وبما كانوا يقولون من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى «1»، وقيل: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ابتلى قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال: والله يا أبا بكر ما أنت إلا فى ضلال، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت؟ فنزلت هذه الآية «1». وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك قول المكذبين بالبعث، واستبعادهم وقوعه وأن ذلك قريب وسيجدون أنفسهم مأخوذين فجأة وهم فى لهوهم وجدالهم، وسيجدون أنفسهم بعد نفخة الصور مسرعين إلى ربهم للحساب العادل، قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54). وبعد ذكر الحساب العادل تذكر الآيات الكريمة ما يصير إليه الناس من فريقين: فريق الجنة وما أعدّ لهم من نعيم، وفريق المجرمين الذين اتبعوا الشيطان كفرا وضلالا ليجدوا عاقبة كفرهم جهنم وليجدوا أن جوارحهم تنطق بما صنع هؤلاء فى حياتهم. قال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى

_ (1) القرطبى 15/ 37.

الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) ومن آيات القدرة المشاهدة فى خلق الإنسان أن الإنسان إذا بلغ ثمانين سنة- مثلا- تغير جسمه وضعفت قوته فطول العمر لا تتبعه زيادة فى القوة بل يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا. إن الإنسان فى هذه السنن يرد إلى أرذل العمر. فالآية تذكر هؤلاء بأن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. قال تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68). وتستمر الآيات الكريمة في معالجة البعث والإحياء وإقناع الإنسان عقلا بالبعث وتحريكه قلبا ليعمل بمقتضى هذا الاقتناع وتتناول الآيات الذكر المنذر به صلّى الله عليه وسلّم ومعجزته، فدليل إعجازه هذا الذكر وهذا القرآن الكريم، وليس كما ألف الناس الشعر فما علّمه ربه الشعر وما ينبغى له. كما تذكر الآيات الكريمة أن من يفيد من الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو من كان له قلب وفيه حياة، وأما الكافرون فلا ينتفعون وأمرهم عجب حيث يعيشون بين مظاهر النعم والقدرة، ولا يهتدون بل يتخذون من دون الله آلهة يستنصرون بها. فالأنعام نعمة ودليل قدرة لخالقها سبحانه وتذليلها حتى يستطيع الناس جميعا الانتفاع بها مع قوتها وضخامتها كذلك، وما جعل فيها من منافع ومشارب كذلك أيضا فلماذا لا يشكرون ويستجيبون؟ وإذا كان هذا الموقف العجيب يحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن الآيات تسليه، قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76). وتنبه الآيات الكريمة الإنسان إلى خلقه الأول وأنه من نطفة ونسيان هذا الخلق من أسباب إنكار البعث؛ لأن الإنسان لو تذكر كيف خلق من ماء مهين، ورأى مظاهر قدرة الله فى تحوّل الماء إلى علقة ثم إلى مضغة ثم خلق العظام المتعددة فى أشكالها وطبيعتها

ثم كسو العظام لحما. والتصوير فى هذا القرار المكين وكيف يسّر للإنسان سبيل الخروج. إذا تذكر كل هذا الخلق الأول لن يسأل هذا السؤال: من يحيى العظام وهى رميم؟ ولكن الإنسان الكافر سأل بعد نسيانه وتأتى الإجابة القرآنية الكريمة فى سورة «يس» لتخاطبه عقلا فى أن الذى خلق أوّل مرة هو الذى سيعيد الإنسان فى المرة الثانية فهل هذا مستحيل عقلا؟ ثم بعد هذا الإقناع العقلى تأخذ الآيات الكريمة الإنسان فى جولة فكرية فى السموات والأرض ليرى مظاهر قدرة الخالق سبحانه فى السموات كيف رفعت؟ وهل خلق الإنسان وبعثه أشدّ من خلق السموات؟ وفى الأرض كيف سطحت. ثم ما يراه فى الأرض فالذى خلق ويبعث خلقه هو الذى جعل من الشجر الأخضر نارا. إن الإنسان يخرج من هذه الجولة الفكرية بقوله: أعلم أن الله على كل شىء قدير. فإذا أيقن بهذا لم يستبعد أن يعود إلى الحياة مرة أخرى. أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم فى معجمه والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقى فى البعث والضياء فى المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعظم حائل ففتّه بيده، فقال: يا محمد، أيحيى الله هذا بعد ما أرى؟، قال: «نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنّم» فنزلت الآيات الكريمة: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83).

سورة «الفرقان»

سورة «الفرقان» وبعد سورة «يس» وما قدمته من إحياء القلوب بالقرآن كما تحيا الأرض بالغيث، وإحياء الناس بعد الموت وحال الناس مع هذا الكتاب الحكيم، تنزل سورة الفرقان لتفصّل القول فى التوحيد فهو الأهم، وهو الأساسى وكذلك تفصّل القول فى النبوة وتصحح مفهومها للناس ثم فى المعاد وما يتعلق به، فسورة الفرقان مكية كلّها فى قول الجمهور، وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة وهى قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70). وقد أخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أى الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». قلت: ثم أى؟ قال: «أن تزانى حليلة جارك»، فأنزل الله تصديق ذلك: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ، وأخرجا وغيرهما أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناسا من أهل الشرك قد قتّلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلّى الله عليه وسلم: فقالوا: إن الذى تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أنّ لما عملنا كفارة، فنزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ الآية، ونزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... الآية [الزمر: 53]. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية اشتد ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... الآية، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا فى الشرك، ثم نزلت هذه الآية: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم، وأخرج ابن المنذر والطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قرأناها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم سنين: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) ثم نزلت: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها وفرحه ب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.

وتبدأ السورة الكريمة فى بيان عظمة الخالق الكاملة وتفرده بالوحدانية وكثرة خيراته وإحسانه، ومن أعظم هذه الخيرات أن ينزل الفرقان علي عبده ليكون فارقا بين الحق والباطل فى كل شىء، وهاديا للتى هى أقوم فى كل أمر: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1). ومع بيان التوحيد الخالص يذكر وصف المنزّل عليه، وخير وصف له وصفه بالعبودية لله سبحانه، كما يعرّف الناس بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنزل عليه الفرقان لينذر العالمين فرسالته عامة وليست لقومه فحسب. وأساس هذه الرسالة التوحيد الخالص ويذكر من جوانبه: أنه سبحانه له ملك السموات والأرض، فله التصرف فيهما وحده وكل من فيهما عبيد له خاضعون لربوبيته فقراء إلى رحمته، وأنه سبحانه منزه عما وصفه به الضالون من نسبة الولد إليه أو الشركاء فى الملك. وتجاور هذه الصفات الجليلة لله سبحانه تعين السامع والقارئ على التنزيه، فكيف يكون له الملك والكل عبيد له خاضعون لربوبيته ثم يزعم قوم أن له ولدا أو شريكا وهو القاهر وغيره مقهور والغنى والمخلوقون مفتقرون إليه قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3). ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك مزاعم الكافرين الذين واجهوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه. فطعنوا فى القرآن الكريم وطعنوا فى المنزّل عليه صلّى الله عليه وسلم. وهى مطاعن مزيّفة قادهم إليها الهوى والحقد والحسد وخشية فوات المغانم المادية، وسوء فهمهم للنبوة واصطفاء الله سبحانه لمن شاء من خلقه ليكون للناس رسولا. فوصفوا القرآن وهو أصدق الكلام وأعظمه وأجلّه بأنه كذب وافتراء، ووصفوا الرسول صلّى الله عليه وسلم- وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين، وأقروا بصدقه وأمانته نتيجة عشرة ومعرفة بحقيقته أكثر من أربعين سنة «1» - بالكذب على الله، وأنه ينسب هذا الكلام إلى الله وقد علّمه إياه قوم آخرون، وترد الآيات عليهم بأنهم ظالمون كاذبون فى مطاعنهم هذه. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6). وتذكر الآيات بعد ذلك فساد تصور هؤلاء عن الرسالة والرسول وصفاته وما يكون

_ (1) القرطبى 10/ 329.

عليه. ذكر ابن إسحاق وغيره أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضوا به معجزة اجتمع رؤساء قريش بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلي محمد صلّى الله عليه وسلم فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فآتهم، فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فكان مما قالوه فى هذا المجلس: «سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة» يغنيك بها عما زاك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى تعرف فضلك ومنزلتك من ربّك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وما أنا بفاعل وما أنا بالذى يسأل ربه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن بعثنى بشيرا ونذيرا- أو كما قال- فإن تقبلوا فى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة وإن تردوا علىّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بينى وبينكم» «1». فهؤلاء عيّروا الرسول صلّى الله عليه وسلم بأكل الطعام؛ لأنهم تصوروا أن يكون الرسول ملكا، وعيّروه بالمشى فى الأسواق حين رأوا الأكاسرة والقياصرة يترفعون عن الأسواق وكان عليه الصلاة والسلام- يخالطهم فى أسواقهم ويأمرهم وينهاهم فكان ردّ القرآن الكريم عليهم مع تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10). وتبين الآيات الكريمة بعد ذلك أن سبب هذا الفساد لدى المشركين تكذيبهم بالساعة، وجهل هؤلاء الوعيد الشديد من الله سبحانه لمن كذب بالساعة، فإن التكذيب بالساعة يفعل بالإنسان مثل ما حدث من هؤلاء المشركين من ظنون فاسدة وأعمال سيئة، ويعقبه ويل وهلاك. وفى نفسه ينعم المؤمنون المتقون بوعد الله الصادق جزاء إيمانهم وتقواهم واستقامتهم قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ

_ (1) القرطبى 13/ 8، 9.

عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا (16). ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك- كيف تتقطع الأسباب بين الضالين المكذبين ومن عبدوهم من دون الله. وكيف يتبرأ هؤلاء المعبودون بالباطل من عابديهم الضالين. وأن السبب فى ضلالهم وافتراءاتهم انغماسهم فى المتع التى غمرهم الله بها ولكن بدلا من أن يشكروا ربّهم نسوا الذكر وكانوا من الهالكين. ويقع المكذبون فى العذاب ولا يستطيعون أو يستطيع أحد أن يصرفه عنهم، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19). وتخاطب الآيات بعد ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسلّية له فى مواجهة المكذبين وافتراءاتهم وبيان حكمة الله فى اختبار خلقه فالكل يبتلى والله بصير بعباده ويعلم من يظفر فى الاختبار ومن لا يوفق فيه قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20). قال ابن عباس: لما عيّر المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ... الآية حزن النبى صلّى الله عليه وسلم لذلك، فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السّلام: السلام عليك يا رسول الله، الله ربّك يقرئك السلام ويقول لك: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أى يبتغون المعايش فى الدنيا «1». وأما قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ فقد نزلت فى أبى جهل ابن هشام والوليد بن المغيرة والعاصى بن وائل، وعقبة بن أبى معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث حين رأوا أبا ذرّ وعبد الله بن مسعود وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة وسالما مولى أبى حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمى، وذويهم؛ فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أى اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا [المؤمنون: 111] «2».

_ (1) القرطبى 13/ 12، 13. (2) القرطبى 13/ 18، 19.

كما تستمر الآيات الكريمة فى بيان تصورات الكافرين الفاسدة فى أن الرسالة تكون عن طريق الملائكة، أو تشهد الملائكة للرسول بالرسالة، أو أن يكلمهم الله سبحانه ويقول: هذا رسولى فاتبعوه، وهذا منطق الكبر والعتوّ، ويوم يرى هؤلاء المجرمون الملائكة فلن تكون الرؤية البشرى لكفرهم وعنادهم كما أن أعمالهم التى بنيت على الكفر لن ننفعهم شيئا فى الآخرة. فى الوقت الذى ينعم فيه المؤمنون الصالحون بالجنة، قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26). ومن المعانى التى تضمنتها سورة الفرقان على ترتيب نزولها ما جاء فى قوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) بعد ذلك تذكر الآيات نوعا من الكافرين الظالمين الذين يشتد ندمهم وتشتدّ حسرتهم لأنهم كفروا بعد إيمانهم وكان كفرهم بسبب سماعهم لخليل السوء الذى يحرّض خليله على الضلال وفى هذا تنبيه للناس إلى عداوة شياطين الإنس وشياطين الجن الذين يحرصون على إضلال من آمن واهتدى، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29) أخرج ابن مردويه وأبو نعيم فى الدلائل بسند قال السيوطى: صحيح من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس: أن أبا معيط كان يجلس مع النبى صلّى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه، وكان رجلا حليما، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبى معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلا فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشدّ ما كان أمرا، فقال: ما فعل خليلى أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحيّاه فلم يردّ عليه التحية، فقال: مالك لا تردّ علىّ تحيتى؟ فقال: كيف أردّ عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: مما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه فى مجلسه فتبزق فى وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل فلم يرد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن مسح وجهه من البزاق، ثم التفت إليه فقال: «إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا»، فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن

يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: وعدنى هذا الرجل إن وجدنى خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقى صبرا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحمل به جمله فى جدود من الأرض، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أسيرا فى سبعين من قريش، وقدّم إليه أبو معيط، فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: «نعم بما بزقت فى وجهى»، وفى رواية قال: «نعم بكفرك وعتوّك» «1» فأنزل الله فى أبى معيط وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلى قوله تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29) «2» وأخرج أبو نعيم هذه القصة من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، وذكر أن خليل أبى معيط هو أبىّ بن خلف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أيضا فى قوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قال: أبىّ بن خلف وعقبة بن أبى معيط، وهما الخيلان فى جهنم «3». ومع إعراض الكافرين عن وحى ربهم ونكوصهم، ومع حرص الرسول على هداية الناس أجمعين يأتى ذكر القرآن الكريم لحال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يشكو إلى الله إعراض هؤلاء. ويسلّيه القرآن الكريم بما حدث لكل نبى من وجود هذا الفريق الذى أجرم ولم يهتد، قال تعالى: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31). ومع الإعراض من الكافرين يكون التصور الفاسد للأشياء وما يتعلق بالوحى والنبوة ومن هذا نظرهم إلى نزول القرآن الكريم مفرّقا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعدوّا ذلك نوعا من التعذيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وغاب عنهم ما يكون من الحكم المصاحبة لنزول القرآن الكريم مفرقا فمنها: ما يتصل برسول الله صلّى الله عليه وسلم لتثبيت فؤاده وتقويته فى مواجهة التحديات الشديدة والمستمرة، ومنها: ما يتصل بالناس وتلقيهم للقرآن الكريم ليحسنوا سماعه وفهم معانيه وحفظه والعمل به، ومنها: ما يتصل بالمنهج الذى يتم به نقل هؤلاء الناس من الضلال إلى الهدى ومن الظلمات إلى النور بصورة مناسبة تجعلهم خير أمة أخرجت للناس. وكان إعراض هؤلاء الكافرين وفساد تصورهم حاجبا لهم عن رؤية هذه الحكم وغيرها، وإعراضهم هذا وكفرهم يصل بهم إلى جهنم. أخرج ابن أبى حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء فى المختارة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال

_ (1) القرطبى 13/ 25. (2) فتح القدير للشوكانى 4/ 74. (3) المرجع السابق 4/ 75.

المشركون: لو كان محمد كما يزعم نبيا فلم يعذّبه ربّه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين، فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34). ومع سوء فهم الكافرين لحكمة نزول القرآن الكريم مفرقا وإعراضهم الذى وصل بهم إلى جهنم. تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ما حدث مع أنبياء الله ورسله من أقوامهم وكيف كان إعراضهم وعاقبة هذا الإعراض، وكيف أن هؤلاء الكافرين يرون آثار ما وقع بهؤلاء الكافرين السابقين، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40). وتذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك أسلوبا وصورة من صور التحدى التى يراد بها التأثير على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهو أسلوب السخرية والاستهزاء. فكان أبو جهل يقول للنبى صلّى الله عليه وسلم مستهزئا: «أهذا الذى بعث الله رسولا» فنزل فيه قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41). كما تذكر الآيات ما كان من شأن الكافرين فى قلب الحقائق حيث يصفون من يهدى إلى التوحيد وإلى الصراط المستقيم بأنه يضلهم عن آلهتهم، ولكنهم صبروا واستمسكوا بآلهتهم، ويكشف القرآن ضلالهم فى أنهم يتبعون أهواءهم فى عبادتهم لهذه الآلهة المزعومة، ومن هنا يكون العجب من إضمارهم الشرك، وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه سبحانه خالقهم ورازقهم، ثم يقصدون حجرا يعبدونه من غير حجّة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانا من الدهر فى الجاهلية، فإذا وجد حجرا أحسن منه رمى به وعبد الآخر «1». قال تعالى: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43).

_ (1) فتح القدير 4/ 78، 79.

وتبين الآيات الكريمة بعد ذلك ضلال هؤلاء الكافرين الذين لا يسمعون الوحى سماع قبول والذين لا يفكرون فيما يقوله الرسول فيعقلونه فصاروا بمنزلة الأنعام فى الأكل والشرب ولا يفكرون فى الآخرة، وفيما ينفعهم بل هم أضل من الأنعام إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام، والأنعام تمضى فيما سخّرت له، وإن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك. وعلى ذلك فإن الآيات الكريمة تربط كرامة الإنسان باستجابته لوحى ربّه وحسن تلقيه له بالسمع والفهم والطاعة وإلا خرج من دائرة الإنسان إلى دوائر الأنعام المهينة، قال تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. وللسموّ بالعقل الإنسانى ليخرج من دائرة الضلال، وللوقوف به على آيات القدرة والنعمة فى هذا الكون الذى يعيش فيه الإنسان، ووصولا إلى الحبّ والخشية للمنعم القادر سبحانه تبسط الآيات الكريمة بعد ذلك آية الظل وكيف مدّه الله سبحانه لينتفع الناس به، وآية الليل ليسكن الناس فيه، وآية النوم ليستريح الناس به، وآية النهار ليسعى الناس فيه، وآية الرياح وما تحمل من آثار رحمة الله بخلقه وآية الماء الطهور الذى تحيا به البلاد ويشرب منه الناس والأنعام، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50). فهكذا تكون الآيات للتذكير ولكن لا ينتفع بها من الناس إلا من كان له سمع وتدبر وعقل وهؤلاء من الناس قليلون. وإذا كانت هذه الآيات تحمل مظاهر النعمة والقدرة من الله على خلقه فإن أجلّ هذه النعم من الله على عباده نعمة الوحى لخلقه واختيار المنذرين منهم ليرشدوهم ولو شاء الله لبعث فى كل قرية نذيرا منهم ولكن شاء الله أن تكون معية الرسول صلّى الله عليه وسلم نعمة عامة للناس أجمعين قال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52). وتستمر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك فى تذكير الناس بآيات النعم والقدرة فهذان البحران يلتقيان بقدرة الخالق سبحانه، ويحافظ كل منهما على خصائصه لينتفع الناس من كل بحر بما جعل الله فيه من خصائص دون أن يبغى بحر على بحر. وهو سبحانه القادر الذى خلق من الماء البشر على كثرتهم. وكل هذه الآيات تقتضى من البشر أن يعبدوا الله وحده، ولكن الكافرين لم

ينتفعوا بالآيات قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55). ومع وقوفنا عند آيات القدرة والنعمة التى يفيد منها المؤمنون ولا ينتفع بها الكافرون فيعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وهذا يحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الحريص على هداية الناس، تخاطبه الآيات الكريمة بعد ذلك بما يخفف عنه هذا وبما يوقظ فى نفوس الناس رغبة اتباع الرسول الذى لا يطلب منهم على هدايتهم أجرا. فهو يدعو إلى الله وحده ويتوكل عليه ويسبح بحمده وكل ذلك من أسباب تقوية النفس «فى مواجهة هذه المواقف من الناس، قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59). وفى هذه الآيات تعريف للناس بكيفية معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا فليس الأمر فيها على الهوى، وإنما نثبت ما أثبته الله سبحانه لنفسه وما أثبته رسوله صلّى الله عليه وسلم، وننفى ما نفاه عن نفسه سبحانه من غير تأويل أو تعطيل أو تشبيه. فالله سبحانه الخبير الذى عرفنا بنفسه فى كتابه الكريم وفى سنة رسوله صلّى الله عليه وسلم وأهل العلم النافع هم الذين يلتزمون بهذا ويسألون من قبل غيرهم ليخبروهم بهذا. وإذا كان هذا منهج سلف الأمة فإن الكافرين المستكبرين الجاحدين يتساءلون كبرا عن الرحمن سبحانه، وهو الذى خلق ورزق ورحم عباده ببعثه رسوله، وكثر خيره على خلقه فجعل لهم ما يرونه فى السماء من بروج، وجعل فيها شمسا وقمرا وجعل لهم الليل والنهار. وإذا كان موقف الكافرين الاستكبار فإن للرحمن عبادا زانهم إيمانهم بربهم فعاملوا الناس بمكارم الأخلاق، وعبدوا الله بصدق وإخلاص فصلوا بالليل والناس نيام وعرفوا عاقبة الكافرين والمعرضين فاستعاذوا بالله من النار وعرفوا الوسطية فى إنفاقهم. قال تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)

وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67). وأما الآيات الثلاث التى تلا الآية السابقة فى سورة الفرقان والتى تذكر من صفات عباد الرحمن، قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) فإنها آيات مدنية فى قول ابن عباس وقتادة. وأما بقية آيات سورة الفرقان فتذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور الذى يمكن أن يقع فيه غيرهم، ومعنى ذلك أنهم لا يقولون الزور ولا يفعلونه وأنهم كرام لا يشهدون لغوا ولا يأتونه، وأنهم يحسنون الإقبال على آيات الله بكل ما أوتوا من قدرات. وهم الذين يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يهبهم من المحيطين بهم من أزواج وذرية ما تقر به أعينهم، وأن يجعلهم فى الخير أئمة يقتدى بهم، وجملة هذه الصفات تدل على سمو حال هؤلاء وصلاحهم مع ربهم ومع أقرب الناس إليهم ومع الذين يتعاملون معهم، ولذلك استحقوا الجزاء من جنس حالهم فجزاهم الله الغرفة بهذه الخصال التى لا ينال إلا بالصبر فبمثل هذه الخصال يكون قدر الإنسان عند الله سبحانه قال تعالى: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77).

سورة «فاطر»

سورة «فاطر» نزلت بعد سورة الفرقان، وهى مكية، قال القرطبى: فى قول الجميع، وأخرج البخارى وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزلت سورة فاطر بمكة. وتوجه السورة الكريمة أنظارنا من الآية الأولى فيها إلى جملة من المعانى التى توقظ فى القلب الإحساس بالنعم، والعرفان بالجميل من الخيرات التى منّ الله بها على خلقه والتى تقتضى إفراد الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه بالعبودية فلا إله إلا هو سبحانه. فالآية الأولى تعلمنا هذا المعنى من تقدير النعم والثناء على المنعم سبحانه الْحَمْدُ لِلَّهِ، ويقترن الحمد فى الآية الأولى وما بعدها من آيات السورة الكريمة بدلائل النعم ودلائل القدرة، لتؤكد معنى الحب والخشية، وليكون توجّه العباد إلى الله وحده رغبة ورهبة. فهو سبحانه فاطر السموات والأرض، وهو الذى جعل الملائكة بهذا الخلق العظيم وأرسلها لتنفيذ ما أمروا به فهو سبحانه على كل شىء قدير، ولا ينبغى لأحد من خلقه أن يتعلق بغيره سبحانه فرحمته تصل لمن شاء من خلقه لا يقوى على إمساكها أحد، وما يمسك فلا قوة تستطيع إرسال ذلك فهو سبحانه القاهر فوق عباده وهو الذى يضع الأشياء فى موضعها. فلا عبودية إلا له سبحانه. هذا المعنى الذى تفتتح به السورة الكريمة يدعّم فى السورة كلّها بعد ذلك، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2). ويأتى بعد ذلك الأمر الصريح بتذكر هذه النعم؛ لأن بعض الناس يمرّ بالآيات مرور الغافلين اللاهين، وبعضهم يغمر بالنعم فينسى المنعم سبحانه، ولذلك فإنه بعد ذكر السموات والأرض وما يتعلق بهما من آيات النعم والقدرة يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فهو الخالق سبحانه ومظاهر الخلق دالة على كمال قدرته وهو الرازق سبحانه ولا رازق سواه فكيف يتوجه إلى غيره بالعبودية. فإذا حدث هذا ولم يفده مع بعض الناس التصريح بذلك فلا تحزن فقد حدث مثل هذا مع المرسلين قبلك: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4).

ولكن رحمة بهذه الأمة فإن الله سبحانه قد ذكر لها من أنباء السابقين ومن سائر صنوف التنبيه ما يعينها على تخطّى العقبات وتجاوز المعوقات التى تقف فى طريقها وتريد فتنتها. فوعد الله حق فلا ينبغى أن تفتن الدنيا الإنسان، لتصرفه عن مصيره ومرجعه إلى ربه ووصوله إلى الآخرة وصولا حسنا فتؤخذ بمنهج الله ويسعى فيها الإنسان بما أمر به ونهى عنه، ولا ينبغى كذلك أن يفتنه الشيطان فهو عدوّ وغايته واضحة، وهو يريد بمدعوّيه الوصول إلى السعير. وأمام هذا التنبيه كذلك توقف الآيات المنزلة الناس على حالهم وانقسامهم إلى كافرين لهم عذاب شديد وإلى مؤمنين صالحين لهم المغفرة والأجر الكبير، وإلى من وقع تحت فتنة تزيين الشيطان للسوء فيراه الغافلون حسنا، وإلى أهل البصيرة الذين لا يقعون تحت تأثيره ولذلك فلا تحزن عليهم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8). وتعين الآيات الكريمة المنزلة الناس على حسن السير فى الطريق المستقيم فتمزج بين الآيات الدالة على قدرة الله سبحانه، ليثق الناس بوعد الله وأن مظاهر البعث يشاهدونها فى آيات قدرة الخالق سبحانه، وبين آيات النعم السابغة وما يقتضى ذلك من صلاح الكلمة والعمل وتجنب السيئات، فآية الرياح وما تثيره من السحاب والذى يسوقه الله لإحياء البلاد والأرض بعد موتها آية قدرة ودليل على النشور. ومقتضى ذلك أن يسلك الإنسان سبيل الاستقامة فى الكلمة والعمل فتكتب له العزة، لأنها لله سبحانه وكتبها لأهل طاعته، وخلق الإنسان من تراب ثم من ماء، والزوجية والحمل والوضع والعمر المتعدد طولا وقصرا للإنسان آيات قدرة قال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11). وتستمر الآيات الكريمة المنزلة فى بيان هذه الآيات الموجهة إلى مظاهر نعم الله على الإنسان، ومظاهر قدرة الخالق سبحانه فى هذه الآيات وما يقتضى ذلك. فهذان بحران أحدهما: عذب فرات، والآخر: ملح أجاج منهما يأكل الناس اللحم الطرى ويستخرجون

ما يتحلوا به لبسا، وفيهما تسير الفلك التى تحمل الناس فى أسفارهم، ويقتضى مع هذه النعم ومظاهر قدرة الله فيها أن يعرف الإنسان فضل الله عليه فيشكره. وهذا الإيلاج لليل فى النهار وللنهار فى الليل وتسخير الشمس والقمر فيهما، وهذا الجرى للأجل المسمى دليل على قدرة الرب الخالق سبحانه وعظيم نعمه وفضله على خلقه، ومقتضى ذلك التوجه الخالص إليه بالعبادة، فله الملك والذين يدعون من دونه لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء المشركين؛ لأن هؤلاء المدعوّين جمادات أو أموات أو ملائكة مشغولون بطاعة ربهم، ولو سمع هؤلاء فإنهم لا يملكون شيئا ولا يرضى أكثرهم بعبادة من عبده، ولذلك سيتبرءون من عابديهم يوم القيامة وبهذا تجتث الآيات القرآنية الكريمة ما وقع فيه بعض الناس من الشرك، وتوجه القلوب إلى المعبود بحق سبحانه ولا يستحق سواه شيئا من العبادة وأن عبادة ما سواه باطلة ومتعلقة بباطل. قال تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14). وتقرّر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك مجموعة من المبادئ والحقائق التى لا غنى للناس عنها منها: الافتقار إلى الله سبحانه فى كل شىء فى الخلق والرزق والهداية والنجاة وغير ذلك فهو الغنى الحميد، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) وفيها أن الناس لا يملكون وجودهم فالله وحده الذى خلقهم هو الذى يميتهم وهو الذى يحييهم وهو القادر على أن يذهبهم- إن شاء- وأن يأتى بخلق جديد يكونون أحسن حالا منهم. قال جل شأنه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17). ومنها تقرير المسئولية الشخصية، ولا تفريط فيها ولو مع الأقربين، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18). ومن هذه الحقائق: أن الذى ينتفع بوحى الله هو الذى يخشى ربّه بالغيب ويقيم الصلاة، ومنها: أن منافع الهداية بوحى الله تعود على النفس فى ذاتها وفى علاقاتها بغيرها، ومنها: اليقين فى أن مصير الناس إلى الله سبحانه الذى خلقهم ورزقهم وأمرهم

ونهاهم وهو سائلهم ومحاسبهم ومجازيهم. وأمام هذه الحقائق وغيرها بما فصّل للناس فمنهم المؤمن ومنهم الكافر ومنهم المستجيب ومنهم المعرض ومنهم السعيد ومنهم الشقى. وإذا كانت الأضداد لا تتساوى فإن هذه المعانى السابقة لا تتساوى كذلك، قال تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً (24). وتعطى الآيات الكريمة ما يدعّم النبى صلّى الله عليه وسلم فى مواجهته لقومه بالتأكيد على بعثته بشيرا ونذيرا. وأن سنة الله مع الأمم أن يرسل فى كل أمة نذيرا، وإن وجد الرسول من أمته من يكذّب فإن الأمم السابقة قد حدث فيها هذا أيضا. وقد أخذ الكافرون أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26). وتوجّه الآيات الكريمة الأنظار بعد ذلك فى آيات قدرة الله سبحانه فيما يشاهده الناس فالماء ينزل من السماء بقدرة الله سبحانه فيخرج به ثمرات مختلفة فالمادة واحدة والأصل واحد ويرى التفاوت واضحا فيما يخرج من هذا الأصل الواحد، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28). هذه الآيات يقف أمامها العقلاء موقف التأمل والتدبر فتغرس فى نفوسهم الخشية وبقدر العلم بالله سبحانه وآيات قدرته تكون الخشية: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28). ومع مظاهر قدرة الله سبحانه فى تعدد الأشكال والألوان وغيرها والأصل واحد والمادة واحدة وأن أهل العلم هم أهل الخشية الذين ينتفعون بهذه الآيات. بعد ذلك تعرض الآيات تجارة رابحة لمن يقوم بعناصرها المتمثلة فى الإقبال على كتاب الله سبحانه تلاوة، وفى إقامة الصلاة، وفى الإنفاق مما رزقه الله سبحانه سرا وعلانية. وسيجد التاجر مع الله سبحانه الأجر العظيم والفضل الكبير ومغفرة الذنوب. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30). وتذكر الآيات المنزلة بعد ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ينبغى أن يعيه الجميع من أن

الموحى به من الكتاب هو الحق الذى يوافق ما كان من وحى سابق فى كتب سابقة، وجاء به رسل سابقون وقد بشّر بهذا الحق فى هذه الكتب وعلى ألسنة هؤلاء الرسل فمسيرة وحى الله فى خلقه سابقة منذ الجماعة البشرية الأولى فى آدم وزوجته وخاتمة الوحى فى هذا الكتاب العزيز، وعلى لسان رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم. وضمّن الله وحيه ما يناسب خلقه وما يسعدهم فى شئون حياتهم ومعادهم، فهو سبحانه الخبير البصير وكان من فضل الله الكبير على هذه الأمة أن اصطفاها واصطفى لها الإسلام دينا، وأورثها الكتاب المهيمن والمصدق لما قبله ولكن تعادت أفراد هذه الأمة فمنهم من ظلم نفسه بالمعاصى، ومنهم من اقتصر على أداء الواجبات ومنهم من سارع فى الخيرات واجتهد فسبق بتوفيق الله له. وشملهم جميعا فضل الله فأسكنهم جنات عدن على درجاتهم، وفى هذا حثّ لهذه الأمة أن تكون من القسم السابق بالخيرات بإذن الله، قال تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35). ومع ذكر أهل الجنة مع تفاوت مراتبهم تذكر الآيات الكريمة الكافرين وجزاءهم الذى يصيرون إليه فى نار جهنم، وحالتهم الشديدة فى هذا العذاب والذى يتفق مع تماديهم فى الكفر وإصرارهم عليه، وكيف يطلبون العودة فى غير وقتها وتنبه الآيات الناس إلى هذه الحقيقة، وتضع أمامهم مثل هذا المطلب ليكون فى أدائه ويتدارك الإنسان موقفه قبل أن تضيع فرصة العمل فى هذه الحياة، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37). وتعين الآيات المنزلة بعد ذلك الناس للنجاة من الكفر وأعماله فإن الكفر لا سند له من العقل أو النقل، وأنه لا معبود بحق إلا الله. فهو عالم غيب السموات والأرض، وهو الذى خلقهما وخلق ما فيهما وما بينهما، ويعلم ما تكنّه صدور الناس ويعلم أن الذين يطلبون العودة إلى الدنيا بعد فوات الأوان كاذبون، وأنهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه. ولذلك فإن من أراد النجاة من الكفر فلينظر إلى حقيقة أمره وكيف كانت مسيرة

الخلق فقد جعل الله الناس خلائف فى الأرض خلفا بعد خلف، وقرنا بعد قرن وقد رأى الناس عاقبة من كفر فى الدنيا من الضلال والهلاك والمقت والغضب والخسران. ثم لينظر الكافر إلى من اتخذه معبودا له من دون الله هل خلق شيئا من الأرض أم له مشاركة فى خلق السموات وتدبيرها؟. فإن لم يكن هؤلاء المعبودون قد خلقوا بل خلقوا بأيدى عابديهم من الكافرين فكيف يعبدون؟ وهل زعم أحد أن الله سبحانه أمر أحدا من خلقه باتخاذ هؤلاء شركاء له فى العبادة سبحانه؟. الأمر إذن ليس إلا تزيين الشيطان لضعاف العقول باتخاذ هؤلاء شركاء لله سبحانه واستمرار هؤلاء المغرورين بتزيين الشيطان فى توارث هذا الضلال والكفر. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40). ومع تزيين الشيطان لضعاف العقول باتخاذ الشركاء واستمرار هؤلاء المغرورين فى توارث هذا الضلال والكفر، وأن آلهتهم المزعومة لا تقدر على خلق شىء من السموات والأرض. بعد ذلك تخبر الآيات الكريمة أن خالق السموات والأرض وممسكهما هو الله فلا يوجد حادث إلا بإيجاده ولا يبقى إلا ببقائه، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (40). فالآية الكريمة تحرّك العقول والقلوب أمام هذا الخلق العظيم الذى لا يقدر عليه إلا الله، وهذه النعمة الكبرى فى أنه سبحانه يمسك السموات والأرض عن الزوال ليحصل لخلقه القرار والانتفاع بهما، فيتحقق للناظر المعتبر ما يكون من الإجلال والتعظيم للقادر العظيم جل جلاله، والحب له تبارك وتعالى لعظيم نعمه على خلقه، وليستحى الكافرون من التعلق بالضعفاء العاجزين ولتتوجّه قلوبهم إلى الخالق المنعم الرحيم بعباده سبحانه. كما يمكن أن يفهم السامع لهذا التقرير الكريم شؤم الشرك والمخالفة لأمر الله سبحانه فشركهم يقتضى زوال السموات والأرض كما جاء فى قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) [مريم]. ولكنه سبحانه وتعالى حليم ويمهل ولا يهمل، كما سيتضح من المعانى الآتية فى هذه السورة الكريمة. فقد كشفت الآيات المنزلة بعد ذلك حال هؤلاء المشركين، ومنه ما كان من غيّهم أن يكون منهم رسول كما كان الرسل فى بنى

إسرائيل فلما جاءهم رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم ما وفّوا بما أقسموا عليه بالأيمان الغليظة بل زادهم مجيئه نفورا وتوقف الآيات الكريمة الناس على سببين خطيرين لهذا الموقف من المشركين وهما سببان نفسيان خطيران: إنهما الاستكبار فى الأرض، والمكر السيئ. فالاستكبار جاء من تصورهم الفاسد للنبوة، وأنها تكون لمن كان عظيما فى تصورهم بكثرة المال والعصبة وهذا العتوّ والاستكبار تبعه السبب الثانى، وهو المكر وخداع الضعفاء من الناس حتى يتبعوهم ويصدوهم عن الإيمان برسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم. ومع ذكر السببين تذكر الآيات الكريمة خطورة مسلك هؤلاء المشركين، وفى الوقت نفسه تطهّر المؤمنين من مثل هذه الأخلاق المرذولة ففي الحديث: «المكر والخديعة فى النار». وهذا يعنى دخول أصحابها فى النار لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار ولهذا جاء فى سياق هذا الحديث: «وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة» «1». والآية الكريمة تؤكد للناس هذا المعنى فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعبا قال له: إنى أجد فى التوراة: «من حفر لأخيه حفرة وقع فيها» فقال ابن عباس: فإنى أوجدك فى القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «2» وفى أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا». وروى الزهرى أن النبى صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح: 10] وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» [يونس: 23] «3». ومعنى هذا أن الآيات الكريمة ترسى القيم الخلقية المؤسسة على التوحيد الخالص فى نفوس الناس. قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) وإذا لم يجد مع هؤلاء نصح بعد كشف حالهم وكذلك فإن سنة الله ماضية لا تتخلف فقد أنزل العذاب بالكافرين، وجعل ذلك سنة فيهم فهو سبحانه يعذب بمثله من استحق لا يقدر أحد أن يبدل ذلك ولا أن يحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره. وهذه السنة الإلهية يراها هؤلاء فى الذين من قبلهم وعليهم أن يسيروا وينظروا ماذا

_ (1) القرطبى 14/ 360. (2) القرطبى 14/ 359. (3) القرطبى 14/ 360.

حدث بعاد وثمود وبمدين وأمثالهم لما كذّبوا الرسل، وهذه مساكنهم ودورهم وهؤلاء المشركون ليسوا خيرا من أولئك ولا أقوى، قال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44). وتختم السور الكريمة ببيان عظيم حلم الله سبحانه بخلقه مع بيان شؤم المعصية والمخالفة لأمر الله سبحانه. وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ أما بنو آدم فلذنوبهم وأما غيرهم فلشؤم معاصى بنى آدم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجعل أن يعذّب فى جحره، بذنب ابن آدم، وقال يحيى بن أبى كثير: أمر رجل بالمعروف ونهى عن المنكر، فقال له رجل: عليك بنفسك؛ فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت؟ والله الذى لا إله إلا هو- ثم قال: والذى نفسى بيده، إن الحبارى لتموت هزلا فى وكرها بظلم ظالم. وقال الثّمالى ويحيى بن سلام فى هذه الآية: يحبس الله المطر فيهلك كل شىء «1». قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45).

_ (1) القرطبى 14/ 361.

سورة «مريم»

سورة «مريم» نزلت بعد فاطر فهى مكية بإجماع، ومما يدل على مكيتها ما ذكره أبو داود «1»: لما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: «إن ثأركم بأرض الحبشة، فأهدوا إلى النجاشى، وابعثوا إليه رجلين من ذوى رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلوهم بمن قتل منكم ببدر؛ فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببعثهما، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو ابن أمية الضّمرىّ، وكتب معه إلى النجاشى فقدم على النجاشى، فقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبى طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم: كهيعص (1) وقاموا تفيض أعينهم من الدمع فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82). وقرأ إلى قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83). وفى السيرة «2» فقال النجاشىّ: هل معك مما جاء به عبد الله شىء؟ قال جعفر: نعم، فقال له النجاشى: اقرأه علىّ. قال: فقرأ: كهيعص (1) فبكى والله النجاشى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم، فقال النجاشىّ: إن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا «2». فهذا يدل على نزول سورة «مريم» فى مكة وحفظ الصحابة لها قبل ذهابهم إلى الحبشة وهجرتهم إليها فكانت قراءة جعفر لها على النجاشى والقسيسين. وقد قيل: إن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58). آية مدنية، ذكر ذلك مقاتل «4» وقيل كذلك: إن قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) آية مدنية. ولكن ليس مع القولين دليل قوىّ مما جعل القرطبى يحكى أنها مكية بإجماع دون أن يستثنى وكذلك الشوكانى فذكر ما أخرجه النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة سورة كهيعص (1) وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة مريم بمكة «5».

_ (1) القرطبى 11/ 72، 73. (2) القرطبى 11/ 73. (4) قلائد المرجان فى بيان الناسخ والمنسوخ فى القرآن: مرعى بن يوسف الكرمى 137. (5) فتح القدير 3/ 320.

وتقرر السورة الكريمة فى هذه الفترة التوحيد الخالص لله سبحانه، وكمال قدرته وتنزهه جل شأنه عما لا يليق بجلاله مما انحرف فيه وضل أهل الكتاب من نسبة الولد والشريك لله سبحانه وتعالى عن قولهم، وتتناول السورة الكريمة فى هذا البيان جانبين الأول: قصص الأنبياء بدءا بزكريا عليه السّلام وما كان من توحيدهم الخالص وما حدث معهم من مظاهر العبودية الصادقة فى حسن التوجه إلى الله، والطمع فى رحمته مع بيان مظاهر قدرة الله سبحانه فى تحقيق ما طلبوا، وكذلك آيات قدرته فى خلقه حتى وجدنا اسم السورة الكريمة مبرزا هذا المعنى فى «مريم» عليها السلام. والجانب الثانى: فى بيان انحراف الناس وضلالهم فى فطرتهم إلى أنبيائهم، ورسل الله إليهم ودعوتهم إلى الصواب الذى يتفق مع ما جاء به هؤلاء الأنبياء. فهذا زكريا عليه السّلام يدعو ربّه ويذكر حاله ولا يستبعد أن يحقق الله له رغبته فى الذرية الصالحة على الرغم من حالته وحالة زوجته فيبشّر بالغلام ويسمّى ونقف على آيات قدرته سبحانه فى هذا الخلق وكيف يكون الإنجاب فى مثل هذه الحالة وكيف يكون غلاما زكيا ويكون برا بوالديه ويكون تقيا، وهذه عاقبة الاستقامة مع الله سبحانه فى الحياة الدنيا وفى الآخرة قال جل شأنه: كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15). وفى عرض هذه القصة تعليم وتوجيه للناس فى التوجه إلى الله سبحانه لتحقيق المراد، والثقة الكاملة فى فضل الله ورحمته، وكمال قدرته والخضوع والتذلل له، وذكر نعمه وآلائه يصاحب الدعاء والمسألة وفى ذكر القصة بتفصيلاتها وجوانبها الخفية ما يدلّ على أن هذا كلام الله سبحانه وحده، فلا علم بهذه الجزئيات الخفية لدى الناس. وبعد ذكر قصة زكريا ويحيى عليهما السلام وما كان من حالهما، وتناول ذكر مريم عليها السلام والتى سميت السورة الكريمة باسمها، وما كان من شأنها فى انقطاعها لعبادة

ربّها، وكيف جاءها الملك ليبشّرها بالولد وتتعجب كيف يكون الولد من غير أن يمسسها بشر وهنا يكون الحال مدعّما لما سبق ذكره مع زكريا عليه السّلام وزوجته حيث رزقه الله بالغلام وليسا فى حالة تسمح بالإنجاب، وكان الغلام مظهرا من مظاهر قدرة الله سبحانه، ويكون الغلام هنا كذلك من مريم آية على قدرة الله جل شأنه وكانت المواجهة بعد أن ظهر الحمل وكان الموقف النفسى شديدا مع مريم عليها السلام: ويطمئن كذلك من الجانب المعنوى حيث تكون آية القدرة الأخرى بعد الولادة فى كلام عيسى عليه السّلام فى المهد، وكلامه يبرئ أمه الطاهرة ويدعّم العبودية لله سبحانه، وأنه عبد الله ورسوله والمؤدى لما يطلب منه من صلاة وزكاة، وبارّ بوالدته فهو بشر ولد وسيموت وسيبعث، فليس كما زعم الضالون ولدا لله سبحانه فما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه، قال تعالى فى بيان ذلك: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36). ومع بيان هذه الحقائق فى شأن عيسى عليه السّلام وأمه وتصحيح المفاهيم الخاطئة نحوهما وتنزيه الله سبحانه عن افتراء الضالين وكذبهم تكشف الآيات الكريمة بعد ذلك حال الناس بعد هذا البيان وتذكر الوعيد الذى ينتظر الظالمين، قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) وبعد الوصول إلى الوعيد

مع سمع قوى وبصر قوى يقفون بهما على الحقائق يبقى الظالمون فى ضلالهم المبين لا يستطيعون عودة لتصحيح عقيدة أو سلوك: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) وأىّ حسرة أشد ممن يقع فى هذا الوعيد ويفوته رضا الله وجنته وسيتحقق سخطه وعذابه ولا يستطيع الرجوع ليستأنف العمل: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40). وأخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ... الآية وأشار بيده، قال: أهل الدنيا فى غفلة» «1». وأخرج النسائى وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا نحوه. وفى تجلية هذه الحقائق للناس تخليص للإيمان من الشوائب التى ضل فيها البشر من اتخاذ الشركاء، أو من نسبة الولد إلى الله سبحانه فأى ضلال أبين من أن يعتقد المرء فى إنسان حمله الرحم وأكل وشرب وأحدث واحتاج أنه إله أو ابن لله، وينسى أن الله سبحانه قادر يفعل ما يشاء وإذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون. وبعد وقوفنا عند قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام وتصحيح المفاهيم نحوهما، والوقوف على مظاهر قدرة الله فى خلقه وفى كلامه فى المهد، وفى تقريره لعبوديته لله سبحانه- تذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك قصة إبراهيم عليه السّلام وما كان من موقفه مع أبيه الذى وقع فى الشرك، فعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنه شيئا وكيف تلطف إبراهيم عليه السّلام فى دعوته لأبيه فقدمها فى رفق وضمّنها حججه القوية، وحذّره من عبادة الشيطان بطاعته كما أنذره وخوّفه من عذاب الله، وكان موقف أبيه الإعراض والتهديد لإبراهيم بالرجم، قال تعالى فى بيان ذلك لرسوله صلّى الله عليه وسلم حتى يدرك الناس حرص الابن على هداية أبيه وكيف يكون الإعراض من الأب، وأن عاقبة الطاعة لله الخير والبركة وعاقبة الكفر العذاب والهلاك: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ

_ (1) فتح القدير 3/ 334، 335.

لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50). وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك مجموعة من أنبياء الله ورسله، وتبرز فى الوقت نفسه مجموعة من الصفات والمنح والعطايا من الله سبحانه لهم فموسى عليه السّلام كان مخلصا وكان رسولا نبيا وكلّمه الله ووهب له هارون نبيا يساعده على أمره قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53). وهذا إسماعيل عليه السّلام تبرز الآيات الكريمة فيه صدق الوعد مع الرسالة والنبوة وأمره لأهله بالصلاة والزكاة وكان عند الله رضيا زاكيا صالحا، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55). فهذه مجموعة من الأخلاق التى تجعل الإنسان صالحا فى حياته مع الله وفى حياته مع الناس. وهذا إدريس عليه السّلام يقول الله فيه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57). وبعد ذكر هؤلاء الصفوة تفصيلا يذكرون إجمالا بإنعام الله عليهم: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) ومعنى ذلك أن هؤلاء التقوا بصلاحهم على تباعد ما بينهم من زمن وأنهم جميعا يشتركون فى صدق توجههم إلى ربهم وحسن تلقيهم لآيات الرحمن بالسجود والبكاء. وبعد ذكر هؤلاء المخلصين يأتى الإخبار والتحذير من خلف أتى بعدهم، ولم يكن على حالهم فبدّلوا وغيروا وصاروا إلى فساد يتمثل فى إضاعة الصلاة ومن ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع «1»، واتبعوا شهوات أنفسهم فنفوسهم ليس لها ضابط بتضييعهم للصلاة، واتباع شهوات النفس والإسراف فيها يزيدهم بعدا، وسيوقعهم فى العذاب

_ (1) قول لعمر، انظر: القرطبى 11/ 122.

الشديد إن لم يتداركوا أنفسهم بالتوبة الصادقة النصوح والإيمان الصحيح وما يتبعه من عمل صالح فإن تداركوا أنفسهم بذلك وجدوا رحمة الله واسعة، ووجدوا أنفسهم فى جنات عدن وعدا من الله سبحانه لا يتخلف وهذا ما وعد الله به عباده المتقين قال جل شأنه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63). وبعد ذكر الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وما ذكر من وعيدهم، وفتح الباب أمامهم كى يتوبوا ويؤمنوا ويعملوا صالحا؛ ليجدوا رحمة الله ونعيمه فى جنات عدن. بعد ذلك نجد الآيات الكريمة تضع الناس أمام مجموعة من الحقائق منها: أن نزول الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنما يكون بأمر الله سبحانه فى الوقت الذى يريد وبالأمر الذى يريد سبحانه، ومنها: ارتباط هذا التنزيل بما وصف الله سبحانه به نفسه، فله الأمر كله ماضيا وحاضرا ومستقبلا فى الزمان والمكان، وأنه سبحانه لا ينسى شيئا، وهو ربّ السموات والأرض وما بينهما خلقا وتدبيرا، وهو وحده المستحق للعبادة، والعبادة تحتاج إلى صبر ومجاهدة، وليس لله سبحانه نظير حتى يشاركه فى العبادة. ومع هذه الحقائق التى تملأ قلب الإنسان يقينا فى قدرة الخالق الرازق الذى بيده ملكوت كل شىء لا يستكثر الإنسان أن يخرج حيا بعد الموت، وقد خلق من قبل ولم يك شيئا أصلا فإعادته بعد أن صار شيئا أيسر وأسهل فى حساباته العقلية. فإذا لم يفد الإنسان من هذه الآيات الباهرات فأمامه من الوعيد الشديد حيث يحضر جاثيا على ركبتيه من شدة الهول وسينزع من كل طائفة وفرقة من الظالمين أشدهم ظلما فهم قادة الظلم والكفر فى الدنيا، والمقدّمون إلى العذاب يوم القيامة، وينجى الله الذين اتقوا من هذا العذاب. «1» تبسط هذه الحقائق فى قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ

_ (1) القرطبى 11/ 128، وفتح القدير 3/ 345.

هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) أخرج البخارى رحمه الله وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا»؟ فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ... الآية، وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وكان ذلك الجواب لمحمد «1». وبعد بيان هذه الحقائق السابقة وما يتنزل بأمر الله من الوحى، تذكر الآيات الكريمة مقالة الكافرين للذين آمنوا فى المقارنة بين فقراء أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من خشونة فى العيش، والمشركين وما كانوا فيه من ترف، وخدعوا فى هذه المقارنة فلم يبصروا القيم التى تجعل الإنسان إنسانا كريما فرأوا أن أصحابهم أحسن مظهرا، ونسى هؤلاء سنة الله فى الإمهال، وأن من كان فى الضلالة مثلهم فليدعه فى طغيانه، جهله وكفره، ليجد مصيره الأليم وهذا غاية فى التهديد والوعيد، وهذا المصير قد يكون فى الدنيا فيعذبون بالنصر عليهم وقد يكون فى الآخرة، قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76). وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك صورة من الغرور والجهل الذى كان عليه المشركون فقد روى الأئمة- واللفظ لمسلم- عن خباب قال: كان لى على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لى: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: فقلت له: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث، قال: وإنى لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الأعمش فنزلت هذه الآية: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وفى رواية قال: كنت قينا فى الجاهلية أى كان حدادا فعملت للعاص بن وائل عملا فأتيته أتقاضاه. خرّجه البخارى- أيضا- وقال الكلبى ومقاتل: «كان خباب قينا فصاغ للعاص حليّا ثم تقاضاه أجرته، فقال العاص: ما عندى اليوم ما أقضيك. فقال خباب: لست بمفارقك حتى تقضينى، فقال العاص: يا خباب مالك؟ ما كنت هكذا، وإن كنت لحسن الطلب فقال خباب: إنى كنت على دينك فأما اليوم فأنا على دين الإسلام مفارق لدينك. قال

_ (1) القرطبى 11/ 145، 146.

أولستم تزعمون أن فى الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى. قال فأخّرنى حتى أقضيك فى الجنة- استهزاء- فو الله لئن كان ما تقول حقا إنى لأقضيك فيها فو الله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها منى فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا يعنى العاص بن وائل- الآيات» «1». ومع ذكر النموذج المغرور الذى كفر بآيات الله، وطمع مع كفره فى المال والولد وسخر واستهزأ وتوعّده الله بالعذاب. تنزل الآيات الكريمة بعد ذلك لتبين سببا من أسباب اتخاذ الآلهة من دون الله، وذلك لينالوا بها العز ويمتنعوا بها من عذاب الله وأنها ستكون عليهم بلاء: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) لقد ترك هؤلاء الكافرون لأهوائهم كما أرسلت الشياطين عليهم تعرفهم بالكفر والشر، وتقول للواحد منهم: امض امض فى هذا الأمر حتى توقعه فى النار. وبقاء الكافرين فى الحياة على ما قدّر الله سبحانه وكل ما يتصل بهم من لحظات وأعمال معدود عليهم عدا: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)، وتقدم الآيات الكريمة هذا المشهد الذى يدعو إلى التفكير كيف يحشر المتقون فى صورة كريمة إلى النعيم وكيف يساق المجرمون إلى الجحيم: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وليس للمشركين عهد عند الله، وفى ختام السورة الكريمة تذكير بأهم ما تعالجه سورة مريم من تنزيه الله سبحانه عما لا يليق بجلاله من نسبة الولد إليه سبحانه نتيجة قصور الفهم لدى الضالين الذين لم يدركوا أن الله يخلق ما يشاء، وهو القادر الذى يقول للشيء كن فيكون، فتعرض الآيات الكريمة لقول هؤلاء الضالين وأنه منكر من القول وزورا تتفطر منه السموات وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، والحق أن كلّ من فى السموات والأرض عبد لله من خلقه وتحت قدرته ومشيئته، وسيأتى كل إنسان إلى ربّه يوم القيامة فردا، قال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95). وبعد ذلك تبين الآيات الكريمة مكانة المؤمنين الذين يعملون الصالحات عند الله

_ (1) فتح القدير 3/ 345.

سبحانه فى قوله الكريم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) ولقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن ابن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد فى نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الآية وهذه الرواية لا تستقيم ولا تصح، لأن السورة الكريمة كما ذكرنا من قبل مكية كلها، وقال ابن كثير معلقا على هذه الرواية: وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شىء منها بعد الهجرة، ولم يصح سند ذلك «1». وأخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت فى علىّ بن أبى طالب إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) قال: محبة فى قلوب المؤمنين. وأخرج ابن مردويه والديلمى عن البراء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلىّ: «قل اللهم اجعل لى عندك عهدا واجعل لى عندك ودّا واجعل لى فى صدور المؤمنين مودة» فأنزل الله الآية فى على وأخرج عبد الرزاق والفريابى وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس: «ودا» قال: محبة فى الناس فى الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذى وابن مردويه عن علىّ قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) ما هو؟ قال: «المحبة الصادقة فى صدور المؤمنين» وثبت فى الصحيحين وغيرهما من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إنى قد أحببت فلانا فأحبّه فينادى فى السماء، ثم ينزل له المحبة فى أهل الأرض فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إنى قد أبغضت فلانا فينادى فى أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء فى الأرض». وتجمل الآيتان الأخيرتان من سورة مريم ما قصّه الله لرسوله صلّى الله عليه وسلم فى كتابه الكريم من أنباء السابقين ممن اصطفاهم الله من خلقه، وكيف كان صلاحهم، وممن خالف وكفر وصار ذلك ميسّرا لمن أراده يبشّر به المتقون وينذر به المبطلون، كما تقدّم عبرة التاريخ التى يجدونها والتى ينبغى أن يفيدوا منها فقد أهلك هؤلاء من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من المعاندين المكذبين لما استمروا فى طغيانهم فلا صوت لهم ولا حركة، قال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98).

_ (1) فتح القدير 3/ 345.

سورة «طه»

سورة «طه» وهى مكية فى قول الجميع نزلت بعد سورة «مريم»، وكان نزولها قبل إسلام عمر رضي الله عنه روى الدارقطنى فى سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خبّاب، وكانوا يقرءون «طه» فقال: أعطونى الكتاب الذى عندكم فأقرأه- وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسّه إلا المطهّرون، فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ: «طه». وذكره ابن إسحاق مطولا: فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقتله، فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ الذى فرّق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرّتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ فقال: وأىّ أهل بيتى؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خبّاب بن الأرتّ معه صحيفة فيها «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيّب خبّاب فى مخدع لهم أو فى بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خبّاب عليهما، لما دخل قال: ما هذه الهينمة التى سمعت؟ (والهينمة: الكلام الخفىّ الذى لا يفهم) قالا له: ما سمعت شيئا. قال: بلى والله لقد أخبرت أنّكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفّه عن زوجها فضربها فشجّها. فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك. ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته: أعطنى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءونها آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد. وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال لها: لا تخافى وحلف لها بآلهته ليردّنّها إذا قرأها، فلما قال ذلك طمعت فى إسلامه، فقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها

طه فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خبّاب خرج إليه، فقال له: يا عمر والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه فإنى سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك: فدلنى يا خبّاب على محمد حتى آتيه فأسلم، وذكر الحديث «1». وعلى ذلك فإن سورة «طه» مكية نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه وأما ما ذكره بعض الناس من أن الآيتين الكريمتين: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131). مدنيّتان فليس لهذا القول دليل يعتدّ به، وقد أشار إلى ذلك القرطبى رحمه الله فى مسألة ذكر فيها قول ابن عطية فقال القرطبى: «قال بعض الناس: سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: نزل ضيف برسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأرسلنى عليه الصلاة والسلام إلى رجل من اليهود، وقال: قل له يقول لك محمد: نزل بنا ضيف ولم يلف عندنا بعض الذى يصلحه فبعنى كذا وكذا من الدقيق، أو أسلفنى إلى هلال رجب»، فقال: لا، إلا برهن. قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «والله إنى لأمين فى السماء، أمين فى الأرض، ولو أسلفنى أو باعنى لأدّيت إليه، اذهب بدرعى إليه» ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا، قال ابن عطية: وهذا معترض أن يكون سببا؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية فى آخر عمر النبى صلّى الله عليه وسلم؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودى بهذه القصة التى ذكرت وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها، وذلك أن الله تعالى وبّخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعّدهم بالعذاب المؤجّل، ثم أمر نبيه بالاحتقار بشأنهم والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما فى أيديهم من الدنيا، إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزى «2». وعند ما نتناول ما تضمنته سورة «طه» من المعانى على ترتيب نزولها فأول ما نظفر به من هذه المعانى، ما خوطب به النبى صلّى الله عليه وسلم من بيان خصائص الوحى المنزل عليه، وأنه يرفع الحرج ويدفع المشقة وهو اليسر كلّه ومع بيان الغاية من تنزيل القرآن الكريم، وأنه تذكرة يأتى البيان بأن أهل التذكرة والانتفاع به هم أهل الخشية. كما يأتى البيان الذى يطمئن الناس على كمال هذا الوحى وشموله وعلاجه لما خفى وما ظهر، وهدايته العامة

_ (1) القرطبى 11/ 163، 164. (2) القرطبى 11/ 262.

للتى هى أقوم فى كل شىء تذكر الآيات الكريمة صفات من أنزله سبحانه، قال جل شأنه: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8). وهذا التنزيل المبارك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم امتداد لفضل الله على عباده منذ آدم عليه السّلام، ولكنّ الناس مع الوحى المبارك مختلفون، فتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك قصة الوحى مع نبى الله موسى عليه السّلام وكيف بدأ نزوله معه، فكما بدأ نزول الوحى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غار حراء فكانت أولى آيات القرآن الكريم فإنه بدأ مع نبى الله موسى بالواد المقدس طوى وأن ما خوطب به موسى عليه السّلام هو ما خوطب به رسل الله جميعا عليهم الصلاة والسلام من توحيد الله سبحانه، وعبادته وحده، والاستقامة على وحيه، والاستعداد لليوم الآخر، والتحذير من المعوقات التى تقف فى طريق الدعاة إلى الله من شياطين الإنس والجن، قال تعالى: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16). وبعد هذا تذكر الآيات الكريمة سنة الله مع رسله من تأييدهم بالآيات الدالة على صدقهم ومعرفة رسل الله بهذه الآيات التى يجريها الله على أيديهم ومن هذه الآيات- هنا- العصا. واليد. ومع هذه الآيات لا غنى للداعى إلى الله من شرح صدر الله له وتيسير أمره. كما تدل الآيات الداعين على أهمية التعاون والتآزر فى تبليغ الدعوة وعبادة الله سبحانه قال تعالى لنبيه موسى عليه السّلام بعد ذكر اختياره: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34)

إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36). ومن بيان أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يختارون لتبليغ رسالات الله وتشملهم عنايته ورعايته فى جميع أحوالهم، وحياتهم يأتى ذكر منّة الله على موسى عليه السّلام طفلا حيث أنقذه من عدو الله فرعون وعدو موسى الذى أراد ذبحه باعتباره طفلا من أطفال بنى إسرائيل، وأما كيف تم الإنقاذ؟ فإنه توجيه آخر لبيان كيفية إنفاذ الله لما يريد بقدرته وكيف يتم المراد بالإمهال على عكس ما يتصور البشر، فإلقاء الطفل فى التابوت ثم إلقاؤه فى اليم ثم وصول التابوت إلى مصدر الخطر. كل ذلك فى نظر الناس إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ولكن مع رعاية الله سبحانه تتحول المخاطر إلى وسائل للنجاة فألقى الله المحبة فى قلب زوج فرعون ليلغى الأمر بالذبح، وحرّم الله عليه المراضع ودلّت أخته على أمّه باعتبارها مرضعة لا تعرفه ليتحقق وعد الله، ويعود موسى إلى أمه. كما يذكّر الله سبحانه بما يدل على عنايته به فى حياته إذ نجاه من القتل عند ما وكز الرجل، وكان فيها القضاء وكيف رعاه وهو فى أهل مدين ليجد أهلا وترحيبا وأمنا. كل هذه النعم دلالة على الاختيار للرسل وفيه ما يطمئن المرسل إليهم إلى اصطفاء الله لرسلهم، قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41). ومع ذكر مظاهر عناية الله بالمرسلين فى حياتهم كلها، وذكّر الله نبيه موسى عليه السّلام بذلك. تذكر الآيات الكريمة بعد هذا تكليف موسى وأخيه بالذهاب إلى فرعون، ومداومة ذكر الله سبحانه مع بيان منهج الدعوة الذى ييسر للمدعو سبيل التذكر والخشية، وهو القول الليّن الذى يجعل المستمع فى هدوء أما القول المعبر عن الشدة فإنه يشغل المدعو بمواجهة الداعى، ولا يترك له فرصة التفكير فيما يدعى إليه. ولكن قد يحدث أن يكون المدعو فى قمة الطغيان التى يتوقع معها أن يفرط على الداعى، ويكون سبيل الأمان أن يستشعر الداعى إلى الله سبحانه أن الله معه يسمع ويرى، كما تبين الآيات الكريمة بعد هذا الأهداف التى من أجلها يبعث الرسل والمذكور منها- هنا- إنقاذ البشر من ظلم الطغاة، وإشاعة السلام بين الناس باتباع الهدى، وإنذارهم من التكذيب والإعراض، ومواجهة المدعوين بالحجة وبيان ما غمض عليهم

وإقحامهم إذا أرادوا الجدل بالباطل ببيان ما ينبغى أن يشغل الإنسان به مما يعود عليه بالمنفعة، وبعد هذا البيان لكل الدعاة ينبغى أن يعلموا أن من الناس من يعرض على الرغم من الالتزام بالمنهج الرشيد فى الدعوة فإذا حدث ذلك لرسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم فإن الآيات الكريمة تذكّره بما حدث من فرعون مع قوة الآيات ووضوحها فلا يحزن قال جل شأنه مخاطبا موسى عليه السّلام: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56). بل قد لا يكتفى المدعو بالإعراض وإنما يوجّه التهم إلى الداعى، ويقلب حقائق الأمور. فرماه بمثل ما عرف من تخييل السحرة، وأنه سحرهم بهذه الآيات ليخرجهم من الأرض وأيّد الله رسوله فى اللقاء الجامع الذى جمع فيه فرعون كيده ثم أتى. وأبطل الله ما صنع السحرة على الرغم من شدة التمويه، وإحكام الصنعة حتى أوجس فى نفسه خيفة موسى وثبّته الله. وأيّده بالعصا التى تلقف ما صنع هؤلاء. وأدرك السحرة أن ما جرى على يد موسى ليس من قبيل سحرهم وبضاعتهم، ولذلك آمنوا برب هارون وموسى. وهنا يظهر الطغيان فى صورته التى لا يقبلها عقل، فإن فرعون بطغيانه تصوّر أنه يملك قلوب الناس وعقولهم، فكيف يؤمن السحرة قبل أن يأذن لهم فرعون بالإيمان ثم أكّد اتهامه وقوّاه بزعم لا سند له من الواقع فى أن موسى عليه السّلام هو كبيرهم الذى علمهم السحر ثم هدد بالتعذيب البدنى، وهذه نهاية الإفلاس لدى الطغاة أن يهددوا بالتعذيب، ولكنّ صدق إيمان السحرة جعلهم يستهينون بتهديد فرعون ولا يعبئون به ويرون قصر الحياة الدنيا، ويرجون ربهم أن يغفر لهم ما بدر منهم. ثم تذكر الآيات عاقبة من أجرم، وعاقبة من آمن: قال تعالى فى موقف فرعون: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ

وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73). ومع بيان نتيجة الإجرام ونتيجة الإيمان تعقيبا على موقف فرعون من موسى وهارون عليهما السلام والموقف من السحرة الذين آمنوا وذلك فى قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (47) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76). فإنه قبل أن يلقى فرعون مصيره يرى آية أخرى فى الطريق الذى جعله الله لموسى ومن آمن معه فى البحر، ولكن العمى كان قد تحكم من فرعون فلم ينتفع بالآيات كلّها بل أضلّ قومه وكان مصيره أن يموت فى البحر. قال تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79). وإذا كان هذا نذيرا للطغاة فى كل عصر فإن الآيات الكريمة بعد ذلك تحكى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ما حدث من قوم موسى؛ ليقف على ما كان من أمر بنى اسرائيل، وما كان من شأن هذه الأمة. لقد ذكرت الآيات ما منّ الله به على بنى إسرائيل من النجاة من عدوهم وما نزّل عليهم من المنّ والسلوى وطيبات الرزق، ولكن بعد نجاتهم من إضلال فرعون وقعوا تحت تأثير إضلال السامرىّ لهم، فلما تركهم موسى أضلّهم السامرىّ بالعجل ونهاهم هارون ولكن لم يستجيبوا له. وعاقب الله المضلّ وحرّق العجل ونسف

فى اليمّ نسفا، قال تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97). وبعد هذا تستخلص العبرة وصولا إلى التوحيد الخالص والتأكيد على أهمية الذكر الحكيم وعدم الإعراض عنه، والتذكير بيوم القيامة وما يحدث فيه. والعود إلى ذكر التنزيل وغايته، وبيان شوق الرسول صلّى الله عليه وسلم إليه، وضمان جمعه فى صدره تأكيدا لما ذكر فى أول السورة الكريمة، قال تعالى: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً (104). أخرج «1» ابن المنذر وابن جريج قال: قالت قريش: كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107). وتستمر الآيات فى بيان ما سيحدث يوم القيامة فيقول الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ

_ (1) فتح القدير 3/ 387.

فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114). وتستمر الآيات الكريمة لتعطى الأمة الخاتمة خلاصة تجارب السابقين وما كان منهم فتذكر لنا ما كان من أبى البشر آدم عليه السّلام حيث عهد إليه وأمر فالتزم وأذعن ومع ذلك نسى وانتقضت عزيمته وتاب وتاب الله عليه كما تبصّر الآيات الكريمة بنى آدم بتكريم الله لأبيهم وعداوة إبليس وإغوائه لآدم عليه السّلام وأسلوبه فى الإغواء ونزول الوحى والهدى وانقسام الناس فى قبول الوحى إلى قسمين. قال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127). وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك العبرة التاريخية فيما حدث للسابقين وكيف تكون سنة الله فى خلقه فى الإمهال. قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129). ثم توجه الآيات الكريمة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتقويته فى مواجهة التحديات بالصبر على ما يقولون، والتسبيح بحمد الله وصولا إلى الرضا، والرضا بما قسم الله، وأمر الأهل بالصلاة والاطمئنان على رزق الله، وهذه سبل تدعيم الشخصية لكل مؤمن. قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ

اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132). وتختم السورة الكريمة بذكر مطلب المشركين فى أن يأتيهم الرسول صلّى الله عليه وسلم بآية كالناقة والعصا، أو أن يأتيهم بالآيات التى يقترحونها كما جاء فى قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) [الإسراء]. وهذا مطلب عجيب فقد جاءهم البينات فى هذا الذكر الحكيم فهو كتاب معجز وقص عليهم أخبار السابقين وأحوالهم؛ ومنها: ما ذكر فى سورة «طه» من ظهور الآيات أمام فرعون ولم ينتفع بها. فمع التعنت والعناد والظلم لا تغنى الآيات. لقد أقيمت الحجة عليهم بما جاءهم من الحق والبينات، وليس لديهم ما يتعللون به حين يرون العذاب والخزى. وإذا كان المشركون يتربصون بالنبى صلّى الله عليه وسلم فإن العاقبة ستظهر من كان على صراط مستقيم ومن اهتدى، قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135).

سورة «الواقعة»

سورة «الواقعة» نزلت بعد سورة «طه» فهى مكية فى قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وأما ابن عباس وقتادة فيستثنيان آية منها نزلت بالمدينة وهى قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)، وأما الكلبى فيقول: إنها مكية إلا أربع آيات منها آيتان نزلتا فى سفره صلّى الله عليه وسلم إلى مكة وهما قوله تعالى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)، وآيتان نزلتا فى سفره صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة وهما قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) «1». وفى صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مطر الناس على عهد النبى صلّى الله عليه وسلم فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا»، قال: فنزلت هذه الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) «2». وعلى ذلك تكون الآيات المدنية عشر آيات منها: هذه الآيات الثمانية والآيتان: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبى صلّى الله عليه وسلم خرج فى سفر فعطشوا، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون: هذا المطر بنوء كذا» فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلّى ركعتين ودعا ربّه فهاجت ريح، ثم هاجت سحابة فمطروا، فمرّ النبى صلّى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول: سقينا بنوء كذا ولم يقل: هذا من رزق الله فنزلت: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) أى: شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة وتقولون: سقينا بنوء كذا. وفى الموطأ عن زيد بن خالد الجهنىّ أنه قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل (أى بعد مطر) فلما انصرف أقبل على

_ (1) القرطبى 17/ 194. (2) القرطبى 17/ 228، 229، وفتح القدير 5/ 163.

الناس وقال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر بالكوكب ... فأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك مؤمن بالكوكب كافر بى» «1». وعلى ذلك فإن سورة الواقعة تتضمن تصحيح نظرة الإنسان إلى آيات الله الكونية، فإن هذا الكون بما فيه من آيات كونية من خلق الله سبحانه فهو الذى خلقها وهو الذى يسيرها وفق حكمته ومشيئته فلا يتوجّه إلى الآيات، ولا ينسب إليها فعل، فلا حول لها ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. ونستطيع أن نجد تأسيس النظرة الصحيحة إلى الكون فى سورة الواقعة فيما يلى: أولا: نظرة التوافق والانسجام، فالكون بآياته يسبح لله، طائع له، فإذا كان الإنسان كذلك طائعا لربه مستجيبا لأمره ونهيه شعر بالألفة والحب نحو هذا الكون للتوافق فيما بينهما. ثانيا: نظرة التأمل والاعتبار فلا يمر المؤمن عليها بغفلة، وإنما يستدل منها على قدرة خالقها سبحانه وعظيم صنعه فيؤمن بقدرة الله سبحانه فلا يستصعب البعث والحساب وما يكون إذا وقعت الواقعة. ثالثا: نظرة التسخير والانتفاع فإن الله سبحانه جعل فى هذه الآيات ما يستمتع به الإنسان وينتفع به فى حياته فيزداد بالتفكير فى آيات النعمة حبا للمنعم سبحانه والعمل لمرضاته. نتعلم هذا من سورة الواقعة فيما تثيره من تساؤلات عن النطفة وعن الحرث وعن النار التى ينتفع بها الإنسان وهكذا. فإذا ما استقامت نظرة الإنسان إلى الكون بهذه الصورة تهيأ لما سيكون بعد الموت وما سيكون إذا وقعت الواقعة. ولذلك سيكون فى حياته عابدا لربه شاكرا له فيكافأ بالعطاء فى الدنيا والجزاء العظيم فى الآخرة؛ لهذا جاء فى فضل تلاوة سورة «الواقعة» ما أخرجه البيهقى فى الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة، كلّ ليلة لم تصبه فاقة أبدا» وذكر ذلك أيضا ابن عبد البر فى التمهيد كما سميت فى روايات أخرى بأنها سورة الغنى «2». ومما تضمنته سورة «الواقعة» من المعانى على ترتيب نزولها، بعد أن نزلت آيات كثيرة فى السور الكريمة السابقة تذكر يوم القيامة وما يحدث فيه من بعث ونشور وما

_ (1) القرطبى 17/ 229. (2) فتح القدير 5/ 146.

يكون من حساب وجزاء، وثواب وعقاب، وجنة ونار، وتخاطب فى كل ذلك ما يقنع العقل ويحرّك القلب حتى أصبح الأمر لمن أراد الهداية يقينا لا شك فيه تنزل سورة الواقعة لتذكّر بهذا اليقين، ولتذكر نتيجة وقوع الواقعة من الخفض لقوم والرفع لآخرين وارتباط هذا الخفض والرفع بأعمال المكلّفين، ومظاهر هذه الواقعة من الرّج والبسّ وتغيّر الأحوال وانقسام الناس بأعمالهم إلى ثلاثة أقسام. يقول الله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) تذكر الأصناف الثلاثة. أما المقربون فيذكرون بصفتهم ومصيرهم وحجمهم من الأمة فى أوّلها وآخرها ومن غيرهم، ومظاهر نعيمهم، قال تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26). أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة قال: لما نزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) شق على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إنى لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، أو شطر أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثانى» «1». غير أن هذا الوصف لحجم المنعمين يأتى مع أصحاب اليمين، فيذكرون بمظاهر نعيمهم، وأنهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين. فيقول تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40). وأما أصحاب الشمال فيذكرون بمصيرهم ومظاهر عذابهم وصور من أعمالهم وسلوكهم، قال تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا

_ (1) فتح القدير 5/ 151.

يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56). ولما ذكر فى الآيات السابقة ما كان من أصحاب الشمال من التكذيب بيوم الدين، وما يحدث فيه، وما يتبع ذلك من عدم استقامة المكذب فى التعلق بالدنيا والاشتغال فيها بالباطل وارتكاب كبائر الذنوب، كانت الآيات الكريمة بعد ذلك معينة على سبيل الاستقامة وذلك بعرض مجموعة من آيات الله الكونية المشاهدة، والتى تتناول خلق الإنسان وأصله ونهايته، وما يكون من الزرع الذى لا غنى له عنه، والماء الذى يشربه وكيف ينزله الخالق المنعم سبحانه عذبا فراتا برحمته، والنار التى تشاهد وينتفع بها. كل هذه الآيات المشاهدة للإنسان تنطق بعظيم قدرة خالقها جل جلاله فإذا تأملها الإنسان آمن بأنه سبحانه على كل شىء قدير فلا يستكثر الإنسان أن يعيده الله سبحانه مرة أخرى بعد أن يموت ويكون ترابا وعظاما، وأن يحاسبه على ما قدم، قال تعالى: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74). وهذا التدبر والتأمل فى آيات الله الدالة على قدرته سبحانه، وعلى عظيم نعمه تورث فى القلب اليقين، وحسن التلقى لآيات الكتاب العزيز. ومما تضمنته سورة الواقعة من المعانى على ترتيب نزولها من تقدم الآيات الكريمة ما يعين الإنسان على بلوغ اليقين من تأمله وتدبره فى آيات الله الكونية، والتى يعيش فيها وينعم بها ولا يستطيع الحياة بدونها. فإذا بلغ الإنسان هذا اليقين بهذه المشاهدة وجد القسم الذى يزيده يقينا فى كتاب الله سبحانه، وأنه كلامه الذى يعتز الإنسان به وأنه محفوظ ممن نزله سبحانه وعلى هذا تكون قوة المؤمنين فى الاعتزاز والجهر به أمام العالمين، قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)

أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82). فالآيات الكريمة تربط الإنسان بمشاهد الكون الدالة على قدرة الخالق سبحانه وعظمته وأن القرآن الكريم كلامه الذى أنزله وحفظه فلا ينبغى أن يشعر المرء بضعف وهو يحمل كلام القوى العزيز، ولا ينبغى أن يقابل نعم الله الغامرة بالتكذيب باليقين الذى لا ريب فيه وخاصة عند مواجهة الأعداء، وكما أشرنا أن نزول الآيتين: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) كان فى سفر النبى صلّى الله عليه وسلم إلى مكة. وتقدم الآيات الكريمة- بعد ذلك- مظهرا من مظاهر قدرة الله سبحانه فى وقوع الموت ببنى آدم وعجز الإنسان أمام هذا الحق الذى لا مفر منه، وإبراز هذا الجانب من مظاهر القدرة المشاهدة فى الموت يسلم للحقيقة التى بعده والتى تتعلق بالبعث بعد الموت وانقسام الناس إلى: المنعّمين على درجاتهم من المقربين ومن أصحاب اليمين، وإلى: المعذبين من المكذبين الضالين. وعلى هذا فإن سورة الواقعة تقدم للناس حق اليقين فى كل ما أخبر الله عنه من أمور الغيب ودعم هذا اليقين بإثارة الفكر ليتأمل الإنسان آيات القدرة والنعمة فى حياته والتى تجعله يسبح باسم ربه العظيم من قلبه، قال تعالى: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96).

سورة «الشعراء»

سورة «الشعراء» وبعد سورة الواقعة وما تضمنته من المعانى التى تؤسس اليقين فى القلوب نحو اليوم الآخر، وتأخذ بالعقول للتفكير فى آيات الله الكونية، وما يكون من وقع الموت بالإنسان ومصيره فى الآخرة تنزل سورة الشعراء، لتدعم اليقين، فى آيات الكتاب المبين، وكيف حفظه من أنزله سبحانه على قلب رسوله صلّى الله عليه وسلم، وتبيّن موقف الناس منه، وما تضمنه من وجوه الإعجاز، وتنزهه عن المشابهة بكلام البشر، فسورة الشعراء مكية عند الجمهور وقال مقاتل: منها مدني؛ الآية التى يذكر فيها الشعراء، وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة «1» وهى قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227). وتبدأ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الكريم، وأنه كتاب مبين ولكنّ موقف الناس منه عجيب فقد كذّب به- مع وضوحه- فريق منهم، وهذا الموقف أحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم حزنا شديدا. وهم بهذا الإعراض مع التكذيب والاستهزاء يعرّضون أنفسهم لعذاب الله، قال تعالى: طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6). فهؤلاء الذين كذبوا بآيات الله مع وضوحها عمى عن آيات الله الكونية، لم يفتحوا عيونهم ليروا تحت أقدامهم الأرض، وما أنبت الله فيها من كل زوج بهيج ليكون فى هذا النظر فتح لقلوبهم، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9).

_ (1) القرطبى 13/ 87، فتح القدير 4/ 92.

ومع بيان وصف الكتاب العزيز بأنه مبين، ومع هذا كان موقف بعض الناس منه الإعراض والتكذيب، لأنهم لم يفتحوا عيونهم على آيات الله الكونية فعميت قلوبهم عن آيات الله القرآنية، وتقدّم الآيات الكريمة- بعد ذلك- وجها من وجوه الإعجاز فى هذا الكتاب المبين وهو الإخبار عن السابقين وما كان من موقف الأمم السابقة مع رسلهم، وهى أخبار لا يعلمها إلا الله سبحانه الذى نزّل الكتاب على عبده. وفى الوقت نفسه يكون فى هذه الأخبار ما يفيد من أراد الهداية والانتفاع من تجارب الآخرين، والسعيد من وعظ بغيره فبدأت الآيات بالحديث عن موسى عليه السّلام، وقد سبق الحديث عنه فى آيات كريمات من سور سابقة ولكن نجد أن تجدّد ذكر الأنبياء مع أقوامهم فى مواضع متعددة يكون مصحوبا بجوانب تربوية ومواقف تتناسب مع السياق الذى ترد فيه. ففي موضع تذكر جزئيات خاصة وفى موضع آخر يفصّل فى غيرها وهكذا فتعرض الآيات الكريمة- هنا- شيئا مما يتعلق بنبى الله موسى عليه السّلام وقد ذكر من قبل- مثلا- فى سورة طه فى جوانب من نعم الله عليه منذ ولادته إلى بعثته، وما جرى مع قومه- وهنا تأتى جوانب من حياته لتعين الناس على استخلاص العبرة من قصة موسى مع القوم الظالمين وضيق صدره من مواجهة الطاغين، وكيف أيده الله وأعانه وشد أزره بأخيه هارون، قال تعالى: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17). ثم تبين الآيات بعد ذلك موقف فرعون منهما ومحاولته صرف موسى عن دعوته بذكر ما صنعه معه وليدا، وما فعله موسى عند ما استغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى، قال تعالى: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)، وكان جواب موسى عليه السّلام مبصّرا لفرعون ومبينا له حقيقة استعباده لشعب بنى إسرائيل فى مقابل ما يذكره من صنيعه بموسى عليه السّلام، قال تعالى: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22). ثم تعرض الآيات الكريمة سؤال فرعون لموسى عن ربّ العالمين، وكان جوابه عليه السلام مصححا لما أوقعه فرعون فى الناس من ضلال فأجابه بأنه سبحانه ربّ هذا الكون بسمائه وأرضه وما بينهما، ورب الناس الذين يعيشون فى هذا الكون، وربّ الزمان والمكان، ولا شريك له فى ذلك، وهو الذى يستحق العبادة وحده فلا إله إلا هو، قال

تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29). وقدّم موسى الآيات الدالة على صدقه فى العصا واليد ولكنّ فرعون رماه بالسحر وبالتآمر على الناس، قال تعالى: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35). ولما وجد الناس رمى فرعون لموسى عليه السّلام بالسحر أشاروا عليه بجمع السحرة ومواجهته بهم، وتمت المواجهة ووعد السحرة بالأجر والمكانة وتحرك الباطل، فخدع الناس وخيّل إليهم من سحرهم أن عصيهم تسعى ولكنّ الحق تحرّك أيضا بإلقاء موسى للعصا التي أسكنت بالباطل ودفعته، وأدرك السحرة أنه الحق فآمنوا. قال تعالى: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48). ولكن شأن الطغاة أن يتصوروا أنهم يملكون الناس ظاهرا وباطنا، وأنه لا ينبغى للإنسان أن يفكر إلا إذا أذن له سيده، ولا أن يؤمن إلا إذا سمح له فرعون، وتبع هذا التصور الباطل رمى فرعون لموسى عليه السّلام بالسحر، وأنه كبير السحرة، وأنهم تعلموا على يديه ثم اتّجه إلى السحرة وتوعّدهم بالتعذيب، وقابله السحرة بالإيمان والثبات والتفكير فى المصير والطمع فى مغفرة الله. قال تعالى: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51). ويؤمر موسى عليه السّلام بالسير ليلا لأنهم متّبعون، ويقوم فرعون بحشد إعلامى ليشتد غيظ الناس على بنى إسرائيل، وتكون العاقبة فى إخراج الظالمين من النعم الكثيرة وتمكين الضعفاء المستعبدين منها. وتأتى العاقبة فى بيان يشدّ انتباه السامعين إلى هذا

الموقف الذى يتراءى فيه الجمعان: جمع الطغاة، وجمع المؤمنين ويخشى المؤمنون الموقف، ولكن موسى يطمئنهم: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)، ويكون الأمر بضرب البحر بالعصا لتتحقق هذه الآية العظيمة فى وجود الطريق بين جبلين من الماء الجامد لينجو المؤمنون بهذا الطريق، ويعود البحر إلى حالته الأولى لإغراق الظالمين. قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68). ثم تقدم الآيات الكريمة المنزلة بعد هذا ما كان من نبأ إبراهيم عليه السّلام مع أبيه وقومه ومواجهتهم فى العبادة، وبيان بطلان ما هم عليه بيانا عقليا ليجدوا أنفسهم فى دائرة التقليد الأعمى للآباء فحسب. قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77). ويعرّف إبراهيم عليه السّلام الناس بمجموعة من النعم التى تغمرهم، وينبّه إلى مجموعة من الأمور التى ينبغى أن يحرص الناس عليها وأن يشتغلوا بتحقيقها، وأن يتضرعوا إلى الله ليعينهم على تحقيقها. فهو سبحانه الذى خلق، وهو الذى يهدى، وهو الذى يطعم ويسقى، وهو الذى يشفى إذا قدّر المرض، وهو الذى يميت، وهو الذى يحيى وهو الذى يرجى فى التطهر من الخطايا لخطورتها فى الدنيا وفى يوم الدين. فهذه ينعم بها عباد الله وعليهم أن يجتهدوا فيما يحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة من طلب العلم النافع الذى جاء فى وحى الله، وأن يجد نفسه مع الصالحين، وأن تكون آثاره فى الناس طيبة ليجد الذكر الحسن، وأن يكون من أهل الجنة، وأن يدرك واجبه نحو والديه فى طلب المغفرة والرحمة لهما، وكان دعاء إبراهيم بالمغفرة لأبيه عن موعدة وعدها إياه. ومن الأمور التى يحرص عليها كذلك ويدركها الناس من دعاء إبراهيم عليه السّلام أن يجنّب الله الإنسان الخزى يوم يبعثون وذلك بتجنيب أسباب الخزى وأن هذا اليوم لا

ينفع فيه إلا الذين تعهدوا قلوبهم بالصقل والتنقية بالإيمان الصحيح والاستغفار وذكر الله سبحانه والأعمال الصالحة وتطهيره من الأمراض التى تصيبه، قال جل شأنه فيما ذكره إبراهيم فى مواجهة قومه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89). وبعد هذا التعريف بالنعم والحضّ على ما يغتنم يأتى التنبيه بما سيكون من تقريب الجنة للمتقين، وإظهار الجحيم للغاوين الكافرين الذين يندمون ويتلاومون على اتخاذهم الأنداد من دون الله حيث يدركون فى وقت لا ينفعهم فيه الإدراك أنهم كانوا فى ضلال، وأنه لا شفيع ولا صديق ويتمنى هؤلاء العودة مرة أخرى ليكونوا من المؤمنين ولكن لا ينفعهم التمنى فتزداد الحسرة. قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104). ومع التنبيه والتذكير بما سيكون من مصير المتقين ومصير الغاوين الكافرين. تتناول الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك ما كان من قوم نوح من التكذيب وعدم الاستجابة والنظرة المتكبرة إلى المؤمنين، والاشمئزاز منهم والتهديد والوعيد بالرجم لمن يدعوهم إلى الهدى والتقوى، قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116). ولما وصل الأمر إلى هذه النتيجة المؤسفة دعا نوح ربّه أن يحكم بينه وبينهم، وأن ينجيه ومن معه ونجّاه الله ومن معه فى الفلك، وأغرق الكافرين. قال تعالى: قالَ

رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122). ثم تقدم الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من تكذيب عاد، وكيف دعاهم أخوهم هود إلى تقوى الله والطاعة وأنه لا يريد مقابل ذلك أجرا منهم ونبّههم إلى ما هم عليه من بطش وتجبّر، وعرّفهم بنعم الله عليهم وحذرهم من عذابه، ولكنهم مع كل هذا كذّبوا فأهلكهم الله، قال تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140). وهذا التعقيب الكريم الذى يذكر من صفات الله سبحانه العزة والرحمة تنبيه للمخاطبين بأنه سبحانه لا يغلب وأنه رحيم بعباده يقص عليهم هذه الأنباء، ليفيدوا منها وليدركوا أنفسهم قبل أن يقع العذاب بهم مثلما وقع بغيرهم. ثم تذكر الآيات الكريمة- بعد ذلك- ما كان من ثمود من تكذيب، وقد دعاهم أخوهم صالح إلى تقوى الله والطاعة وأنه لا يريد منهم أجرا على نصحه ودعوته، فجزاؤه على ربّ العالمين سبحانه، وأنهم لن يتركوا فى نعيم مع الكفر فإن الكفر عاقبته وخيمة وحذرهم من طاعة المسرفين المفسدين فى الأرض فرموه بالسحر، وطلبوا منه آية تدل على صدقه وأيده الله بالآية فكانت الناقة، ولكنهم عقروها فاستحقوا العذاب ووقعوا فى الندامة. قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ

ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159). وبعد ذلك تتناول الآيات الكريمة المنزلة ما كان من قوم لوط من تكذيب ودعاهم أخوهم لوط إلى تقوى الله والطاعة، وأنه لا يريد منهم أجرا فأجره على رب العالمين وحذّرهم من سوء الخلق وإتيان الذكران من العالمين، ودعاهم إلى الطّهر والعفة فتوعدوه بالإخراج، وتبرأ من عملهم وعبّر عن كرهه له ودعا ربّه لينجّيه وأهله مما يعملون فاستجاب الله له وتحققت النجاة له ولأهله إلا عجوزا بقيت فى العذاب وأهلك الآخرون بالخسف والحصب «1». قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175). وتتناول الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من أصحاب الأيكة (والأيك: الشجر الكثير الملتف، والواحدة أيكة، وكانت فى البادية). وقد أرسل إليهم شعيب عليه السّلام ودعاهم إلى تقوى الله وأنه لا يريد منهم أجرا فأجره على رب العالمين، ودعاهم إلى الإصلاح الاقتصادى المتمثل فى سلامة الميزان والكيل وعدم البخس والتحذير من الفساد فى الأرض بصوره، فرموه بالسحر وكذبوه وطلبوا العذاب، فأخذهم عذاب يوم الظلة. قال ابن عباس: أصابهم حرّ شديد، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا، وقيل: أقامها الله فوق رءوسهم وألهبها حرّا حتى ماتوا من الرّمد، وكان من أعظم يوم فى الدنيا عذابا «1»، قال تعالى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

_ (1) القرطبى 13/ 132.

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191). إن تقديم هذه الصور للأمم السابقة مع رسلهم وبيان حالة كل أمة، وكيف كانت عاقبتها تعليم وتوجيه وتربية لهذه الأمة الخاتمة، ففرعون صورة للطغيان والاستبداد والفساد فى الأرض وقوم فرعون يمثلون الضلال واتخاذ الأنداد ووجهوا بالحجة، وقوم نوح يمثلون نظرة السخرية والتنكير على المؤمنين، وعاد يمثلون العلوّ والكبر والتعلق بالدنيا، وكذلك ثمود بإسرافهم وفسادهم وقوم لوط بفاحشتهم وشذوذهم، وأصحاب الأيكة بفسادهم الاقتصادى. فهذا الفساد المتعدد يتكرر على مرّ الأيام والناس فى حاجة إلى معرفة النتائج لهذه الأعمال الفاسدة، وقد نبأنا الله من أخبار هؤلاء فى كتابه الكريم، فمع إمكانية الانتفاع بهذه المواقف بالتدبر والتأمل، واستخلاص العبر تأتى الأوامر المباشرة ليحمل الناس على صلاحهم حملا. تتناول الآيات الكريمة بعد هذا الحديث عن القرآن الكريم وبيان مسيرته الآمنة حيث نزل به الروح الأمين لينزل على أطهر مكان وأحكمه على قلب النبى صلّى الله عليه وسلم. وليس للشياطين عليه من سبيل فلا يستطيعون سرقة شىء منه. وهو فى وضوح تام؛ لأنه بلسان عربى مبين، وقد تضمّن كل أسباب الهداية، فهو يهدى للتى هى أقوم فى كل شىء ففيه الدعوة إلى التوحيد والعبودية الخالصة لله وحده، وفيه خفض الجناح للمؤمنين، وفيه التحذير من المعصية والمخالفة، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196). وأما الآية التى قال مقاتل إنها مدنية فهى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197). فإن مجاهدا يقول: يعنى عبد الله بن سلام وسلمان وغيرهما ممّن أسلم، وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد- عليه الصلاة والسلام- فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد فى التوراة نعته وصفته. يقول القرطبى: فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذا القول، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون فى أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب؛ لأنهم مظنون بهم علم «1». وتحذّر الآيات الكريمة من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من التكذيب بالحق

_ (1) القرطبى 13/ 138، 139.

واستعجال العذاب، فإن قلوب المجرمين لا تذعن إلا إذا تطهرت، وفى حالة إجرامها فلن تؤمن بالقرآن الكريم وإعجازه ولو أنزله الله على أعجمى، ولن يؤمنوا به حتى ينزل عليهم العذاب. ولو كان تكذيبهم لانغماسهم فى الشهوات فهل المتعة بالشهوات تغنى إذا وقع العذاب؟. قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)، قال مقاتل: قال المشركون للنبى صلّى الله عليه وسلم: يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتى به؟ فنزلت: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)، ثم ينزل هذا التساؤل الذى يجعل متع الدنيا لا قيمة لها مع وقوع العذاب فيقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207). وتبين الآيات بعد ذلك سنة الله مع خلقه فى أنه سبحانه ما أهلك قرية من القرى إلا بعد الإنذار إليهم والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليذّكر هؤلاء قال تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209). وتنبّه الآيات الكريمة بعد ذلك إلى أمور جديرة بالعناية حتى يتخلص الناس من الأوهام والظنون التى شغلوا أنفسهم بها نحو وحى الله سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلم، فبعد الاطمئنان السابق على تنزيل القرآن الكريم من رب العالمين على قلب رسوله صلّى الله عليه وسلم عن طريق الروح الأمين عليه السّلام يأتى النفى والرد لما زعمه الكفرة فى القرآن الكريم أنّه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة. فهذا الزعم مردود لأن الله حفظ كتابه، قال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212). ولو أن هؤلاء آمنوا وفتحوا قلوبهم للتوحيد لتطهّرت قلوبهم من هذه الأوهام ولذلك يأتى الخطاب إلى النبى صلّى الله عليه وسلم بالتوحيد مع كونه منزّها عنه معصوما منه لحثّ العباد على التوحيد ونهيهم عن شوائب الشرك وكأنه قال: أنت أكرم الخلق علىّ وأعزّهم عندى، ولو اتخذت معى إلها لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد «1». قال تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وإذا كان هذا تنبيها إلى إقامة الناس على التوحيد، فإن الأمر الذى يلى هذا أن ينذر الرسول صلّى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين، وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلم سينذر عشيرته الأقربين فليس معنى ذلك أن دعوته لهم وحدهم كما تصوّر بعض الناس، بل إن ذلك من التدرج الصحيح فى الدعوة والتى تبدأ بالداعى ثم الذى يليه فقد ذكر قبلها مباشرة: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ

_ (1) فتح القدير 4/ 119.

الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214). وإذا كان رسول الله يبعث بلسان قومه فرسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم بعث كذلك بلسان قومه، وأنزل عليه القرآن الكريم بلسان عربى مبين ليفهم عنه من ستبدأ الدعوة بهم، ثم يقوم هؤلاء بمهمتهم فى دعوة غيرهم، وهكذا تتسع الدائرة من العشيرة الأقربين إلى أمّ القرى ثم من حولها لتشمل العالمين. روى مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعمّ وخصّ فقال: «يا بنى كعب ابن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذى نفسك من النار فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها». أى أصلكم فى الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا «1». ولو فهم الناس أن هذه الدعوة خاصة بعشيرته فحسب لاستجاب له الأقربون بدافع العصبية ولكنّ الأقربين أنفسهم أدركوا أن الدعوة لهم ولغيرهم أى ليست من قبيل الدعوات العنصرية وإنما تنظر إلى الناس جميعا نظرة المساواة وتعمّ بخيرها العالمين. ولذلك رأينا من الأقربين المستجيب والمعرض، قال تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220). ولإزالة الوهم ودفعه تنبه الآيات الكريمة بعد ذلك إلى تنزّه القرآن الكريم عن المشابهة لكلام البشر فيما عرفه الناس من كلام الكهان وشعر الشعراء، وصلة الشياطين بهذين النوعين من الناس، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس بكاهن وليس بشاعر، وما أنزل إليه ليس من قبيل سجع الكهان وشعر الشعراء، قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227). ولما كان الشعر يمثل جانبا كبيرا وخطيرا من أساليب العرب فى القول وجدنا هذا التفصيل المذكور فى الآيات الكريمة بعد نفى المشابهة بين القرآن الكريم والشعر من جهة وبين الرسول صلّى الله عليه وسلم والشعراء والكهان من جهة أخرى. وهذا يرجع إلى مكانة الشعر فى

_ (1) القرطبى 13/ 143.

حياة الناس عند نزول الوحى، وكيف عنى العرب بفنّ القول، وأجادوا فيه وأنزل الله كلامه الذى أعجزهم بيانه فلم يستطيعوا الإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله، ولو تظاهر فى ذلك الإنس والجن. فأسلوب المخلوق يستحيل أن يرقى إلى كلام الخالق سبحانه. ولكنّ عدم المشابهة بين القرآن الكريم والشعر وغيره من الكلام الفصيح والبليغ لا يفهم منها محاربة القرآن الكريم للشعر والشعراء بصورة عامة بل إن إعجاز القرآن الكريم فى جانبه البيانى يكون أكثر وضوحا عند ما يعتاد الناس جيد القول نثرا وشعرا، وعند ما يفشو فيهم تذوق الكلمة، ولذلك فإن هذه السورة الكريمة التى سميت بسورة الشعراء تلفت الانتباه إلى حقيقة التفضيل فى أمر الشعر والشعراء. وأن الشعر وإن كان كلاما موزونا مقفى، فإنه لا ينبغى أن يخرج عن دائرة الضوابط الشرعية التى ترشد الكلمة، لتكون طيبة نافعة تؤتى ثمارها، فجيّد الشعر كجيد الكلام مقبول، وقبيح الشعر كقبيح الكلام مذموم ومرفوض، ويرتبط الكلام بقائله فى الحالتين شعرا ونثرا. ولقد وجد الناس هذا المعنى فى نظرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الشعر والشعراء ولا يفهم من هذا أن الإسلام ضيّق الأمر على الشعراء أو أثّر على شاعريتهم تأثيرا سلبيا كلا؛ بل إنه أطلق لهم الإبداع فى التعبير عن المعانى المستحسنة شرعا وطبعا وفى ظل ضوابطه كان إنتاج الكثير من الشعراء موافقا لتصور الإسلام للشعر والشعراء. روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى يوما فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبى الصّلت شىء؟، قلت: نعم. قال: «هيه» فأنشدته بيتا. فقال: «هيه» ثم أنشدته بيتا، فقال: «هيه» حتى أنشدته مائة بيت «1». يقول القرطبىّ: وفى هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعانى المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبى صلّى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه كان حكيما، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام: «وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم». ولذلك أطلق العلماء على الشعر الأحكام الفقهية من الحل والحرمة والندب والكراهة والإباحة. قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدرة إلا وقد قال

_ (1) القرطبى 13/ 145.

الشعر، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله؛ وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة- أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد: ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل» أخرجه مسلم وزاد: «وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم» وروى عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال: ويلك يا لكع، وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا فى القوافى، فحسنه حسن وقبيحه قبيح. وأما ما رواه مسلم رحمه الله عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يملئ شعرا» وفى الصحيح- أيضا- على أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خذوا الشيطان- أو أمسكوا الشيطان- لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» فإن للعلماء توجيها لهذا قالوا فيه: إنما فعل النبى صلّى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعلّ هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب فيفرط فى المدح إذا أعطى، وفى الهجو والذم إذا منع، فيؤذى الناس فى أموالهم وأعراضهم ولا خلاف فى أن من كان على مثل هذه الحالة، فكلّ ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه. وقيل كذلك: إن الذى غلب عليه الشعر وامتلأ صدره منه دون علم سواه، ولا شىء من الذكر ممن يخوض به فى الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية لحكم العادة الأدبية، وهذا المعنى هو الذى أشار إليه البخارى فى صحيحه لما بوّب على هذا الحديث: «باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر». وقد ذكرت الآيات الكريمة تعليلا لمذمة الشعراء الذين يتبعهم الغاوون فى أنهم فى كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق لأن من اتّبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما

يقوله تثبّت، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالى ما قال. والآيات الكريمة تستثنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، ولذلك لما نزلت: وَالشُّعَراءُ جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبى صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبى الله، أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء؟ فقال: «اقرءوا ما بعدها: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ... الآية- أنتم وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أنتم» أى بالرد على المشركين. قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات».

سورة «النمل»

سورة «النمل» وهى مكية كلّها فى قول جميع العلماء «1» نزلت بعد سورة الشعراء، وتبدأ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الكريم، كما بدأت من قبل سورة الشعراء؛ لأن معالجة هذا الأمر يمثل أساسا عظيما للإيمان وما يتبعه من استجابة لأوامر الله سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وسلم، فإذا تجلّت حقيقة الوحى وعرف الناس قدر نعمة القرآن الكريم، وأنه كتاب الله المبين، وأنه يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين ويثمر فيهم صلاحا مع الله سبحانه فى إقامة الصلاة يتبعه صلاح مع الناس فى إيتاء الزكاة مع اليقين فى اليوم الآخر، وما يكون فيه من حساب، إذا عرف الناس ذلك أدركوا سبب الفساد الذى يقع فيه من لا يؤمن، قال تعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5). فهذا القرآن الكريم أساس كل خير وهو كلام العليم الحكيم سبحانه، هذه الحقيقة تقدّم فى بداية سورة النمل وقبل أن تبسط أحوال الأمم السابقة مع رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6). وإذا كان موسى عليه السّلام قد مرّ بنا ذكره فى مواضع سابقة من القرآن الكريم فكما أشرنا فى أن هذا التكرار لذكر اسمه عليه السّلام مصحوب بمناسبة الجزئية التى تذكر من حياته ومواقفه مع السياق الذى وردت فيه. وهنا يذكر من هذا الجانب ما يتعلق بموضوع الوحى وما يقترن به من الخير وما يصحب الرسل من آيات تدل على صدقهم. فالقرآن الذى أنزله الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم فيه آيات إعجازه ومنها هذه القصص التى تساق لتدل على أن الذى أخبر بها رسوله على هذا النحو الدقيق إنما هو الحكيم العليم سبحانه. وهذا الوحى مصدر كل خير فموسى عليه السّلام يريد لأهله الخير والدفء فوجد الخير الأعم فى وحى الله سبحانه: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9).

_ (1) القرطبى 13/ 154.

ويؤيد الله نبيه بالمعجزة وتذكر الآيات القرآنية الكريمة ما يفيد أن هذه المعجزة التى يؤيد الله بها رسولا من رسله ليست من صنع الرسول، وإنما يجريها الله سبحانه على يديه تأييدا له ودليلا على صدقه، والدليل على ذلك أن موسى عليه السّلام لما أمر بإلقاء العصا ورآها تهتز كأنها جانّ ولّى مدبرا، وطمأنه الله فلو كانت من صنعه لما خاف. قال تعالى: وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11). وأمر الله سبحانه موسى عليه السّلام بإدخال يده في جيبه ليريه آية أخرى، ومع كثرة الآيات وقوتها ووضوحها تلقاها القوم الفاسقون بالجحود والكبر مع تيقنهم من أنها من عند الله سبحانه، قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14). ثم تخبرنا الآيات الكريمة بعد ذلك عن وحى الله ونعمته على داود وسليمان ومقابلة هذه النعم بالحمد، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18). وفى الوقت الذى تعرض فيه هذه الصورة للملك الكبير والذى كان عليه سليمان عليه السّلام ومع هذا الملك يكون الخضوع لأمر الله والثناء عليه وعدم الكبر وعدم البطش بالضعفاء ولذلك سرّ سليمان عليه السّلام من قول النملة: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) أى لن يفعلوا ذلك بعلم منهم لعدلهم ورحمتهم بالنمل وغيره: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19). وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك موقفا لسليمان عليه السّلام مع الطير وهو موقف تعليمىّ فى العلاقة بين القائد وجنده، وكيف يكون القائد عارفا بأحوال جنده، وكيف يعرف الجند النظام والطاعة فسليمان عليه السّلام يتفقد الطير فلم يجد الهدهد ومعنى ذلك أنه غاب بغير إذن وتكون العقوبة على قدر ما فعل، فقد تكون تعذيبا وقد تكون ذبحا، وقد يأتى بما يرفع عنه العقوبة من عمل عظيم أو عذر مقبول. قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما

لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21). ومع ذكر موقف القائد من جنده فى تفقدهم وتعويدهم النظام فيما يعملون وكيف فصّل سليمان عليه السّلام العقوبة المتوقعة لصنيع الهدهد. ولكنّ الهدهد جاء بعلم لم يحط به نبىّ الله سليمان عليه السّلام وهو فى صالح الدعوة وعلى ذلك يدفع الهدهد عن نفسه العقوبة التى فصّلت فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23). وهذه المرأة التى ملّكت وآتاها الله من كل شىء ومكّن لها. كان الموقف الذى يراه الهدهد ضروريا ومناسبا أن تعرف الله وحده وأن تخلص العبودية له ولكنّه وجدها على غير ذلك وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26). وهذا الإحساس من الهدهد التابع لمملكة سليمان عليه السّلام يدل على معرفة يقينية بما ينبغى من العباد نحو الإله الحق سبحانه، ومن المخلوق نحو الخالق جل جلاله وأن الهدهد يعرف من حياته كيف يسّر الله له ولأمثاله من الطيور إخراج الخفىّ من الأرض، وأنّ علم الغيب لله وحده ويطلع عليه من شاء من خلقه. والموقف التعليمى الآخر الذى يتمثل فى تلقى القائد للأخبار وأنّ عليه أن يتثبت من صحة الخبر الذى يلقى إليه، وأن يسلك السبيل إلى اليقين فى الأخبار ولذلك كان موقف سليمان عليه السّلام: قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28)، وإذا كان هذا الموقف يمثل الحال فى مملكة الإيمان والاستقامة على وحى الله فللقائد أن يتفقد وله أن يحاسب، وللجند أن يعبر عن موقفه وأن يدافع عن نفسه، وأن القائد والجند يغارون على دين الله، فإن الحال فى المملكة التى لا تعرف التوحيد على غير هذا يتبين ذلك فى موقف الملكة مع رعيتها: قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)، بعد أن قرأت الرسالة ووصفت الكتاب بأنه كريم وأنه من سليمان وفيه التصدير بالرحمة والدعوة إلى الله وعدم الكبر طلبت منهم الرأى: قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33). وهذا الموقف ليس مستقيما؛ لأنها طلبت رأيهم وماذا تصنع، ولم يعطوا لها رأيا

بل سلموا لها الرأى والتفكير، وأما هم فأصحاب قوة وبأس شديد. وكانت نظرتها إلى الأمر بما عرفت عن الملوك الذين لا يعرفون الله ولا يلتزمون وحيه وأنهم بهذه الصفة إذا دخلوا قرية أفسدوها. ولم تعرف نموذج الملك الصالح الذى يعرف الله سبحانه: قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35). ولم تفلح فى هذا الرأى فما أوتى سليمان عليه السّلام من فضل ربه أعظم من هديتهم وما دام الأمر لم يجد معه الخطاب الكريم فليكن الموقف الذى يتلاءم مع عدم الاستجابة للحق، قال تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37). وأراد سليمان عليه السلام أن يريها آية قدرة الله سبحانه وتأييده له: قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40). ولكى تفكر بالأمر ويرى مدى نضجها الفكرى ولتكون النتيجة بعد الفكر قوية الأثر قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43). ورأت كيف تكون آيات القدرة والجمال فى مملكة الإيمان: قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44). ثم تذكر الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من إرسال صالح عليه السّلام إلى ثمود وأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده وانقسم قومه إلى فريقين: مؤمن وكافر. ووجّه صالح النصح إليهم ودلّهم على الاستغفار ليكونوا أهلا لرحمة الله بهم ولكنهم تشاءموا من الداعى إلى الحق ومن الذين آمنوا معه. بل لم يكتفوا بذلك ومكر المفسدون منهم وتآمروا على قتل نبى الله صالح عليه السّلام وجعل الله كيدهم فى نحورهم ووقع عليهم العذاب ودمّر المفسدون ونجّى الله عباده المتقين، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)

وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53). ثم تتناول الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك ما كان من قوم لوط من ارتكاب الفاحشة واستنكار لوط عليه السّلام لفعلهم هذا ونهيه لهم، ولكنهم قابلوا هذا بالتآمر لإخراج لوط عليه السّلام من القرية لطهره ووقع عليهم العذاب ونجى الله لوطا وأهله إلا امرأته، قال تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58). وبعد هذا تذكر الآيات الكريمة ما يعين الناس على استخلاص العبر من قصص السابقين فى الثناء على الله سبحانه، والسلام على عباد الله المرسلين والدعوة إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك وتوجيه النظر إلى مظاهر قدرة الله لتدعيم إيمان المؤمنين. وهذه المظاهر فى الكون الذى خلقه الله فى النفس الإنسانية، وما تتعرض له من الحاجة، وأن الله وحده هو الذى يعلم الغيب، قال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65). ومع هذه الأدلة والبراهين الساطعة على قدرة الله سبحانه، والتى تجعل المؤمن على يقين من البعث. على الرغم من تكامل هذا العلم فى أمر الآخرة، فإن هؤلاء المكذبين فى شك منها واستبعدوا أن يعودوا مرة أخرى بعد أن صاروا ترابا هم وآباؤهم، وخطورة هذا التكذيب تكمن فى الفساد الذى يصحبه، لأن المكذب بالبعث ينطلق فى حياته ظلما وعلوا، لا يحجزهم خوف حساب ولا يمنعهم من الظلم خشية عقاب، قال

تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72). وإذا لم يقع بهم ما استعجلوه فليعلموا أن هذا من فضل الله على عباده أن يمهلهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، وهو سبحانه أعلم بما فى صدورهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75). تحدثنا الآيات الكريمة بعد ذلك عن نعمة القرآن الكريم وأنه كلام الله سبحانه، وأنّه من آيات إعجازه أن يقصّ على أهل الكتاب ما اختلفوا فيه من المسائل الكثيرة التى تعمّدوا إخفاءها بعد تحريفها: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78). وإذا كان التكذيب والإعراض يحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لحرصه على هداية الناس، فإنّ الآيات الكريمة تخاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ذلك: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81). وإذا وصل الناس إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح عليه السّلام من أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فقد وقع القول عليهم وعلامة ذلك خروج الدابة التى تكلّمهم، وإذا حشر المكذبون من كلّ أمة وسئلوا عن المبرّر لهذا التكذيب، فلن يستطيعوا الجواب وسيدركون أنهم ظلموا أنفسهم بالتكذيب بما لم يحيطوا به علما، وأنهم حرموا من الانتفاع بآيات الله التى تحيط بهم فى ليلهم ونهارهم، قال تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86). وتحدثنا الآيات الكريمة بعد ذلك عن مشاهد يوم القيامة وما يكون من حال الناس معها فمنهم: من جاء بالحسنة ومنهم: من جاء بالسيئة، قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي

الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90). وتبين الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك ما أمر الناس به فى صورة الأمر والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم من عبادة الله وحده الذى منّ على الناس بجعل مكة المكرمة بلدا حراما وله كلّ شىء كما أمر الناس جميعا باتباع الإسلام دينا، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن الكريم على الناس، والذى يهتدى منهم فلنفسه، والذى يضل فعليها ورسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أنذر وحذر من هذا الضلال، ومن فضل الله على عباده دوام توجيههم إلى النظر فى آياته، لينتفعوا بها وهو العليم بما يعمله الناس أجمعون. قال تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93).

§1/1