تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف

ابن الضياء

مقدمه المؤلف

مُقَدّمَة الْمُؤلف بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه ثقتي وَصلى الله على سيد الْمُرْسلين مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ. وَبعد: فَهَذَا جُزْء مُشْتَمل على مَا يتَعَلَّق بأحوال مَكَّة المشرفة وَالْمَسْجِد الْحَرَام، وَالْمَدينَة الشَّرِيفَة والقبر الشريف، وَغير ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق بِالْمَقْصُودِ. جمعه الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى، الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة، حجَّة الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين، مفتي الْأَنَام بِبَلَد الله الْأمين، مرجع الطلاب والمدرسين، قَاضِي الْقُضَاة، شيخ الْإِسْلَام، أَبُو الْبَقَاء مُحَمَّد بهاء الدّين بن الضياء الْمَكِّيّ الْحَنَفِيّ الْقرشِي الْعمريّ الْعَدوي، جمعا مُرَتبا على بَابَيْنِ لم يسْبق إِلَيْهِ وَلَا سبر غَيره عَلَيْهِ؛ رَجَاء للثَّواب من الْملك الْوَهَّاب، وَالله الْمُنعم وَإِلَيْهِ المآب.

الباب الاول تاريخ مكه المشرفه وما يتعلق بالكعبه الشريفه والمسجد الحرام وغير ذلك علي سبيل الاختصار

الْبَاب الأول تَارِيخ مَكَّة المشرفة وَمَا يتَعَلَّق بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَغير ذَلِك على سَبِيل الِاخْتِصَار.

فصل ذكر ما كانت الكعبه عليه فوق الماء قبل خلق السموات والارض

فصل: ذكر مَا كَانَت الْكَعْبَة عَلَيْهِ فَوق المَاء قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض اعْلَم أَن الله تَعَالَى خلق الْعَالم فِي سِتَّة أَيَّام، ابْتِدَاؤُهَا يَوْم الْأَحَد والاثنين؛ لقَوْله تَعَالَى: " أئنكم لتكفرون بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ ". وَخلق الْجبَال يَوْم الثُّلَاثَاء، وَالْمَاء وَالشَّجر يَوْم الْأَرْبَعَاء، وَالسَّمَاء يَوْم الْخَمِيس، وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْمَلَائِكَة وآدَم يَوْم الْجُمُعَة، وَلذَلِك سمي يَوْم الْجُمُعَة؛ لِأَنَّهُ جمع فِيهِ خلق كل شَيْء قَالَه الشّعبِيّ حَكَاهُ الشهرستاني فِي " أَعْلَام النُّبُوَّة " لَهُ، وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الله الْكسَائي فِي " بَدْء الدُّنْيَا " لَهُ: أول مَا خلق الله تَعَالَى اللَّوْح ثمَّ الْقَلَم ثمَّ المَاء. قَالَ: وكل شَيْء لَا يفتر عَن تسبيحه فِي وَقت عَن وَقت إِلَّا المَاء، وتسبيحه: اضطرابه. وَقيل: إِنَّه بَدَأَ بِخلق السَّمَوَات قبل الأَرْض يَوْم الْأَحَد والاثنين؛ لقَوْله تَعَالَى: " فقضاهن سبع سماوات فِي يَوْمَيْنِ " وَقيل: خلق السَّمَاء دخاناً قبل الأَرْض، وفتقها سبعا بعد الأَرْض؛ لقَوْله تَعَالَى: " ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِي دُخان فَقَالَ لَهَا وللأرض ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين ". قيل: إِن ظُهُور الطَّاعَة مِنْهُمَا قَامَ مقَام قَوْلهمَا. وَقيل: إِنَّه تَعَالَى خلق فيهمَا كلَاما نطق بذلك، فَنَطَقَ من الأَرْض مَوضِع الْكَعْبَة، ونطق من السَّمَاء مَا بحيالها، فَوضع الله تَعَالَى فِيهَا حرمه، قَالَه أَبُو نصر السكْسكِي. وَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى اتِّصَال حُرْمَة الْبَيْت الْمَعْمُور علوياً بِحرْمَة الْبَيْت الْحَرَام سفلياً، وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ. وَقيل: خلق الله الْأَشْيَاء من يَوْم الْأَحَد إِلَى

يَوْم الْخَمِيس، وَخلق فِي يَوْم الْخَمِيس ثَلَاثَة أَشْيَاء: السَّمَاوَات وَالْمَلَائِكَة وَالْجنَّة، إِلَى ثَلَاث سَاعَات بقيت من يَوْم الْجُمُعَة، فخلق فِي السَّاعَة الأولى الْأَوْقَات، وَفِي الثَّانِيَة الأرزاق، وَفِي الثَّالِثَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ الثَّعْلَبِيّ فِي كِتَابيه " العرائس "، و " التَّفْسِير " حِين ذكر بَدْء الأَرْض: إِن الله تَعَالَى خلق جَوْهَرَة خضراء، ثمَّ نظر إِلَيْهَا بالهيبة فَصَارَت مَاء، فخلق الأَرْض من زبده، وَالسَّمَاء من بخاره، فَأول مَا ظهر على وَجه الأَرْض مَكَّة. زَاد غَيره ثمَّ الْمَدِينَة، ثمَّ بَيت الْمُقَدّس، ثمَّ دحى الأَرْض مِنْهَا طبقًا وَاحِدًا، ثمَّ فتقها بعد ذَلِك وَكَذَلِكَ السَّمَاء؛ لقَوْله تَعَالَى: " أَو لم ير الَّذين كفرُوا أَن السَّمَاوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقاً ففتقناهما ". ثمَّ حمل الأَرْض على عاتق ملك، وَالْملك وَاقِف على ياقوتة خضراء، والياقوتة على سَنَام الثور، واسْمه يونان حَكَاهُ الْكسَائي، والثور على صَخْرَة خضراء، وَهِي الْمَذْكُورَة فِي سُورَة لُقْمَان والصخرة على النُّون، وَهُوَ الْحُوت، واسْمه لوثيا، وَقيل: بهموت، وَقيل: بنموت، والحوت على الْبَحْر، وَالْبَحْر على الرّيح، وَالرِّيح على الْقُدْرَة، وَهَذَا الْحُوت الَّذِي يَأْكُل أهل الْجنَّة كبده، وَهُوَ الْمَذْكُور فِي سُورَة ن والقلم، وَقيل المُرَاد بِهِ: الدواة. فَهَذَا بَدْء الدُّنْيَا. وَأول من سكن الأَرْض بعد الْجِنّ آدم وَذريته إِلَى زمن نوح عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ قسم نوح الأَرْض بَين أَوْلَاده: سَام وَحَام وَيَافث: إِن الأَرْض أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف فَرسَخ، اثْنَا عشر ألفا للسودان، وَثَمَانِية آلَاف للروم، وَثَلَاثَة آلَاف لفارس، وَألف للْعَرَب، وَقيل: الدُّنْيَا دِرْهَم خَمْسَة أسداسه للروم، وَحَام

أَبُو السودَان، وَيَافث أَبُو الرّوم وَالتّرْك ويأجوج، وسام أَبُو الْعَرَب. وَقيل: سَام أَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالروم، وَفَارِس وَالروم تنْسب إِلَى جدهم روم بن عيص. وَقيل: بَنو الْأَصْفَر مُلُوك الرّوم، والأصفر اسْم نتالوس بن روم أول مُلُوك الرّوم. وَقَالَ وهب بن مُنَبّه فِي كِتَابه " التيجان ": إِن إِسْحَاق ولد لَهُ يَعْقُوب وعيص، فيعقوب هُوَ إِسْرَائِيل أَبُو الأسباط، وَهُوَ بالعربي صفوة الله، وعيص هُوَ الْأَصْفَر، سمى بِهِ؛ لِأَن النيروز كَانَ عِنْدهم عيداً فحلته جدته سارة بِالذَّهَب فِي ذَلِك الْيَوْم، وَدخلت بِهِ على إخْوَته، فَقيل لَهُ: الْأَصْفَر؛ لصفرة الذَّهَب. وَقيل: إِنَّه كَانَ أسمر إِلَى الصُّفْرَة، وَهُوَ مَوْجُود فِي ذُريَّته إِلَى الْيَوْم. وَأما الْعَرَب فَمن ولد إِسْمَاعِيل؛ لِأَن ولد إِسْمَاعِيل نشأوا من عربه، وعربه من تهَامَة فنسبوا إِلَيْهَا وَقَالَ قَتَادَة: الأَرْض عشرُون ألف فَرسَخ؛ اثْنَا عشر ألفا للسند والهند، وَثَمَانِية آلَاف ليأجوج وَمَأْجُوج، وَثَلَاثَة آلَاف للروم والعجم، وَألف للْعَرَب. ومعمور الأَرْض هُوَ جُزْء من اسْتِوَاء الشَّمْس على وسط كرة الأَرْض إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط بِالْأَرْضِ، وَهُوَ المسكون الَّذِي قسمه نوح عَلَيْهِ السَّلَام بَين أَوْلَاده، فقسم سَام وسط الأَرْض مِنْهُ بَيت الْمُقَدّس والنيل والفرات ودجلة وسيحون وجيحون، وَذَلِكَ مَا بَين قاسيون إِلَى شَرْقي النّيل، وَمَا بَين منخر الرّيح الجنوبي إِلَى منخر الرّيح الشمالي، ولحام قسمه الرّيح النّيل إِلَى وَمَا وَرَاءه إِلَى منخر الرّيح الدبور، وليافث من قاسيون وَمَا وَرَاءه إِلَى منخر الصِّبَا. وَقيل: إِن الْعَجم من وَرَاء الْبَحْر مسيرَة اثْنَتَيْ عشرَة سنة، وبلاد الرّوم مسيرَة خمس سِنِين، وبلاد منسك عَن يَمِين الدُّنْيَا مسيرَة خَمْسَة عشر سنة، وبلاد يَأْجُوج مسيرَة مائَة سنة، وَقيل: الأَرْض سِتَّة أَجزَاء خَمْسَة مِنْهَا ليأجوج وَمَأْجُوج وجزء لِلْخلقِ حَكَاهُ

الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ المنجمون: الأَرْض أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ قيراطاً العامر مِنْهَا أَرْبَعَة قراريط وَكسر. وَقيل: مَا العامر فِي الخراب إِلَّا كفسطاط فِي فلاة من الأَرْض حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي درياق الْقُلُوب وَقَالَ فِي كِتَابه المدهش: الإقليم الأول: إقليم الْهِنْد، وَالثَّانِي: إقليم الْحجاز، وَالثَّالِث: إقليم مصر، وَالرَّابِع: إقليم بابل، وَالْخَامِس: إقليم الشَّام، وَالسَّادِس: إقليم بِلَاد التّرْك، وَالسَّابِع: إقليم بِلَاد الصين، كل إقليم مائَة فَرسَخ، وأوسطها إقليم بابل وَفِيه الْعرَاق الَّتِي هِيَ سرة الدُّنْيَا. والحجاز هُوَ مَكَّة وَالْمَدينَة واليمن وتحاليفها وقراها، وَسمي حجازاً؛ لِأَنَّهُ حجز بَين السُّرَّة ونجد. وَقيل: لِأَنَّهُ حجز بَين الشَّام والبادية وَقيل: لِأَنَّهُ حجز بَين نجد والعور. رَجعْنَا إِلَى مَا نَحن فِيهِ عَن كَعْب الْأَحْبَار قَالَ: كَانَت الْكَعْبَة غثاء على المَاء قبل أَن يخلق الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِأَرْبَعِينَ سنة، وَمِنْهَا دحيت الأَرْض. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما كَانَ الْعَرْش على المَاء قبل أَن يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض، بعث الله ريحًا هفافة فصفقت المَاء فأبرزت عَن خشفة. فِي مَوضِع الْبَيْت كَأَنَّهَا قبَّة، فدحى الله الأَرْض من تحتهَا فمادت ثمَّ مادت فأوتدها بالجبال، وَكَانَ أول جبل وضع فِيهَا أَبُو قبيس فَلذَلِك سميت مَكَّة أم الْقرى. وَفِي رِوَايَة: خلق الله مَوضِع الْبَيْت قبل أَن يخلق الأَرْض بألفي سنة، وَإِن قَوَاعِده لفي الأَرْض السَّابِعَة السُّفْلى. وَأجْمع الْعلمَاء على أَن الْكَعْبَة أول بَيت وضع للعباد، وَاخْتلفُوا هَل هُوَ

فصل ذكر بناء الملائكه الكعبه قبل آدم ومبتدا الطواف

أول بَيت وضع لغَيْرهَا أم لَا؟ فَقيل: كَانَت قبله بيُوت. وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَنه أول بَيت وضع مُطلقًا. وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الْبَيْت الْمَعْمُور الَّذِي فِي السَّمَاء يُقَال لَهُ: الضراح، وَهُوَ على الْبَيْت الْحَرَام لَو سقط سقط عَلَيْهِ يعمره كل يَوْم سَبْعُونَ ألف ملك لم يروه قطّ، وَإِن فِي السَّمَاء السَّابِعَة حرما على قدر حرمه ". رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق وَفِي رِوَايَة " يدْخلهُ كل يَوْم سَبْعُونَ ألف دحْيَة مَعَ كل دحْيَة سَبْعُونَ ألف ملك ". والدحية: رَئِيس الْجند، والضراح بالضاد الْمُعْجَمَة وَهُوَ الْمَشْهُور، وَقيل بِالْمُهْمَلَةِ مَضْمُومَة بعْدهَا رَاء ثمَّ ألف حاء ثمَّ حاء مُهْملَة، وَقَالَ مُجَاهِد: الْبَيْت الْمَعْمُور يَعْنِي بالضاد هُوَ الضريح بِالْمُعْجَمَةِ، والضريح فِي اللُّغَة الْبعيد. وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " هَذَا الْبَيْت خَامِس خَمْسَة عشر بَيْتا، سَبْعَة مِنْهَا فِي السَّمَاء إِلَى الْعَرْش، وَسَبْعَة مِنْهَا إِلَى تخوم الأَرْض، وأعلاها الَّذِي يَلِي الْعَرْش الْبَيْت الْمَعْمُور، لكل بَيت مِنْهَا حرم كحرم هَذَا الْبَيْت، لَو سقط مِنْهَا بَيت لسقط بَعْضهَا إِلَى تخوم الأَرْض السُّفْلى، وَلكُل بَيت من أهل السَّمَاء وَمن أهل الأَرْض من يعمره، كَمَا يعمر هَذَا الْبَيْت ". فصل: ذكر بِنَاء الْمَلَائِكَة الْكَعْبَة قبل آدم ومبتدأ الطّواف عَن عَليّ بن الْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا وَقد سُئِلَ عَن بَدْء الطّواف

فصل ذكر هبوط آدم عليه السلام الي الارض وبنائه الكعبه وحجه وطوافه بالبيت

بِالْبَيْتِ: إِن الله تَعَالَى قَالَ: " إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة ". قَالَت الْمَلَائِكَة: أَي رب أخليفة من غَيرنَا مِمَّن يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء، فَغَضب عَلَيْهِم فلاذوا بالعرش وَرفعُوا رؤوسهم وأشاروا بالأصابع يَتَضَرَّعُونَ ويبكون إشفاقاً لغضبه، فطافوا بالعرش ثَلَاث سَاعَات. وَفِي رِوَايَة: سَبْعَة أطواف يسترضون رَبهم فَرضِي عَنْهُم، وَقَالَ لَهُم: ابْنُوا لي فِي الأَرْض بَيْتا يعوذ بِهِ كل من سخطت عَلَيْهِ من خلقي فيطوف حوله كَمَا فَعلْتُمْ بعرشي فَأغْفِر لَهُ كَمَا غفرت لكم فبنوا الْبَيْت ". ويروى: أَن الله تَعَالَى بعث مَلَائِكَة، فَقَالَ: ابْنُوا لي بَيْتا على مِثَال الْبَيْت الْمَعْمُور وَقدره فَفَعَلُوا، وَأمر الله أَن يُطَاف بِهِ كَمَا يُطَاف بِالْبَيْتِ الْمَعْمُور. وَإِن هَذَا كَانَ قبل خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام، وَقبل خلق الأَرْض بألفي عَام، وَإِن الأَرْض دحيت من تَحْتَهُ، وَلذَلِك سميت مَكَّة أم الْقرى أَي أصل الْقرى. ويروى: أَنه كَانَ قبل هبوط آدم ياقوتة من يَوَاقِيت الْجنَّة، وَكَانَ لَهُ بَابَانِ من زمرد أَخْضَر شَرْقي وَغَرْبِيٌّ وَفِيه قناديل من قناديل الْجنَّة. فصل: ذكر هبوط آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الأَرْض وبنائه الْكَعْبَة وحجه وطوافه بِالْبَيْتِ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لما أهبط آدم إِلَى الأَرْض كَانَ رَأسه فِي السَّمَاء وَرجلَاهُ فِي الأَرْض وَهُوَ مثل الْفلك من رعدته. قَالَ: فطأطأ الله عز وَجل مِنْهُ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعا، فَقَالَ: يَا رب مَا لي لَا أسمع أصوات الْمَلَائِكَة وَلَا حسهم قَالَ: خطيئتك يَا آدم، وَلَكِن اذْهَبْ فَابْن لي بَيْتا فَطُفْ بِهِ، واذكرني حوله كنحو مَا رَأَيْت الْمَلَائِكَة تصنع حول عَرْشِي. قَالَ: فَأقبل آدم يتخطى فطويت لَهُ الأَرْض وَصَارَت كل مفازة يمر بهَا خطْوَة، وقيض لَهُ مَا كَانَ من مَخَاض أَو بَحر فَجعل لَهُ خطْوَة وَفِي رِوَايَة: أَن خطوه مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام وَلم تقع قدمه فِي شَيْء من الأَرْض إِلَّا صَار عمراناً وبركة حَتَّى انْتهى إِلَى مَكَّة فَبنى الْبَيْت الْحَرَام، وَأَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ضرب بجناحه الأَرْض فأبرز عَن أس ثَابت فِي الأَرْض السُّفْلى فَقَذَفْتُ فِيهِ الْمَلَائِكَة الصخر " مَا يُطيق " الصَّخْرَة مِنْهَا ثَلَاثُونَ رجلا، وبناه من

خَمْسَة أجبل من: لبنان وطور زيتاً وطور سيناء والجودي وحراء حَتَّى اسْتَوَى على وَجه الأَرْض. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَكَانَ أول من أسس الْبَيْت وَصلى فِيهِ وَطَاف بِهِ أَدَم عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى بعث الله الطوفان، وَكَانَ غَضبا ورجساً فَحَيْثُ مَا انْتهى الطوفان ذهب ريح آدم، وَلم يقرب الطوفان أَرض السَّنَد والهند. قَالَ: فدرس مَوضِع الْبَيْت فِي الطوفان حَتَّى بعث الله تَعَالَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل فرفعا قَوَاعِده وأعلامه، وبنته قُرَيْش بعد ذَلِك. ويروى أَنه لما هَبَط إِلَى الأَرْض بِأَرْض الْهِنْد وَاشْتَدَّ بكاؤه وحزنه وَتَابَ الله عَلَيْهِ أَمر بالسير إِلَى مَكَّة حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا، فَعَزاهُ الله بخيمة من خيام الْجنَّة ووضعها لَهُ مَوضِع الْكَعْبَة، وَتلك الْخَيْمَة ياقوتة حَمْرَاء من يَوَاقِيت الْجنَّة، فِيهَا ثَلَاث قناديل من ذهب من تبر الْجنَّة، فِيهَا نور يلتهب من نور الْجنَّة، وَنزل مَعَه الرُّكْن ياقوتة بَيْضَاء من ربض الْجنَّة وَكَانَ كرسياً لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام يجلس عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَار آدم بِمَكَّة حرسه الله وحرس لَهُ تِلْكَ الْخَيْمَة بِالْمَلَائِكَةِ، كَانُوا يحرسونها ويذودون عَنْهَا سَاكِني الأَرْض، وسكانها يَوْمئِذٍ الْجِنّ وَالشَّيَاطِين، وَلَا يَنْبَغِي لَهُم أَن ينْظرُوا إِلَى شَيْء من الْجنَّة؛ لِأَنَّهُ من نظر إِلَى شَيْء من الْجنَّة وَجَبت لَهُ، وَالْأَرْض يَوْمئِذٍ طَاهِرَة نقية لم تنجس وَلم تسفك فِيهَا الدِّمَاء وَلم يعْمل فِيهَا الْخَطَايَا، فَلذَلِك جعلهَا الله مسكن الْمَلَائِكَة وجعلهم فِيهَا كَمَا كَانُوا فِي السَّمَاء يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون، وَكَانَ وقوفهم فِي أَعْلَام الْحرم صفا وَاحِدًا مستديرين بِالْحرم كُله، الْحل من خَلفهم وَالْحرم كُله من أمامهم فَلَا يجوز بهم جني وَلَا شَيْطَان، فَمن أجل مقَام الْمَلَائِكَة حرم الْحرم حَتَّى الْيَوْم وَوضعت أَعْلَامه حَيْثُ كَانَ مقَام الْمَلَائِكَة، وَحرم الله على حَوَّاء دُخُول الْحرم وَالنَّظَر إِلَى خيمة آدم من أجل خطيئتها فَلم تنظر إِلَيْهَا حَتَّى قبضت، وَكَانَ آدم إِذا أَرَادَ أَن يلم بَقَاء للْوَلَد خرج من الْحرم كُله حَتَّى يلقاها، فَلم تزل خيمة آدم مَكَانهَا حَتَّى قَبضه الله ورفعها، وَبنى بَنو آدم من بعْدهَا مَكَانهَا بَيْتا بالطين وَالْحِجَارَة فَلم يزل معموراً يعمرونه وَمن بعدهمْ حَتَّى كَانَ زمن نوح فنسفه الْغَرق وخفى مَكَانَهُ، فَلَمَّا بعث الله إِبْرَاهِيم طلب الأساس فَلَمَّا وصل

إِلَيْهِ ظلل الله مَكَان الْبَيْت بغمامة فَكَانَت حفاف الْبَيْت الأول، وَلم تزل راكدة على حفافه تظل إِبْرَاهِيم وتهديه مَكَان الْبَيْت حَتَّى رفع الْقَوَاعِد قامة ثمَّ انكشفت الغمامة. ويروى أَنه لما أهبطه الله إِلَى الأَرْض أهبطه إِلَى مَوضِع الْبَيْت الْحَرَام واشتاق إِلَى الْجنَّة فَأنْزل الله عَلَيْهِ الْحجر الْأسود وَهُوَ ياقوتة من يَوَاقِيت الْجنَّة فَأَخذه آدم فضمه إِلَيْهِ استئناساً بِهِ، فَقيل لَهُ: تخطى يَا آدم فتخطا فَإِذا هُوَ بِأَرْض الْهِنْد فَمَكثَ مَا شَاءَ الله ثمَّ استوحش إِلَى الرُّكْن، فَقيل لَهُ: احجج فحج فَلَقِيته الْمَلَائِكَة فَقَالُوا: بر حجك يَا آدم فقد حجَجنَا هَذَا الْبَيْت قبلك بألفي عَام. وَذكر الْأَزْرَقِيّ أَن الْمَلَائِكَة لَقيته بالمأزمين وَفِي رِوَايَة بالردم، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي الطّواف ويروى: أَنه أَقَامَ بِمَكَّة يعبد الله عِنْد الْبَيْت فَلم تزل دَاره حَتَّى قَبضه الله بهَا ويروى: أَن الله تَعَالَى أنزل الْبَيْت الْحَرَام ياقوتة مجوفة مَعَ آدم فَقيل لَهُ: إِن هَذَا بَيْتِي أنزلته مَعَك يُطَاف حوله كَمَا يُطَاف حول عَرْشِي، وَنزلت مَعَه الْمَلَائِكَة فَرفعُوا قَوَاعِده من حِجَارَة فَوضع الْبَيْت عَلَيْهِ فَلَمَّا أغرق الله قوم نوح رَفعه إِلَى السَّمَاء وَبقيت قَوَاعِده. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ آدم أول من أسس الْبَيْت وَصلى فِيهِ. وَعنهُ قَالَ: حج آدم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا فَلَقِيته الْمَلَائِكَة فِي الطّواف، فَقَالُوا: بر حجك يَا آدم أما إِنَّا قد حجَجنَا قبلك هَذَا الْبَيْت بألفي عَام. قَالَ: فَمَا كُنْتُم تَقولُونَ فِي الطّواف؟ قَالُوا: كُنَّا نقُول: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر. قَالَ آدم: فزيدوا فِيهَا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. فزادت فِيهَا ذَلِك، ثمَّ حج إِبْرَاهِيم بعد بنائِهِ الْبَيْت فَلَقِيته الْمَلَائِكَة فِي الطّواف فَسَلمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُم إِبْرَاهِيم: مَاذَا كُنْتُم تَقولُونَ فِي طوافكم؟ قَالُوا: كُنَّا نقُول قبل أَبِيك آدم: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر. فَقَالَ آدم: زيدوا فِيهَا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه.

فَقَالَ إِبْرَاهِيم: زيدوا فِيهَا الْعلي الْعَظِيم فَفعلت الْمَلَائِكَة ذَلِك. وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: إِن آدم عَلَيْهِ السَّلَام لما أهبط إِلَى الأَرْض استوحش لما رأى من شعثها، وَلم ير فِيهَا أحدا غَيره، فَقَالَ: يَا رب أما لأرضك هَذِه عَامر يسبحك فِيهَا ويقدس لَك غَيْرِي. قَالَ: سأجعل فِيهَا من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي، وسأجعل فِيهَا بُيُوتًا ترفع لذكري ويسبحني فِيهَا خلقي، وسأبوئك فِيهَا بَيْتا أختاره لنَفْسي وأختصه بكرامتي وأوثره على بيُوت الأَرْض كلهَا، باسمي فأسميه بَيْتِي وأنطقه بعظمتي وأحوزه بحرماتي وأجعله أَحَق بيُوت الأَرْض كلهَا وأولاها بذكري، وأضعها فِي الْبقْعَة الَّتِي اخْتَرْت لنَفْسي فَإِنِّي اخْتَرْت مَكَانَهُ يَوْم خلقت السَّمَاوَات وَالْأَرْض، وَقبل ذَلِك قد كَانَ بغيتي، فَهُوَ صفوتي من الْبيُوت وَلست أسْكنهُ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي لي أَن أسكن الْبيُوت وَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَن تسعني، وَلَكِنِّي على كرْسِي الْكِبْرِيَاء والجبروت وَهُوَ الَّذِي يسْتَقلّ بعرشي وَعَلِيهِ وضعت عظمتي، ثمَّ هُوَ بعد ذَلِك ضَعِيف عني لَوْلَا قوتي، أجعَل ذَلِك الْبَيْت لَك وَلمن بعْدك حرما وَأمنا، أحرم بحرماته مَا فَوْقه وَمَا تَحْتَهُ، فَمن حرمه بحرماتي فقد عظم حرماتي، وَمن أحله فقد أَبَاحَ حرماتي، وَمن آمن أَهله فقد اسنوجب بذلك أماني وَمن أَخَافهُم فقد أخفرني فِي ذِمَّتِي وَمن عظم شَأْنه عظم فِي عَيْني، وَمن تهاون بِهِ صغر فِي عَيْني، وَلكُل ملك حِيَازَة مَا حواليه وبطن مَكَّة خيرتي وحيازتي وجيران بَيْتِي، وعمارها وفدي وأضيافي فِي كنفي ضامنون عليّ فِي ذِمَّتِي وجواري، فأجعله أول بَيت وضع للنَّاس وأعمره بِأَهْل السَّمَاء وَالْأَرْض، يأتونه أَفْوَاجًا شعثاً غبراً على كل ضامر يَأْتِين من كل فج عميق، يعجون بِالتَّكْبِيرِ عجيجاً، ويرجّون بِالتَّكْبِيرِ رجيجاً، وينتحبون بالبكاء نحيباً، فَمن اعتمره لَا يُرِيد غَيره فقد زارني ووفد إليّ وَنزل بِي، وَمن نزل بِي فحقيق على أَن أتحفه بكرامتي، وَحقّ على الْكَرِيم أَن يكرم وفده وأضيافه وَأَن يسعف كل وَاحِد مِنْهُم بحاجته، تعمره يَا آدم مَا كنت حيّاً ثمَّ تعمره من بعْدك الْأُمَم والقرون والأنبياء، أمة بعد أمة وَقرن بعد قرن وَنَبِي بعد نَبِي حَتَّى يَنْتَهِي ذَلِك إِلَى نَبِي من ولدك وَهُوَ خَاتم النَّبِيين فأجعله من عماره وسكانه وحماته

وولاته وسقاته يكون أميني عَلَيْهِ مَا كَانَ حَيا، وَأَجْعَل اسْم ذَلِك الْبَيْت وَذكره وشرفه لنَبِيّ من ولدك قبل هَذَا النَّبِي وَهُوَ وَأَبوهُ يُقَال لَهُ: إِبْرَاهِيم، أرفع لَهُ قَوَاعِده وأقضي على يَدَيْهِ عِمَارَته وأنيط لَهُ سقايته، وأريه حلّه وَحرمه وأعلمه مَنَاسِكه ومشاعره وأجعله أمة وَاحِدَة قَانِتًا إليّ، بأَمْري أجتبيه وأهديه إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم، أستجيب لَهُ فِي وَلَده وَذريته من بعده وأشفعه فيهم فأجعلهم أهل ذَلِك الْبَيْت وولاته وحماته، وسقاته وخدّامه وخزانه وحجابه، حَتَّى يبتدعوا ويغيروا، فَإِذا فعلوا ذَلِك فَأَنا أقدر القادرين على أَن أستبدل من أَشَاء بِمن أَشَاء، أجعَل إِبْرَاهِيم أهل ذَلِك الْبَيْت وَأهل تِلْكَ الشَّرِيعَة يأتم بِهِ من حضر تِلْكَ المواطن من جَمِيع الْإِنْس وَالْجِنّ يطأون فِيهَا آثاره ويتبعون فِيهَا سنته ويقتدون فِيهَا بهديه، فَمن فعل ذَلِك مِنْهُم أوفى نَذره واستكمل نُسكه، وَمن لم يفعل ضيع نُسكه وَأَخْطَأ بغيته، فَمن سَأَلَ عني يَوْمئِذٍ فِي تِلْكَ المواطن أَيْن أَنا؟ فَأَنا مَعَ الشعث الغبر الْمُوفينَ بنذورهم المستكملين مناسكهم المستهدين إِلَى رَبهم، وَلَيْسَ هَذَا الْأَمر الَّذِي قصصت عَلَيْك يَا آدم شَأْنه يزايدني فِي ملكي وَلَا عظمتي وسلطاني، إِلَّا كَمَا زَادَت قَطْرَة من رشاش وَقعت فِي سَبْعَة أبحر تمدها من بعْدهَا سَبْعَة أبحر لَا تحصى بل القطرة أَزِيد فِي الْبَحْر من هَذَا الْأَمر فِي شَيْء مِمَّا عِنْدِي من الْغنى وَالسعَة. الحَدِيث رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ. ويروى عَن عَطاء أَنه أهبط آدم عَلَيْهِ السَّلَام مَعَه بَيت وَكَانَ يطوف بِهِ والمؤمنون من وَلَده كَذَلِك إِلَى زمَان الْغَرق ثمَّ رَفعه الله فَصَارَ فِي السَّمَاء وَهُوَ الَّذِي يدعى الْبَيْت الْمَعْمُور ذكره الْحَلِيمِيّ فِي كتاب " منهاج الدّين " لَهُ، وَقَالَ: يجوز أَن يكون معنى مَا قَالَه قَتَادَة: من أَنه أهبط مَعَ آدم بَيت. أَي: أهبط مَعَه مِقْدَار الْبَيْت الْمَعْمُور طولا وعرضاً وسمطاً ثمَّ قيل لَهُ: ابْن بِقَدرِهِ وخياله فَكَانَ خياله مَوضِع الْكَعْبَة فبناها فِيهِ، وَأما الْخَيْمَة فقد يجوز أَن تكون أنزلت وَضربت فِي مَوضِع الْكَعْبَة فَلَمَّا أَمر ببنائها فبناها كَانَت حول الْكَعْبَة؛ طمأنينة لقلب آدم مَا عَاشَ ثمَّ رفعت. فتتفق هَذِه الْأَخْبَار. وَفِي رِوَايَة: لما فرغ آدم من بِنَاء الْبَيْت خرج بِهِ الْملك إِلَى عَرَفَات، فَأرَاهُ

فصل ما جاء في رفع البيت المعمور من الغرق وبناء ولد آدم البيت بعده وطواف سفينه نوح بالبيت واثر الكعبه بين نوح وابراهيم واختيار ابراهيم عليه السلام موضع البيت

الْمَنَاسِك كلهَا الَّتِي يَفْعَلهَا النَّاس الْيَوْم، ثمَّ قدم بِهِ مَكَّة وَطَاف بِالْبَيْتِ أسبوعاً، ثمَّ رَجَعَ إِلَى أَرض الْهِنْد. فصل مَا جَاءَ فِي رفع الْبَيْت الْمَعْمُور من الْغَرق وَبِنَاء ولد آدم الْبَيْت بعده وَطواف سفينة نوح بِالْبَيْتِ، وَأثر الْكَعْبَة بَين نوح وَإِبْرَاهِيم وَاخْتِيَار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مَوضِع الْبَيْت عَن مُجَاهِد قَالَ: بَلغنِي أَنه لما خلق الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض كَانَ أول شَيْء وَضعه فِيهَا الْبَيْت الْحَرَام، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ياقوتة حَمْرَاء لَهَا بَابَانِ شَرْقي وَغَرْبِيٌّ، فَجعله مُسْتَقْبل الْبَيْت الْمَعْمُور، فَلَمَّا كَانَ زمن الْغَرق رفع فِي ديباجتين وَهُوَ فيهمَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، واستودع الله الرُّكْن أَبَا قبيس. وَفِي رِوَايَة: بعث جِبْرِيل حَتَّى خبأه فِي أبي قبيس؛ وَفِي رِوَايَة: رفع إِلَى السَّمَاء؛ وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ ذَهَبا فَرفع زمَان الْغَرق، وَقَالَ ابْن جريج: كَانَ بِمَكَّة الْبَيْت الْمَعْمُور فَرفع زمَان الْغَرق فَهُوَ فِي السَّمَاء. ويروى: أَن آدم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: أَي رب إِنِّي أعرف شقوتي إِنِّي لَا أرى شَيْئا من نورك بعد؛ فَأنْزل الله الْبَيْت الْمَعْمُور على عرض الْبَيْت فِي مَوْضِعه من ياقوتة حَمْرَاء، وَلَكِن طوله كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَأمره أَن يطوف بِهِ؛ فَأذْهب الله عَنهُ الْغم الَّذِي كَانَ يجد، ثمَّ رفع على عهد نوح. وَعَن وهب بن مُنَبّه قَالَ: لما رفعت الْخَيْمَة الَّتِي وضعت بِمَكَّة فِي مَوضِع الْبَيْت وَمَات آدم، بنى بَنو آدم من بعده مَكَانهَا بنياناً بالطين وَالْحِجَارَة، فَلم يزل معموراً يعمرونه هم وَمن بعدهمْ حَتَّى كَانَ زمن نوح فنسفه الْغَرق، وَفِي رِوَايَة: أول من بنى الْبَيْت بالطين وَالْحِجَارَة شِيث عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ مَعَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام فِي السَّفِينَة ثَمَانُون رجلا مَعَهم أهلوهم، وَكَانُوا فِي السَّفِينَة مائَة وَخمسين يَوْمًا، وَأَن الله تَعَالَى وَجه السَّفِينَة إِلَى مَكَّة فدارت بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَجههَا إِلَى الجودي فاستقرت عَلَيْهِ فَبعث نوح

فصل ما جاء في اسكان ابراهيم ابنه اسماعيل وامه في بدء امره عند البيت

الْغُرَاب؛ ليَأْتِيه بِخَبَر الأَرْض فَذهب وَلم يرجع فَوَقع فِي الْجِيَف وَأَبْطَأ عَنهُ، فَبعث بالحمامة فَأَتَت بورق الزَّيْتُون ولطخت رجلهَا بالطين، فَعرف نوح أَن المَاء قد نضب فهبط إِلَى أَسْفَل الجودي فابتنى قَرْيَة، فَأَصْبحُوا ذَات يَوْم قد تبلبلت ألسنتهم على ثَمَانِينَ لُغَة، أَحدهَا الْعَرَبِيّ وَكَانَ لَا يفقه بَعضهم كَلَام بعض، وَكَانَ نوح عَلَيْهِ السَّلَام يعبر عَنْهُم. وَعَن مُجَاهِد: أَنه كَانَ مَوضِع الْبَيْت قد خَفِي ودرس من الْغَرق بَين نوح وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ: فَكَانَ مَوْضِعه أكمة حَمْرَاء مَدَرَة لَا يعلوها السُّيُول، وَكَانَ يَأْتِيهِ الْمَظْلُوم من أقطار الأَرْض وَيَدْعُو عِنْده المكروب فقلّ من دَعَا هُنَالك إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، وَكَانَ النَّاس يحجون إِلَى مَوضِع الْبَيْت حَتَّى بوأ الله مَكَانَهُ لإِبْرَاهِيم. وَعَن عُثْمَان بن سَاج قَالَ: بلغنَا أَن إِبْرَاهِيم عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء فَنظر إِلَى الأَرْض مشارقها وَمَغَارِبهَا فَاخْتَارَ مَوضِع الْكَعْبَة، فَقَالَت لَهُ الْمَلَائِكَة: يَا خَلِيل الله اخْتَرْت حرم الله فِي الأَرْض، فبناه من حِجَارَة وَسَبْعَة أجبل، وَقيل: خَمْسَة، وَكَانَت الْمَلَائِكَة تَأتي بِالْحِجَارَةِ إِلَى إِبْرَاهِيم من تِلْكَ الْجبَال. فصل مَا جَاءَ فِي إسكان إِبْرَاهِيم ابْنه إِسْمَاعِيل وَأمه فِي بَدْء أمره عِنْد الْبَيْت عَن مُجَاهِد: أَن الله تَعَالَى لما بوأ لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت خرج إِلَيْهِ من الشَّام وَخرج مَعَه بِابْنِهِ إِسْمَاعِيل وَأمه هَاجر، وَإِسْمَاعِيل طِفْل مرضع وحملوا على الْبراق وَمَعَهُ جِبْرِيل يدله على مَوضِع الْبَيْت ومعالم الْحرم، وَجعل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام لَا يمر بقرية من الْقرى إِلَّا قَالَ إِبْرَاهِيم: أَبِهَذَا أمرت؟ فَيَقُول لَهُ جِبْرِيل: امْضِ حَتَّى قدم مَكَّة، وَهِي إِذْ ذَاك عضاه من سلم وَسمر، وَبهَا العماليق خَارِجا عَن مَكَّة فِيمَا حولهَا، وَالْبَيْت يَوْمئِذٍ ربوة حَمْرَاء مَدَرَة، فَقَالَ إِبْرَاهِيم لجبريل: أها هُنَا أمرت أَن أضعهما؟ قَالَ: نعم. فَعمد بهما إِلَى مَوضِع الْحجر فأنزلهما فِيهِ، وَأمر هَاجر أم إِسْمَاعِيل تتَّخذ فِيهَا عَرِيشًا، ثمَّ قَالَ: " رَبنَا إِنِّي

فصل ما جاء في نزول جرهم مع ام اسماعيل الحرم

أسكنت من ذريتي بواد غير ذِي زرع عِنْد بَيْتك الْمحرم " الْآيَة. ثمَّ انْصَرف إِلَى الشَّام وتركهما عِنْد الْبَيْت. قَالَ ابْن جريج: وَبَلغنِي أَن جِبْرِيل قَالَ لأم إِسْمَاعِيل فَأَشَارَ بهَا إِلَى مَوضِع الْبَيْت هَذَا أول بَيت وضع للنَّاس، وَهُوَ بَيت الله الْعَتِيق، واعلمي أَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل يرفعانه للنَّاس ويعمرانه، فَلَا يزَال معموراً محرما مكرماً إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَمَاتَتْ أم إِسْمَاعِيل قبل أَن يرفعهُ إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، فدفنت فِي مَوضِع الْحجر. فصل مَا جَاءَ فِي نزُول جرهم مَعَ أم إِسْمَاعِيل الْحرم يرْوى أَنه لما أخرج الله مَاء زَمْزَم لأم إِسْمَاعِيل بَيْنَمَا هِيَ على ذَلِك مر ركب من جرهم قافلين من الشَّام فِي الطَّرِيق السُّفْلى، فَرَأى الركب الطير على المَاء، فَقَالَ بَعضهم: مَا كَانَ بِهَذَا الْوَادي من مَاء وَلَا أنيس، فأرسلوا جريين لَهُم حَتَّى أَتَيَا أم إِسْمَاعِيل فكلماها، ثمَّ رجعا إِلَى ركبهما فأخبراهم بمكانهما، فَرجع الركب كلهم حَتَّى حيوها فَردَّتْ عَلَيْهِم، فَقَالُوا: لمن هَذَا " المَال "؟ قَالَت أم إِسْمَاعِيل: هُوَ لي. قَالُوا لَهَا: أَتَأْذَنِينَ لنا أَن ننزل مَعَك عَلَيْهِ؟ قَالَت: نعم. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " ألفى ذَلِك أم إِسْمَاعِيل، وَقد أحبت الْأنس ". فنزلوا وبعثوا إِلَى أَهَالِيهمْ فقدموا وَسَكنُوا تَحت الدوح، واعترشوا عَلَيْهَا الْعَرْش فَكَانَت مَعَهم هِيَ وَابْنهَا حَتَّى ترعرع الْغُلَام ونفسوا فِيهِ وأعجبهم، وَتوفيت أم إِسْمَاعِيل. وطعامهم الصَّيْد يخرجُون من الْحرم وَيخرج مَعَهم إِسْمَاعِيل فيصيد، فَلَمَّا بلغ أنكحوه جَارِيَة مِنْهُم. فَأقبل إِبْرَاهِيم من الشَّام يَقُول: حَتَّى أطالع تركتي، فَقدم مَكَّة فَوجدَ امْرَأَة إِسْمَاعِيل فَسَأَلَهَا عَنهُ، فَقَالَت: هُوَ غَائِب وَلم تكن لَهُ فِي

فصل ما جاء في بناء ابراهيم الكعبه

القَوْل، فَقَالَ لَهَا: قولي لإسماعيل: قد جَاءَ بعْدك شيخ كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول لَك: غير عتبَة بَيْتك فَإِنِّي لم أرْضهَا لَك. وَكَانَ إِسْمَاعِيل كلما جَاءَ يسْأَل أَهله هَل جَاءَكُم أحد بعدِي؟ فَلَمَّا رَجَعَ سَأَلَ أَهله، فَقَالَت امْرَأَته: قد جَاءَ بعْدك شيخ فنعتته لَهُ، فَقَالَ لَهَا إِسْمَاعِيل: قلت لَهُ شَيْئا. قَالَت: لَا. قَالَ: فَهَل قَالَ لَك شَيْئا. قَالَت: نعم، اقرئي عَلَيْهِ السَّلَام وَقَوْلِي لَهُ: غير عتبَة بَيْتك فَإِنِّي لم أرْضهَا لَك. قَالَ إِسْمَاعِيل: أَنْت عتبَة بَيْتِي فارجعي إِلَى أهلك، فَردهَا إِسْمَاعِيل فأنكحوه امْرَأَة أُخْرَى اسْمهَا سامة بنت مهلهل، وَقيل: عَاتِكَة ثمَّ لبث إِبْرَاهِيم مَا شَاءَ الله أَن يلبث، ثمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيم فَوجدَ إِسْمَاعِيل غَائِبا وَوجد امْرَأَته الْأُخْرَى، فَوقف فَسلم فَردَّتْ عَلَيْهِ السَّلَام واستنزلته وَعرضت عَلَيْهِ الطَّعَام وَالشرَاب، فَقَالَ: مَا شرابكم وطعامكم، قَالَت: اللَّحْم وَالْمَاء. فَقَالَ: هَل من حب أَو غَيره من الطَّعَام؟ قَالَت: لَا. قَالَ: بَارك الله لكم فِي اللَّحْم وَالْمَاء. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَو وجد عِنْدهَا يَوْمئِذٍ حبا لدعا لَهُم بِالْبركَةِ فِيهِ؛ فَكَانَت تكون أَرضًا ذَات زرع ". ثمَّ ولى إِبْرَاهِيم وَقَالَ: قولي لَهُ: قد جَاءَ بعْدك شيخ فَقَالَ: إِنِّي وجدت عتبَة بَيْتك صَالِحَة فأقرّها. فصل مَا جَاءَ فِي بِنَاء إِبْرَاهِيم الْكَعْبَة قَالَ الله تَعَالَى: " وَإِذ يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت " أَي: يَبْنِي الْقَوَاعِد وَهِي الأساس جمع قَاعِدَة. عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لبث إِبْرَاهِيم مَا شَاءَ الله أَن يلبث، ثمَّ جَاءَ الثَّالِثَة فَوجدَ إِسْمَاعِيل قَاعِدا تَحت الدوحة الَّتِي إِلَى نَاحيَة السّتْر يبري نبْلًا لَهُ فَسلم عَلَيْهِ وَنزل عَلَيْهِ فَقعدَ مَعَه، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: يَا إِسْمَاعِيل إِن الله قد أَمرنِي بِأَمْر. فَقَالَ إِسْمَاعِيل: أطع رَبك فِيمَا أَمرك ويروى: أَنه

قَالَ: وتعينني. قَالَ: وأعينك فَقَالَ إِبْرَاهِيم: أَمرنِي رَبِّي أَن أبني لَهُ بَيْتا. قَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل: وَأَيْنَ هُوَ؟ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى أكمة مُرْتَفعَة على مَا حولهَا عَلَيْهَا رَضْرَاض من حَصْبَاء يَأْتِيهَا السَّيْل من نَوَاحِيهَا وَلَا يركبهَا، فقاما يحفران عَن الْقَوَاعِد ويقولان: رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم، رَبنَا تقبل منا إِنَّك سميع الدُّعَاء. وَيحمل لَهُ إِسْمَاعِيل الْحِجَارَة على رقبته وَيَبْنِي إِبْرَاهِيم، فَلَمَّا ارْتَفع الْبُنيان وشق على إِبْرَاهِيم تنَاوله قرب لَهُ هَذَا الْحجر يَعْنِي الْمقَام فَكَانَ يقوم عَلَيْهِ وَيَبْنِي ويحوله فِي نواحي الْبَيْت، حَتَّى انْتهى إِلَى وَجه الْبَيْت فَلذَلِك سمي مقَام إِبْرَاهِيم لقِيَامه عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عَبَّاس: أَنه لما جَاءَ إِبْرَاهِيم إِلَى إِسْمَاعِيل وَرَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فصنعا كَمَا يصنع الْوَلَد بالوالد وَالْوَالِد بِالْوَلَدِ، وبكيا حَتَّى أبكيا أَو أجابتهما الطير. وَقَالَ مُجَاهِد: أقبل إِبْرَاهِيم وَمَعَهُ السكينَة والصّرد وَالْملك من الشَّام دَلِيلا، حَتَّى تبوءا الْبَيْت الْحَرَام، كَمَا تبوأ العنكبوت بَيْتا، وَكَانَ للسكينة رَأس كرأس الْهِرَّة وجناحان. وَفِي رِوَايَة: كَأَنَّهَا غمامة أَو ضَبَابَة فِي وَسطهَا كَهَيئَةِ الرَّأْس يتَكَلَّم، وَفِي رِوَايَة: هِيَ ريح خجوج لَهَا رَأس، وَفِي رِوَايَة: لَهَا رأسان، وَفِي رِوَايَة: لَهَا وَجه يتَكَلَّم وَهُوَ بعد ريح هفافة، وَفِي رِوَايَة: لَهَا رَأس كرأس الْإِنْسَان، وَقيل: السكينَة الرَّحْمَة. قَالَ السُّهيْلي: والسكينة من شَأْن الصَّلَاة. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " وأتوها وَعَلَيْكُم السكينَة ". فَجعلت علما على قبلتها حِكْمَة من الله سُبْحَانَهُ. فَقَالَت السكينَة: يَا إِبْرَاهِيم ربّض على الْبَيْت، فَلذَلِك لَا يطوف بِالْبَيْتِ ملك من هَذِه

الْمُلُوك وَلَا أَعْرَابِي نافر وَلَا جَبَّار إِلَّا رَأَيْت عَلَيْهِ السكينَة. وَفِي رِوَايَة: قَالَت السكينَة ورأيتها تَتَكَلَّم يَا إِبْرَاهِيم: خُذ قدري من الأَرْض لَا يزِيد وَلَا ينقص، فَخط فَذَلِك بكة وَمَا حواليها مَكَّة. وَفِي رِوَايَة: قَالَت لَهُ: يَا إِبْرَاهِيم إِن رَبك يَأْمُرك أَن تخط قدر هَذِه السحابة، فَجعل ينظر إِلَيْهَا وَيَأْخُذ قدرهَا، فَقَالَ لَهُ رَأس السكينَة: قد فعلت. قَالَ: نعم،، فارتفعت السحابة، وَفِي رِوَايَة: أَن الغمامة لم تزل راكدة تظل إِبْرَاهِيم وتهديه مَكَان الْقَوَاعِد حَتَّى رفع الْقَوَاعِد قامة، ثمَّ انكشفت الغمامة فأبرز عَن أس " يانت " من الأَرْض فبناه إِبْرَاهِيم، وَفِي رِوَايَة: فحفر فأبرز عَن ربض أَمْثَال حلف الْإِبِل، لَا يُحَرك الصَّخْرَة إِلَّا ثَلَاثُونَ رجلا، وَفِي رِوَايَة: لما بعث الله إِبْرَاهِيم ليبني الْبَيْت، طلب الأساس الأول الَّذِي وَضعه بَنو آدم فِي مَوضِع الْخَيْمَة الَّتِي عزى الله بهَا آدم من خيام الْجنَّة، حِين وضعت لَهُ بِمَكَّة فِي مَوضِع الْبَيْت، فَلم يزل إِبْرَاهِيم يحْفر حَتَّى وصل إِلَى الْقَوَاعِد الَّتِي أسس بَنو آدم فِي زمانهم فِي مَوضِع الْخَيْمَة، فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا ظلل الله لَهُ مَكَان الْبَيْت بغمامة، وَلم تزل راكدة تظل إِبْرَاهِيم وتهديه مَكَان الْقَوَاعِد حَتَّى رفع الْقَوَاعِد قامة، ثمَّ انكشفت الغمامة، وَكَانَ إِبْرَاهِيم يَبْنِي فِي كل يَوْم سافاً، وَمَكَّة يَوْمئِذٍ شَدِيدَة الْحر، وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: أما وَالله مَا بنياه بِقصَّة وَلَا مدر وَلَا كَانَ مَعَهُمَا من الأعوان وَالْأَمْوَال مَا يسقفانه، ولكنهما أعلماه وطافا بِهِ، وَفِي رِوَايَة: ورضماه رضماً فَوق الْقَامَة وَلم يسقفاه. والرضم: أَن ينضد الْحِجَارَة بَعْضهَا على بعض من غير ملاط، فَلَمَّا ارْتَفع الْبُنيان قرب إِسْمَاعِيل لإِبْرَاهِيم الْمقَام، فَكَانَ

إِبْرَاهِيم يُقيم عَلَيْهِ وَيَبْنِي ويحوله إِسْمَاعِيل فِي نواحي الْبَيْت. قَالَ السُّهيْلي: بناه من خَمْسَة أجبل، كَانَت الْمَلَائِكَة تَأتيه بِالْحِجَارَةِ مِنْهَا، وَهِي: طور سيناء وطور زيتا اللَّذين بِالشَّام، والجودي وَهُوَ بالجزيرة ولبنان وحراء هَكَذَا ذكر السُّهيْلي أَن لبنان بِالْحرم، وهما بِالْحرم قَالَ: وانتبه لحكمة الله كَيفَ جعل بناءهما من خَمْسَة أجبل، فشاكل ذَلِك مَعْنَاهَا إِذْ هِيَ قبْلَة للصلوات الْخمس وعمود الْإِسْلَام وَقد بني على خَمْسَة. انْتهى. وَقيل إِن قَوَاعِده من حراء. وَفِي رِوَايَة: أسس الْبَيْت من خَمْسَة، وَفِي رِوَايَة: وَكَانَ ربضه من حراء. قَالَ الْخَلِيل: والربض هَهُنَا الأساس المستدير بِالْبَيْتِ من الصخر، ويروى: أَن ذَا القرنين قدم مَكَّة وهما يبنيان، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَا: نَحن عَبْدَانِ مأموران أمرنَا بِالْبِنَاءِ. فَقَالَ: فهاتا البنية على مَا تدعيان فَقَامَتْ خَمْسَة أكبش، فَقُلْنَ: نشْهد أَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَبْدَانِ مأموران بِالْبِنَاءِ. فَقَالَ: قد رضيت وسلمت وَمضى. فَلَمَّا انْتهى إِبْرَاهِيم فِي الْبناء إِلَى مَوضِع الْحجر الْأسود قَالَ إِسْمَاعِيل: اذْهَبْ فائتني بِحجر أَضَعهُ هُنَا؛ ليَكُون علما للنَّاس يبتدئون مِنْهُ الطّواف وَفِي رِوَايَة: ليقتدي النَّاس بِهِ فَذهب إِسْمَاعِيل إِلَى الْوَادي يطْلب حجرا، فَأَتَاهُ بِحجر فَلم يرضه، فَذهب فَطلب حجرا آخر، فجَاء جِبْرِيل بِالْحجرِ الْأسود وَفِي رِوَايَة: نزل بِهِ من الْجنَّة وَفِي رِوَايَة: جَاءَ بِهِ من أبي قبيس؛ لِأَنَّهُ كَانَ استودع أَبُو قبيس الرُّكْن زمَان الْغَرق على مَا قيل وَفِي رِوَايَة: لما غرقت الأَرْض استودع الله أَبَا قبيس الْحجر الْأسود، وَقَالَ: إِذا رَأَيْت خليلي يَبْنِي لي بَيْتا فأعطه إِيَّاه. فَلَمَّا ابْتغى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الْحجر الْأسود ناداه من أبي قبيس أَلا أَنا هَذَا فرقي إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم فَأَخذه

فَوضع بالموضع الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْم وَفِي رِوَايَة: صَاح أَبُو قبيس يَا إِبْرَاهِيم يَا خَلِيل الرَّحْمَن إِن لَك عِنْدِي وَدِيعَة فَخذهَا، فَإِذا هُوَ بِحجر أَبيض من ياقوت الْجنَّة، فجَاء إِسْمَاعِيل فَوجدَ إِبْرَاهِيم قد وضع الْحجر فِي مَكَانَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَت من أَيْن لَك هَذَا الْحجر؟ قَالَ: جائني بِهِ من لم يكلني إِلَيْك وَلَا إِلَى حجرك وَفِي رِوَايَة: من عِنْد من لم يتكل على بنائي وبنائك وَفِي رِوَايَة: وضع جِبْرِيل الْحجر فِي مَكَانَهُ وَبنى عَلَيْهِ وَهُوَ حِينَئِذٍ يتلألأ تلألؤا من شدَّة بياضه، فأضاء نوره شرقاً وغرباً ويمناً وشاماً، فَكَانَ نوره يضيء إِلَى مُنْتَهى أنصاب الْحرم من كل نَاحيَة من نواحي الْحرم، وَقيل: إِنَّمَا شدَّة سوَاده؛ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ الْحَرِيق مرّة بعد مرّة فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام؛ فَأَما حريقه فِي الْجَاهِلِيَّة فَإِنَّهُ ذهبت امْرَأَة فِي زمن قُرَيْش تجمر الْكَعْبَة، فطارت شرارة من أستاء الْكَعْبَة، فأحرقت الْكَعْبَة فَاحْتَرَقَ الرُّكْن الْأسود واسود وتوهنت الْكَعْبَة، وَكَانَ هُوَ الَّذِي هاج قُريْشًا على هدمها وبنائها. وَأما حريقه فِي الْإِسْلَام فَفِي عصر ابْن الزبير أَيَّام حاصره الْحصين بن نمير الْكِنْدِيّ، احترقت الْكَعْبَة وَاحْتَرَقَ الرُّكْن فتفلق ثَلَاث فلق حَتَّى شعبه ابْن الزبير بِالْفِضَّةِ، وَقيل: سوَاده لِمَعْنى آخر وَتقدم فِي بَاب الْفَضَائِل. وَجعل إِبْرَاهِيم طول الْبَيْت فِي السَّمَاء تِسْعَة أَذْرع، وَعرضه فِي الأَرْض اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ذِرَاعا من الرُّكْن الْأسود إِلَى الرُّكْن الشَّامي الَّذِي هُوَ عِنْد الْحجر من وَجهه، وَجعل عرض مَا بَين الرُّكْن الشَّامي إِلَى الرُّكْن الغربي الَّذِي فِيهِ الْحجر اثْنَيْنِ وَعشْرين ذِرَاعا، وَجعل عرض ظهرهَا من الرُّكْن الغربي إِلَى الرُّكْن الْيَمَانِيّ أحدا وَثَلَاثِينَ ذِرَاعا، وَجعل عرض شقها الْيَمَانِيّ من الرُّكْن الْأسود إِلَى الرُّكْن الْيَمَانِيّ عشْرين ذِرَاعا، فَلذَلِك سميت الْكَعْبَة؛ لِأَنَّهَا على خلقَة الكعب، وَكَذَلِكَ بُنيان أساس آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَجعل بَابهَا بِالْأَرْضِ غير مبوب، حَتَّى كَانَ تبع أسود الْحِمْيَرِي هُوَ الَّذِي جعل لَهَا بَابا وغلقاً فارسياً وَكَسَاهَا كسْوَة تَامَّة وَنحر عِنْدهَا. وَجعل إِبْرَاهِيم الْحجر إِلَى جنب الْبَيْت عريّاً من أَرَاك يقتحمه الْغَيْر فَكَانَ زرباً لغنم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وحفر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام جبا فِي بطن الْكَعْبَة على يَمِين

من دخله يكون خزانَة الْبَيْت، يلقى فِيهِ مَا يهدي للكعبة، وَهُوَ الْجب الَّذِي نصب عَلَيْهِ عَمْرو بن لحي هُبل الصَّنَم الَّتِي كَانَت قُرَيْش تعبده وتستقسم عِنْده بالأزلام حِين جَاءَ بِهِ من هيت من أَرض الجزيرة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْبَقَرَة: رُوِيَ أَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل لما فرغا من بِنَاء الْبَيْت أعطاهما الله الْخَيل جَزَاء عَن رفع قَوَاعِد الْبَيْت. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَت الْخَيل وحشاً كَسَائِر الوحوش، فَلَمَّا أذن لإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل بِرَفْع الْقَوَاعِد قَالَ الله تَعَالَى: إِنِّي معطيكما كنزاً ادخرته لَكمَا، ثمَّ أوحى إِلَى إِسْمَاعِيل أَن اخْرُج إِلَى أجياد فَادع يأتك الْكَنْز، فَخرج إِلَى أجياد وَلَا يدْرِي مَا الدُّعَاء وَلَا الْكَنْز فألهمه فَلم يبْق على وَجه الأَرْض فرس بِأَرْض الْعَرَب إِلَّا أَجَابَتْهُ، فأمكنه من نَوَاصِيهَا وذللها لَهُ فاركبوها واعلفوها فَإِنَّهَا ميامين وَهِي مِيرَاث أبيكم إِسْمَاعِيل. وَسمي الْفرس فرسا؛ لِأَنَّهُ يفترس مسافات الجو افتراس الْأسد وثوباً ويقطعها بيدَيْهِ خبطاً وتناولاً، وسمى خيلاً؛ لِأَنَّهَا موسومة بالغر، وسمى عَرَبيا لِأَنَّهُ أعْطِيه إِسْمَاعِيل، وَإِسْمَاعِيل عَرَبِيّ فَصَارَت لَهُ نحلة من الله. لأرض فرس بِأَرْض الْعَرَب إِلَّا أَجَابَتْهُ، فأمكنه من نَوَاصِيهَا وذللها لَهُ فاركبوها واعلفوها فَإِنَّهَا ميامين وَهِي مِيرَاث أبيكم إِسْمَاعِيل. وَسمي الْفرس فرسا؛ لِأَنَّهُ يفترس مسافات الجو افتراس الْأسد وثوباً ويقطعها بيدَيْهِ خبطاً وتناولاً، وسمى خيلاً؛ لِأَنَّهَا موسومة بالغر، وسمى عَرَبيا لِأَنَّهُ أعْطِيه إِسْمَاعِيل، وَإِسْمَاعِيل عَرَبِيّ فَصَارَت لَهُ نحلة من الله. قَالَ الثَّعْلَبِيّ فِي العرائس: وَكَانَ إِبْرَاهِيم عبرانياً وَإِسْمَاعِيل عَرَبيا فألهم الله أَحدهمَا لِسَان صَاحبه، فَكَانَ إِبْرَاهِيم يَقُول: رب هَب لي كيناً يَعْنِي هَات حجرا فَيَقُول لَهُ إِسْمَاعِيل: هُنَاكَ فَخذه. وَقَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": وَكَانَ إِبْرَاهِيم يتَكَلَّم بالعبرانية وَكَذَلِكَ إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق، وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم لما خرج هرب من كوثى وَخرج من النَّار عبر الْفُرَات وَلسَانه سرياني فَغير لِسَانه، فَقيل: عبراني حَيْثُ عبر الْفُرَات فَبعث نمْرُود فِي أَثَره، وَقَالَ: لَا تدعوا من يتَكَلَّم بالسُّرْيَانيَّة إِلَّا ائْتُونِي بِهِ، فوجدوا إِبْرَاهِيم يتَكَلَّم بالعبرانية فَتَرَكُوهُ وَلم يعرفوه، وَكَانَ سنّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حِين أَمر بِبِنَاء الْبَيْت مائَة سنة، وَسن إِسْمَاعِيل سِتَّة وَثَلَاثِينَ سنة، وَفِي رِوَايَة ذكرهَا الْأَزْرَقِيّ: إِن سنّ إِسْمَاعِيل يَوْمئِذٍ عشرُون سنة. وَاعْلَم أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أول نَبِي بعد نوح، وَأول من لبس

السَّرَاوِيل، وجاريته قنطوراً هِيَ أم التّرْك، اختتن بالقدوم، وَقيل: بالقدوم الْمَعْرُوف، وَقيل: مَوضِع يُقَال لَهُ: الْقدوم بالقدوم، وَكَانَ لَهُ يَوْم اختتن ثَمَانُون سنة، وَقيل: مائَة وَعِشْرُونَ، وعاش بعْدهَا ثَمَانِينَ سنة، وَقيل: مَاتَ وعمره مِائَتَا سنة، وَقيل: مائَة وَخمْس وَتسْعُونَ سنة، وَدفن عِنْد قبر سارة، واختتن إِسْمَاعِيل لثَلَاثَة عشر شهرا، وَإِسْحَاق لسبعة أَيَّام، وَكَانَ عمر إِبْرَاهِيم يَوْم ألقِي فِي النَّار سِتَّة عشر سنة، وَبَردت النَّار تِلْكَ اللَّيْلَة، وَفِي ذَلِك الصَّباح فِي سَائِر أقطار الأَرْض فَلم ينْتَفع أحد فِي الدُّنْيَا بِنَار، وَسموا تِلْكَ اللَّيْلَة نيروزاً، والنيروز بالسرياني عيد وَكَانَ استدلاله بالكواكب وَهُوَ ابْن خَمْسَة عشر شهرا، وَأنزل عَلَيْهِ عشرُون صحيفَة بالخط السرياني. وَأما نوح عَلَيْهِ السَّلَام فَهُوَ أول رَسُول أرْسلهُ الله إِلَى الأَرْض حَكَاهُ ابْن عَسَاكِر، وَنزل الطوفان بعد مُضِيّ سِتّمائَة سنة من عمره، وَقيل: دَعَا قومه تِسْعمائَة سنة وَخمسين سنة، وَكَانَ لَهُ قبل دُعَائِهِ ثَلَاثمِائَة سنة، وعاش بعد الطوفان ثَلَاثمِائَة وَخمسين سنة، وَقيل: عَاشَ بعد الطوفان خَمْسمِائَة عَام، وَأرْسل الطوفان لثلاث عشرَة خلت من آب، وَركب نوح الْفلك لعشرين خلون من رَجَب، وَصَامَ نوح رَجَب فِي السَّفِينَة، وَجَرت بهم السَّفِينَة إِلَى يَوْم عَاشُورَاء حَكَاهُ

عِكْرِمَة، وَقيل: أَقَامَ على المَاء نَحْو سنة، وَقيل: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقيل: أَرْبَعِينَ سنة قَالَه وهب فِي كتاب " التيجان "، وَقيل: أمطر أَرْبَعِينَ يَوْمًا وغاض المَاء بعد مائَة وَخمسين يَوْمًا حَكَاهُ الشهرستاني، وَكَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْم الْجُمُعَة وصامه نوح وَمن مَعَه من الْوَحْش، وَقيل: إِن يَوْم الْقِيَامَة يكون يَوْم عَاشُورَاء ويوافق يَوْم الْجُمُعَة، وأرست السَّفِينَة على الجودي وَهُوَ بِأَرْض الجزيرة شمالاً وَيُسمى النَّاظر، وَقيل: هُوَ جبل فردي بِقرب الْموصل، وَكَانَ خشب السَّفِينَة من جبل لبنان، وعملها نوح بِدِمَشْق وَأول مَا حمل فِيهَا النملة، وَقيل: الأوزة، وَآخر مَا حمل الحمارة، وَلم يكن فِي الأَرْض قبل الطوفان نهر وَلَا بَحر، ومياه الْبحار بَقِيَّة الطوفان، وَحمل فِي السَّفِينَة ثَمَانِيَة أنفس: نوح وَزَوجته غير الَّتِي عوقبت، وَبَنوهُ الثَّلَاث وزوجاتهم، وَقيل: كَانُوا سَبْعَة وَأسْقط امْرَأَة نوح. وَقيل: كَانُوا عشرَة، وَقيل: سبعين وَقيل: ثَمَانِينَ. وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " بَقِي من خشبها يَعْنِي السَّفِينَة شَيْء أدْركهُ أَوَائِل هَذِه الْأمة ". وَحمل نوح عَلَيْهِ السَّلَام جَسَد آدم مَعَه فِي السَّفِينَة، وَكَانَ مولد نوح بعد موت آدم بثمانمائة سنة، وَلم يعقب أحد مِمَّن كَانَ مَعَه بالسفينة وَإِنَّمَا عقب أَوْلَاده، قَالَ تَعَالَى: " وَجَعَلنَا ذُريَّته هم البَاقِينَ ". وهم سَام وَحَام وَيَافث. وَبعد الطوفان بستمائة سنة وَسبعين، كَانَ تبلبل الألسن فافترقت اثْنَيْنِ وَسبعين لِسَانا: فِي ولد سَام تِسْعَة عشر، وَفِي ولد حام سَبْعَة عشر، وَفِي ولد يافث سِتَّة وَثَلَاثُونَ، وَكَانَ سَببه وُقُوع الصرح الَّذِي بناه هامان لفرعون وَكَانَ طول الصرح إِلَى السَّمَاء خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَقيل: فرسخين، كَانَ فِيهِ خَمْسُونَ ألف بِنَاء فتبلبلت الألسن وَمَات ألفا ألف. ومولد الْخَلِيل إِلَى تبلبل الألسن أَرْبَعمِائَة سنة وَإِحْدَى عشرَة سنة، وَمن مولده أَيْضا إِلَى مولد مُوسَى أَرْبَعمِائَة وَخمْس وَعِشْرُونَ سنة، وَمن هبوط آدم إِلَى مَجِيء الطوفان على مَا قَالَه اثْنَان وَسَبْعُونَ حبرًا من بني إِسْرَائِيل نقلوا التَّوْرَاة إِلَى اليونانية: بَينهمَا أَلفَانِ ومائتان وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ سنة، وَإِلَى وَفَاة مُوسَى ثَلَاثَة

آلَاف وَثَمَانمِائَة وَثَمَانِية وَسِتُّونَ سنة. وَقَالَ آخَرُونَ من بني إِسْرَائِيل المقيمين على العبرانية الَّتِي يتداولها جُمْهُور الْيَهُود فِي وقتنا: إِن من هبوط آدم إِلَى مَجِيء الطوفان ألف وسِتمِائَة وست وَخَمْسُونَ سنة، وَمن انْقِضَاء الطوفان إِلَى تبلبل الألسن مائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ سنة، وَمن التبلبل إِلَى مولد الْخَلِيل مائَة وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سنة، وَمن مولده عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى وَفَاة مُوسَى خَمْسمِائَة وَخمْس وَأَرْبَعُونَ سنة، وَمن وَفَاته عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى ابْتِدَاء ملك بخْتنصر تِسْعمائَة وثمان وَسَبْعُونَ سنة، وَإِلَى ملك الْإِسْكَنْدَر ألف وَأَرْبَعمِائَة وَثَلَاث عشرَة سنة، وَولد عِيسَى لسبع مائَة وتسع وَثَلَاثِينَ سنة من ملك بخْتنصر ولثلاثمائة وَأَرْبع وَسِتِّينَ سنة من ملك الْإِسْكَنْدَر، وَمن ملك بخْتنصر إِلَى ابْتِدَاء الْهِجْرَة ألف وثلاثمائة وتسع وَسِتُّونَ سنة، وَمن ملك بختنصّر إِلَى ابْتِدَاء الْهِجْرَة تِسْعمائَة وَخمْس وَسِتُّونَ سنة، فَكَانَ بَين مُوسَى وَابْتِدَاء الْهِجْرَة أَلفَانِ وثلاثمائة وَسبع وَأَرْبَعُونَ سنة، ومولد عِيسَى بعد ألف وَسَبْعمائة وَسبع عشرَة سنة من موت مُوسَى، وَقيل: سِتّمائَة وَثَلَاثِينَ سنة من ابْتِدَاء الْهِجْرَة. ويروي الْكَلْبِيّ عَن ابْن عَبَّاس: إِن النَّاس خَرجُوا من السَّفِينَة بِبَابِل، ثمَّ ضَاقَتْ بهم حَتَّى نزلُوا مَوضِع بابل اثْنَا عشر فرسخاً فِي مثلهَا، وَكَانَ سورها عِنْد النّيل وبابها يَوْمئِذٍ عِنْد بَاب وردان، فملكهم يَوْمئِذٍ نمْرُود بن كنعان بن حام، فَلَمَّا كفرُوا بلبل الله ألسنتهم على اثْنَيْنِ وَسبعين لِسَانا، وَفهم الله الْعَرَبيَّة عمليق وَغَيرهم من بني سَام، فَنزلت العماليق صنعاء ثمَّ تحولت فَنزلت بِمَكَّة، وَقيل: لما تبلبلت الألسن سلبوا اللِّسَان السرياني إِلَّا أهل الجودي، وأجرى جِبْرِيل على لِسَان كل أمة لُغَة، وأفصح عَابِر بِالْعَرَبِيَّةِ وَتكلم مَعَ عَابِر جَمِيع إخْوَته وَبَنُو عَمه مَا خلا الْفرس فَإِنَّهَا تَكَلَّمت بالعجمي، وَأول من تكلم بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيّ عزقيل بن ساروم بن خاموز بن قنالخ بن أرفخشذ، وَأول من جرت الفارسية على لِسَانه شاهور بن خاموز بن باقر بن سَام، وَأول من جرت الحبشية على لِسَانه سلحب بن باداد بن زباهاش بن شوعان بن كوش بن حام بن نوح، فَهَذِهِ أصُول الألسن. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَأول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَأول من كتب بِالْعَرَبِيَّةِ مرامر بن مروة من أهل الأنبار. وَقَالَ السُّهيْلي: وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أول من كتب بِالْعَرَبِيَّةِ إِسْمَاعِيل ". قَالَ أَبُو عَمْرو: وَهَذِه الرِّوَايَة أصح من رِوَايَة من روى:

" أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ إِسْمَاعِيل ". وَالْخلاف كثير فِي أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ، وَفِي أول من أَدخل الْكتاب الْعَرَبِيّ أَرض الْحجاز فَقيل: حَرْب بن أُميَّة، وَقيل: سُفْيَان بن أُميَّة، وَقيل: عبد بن قصي تعلموه بِالْحيرَةِ، وتعلمه أهل الْحيرَة من أهل الأنبار. انْتهى. وَأول من نقش على الدَّرَاهِم بِالْعَرَبِيَّةِ عبد الْملك بن مَرْوَان. قَالَ الشّعبِيّ: وَكَلَام النَّاس يَوْم الْقِيَامَة بالسرياني، وروى الْأَصْحَاب فِي كتبهمْ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " الْعَرَبِيّ والفارسي لِسَانا أهل الْجنَّة ". وَأما شِيث فولد بعد مِائَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة من عمر آدم عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَات وَله تِسْعمائَة واثنتا عشرَة سنة، فَكَانَ قِيَامه بِالْأَمر بعد آدم مِائَتَيْنِ واثنتا عشرَة سنة، واختتن فِي نبوته، وَأنزل عَلَيْهِ خَمْسُونَ صحيفَة، وَقيل: ثَلَاثُونَ، وَقيل: عشرَة، وَبنى الْكَعْبَة بالطين وَحج وولدته حَوَّاء مُفردا، وَكَانَت تَلد ذكرا وَأُنْثَى فِي كل بطن فولدته مُفردا. قَالَ الْمرْجَانِي: يَعْنِي بَدَلا من هابيل. وَأما آدم عَلَيْهِ السَّلَام فيكنى أَبَا مُحَمَّد بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبا الْبشر أَيْضا، وآدَم عبراني، وَقيل: عَرَبِيّ خلقه الله من قَبْضَة قبضهَا من جَمِيع الأَرْض فجَاء بنوه على قدر الأَرْض ذَوي ألوان، يرْوى أَنه قَالَ: يَا رب لم سميتني آدم؟ قَالَ: لِأَنِّي خلقتك من أَدِيم الأَرْض، وأديم الأَرْض وَجههَا، وَخلق الله حَوَّاء من ضلعه الْأَيْسَر وَسميت حَوَّاء؛ لِأَنَّهَا خلقت من حَيّ وخلقت قبل دُخُول الْجنَّة، وَاخْتلف فِي الشَّجَرَة الَّتِي أكلهَا، فَقيل: شَجَرَة الكافور أَو الْحَيَاة أَو الكرمة أَو النَّخْلَة أَو السنبلة أَو الحلبة أَو التِّين أَو الحنظلة وَكَانَت حلوة، وأهبط على جبل لبنان أَو الجودي أَو سرنديب أَو نوى أَو اسْم، وحواء بجدة، وإبليس على سَاحل بَحر أَيْلَة بِفَتْح الْهمزَة، وَقيل: بيسان، والحية بالبربر وَقيل: بأصبهان، والطاووس بِأَرْض بابل، فأهبط آدم من بَاب التَّوْبَة، وحواء من بَاب الرَّحْمَة، وإبليس من بَاب اللَّعْنَة، والطاووس من بَاب الْغَضَب، والحية من بَاب السخط وَكَانَ وَقت الْعَصْر، وَقيل: أهبط آدم بَين الظّهْر وَالْعصر من بَاب يُقَال لَهُ: الميرم حذاء الْبَيْت الْمَعْمُور، وَقيل: من بَاب الْمِعْرَاج، وَمكث فِي الْجنَّة نصف يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة وَذَلِكَ خَمْسمِائَة عَام، وَمكث على جبل الْهِنْد مائَة سنة يبكي وَأنْبت الله العشب من دُمُوعه مِنْهُ: الدَّار صيني والقرفة والقرنفل، وَكَانَ رَأسه يمس السَّحَاب فصلع

فتوارثه ذُريَّته، وخفضت قامته إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعا بذراعه، وَحج أَرْبَعِينَ حجَّة، وَكَانَت خطوته مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام، وَهُوَ أول من ضرب الدِّينَار وَالدِّرْهَم، وَكَانَ أَمْرَد وَإِنَّمَا نَبتَت اللحى لذريته، وأنزلت عَلَيْهِ حُرُوف المعجم فِي إِحْدَى وَعشْرين ورقة، وَنزل عَلَيْهِ عشر صَحَائِف وَجَمِيع الصُّحُف مائَة وَأَرْبَعَة: كتب على آدم عشر، وعَلى شِيث خَمْسُونَ، وعَلى إِدْرِيس ثَلَاثُونَ، وعَلى إِبْرَاهِيم عشرَة، والتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان نزل بهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أنزلت صحف إِبْرَاهِيم أول لَيْلَة من رَمَضَان، والتوراة لستّ مضين من رَمَضَان، وَالْإِنْجِيل لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت مِنْهُ، وَالزَّبُور لثماني عشرَة لَيْلَة خلت مِنْهُ، وَالْفرْقَان لأَرْبَع وَعشْرين مِنْهُ ". وَبَين نزُول أول الْقُرْآن وَآخره عشرُون سنة. وَكَانَ آدم من المصطفين دون سَائِر الْمُرْسلين، وَلم يمت حَتَّى بلغ وَلَده وَولد وَلَده أَرْبَعِينَ ألفا، وَقيل: صلى خَلفه ألف رجل غير بني بنيه، وَورد أَن الله شفعه من ذُريَّته فِي مائَة ألف ألف وَعشرَة آلَاف ألف. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: تكلم آدم بسبعمائة ألف لُغَة أفضلهَا الْعَرَبيَّة، وَكَانَ الْقَمْح فِي زَمَنه كبيض النعام وَلم يزل إِلَى أَيَّام إِدْرِيس ثمَّ نقص مِنْهُ قَلِيل، ثمَّ نقص أَيَّام فِرْعَوْن ثمَّ نقص أَيَّام إلْيَاس فَصَارَ كبيض الدَّجَاج، ثمَّ نقص أَيَّام عِيسَى، ثمَّ نقص أَيَّام يحيى فَصَارَ فِي أَيَّام بخْتنصر كالبندق وَكَذَلِكَ كَانَ فِي أَيَّام عَزِيز فَلَمَّا قَالَت الْيَهُود: عُزَيْر ابْن الله، صَار قدر الحمص، ثمَّ صَار إِلَى مَا ترى قَالَه كَعْب الْأَحْبَار، وَمَاتَتْ حَوَّاء قبل آدم بعامين وعمرها سَبْعمِائة سنة وتسع وَعِشْرُونَ سنة، وَقيل: مَاتَت بعده بعامين، وَقيل: بست سِنِين، وَمَات آدم يَوْم الْجُمُعَة وَوَافَقَ من شهور السرياني لعشرين من نيسان، مَاتَ على الْجَبَل الَّذِي أهبط عَلَيْهِ، وَصلى عَلَيْهِ شِيث وكبّر عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وَحمله نوح فِي السَّفِينَة، قيل: وَحمل حَوَّاء مَعَه،

وَدَفنه بِبَيْت الْمُقَدّس بعد الطوفان، وَقل: صلت عَلَيْهِ الْمَلَائِكَة وحفروا لَهُ بجبل أبي قبيس ثمَّ حمله نوح ثمَّ إِلَى مَكَانَهُ بِالْجَبَلِ، وَقيل: قبر آدم فِي مَشَارِق الفردوس. قَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": وَالظَّاهِر أَن قبر آدم بِالشَّام يَعْنِي دمشق لِأَنَّهَا كَانَت أرضه وَبهَا مَقْبرَة الفراديس، وَقيل: دَفَنته الْمَلَائِكَة بِمَسْجِد الْخيف حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي " درياق الْقُلُوب "، وآدَم الْآن فِي سَمَاء الدُّنْيَا، وَلَا يُسمى أحد خَليفَة الله تَعَالَى بعد آدم عَلَيْهِ السَّلَام وانقرض نسل آدم بالطوفان إِلَّا نسل شِيث. قَالَ الطوسي: وَبَلغنِي أَن من كتب للمطلقة آدم وحواء وضعت. انْتهى. وَالله أعلم. وَقدم علينا حاجّاً سنة عشر وَثَمَانمِائَة رجل شرِيف دلوالي وَذكر لنا أَنه رَحل بِلَاد سرنديب وَأَن أَهلهَا كفار، وَأَنه صعد جبل سرنديب وَكَانَ صُعُوده فِيهِ من طُلُوع الْفجْر وَوصل أَعْلَاهُ غرُوب الشَّمْس، قَالَ: وَفَوق جبل سرنديب جبل آخر على هَيْئَة المنارة وقدرها بل أَعلَى مِنْهَا، يصعد إِلَى أَعلَى هَذَا الْجَبَل بسلاسل من حَدِيد يضع الْإِنْسَان فِيهَا رجله وَيتَعَلَّق ثمَّ هَكَذَا إِلَى أَن يصعد إِلَى أَعْلَاهُ، وَأَنه لَا يُمكن الصعُود عَلَيْهِ إِلَّا على هَذِه الصّفة، قَالَ: وَفَوق هَذَا الْجَبَل أَيْضا جبل آخر صَغِير فِيهِ أثر قدم آدم عَلَيْهِ السَّلَام غائصاً فِي الصَّخْرَة على سمت الْقبْلَة بِحَيْثُ إِن الْقَائِم عَلَيْهِ يسْتَقْبل الْقبْلَة وَله خمس أَصَابِع، وَذكر أَنه قَاس طول قدمه وَعرضه وَطول إبهامه بمنديل كَانَ مَعَه وَعلم ذَلِك عَلَامَات، فَرَأَيْت هَذَا المنديل مَعَه فقست طول قدمه من رَأس الْإِبْهَام إِلَى آخرهَا ثَلَاثَة أَذْرع وثلثي ذِرَاع وَطول الْإِبْهَام إِلَى الْمفصل شبر وَعرض الْقدَم ثَلَاثَة أشبار وَأَرْبع أَصَابِع كل ذَلِك بِذِرَاع الْحَدِيد، وَذكر أَنه لم ير إِلَّا قدماً وَاحِدًا وَأَن تَحت قدمه غديراً فِي صَخْرَة ممتلئ بهَا مَاء أحلى من الْعَسَل، وَله عينان تجريان إِحْدَاهمَا عَن يَمِين الْقدَم وَالْأُخْرَى عَن يسَاره ينصبان إِلَى أَسْفَل الْجَبَل وَإِلَى الْبَحْر، ومسيل مَاء الْعَينَيْنِ يشم

فصل ما جاء في حج ابراهيم وطوافه واذانه في الحج

وتراب الْعين الْيُمْنَى يسيلان، وَإِن الْمَطَر لَا يزَال على هَذَا الْجَبَل فِي كل يَوْم من أَيَّام السّنة لَا يَنْقَطِع أصلا، وَلكنه فِي بعض الْأَوْقَات رشاش، وَإِن فِي كل جِهَة من جِهَات الْجَبَل الْأَرْبَع يَدُوم الْمَطَر فِي أَرض الْهِنْد ثَلَاثَة أشهر على ممر السنين وَالله أعلم. فصل مَا جَاءَ فِي حج إِبْرَاهِيم وطوافه وأذانه فِي الْحَج لما فرغ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام من بِنَاء الْبَيْت الْحَرَام جَاءَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي رِوَايَة قَالَ: أَي ربّ قد فعلت فأرنا مناسكنا، أَي: أبرزها لنا وعلمناها، وَقيل: أرنا مناسكنا: مذابحنا، فَجَاءَهُ جِبْرِيل، فَقَالَ: طف بِهِ سبعا هُوَ وَإِسْمَاعِيل يستلمان الْأَركان كلهَا فِي كل طواف، وَكَانَ آدم يسْتَلم الْأَركان كلهَا قبل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا أكملا سبعا صليا خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَقَامَ مَعَه جِبْرِيل فَأرَاهُ الْمَنَاسِك كلهَا الصَّفَا والمروة وَمنى ومزدلفة وعرفة، فَلَمَّا دخل منى وَهَبَطَ من الْعقبَة تمثل لَهُ إِبْلِيس وَفِي رِوَايَة: بعث الله عز وَجل جِبْرِيل فحج بِهِ حَتَّى إِذا جَاءَ يَوْم النَّحْر عرض لَهُ إِبْلِيس عِنْد جَمْرَة الْعقبَة فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: ارمه فَرَمَاهُ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِسبع حَصَيَات فَغَاب عَنهُ ثمَّ برز لَهُ عِنْد الْجَمْرَة السُّفْلى، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: ارمه فَرَمَاهُ بِسبع حَصَيَات فَغَاب عَنهُ ثمَّ برز لَهُ عِنْد الْجَمْرَة الْوُسْطَى، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: كبر وارمه فَرَمَاهُ بِسبع حَصَيَات مثل حَصى الْخذف فَغَاب عَنهُ إِبْلِيس وَفِي رِوَايَة: فَرَمَاهُ من الْغَد وَالْيَوْم الثَّالِث كَذَلِك ثمَّ مضى إِبْرَاهِيم فِي حجه وَجِبْرِيل يوقفه على المواقف ويعلمه الْمَنَاسِك حَتَّى انْتهى إِلَى عَرَفَات، فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهَا قَالَ لَهُ جِبْرِيل: أعرفت مناسكك؟ قَالَ إِبْرَاهِيم: نعم. فسميت عَرَفَات بذلك، فَلَمَّا فرغ من الْحَج أَمر إِبْرَاهِيم أَن يُؤذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ وَفِي رِوَايَة: لما فرغ إِبْرَاهِيم من بِنَاء الْبَيْت قَالَ: يَا رب قد فرغت فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن أذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ، فَهَذِهِ الرِّوَايَة تَقْتَضِي أَن الْأَذَان قبل الْحَج، وَالرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة تخَالف ذَلِك فَلَمَّا أَمر أَن يُؤذن بِالْحَجِّ، قَالَ: يَا رب وَمَا يبلغ صوتي؟ فَقَالَ الله تَعَالَى: أذن وعليّ الْبَلَاغ وَفِي رِوَايَة: قَالَ: وَكَيف أَقُول؟ قَالَ: قل: يَا أَيهَا النَّاس أجِيبُوا ربكُم ثَلَاث مَرَّات فعلا إِبْرَاهِيم على الْمقَام فارتفع بِهِ حَتَّى صَار أرفع الْجبَال وأطولها وَفِي رِوَايَة: صعد أَبَا قبيس وَأذن بِالْحَجِّ، وَفِي رِوَايَة: علا على شبر وجمعت لَهُ الأَرْض يَوْمئِذٍ سهلها

وجبلها وبرها وبحرها وإنسها وجنها حَتَّى أسمعهم جَمِيعًا وتطأطأت الْجبَال، وَفِي رِوَايَة: خفضت الْجبَال رؤوسها وَرفعت لَهُ الْقرى فَأدْخل إصبعيه فِي صماخي أُذُنَيْهِ وَأَقْبل بِوَجْهِهِ يمناً وشاماً وشرقاً وغرباً، وَبَدَأَ بشق الْيمن فَقَالَ: أَيهَا النَّاس كتب عَلَيْكُم الْحَج إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق فأجيبوا ربكُم وَفِي رِوَايَة: أَن الله قد أَمركُم بِحَجّ هَذَا الْبَيْت ليثيبكم بِهِ الْجنَّة ويجيركم من عَذَاب النَّار فحجوا فَأَجَابُوهُ من تَحت التخوم السَّبْعَة وَمن بَين الْمشرق وَالْمغْرب إِلَى مُنْقَطع التُّرَاب من أقطار الأَرْض كلهَا لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك وَفِي رِوَايَة: أَي كل رطب ويابس، وسَمعه من بَين الْمشرق وَالْمغْرب وأجابه من كَانَ فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء فَلَيْسَ أحد يحجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا من أجَاب نِدَاء إِبْرَاهِيم، وَإِنَّمَا حجهم على قدر إجابتهم يَوْمئِذٍ، فَمن أَجَابَهُ مرّة حج مرّة، وَمن أَجَابَهُ مرَّتَيْنِ حج مرَّتَيْنِ، وَمن أَجَابَهُ أَكثر فَأكْثر على حسب إجَابَته. ويروى أَنه كَانَ بَين ذَلِك وَبَين أَن بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة آلَاف سنة، وَكَانَ أول من أجَاب دَعْوَة إِبْرَاهِيم بِالتَّلْبِيَةِ أهل الْيمن، وَذهب جمَاعَة إِلَى أَن الْمَأْمُور فِي قَوْله تَعَالَى: " وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ ". سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي رِوَايَة اسْتقْبل إِبْرَاهِيم الْيمن ودعا إِلَى الله وَإِلَى حج بَيته فَأُجِيب أَن لبيْك لبيْك، ثمَّ اسْتقْبل الْمشرق فَدَعَا إِلَى الله وَإِلَى حج بَيته فَأُجِيب أَن لبيْك لبيْك، ثمَّ إِلَى الْمغرب بِمثل ذَلِك، ثمَّ إِلَى الشَّام بِمثل ذَلِك، ثمَّ حج إِبْرَاهِيم بِإِسْمَاعِيل وبمن مَعَه من الْمُسلمين من جرهم، وهم سكان الْحرم يَوْمئِذٍ مَعَ إِسْمَاعِيل وهم أصهاره، وَصلى بهم الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء بمنى ثمَّ بَات بهم حَتَّى أصبح وَصلى بعن الْغَدَاة، ثمَّ غَدا بهم إِلَى نمرة فَقَالَ بهم هُنَالك حَتَّى إِذا مَالَتْ الشَّمْس جمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة فِي مَسْجِد إِبْرَاهِيم، ثمَّ رَاح بهم إِلَى الْموقف من عَرَفَة وَهُوَ الْموقف الَّذِي يقف عَلَيْهِ الإِمَام الْيَوْم فَوقف بهم فَلَمَّا غربت الشَّمْس دفع بِهِ وبمن مَعَه حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة فَجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ الْمغرب وَالْعشَاء الْآخِرَة، ثمَّ بَات حَتَّى إِذا طلع الْفجْر صلى بهم الْغَدَاة ثمَّ وقف بِهِ على قزَح من الْمزْدَلِفَة وبمن مَعَه وَهُوَ الْموقف الَّذِي يقف بِهِ الإِمَام الْيَوْم حَتَّى

فصل ذكر ولايه بني اسماعيل الكعبه من بعده وامر جرهم

إِذا أَسْفر غير مشرق دفع بِهِ وبمن مَعَه يرِيه ويعلمه كَيفَ يَرْمِي الْجمار حَتَّى فرغ من الْحَج كُله، ثمَّ انْصَرف إِبْرَاهِيم رَاجعا إِلَى الشَّام فَتوفي بهَا. فصل ذكر ولَايَة بني إِسْمَاعِيل الْكَعْبَة من بعده وَأمر جرهم قَالَ ابْن إِسْحَاق: ولد لإسماعيل بن إِبْرَاهِيم اثْنَا عشر رجلا، وأمهم السيدة بنت مضاض بن عَمْرو الجرهمي، ثَابت بن إِسْمَاعِيل وقيدار وواصل وميّاش وطيما وقطور وَقيس وقيدمان، وَكَانَ عمر إِسْمَاعِيل مائَة وَثَلَاثِينَ سنة، فَمن ثَابت وقيدار نشر الله الْعَرَب، وَكَانَ أكبرهم قيدار وثابت وَكَانَ من حَدِيث جرهم وَبني إِسْمَاعِيل: أَن إِسْمَاعِيل لما توفّي دفن فِي الْحجر مَعَ أمه فولى الْبَيْت ثَابت بن إِسْمَاعِيل مَا شَاءَ الله أَن يَلِيهِ، ثمَّ توفّي ثَابت بن إِسْمَاعِيل فولى بعده مضاض بن عَمْرو الجرهمي وَهُوَ جد ثَابت بن إِسْمَاعِيل أَبُو أمه وَضم بني ثَابت وَبني إِسْمَاعِيل إِلَيْهِ فصاروا مَعَ جدهم أبي أمّهم مضاض بن عَمْرو وَمَعَ أخوالهم من جرهم، وجرهم وقطوراً يَوْمئِذٍ أهل مَكَّة، وعَلى جرهم مضاض بن عَمْرو ملكا عَلَيْهِم، وعَلى قطورا رجلا مِنْهُم يُقَال لَهُ: السَّميدع ملكا عَلَيْهِم، وَكَانَ حِين ظعنا من الْيمن أَقبلَا سيارة، وَكَانُوا إِذا خَرجُوا من الْيمن لم يخرجهم إِلَّا وَلَهُم ملك يُقيم أَمرهم، فَلَمَّا نزلا مَكَّة رَأيا بَلَدا طيبا وآداماً وشجراً فأعجبهما وَنزلا بِهِ، فَنزل مضاض بن عَمْرو بِمن مَعَه من جرهم أَعلَى مَكَّة وقيقعان فَمَا حَاز ذَلِك، وَنزل السميدع أجيادين وأسفل مَكَّة فَمَا حَاز ذَلِك، وكل فِي قومه على حياله لَا يدْخل وَاحِد مِنْهُم على صَاحبه فِي ملكه، ثمَّ إِن جرهما وقطوراً بغى بَعضهم على بعض وتنافسوا الْملك فَاقْتَتلُوا بهَا حَتَّى نشبت الْحَرْب بَينهم على الْملك، وولاة الْأَمر بِمَكَّة مَعَ مضاض بن عَمْرو بَنو ثَابت بن إِسْمَاعِيل وَبَنُو إِسْمَاعِيل وَإِلَيْهِ ولَايَة الْبَيْت دون السميدع، فَلم يزل الْبَغي حَتَّى سَار بَعضهم إِلَى بعض

فَخرج مضاض بن عَمْرو من قيقعان فِي كَتِيبَة سائراً إِلَى السميدع وَمَعَ كتيبته عدتهَا من الرماح والدرق وَالسُّيُوف والجعاب يقعقع ذَلِك مَعَهم، وَيُقَال: مَا سميت قيقعان إِلَّا بذلك، وَخرج السميدع بقطوراً من أجياد مَعَه الْخَيل وَالرِّجَال، وَقيل: مَا سمي أجياداً إِلَّا لخُرُوج الْخَيل الْجِيَاد مَعَ السميدع حَتَّى الْتَقَوْا بفاضح فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا فَقتل السميدع وفضحت قطوراً، وَيُقَال: مَا سمي فاضحاً إِلَّا بذلك ثمَّ إِن الْقَوْم تداعوا إِلَى الصُّلْح فَسَارُوا حَتَّى نزلُوا للصالح شعب بِأَعْلَى مَكَّة يُقَال لَهُ: شعب عبد الله بن عَامر بن كويز، فَاصْطَلَحُوا بذلك الشّعب، وَأَسْلمُوا الْأَمر إِلَى مضاض بن عَمْرو فَلَمَّا جمع أَمر أهل مَكَّة وَصَارَ ملكهَا لَهُ دون السميدع نحر للنَّاس وأطعمهم فطبخ النَّاس وأكلوا، فَيُقَال: مَا سمي المطابخ مطابخاً إِلَّا بذلك، وَكَانَ الَّذِي بَين عَمْرو والسميدع أول بغي كَانَ بِمَكَّة فِيمَا يَزْعمُونَ، وَقيل: إِنَّمَا سميت المطابخ؛ لِأَن تبع نحر بهَا وَأطْعم وَكَانَت منزله بِمَكَّة، ثمَّ نشر الله تَعَالَى بني إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِمَكَّة وأخوالهم جرهم إِذْ ذَاك هم الْحُكَّام وولاة الْبَيْت، فَلَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِم مَكَّة وانتشروا بهَا انبسطوا فِي الأَرْض وابتغوا المعاش والتفسح فِي الأَرْض، فَلَا يأْتونَ قوما، وَلَا ينزلون بَلَدا إِلَّا أظهرهم الله عز وَجل عَلَيْهِم بدينهم فوطئوهم وغلبوهم عَلَيْهَا حَتَّى ملئوا الْبِلَاد وَنَفَوْا عَنْهَا العماليق وَمن كَانَ سَاكِنا بِلَادهمْ الَّتِي كَانُوا اصْطَلحُوا عَلَيْهَا من غَيرهم، وجرهم على ذَلِك بِمَكَّة وُلَاة الْبَيْت لَا ينازعهم إِيَّاه بَنو إِسْمَاعِيل لخؤوليتهم وقرابتهم. قَالَ بعض أهل الْعلم: كَانَت العماليق هُوَ وُلَاة الحكم بِمَكَّة فضيعوا حُرْمَة الْحرم، وَاسْتَحَلُّوا مِنْهُ أموراً عظاماً ونالوا مَا لم يَكُونُوا ينالون، فَقَامَ رجل مِنْهُم

يُقَال لَهُ: عُمُوم فَقَالَ: يَا قوم أَبقوا على أَنفسكُم فقد رَأَيْتُمْ وسمعتم من أهلك من صدر الْأُمَم قبلكُمْ قوم هود وَصَالح وَشُعَيْب، فَلَا تَفعلُوا وتواصلوا وَلَا تستخفوا بحرم الله وَمَوْضِع بَيته، وَإِيَّاكُم وَالظُّلم والإلحاد فِيهِ، فَإِنَّهُ مَا سكنه أحد قطّ فظلك فِيهِ وألحد إِلَّا قطع الله دابرهم واستأصل شأفتهم وَبدل أرْضهَا غَيرهم حَتَّى لَا يبْقى لَهُم بَاقِيَة، فَلم يقبلُوا ذَلِك مِنْهُ وتمادوا فِي هلكة أنفسهم، ثمَّ إِن جرهماً وقطوراً خَرجُوا سيارة من الْيمن وأجدبت عَلَيْهِم فَسَارُوا بذراريهم وأنفسهم وَأَمْوَالهمْ، وَقَالُوا: نطلب مَكَانا فِيهِ مرعى تسمن فِيهِ ماشيتنا إِن أعجبنا أَقَمْنَا فِيهِ وَإِلَّا رَجعْنَا إِلَى بِلَادنَا، فَلَمَّا قدمُوا مَكَّة وجدوا فِيهَا مَاء معينا وعضاة ملتفة من سلم وَسمر، ونباتاً أسمن مَوَاشِيهمْ وسعة من الْبِلَاد ودفئاً من الْبرد فِي الشتَاء، قَالُوا إِن هَذَا الْموضع يجمع لنا مَا نُرِيد فأقاموا مَعَ العماليق، وَكَانَ لَا يخرج من الْيمن قوم إِلَّا وَلَهُم ملك يُقيم أَمرهم، وَكَانَ ذَلِك سنة فيهم وَلَو كَانُوا نَفرا يَسِيرا، فَكَانَ مضاض بن عَمْرو ملك جرهم وَكَانَ السميدع ملك قطوراً فَنزل مضاض بن عَمْرو على مَكَّة، فَكَانَ يعشر من دَخلهَا من أَعْلَاهَا وَكَانَ حوزهم وَجه الْكَعْبَة والركن الْأسود وَالْمقَام وَمَوْضِع زَمْزَم مصعد يَمِينا وَشمَالًا وقيقعان إِلَى أَعلَى الْوَادي، وَنزل السميدع أَسْفَل مَكَّة وأجيادين وَكَانَ يعشر من دخل مَكَّة من أَسْفَلهَا، وَكَانَ حوزهم المسفلة وَظهر الْكَعْبَة والركن الْيَمَانِيّ والغربي وأجيادين فبنيا فِيهَا الْبيُوت واتسعا فِي الْمنَازل وكثروا على العماليق، فنازعتهم العماليق فمنعتهم جرهم وأخرجوهم من الْحرم كُله فَكَانُوا فِي أَطْرَافه لَا يدخلونه، فَقَالَ لَهُم صَاحبهمْ عَمْرو: ألم أقل لكم لَا تستخفوا بِحرْمَة الْحرم فغلبتموني؟ فَجعل مضاض والسميدع يقْطَعَانِ الْمنَازل لمن ورد عَلَيْهِمَا من حولهما فَوْقهمَا وكثروا وربلوا وأعجبهم الْبِلَاد، وَكَانُوا قوما عربا وَكَانَ اللِّسَان عَرَبيا، فَكَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام يزور إِسْمَاعِيل، فَلَمَّا سمع لسانهم وإعرابهم سمع لَهُم كلَاما حسنا وَرَأى قوما عربا، وَكَانَ إِسْمَاعِيل قد أَخذ بلسانهم، فَأمر

إِسْمَاعِيل أَن ينْكح فيهم فَخَطب إِلَى مضاض بن عَمْرو ابْنَته رعلة فَزَوجهُ إِيَّاهَا، فَولدت لَهُ عشرَة ذُكُور وَهِي الَّتِي غسلت رَأس إِبْرَاهِيم حِين وضع رجله على الْمقَام، وَتُوفِّي إِسْمَاعِيل وَترك ولدا من رعلة بنت مضاض بن عَمْرو فَقَامَ مضاض بِأَمْر ولد إِسْمَاعِيل وكفلهم؛ لأَنهم بَنو ابْنَته، فَلم يزل أَمر جرهم يعظم بِمَكَّة ويستفحل حَتَّى ولوا الْبَيْت فَكَانُوا ولاته وحجابه وولاة الْأَحْكَام بِمَكَّة، فجَاء سيل فَدخل الْبَيْت فانهدم فأعادته جرهم على بِنَاء إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ طوله فِي السَّمَاء تِسْعَة أَذْرع وَقَالَ بعض أهل الْعلم: كَانَ الَّذِي بنى الْبَيْت لجرهم أَبُو الجدرة فيمس عَمْرو " الجادر " وَسمي بنوه " الجدرة "، ثمَّ إِن جرهم استخفت بِأَمْر الْبَيْت وَالْحرم وارتكبوا أموراً عَظِيمَة وأحدثوا فِيهَا أحداثاً لم تكن، فَقَامَ مضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث فيهم خَطِيبًا فَقَالَ: يَا قوم احْذَرُوا الْبَغي فَإِنَّهُ لَا بَقَاء لأَهله قد رَأَيْتُمْ من كَانَ قبلكُمْ استخفوا بِالْحرم فَلم يعظموه وَتَنَازَعُوا بَينهم وَاخْتلفُوا، حَتَّى سلطكم الله عَلَيْهِم فأخرجتموهم فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد فَلَا تستخفوا بِحَق الْحرم وَحُرْمَة الْبَيْت، فَإِنَّكُم إِن فَعلْتُمْ ذَلِك تخوفت أَن تخْرجُوا مِنْهُ خُرُوج ذل وصغار حَتَّى لَا يقدر أحد مِنْكُم أَن يصل إِلَى الْحرم وَلَا إِلَى زِيَارَة الْبَيْت، فَقَالَ قَائِل مِنْهُم يُقَال لَهُ: مخدع: من الَّذِي يخرجنا مِنْهُ؟ أَلسنا أعز الْعَرَب وَأَكْثَرهم رجَالًا وأموالاً وسلاحاً؟ فَقَالَ مضاض بن عَمْرو: إِذا جَاءَ الْأَمر بَطل مَا تَقولُونَ. فَلم يقتصروا على شَيْء مِمَّا كَانُوا يصنعون، وَكَانَ للبيت خزانَة تبر فِي بَطنهَا يلقى فِيهَا الحلى وَالْمَتَاع الَّذِي يعدي لَهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ لَا سقف لَهُ، فتواعد لَهُ خَمْسَة نفر من جرهم أَن يسرقوا مَا فِيهِ على كل زَاوِيَة من الْبَيْت رجل مِنْهُم واقتحم الْخَامِس فَجعل الله عز وَجل أَعْلَاهُ أَسْفَله وَسقط مُنَكسًا على ذَلِك، وَقيل: لما دخل الْبِئْر سقط عَلَيْهِ حجر من شَفير الْبِئْر فحبسه فِيهَا، وفر الْأَرْبَعَة. قَالَ آخَرُونَ: فَعِنْدَ ذَلِك مسخت الْأَركان الْأَرْبَعَة فَلَمَّا كَانَ من أَمر هَؤُلَاءِ الَّذين حاولوا سَرقَة مَا فِي خزانَة الْكَعْبَة مَا كَانَ، بعث الله سُبْحَانَهُ حَيَّة سَوْدَاء الظّهْر بَيْضَاء الْبَطن رَأسهَا مثل رَأس الجدي فحرست الْبَيْت خَمْسمِائَة سنة لَا يقربهُ أحد بِشَيْء من معاصي الله تَعَالَى إِلَّا أهلكه الله وَلَا يقدر أحد على سَرقَة مَا كَانَ فِي الْكَعْبَة وَسَيَأْتِي قصَّة رفع الْحَيَّة عِنْد بِنَاء قُرَيْش الْكَعْبَة وَلما طغت جرهم فِي الْحرم دخل رجل مِنْهُم وَامْرَأَة يُقَال لَهما: إساف ونائلة الْبَيْت ففجرا فِيهِ، وَقيل: لم يفجر بهَا فِي الْبَيْت وَلَكِن قبّلها، فمسخهما الله حجرين فأخرجا

فصل ذكر ولايه خزاعه الكعبه بعد جرهم وامر مكه

من الْكَعْبَة ونصبا على الصَّفَا والمروة؛ ليعتبر بهما من رآهما وليزدجر النَّاس عَن مثل مَا ارتكبا، فَلم يزل أَمرهمَا يدرس ويتقادم حَتَّى صَارا صنمين يعبدان حَتَّى كَانَ يَوْم الْفَتْح فكسرا، وَكَانَت مَكَّة لَا يقر فِيهَا ظَالِم وَلَا بَاغ وَلَا فَاجر إِلَّا نفى مِنْهَا، وَكَانَ نزلها بِعَهْد العماليق وجرهم جبابرة، فَكل من أَرَادَ الْبَيْت بِسوء أهلكه الله، فَكَانَت تسمى بذلك الباسة وبكة. فصل ذكر ولَايَة خُزَاعَة الْكَعْبَة بعد جرهم وَأمر مَكَّة عَن أبي صَالح قَالَ: لما طَالَتْ ولَايَة جرهم استحلوا من الْحرم أموراً عظاماً، ونالوا مَا لم يَكُونُوا ينالون، وأكلوا مَال الْكَعْبَة الَّذِي يهدي إِلَيْهَا سرا وَعَلَانِيَة، وَكلما عدا سَفِيه مِنْهُم على مُنكر وجد من أَشْرَافهم من يمنعهُ وَيدْفَع عَنهُ، وظلموا من دَخلهَا من غير أَهلهَا حَتَّى دخل إساف بنائلة الْكَعْبَة ففجر بهَا، أَو قبّلها فمسخا حجرين، فرق أَمرهم فَمِنْهَا وضعُوا وَتَنَازَعُوا أَمرهم بَينهم وَاخْتلفُوا وَكَانُوا قبل ذَلِك من أعز حَيّ فِي الْعَرَب وَأَكْثَرهم رجَالًا وأموالاً وسلاحاً، فَلَمَّا رأى ذَلِك مضاض بن عَمْرو قَامَ فيهم خَطِيبًا ثمَّ ذكر مقَالَته لَهُم الَّتِي ذَكرنَاهَا آنِفا، وَمَا قَالَ لَهُ مخدع فِي الْجَواب، فَعِنْدَ ذَلِك عمد مضاض بن عَمْرو إِلَى غزالين كَانَا فِي الْكَعْبَة من ذهب وأسياف قلعية فَدَفعهَا فِي مَوضِع بِئْر زَمْزَم، وَكَانَ مَاء زَمْزَم قد نضب وَذهب لما أحدثت جرهم فِي الْحرم مَا أحدثت حَتَّى عَفا مَكَان الْبِئْر ودرس، فَقَامَ مضاض بن عَمْرو وَبَعض وَلَده فِي لَيْلَة مظْلمَة فحفر فِي مَوضِع زَمْزَم وأعمق ثمَّ دفن فِيهَا الأسياف والغزالين، فَبَيْنَمَا هم على ذَلِك إِذْ كَانَ من أهل مأرب مَا كَانَ، وَذَلِكَ أَلْقَت طريفة الكاهنة إِلَى زَوجهَا عَمْرو بن عَامر، الَّذِي يُقَال لَهُ: مزيقياء بن مَاء السَّمَاء وَهُوَ عَمْرو بن عَامر بن حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن امْرِئ الْقَيْس أَنَّهَا قد رَأَتْ فِي كهانتها أَن سد مأرب

سيخرب وَأَنه سَيَأْتِي سيل العرم فيخرب الجنتين، فَبَاعَ عَمْرو بن عَامر أَمْوَاله وَسَار هُوَ وَقَومه من بلد إِلَى بلد لَا يطئون بَلَدا إِلَّا غلبوا عَلَيْهِ وقهروا أَهله حَتَّى يخرجُوا مِنْهُ، وَلذَلِك حَدِيث طَوِيل مَذْكُور فِي مَحَله، فَلَمَّا قاربوا مَكَّة سَارُوا وَمَعَهُمْ طريفة الكاهنة، فَقَالَت لَهُم: سِيرُوا فَلَنْ تجتمعوا أَنْتُم وَمن خَلفْتُمْ أبدا ثمَّ قَالَت لَهُم: وَحقّ مَا أَقُول مَا عَلمنِي مَا أَقُول إِلَّا الْحَكِيم الْمُحكم رب جَمِيع الْإِنْس من عرب وَمن عجم. قَالُوا لَهَا: مَا شَأْنك يَا طريفة؟ قَالَت: خُذُوا الْبَعِير الشدقم فخضبوه بِالدَّمِ بلون أَرض جرهم جيران بَيته الْمحرم، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى مَكَّة وَأَهْلهَا جرهم قد قهروا النَّاس وحازوا ولَايَة الْبَيْت على بني إِسْمَاعِيل وَغَيرهم، أرسل إِلَيْهِم ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر يَقُول: إِنَّا قد خرجنَا من بِلَادنَا فَلم ننزل بَلَدا إِلَّا فسح أَهلهَا لنا وَمن خَرجُوا عَنَّا فنقيم مَعَهم حَتَّى نرسل روادنا فيرتادوا لنا بَلَدا تحملنا فأفسحوا لنا فِي بِلَادكُمْ حَتَّى نُقِيم قدر مَا نستريح وَنُرْسِل روادنا إِلَى الشَّام وَإِلَى الْمشرق فَحَيْثُمَا بلغنَا أَنه أمثل لحقنا بِهِ، وَأَرْجُو أَن يكون مقامنا مَعكُمْ يَسِيرا، فَأَبت جرهم ذَلِك واستكبروا فِي أنفسهم وَقَالُوا: لَا وَالله مَا نحب أَن ينزلُوا مَعنا فيضيقوا علنا مراحلنا ومواردنا فارحلوا عَنَّا حَيْثُ جئْتُمْ فَلَا حَاجَة لنا بجواركم، فَأرْسل إِلَيْهِم ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر أَنه لَا بُد لي من الْمقَام بِهَذَا الْبَلَد حولا حَتَّى ترجع إليّ رُسُلِي الَّتِي أرْسلت، فَإِن تركتموني طَوْعًا نزلت وحمدتكم وآسيتكم فِي الرعى وَالْمَاء، وَإِن أَبَيْتُم أَقمت على كرهكم ثمَّ لم ترعوا معي إِلَّا فضلا فَإِن قاتلتموني قاتلتكم ثمَّ إِن ظَهرت عَلَيْكُم سبيت النِّسَاء وَقتلت الرِّجَال وَلم أترك مِنْكُم أحدا ينزل الْحرم أبدا، فَأَبت جرهم أَن تتركه طَوْعًا وَبعثت لقتاله فَاقْتَتلُوا ثَلَاثَة أَيَّام، فانهزمت جرهم فَلم ينفلت مِنْهُم إِلَّا الشريد، وَكَانَ مضاض بن عَمْرو قد اعتزل جرهم وَلم يُعِنْهُمْ فِي ذَلِك وَقَالَ: قد كنت أحذركم من هَذَا ثمَّ رَحل هُوَ وَولده وَأهل بَيته حَتَّى نزلُوا قنونى

وحلى وَمَا حول ذَلِك وفنيت جرهم أفناهم السَّيْف فِي تِلْكَ الْحَرْب، وشرد بَقِيَّة جرهم وَسَارُوا بهم فِي الْبِلَاد وسلط عَلَيْهِم الذَّر والرعاف، وَهلك بَقِيَّتهمْ بأضم حَتَّى كَانَ آخِرهم موتا امْرَأَة رئيت تَطوف بِالْبَيْتِ بعد خُرُوجهمْ مِنْهَا بِزَمَان فعجبوا من طولهَا وَعظم خلقتها حَتَّى قَالَ لَهَا قَائِل: أجنية أم إنسية؟ فَقَالَت: بل إنسية من جرهم، وأنشدت رجزاً فِي معنى حَدِيثهمْ، واستكبرت بَعِيرًا من رجلَيْنِ من جُهَيْنَة فاحتملاها على الْبَعِير إِلَى أَرض خَيْبَر فَلَمَّا أنزلاها بالمنزل الَّذِي سمت لَهما سألاها عَن المَاء فَأَشَارَتْ لَهما إِلَى مَوضِع المَاء فوليا عَنْهَا وَإِذا الذَّر قد تعلق بهَا حَتَّى بلغ خاشيمها وَهِي تنادي بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور حَتَّى دخل الذَّر حلقها وَسَقَطت لوجهها وَذهب الجهينيان إِلَى المَاء فاستوطناه، فَمن هُنَالك صَار موقع جُهَيْنَة بالحجاز وَقرب الْمَدِينَة وَإِنَّمَا هم من قضاعة، وقضاعة من ريف الْعرَاق وَأقَام ثَعْلَبَة بِمَكَّة وَمَا حولهَا فِي قومه وعساكره حولاه فَأَصَابَتْهُمْ الْحمى، وَكَانُوا بِبَلَد لَا يَدْرُونَ فِيهِ بالحمى فدعوا طريفة فشكوا إِلَيْهَا الَّذِي أَصَابَهُم، فَقَالَت لَهُم: قد أصابني الَّذِي تشكون وَهُوَ مفرّق مَا بَيْننَا قَالُوا: فَمَاذَا تأمرين؟ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم ذَا هم بعيد وَحمل شَدِيد ومزاد جَدِيد فليلحق بقصر عمان المشيد فَكَانَ أَزْد عمان، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم ذَا جلد وَقصر وصبر على أزمات الدَّهْر فَعَلَيهِ بالأراك من بطن مر فَكَانَت خُزَاعَة، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الراسيات فِي الوحل المطعمات فِي الْمحل فليلحق بِيَثْرِب ذَات النّخل، فَكَانَت الْأَوْس والخزرج، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الْخمر والخمير وَالْملك والمعامير ويلبس الديباج وَالْحَرِير فليلحق

ببصرى وعوير وهما من أَرض الشَّام فَكَانَ الَّذِي سكنهما آل جَفْنَة من غَسَّان، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الثِّيَاب الرقَاق وَالْخَيْل الْعتاق وكنوز الأوراق وَالدَّم المهراق فليلحق بالعراق فَكَانَ الَّذِي سكنها " آل خُزَيْمَة الأبرس " حَتَّى جَاءَهُم روادهم، فافترقوا من مَكَّة فرْقَتَيْن فرقة تَوَجَّهت إِلَى عمان وَهُوَ أَزْد عمان، وَسَار ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر نَحْو الشَّام فَنزلت الْأَوْس والخزرج ابْنا حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر وهم الْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ، وَمَضَت غَسَّان فنزلوا الشَّام، فانحازت خُزَاعَة إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا ربيعَة بن حَارِثَة بن عمر بن عَامر وَهُوَ لحي فولي أَمر مَكَّة وحجابة الْكَعْبَة، فَلَمَّا أخررت خُزَاعَة أَمر مَكَّة وصاروا أَهلهَا، جَاءَهُم بَنو إِسْمَاعِيل وَقد كَانُوا اعتزلوا حَرْب جرهم وخزاعة فَسَأَلُوهُمْ السُّكْنَى مَعَهم وحولهم فأذنوا لَهُم، فَلَمَّا رأى ذَلِك مضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث وَقد كَانَ أَصَابَهُ من الصبابة إِلَى مَكَّة مَا أحزنه، أرسل إِلَى خُزَاعَة يستأذنهم فِي الدُّخُول عَلَيْهِم وَالنُّزُول مَعَهم بِمَكَّة فِي جوارهم، ومتّ إِلَيْهِم بِرَأْيهِ وتوريعه قومه عَن الْقِتَال وَسُوء السِّيرَة فِي الْحرم واعتزاله الْحَرْب، فَأَبت خُزَاعَة أَن يقربوهم ونفتهم عَن الْحرم كُله، وَلم يتركوهم ينزلون مَعَهم، فَقَالَ عَمْرو بن لحي وَهُوَ ربيعَة بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر لِقَوْمِهِ: من وجد مِنْكُم جرهميّاً وَقد قَارب الْحرم فدمه هدر، فنزعت إبل لمضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مضاض بن عَمْرو الجرهمي من قنوني تُرِيدُ مَكَّة فَخرج فِي طلبَهَا حَتَّى وجد أَثَرهَا قد رحلت مَكَّة، فَمضى على الْجبَال من نَحْو أجياد حَتَّى ظهر على أبي قبيس يبصر الْإِبِل فِي بطن وَادي مَكَّة، فأبصر الْإِبِل تنحر وتؤكل لَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهَا يخَاف إِن هَبَط الْوَادي أَن يقتل فولى منصرفاً إِلَى أَهله وَأَنْشَأَ يَقُول: اد جَدِيد فليلحق بقصر عمان المشيد فَكَانَ أَزْد عمان، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم ذَا جلد وَقصر وصبر على أزمات الدَّهْر فَعَلَيهِ بالأراك من بطن مر فَكَانَت خُزَاعَة، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الراسيات فِي الوحل المطعمات فِي الْمحل فليلحق بِيَثْرِب ذَات النّخل، فَكَانَت الْأَوْس والخزرج، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الْخمر والخمير وَالْملك والمعامير ويلبس الديباج وَالْحَرِير فليلحق ببصرى وعوير وهما من أَرض الشَّام فَكَانَ الَّذِي سكنهما آل جَفْنَة من غَسَّان، ثمَّ قَالَت: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الثِّيَاب الرقَاق وَالْخَيْل الْعتاق وكنوز الأوراق وَالدَّم المهراق فليلحق بالعراق فَكَانَ الَّذِي سكنها " آل خُزَيْمَة الأبرس " حَتَّى جَاءَهُم روادهم، فافترقوا من مَكَّة فرْقَتَيْن فرقة تَوَجَّهت إِلَى عمان وَهُوَ أَزْد عمان، وَسَار ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر نَحْو الشَّام فَنزلت الْأَوْس والخزرج ابْنا حَارِثَة بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن عَامر وهم الْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ، وَمَضَت غَسَّان فنزلوا الشَّام، فانحازت خُزَاعَة إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا ربيعَة بن حَارِثَة بن عمر بن عَامر وَهُوَ لحي فولي أَمر مَكَّة وحجابة الْكَعْبَة، فَلَمَّا أخررت خُزَاعَة أَمر مَكَّة وصاروا أَهلهَا، جَاءَهُم بَنو إِسْمَاعِيل وَقد كَانُوا اعتزلوا حَرْب جرهم وخزاعة فَسَأَلُوهُمْ السُّكْنَى مَعَهم وحولهم فأذنوا لَهُم، فَلَمَّا رأى ذَلِك مضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث وَقد كَانَ أَصَابَهُ من الصبابة إِلَى مَكَّة مَا أحزنه، أرسل إِلَى خُزَاعَة يستأذنهم فِي الدُّخُول عَلَيْهِم وَالنُّزُول مَعَهم بِمَكَّة فِي جوارهم، ومتّ إِلَيْهِم بِرَأْيهِ وتوريعه قومه عَن الْقِتَال وَسُوء السِّيرَة فِي الْحرم واعتزاله الْحَرْب، فَأَبت خُزَاعَة أَن يقربوهم ونفتهم عَن الْحرم كُله، وَلم يتركوهم ينزلون مَعَهم، فَقَالَ عَمْرو بن لحي وَهُوَ ربيعَة بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر لِقَوْمِهِ: من وجد مِنْكُم جرهميّاً وَقد قَارب الْحرم فدمه هدر، فنزعت إبل لمضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مضاض بن عَمْرو الجرهمي من قنوني تُرِيدُ مَكَّة فَخرج فِي طلبَهَا حَتَّى وجد أَثَرهَا قد رحلت مَكَّة، فَمضى على الْجبَال من نَحْو أجياد حَتَّى ظهر على أبي قبيس يبصر الْإِبِل فِي بطن وَادي مَكَّة، فأبصر الْإِبِل تنحر وتؤكل لَا سَبِيل لَهُ إِلَيْهَا يخَاف إِن هَبَط الْوَادي أَن يقتل فولى منصرفاً إِلَى أَهله وَأَنْشَأَ يَقُول: كَأَن لم يكن بَين الْحجُون إِلَى الصَّفَا ... أنيس وَلم يسمر بِمَكَّة سامر الأبيات وَانْطَلق مضاض بن عَمْرو نَحْو الْيمن إِلَى أَهله وَهُوَ يتذاكرون مَا حَال بَينهم

وَبَين مَكَّة، وَمَا فارقوا من أمنها وملكها فَحَزِنُوا على ذَلِك حزنا شَدِيدا فبكوا على مَكَّة، وَجعلُوا يَقُولُونَ الْأَشْعَار فِي مَكَّة، واختصت خُزَاعَة بحجابة الْكَعْبَة وَولَايَة أَمر مَكَّة وَفِيهِمْ بَنو إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام بِمَكَّة وحولها، لَا ينازعهم أحد مِنْهُم فِي شَيْء من ذَلِك وَلَا يطلبونه، فَتزَوج لحي وَهُوَ ربيعَة بن حَارِثَة بهبرة بنت عَامر بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مضاض بن عَمْرو الجرهمي ملك جرهم فَولدت لَهُ عمرا وَهُوَ عَمْرو بن لحي وَبلغ بِمَكَّة وَفِي الْعَرَب من الشّرف مَا لَا يبلغهُ عَرَبِيّ قبله وَلَا بعده فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهُوَ الَّذِي قسم بَين الْعَرَب فِي حطمة حطموها عشرَة آلَاف نَاقَة، وَقد كَانَ فَقَأَ عين عشْرين فحلاً، وَكَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا ملك ألف نَاقَة فَقَأَ عين فَحل إبِله، وَكَانَ أول من أطْعم الْحَاج بِمَكَّة سدائف الْإِبِل ولحمانه على الثَّرِيد وَعم فِي تِلْكَ السّنة جَمِيع حَاج العري بِثَلَاثَة أَثوَاب من برود الْيمن، وَكَانَ قد ذهب شرفه فِي الْعَرَب كل مَذْهَب، وَكَانَ قَوْله فيهم دينا منيفاً لَا يُخَالف، وَهُوَ الَّذِي بَحر الْبحيرَة ووصّل الوصيلة وَحمى الحام وسيّب السائبة وَنصب الْأَصْنَام حول الْكَعْبَة، وَجَاء بهبل من هيت من أَرض الجزيرة فنصبه فِي بطن الْكَعْبَة فَكَانَت قُرَيْش تستقسم عِنْده بالأزلام، وَهُوَ أول من غير الحنيفية دين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، فَكَانَ عَمْرو بن لحي يَلِي الْبَيْت وَولده من بعده خَمْسمِائَة سنة حَتَّى كَانَ آخِرهم " خَلِيل بن حبشية " بن سلول بن كَعْب بن عَمْرو فَتزَوج إِلَيْهِ قصي ابْنَته حبى ابْنة خَلِيل، وَكَانُوا هم حجابه وخزانه والقوام بِهِ وولاة الحكم بِمَكَّة، وَهُوَ عَامر لم يجر فِيهِ خراب وَلم يبن خُزَاعَة فِيهِ شَيْئا بعد جرهم وَلم يسرق مِنْهُ شَيْء علمناه وَلَا سمعنَا بِهِ، وترافدوا على تَعْظِيمه والذب عَنهُ.

فصل مَا جَاءَ فِي ولَايَة قصي بن كلاب الْبَيْت الْحَرَام وَأمر مَكَّة بعد خُزَاعَة: عَن ابْن جريج وَابْن إِسْحَاق قَالَا: إِقَامَة خُزَاعَة على مَا كَانَت عَلَيْهِ من ولَايَة الْبَيْت وَالْحكم بِمَكَّة ثَلَاثمِائَة سنة، وَكَانَ بعض التبابعة قد سَار إِلَيْهِ وَأَرَادَ هَدمه وتخريبه فَقَامَتْ دونه خُزَاعَة فقاتلت عَلَيْهِ أَشد الْقِتَال حَتَّى رَجَعَ ثمَّ جَاءَ آخر فكذاك، وَأما تبع الثَّالِث الَّذِي نحر لَهُ وكساه وَجعل لَهُ علفاً، وَأقَام عِنْده أَيَّامًا ينْحَر كل يَوْم مائَة بَدَنَة لَا يرزؤه هُوَ وَلَا أحدا من عسكره شَيْء مِنْهَا، يردهَا النَّاس فِي اللخاخ والشعاب فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا حوائجهم ثمَّ يَقع الطير عَلَيْهَا فيأكل ثمَّ يتناهبها السبَاع إِذا أمست لَا يرد عَنْهَا إِنْسَان وَلَا طَائِر وَلَا سبع ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْيمن إِنَّمَا كَانَ فِي عهد قُرَيْش فَمَكثت خُزَاعَة على مَا هِيَ عَلَيْهِ وقريش إِذْ ذَاك فِي بني كنَانَة مُتَفَرِّقَة، وَقد قدم فِي بعض الزَّمَان حَاج قضاعة فيهم ربيعَة بن حزَام بن ضبة بن عبد كثير بن عذرة بن سعد بن زيد، وَقد هلك كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب وَترك زهرَة وقصيا ابْني كلاب مَعَ فَاطِمَة بنت عَمْرو بن سعد بن شنل وزهرة أكبرهما فَتزَوج ربيعَة بن حزَام أمهما، وزهرة رجل بَالغ وقصي فطيم أَو فِي سنّ الفطيم، فاحتملها ربيعَة إِلَى بِلَاده من أَرض عدن من أَشْرَاف الشَّام فاحتملت مَعهَا قصيّا لصغره وتخلف زهرَة فِي قومه، فَولدت فَاطِمَة بنت عَمْرو لِرَبِيعَة رزاح بن ربيعَة فَكَانَ أَخا قصي بن كلاب لأمه، ولربيعة بن حزَام من امْرَأَة أُخْرَى ثَلَاثَة نفر حن ومحمودة وجلهمة بَنو ربيعَة، فَبينا قصي بن كلاب فِي أَرض قضاعة لَا ينتمي إِلَّا إِلَى ربيعَة بن حزَام إِذْ كَانَ بَينه وَبَين رجل من قضاعة شَيْء وقصي قد بلغ فَقَالَ لَهُ الْقُضَاعِي: أَلا تلْحق بنسبك وقومك فَإنَّك لست منا. فَرجع قصيّ إِلَى أمه وَقد وجد فِي نَفسه مِمَّا قَالَ لَهَا الْقُضَاعِي فَسَأَلَهَا عَمَّا قَالَ لَهُ فَقَالَت: أَنْت وَالله يَا بني خير مِنْهُ

وَأكْرم أَنْت ابْن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب وقومك عِنْد الْبَيْت الْحَرَام وَمَا حوله. فأجمع قصي على الْخُرُوج إِلَى قومه واللحاق بهم وَكره الغربة فِي أَرض قضاعة فَقَالَت لَهُ أمه: يَا بني لَا تعجل بِالْخرُوجِ حَتَّى يدْخل عَلَيْك الشَّهْر الْحَرَام فَتخرج فِي حَاج الْعَرَب فَإِنِّي أخْشَى عَلَيْك. فَأَقَامَ قصي حَتَّى دخل الشَّهْر الْحَرَام وَخرج فِي حَاج قضاعة حَتَّى قدم مَكَّة فَلَمَّا فرغ من الْحَج وَأقَام بهَا، وَكَانَ قصي رجلا جليداً حازماً بارعاً فَخَطب إِلَى خَلِيل بن حبشية الْخُزَاعِيّ ابْنَته حبى ابْنة خَلِيل، فَعرف خَلِيل النّسَب فَرغب فِي الرجل فَزَوجهُ خَلِيل، وَكَانَ خَلِيل يَوْمئِذٍ يَلِي الْكَعْبَة وَأمر مَكَّة، فَأَقَامَ قصي مَعَه حَتَّى ولدت حبى لقصي عبد الدَّار وَهُوَ أكبر وَلَده وَعبد منَاف وَعبد الْعُزَّى وَعبد بن قصي. فَكَانَ خَلِيل بِفَتْح الْبَيْت، فَإِذا اعتل أعْطى ابْنَته حبى الْمِفْتَاح ففتحته فَإِذا اعتلت أَعْطَتْ الْمِفْتَاح زَوجهَا قصياً أَو بعض وَلَدهَا ففتحه، وَكَانَ قصي يعْمل فِي حيازته إِلَيْهِ وَقطع ذكر خُزَاعَة عَنهُ، فَلَمَّا حضرت خَلِيلًا الْوَفَاة نظر إِلَى قصي وَإِلَى مَا انْتَشَر لَهُ من الْوَلَد من ابْنَته فَرَأى أَن يَجْعَلهَا فِي ولد ابْنَته، فدعى قصيّاً فَجعل لَهُ ولَايَة الْبَيْت وَأسلم إِلَيْهِ الْمِفْتَاح وَكَانَ يكون عِنْد حبى، فَلَمَّا هلك خَلِيل أَبَت خُزَاعَة أَن تَدعه وَذَاكَ وَأخذُوا الْمِفْتَاح من حبى، وَيذكر أَيْضا أَن أَبَا غبشان من خُزَاعَة، واسْمه سليم، وَكَانَت لَهُ ولَايَة الْكَعْبَة بَاعَ مَفَاتِيح الْكَعْبَة من قصي بزق خمر فَقيل: " أخسر من صَفْقَة أبي غبشان " ذكره المَسْعُودِيّ والأصبهاني فِي الْأَمْثَال. فَعِنْدَ ذَلِك هَاجَتْ الْحَرْب بَينه وَبَين خُزَاعَة، فَمشى قصي إِلَى رجال من قومه قُرَيْش وَبني كنَانَة ودعاهم إِلَى أَن يقومُوا مَعَه فِي ذَلِك وَأَن ينصروه ويعضدوه فَأَجَابُوهُ إِلَى نَصره، وَأرْسل قصي إِلَى أَخِيه لأمه رزاح بن ربيعَة وَهُوَ بِبِلَاد قومه من قضاعة يَدعُوهُ إِلَى نَصره ويعلمه مَا حَالَتْ خُزَاعَة بَينه وَبَينه من ولَايَة الْبَيْت، ويسأله الْخُرُوج إِلَيْهِ من إِجَابَة قومه، فَقَامَ رزاح فِي قومه فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك وَخرج رزاح بن ربيعَة وَمَعَهُ إخْوَته من أَبِيه فِيمَن تَبِعَهُمْ من قضاعة فِي حَاج الْعَرَب مُجْتَمعين بالنصر قصي وَالْقِيَام مَعَه، وفلما اجْتمع النَّاس بِمَكَّة خَرجُوا إِلَى الْحَج فوقفوا بِعَرَفَة ونزلوا منى، وقصي مجمع على مَا أجمع عَلَيْهِ من قِتَالهمْ بِمن مَعَه من قُرَيْش وَبني كنَانَة وَمن قدم عَلَيْهِ مَعَ أَخِيه رزاح من قضاعة، فَلَمَّا كَانَ آخر أَيَّام منى أرْسلت قضاعة إِلَى خُزَاعَة يَسْأَلُونَهُمْ أَن يسلمُوا إِلَى قصي مَا جعل لَهُ خَلِيل، وعظموا عَلَيْهِم الْقِتَال فِي الْحرم وحذروهم الظُّلم وَالْبَغي بِمَكَّة وذكروهم مَا كَانَت فِيهِ جرهم وَمَا صَارَت إِلَيْهِ حِين ألحدوا فِيهِ الظُّلم، فَأَبت خُزَاعَة أَن تسلم ذَلِك فَاقْتَتلُوا بمنقضى مأزمي منى فَسمى

ذَلِك الْمَكَان المفجر؛ لما فجر فِيهِ وَسَفك من الدَّم وانتهك من حرمته، فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا حَتَّى كثرت الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا وفشت فيهم الْجِرَاحَات، وحاج الْعَرَب جَمِيعًا من مُضر واليمن مستنكفون ينظرُونَ إِلَى قِتَالهمْ ثمَّ تداعوا إِلَى الصُّلْح وَدخلت قبائل الْعَرَب بَينهم وعظموا على الْفَرِيقَيْنِ سفك الدِّمَاء والفجور فِي الْحرم فَاصْطَلَحُوا على ن يحكموا بَينهم رجلا من الْعَرَب فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ، فحكموا يعمر بن عون بن كَعْب بن عَامر بن اللَّيْث ين بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة وَكَانَ رجلا شريفاً فَقَالَ لَهُم: مَوْعدكُمْ لنا الْكَعْبَة غَدا فَاجْتمع النَّاس وعدوا الْقَتْلَى فَكَانَت فِي خُزَاعَة أَكثر مِنْهَا فِي قُرَيْش وقضاعة وكنانة، وَلَيْسَ كل بني كنَانَة قَاتل مَعَ قصي خُزَاعَة إِنَّمَا كَانَت مَعَ قُرَيْش من بني كنَانَة فلال يسير واعتزلت عَنْهَا بكر بن عبد مَنَاة قاطبة، فَلَمَّا اجْتمع النَّاس بِفنَاء الْكَعْبَة قَامَ يعمر بن عون فَقَالَ: أَلا إِنِّي قد شدخت مَا كَانَ بَيْنكُم من دم تَحت قدميّ هَاتين فَلَا تباحد لأحد على أحد فِي دم وَإِنِّي حكمت لقصي بحجابة الْكَعْبَة وَولَايَة أَمر مَكَّة دون خُزَاعَة كَمَا جعل لَهُ خَلِيل وَأَن يخلي بَينه وَبَين ذَلِك، وَأَن لَا تخرج خُزَاعَة من مساكنها بِمَكَّة فَسُمي يعمر ذَلِك الْيَوْم " الشّدّاخ " فَسلمت خُزَاعَة لقصي وافترق النَّاس. ميعاً وفشت فيهم الْجِرَاحَات، وحاج الْعَرَب جَمِيعًا من مُضر واليمن مستنكفون ينظرُونَ إِلَى قِتَالهمْ ثمَّ تداعوا إِلَى الصُّلْح وَدخلت قبائل الْعَرَب بَينهم وعظموا على الْفَرِيقَيْنِ سفك الدِّمَاء والفجور فِي الْحرم فَاصْطَلَحُوا على ن يحكموا بَينهم رجلا من الْعَرَب فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ، فحكموا يعمر بن عون بن كَعْب بن عَامر بن اللَّيْث ين بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة وَكَانَ رجلا شريفاً فَقَالَ لَهُم: مَوْعدكُمْ لنا الْكَعْبَة غَدا فَاجْتمع النَّاس وعدوا الْقَتْلَى فَكَانَت فِي خُزَاعَة أَكثر مِنْهَا فِي قُرَيْش وقضاعة وكنانة، وَلَيْسَ كل بني كنَانَة قَاتل مَعَ قصي خُزَاعَة إِنَّمَا كَانَت مَعَ قُرَيْش من بني كنَانَة فلال يسير واعتزلت عَنْهَا بكر بن عبد مَنَاة قاطبة، فَلَمَّا اجْتمع النَّاس بِفنَاء الْكَعْبَة قَامَ يعمر بن عون فَقَالَ: أَلا إِنِّي قد شدخت مَا كَانَ بَيْنكُم من دم تَحت قدميّ هَاتين فَلَا تباحد لأحد على أحد فِي دم وَإِنِّي حكمت لقصي بحجابة الْكَعْبَة وَولَايَة أَمر مَكَّة دون خُزَاعَة كَمَا جعل لَهُ خَلِيل وَأَن يخلي بَينه وَبَين ذَلِك، وَأَن لَا تخرج خُزَاعَة من مساكنها بِمَكَّة فَسُمي يعمر ذَلِك الْيَوْم " الشّدّاخ " فَسلمت خُزَاعَة لقصي وافترق النَّاس. قَالَ السُّهيْلي: وَكَانَ الأَصْل فِي انْتِقَال ولَايَة الْبَيْت من ولَايَة مُضر إِلَى خُزَاعَة أَن الْحرم حِين ضَاقَ عَن ولد نزار وَبعث فِيهِ إياداً، أخرجتهم بَنو مُضر بن نزار وجلوهم عَن مَكَّة، تعجدوا فِي اللَّيْل إِلَى الرُّكْن الْأسود فاقتلعوه وَاحْتَمَلُوهُ على بعير فورخ الْبَعِير بِهِ وَسقط إِلَى الأَرْض وجعلوه على آخر فورخ أَيْضا وعَلى الثَّالِث فَفعل مثل ذَلِك دفنوه وذهبوا فَلَمَّا أصبح أهل مَكَّة وَلم يروه وَقَعُوا فِي كرب عَظِيم، وَكَانَت امْرَأَة من خُزَاعَة قد بصرت بِهِ حِين دفن وأعلمت قَومهَا بذلك فَحِينَئِذٍ أخذت على خُزَاعَة

على وُلَاة الْكَعْبَة الْبَيْت أَن ينحلوا لَهُم عَن ولَايَته ويدلوهم على الْحجر فَفَعَلُوا ذَلِك، فَمن هُنَالك صَارَت ولَايَة الْبَيْت لخزاعة إِلَى أَن صيرها أَبُو غبشان إِلَى عبد منَاف هَذَا قَول الزبير. فولى قصي بن كلاب حجابة الْكَعْبَة وَأمر مَكَّة وَجمع قومه من قُرَيْش من مَنَازِلهمْ إِلَى مَكَّة يستعز بهم وتملك على قومه، وخزاعة مُقِيمَة بِمَكَّة على رباعهم ومساكنهم وَلم يتحركوا وَلم يخرجُوا مِنْهَا، فَلم يزَالُوا على ذَلِك حَتَّى الْآن، وَكَانَ قصي أول رجل من بني كنَانَة أضَاف ملكا وأطاع لَهُ بِهِ قومه، فَكَانَت إِلَيْهِ الحجابة والرفادة والسقاية والندوة واللواء والقيادة، وَلما جمع قُرَيْش قصياً بِمَكَّة سمي مجمعا، فحاز قصي شرف مَكَّة وابتنى دَار الندوة، وفيهَا كَانَت قُرَيْش تقضي أمورها وَلم يكن يدخلهَا من قُرَيْش من غير ولد قصي إِلَّا ابْن أَرْبَعِينَ سنة للمشورة وَكَانَ يدخلهَا ولد قصي كلهم أَجْمَعُونَ وخلفاؤهم فَلَمَّا كبر قصي وَكَانَ عبد الدَّار أكبر وَلَده وبكره وَكَانَ عبد منَاف قد شرف فِي زمَان أَبِيه وَذهب شرفه على كل مَذْهَب وَعبد الدَّار وَعبد الْعُزَّى وَعبد بَنو قصي بهَا لم يبلغُوا وَلَا أحد من قَومهمْ من قُرَيْش مَا بلغ عبد منَاف من الذّكر والشرف والعز، وَكَانَ قصي وحبى بنت خَلِيل يُحِبَّانِ عبد الدَّار ويرقان عَلَيْهِ؛ لما يريان من شرف عبد منَاف عَلَيْهِ وَهُوَ أصفر مِنْهُ. فَقَالَت لَهُ حبي: لَا وَالله لَا أرْضى حَتَّى يخص عبد الدَّار بِشَيْء يلْحقهُ بأَخيه. فَقَالَ قصي: وَالله لألحقنه بِهِ ولأحبونه بِذرْوَةِ الشّرف حَتَّى لَا يدْخل أحد من قُرَيْش وَلَا غَيرهَا الْكَعْبَة إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يعصون لَهُ أمرا وَلَا يعقدون لِوَاء إِلَّا عِنْده، فأجمع قصي على أَن يقسم أُمُور مَكَّة السِّتَّة الَّتِي فِيهَا الذّكر والشرف والعز بَين ابنيه، فَأعْطى عبد الدَّار السدَانَة وَهِي الحجابة وَدَار الندوة واللواء، وَأعْطى عبد منَاف السِّقَايَة والرفاة والقيادة فَأَما السدَانَة وَهِي الحجابة أَي: خدمَة الْبَيْت وَتَوَلَّى أمره وَفتح بَابه وإغلاقه، فيروى إِنَّهَا كَانَت قبل قُرَيْش لطسم قَبيلَة من عَاد فاستخفوا بِحقِّهِ وَاسْتَحَلُّوا حرمته

فأهلكهم الله، ثمَّ وليته بعدهمْ جرهم فاستخفوا بِحقِّهِ وَاسْتَحَلُّوا حرمته فأهلكهم الله، ثمَّ وليته خُزَاعَة ثمَّ بعد خُزَاعَة ولي قصي بن كلاب حجابة الْكَعْبَة وَأمر مَكَّة ثمَّ أعْطى وَلَده عبد الدَّار السدَانَة وَدَار الندوة واللواء، وَأعْطى عبد منَاف السِّقَايَة والرفادة والقيادة فَلَمَّا هلك قصي أقيم أمره فِي قومه بعد وَفَاته على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاته، وَولى عبد الدَّار حجابة الْبَيْت وَولَايَة دَار الندوة واللواء فَلم يزل عَلَيْهِ حَتَّى هلك، وَجعل عبد الدَّار الحجابة بعده إِلَى ابْنه عُثْمَان بن عبد الدَّار، وَجعل دَار الندوة إِلَى ابْنه عبد منَاف بن عبد الدَّار، أما الندوة فَلم تزل بَنو عبد منَاف بن عبد الدَّار يلون الندوة دون ولد عبد الدَّار، فَكَانَت قُرَيْش إِذا أَرَادَت أَن تشَاور فِي أَمر فتحهَا لَهُم عَامر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار وَبَعض وَلَده أَو ولد أَخِيه، وَكَانَت الْجَارِيَة إِذا حَاضَت أدخلت دَار الندوة ثمَّ شقّ عَلَيْهَا بعض ولد عبد منَاف بن عبد الدَّار درعها، ثمَّ درعها إِيَّاه وانقلب بهَا أهلوها فحجبوها، فَكَانَ عَامر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار يُسمى محيضاً، وَإِنَّمَا سميت دَار الندوة لِاجْتِمَاع الندى فِيهَا يندونها أَي: يَجْلِسُونَ فِيهَا لإبرام أُمُورهم وتشاورهم. وَأما السدَانَة: فَلم تزل بَنو عُثْمَان بن عبد الدَّار يلون الحجابة دون ولد عبد الدَّار، ثمَّ وَليهَا عبد الْعُزَّى بن عُثْمَان بن عبد الدَّار، ثمَّ وَليهَا وَلَده أَبُو طَلْحَة عبد الله بن عبد الْعُزَّى بن عُثْمَان بن عبد الدَّار، ثمَّ وَليهَا وَلَده طَلْحَة من بعده حَتَّى كَانَ فتح مَكَّة فقبضها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَيْديهم، وَفتح الْكَعْبَة ودخلها ثمَّ خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْكَعْبَة مُشْتَمِلًا على الْمِفْتَاح، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله أعطنا الحجابة مَعَ السِّقَايَة فَأنْزل الله عز وَجل: " إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا ". قَالَ عمر بن الْخطاب: فَمَا سَمعتهَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل تِلْكَ السَّاعَة فَتَلَاهَا ثمَّ دَعَا عُثْمَان بن طَلْحَة فَدفع إِلَيْهِ الْمِفْتَاح وَقَالَ: غيبوه ثمَّ قَالَ: خذوها يَا بني طَلْحَة بأمانة الله سُبْحَانَهُ فاعملوا بِالْمَعْرُوفِ خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم إِلَّا ظَالِم،

فَخرج عُثْمَان بن أبي طَلْحَة، إِلَى هجرته مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقَام ابْن عَمه شيبَة بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة فَلم يزل يحجب هُوَ وَولده وَولد أَخِيه وهب بن عُثْمَان حَتَّى قدم ولد عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة وَولده شَافِع بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة من الْمَدِينَة وَكَانُوا بهَا دهراً طَويلا فَلَمَّا قدمُوا حجبوا بني عمهم فولد أبي طَلْحَة جَمِيعًا يحجبون. ويروى عَن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة أَنه قَالَ: كُنَّا نفتح الْكَعْبَة يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس فجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا يُرِيد أَن يدْخل مَعَ النَّاس فتكلمت بِشَيْء فحلم عني ثمَّ قَالَ: " يَا عُثْمَان لَعَلَّك سترى الْمِفْتَاح يَوْمًا سَهْما ضَعْهُ حَيْثُ شِئْت " فَقلت: لقد هَلَكت قُرَيْش يَوْمئِذٍ وذلت. فَقَالَ: " بل عزت ". وَدخل الْكَعْبَة وَوَقعت كَلمته مني موقعاً ظَنَنْت أَن الْأَمر سيصر إِلَى مَا قَالَ. فَأَرَدْت الْإِسْلَام فأخافوني بزبر ديني زبراً شَدِيدا فَلَمَّا دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة عَام الغصبة غير الله قلبِي ودخله الْإِسْلَام، وَلم يقدر لي أَن آتيه حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ قدر لي الْخُرُوج إِلَيْهِ فأدلجت فَلَقِيت خَالِد بن الْوَلِيد فاصطحبنا فلقينا عَمْرو بن الْعَاصِ فاصطحبنا فقدمنا الْمَدِينَة، فَبَايَعته وأقمت مَعَه حَتَّى خرجت مَعَه فِي غَزْوَة الْفَتْح فَلَمَّا دخل مَكَّة قَالَ: " يَا عُثْمَان ائْتِ بالمفتاح ". فَأَتَيْته بِهِ فَأَخذه مني ثمَّ دَفعه إليّ فَقَالَ: " خذوها يَا بني طَلْحَة خالدة تالدة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم إِلَّا ظَالِم ". وَفِي ذَلِك أنزل الله: " إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا ". وَفِي الصَّحِيح، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " كل مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهِيَ تَحت قدمي هَاتين إِلَّا سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْبَيْت ".

وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لما فتح الْكَعْبَة أَخذ من بني شيبَة مِفْتَاح الْكَعْبَة حَتَّى أشفقوا أَن يَنْزعهُ مِنْهُم ثمَّ قَالَ: " يَا بني شيبَة هاكم الْمِفْتَاح وكلوا بِالْمَعْرُوفِ ". رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور. وَقَالَ الْعلمَاء: إِن هَذِه ولَايَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يجوز لأحد أَن يَنْزِعهَا مِنْهُم. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لَا يبعد أَن يُقَال هَذَا إِذا حَافظُوا على حرمته ولازموا الْأَدَب فِي خدمته، أما إِذا لم يحفظوا حرمته فَلَا يبعد أَن يَجْعَل عَلَيْهِم وَمَعَهُمْ مشرف يمنعهُم من هتك حرمته، قَالَ: وَرُبمَا تعلق الْجَاهِل المعكوس الْفَهم بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كلوا بِالْمَعْرُوفِ " فاستباح أَخذ الْأُجْرَة على دُخُول الْبَيْت، وَلَا خلاف بَين الْأمة فِي تَحْرِيم ذَلِك وَأَنه من أشنع الْبدع وأقبح الْفَوَاحِش، قَالَ: وَهَذِه اللَّفْظَة وَإِن صحت فيستدل بهَا على إِقَامَة الْحُرْمَة؛ لِأَن أَخذ الْأُجْرَة لَيْسَ من الْمَعْرُوف وَإِنَّمَا الْإِشَارَة وَالله أعلم إِلَى أَن مَا يتَصَدَّق بِهِ من الْبر والصلة على وَجه التبرر فَلهم أَخذه وَذَلِكَ أكل بِالْمَعْرُوفِ لَا محَالة، وَإِلَى مَا يأخذونه من بَيت المَال على مَا يتولونه من خدمته وَالْقِيَام بمصالحه فَلَا يحل لَهُم إِلَّا قدر مَا يستحقونه. وَالله أعلم. وَأما اللِّوَاء: فَكَانَ فِي أَيدي بني عبد الدَّار كلهم يَلِيهِ مِنْهُم ذَوا السن والشرف فِي الْجَاهِلِيَّة، حَتَّى كَانَ يَوْم أحد فَقتل عَلَيْهِ من قتل مِنْهُم. وَأما الرفادة: فَخرج كَانَت قُرَيْش تخرجه من أموالها فِي كل موسم فتدفعه إِلَى قصي يصنع بِهِ طَعَاما للْحَاج يَأْكُلهُ من لم يكن مَعَه سَعَة وَلَا زَاد، وَكَانَ قصي ينْحَر على كل طَرِيق من طرق مَكَّة جزوراً وينحر بِمَكَّة جزراً كَثِيرَة وَيطْعم النَّاس، وَكَانَ يحمل راجل الْحَاج ويكسو عاريهم، فَلَمَّا هلك قصي أقيم أمره فِي قومه بعد وَفَاته على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاته وَلم تزل لعبد منَاف بن قصي يقوم بهَا حَتَّى توفّي فولي بعده هَاشم بن عبد منَاف فَكَانَ يطعم النَّاس فِي كل موسم مِمَّا يجْتَمع

عِنْده من ترافد قُرَيْش، كَانَ يَشْتَرِي بِمَا يجْتَمع عِنْده دَقِيقًا وَيَأْخُذ من كل ذَبِيحَة من بَدَنَة وبقرة أَو شَاة فَخذهَا فَيجمع ذَلِك كُله ثمَّ يخرد بِهِ الدَّقِيق ويطعمه الْحَاج، فَلم يزل على ذَلِك من أمره حَتَّى أصَاب النَّاس فِي سنة جَدب شَدِيد، فَخرج هَاشم بن عبد منَاف إِلَى الشَّام فَاشْترى بِمَا اجْتمع عِنْده من مَاله دَقِيقًا وكعكاً فَقدم بِهِ مَكَّة فِي الْمَوْسِم فهشم ذَلِك الكعك وَنحر الْجَزُور وطبخها وَجعله ثريداً وَأطْعم النَّاس، وَكَانُوا فِي مجاعَة شَدِيدَة حَتَّى أشبعهم، فَسُمي بذلك هاشماً وَكَانَ اسْمه عمرا، فَلم يزل هَاشم على ذَلِك حَتَّى توفّي، فَكَانَ عبد الْمطلب يفعل ذَلِك فَلَمَّا توفّي عبد الْمطلب قَامَ بذلك أَبُو طَالب فِي كل موسم حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام وَهُوَ على ذَلِك، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أرسل بِمَال يعْمل بِهِ الطَّعَام مَعَ أبي بكر رَضِي الله عَنهُ حِين حج أَبُو بكر بِالنَّاسِ سنة تسع ثمَّ عمل فِي حجَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع ثمَّ أَقَامَهُ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فِي خِلَافَته ثمَّ عمر فِي خِلَافَته ثمَّ الْخُلَفَاء، وهلم جرا. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهُوَ طَعَام الْمَوْسِم الَّذِي يطعمهُ الْخُلَفَاء الْيَوْم فِي أَيَّام النَّحْر بمنى حَتَّى تَنْقَضِي أَيَّام الْمَوْسِم، وَكَانَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ اشْترى دَارا بِمَكَّة وسماها دَار المراحل وَجعل فِيهَا قدوراً وَكَانَت الْجَزُور وَالْغنم تذبح وتطبخ فِيهَا وَتطعم الْحَاج أَيَّام الْمَوْسِم ثمَّ يفعل ذَلِك فِي شهر رَمَضَان. وَكَانَت الْجَزُور وَالْغنم تذبح وتطبخ فِيهَا وَتطعم الْحَاج أَيَّام الْمَوْسِم، ثمَّ يفعل ذَلِك فِي شهر رَمَضَان. ويروى أَن أول من أطْعم الْحَاج " الفالوزج " بِمَكَّة عبد الله بن جدعَان. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَفد عبد الله بن جدعَان على كسْرَى فَأكل عِنْده الفالوزج فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: لباب الْبر يلت مَعَ الْعَسَل. فَقَالَ: أبيعوني غُلَاما يصنعه. فَأتوهُ بِغُلَام فابتعاه فَقدم بِهِ مَكَّة فَأمره فصنعه للْحَاج، وَوضع الموائد من الأبطح إِلَى بَاب الْمَسْجِد ثمَّ نَادَى مناديه أَلا من أَرَادَ " الفالوزج " فليحضر فَحَضَرَ النَّاس، وَأَنه مَا زَالَ

طَعَام فِي الْجَاهِلِيَّة. وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن ابْن جدعَان كَانَ يطعم النَّاس ويقري الضَّيْف فَهَل يَنْفَعهُ ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة؟ فَقَالَ: " لَا إِنَّه لم يقل يَوْمًا: رب اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين ". وَابْن جدعَان هُوَ ابْن عَم عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا. وَفِي غَرِيب الحَدِيث لِابْنِ قُتَيْبَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " كنت أستظل بِظِل جَفْنَة عبد الله بن جدعَان فِي الهاجرة ". قَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت جفنته يَأْكُل مِنْهَا الرَّاكِب على الْبَعِير وَسقط فِيهَا صبي فَمَاتَ. قَالَ السُّهيْلي: وَكَانَ ابْن جدعَان فِي بَدْء أمره صعلوكاً ترب الْيَدَيْنِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِك شريراً فاتكاً لَا يزَال يجني الْجِنَايَات فتغفل عَنهُ أَبوهُ وَقَومه حَتَّى أبغضته عشيرته، ونفاه أَبوهُ وَحلف أَن لَا يؤويه أبدا لما أثقله بِهِ من الْغرم وَحمله من الدِّيات، فَخرج فِي شعاب مَكَّة حائراً ثائراً يتَمَنَّى الْمَوْت أَن ينزل بِهِ، فَرَأى شقاً فِي جبل فَظن فِيهِ حَيَّة فتعرض للشق يَرْجُو أَن يكون فِيهِ مَا يقْتله فيستريح فَلم ير شَيْئا فَدخل فِيهِ، فَإِذا فِيهِ ثعبان عَظِيم لَهُ عينان يتقدان كالسراجين، فَحمل عَلَيْهِ الثعبان فأفرج بِهِ فانساب عَنهُ مستديراً بدارة عِنْدهَا بَيت فخطى خطْوَة أُخْرَى فصفر بِهِ الثعبان وَأَقْبل إِلَيْهِ كالسهم فأفرج لَهُ فانساب عَنهُ، فَوَقع فِي نَفسه أَنه مَصْنُوع من ذهب ومسكه بِيَدِهِ فَإِذا هُوَ مَصْنُوع من ذهب وَعَيناهُ ياقوتتان، فَكَسرهُ وَأخذ عَيْنَيْهِ وَدخل الْبَيْت فَإِذا جثث على سرر طوال لم ير مثلهم طولا وعظماً وَعند رؤوسهم لوح من فضَّة فِيهِ تاريخهم، وَإِذا هم رجال من مُلُوك جرهم وَآخرهمْ موتا الْحَارِث بن مضاض، وَإِذا عَلَيْهِم ثِيَاب لَا يمس مِنْهَا شَيْء إِلَّا انتثر

كالهباء من طول الزَّمن وَإِذا فِي وسط الْبَيْت كوم عَظِيم من الْيَاقُوت واللؤلؤ وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والزبرجد فَأخذ مِنْهُ مَا أَخذ ثمَّ علم على الشق عَلامَة وأغلق بَابه بِالْحِجَارَةِ، وَأرْسل إِلَى أَبِيه بِالْمَالِ الَّذِي خرج بِهِ يسترضيه ويستعطفه وَوصل عشيرته كلهم فسادهم، وَجعل ينْفق من ذَلِك الْكَنْز وَيطْعم النَّاس وَيفْعل بِالْمَعْرُوفِ وَصَارَ هَذَا الْكَنْز مَعْرُوفا بكنز ابْن جدعَان وَهُوَ مِمَّن حرم الْخمر فِي الْجَاهِلِيَّة بعد أَن كَانَ مغرى بهَا وَذَلِكَ أَنه سكر فَتَنَاول الْقَمَر ليأخذه فَأخْبر بذلك حِين صَحا فَحلف لَا يشْربهَا أبدا، وَلما كبر وهرم أَرَادَ بَنو تَمِيم أَن يمنعوه من تبذير مَاله ولاموه فِي الْعَطاء فَكَانَ يَدعُوهُ الرجل فَإِذا دنا مِنْهُ لطمه لطمة خَفِيفَة ثمَّ قَالَ لَهُ: قُم فَأَنْشد لطمتك واطلب دِيَتهَا، فَإِذا فعل ذَلِك أعطَاهُ بَنو تَمِيم من مَال ابْن جدعَان حَتَّى يرضى. انْتهى كَلَام السُّهيْلي. وَأما " السِّقَايَة ": فَلم تزل بيد عبد منَاف فَكَانَ يسْقِي النَّاس المَاء من بِئْر خم على الْإِبِل فِي المزاود والقرب، ثمَّ يسْكب ذَلِك المَاء فِي حِيَاض من آدم بِفنَاء الْكَعْبَة فَيردهُ الْحَاج حَتَّى يتفرقوا فَكَانَ يستعذب ذَلِك المَاء. قَالَ السُّهيْلي: ذكرُوا أَن قصياً كَانَ يسقى الحجيج فِي حِيَاض من آدم، وَكَانَ ينْقل المَاء إِلَيْهَا من آبار خَارِجَة من مَكَّة مِنْهَا " بِئْر مَيْمُون الْحَضْرَمِيّ "، وَكَانَ ينْبذ لَهُم الزَّبِيب، ثمَّ احتفر لَهُم قصي " العجول " فِي دَار أم هَانِئ بنت أبي طَالب بالحزورة وَهِي أول سِقَايَة احتفرت بِمَكَّة، وَكَانَت الْعَرَب إِذا قدمت مَكَّة يردونها فيستقون مِنْهَا ويتزاحمون عَلَيْهَا، وَكَانَت قُرَيْش قبل حفر زَمْزَم قد احتفرت آباراً، وحفر قصيّ أَيْضا بِئْرا عِنْد الرَّدْم الْأَعْلَى ثمَّ حفر هَاشم بن عبد منَاف بِئْرا وَقَالَ حِين حفرهَا: لأجعلنها للنَّاس بلاغاً. وحفرها قصى أَيْضا

سجلة، وَقيل: بل حفرهَا هَاشم وَهِي الْبِئْر الَّتِي يُقَال لَهَا: بِئْر جُبَير بن مطعم فَكَانَت سجلة لهاشم بن عبد منَاف فَلم تزل لوَلَده حَتَّى وَهبهَا أَسد بن هَاشم لمطعم بن عدي حِين حفر عبد الْمطلب زَمْزَم واستغنوا عَنْهَا، وَيُقَال: وَهبهَا لَهُ عبد الْمطلب حِين حفر زَمْزَم وَاسْتغْنى عَنْهَا، وَسَأَلَهُ الْمطعم بن عدي أَن يضع حوضاً من أَدَم إِلَى جنب زَمْزَم السُّفْلى؛ ليسقى فِيهِ من مَاء بئره فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فَكَانَ يفعل، فَلم يزل هَاشم بن عبد منَاف يسْقِي الْحَاج حَتَّى توفّي فَقَامَ بِأَمْر السِّقَايَة من بعده عبد الْمطلب بن هَاشم فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى حفر زَمْزَم فأغنت عَن آبار مَكَّة فَكَانَ مِنْهَا مشرب الْحَاج، قَالَ: وَكَانَت لعبد الْمطلب إبل كَثِيرَة إِذا كَانَ يَوْم الْمَوْسِم جمعهَا ثمَّ سقى لَبنهَا بالعسل فِي حَوْض من أَدَم عِنْد زَمْزَم، وَيَشْتَرِي الزَّبِيب فينبذه بِمَاء زَمْزَم ويسقيه الْحَاج؛ ليكسر غلظ مَاء زَمْزَم وَكَانَت إِذْ ذَاك غَلِيظَة جدا، وَكَانَ النَّاس إِذْ ذَاك لَهُم فِي بُيُوتهم أسقفة فِيهَا المَاء من هَذِه الْآبَار ثمَّ ينبذون فِيهَا القبضات من الزَّبِيب وَالتَّمْر؛ لتكسر عَنْهُم مَاء آبار مَكَّة، وَكَانَ المَاء العذب بِمَكَّة عَزِيزًا لَا يُوجد إِلَّا لإِنْسَان يستعذب لَهُ من بِئْر مَيْمُون خَارج مَكَّة، فَلبث عبد الْمطلب يسْقِي النَّاس حَتَّى توفّي، فَقَامَ بِأَمْر السِّقَايَة بعده الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ فَلم تزل فِي يَده، وَكَانَ للْعَبَّاس كرم بِالطَّائِف وَكَانَ يحمل زبيبه إِلَيْهَا وَكَانَ يداين أهل الطَّائِف وَيَقْتَضِي مِنْهُم الزَّبِيب فينبذ ذَلِك كُله ويسقيه الْحَاج أَيَّام الْمَوْسِم، فَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة يَوْم الْفَتْح فَقبض السِّقَايَة من الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب والحجابة من عُثْمَان بن طَلْحَة، فَقَالَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ فَبسط يَده وَقَالَ: يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي اجْمَعْ لي الحجابة والسقاية فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أُعْطِيكُم مَا تزرءون فِيهِ وَلَا تزرءون مِنْهُ ". فَقَامَ بَين عضادتي بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ: أَلا إِن كل دم أَو مَال أَو مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهِيَ تَحت قدمي هَاتين إِلَّا سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْكَعْبَة، فَإِنِّي قد أمضيتهما لأهلهما على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. فقبضها الْعَبَّاس فَكَانَت فِي يَده حَتَّى توفّي فوليها بعده عبد الله بن عَبَّاس فَكَانَ يفعل فِيهَا

فصل ما جاء في عباده بني اسماعيل الحجاره وتغيير دين ابراهيم

كَفِعْلِهِ دون بني عبد الْمطلب وَكَانَ مُحَمَّد بن الحنيفة رَضِي الله عَنهُ قد كلم فِيهَا ابْن عَبَّاس فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: مَا لَك وَلها نَحن أولى بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، قد كَانَ أَبوك يتَكَلَّم فِيهَا فأقمت الْبَيِّنَة طَلْحَة بن عبد الله وعامر بن ربيعَة وأزهر بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف ومخرومة بن نَوْفَل أَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب كَانَ يَليهَا فِي الْجَاهِلِيَّة بعد عبد الْمطلب وَجدك أَبُو طَالب فِي إبِله فِي باديته بعرنة، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعْطَاهَا الْعَبَّاس يَوْم الْفَتْح دون بني عبد الْمطلب فَعرف ذَلِك من حضر، فَكَانَت بيد عبد الله بن عَبَّاس بتولية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيره لَا ينازعه فِيهَا مُنَازع وَلَا يتَكَلَّم فِيهَا مُتَكَلم حَتَّى توفّي، فَكَانَت فِي يَد على ابْن عبد الله بن عَبَّاس يفعل فِيهَا كَفعل أَبِيه وجده رَضِي الله عَنْهُم يَأْتِيهِ الزَّبِيب من مَاله بِالطَّائِف وينبذه حَتَّى توفّي، فَكَانَت بيد وَلَده حَتَّى الْآن. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ لزمزم حوضان: فحوض بَينهَا وَبَين الرُّكْن يشرب مِنْهُ المَاء، وحوض من وَرَائِهَا للْوُضُوء لَهُ سرب يذهب فِيهِ المَاء. وَأما القيادة: أَي قيادة الجيوش من قاد أَي: قَود، الْوَاحِد قَائِد فوليها من بني عبد منَاف عبد شمس بن عبد منَاف ثمَّ من بعده أُميَّة بن عبد شمس، ثمَّ حَرْب بن أُميَّة فقاد النَّاس يَوْم عكاظ وَغَيره، ثمَّ كَانَ سُفْيَان بن حَرْب يَقُود قُريْشًا بعد أَبِيه حَتَّى كَانَ يَوْم بدر فقاد النَّاس عتبَة بن ربيعَة بن عبد شمس، وَكَانَ أَبُو سُفْيَان فِي الْحَرْب فِي العير يَقُود النَّاس فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد قاد النَّاس أَبُو سُفْيَان بن حَرْب، وقاد النَّاس، يَوْم الْأَحْزَاب، وَكَانَت آخر وقْعَة لقريش وَحرب حَتَّى جَاءَ الله تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَفتح مَكَّة. فصل: مَا جَاءَ فِي عبَادَة بني إِسْمَاعِيل الْحِجَارَة وتغيير دين إِبْرَاهِيم قَالَ ابْن إِسْحَاق: إِن بني إِسْمَاعِيل وجرهم ضَاقَتْ عَلَيْهِم مَكَّة فتفسحوا فِي الْبِلَاد والتمسوا المعاش، وَأول مَا كَانَت عبَادَة الْحِجَارَة فِي بني إِسْمَاعِيل أَنه كَانَ لَا يظعن من

فصل ما جاء في اول من نصب الاصنام في الكعبه والاستقسام بالازلام

مَكَّة ظاعن مِنْهُم إِلَّا احتملوا مَعَهم من حِجَارَة الْحرم؛ تَعْظِيمًا للحرم وصبابة بِمَكَّة وَبِالْكَعْبَةِ حيت مَا حلوا وضعوه وطافوا بِهِ كالطواف بِالْكَعْبَةِ حَتَّى أفْضى ذَلِك بهم إِلَى أَن كَانُوا يعْبدُونَ مَا استحسنوا من حِجَارَة الْحرم خَاصَّة حَتَّى خلفت الخلوف بعد الخلوف، ونسوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ، واستبدلوا بدين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام غَيره، فعبدوا الْأَوْثَان وصاروا إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ الْأُمَم من قبلهم من الضلالات، واستباحوا مَا كَانَ يعبد قوم نوح مِنْهَا على إِرْث مَا كَانَ قد بَقِي فيهم من ذكرهَا، وَفِيهِمْ على ذَلِك بقايا من عهد إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل يتمسكون بهَا من تَعْظِيم الْبَيْت وَالطّواف بِهِ وَالْحج وَالْعمْرَة وَالْوُقُوف بِعَرَفَة ومزدلفة وَهدى الْبدن والإهلال بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة مَعَ إدخالهم فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَانَ أول من غير دين إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم وَنصب الْأَوْثَان وسيّب السائبة وبحر الْبحيرَة وَوصل الوصيلة وَحمى الحام عَمْرو بن لحي. قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلمك " رَأَيْت عَمْرو بن لحي يجر قصبه فِي النَّار أَي أمعاءه على رَأسه فَرْوَة، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من فِي النَّار "؟ قَالَ: من بيني وَبَيْنك من الْأُمَم. فصل: مَا جَاءَ فِي أول من نصب الْأَصْنَام فِي الْكَعْبَة والاستقسام بالأزلام قَالَ ابْن إِسْحَاق: إِن الْبِئْر الَّتِي كَانَت فِي جَوف الْكَعْبَة كَانَت على يَمِين من دَخلهَا، وَكَانَ عمقها ثَلَاثَة أَذْرع، حفرهَا إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل؛ ليَكُون فِيهَا مَا يهدى للكعبة فَلم تزل كَذَلِك حَتَّى كَانَ عَمْرو بن لحي فَقدم بصنم يُقَال لَهُ: هُبل من هيت من أَرض الجزيرة، وَكَانَ هُبل من أعظم أصنام قُرَيْش عِنْدهَا، فنصبه على الْبِئْر فِي بطن الْكَعْبَة وَأمر النَّاس

بِعِبَادَتِهِ، فَكَانَ الرجل إِذا قدم من سَفَره بَدَأَ بِهِ على أَهله بعد طَوَافه بِالْبَيْتِ وَحلق رَأسه عِنْده، وهبل الَّذِي قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَان يَوْم أحد: " أهل " هُبل اعْل هُبل أَي: ظهر دينك فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " الله أَعلَى وَأجل ". وَكَانَ اسْم الْبِئْر الأخسف. قَالَ إِسْحَاق: وَكَانَ عِنْد هُبل فِي الْكَعْبَة سَبْعَة قداح، كل قدح مِنْهَا مَكْتُوب فِيهِ كتاب، قدح فِيهِ " الْعقل " إِذا اخْتلفُوا فِي الْعقل من يحملهُ ضربوا بِالْقداحِ السَّبْعَة عَلَيْهِم فعلى من خرج حمله وقدح فِيهِ " نعم " لِلْأَمْرِ إِذا أرادوه " بِضَرْب بِهِ فِي القداح " فَإِن ظهر قدح فِيهِ نعم عمِلُوا بِهِ، وقدح فِيهِ " لَا " فَإِذا أَرَادوا الْأَمر ضربوا بِهِ فِي القداح فَإِذا خرج ذَلِك لم يَفْعَلُوا ذَلِك الْأَمر وقدح فِيهِ " مِنْكُم "، وقدح فِيهِ " ملصق "، وقدح فِيهِ " من غَيْركُمْ " وقدح فِيهِ " الْمِيَاه " فَإِذا أَرَادوا أَن يحفروا المَاء ضربوا بِالْقداحِ، وفيهَا ذَلِك الْقدح فَحَيْثُ مَا خرج بِهِ عمِلُوا بِهِ، وَكَانُوا إِذا أَرَادوا أَن يختنوا غُلَاما أَو يزوجوا أحدا أَو يدفنوا مَيتا أَو شكوا فِي نسب أحد ذَهَبُوا بِهِ إِلَى هُبل وَمِائَة دِرْهَم وجزور فأعطوها صَاحب القداح الَّذِي يضْرب بهَا ثمَّ قربوا صَاحبهمْ الَّذِي يُرِيدُونَ بِهِ مَا يُرِيدُونَ ثمَّ قَالُوا: يَا إلهنا هَذَا فلَان بن فلَان أردنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا فَأخْرج الْحق فِيهِ ثمَّ يَقُولُونَ لصَاحب القداح: اضربه فَإِن خرج " مِنْكُم " كَانَ مِنْهُم وَسِيطًا، وَإِن خرج عَلَيْهِ " من غَيْركُمْ " كَانَ حليفاً، وَإِن خرج عَلَيْهِ " ملصق " كَانَ مُلْصقًا على مَنْزِلَته فيهم لَا نسب لَهُ وَلَا حلف، وَإِن خرج عَلَيْهِ شَيْء سوى هَذَا مِمَّا يعْملُونَ بِهِ عمِلُوا بِهِ، وَإِذا خرج " لَا " أخروه عَامه ذَلِك حَتَّى يأْتونَ بِهِ مرّة أُخْرَى ينتهون فِي أَمرهم ذَلِك إِلَى مَا خرجت بِهِ القداح، وَكَذَلِكَ فعل عبد الْمطلب بِابْنِهِ حِين أَرَادَ أَن يذبحه. قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ هُبل من خرز العقيق على

فصل ما جاء في اول من نصب الاصنام وما كان من كسرها

صُورَة إِنْسَان وَكَانَت يَده الْيُمْنَى مَكْسُورَة فَأَدْرَكته قُرَيْش فَجعلت لَهُ يدا من ذهب، وَكَانَت لَهُ خزانَة للقربان وَكَانَ قربانه مائَة بعير، وَكَانَ لَهُ حَاجِب. فصل: مَا جَاءَ فِي أول من نصب الْأَصْنَام وَمَا كَانَ من كسرهَا قد تقدم أَنه زنى رجل من جرهم بِامْرَأَة فِي الْكَعْبَة وقبّلها فِيهَا فمسخا حجرين، وَاسم الرجل إساف بن بغه، وَقيل: إساف بن عَمْرو، وَاسم الْمَرْأَة نائلة بنت ذِئْب، وَقيل: بنت سُهَيْل، فأخرجا من الْكَعْبَة وَعَلَيْهِمَا ثيابهما فنصب أَحدهمَا على الصَّفَا وَالْآخر على الْمَرْوَة، فَلم يزل الْأَمر يدرس ويتقادم حَتَّى صَار يمسحهما من وقف على الصَّفَا والمروة ثمَّ صَارا وثنين يعبدان، فَلَمَّا كَانَ عَمْرو بن لحي أَمر النَّاس بعبادتهما والتمسح بهما حَتَّى كَانَ قصيّ فَصَارَت إِلَيْهِ الحجابة وَأمر مَكَّة فحولهما من الصَّفَا والمروة، فَجعل أَحدهمَا بلصق الْكَعْبَة وَجعل الآخر فِي مَوضِع زَمْزَم، وَكَانَ ينْحَر عِنْدهمَا وَكَانَ يطْرَح بَينهمَا مَا يهدى للكعبة، وَلم تكن تَدْنُو مِنْهُمَا امْرَأَة طامث وَكَانَ الطَّائِف إِذا طَاف بِالْبَيْتِ بَدَأَ بإساف فاستلمه، وَإِذا فرغ من طَوَافه ختم بنائلة فاستلمها، حَتَّى كَانَ يَوْم الْفَتْح فكسرهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ مَا كسر من الْأَصْنَام. فَخرج من نائلة عَجُوز سَوْدَاء شَمْطَاء حبشية تخمش وَجههَا عُرْيَانَة نَاشِرَة الشّعْر تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور، فَقيل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك: فَقَالَ: " تِلْكَ نائلة قد أَيِست أَن تعبد ببلادكم ". وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة يَوْم الْفَتْح وَإِن بهَا ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ صنماً قد سدها لَهُم إِبْلِيس بِالطَّعَامِ وَفِي رِوَايَة: حول الْكَعْبَة ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ صنماً وَكَانَ بيد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضيب فَطَافَ على رَاحِلَته وَجعل يطعنها

وَيَقُول: " جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقاً " فَمَا مِنْهَا صنم أَشَارَ إِلَى وَجهه إِلَّا وَقع على دبره، وَلَا أَشَارَ إِلَى دبه إِلَّا وَقع على وَجهه حَتَّى وَقعت كلهَا وَأمر بهبل فَكسر وَهُوَ وَاقِف عَلَيْهِ. فَقَالَ الزبير بن الْعَوام رَضِي الله عَنهُ لأبي سُفْيَان: يَا أَبَا سُفْيَان بن حَرْب قد كسر هُبل أما إِنَّك قد كنت مِنْهُ يَوْم أحد فِي غرور حِين تزْعم أَنه قد أنعم عَلَيْك، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: دع هَذَا عَنْك يَا ابْن الْعَوام فقد أرى أَن لَو كَانَ مَعَ إِلَه مُحَمَّد غَيره لَكَانَ غير مَا كَانَ. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لما صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر يَوْم الْفَتْح أَمر بالأصنام الَّتِي حول الْكَعْبَة فَجمعت ثمَّ حرقت بالنَّار وَكسرت، وَلم يكن فِي قُرَيْش رجل بِمَكَّة إِلَّا وَفِي بَيته صنم. وَيُقَال: إِن إِبْلِيس رن ثَلَاث رنات: رنة حِين لعن فتغيرت صورته عَن صُورَة الْمَلَائِكَة، وَرَنَّة حِين رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما بِمَكَّة، وَرَنَّة حِين افْتتح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: نصب عَمْرو بن لحي الخلصة بِأَسْفَل مَكَّة، وَكَانُوا يلبسونها القلائد ويهدون لَهَا الشّعير وَالْحِنْطَة ويصبون عَلَيْهَا اللَّبن ويذبحون لَهَا ويعلقون عَلَيْهَا بيض النعام، وَنصب على الصَّفَا صنماً يُقَال لَهُ: نهيك مجاود الرّيح، وَنصب على الْمَرْوَة صنماً يُقَال لَهُ: مطعم الطير. وَأما مَنَاة وَكَانَت صَخْرَة لهذيل وخزاعة فَأول من نصبها عَمْرو بن لحي على سَاحل الْبَحْر مِمَّا يَلِي قديد، وَكَانَت الْأَوْس والخزرج وغسان من الأزد وَمن دَان دينهَا من أهل يثرب وَأهل الشَّام كَانُوا يحجونها ويعظمونها، فَإِذا طافوا بِالْبَيْتِ

وأفاضوا من عَرَفَات وفرغوا من منى لم يحلقوا رؤوسهم إِلَّا عِنْد مَنَاة، وَكَانَ يهلون لَهَا وَمن أهل لَهَا لم يطف بَين الصَّفَا والمروة مَكَان الصنمين اللَّذين عَلَيْهِمَا، وهما نهيك مجاود الرّيح ومطعم الطير، وَكَانَ هَذَا الْحَيّ من الْأَنْصَار يهلون بمناة، وَكَانُوا إِذا أهلوا بِحَجّ أَو عمْرَة لم يظل أحد مِنْهُم سقف بَيته حَتَّى يفرغ من حجه أَو عمرته، فَكَانَ الرجل إِذا أحرم لم يدْخل بَيته، وَإِن كَانَت لَهُ فِيهِ حَاجَة تسور من ظهر بَيته لِئَلَّا يحف رتاج الْبَاب رَأسه، فَلَمَّا جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ وَهدم أَمر الْجَاهِلِيَّة أنزل فِي ذَلِك: " وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا ". وَأما اللات والعزى فَكَانَ بَدْء أَمرهمَا فِيمَا روى ابْن عَبَّاس: أَن رجلا مِمَّن مضى كَانَ يقْعد على صَخْرَة لثقيف يَبِيع السّمن من الْحَاج إِذا مروا فتلت سويقهم وَكَانَ ذَا غنم فسميت الصَّخْرَة اللات فَمَاتَ، فَلَمَّا فَقده النَّاس قَالَ لَهُم عَمْرو: إِن ربكُم كَانَ اللات فَدخل فِي جَوف الصَّخْرَة، وَكَانَت الْعُزَّى ثَلَاث شجرات سمُرَات بنخلة، وَكَانَ أول من دعى إِلَى عبادتها عَمْرو بن ربيعَة والْحَارث بن كَعْب، وَقَالَ لَهُم عَمْرو: إِن ربكُم يصيف بِاللات لبرد الطَّائِف ويشتو بالعزى لحر تهَامَة، وَكَانَ فِي كل وَاحِدَة شَيْطَان يعبد ثمَّ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْفَتْح خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى الْعُزَّى يقطعهَا فقطعها ثمَّ جَاءَ فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " مَا رَأَيْت فِيهِنَّ؟ " فَقَالَ: لَا شَيْء قَالَ: " مَا قطعتهن فَارْجِع فاقطع " فَرجع فَقطع فَوجدَ تَحت أَصْلهَا امْرَأَة نَاشِرَة شعرهَا قَائِمَة عَلَيْهِم كَأَنَّهَا تنوح عَلَيْهِنَّ فَرجع فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت كَذَا وَكَذَا قَالَ: " صدقت ". ويروى أَن خَالِد بن الْوَلِيد خرج إِلَى الْعُزَّى يَهْدِمهَا فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا من أَصْحَابه حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا فَهَدمهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " أهدمت؟ " قَالَ: نعم يَا رَسُول الله. قَالَ: " هَل رَأَيْت شَيْئا؟ " قَالَ: لَا.

قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فَإنَّك لم تَهدمهَا فَارْجِع فَاهْدِمْهَا " فَخرج خَالِد وَهُوَ متغيظ فَلَمَّا انْتهى إِلَيْهَا جرد سَيْفه فَخرجت إِلَيْهِ امْرَأَة عُرْيَانَة نَاشِرَة شعرهَا فَجعل السادن يَصِيح بهَا فَأقبل خَالِد بِالسَّيْفِ إِلَيْهَا فضربها فجزلها بِاثْنَتَيْنِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، قَالَ: " تِلْكَ الْعُزَّى قد أَيِست أَن تعبد ببلادكم ". فَقَالَ خَالِد: يَا رَسُول الله، الْحَمد لله الَّذِي أكرمنا بك وأنقذنا بك من الهلكة، لقد كنت أرى أبي يَأْتِي إِلَى الْعُزَّى بِخَير مَاله من الْإِبِل وَالْغنم فيذبحها للعزى وَيُقِيم عِنْدهَا ثَلَاثًا ثمَّ ينْصَرف إِلَيْنَا مَسْرُورا، وَنظرت إِلَى مَا مَاتَ أبي وَإِلَى ذَلِك الرَّأْي الَّذِي يعاش فِي فَضله، وَكَيف خدع حَتَّى صَار يذبح لما لَا يسمع وَلَا يبصر وَلَا يضر وَلَا ينفع، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن هَذَا الْأَمر إِلَى الله فَمن يسره للهدى تيَسّر لَهُ وَمن يسره للضلالة كَانَ فِيهَا ". وَكَانَ هدمها لخمس لَيَال بَقينَ من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان، وَكَانَ سادنها أَفْلح بن النَّضر السّلمِيّ من بني سليم، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة دخل عَلَيْهِ أَبُو لَهب يعودهُ وَهُوَ حَزِين، فَقَالَ: مَا لي أَرَاك حَزينًا " قَالَ: أَخَاف أَن تضيع الْعُزَّى من بعدِي. فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهب: لَا تحزن فَأَنا أقوم عَلَيْهَا بعْدك. فَجعل أَبُو لَهب يَقُول لكل من لقِيه: إِن تظهر الْعُزَّى كنت قد اتَّخذت عِنْدهَا يدا، وَإِن يظْهر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْعُزَّى وَمَا أرَاهُ يظْهر فَابْن أخي. فَأنْزل الله عز وَجل " تبت يدا أبي لَهب وَتب ". وَأما ذَات أنواط: فَكَانَت شَجَرَة عَظِيمَة خضراء بحنين، يُقَال لَهَا: " ذَات أنواط " لكفار قُرَيْش وَمن سواهُم من الْعَرَب، كَانُوا يعظمونها ويذبحون بهَا ويعكفون عِنْدهَا يَوْمًا، وَكَانَ من حج مِنْهُم وضع زَاده عِنْدهَا وَيدخل بِغَيْر زَاد تَعْظِيمًا للحرم، فَلَمَّا ذهب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى حنين قَالَ لَهُ رَهْط من أَصْحَابه فيهم الْحَارِث بن مَالك: يَا رَسُول الله اجْعَل لنا ذَات أنواط كَمَا لَهُم ذَات أنواط فَكبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: " هَكَذَا قَالَ قوم مُوسَى ": " اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة قَالَ إِنَّكُم قوم تجهلون ".

فصل مسيره تبع الي مكه

فصل: مسيرَة تبع إِلَى مَكَّة قَالَ ابْن إِسْحَاق: سَار تبع الأول إِلَى الْكَعْبَة فَأَرَادَ هدمها وتخريبها، وخزاعة يَوْمئِذٍ تلِي الْبَيْت وَأمر مَكَّة، فَقَامَتْ خُزَاعَة دونه فقاتلت عَنهُ أَشد الْقِتَال حَتَّى رَجَعَ ثمَّ تبع آخر كَذَلِك، والتتابعة الَّذين أَرَادوا هدم الْكَعْبَة وتخريبها ثَلَاثَة، وَقد كَانَ قبل ذَلِك مِنْهُم من يسير فِي الْبِلَاد فَإِذا دخل مَكَّة عظم الْحرم وَالْبَيْت، فَأَما تبع الثَّالِث الَّذِي أَرَادَ هدم الْبَيْت إِنَّمَا كَانَ فِي أول زمَان قُرَيْش، وَسبب مسيره إِلَيْهِ أَن قوما من هُذَيْل من بني لحيان جاؤوه فَقَالُوا لَهُ: إِن بِمَكَّة بَيْتا يعظمه الْعَرَب جَمِيعًا وتفدى إِلَيْهِ وتنحر عِنْده وتحجه وتعتمره، وَإِن قُريْشًا تليه وَقد حازت شرفه وَذكره وَأَنت أولى أَن يكون ذَلِك الْبَيْت وشرفه لَك، فَلَو سرت إِلَيْهِ وخربته وبنيت بَيْتا عنْدك ثمَّ صرفت حَاج الْعَرَب إِلَيْهِ كنت أَحَق بِهِ مِنْهُم، قَالَ: فأجمع السّير إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ تبع بالدف من جمدان بَين " أمج وَعُسْفَان "، دفت بهم دوابهم وأظلمت عَلَيْهِم الأَرْض، فدعى أحباراً كَانُوا مَعَه من أهل الْكتاب فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: هَل هَمَمْت لهَذَا الْبَيْت بِشَيْء؟ قَالَ: أردْت أَن أهدمه. قَالُوا: فانو لَهُ خيرا أَن تكسوه وتنحر عِنْده، فَفعل

فانجلت عَنْهُم الظلمَة، وَإِنَّمَا سمي الدُّف من أجل ذَلِك. وَفِي رِوَايَة قَالَ لَهُ الْأَحْبَار: هَل هَمَمْت لهَذَا الْبَيْت بِسوء؟ فَأخْبرهُم بِمَا قَالَ لَهُ الهذليون وَبِمَا أَرَادَ أَن يفعل فَقَالَت الْأَحْبَار: وَالله مَا أَرَادوا إِلَّا هلاكك وهلاك قَوْمك، إِن هَذَا بَيت الله الْحَرَام وَلم يردهُ أحد قطّ بِسوء إِلَّا هلك. قَالَ: فَمَا الْحِيلَة؟ قَالُوا: تنوي لَهُ خيرا أَن تعظمه وتكسوه وتنحر عِنْده وتحسن إِلَى أَهله فَفعل، فانجلت عَنْهُم الظلمَة وسكنت الرّيح وَانْطَلَقت بهم رِكَابهمْ ودوابهم، فَأمر تبع بالهذليين فَضربت رقابهم وصلبهم وَإِنَّمَا كَانُوا فعلوا ذَلِك حسداً لقريش على ولايتهم الْبَيْت. قَالَ السُّهيْلي: روى نقلة الْأَخْبَار أَن تبعا لما عمد إِلَى الْبَيْت يُرِيد إخرابه رمي بداء تمخض من رَأسه قَيْحا وصديداً يثج ثَجًّا، وأنتن حَتَّى لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يدنو مِنْهُ قيد رمح وَقيل: بل أرْسلت عَلَيْهِ ريح كتفت مِنْهُ يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وَجلده فَأَصَابَتْهُمْ ظلمَة شَدِيدَة حَتَّى رقت خيلهم، فَقَالَ لَهُ: الْجِيرَان تب إِلَى الله مِمَّا نَوَيْت فَفعل فبرئ من دائه وَصَحَّ من وَجَعه. قَالَ السُّهيْلي: وأخلق بِهَذَا الْخَبَر أَن يكون صَحِيحا، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: " وَمن يرد فِيهِ بإلحاد بظُلْم نذقه من عَذَاب أَلِيم ". أَي: وَمن يهم فِيهِ بظُلْم وَإِن لم يفعل عذّب تشديداً فِي حَقه وتعظيماً لِحُرْمَتِهِ كَمَا فعله الله بأصحاب الْفِيل أهلكهم قبل الْوُصُول إِلَى بَيته. انْتهى. ثمَّ سَار تبع حَتَّى قدم مَكَّة فَكَانَ سلاحه بقعيقعان فَلذَلِك سمي قعيقعان، وَكَانَت خيله بأجياد فَلذَلِك سمي أجياد الْجِيَاد خيل تبع، وَكَانَت مطابخه فِي الشّعب الَّذِي يُقَال لَهُ: شعب عبد الله بن عَامر بن كريز فَلذَلِك سمي شعب المطابخ، فأقاما بِمَكَّة أَيَّامًا ينْحَر فِي كل يَوْم مائَة بَدَنَة وَلَا يرزأ هُوَ وَلَا أحد من عسكره مِنْهَا شَيْئا، يردهَا النَّاس وَيَأْخُذُونَ مِنْهَا حَاجتهم ثمَّ يَقع عَلَيْهَا الطير فيأكل ثمَّ يتناوبها السبَاع إِذا أمست لَا يصد عَنْهَا إِنْسَان وَلَا طَائِر وَلَا سبع يفعل ذَلِك كل يَوْم مُدَّة مقَامه ثمَّ كسا الْبَيْت كسْوَة كَامِلَة كَسَاه العصب، وَجعل لَهُ بَابا يغلق بصبة فارسية، وَهُوَ أول من كسا الْبَيْت كسْوَة كَامِلَة، أرى فِي الْمَنَام أَن يَكْسُوهَا فكساها الأنطاع ثمَّ أرى أَن يَكْسُوهَا فكساها الوصائل ثِيَاب حبرَة من عصب الْيمن، وَهُوَ أول من جعل لَهَا بَابا

فصل مبتدا حديث الفيل

يغلق وَلم يكن يغلق قبل ذَلِك. قَالَ القتبي: كَانَت قصَّة تبع قبل الْإِسْلَام بسبعمائة عَام. فصل: مُبْتَدأ حَدِيث الْفِيل كَانَ من حَدِيث الْفِيل مَا ذكرُوا أَن ملكا من مُلُوك حمير يُقَال لَهُ: زرْعَة ذُو نواس، وَكَانُوا قد تهودوا واستجمعت مَعَه حمير على ذَلِك إِلَّا أهل نَجْرَان فَإِنَّهُم كَانُوا على النَّصْرَانِيَّة على أصل حكم الْإِنْجِيل، وَلَهُم رَأس يُقَال لَهُ: عبد الله بن تامر، فَدَعَاهُمْ ذُو نواس إِلَى الْيَهُودِيَّة فَأَبَوا فَخَيرهمْ فَاخْتَارُوا المقتل، فَخدَّ لَهُم أُخْدُودًا وصنف لَهُم المقتل، فَمنهمْ من قتل صبرا وَمِنْهُم من أوقد لَهُ النَّار فِي الْأُخْدُود فَأَلْقَاهُ فِي النَّار إِلَّا رجلا من سبأ يُقَال لَهُ: دوس بن ثعلبان، فهرب على فرس لَهُ يرْكض فَأتى قَيْصر فَذكر لَهُ مَا بلغ مِنْهُم واستنصره، فَقَالَ لَهُ: بَعدت بلادك ونأت دَارك عَنَّا، وَلَكِن سأكتب إِلَى ملك الْحَبَشَة فَإِنَّهُ على ديننَا فينصرك فَكتب لَهُ إِلَى النَّجَاشِيّ يَأْمُرهُ بنصره، فَلَمَّا قدم على النَّجَاشِيّ بعث مَعَه رجلا من الْحَبَشَة يُقَال لَهُ: أرياط، وَقَالَ: إِن دخلت الْيمن فَاقْتُلْ ثلث رجالها واسب ثلث نسائها وذراريها وابعثهم إليّ وَخرب ثلث بلادها، فَلَمَّا دخلُوا أَرض الْيمن تناوشوا بسبأ من قتال ثمَّ ظهر عَلَيْهِم، ثمَّ خرج ذُو نواس على فرسه فاستعرض لَهُ الْبَحْر حَتَّى لجج بِهِ فماتا جَمِيعًا فِي الْبَحْر وَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ، فَدَخلَهَا أرياط فَعمل مَا أمره بِهِ النَّجَاشِيّ. فصل ذكر الْفِيل حِين ساقته الْحَبَشَة قَالَ ابْن إِسْحَاق: لما ظَهرت الْحَبَشَة على أَرض الْيمن كَانَ ملكهم إِلَى أرياط وأبرهة، وَكَانَ أرياط فَوق أَبْرَهَة، فَأَقَامَ أرياط بِالْيمن سنتَيْن فِي سُلْطَانه لَا ينازعه أحد ثمَّ نازعه أَبْرَهَة الحبشي الْملك، وَكَانَ فِي جند من الْحَبَشَة فانحاز إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْحَبَشَة طَائِفَة ثمَّ سَار أَحدهمَا إِلَى الآخر، فَكَانَ أرياط يكون بِصَنْعَاء ومحاليفها، وَكَانَ

أَبْرَهَة يكون بالجند ومحاليفها، فَلَمَّا تقَارب النَّاس ودنا بَعضهم من بعض أرسل أَبْرَهَة إِلَى أرياط لإنك " لَا تضع " بِأَن تلقى الْحَبَشَة بَعضهم بِبَعْض فتفنيها بسبأ، وَلَكِن أبرز إليّ وأبرز لَك فأينا أصَاب صَاحبه انْصَرف إِلَيْهِ جنده، فَأرْسل إِلَيْهِ أرياط أَن قد صدقت وَانْصَرف، فَخرج أرياط وَكَانَ رجلا عَظِيما طَويلا وسيماً وَفِي يَده حَرْبَة لَهُ، وَخرج لَهُ أَبْرَهَة وَكَانَ رجلا قَصِيرا حادراً رحِيما دحداحاً، وَكَانَ ذَا دين فِي النَّصْرَانِيَّة وَخلف أَبْرَهَة عبد لَهُ يحمى ظَهره يُقَال لَهُ: عتودة، فَلَمَّا دنا أَحدهمَا من صَاحبه رفع أرياط الحربة فَضرب بهَا رَأس أَبْرَهَة يُرِيد يأفوخه بِالْهَمْز فَوَقَعت الحربة على جبهة أَبْرَهَة فشرمت حَاجِبه وعينه وَأَنْفه وشفته فبذلك سمي أَبْرَهَة الأشرم، وَحمل غُلَام أَبْرَهَة على أرياط من خلف فزرقه بالحربة فَقتله، فَانْصَرف جند أرياط إِلَى أَبْرَهَة فاجتمعت عَلَيْهِ الْحَبَشَة بِالْيمن، وَكَانَ مَا صنع أَبْرَهَة من قَتله أرياط بِغَيْر علم النَّجَاشِيّ ملك الْحَبَشَة بِأَرْض البسوم من بِلَاد الْحَبَشَة، فَلَمَّا بلغه ذَلِك غضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ: عدا على أَمِيري بِغَيْر أَمْرِي فَقتله، ثمَّ حلف النَّجَاشِيّ لَا يدع أَبْرَهَة حَتَّى يطَأ أرضه ويجز ناصيته، فَلَمَّا بلغ ذَلِك أَبْرَهَة حلق رَأسه ثمَّ مَلأ جراباً من تُرَاب أَرض الْيمن، ثمَّ بعث بِهِ إِلَى النَّجَاشِيّ وَكتب إِلَيْهِ: أَيهَا الْملك إِنَّمَا كَانَ أرياط عَبدك وَأَنا عَبدك اخْتَلَفْنَا فِي أَمرك وكلنَا طَاعَته لَك إِلَّا أَنِّي كنت أقوى على أَمر الْحَبَشَة مِنْهُ وأضبط، وَقد حلقت رَأْسِي كُله حِين بَلغنِي قسم الْملك وَبعثت بِهِ إِلَيْهِ مَعَ جراب من تُرَاب أرضي ليضعه تَحت قَدَمَيْهِ فيبر بذلك قسمه، فَلَمَّا انْتهى ذَلِك إِلَى النَّجَاشِيّ كتب إِلَيْهِ أَن اثْبتْ بِأَرْض الْيمن حَتَّى يَأْتِيك أَمْرِي، فَأَقَامَ أَبْرَهَة بِالْيمن، وَبنى أَبْرَهَة عِنْد ذَلِك الْقليس بِصَنْعَاء إِلَى جنب غمدان فَبنى كَنِيسَة وأحكمها وسماها الْقليس، وَكتب إِلَى النَّجَاشِيّ ملك الْحَبَشَة: إِنِّي قد بنيت لَك

كَنِيسَة لم يبن مثلهَا لملك كَانَ قبلك، " وَلَيْسَت بمبنية " حَتَّى انْصَرف حَاج الْعَرَب إِلَيْهَا ويتركوا الْحَج إِلَى بَيتهمْ، فَبنى الْقليس بحجارة قصر بلقيس صَاحِبَة الصرح الَّذِي ذكر فِي الْقُرْآن فِي قصَّة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام حِين تزَوجهَا ينزل عَلَيْهَا فِيهِ إِذا جاءها، فَوضع الرِّجَال " تسنعاً " يناول بَعضهم بَعْضًا الْحِجَارَة والآلة، حَتَّى نقل مَا كَانَ فِي قصر بلقيس مِمَّا احْتَاجَ إِلَيْهِ من حِجَارَة ورخام وَآلَة الْبناء، وجدّ فِي بنائِهِ وَكَانَ مربعًا مستوى التربيع، وَجعل طوله فِي السَّمَاء سِتِّينَ ذِرَاعا وكثفه من دَاخله عشرَة أَذْرع فِي السَّمَاء، فَكَانَ يصعد إِلَيْهِ بدرج الرخام، وَحَوله سور بَينه وَبَين الْقليس مِائَتَا ذِرَاع مطيف بِهِ من كل جَانب، وَجعل بِنَاء ذَلِك كُله بحجارة يسميها أهل الْيمن الجروب منقوشة مطبقة لَا تدخل بَين أطباقها الإبرة، وَجعل طول بنائِهِ من الجروب عشْرين ذِرَاعا فِي السَّمَاء، ثمَّ فصل مَا بَين حِجَارَة الجروب بحجارة مُثَلّثَة متداخلة بَعْضهَا بِبَعْض، حجرا أَخْضَر وحجراً أَحْمَر وحجراً أَبيض وحجراً أصفر وحجراً أسود، فِيمَا بَين كل ساقين خشب ساسم مدور الرَّأْس غليظ الْخَشَبَة ناتئ على الْبناء، فَكَانَ مفصلا لهَذَا الْبناء على هَذِه الصّفة، لم فَصله برخام منقوش طوله فِي السَّمَاء ذراعان ناتئ على الْبناء بِذِرَاع، ثمَّ فصل فَوق ذَلِك الرخام بحجارة بَيْضَاء لَهَا بريق وَكَانَ هَذَا ظَاهر حَائِط الْقليس، وَكَانَ عرض حَائِطه سِتَّة أَذْرع، وَكَانَ لَهُ بَاب من نُحَاس عشرَة أَذْرع طولا فِي أَرْبَعَة أَذْرع عرضا، وَكَانَ الْمدْخل مِنْهُ إِلَى بَيت فِي جَوْفه طوله ثَمَانُون ذِرَاعا فِي أَرْبَعِينَ ذِرَاعا مَعْمُولا بالساج المنقوش ومسامير الذَّهَب وَالْفِضَّة، ثمَّ يدْخل من الْبَيْت إِلَى إيوَان طوله أَرْبَعُونَ ذِرَاعا عَن يَمِينه وَعَن يسَاره عُقُود مَضْرُوبَة بالسفيسف مشجرة بَين أضعافها كواكب الذَّهَب ظَاهِرَة، ثمَّ يدْخل من الإيوان قبَّة ثَلَاثِينَ ذِرَاعا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعا منقوشة جدرها بالسفيسفاء وَالذَّهَب وَالْفِضَّة، وفيهَا رخامة مِمَّا يَلِي مطلع الشَّمْس من

البلق مربعة عشرَة أَذْرع فِي عشرَة أَذْرع، تغشى عين من نظر إِلَيْهَا من بطن الْقبَّة تُؤدِّي ضوء الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَى دَاخل الْقبَّة، وَكَانَ تَحت الرخامة مِنْبَر من الأبنوس مفصل بالعاج الْأَبْيَض، ودرج الْمِنْبَر من الساج ملبسة ذَهَبا وَفِضة، وَكَانَ فِي الْقبَّة أَو فِي الْبَيْت خَشَبَة سَاج منقوشة طولهَا سِتُّونَ ذِرَاعا يُقَال لَهَا: كعيب، وخشبة من سَاج نَحْوهَا فِي الطول يُقَال لَهَا: امْرَأَة كعيب يتبركون بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ أَبْرَهَة عِنْد بِنَاء الْقليس قد أَخذ الْعمَّال بِالْعَمَلِ أخذا شَدِيدا وَكَانَ قد آلى أَن لَا تطلع الشَّمْس على عَامل لم يضع يَده فِي عمله فَيُؤتى بِهِ إِلَّا قطع يَده. قَالَ: فَتخلف رجل مِمَّن كَانَ يعْمل فِيهِ حَتَّى طلعت الشَّمْس، وَكَانَت لَهُ أم عَجُوز فَذهب بهَا مَعَه لتستوهبه من أَبْرَهَة فَأَتَتْهُ وَهُوَ بارز للنَّاس فَذكرت لَهُ عِلّة ابْنهَا واستوهبته مِنْهُ، فَقَالَ: لَا أكذب نَفسِي وَلَا أفسد عليّ عمالي فَأمر بِقطع يَده، فَقَالَت لَهُ أمه: اضْرِب بمعولك الْيَوْم فاليوم لَك وَغدا لغيرك لَيْسَ كل الدَّهْر لَك، فَقَالَ: أدبوها ثمَّ قَالَ لَهَا: إِن لي هَذَا الْملك أَيكُون لغيري؟ قَالَت: نعم، وَكَانَ أَبْرَهَة قد أجمع أَن يَبْنِي الْقليس حَتَّى يظْهر على ظَهره فَيرى مِنْهُ بَحر عدن، فَقَالَ: لَا أبني حجرا على حجر بعد يومي هَذَا وأعيا النَّاس من الْعَمَل، فانتشر خبر بِنَاء أَبْرَهَة هَذَا الْبَيْت فِي الْعَرَب، فَدَعَا رجلَانِ من بني مَالك بن كنَانَة فتيين مِنْهُم فَأَمرهمَا أَن يذهبا إِلَى ذَلِك الْبَيْت الَّذِي بناه أَبْرَهَة بِصَنْعَاء فيحدثا فِيهِ فذهبا ففعلا ذَلِك، فَدخل أَبْرَهَة الْبَيْت فَرَأى آثارهما فِيهِ، فَقَالَ: من فعل هَذَا؟ فَقيل لَهُ: رجلَانِ من الْعَرَب من أهل الْبَيْت الَّذِي تحج إِلَيْهِ الْعَرَب بِمَكَّة لما أَن سمعا قَوْلك: أصرف إِلَيْهَا حَاج الْعَرَب. جاءاها ففعلا فِيهَا أَي: أَنَّهَا لَيست لذَلِك بِأَهْل فَغَضب عِنْد ذَلِك أَبْرَهَة وَحلف ليسيرن إِلَى الْبَيْت حَتَّى يهدمه وَبعث رجلا كَانَ عِنْده إِلَى بني كنَانَة يَدعُوهُم إِلَى حج تِلْكَ الْكَنِيسَة فقتلت بَنو كنَانَة ذَلِك الرجل، فَزَاد ذَلِك أَبْرَهَة غَضبا وحنقاً ثمَّ أَمر الْحَبَشَة فتهيأت وتجهزت ثمَّ سَار وَخرج بالفيل مَعَه، وَسمعت بذلك الْعَرَب فأعظموه وفظعوا بِهِ، وَرَأَوا أَن جهاده حق عَلَيْهِم حِين سمعُوا أَنه يُرِيد يهدم الْكَعْبَة بَيت الله الْحَرَام،

فَخرج إِلَيْهِ رجل من أَشْرَاف الْيمن من مُلُوك حمير يُقَال لَهُ: ذُو نفر، فَدَعَا قومه وَمن أَجَابَهُ من سَائِر الْعَرَب إِلَى حَرْب أَبْرَهَة ومجاهدته عَن بَيت الله وَمَا يُرِيد من هَدمه وإخرابه فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك، ثمَّ عرض لَهُ فقاتله فَهزمَ ذُو نفر وأتى بِهِ أَسِيرًا فَلَمَّا أَرَادَ قَتله، قَالَ لَهُ ذُو نفر: أَيهَا الْملك لَا تقتلني فَعَسَى أَن يكون مقَامي مَعَك خيرا لَك من قَتْلِي، فَتَركه من الْقَتْل وحبسه عِنْده فِي وثاق، وَكَانَ أَبْرَهَة رجلا حَلِيمًا ورعاً ذَا دين فِي النَّصْرَانِيَّة، وَمضى أَبْرَهَة على وَجهه ذَلِك يُرِيد مَا خرج إِلَيْهِ، حَتَّى إِذا كَانَ فِي أَرض خثعم عرض لَهُ نفَيْل بن حبيب الْخَثْعَمِي فِي قبائل من خثعم وَمن اتبعهُ من قبائل الْعَرَب فقاتله، فَهَزَمَهُ أَبْرَهَة وَأخذ لَهُ نفَيْل أَسِيرًا فَأتى بِهِ، فَقَالَ لَهُ نفَيْل: أَيهَا الْملك لَا تقتلني فَإِنِّي دليلك بِأَرْض الْعَرَب، فهاتان يداي على قبائل خثعم بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فأعفاه وخلى سَبيله وَسَار مَعَه حَتَّى إِذا مر بِالطَّائِف خرج إِلَيْهِ مَسْعُود بن مغيث فِي رجال ثَقِيف، فَقَالَ: أَيهَا الْملك إِنَّمَا نَحن عبيدك سامعون لَك مطيعون وَلَيْسَ عندنَا لَك خلاف وَلَيْسَ بيتنا هَذَا الْبَيْت الَّذِي تُرِيدُ يعنون اللات، إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْت الَّذِي بِمَكَّة وَنحن نبعث مَعَك من يدلك عَلَيْهِ. فَتَجَاوز عَنْهُم وبعثوا مَعَه أَبَا رِغَال مولى لَهُم يدله على مَكَّة، فَخرج أَبْرَهَة وَمَعَهُ أَبُو رِغَال حَتَّى أنزلهم " بالمغمس " بِفَتْح الْمِيم الثَّانِيَة وتشديدها وَقيل: بِكَسْرِهَا فَلَمَّا أنزلهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَال هُنَالك فرجمت قَبره الْعَرَب، وَهُوَ قَبره الَّذِي يرْجم بالمغمّس وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ جرير بن الحطنا: ن ذِرَاعا يُقَال لَهَا: كعيب، وخشبة من سَاج نَحْوهَا فِي الطول يُقَال لَهَا: امْرَأَة كعيب يتبركون بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ أَبْرَهَة عِنْد بِنَاء الْقليس قد أَخذ الْعمَّال بِالْعَمَلِ أخذا شَدِيدا وَكَانَ قد آلى أَن لَا تطلع الشَّمْس على عَامل لم يضع يَده فِي عمله فَيُؤتى بِهِ إِلَّا قطع يَده. قَالَ: فَتخلف رجل مِمَّن كَانَ يعْمل فِيهِ حَتَّى طلعت الشَّمْس، وَكَانَت لَهُ أم عَجُوز فَذهب بهَا مَعَه لتستوهبه من أَبْرَهَة فَأَتَتْهُ وَهُوَ بارز للنَّاس فَذكرت لَهُ عِلّة ابْنهَا واستوهبته مِنْهُ، فَقَالَ: لَا أكذب نَفسِي وَلَا أفسد عليّ عمالي فَأمر بِقطع يَده، فَقَالَت لَهُ أمه: اضْرِب بمعولك الْيَوْم فاليوم لَك وَغدا لغيرك لَيْسَ كل الدَّهْر لَك، فَقَالَ: أدبوها ثمَّ قَالَ لَهَا: إِن لي هَذَا الْملك أَيكُون لغيري؟ قَالَت: نعم، وَكَانَ أَبْرَهَة قد أجمع أَن يَبْنِي الْقليس حَتَّى يظْهر على ظَهره فَيرى مِنْهُ بَحر عدن، فَقَالَ: لَا أبني حجرا على حجر بعد يومي هَذَا وأعيا النَّاس من الْعَمَل، فانتشر خبر بِنَاء أَبْرَهَة هَذَا الْبَيْت فِي الْعَرَب، فَدَعَا رجلَانِ من بني مَالك بن كنَانَة فتيين مِنْهُم فَأَمرهمَا أَن يذهبا إِلَى ذَلِك الْبَيْت الَّذِي بناه أَبْرَهَة بِصَنْعَاء فيحدثا فِيهِ فذهبا ففعلا ذَلِك، فَدخل أَبْرَهَة الْبَيْت فَرَأى آثارهما فِيهِ، فَقَالَ: من فعل هَذَا؟ فَقيل لَهُ: رجلَانِ من الْعَرَب من أهل الْبَيْت الَّذِي تحج إِلَيْهِ الْعَرَب بِمَكَّة لما أَن سمعا قَوْلك: أصرف إِلَيْهَا حَاج الْعَرَب. جاءاها ففعلا فِيهَا أَي: أَنَّهَا لَيست لذَلِك بِأَهْل فَغَضب عِنْد ذَلِك أَبْرَهَة وَحلف ليسيرن إِلَى الْبَيْت حَتَّى يهدمه وَبعث رجلا كَانَ عِنْده إِلَى بني كنَانَة يَدعُوهُم إِلَى حج تِلْكَ الْكَنِيسَة فقتلت بَنو كنَانَة ذَلِك الرجل، فَزَاد ذَلِك أَبْرَهَة غَضبا وحنقاً ثمَّ أَمر الْحَبَشَة فتهيأت وتجهزت ثمَّ سَار وَخرج بالفيل مَعَه، وَسمعت بذلك الْعَرَب فأعظموه وفظعوا بِهِ، وَرَأَوا أَن جهاده حق عَلَيْهِم حِين سمعُوا أَنه يُرِيد يهدم الْكَعْبَة بَيت الله الْحَرَام، فَخرج إِلَيْهِ رجل من أَشْرَاف الْيمن من مُلُوك حمير يُقَال لَهُ: ذُو نفر، فَدَعَا قومه وَمن أَجَابَهُ من سَائِر الْعَرَب إِلَى حَرْب أَبْرَهَة ومجاهدته عَن بَيت الله وَمَا يُرِيد من هَدمه وإخرابه فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك، ثمَّ عرض لَهُ فقاتله فَهزمَ ذُو نفر وأتى بِهِ أَسِيرًا فَلَمَّا أَرَادَ قَتله، قَالَ لَهُ ذُو نفر: أَيهَا الْملك لَا تقتلني فَعَسَى أَن يكون مقَامي مَعَك خيرا لَك من قَتْلِي، فَتَركه من الْقَتْل وحبسه عِنْده فِي وثاق، وَكَانَ أَبْرَهَة رجلا حَلِيمًا ورعاً ذَا دين فِي النَّصْرَانِيَّة، وَمضى أَبْرَهَة على وَجهه ذَلِك يُرِيد مَا خرج إِلَيْهِ، حَتَّى إِذا كَانَ فِي أَرض خثعم عرض لَهُ نفَيْل بن حبيب الْخَثْعَمِي فِي قبائل من خثعم وَمن اتبعهُ من قبائل الْعَرَب فقاتله، فَهَزَمَهُ أَبْرَهَة وَأخذ لَهُ نفَيْل أَسِيرًا فَأتى بِهِ، فَقَالَ لَهُ نفَيْل: أَيهَا الْملك لَا تقتلني فَإِنِّي دليلك بِأَرْض الْعَرَب، فهاتان يداي على قبائل خثعم بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة فأعفاه وخلى سَبيله وَسَار مَعَه حَتَّى إِذا مر بِالطَّائِف خرج إِلَيْهِ مَسْعُود بن مغيث فِي رجال ثَقِيف، فَقَالَ: أَيهَا الْملك إِنَّمَا نَحن عبيدك سامعون لَك مطيعون وَلَيْسَ عندنَا لَك خلاف وَلَيْسَ بيتنا هَذَا الْبَيْت الَّذِي تُرِيدُ يعنون اللات، إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْت الَّذِي بِمَكَّة وَنحن نبعث مَعَك من يدلك عَلَيْهِ. فَتَجَاوز عَنْهُم وبعثوا مَعَه أَبَا رِغَال مولى لَهُم يدله على مَكَّة، فَخرج أَبْرَهَة وَمَعَهُ أَبُو رِغَال حَتَّى أنزلهم " بالمغمس " بِفَتْح الْمِيم الثَّانِيَة وتشديدها وَقيل: بِكَسْرِهَا فَلَمَّا أنزلهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَال هُنَالك فرجمت قَبره الْعَرَب، وَهُوَ قَبره الَّذِي يرْجم بالمغمّس وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ جرير بن الحطنا: إِذا مَاتَ الفرزدق فارجموه ... كرجم النَّاس قبر أبي رِغَال قَالَ السُّهيْلي: وَرُوِيَ أَيْضا أَن أَبَا رِغَال من ثَمُود، وَأَنه كَانَ بِالْحرم حِين أصَاب قومه الصَّيْحَة، فَلَمَّا خرج من الْحرم أَصَابَهُ من الْهَلَاك مَا أصَاب قومه فَدفن هُنَاكَ، وَدفن مَعَه غصنان من ذهب، وَذكر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بالقبر وَأمر باستخراج الغصنين مِنْهُ فاستخرجا. انْتهى.

وَلما نزل أَبْرَهَة المغمّس بعث رجلا من الْحَبَشَة يُقَال لَهُ: الْأسود بن مَقْصُود على خيل لَهُ حَتَّى انْتهى إِلَى مَكَّة، فساق إِلَيْهِ أَمْوَال " أهل الْحرم " من قُرَيْش وَغَيرهم فَأصَاب فِيهَا مِائَتي بعير لعبد الْمطلب بن هَاشم، وَهُوَ يَوْمئِذٍ كَبِير قُرَيْش وسيدها، فهمت قُرَيْش وخزاعة وكنانة وهذيل وَمن كَانَ فِي الْحرم بقتاله، ثمَّ عرفُوا أَنهم لَا طَاقَة لَهُم بقتاله فتركوا ذَلِك، وَبعث أَبْرَهَة حناطة الْحِمْيَرِي إِلَى مَكَّة، فَقَالُوا لَهُ: سل عَن سيد أهل هَذِه الْبَلدة وشريفهم ثمَّ قل لَهُم: إِن الْملك يَقُول لكم: إِنِّي لم آتٍ لحربكم إِنَّمَا جِئْت لهدم هَذَا الْبَيْت، فَإِن لم تتعرضوا لقِتَال فَلَا حَاجَة لي بدمائكم، فَإِن هُوَ " لم " يرد حَرْبِيّ فائتني بِهِ، فَلَمَّا دخل حناطة مَكَّة سَأَلَ عَن سيد قُرَيْش وشريفها فَقيل لَهُ: عبد الْمطلب فَأرْسل إِلَى عبد الْمطلب فَأخْبرهُ بِمَا قَالَ أَبْرَهَة، فَقَالَ عبد الْمطلب: وَالله مَا نُرِيد حربه وَمَا لنا بذلك من طَاقَة، وَهَذَا بَيت الله الْحَرَام وَبَيت خَلِيله إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِن يمنعهُ فَهُوَ بَيته وَحرمه، وَإِن يخل بَينه وَبَينه فوَاللَّه مَا عندنَا دفع. فَقَالَ لَهُ حناطة: فَانْطَلق إِلَيْهِ فَإِنَّهُ قد أَمرنِي أَن آتيه بك، فَانْطَلق مَعَه عبد الْمطلب وأردفه على بغلة لَهُ كَانَ عَلَيْهَا وَركب مَعَه بعض بنيه حَتَّى أَتَى الْعَسْكَر فَسَأَلَ عَن ذِي نفر وَكَانَ لَهُ صديقا حَتَّى دلّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسه فَقَالَ: يَا ذَا نفر هَل عنْدك من غناء فِيمَا نزل بِنَا؟ فَقَالَ ذُو نفر: وَمَا غناء رجل أَسِير فِي يَدي ملك ينْتَظر أَن يقْتله بكرَة وَعَشِيَّة، مَا عِنْدِي غناء من شَيْء مِمَّا نزل بك غلا أَن أنيساً سائس الْفِيل صديق لي، فَأرْسل إِلَيْهِ وأوصيه بك وَأعظم عَلَيْهِ حَقك، وأسأله أَن يسْتَأْذن لَك على الْملك وتكلمه بِمَا بدا لَك، ويشفع لَك عِنْده بِخَير إِن قدر على ذَلِك، قَالَ: حسبي. فَبعث ذُو نفر إِلَى أنيس فَقَالَ لَهُ: إِن عبد الْمطلب سيد قُرَيْش وَصَاحب عير مَكَّة يطعم النَّاس بالسهل والجبل والوحوش فِي رُؤُوس الْجبَال، وَقد أصَاب الْملك لَهُ مِائَتي بعير فَاسْتَأْذن لَهُ عَلَيْهِ وانفعه عِنْده بِمَا اسْتَطَعْت، فَقَالَ: أفعل فَكلم أنيس أَبْرَهَة فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الْملك هَذَا سيد قُرَيْش ببابك يسْتَأْذن عَلَيْك وَهُوَ صَاحب عير مَكَّة وَهُوَ سَيِّدهَا وَهُوَ يطعم النَّاس بالسهل والجبل والوحوش فِي رُؤُوس الْجبَال فَأذن لَهُ عَلَيْك فليكلمك، فَأذن لَهُ أَبْرَهَة وَكَانَ عبد الْمطلب أوسم رجل وأعظمه وأجمله فَأذن لَهُ، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وَرَآهُ أَبْرَهَة أَجله وَكَرمه عَن أَن يجلسه تَحْتَهُ، وَكره أَن ترَاهُ الْحَبَشَة مَعَه على سَرِيره فَنزل أَبْرَهَة عَن سَرِيره فَجَلَسَ على بساطه وَأَجْلسهُ مَعَه إِلَى جنبه، ثمَّ قَالَ لِترْجُمَانِهِ

قل لَهُ: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ لَهُ الترجمان: إِن الْملك يَقُول لَك مَا حَاجَتك؟ قَالَ: حَاجَتي أَن يرد عليّ الْملك مِائَتي بعير أَصَابَهَا لي. فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِك، قَالَ أَبْرَهَة لِترْجُمَانِهِ قل لَهُ: قد كنت أعجبتني حِين رَأَيْتُك ثمَّ زهدت فِيك حِين كَلَّمتنِي، تكلمني فِي مِائَتي بعير أصبتها لَك وتترك بَيْتا هُوَ دينك وَدين آبَائِك وَقد جِئْت أهدمه وَلَا تكلمني فِيهِ. قَالَ عبد الْمطلب: إِنِّي أَنا رب إبلي وَإِن للبيت ربّاً سيمنعه. قَالَ: مَا كَانَ ليمنع مني. قَالَ: أَنْت وَذَاكَ. قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ قد ذهب مَعَ عبد الْمطلب إِلَى أَبْرَهَة حِين بعث إِلَيْهِ " حناطة الْحِمْيَرِي " " يعمر بن نفاشة بن عدي " من بني كنَانَة وَهُوَ يَوْمئِذٍ سيد بني بكر، " وخويلد بن وَاثِلَة " وَهُوَ يَوْمئِذٍ سيد هُذَيْل، فعرضوا على أَبْرَهَة ثلث أَمْوَال تهَامَة على أَن يرجع عَنْهُم وَلَا يهدم الْبَيْت فَأبى عَلَيْهِم، ورد أَبْرَهَة على عبد الْمطلب الْإِبِل الَّتِي كَانَ أَصَابَهَا، فَلَمَّا انصرفوا عَنهُ انْصَرف عبد الْمطلب إِلَى قُرَيْش فَأخْبرهُم الْخَبَر وَأمرهمْ بِالْخرُوجِ من مَكَّة والتحرز فِي شعف الْجبَال خوفًا عَلَيْهِم من " معرة الْجَيْش "، ثمَّ أَقَامَ عبد الْمطلب فَأخذ بِحَلقَة بَاب الْكَعْبَة وَقَامَ مَعَه نفر من قُرَيْش يدعونَ الله ويستنصرونه على أَبْرَهَة وعَلى جنده، فَقَالَ عبد الْمطلب وَهُوَ آخذ بِحَلقَة بَاب الْكَعْبَة: لَا هم إِن الْمَرْء يمْنَع رَحل ... هـ فامنع حلالك لَا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك جروا جَمِيع بِلَادهمْ ... والفيل كي يسبوا عِيَالك عَمدُوا حمادك بكيدهم ... جهلا وَمَا رقبوا جلالك

إِن كنت تاركهم وكعتن ... افأمر مَا بدا لَك ثمَّ أرسل عبد الْمطلب حَلقَة بَاب الْكَعْبَة وَانْطَلق هُوَ وَمن مَعَه من قُرَيْش إِلَى شعف الْجبَال فتحرزوا فِيهَا ينتظرون مَا أَبْرَهَة فَاعل بِمَكَّة إِذا دَخلهَا، وَقَالَ عبد الْمطلب أَيْضا: قلت والأشرم تردى خيله ... إِن ذَا الأشرم غر بِالْحرم كَاد يتبع فِيمَن جندت ... حمير والحي من ذَاك قزم فانثنى عَنهُ وَفِي أوداجه ... جارح أمسك مِنْهُ بالكظم نَحن أهل الله فِي بلدته ... لم يزل ذَاك على عهد إبرهم نعْبد الله وَفينَا شِيمَة ... صلَة الْقُرْبَى وإيفاء الذمم إِن للبيت لربّا مَانِعا ... من يردهُ بآثام يصطلم وَقَوله: إبرهم يُرِيد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَلما أصبح أَبْرَهَة تهَيَّأ لدُخُول مَكَّة وَهدم الْكَعْبَة وهيأ فيله وعبأ جَيْشه وَقدم فيله أَمَام جَيْشه، وَكَانَ اسْم الْفِيل مَحْمُودًا وَكَانَ فيل النَّجَاشِيّ بَعثه إِلَى أَبْرَهَة وَكَانَ فيلاً لم ير مثله فِي الأَرْض عظما وجسماً وَقُوَّة. وَقَالَ مقَاتل: لم يكن مَعَهم إِلَّا ذَلِك الْفِيل الْوَاحِد فَلذَلِك قَالَ تَعَالَى: " ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل ". وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَت الفيلة ثَمَانِيَة غير الْفِيل الْأَعْظَم. وَقيل: اثْنَي عشر فيلاً. وَقيل: ألف فيل. وَقيل: إِنَّمَا وحد فِي الْقُرْآن لوفاق رُؤُوس الْآي. وَقيل: نسبهم إِلَى الْفِيل الْأَعْظَم. فَلَمَّا وجهوا الْفِيل إِلَى مَكَّة أقبل نفَيْل بن حبيب الْخَثْعَمِي حَتَّى قَامَ إِلَى جنب الْفِيل فالتقم أُذُنه فَقَالَ: ابرك مَحْمُودًا وارجع راشداً من حَيْثُ جِئْت فَإنَّك فِي بلد الله الْحَرَام ثمَّ أرسل أُذُنه فبرك، وَخرج نفَيْل بن حبيب يشْتَد حَتَّى صعد فِي الْجَبَل، فَضربُوا الْفِيل ليقوم فَأبى فَضربُوا رَأسه بالطبرزين فَأبى فأدخلوا

محاجمهم تَحت مراقه ومرافقه فدفعوه بهَا ليقوم فَأبى، فوجهوه رَاجعا إِلَى الْيمن فَقَامَ يُهَرْوِل ووجهوه إِلَى الشَّام فَفعل مثل ذَلِك، ووجهوه إِلَى الْمشرق مثل ذَلِك ووجهوه إِلَى مَكَّة فبرك، وَأرْسل الله تَعَالَى عَلَيْهِم طيراً من الْبَحْر أَمْثَال الخطاطيف مَعَ كل طَائِر مِنْهَا ثَلَاثَة أَحْجَار يحملهَا: حجر فِي منقاره، وحجران فِي رجلَيْهِ أَمْثَال الحمص والعدس وَفِي رِوَايَة: فَوق العدسة وَدون الحمصة بتَشْديد الْمِيم وبتخفيفها فَلَمَّا غشيت الْقَوْم أرسلتها عَلَيْهِم فَلم تصب تِلْكَ الْحِجَارَة أحدا إِلَّا هلك وَلَيْسَ كلهم أَصَابَت، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى " وَأرْسل عَلَيْهِم طيراً أبابيل ". أَي: أقاطيع كَالْإِبِلِ المؤبلة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا، وَاحِدهَا إبالة. وَقيل: مُتَفَرِّقَة. يُقَال: جَاءَت الْخَيل أبابيل أَي مُتَفَرِّقَة وَمن هَاهُنَا وَهَاهُنَا. قَالَ أَبُو عبيد: لَا وَاحِد لَهَا. وَقيل: وَاحِدهَا إبول كعجول، أَو إبّيل كسكين، أَو أبولة وَهِي الحزمة الْكَبِيرَة من الْحَطب، شبهت الطير بهَا لكثرتها واجتماعها. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَهَا خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الْكلاب. وَقَالَ عِكْرِمَة: كَانَ لَهَا رُؤُوس كرؤوس السبَاع لم تَرَ قبل ذَلِك وَلَا بعده. وَقَالَ ربيع: لَهَا أَنْيَاب

كأنياب السبَاع. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: طير خضر لَهَا مناقير صفر. وَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: هِيَ أشبه شَيْء بالخطاطيف. وَقيل: أشباه الوطاويط وَكَانَت حمرا. وَقيل: سُودًا. وَقيل: بَيْضَاء. وَقَالَ أَبُو الجوزاء: أَنْشَأَهَا الله فِي ذَلِك الْوَقْت. وَقَوله تَعَالَى: " ترميهم بحجارة من سجيل ". أَي: من طين مطبوخ بالنَّار كَمَا يطْبخ الْآجر مَكْتُوب فِيهَا أَسمَاء الْقَوْم. وَقيل: مُعرب من سنك وكل فسنك هُوَ الْحجر وكل هُوَ الطين وَالْمَاء. وَقيل: من سجيل أَي من السَّمَاء، وَهِي الْحِجَارَة الَّتِي نزلت على قوم لوط. وَقيل: من الْجَحِيم وَهِي سِجِّين ثمَّ أبدلت اللَّام نوناً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وسجيل كَأَنَّهُ علم للديوان الَّذِي كتب فِيهِ عَذَاب الْكفَّار كَمَا أَن سجيناً علم لديوان أَعْمَالهم، كَأَنَّهُ قيل: بحجارة من جملَة الْعَذَاب الْمَكْتُوب المدون، واشتقاقه من الإسجال وَهُوَ الْإِرْسَال؛ لِأَن الْعَذَاب مَوْصُوف بذلك، كَقَوْلِه: " فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان ". " وَأرْسل عَلَيْهِم ". قَالَ ابْن مَسْعُود: وصاحت الطير ورمتهم، وَبعث الله ريحًا فَضربت الْحِجَارَة فزادتها شدَّة فَمَا وَقع مِنْهَا حجر على رجل إِلَّا خرج من الْجَانِب الآخر، وَإِن وَقع على رَأسه خرج من دبره. فَقَوله: " فجعلهم كعصف مَأْكُول ". أَي: كزرع قد أكل حبه وَبَقِي تبنه. ويروى: أَن الْحجر كَانَ يَقع على أحدهم فَيخرج كل مَا فِي جَوْفه فَيبقى كقشر الْحِنْطَة إِذا خرجت مِنْهُ الْحبَّة. ويروى: أَنَّهَا لم تصيبهم كلهم لَكِنَّهَا أَصَابَت من

شَاءَ الله مِنْهُم. وَقيل: هلك الْقَوْم جَمِيعًا فَلَمَّا رَأَتْ الْحَبَشَة ذَلِك خَرجُوا هاربين يبتدرون الَّتِي مِنْهُ جَاءُوا، ويسألون عَن نفَيْل بن حبيب ليدلهم على الطَّرِيق إِلَى الْيمن، وَقَالَ نفَيْل بن حبيب حِين رأى مَا أنزل الله بهم من عَذَابه: أَيْن المفر والإله الطَّالِب ... والأشرم المغلوب غير الْغَالِب وَقَالَ نفَيْل أَيْضا فِي ذَلِك: أَلا حييت عَنَّا ياردينا ... نعمناكم مَعَ الإصباح عينا ردنيه لَو رَأَيْت ولت تريه ... لَدَى جنب المحصب مَا رَأينَا إِذا لعذرتني وحمدت أَمْرِي ... وَلم تأسى على مَا فَاتَ بَينا حمدت الله إِذْ عَايَنت طيرا ... وَخفت حِجَارَة تلقى علينا وكل الْقَوْم يسْأَل عَن نفَيْل ... كَأَن عليّ للحبشان دينا ونفيل ينظر إِلَيْهِم من بعض تِلْكَ الْجبَال، وَقد خرج الْقَوْم وماج بَعضهم فِي بعض، فَخَرجُوا يتساقطون بِكُل طَرِيق وَيهْلِكُونَ على كل مِنْهَا، وَبعث الله على أَبْرَهَة دَاء فِي جسده فَجعل تتساقط أنامله، كلما سَقَطت أُنْمُلَة أتبعتها مُدَّة من قيح وَدم فَانْتهى إِلَى صنعاء وَهُوَ مثل فرخ الطير مِمَّن بَقِي من أَصْحَابه وَمَا مَاتَ حَتَّى انصدع صَدره عَن قلبه ثمَّ هلك، وَأقَام بِمَكَّة ضعف الْجَيْش وَبَعض من ضمه الْعَسْكَر فَكَانُوا بِمَكَّة يعتملون ويرعون لأهل مَكَّة. انْتَهَت قصَّة أَصْحَاب الْفِيل. قَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان: إِن السَّبَب الَّذِي جر حَدِيث أَصْحَاب هُوَ أَن فتية من قُرَيْش خَرجُوا تجارًا إِلَى أَرض النَّجَاشِيّ فَسَارُوا حَتَّى دنوا من سَاحل الْبَحْر فِي سَنَد حقف من أحقافه ببيعة لِلنَّصَارَى تسميها قُرَيْش " الهيكل "، ويسميها النَّجَاشِيّ وَأهل أرضه " الماسرجسان "، فَنزل الْقَوْم فِي سندها فَجمعُوا حطباً وأججوا نَارا وشووا لَحْمًا، فَلَمَّا ارتحلوا تركُوا النَّار كَمَا هِيَ فِي يَوْم عاصف فعجت الرِّيَاح فاضطرم الهيكل نَارا، وَانْطَلق الصَّرِيخ إِلَى النَّجَاشِيّ فَأخْبرهُ فأسف عِنْد ذَلِك غَضبا لِلْبيعَةِ فَبعث أَبْرَهَة لهدم الْكَعْبَة.

وَقَالَ فِيهِ: وَكَانَ بِمَكَّة يَوْمئِذٍ أَبُو مَسْعُود الثَّقَفِيّ، كَانَ مكفوف الْبَصَر يصيف بِالطَّائِف ويشتو بِمَكَّة وَكَانَ رجلا نبيها نبيلاً عَاقِلا، وَكَانَ لعبد الْمطلب خَلِيلًا فَقَالَ عبد الْمطلب يَا أَبَا مَسْعُود: هَذَا يَوْم لَا يسْتَغْنى فِيهِ عَن رَأْيك فَمَاذَا عنْدك؟ فَقَالَ أَبُو مَسْعُود لعبد الْمطلب: اعمد إِلَى مائَة من الْإِبِل فاجعلها حرما لله وقلدها نعلا ثمَّ أثبتها فِي الْحرم لَعَلَّ بعض هَؤُلَاءِ السودَان يعقر مِنْهَا فيغضب رب هَذَا الْبَيْت فيأخذهم، فَفعل مثل ذَلِك عبد الْمطلب فَعمد الْقَوْم إِلَى تِلْكَ الْإِبِل فحملوا عَلَيْهَا وعقروا بَعْضهَا فَجعل عبد الْمطلب يَدْعُو، فَقَالَ أَبُو مَسْعُود: إِن لهَذَا الْبَيْت رَبًّا يمننعه فقد نزل تبع ملك الْيمن بِصَحْنِ هَذَا الْبَيْت وَأَرَادَ هَدمه فَمَنعه الله وابتلاه وأظلم عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَلَمَّا رأى تبع ذَلِك كَسَاه الْقبَاطِي الْبيض وعظمه وَنحر لَهُ جزوراً فَانْظُر نَحْو الْيَمين هَل ترى شَيْئا؟ فَنظر عبد الْمطلب فَقَالَ: أرى طيراً بيضًا نشأت من شاطئ الْبَحْر وحلقت على رؤوسنا فَقَالَ: هَل تعرفها؟ قَالَ: وَالله مَا أعرفهَا مَا هِيَ بنجدية وَلَا غربية وَلَا شامية وَإِنَّهَا لطير بأرضنا غير مؤنسة. قَالَ: مَا قدرهَا؟ قَالَ: أشباه اليعاسيب، فِي مناقيرها حَصى كَأَنَّهَا حَصى الْخذف قد أَقبلت كالليل يكسع بَعْضهَا بَعْضًا، أَمَام كل دفْعَة طير يَقُودهَا أَحْمَر المنقار أسود الرَّأْس طَوِيل الْعُنُق فَجَاءَت حَتَّى إِذا حازت عَسْكَر الْقَوْم ركدت فَوق رؤوسهم ثمَّ أمالت الطير مَا فِي مناقيرها على من تحتهَا، مَكْتُوب على كل حجر اسْم صَاحبه ثمَّ رجعت من حَيْثُ جَاءَت وَقيل: كَانَ على كل حجر مَكْتُوبًا " من أطَاع الله نجا وَمن عَصَاهُ غوى " فَلَمَّا أصبحا انحطا من ذرْوَة الْجَبَل فمشيا فَلم يؤنسا أحدا، ثمَّ مشيا فَلم يسمعا حسا فَقَالَا: بَات الْقَوْم سامدين فَأَصْبحُوا نياماً، فَلَمَّا دنوا من عَسْكَر الْقَوْم إِذا هم خامدون، وَكَانَ الْحجر يَقع على بَيْضَة أحدهم فيخرقها حَتَّى يَقع فِي دماغه، ويخرق الْفِيل والدابه ويغيب الْحجر فِي الأَرْض من شدَّة وقعه، فَأخذ عبد الْمطلب فأساً وحفر حَتَّى أعمق فِي الأَرْض فملأه من الذَّهَب الْأَحْمَر والجوهر الْجيد وحفر لصَاحبه فملأه، ثمَّ قَالَ لأبي مَسْعُود: هَات خاتمك فاختر إِن شِئْت أخذت حفرتي وَإِن شِئْت حفرتك وَإِن شِئْت فهما لَك. فَقَالَ أَبُو مَسْعُود: اختر لي على نَفسك. فَقَالَ عبد الْمطلب: إِنِّي لم أك أَن أجعَل الْمَتَاع فِي حفرتي فَهِيَ لَك. وَجلسَ كل وَاحِد مِنْهُمَا على حفرته ونادى عبد الْمطلب

فِي النَّاس فتراجعوا وَأَصَابُوا من فضلهما حَتَّى ضاقوا بذلك ذرعاً، وساد عبد الْمطلب بذلك قُريْشًا فَلم يزل عبد الْمطلب وَأَبُو مَسْعُود فِي غنة من ذَلِك المَال إِلَى أَن مَاتَا. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَادِهِ: وَجه النَّجَاشِيّ أرياط بأَرْبعَة آلَاف إِلَى الْيمن فغلب عَلَيْهَا فَأكْرم الْمُلُوك واستذل الْفُقَرَاء، فَقَامَ رجل من الْحَبَشَة يُقَال لَهُ: أَبْرَهَة الأشرم أَبُو يكسوم فَدَعَا إِلَى طَاعَته فَأَجَابُوهُ فَقتل أرياط وَغلب على الْيمن، فَرَأى النَّاس يَتَجَهَّزُونَ أَيَّام الْمَوْسِم لِلْحَجِّ قَالَ: أَيْن يذهب النَّاس؟ فَقَالُوا: يحجون بَيت الله بِمَكَّة. قَالَ: مِم هُوَ؟ قَالُوا: من حِجَارَة. قَالَ: فَمَا كسوته؟ قَالُوا: الوصائل. قَالَ: والمسيح لأبنين لكم خيرا مِنْهُ. فَبنى لَهُم بَيْتا عمله بالرخام الْأَبْيَض وَالْأسود والأحمر والأصفر وحلاه بِالذَّهَب وَالْفِضَّة وحفه بالجواهر، وَجعل لَهُ أبواباً عَلَيْهَا صَفَائِح الذَّهَب ومسامير الذَّهَب ورصّعها بالجواهر وَجعل فِيهَا ياقوتة حَمْرَاء عَظِيمَة وَجعل لَهَا حجّاباً، وَكَانَ يُوقد بالمندل ويلطخ جدره بالمسك حَتَّى يطيب الْجَوَاهِر، وَأمر النَّاس بحجه فحجه كثير من قبائل الْعَرَب سِنِين وَمكث فِيهِ رجال يتعبدون ويتنسكون، فأمهل نفَيْل الْخَثْعَمِي حَتَّى كَانَ لَيْلَة من اللَّيَالِي وَلم ير أحدا يَتَحَرَّك جَاءَ بعذرة فلطخ بهَا قبلته وَألقى فِيهِ الْجِيَف، فَأخْبر أَبْرَهَة بذلك فَغَضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ: إِنَّمَا فعل هَذَا الْعَرَب غَضبا لبيتهم لأنقضه حجرا حجرا. وَكتب إِلَى النَّجَاشِيّ يُخبرهُ بذلك ويسأله أَن يبْعَث إِلَيْهِ بفيله مَحْمُودًا، وَكَانَ فيلاً لم ير مثله فِي الأَرْض عظما وجسماً وَقُوَّة فَبعث بِهِ إِلَيْهِ فغزا الْبَيْت كَمَا ذكرنَا إِلَى أَن قَالَ: أَقبلت الطير من الْبَحْر مَعَ كل طَائِر حجران فِي رجلَيْهِ وَحجر فِي منقاره، فَقَذَفْتُ الْحِجَارَة عَلَيْهِم لَا تصيب شَيْئا إِلَّا هشمته وَإِلَّا نفط ذَلِك الْموضع، وَكَانَ ذَلِك أول مَا رُؤِيَ الجدري والحصبة بِأَرْض الْعَرَب ذَلِك الْعَام، وَأول مَا رُؤِيَ بهَا من أَمر الشّجر من الحرمل والحنظل وَالْعشر فِي ذَلِك الْعَام فأهمدتهم الْحِجَارَة، وَبعث الله سيلاً آتِيَا فَذهب بهم إِلَى الْبَحْر فألقاهم فِيهِ، وَولى أَبْرَهَة وَمن بَقِي مَعَه هراباً، فَجعل أَبْرَهَة يسْقط عضوا عضوا حَتَّى مَاتَ، وَأما مَحْمُود فيل النَّجَاشِيّ فَرَبَضَ وَلم يشجع على الْحرم فنجا، وَأما الآخر فشجعت فحصبت وَهَلَكت.

قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَقَالَ بعض المكيين: أول مَا كَانَت بِمَكَّة حمام اليمام الحرمية ذَلِك الزَّمَان، يُقَال: إِنَّهَا من نسل الطير الَّتِي رمت أَصْحَاب الْفِيل حِين خرجت من الْبَحْر من جدة. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: لما أهلكهم الله بِالْحِجَارَةِ لم يفلت مِنْهُم إِلَّا أَبْرَهَة أَبُو يكسوم فَسَار وطائر يطير فَوْقه وَلم يشْعر بِهِ حَتَّى دخل على النَّجَاشِيّ فَأخْبرهُ بِمَا أَصَابَهُم، فَلَمَّا استتم كَلَامه رَمَاه الطَّائِر فَسقط مَيتا فَأرى الله النَّجَاشِيّ كَيفَ كَانَ هَلَاك أَصْحَابه. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ أَبْرَهَة جد النَّجَاشِيّ الَّذِي كَانَ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وآمن بِهِ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي التَّفْسِير: وَكَانَ أَصْحَاب الْفِيل سِتِّينَ ألفا لم يرجع مِنْهُم إِلَّا أَمِيرهمْ رَجَعَ وَمَعَهُ شرذمة لَطِيفَة، فَلَمَّا أخبروا بِمَا رَأَوْا أهلكوا. وَقَالَ السُّهيْلي: فَلَمَّا هلك ومزقت الْحَبَشَة كل ممزق وأقفر مَا حول هَذِه الْكَنِيسَة فَلم يعمرها أحد، وَكَثُرت حولهَا السبَاع والحيات، وَكَانَ كل من أَرَادَ أَن يَأْخُذ شَيْئا مِنْهَا أَصَابَته الْجِنّ فَبَقيت من ذَلِك الْعَهْد بِمَا فِيهَا من الْعدَد والخشب المرصع بِالذَّهَب والآلات المفضضة الَّتِي تَسَاوِي قناطير من المَال، لَا يَسْتَطِيع أحد أَن يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا إِلَى زمن أبي الْعَبَّاس السفاح، فَذكر لَهُ من أمرهَا وَمَا يتهيب من جنها وحيّاتها فَلم يرعه ذَلِك وَبعث إِلَيْهَا أَبَا الْعَبَّاس بن الرّبيع عَامله على الْيمن مَعَه أهل الحزم والجلادة فخربها وحصلوا مِنْهَا مَالا كثيرا، بيع مَا أمكن بَيْعه من رخامها وآلاتها، فعفى بعد ذَلِك رسمها وَانْقطع خَبَرهَا واندرست آثارها، وَكَانَ الَّذِي يصيبهم من الْجِنّ ينسبونه إِلَى كعيب وَامْرَأَته أُصِيب الَّذِي كسرهما بجذام فَافْتتنَ بذلك رعاع النَّاس وطغاتهم. وَاخْتلفُوا فِي تَارِيخ عَام الْفِيل: قَالَ مقَاتل: كَانَ أَمر الْفِيل قبل مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَرْبَعِينَ سنة. وَقيل: بِثَلَاثِينَ.

وَقَالَ عبيد بن عُمَيْر والكلبي: كَانَ قبل مولده بِثَلَاث وَعشْرين سنة. وَقَالَ الْآخرُونَ: بل كَانَت قصَّة الْفِيل فِي الْعَام الَّذِي ولد فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى هَذَا أَكثر الْعلمَاء وَهُوَ الْأَصَح يدل عَلَيْهِ مَا روى عَن عبد الْملك بن مَرْوَان أَنه قَالَ لقباث بن أَشْيَم الْكِنَانِي اللَّيْثِيّ: يَا قباث أَنْت أكبر سنا أم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكبر مني وَأَنا أسن مِنْهُ، ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الْفِيل، ووقفت بِي أُمِّي على رَوْث الْفِيل أَخْضَر، وروى خرء الطير أَخْضَر محيلاً أَي: قد أَتَى عَلَيْهِ حول. وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا مَا روى عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: رَأَيْت قَائِد الْفِيل وسائسه بِمَكَّة أعميين مقعدين يستطعمان النَّاس. وَقيل: بعد خمسين يَوْمًا من الْفِيل. وَقيل: بعد قدوم أَصْحَاب الْفِيل بشهرين وَكَانَ لعشرين من نيسان. وَقيل: بعد قدومهم بِخمْس وَخمسين لَيْلَة. وَقَول عبد الْمطلب: لَا هم إِن الْمَرْء يمْنَع رَحْله إِلَى آخِره. حذفت الْألف وَاللَّام من " اللَّهُمَّ " وَاكْتفى بِمَا بَقِي كَمَا تَقول: لاه أَبوك تُرِيدُ الله أَبوك قَالَه السُّهيْلي، والحلال بِالْكَسْرِ: الْقَوْم الْحُلُول فِي الْمَكَان يُرِيد بهم سكان الْحرم. قَالَ السُّهيْلي: والحلال أَيْضا: مَتَاع الْبَيْت، وَجَائِز أَن يستعيره هَاهُنَا، وَقَوله: فبرك الْفِيل: فِيهِ نظر؛ لِأَن الْفِيل لَا يبرك فَيحْتَمل أَن بروكه سُقُوطه على الأَرْض لما جَاءَهُ من أَمر الله، وَيحْتَمل أَن يكون فعل فعل البارك الَّذِي يلْزم مَوْضِعه لَا يبرح فَعبر بالبروك عَن ذَلِك. قَالَ: وَسمعت من يَقُول إِن فِي الفيلة صنفا مِنْهَا يبرك كَمَا يبرك الْجمل، فَإِن صَحَّ وَإِلَّا فتأويله مَا

قدمْنَاهُ. قَالَ السُّهيْلي: وَكَانَت الفيلة ثَلَاثَة عشر فيلاً فَهَلَكت كلهَا إِلَّا مَحْمُودًا وَهُوَ فيل النَّجَاشِيّ من أجل أَنه أَبى من التَّوَجُّه إِلَى الْحرم. قَالَ: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ أَصْغَر الْحِجَارَة كرأس الْإِنْسَان وكبارها كَالْإِبِلِ، وَكَانَت قصَّة الْفِيل فِي أول الْمحرم من سنة اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة من تَارِيخ ذِي القرنين. وَقَوله: " فَضربُوا رَأسه بالطبرزين " بِفَتْح الْبَاء هَذَا هُوَ الأَصْل كَمَا ذكره الْبكْرِيّ فِي المعجم والطبر هُوَ الفأس، وَقد تسكن الْبَاء؛ لِأَن الْعَرَب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعباً وَلَا تقرها على حَال قَالَه ابْن جنى. وروى يُونُس عَن ابْن إِسْحَاق: أَن الْفِيل ربض فَجعلُوا يقسمون بِاللَّه أَنهم رادوه إِلَى الْيمن فيحرك لَهُم أُذُنَيْهِ كَأَنَّهُ يَأْخُذ عَلَيْهِم بذلك عهدا، فَإِذا أَقْسمُوا لَهُ قَامَ يُهَرْوِل فيردونه إِلَى مَكَّة فيربض، فَيحلفُونَ لَهُ فيحرك لَهُم أُذُنَيْهِ كالمؤكد عَلَيْهِم الْقسم فَفَعَلُوا ذَلِك مرَارًا، وَفِي رِوَايَة: أَنهم استشعروا الْعَذَاب فِي لَيْلَة ذَلِك الْيَوْم؛ لأَنهم نظرُوا إِلَى النُّجُوم كالحة إِلَيْهِم تكَاد تكلمهم من اقترابها مِنْهُم ففزعوا لذَلِك. قَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": وَأَقْبَلت الطير من نَاحيَة الْبَحْر يَوْم الِاثْنَيْنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: كَانَت قصَّة الْفِيل فِيمَا بعد من معجزات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ قبله. قَالَ: وَقَالَ أَبُو صَالح: وَرَأَيْت فِي بَيت أم هَانِئ بنت أبي طَالب نَحوا من قفيزين من تِلْكَ الْحِجَارَة سَوْدَاء مخططة بحمرة. فَإِن قيل: كَيفَ منع أَصْحَاب الْفِيل من الْكَعْبَة قبل مصيرها قبْلَة ومنسكاً، وَلم يمْنَع الْحجَّاج من هدمها وَقد صَارَت قبْلَة ومنسكاً حِين أحرقها وَنصب المنجنيق عَلَيْهَا؟ ! فَالْجَوَاب: إِن فعل الْحجَّاج كَانَ بعد اسْتِقْرَار الدّين فاستغنى عَن آيَات تأسيسه، وَأَصْحَاب الْفِيل كَانُوا قبل ظُهُور النُّبُوَّة فَجعل الْمَنْع مِنْهَا آيَة لتأسيس النُّبُوَّة ومجيء الرسَالَة، وَأجَاب الزَّمَخْشَرِيّ عَنهُ: بِأَن الْحجَّاج مَا قصد التسليط على الْبَيْت وَإِنَّمَا تحصن بِهِ ابْن الزبير فاحتال لإخراجه ثمَّ بناه، وَلما قصد التسليط عَلَيْهِ أَبْرَهَة فعل بِهِ مَا فعل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أنذر بهدمها، فَصَارَ الْهدم آيه بعد مَا كَانَ الْمَنْع آيَة، وَقد عاصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي

زمَان نبوته بعد هجرته جمَاعَة شاهدوا الْفِيل مِنْهُم: " حَكِيم بن حزَام "، و " حويطب ابْن عبد الْعُزَّى "، و " نَوْفَل بن مُعَاوِيَة "؛ لِأَن كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة سِتِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّة وَسِتِّينَ فِي الْإِسْلَام. قَالَ كَمَال الدّين الدَّمِيرِيّ فِي كِتَابه " حَيَاة الْحَيَوَان ": إِذا دخل إِنْسَان على من يخَاف شَره فليقرأ " كهيعص "، " حم عسق " وَعدد حُرُوف الْكَلِمَتَيْنِ عشر يعْقد لكل حرف إصبعاً من أَصَابِعه يبْدَأ بإبهام الْيَد الْيُمْنَى وَيخْتم بإبهام الْيَد الْيُسْرَى، فَإِذا فرغ عقد جَمِيع الْأَصَابِع، قَرَأَ فِي نَفسه سُورَة الْفِيل فَإِذا وصل إِلَى قَوْله: " ترميهم " كرر لفظ ترميهم عشر مَرَّات يفتح فِي كل مرّة إصبعاً من الْأَصَابِع المعقودة، فَإِذا فعل ذَلِك أَمن شَره وَهُوَ عَجِيب مجرب. وكنية الْفِيل أَبُو الْحجَّاج وَأَبُو الحرمان وَأَبُو دَغْفَل وَأَبُو كُلْثُوم وَأَبُو مُزَاحم، والفيلة أم شبْل، وَفِي " ربيع الْأَبْرَار " كنية فيل الْحَبَشَة أَبُو الْعَبَّاس، وَقد ألغز فِي اسْم الْفِيل فَقيل: مَا اسْم شَيْء تركيبه من ثَلَاث ... وَهُوَ ذُو أَربع تَعَالَى الْإِلَه قيل تصحيفه وَلَكِن إِذا مَا ... عكسوه يكون لي ثُلُثَاهُ وَهُوَ لَا يتلاقح إِلَّا فِي بِلَاده ومعادنه وَإِن صَار أهلياً، وَهُوَ إِذا اغتلم أشبه الْجمل فِي ترك المَاء والعلف حَتَّى تتورم رَأسه وَلم يكن لسواسه غير الْهَرَب مِنْهُ، وَالذكر ينزو إِذا مضى لَهُ من الْعُمر خمس سِنِين، وزمان نزوه الرّبيع، وَالْأُنْثَى تحمل سنتَيْن فَإِذا حملت لَا يقربهَا الذّكر وَلَا يلمسها وَلَا ينزو عَلَيْهَا إِلَّا بعد ثَلَاث سِنِين، وَقيل: تحمل سبع سِنِين، وَلَا ينزو إِلَّا على فيلة وَاحِدَة وَله عَلَيْهَا غيرَة شَدِيدَة، وَإِذا تمّ حملهَا وأرادت الْوَضع دخلت النَّهر حَتَّى تضع وَلَدهَا؛ لِأَنَّهَا تَلد وَهِي قَائِمَة وَلَا فواصل لقوائمها فتلد، وَالذكر عِنْد ذَلِك يحرسها وَوَلدهَا من الْحَيَّات، وَيَزْعُم أهل الْهِنْد أَن لِسَان الْفِيل مقلوب لَوْلَا ذَلِك لتكلم، وَفِيه من الْفَهم مَا يقبل بِهِ التَّأْدِيب وَيفْعل مَا تَأمره من السُّجُود للملوك وَغير ذَلِك من الْخَيْر وَالشَّر فِي حالتي السّلم وَالْحَرب، وَفِيه من الْأَخْلَاق أَنه يُقَاتل بعضه بَعْضًا والمقهور مِنْهُمَا يخضع للقاهر، وَأهل الْهِنْد يعظمونه؛ لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْخِصَال المحمودة من علو سمكه

فصل ذكر بناء قريش الكعبه في الجاهليه

وَعظم صورته وبديع منظره وَطول خرطومه وسعة أُذُنه، وَطول عمره وَثقل حمله وخفة وَطئه فَإِنَّهُ رُبمَا مر بالإنسان وَلَا يشْعر بِهِ لحسن خطوه واستقامته، ولطول عمره حكى أرسطو أَن فيلاً ظهر أَن عمره أَرْبَعمِائَة سنة وَاعْتبر ذَلِك بِالْمَوْسِمِ. وَبَينه وَبَين السنور عَدَاوَة طبيعية حَتَّى أَن الْفِيل يهرب مِنْهُ، كَمَا أَن السَّبع يهرب من الديك الْأَبْيَض، وكالعقرب وَأَنَّهَا مَتى رَأَتْ الوزغة مَاتَت. وَذكر الْقزْوِينِي أَن فرج الفيلة تَحت بَطنهَا، فَإِذا كَانَ وَقت الضراب ارْتَفع وبرز للفحل حَتَّى يتَمَكَّن من إيتانه فسبحان من لَا يعجزه شَيْء عَن شَيْء. وَلما رد الله سُبْحَانَهُ الْحَبَشَة عَن مَكَّة وأصابهم مَا أَصَابَهُم من النقمَة، أعظمت الْعَرَب قُريْشًا، وَقَالُوا: أهل الله قَاتل عَنْهُم وكفاهم مُؤنَة عدوهم فَجعلُوا يَقُولُونَ فِي ذَلِك الْأَشْعَار، ويذكرون فِيهَا مَا صنع الله تَعَالَى بِالْحَبَشَةِ وَمَا دفع عَن قُرَيْش من كيدهم، ويذكرون الأشرم والفيل ومساقه إِلَى الْحرم وَمَا أَرَادَ من هدم الْبَيْت وَاسْتِحْلَال حرمته. فصل: ذكر بِنَاء قُرَيْش الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَت الْكَعْبَة قبل أَن تبنيها قُرَيْش وضماً يَابسا لَيْسَ بمدر تبروه العناق، وَكَانَ بَابهَا بِالْأَرْضِ وَلم يكن لَهَا سقف وَإِنَّمَا تدلي الْكسْوَة على الْجدر من خَارج وتربط من أَعلَى الْجدر من بَطنهَا، وَكَانَ فِي بطن الْكَعْبَة عَن يَمِين من دَخلهَا جب يكون فِيهِ مَا يهدي للكعبة من مَال وَحلية كَهَيئَةِ الخزانة، وَكَانَ على ذَلِك الْجب حَيَّة تحرسه بَعثه الله مُنْذُ زمن جرهم، وَذَلِكَ أَنه عدا على ذَلِك الْجب قوم من جرهم فسرقوا مَالهَا وحليتها مرّة بعد مرّة، فَبعث الله تَعَالَى تِلْكَ الْحَيَّة فحرست الْكَعْبَة وَمَا فِيهَا خَمْسمِائَة سنة، ثمَّ لم تزل كَذَلِك حَتَّى بنت قُرَيْش الْكَعْبَة، وَكَانَ قرنا الْكَبْش الَّذِي ذبحه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام

معلقين فِي بَطنهَا بالجدر تِلْقَاء من دَخلهَا ويطيبان إِذا طيب الْبَيْت، وَكَانَ فِيهَا معاليق من حلية كَانَت تهدى للكعبة، وَسبب بِنَاء قُرَيْش الْكَعْبَة أَن امْرَأَة ذهبت تجمر الْكَعْبَة فطارت من مجمرتها شرارة فاحترقت كسوتها، وَكَانَت الْكسْوَة عَلَيْهَا ركاماً بَعْضهَا فَوق بعض فَلَمَّا احترقت الْكَعْبَة توهنت جدرانها من كل جَانب وتصدعت، وَكَانَت السُّيُول متواترة فجَاء سيل عَظِيم وَهِي على تِلْكَ الْحَال فَدخل الْكَعْبَة وصدع جدرانها وأحافها، فَفَزِعت من ذَلِك قُرَيْش فَزعًا شَدِيدا وهابوا هدمها وخشوا إِن ينسوها أَن ينزل عَلَيْهِم الْعَذَاب، فَبَيْنَمَا هم على ذَلِك ينتظرون ويتشاورون إِذْ أَقبلت سفينة للروم حَتَّى إِذا كَانَت بالشعيبة بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَهِي يَوْمئِذٍ سَاحل مَكَّة قبل جدة فَانْكَسَرت فَسمِعت بهَا قُرَيْش، فَرَكبُوا إِلَيْهَا فاشتروا خشبها، وأذنوا لأَهْلهَا أَن يدخلُوا مَكَّة فيبيعوا مَا مَعَهم من مَتَاعهمْ على أَن لَا يعشروهم، وَكَانُوا يعشرُونَ من دَخلهَا من تجار الرّوم، كَمَا كَانَت الرّوم تعشر من دخل مِنْهُم بلادها، وَكَانَ فِي السَّفِينَة رومي نجار بِنَاء يُسمى باقوم. قَالَ السُّهيْلي: وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ بِمَكَّة نجار قبْطِي، وَذكر غَيره أَنه كَانَ علجاً فِي السَّفِينَة وَأَن اسْم ذَلِك النجار باقوم وَكَذَلِكَ أَيْضا فِي اسْم النجار الَّذِي عمل مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طرفاء الغابة وَلَعَلَّه أَن يكون هَذَا. انْتهى كَلَامه. فَلَمَّا قدمُوا بالخشب مَكَّة قَالُوا: لَو بنينَا بَيت رَبنَا فَاجْتمعُوا لذَلِك وتعاونوا وترافدوا فِي النَّفَقَة، وربعوا قبائل قُرَيْش أَربَاعًا، ثمَّ اقترعوا عِنْد هُبل فِي جَوف الْكَعْبَة على جوانبها، فطار قدح بني عبد منَاف وَبني زهرَة على الْوَجْه الَّذِي فِيهِ الْبَاب وَهُوَ الشَّرْقِي، وطار قدح بني عبد الدَّار وَبني أَسد بن عبد الْعُزَّى وَبني عدي بن كَعْب على الشق الَّذِي يَلِي الْحجر وَهُوَ الشق الشَّامي، وطار قدح بني سهم وَبني جمح وَبني عَامر بن لؤَي على ظهر الْكَعْبَة وَهُوَ الشق الغربي، وطار قدح بني تَمِيم وَبني مَخْزُوم وقبائل من قُرَيْش ضمُّوا مَعَهم على الشق الْيَمَانِيّ الَّذِي يَلِي الصَّفَا فنقلوا الْحِجَارَة، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ غُلَام لم ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي ينْقل مَعَهم الْحِجَارَة على رقبته، فَبَيْنَمَا هُوَ ينقلها إِذا انكشفت

نمرة كَانَت عَلَيْهِ فَنُوديَ يَا مُحَمَّد عورتك وَذَلِكَ أول مَا نُودي وَالله أعلم فَمَا رويت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُورَة بعد ذَلِك، ولبج برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْفَزع حِين نُودي فَأَخذه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فضمه إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَو جعلت نمرتك على عاتقك تعتل الْحِجَارَة. قَالَ: مَا أصابني هَذَا إِلَّا من التعري فَشد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إزَاره وَجعل ينْقل مَعَهم، وَكَانُوا ينقلون بِأَنْفسِهِم تبرراً وتبركاً بِالْكَعْبَةِ، فَلَمَّا اجْتمع لَهُم مَا يُرِيدُونَ من الْحِجَارَة والخشب وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، عدوا على هدمها فَخرجت لَهُم الْحَيَّة الَّتِي كَانَت فِي بَطنهَا تحرسها سَوْدَاء الظّهْر بَيْضَاء الْبَطن رَأسهَا مثل رَأس الجدي تمنعهم كلما أَرَادوا هدمها، وَكَانَت لَا يدنو أحد من بِئْر الْكَعْبَة إِلَّا رفعت ذنبها وكشت أَي: صوتت، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك اعتزلوا عِنْد مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ يَوْمئِذٍ فِي الْمَكَان الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْم، فَقَالَ لَهُم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة: يَا قوم ألستم تُرِيدُونَ بهدمها الْإِصْلَاح. قَالُوا: بلَى. قَالَ: فَإِن الله عز وَجل لَا يهْلك المصلحين، وَلَكِن لَا تدْخلُوا فِي عمَارَة بَيت ربكُم إِلَّا من طيب أَمْوَالكُم، وَلَا تدْخلُوا فِيهِ مَالا من رَبًّا وَلَا مَالا من مَسِيس وَلَا مهر بغي وجنبوه الْخَبيث من أَمْوَالكُم، فَإِن الله عز وَجل لَا يقبل إِلَّا طيبا. فَفَعَلُوا ثمَّ وقفُوا عِنْد الْمقَام فَقَامُوا يدعونَ رَبهم وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ لَك فِي هدمها رضى فأتمه وأشغل عَنَّا هَذَا الثعبان. فَأقبل طَائِر من جو السَّحَاب كَهَيئَةِ الْعقَاب ظَهره أسود وبطنه أَبيض وَرجلَاهُ صفراوان والحية على جِدَار الْبَيْت فاغرة فاها فَأخذ برأسها، وَفِي رِوَايَة فغرز مخالبه فِي رَأسهَا حَتَّى انْطلق بهَا يجرها وذنبها أعظم من كَذَا وَكَذَا، فطار بهَا حَتَّى أدخلها أجياد الصَّغِير، فَقَالَت

قُرَيْش: إِنَّا لنَرْجُو أَن يكون الله سُبْحَانَهُ قد رَضِي عَمَلكُمْ وَقبل نفقتكم فَاهْدِمُوهُ فهابت قُرَيْش هَدمه، فَقَالُوا: من يبْدَأ فيهدم؟ فَقَالَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة: أَنا أبدؤكم فِي هَدمه أَنا شيخ كَبِير، فَإِن أصابني أَمر كَانَ قد دنا أَجلي، وَإِن كَانَ غير ذَلِك لم يزرأ بِي، فعلا الْبَيْت وَفِي يَده عتلة يهدم بهَا فتزعزع من تَحت رجله فَقَالَ: اللَّهُمَّ لم نزع إِنَّمَا أردنَا الْإِصْلَاح. وَجعل يَهْدِمهَا حجرا حجرا بالعتلة فهدم يَوْمه ذَلِك، فَقَالَت قُرَيْش: نَخَاف أَن ينزل بِهِ الْعَذَاب إِذا أَمْسَى. فَلَمَّا أَمْسَى لم ير بَأْسا، فَأصْبح الْوَلِيد غادياً على عمله فهدمت قُرَيْش مَعَه حَتَّى بلغُوا الأساس الَّذِي رفع عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام الْقَوَاعِد من الْبَيْت فَأَبْصرُوا حِجَارَة كَأَنَّهَا الْإِبِل الْخلف، لَا يُطيق الْحجر مِنْهُ ثَلَاثُونَ رجلا يُحَرك الْحجر مِنْهَا فترتج جوانبها قد تشبك بَعْضهَا بِبَعْض، فَأدْخل الْوَلِيد بن الْمُغيرَة عتلة بَين حجرين فانفلقت مِنْهُ فلقَة فَأَخذهَا أَبُو وهب بن عَمْرو بن عَائِذ بن عمرَان بن مَخْزُوم فنزت من يَده ثمَّ عَادَتْ فِي مَكَانهَا، وطارت برقة كَادَت أَن تخطف أَبْصَارهم ورجفت مَكَّة بأسرها، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك أَمْسكُوا عَن أَن ينْظرُوا إِلَى مَا تَحت ذَلِك، فَلَمَّا جمعُوا مَا أخرجُوا من النَّفَقَة قلت النَّفَقَة عَن أَن تبلغ لَهُم عمَارَة الْبَيْت كُله، فتشاوروا فِي ذَلِك وَأجْمع رَأْيهمْ عَن أَن يقصروا عَن الْقَوَاعِد ويحجروا مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ من الْبَيْت ويتركوا بَقِيَّته فِي الْحجر عَلَيْهِ جِدَار مدَار يطوف النَّاس من وَرَائه، فَفَعَلُوا ذَلِك وبنوا فِي بطن الْكَعْبَة أساساً يبنون عَلَيْهِ من شقّ الْحجر، وَتركُوا من وَرَائه من فنَاء الْبَيْت فِي الْحجر سِتَّة أَذْرع وشبراً فبنوا على ذَلِك، فَلَمَّا وضعُوا أَيْديهم فِي بنائها، قَالُوا: ارْفَعُوا بَابهَا من الأَرْض واكبسوها حَتَّى لَا تدْخلهَا السُّيُول وَلَا ترقى إِلَّا بسلم، وَلَا يدخلهَا إِلَّا من أردتم ثمَّ إِن كرهتم أحدا دفعتموه، فَفَعَلُوا ذَلِك وبنوها بساق من حِجَارَة وسَاق من خشب بَين الْحِجَارَة حَتَّى انْتَهوا إِلَى مَوضِع الرُّكْن فَاخْتَلَفُوا فِي وَضعه، وَكثر الْكَلَام فِيهِ وتنافسوا فِي ذَلِك فَقَالَت بَنو عبد منَاف وزهرة: هُوَ فِي الشق الَّذِي وَقع لنا. وَقَالَت بَنو تَمِيم ومخزوم: هُوَ فِي الشق الَّذِي وَقع لنا. وَقَالَت سَائِر الْقَبَائِل: لم يكن الرُّكْن مِمَّا استهمنا عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو أُميَّة بن الْمُغيرَة: يَا قوم إِنَّمَا أردنَا الْبر وَلم نرد الشَّرّ، فَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تنافسوا فَإِنَّكُم إِن اختلفتم نسيت أُمُوركُم وطمع فِيكُم غَيْركُمْ، وَلَكِن حكمُوا بَيْنكُم أول من يطلع عَلَيْكُم من هَذَا الْفَج. قَالُوا: رَضِينَا وَسلمنَا فطلع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ وشاحاً نمرة فَقَالُوا: هَذَا الْأمين قد رَضِينَا بِهِ فحكموه، فَبسط رِدَاءَهُ ثمَّ وضع فِيهِ الرُّكْن ودعا من كل ربع رجلا فَأخذُوا بأطراف الثَّوْب، فَكَانَ من بني عبد منَاف عتبَة بن ربيعَة، وَكَانَ فِي الرّبع الثَّانِي أَبُو ربيعَة بن الْأسود وَكَانَ أسن الْقَوْم، وَفِي الرّبع الثَّالِث الْعَاصِ

ابْن وَائِل، وَفِي الرّبع الرَّابِع حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة، فَرفع الْقَوْم الرُّكْن وَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْجدر فَوَضعه هُوَ بِيَدِهِ، فَذهب رجل من أهل نجد ليناول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجرا يشد بِهِ الرُّكْن، فَقَالَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ: لَا، فناول الْعَبَّاس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجرا فَشد بِهِ الرُّكْن. وَفِي رِوَايَة: أَمر بالركن فَوضع فِي ثوب ثمَّ أَمر سيد كل قَبيلَة فَأعْطَاهُ نَاحيَة الثَّوْب ثمَّ ارْتقى، وَأمرهمْ بالركن أَن يرفعوه إِلَيْهِ فَرَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَكَانَ هُوَ الَّذِي وَضعه. ي وَضعه، وَكثر الْكَلَام فِيهِ وتنافسوا فِي ذَلِك فَقَالَت بَنو عبد منَاف وزهرة: هُوَ فِي الشق الَّذِي وَقع لنا. وَقَالَت بَنو تَمِيم ومخزوم: هُوَ فِي الشق الَّذِي وَقع لنا. وَقَالَت سَائِر الْقَبَائِل: لم يكن الرُّكْن مِمَّا استهمنا عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو أُميَّة بن الْمُغيرَة: يَا قوم إِنَّمَا أردنَا الْبر وَلم نرد الشَّرّ، فَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تنافسوا فَإِنَّكُم إِن اختلفتم نسيت أُمُوركُم وطمع فِيكُم غَيْركُمْ، وَلَكِن حكمُوا بَيْنكُم أول من يطلع عَلَيْكُم من هَذَا الْفَج. قَالُوا: رَضِينَا وَسلمنَا فطلع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ وشاحاً نمرة فَقَالُوا: هَذَا الْأمين قد رَضِينَا بِهِ فحكموه، فَبسط رِدَاءَهُ ثمَّ وضع فِيهِ الرُّكْن ودعا من كل ربع رجلا فَأخذُوا بأطراف الثَّوْب، فَكَانَ من بني عبد منَاف عتبَة بن ربيعَة، وَكَانَ فِي الرّبع الثَّانِي أَبُو ربيعَة بن الْأسود وَكَانَ أسن الْقَوْم، وَفِي الرّبع الثَّالِث الْعَاصِ بن وَائِل، وَفِي الرّبع الرَّابِع حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة، فَرفع الْقَوْم الرُّكْن وَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْجدر فَوَضعه هُوَ بِيَدِهِ، فَذهب رجل من أهل نجد ليناول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجرا يشد بِهِ الرُّكْن، فَقَالَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ: لَا، فناول الْعَبَّاس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجرا فَشد بِهِ الرُّكْن. وَفِي رِوَايَة: أَمر بالركن فَوضع فِي ثوب ثمَّ أَمر سيد كل قَبيلَة فَأعْطَاهُ نَاحيَة الثَّوْب ثمَّ ارْتقى، وَأمرهمْ بالركن أَن يرفعوه إِلَيْهِ فَرَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَكَانَ هُوَ الَّذِي وَضعه. قَالَ الكازروني فِي سيرته: وَكَانَ وَضعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ فَلَمَّا وَضعه غضب النجدي قَالَ: واعجباه لقوم أهل شرف وعقول وَسن وأموال، عَمدُوا إِلَى أَصْغَرهم سنا وَأَقلهمْ مَالا فرأسوه عَلَيْهِم فِي مكرمتهم كَأَنَّهُمْ خدم لَهُ، أما وَالله ليفوتنهم سبقاً وليقسمن عَلَيْهِم حظوظاً. وَيُقَال: إِن هَذَا النجدي هُوَ إِبْلِيس لَعنه الله. فبنوا حَتَّى بلغُوا أَرْبَعَة أَذْرع وشبراً ثمَّ كبسوها وَوَضَعُوا بَابهَا مرتفعاً على هَذَا الذرع رفعوها بمدماك على خشب ومدماك حِجَارَة حَتَّى بلغُوا السّقف، فَقَالَ لَهُم باقوم الرُّومِي: أتحبون أَن تجْعَلُوا سقفها " مُنَكسًا " أَو مسطحًا. قَالُوا: بل ابْن بَيت رَبنَا مسطحًا. قَالَ: فبنوه مسطحًا وَجعلُوا فِيهِ سِتّ دعائم فِي صفّين، كل صف ثَلَاث دعائم من الشق الشَّامي الَّذِي يَلِي الْحجر إِلَى الشق الْيَمَانِيّ، وَجعلُوا ارتفاعها من خَارِجهَا من الأَرْض إِلَى أَعْلَاهَا ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا، وَكَانَت قبل ذَلِك تِسْعَة أَذْرع، فزادت قُرَيْش " فِي السَّمَاء " فِي ارتفاعها فِي السَّمَاء تِسْعَة أَذْرع أُخْرَى، وبنوها من أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلهَا بمدماك من حِجَارَة ومدماك من خشب، فَكَانَ الْخشب خَمْسَة عشر مدماكاً وَالْحِجَارَة سِتَّة عشر مدماكاً، وَجعلُوا ميزابها يسْكب فِي الْحجر، وَجعلُوا دَرَجَة من خشب فِي بَطنهَا فِي الرُّكْن الشَّامي يصعد فِيهَا إِلَى ظهرهَا، وزوقوا سقفها وجدرانها من بَطنهَا ودعائمها، وَجعلُوا فِي دعائمها صور الْأَنْبِيَاء وصور الشّجر وصور الْمَلَائِكَة، وَكَانَ فِيهَا صُورَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام خَلِيل الرَّحْمَن شيخ يستقسم بالأزلام، وَصُورَة عِيسَى بن مَرْيَم

وَأمه، وصور الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم السَّلَام فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأرْسل الْفضل بن عَبَّاس بن عبد الْمطلب فجَاء بِمَاء من زَمْزَم ثمَّ أَمر بِثَوْب فَبل بِالْمَاءِ وَأمر بطمس تِلْكَ الصُّور فطمست، وَوضع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفيه على صُورَة عِيسَى بن مَرْيَم وَأمه عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقَالَ: " امحوا جَمِيع الصُّور إِلَّا مَا تَحت يَدي " فَرفع يَده عَن عِيسَى وَأمه، وَنظر إِلَى صُورَة إِبْرَاهِيم فَقَالَ: " قَاتلهم الله جَعَلُوهُ يستقسم بالأزلام، مَا لإِبْرَاهِيم وللأزلام ". وَجعلُوا لَهَا بَابا وَاحِدًا فَكَانَ يغلق وَيفتح، وَكَانُوا قد أخرجُوا مَا كَانَ فِي الجبّ من حلية وَمَال وقرني الْكَبْش وجعلوه عِنْد أبي طَلْحَة عبد الله بن عبد الْعُزَّى بن عبد الدَّار بن قصي، وأخرجوا هُبل وَنصب عِنْد الْمقَام حَتَّى فرغوا من بِنَاء الْبَيْت وردوا ذَلِك المَال فِي الْجب وعلقوا فِيهِ الْحِلْية وقرني الْكَبْش وردوا الْجب فِي مَكَانَهُ مِمَّا يَلِي الشق الشَّامي ونصبوا هُبل على الْجب كَمَا كَانَ قبل ذَلِك، وَجعلُوا لَهُ سلما يصعد فِيهِ إِلَى بَطنهَا، وكسوها حِين فرغوا من بنائها حبرات ثَمَانِيَة، وَعَن مشافع بن شيبَة بن عُثْمَان أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " يَا شيبَة امح كل صُورَة فِيهِ إِلَّا مَا تَحت يَدي " قَالَ: فَرفع يَده عَن عِيسَى بن مَرْيَم وَأمه.

وَعَن جَابر بن عبد الله قَالَ: زجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصُّور، وَأمر عمر بن الْخطاب زمن الْفَتْح أَن يدْخل الْبَيْت فَيَمْحُو مَا فِيهِ من صُورَة وَلم يدْخلهُ حَتَّى مُحي. وَعَن الْحسن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدْخل الْكَعْبَة حَتَّى أَمر عمر بن الْخطاب أَن يطمس على كل صُورَة فِيهَا. وَعَن ابْن أبي تجراة عَن أمه قَالَت: أَنا أنظر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يضع الرُّكْن بِيَدِهِ فَقلت: لمن الثَّوْب الَّذِي وضع فِيهِ الْحجر؟ قَالَت للوليد بن الْمُغيرَة. وَيُقَال: فَحمل الْحجر فِي كسَاء رومي كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم روى جَمِيع ذَلِك الْأَزْرَقِيّ. ويروى: أَن الطَّائِر الَّذِي اخْتَطَف الْحَيَّة هُوَ الْعقَاب. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن هَذِه الْحَيَّة هِيَ الدَّابَّة الَّتِي تكلم النَّاس قبل يَوْم الْقِيَامَة قَالَ السُّهيْلي: وَاسْمهَا أقْصَى. وَقيل: إِن الدَّابَّة الَّتِي تكلم النَّاس هِيَ فصيل نَاقَة صَالح، وَهُوَ الْأَصَح كَمَا ذكره الْقُرْطُبِيّ؛ لما روى أَبُو دَاوُد عَن حُذَيْفَة قَالَ: ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّابَّة فَقَالَ: " لَهَا ثَلَاث خرجات من الدَّهْر: فَتخرج من أقْصَى الْبَادِيَة وَلَا يدْخل ذكرهَا الْقرْيَة يَعْنِي مَكَّة ثمَّ تكمن زَمَانا طَويلا، ثمَّ تخرج خرجَة أُخْرَى دون ذَلِك فيفشو ذكرهَا فِي أهل الْبَادِيَة وَيدخل ذكرهَا الْقرْيَة أَي مَكَّة ثمَّ بَينا النَّاس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام لم يرعهم إِلَّا وَهِي ترغو بَين الرُّكْن وَالْمقَام تنفض عَن رَأسهَا التُّرَاب ". الحَدِيث فَفِي قَوْله: ترغو. دَلِيل على أَنَّهَا الفصيل. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَذَلِكَ أَن الفصيل لما قتلت النَّاقة هرب فانفتح لَهُ حجر فَدخل فِي جَوْفه، ثمَّ انطبق عَلَيْهِ الْحجر فَهُوَ فِيهِ حَتَّى يخرج بِإِذن الله تَعَالَى، وَقيل: إِنَّهَا الْجَسَّاسَة.

وَاخْتلفُوا فِي صفتهَا فَقيل: إِنَّهَا دَابَّة مرغية الشّعْر ذَات قَوَائِم، طولهَا سِتُّونَ ذِرَاعا. وَقيل: على خلقَة الْآدَمِيّين وَهِي فِي السَّحَاب وقوائمها فِي الأَرْض. وَقيل: جمعت من خلق كل حَيَوَان؛ رَأسهَا رَأس ثَوْر، وَعين عين خِنْزِير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيّل، وعنقها عنق نعَامَة، وصدرها صدر أَسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذَنْب كَبْش، وقوائمها قَوَائِم بعير، بَين كل مفصل ومفصل اثْنَي عشر ذِرَاعا بِذِرَاع آدم عَلَيْهِ السَّلَام يخرج مَعهَا عَصا مُوسَى وَخَاتم سُلَيْمَان، فَتنْكت فِي وَجه الْمُؤمن نُكْتَة بَيْضَاء بعصا مُوسَى فيبيض وَجهه، وتنكت فِي وَجه الْكَافِر نُكْتَة سَوْدَاء بِخَاتم سُلَيْمَان فيسود وَجهه. وَقيل: لَيْسَ لَهَا ذَنْب. وَقيل: لَيْسَ لَهَا وبر وَرِيش. وَلها ثَلَاث خرجات آخِرهنَّ بَين الرُّكْن وَالْمقَام كَمَا تقدم لَا يخرج ثلثاها. قَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": وَفِي الرُّكْن الْعِرَاقِيّ من حِيَال الْبَيْت صدع مستطيل فَلَعَلَّهُ الْمشَار إِلَيْهِ. وَاخْتلف فِي أَي مَوضِع تخرج، فَقيل: من جبل الصَّفَا يتصدع فَتخرج مِنْهُ، أَو من تهَامَة، أَو من الطّواف، أَو من مَسْجِد الْكُوفَة من حَيْثُ فار تنور نوح، أَو من الطَّائِف، أَو من جِيَاد، أَو من بَين الرُّكْنَيْنِ، أَو من صَخْرَة فِي شعب أجياد، أَو من بَحر سدوم، وَتخرج قبل يَوْم التَّرويَة بِيَوْم. وَقيل: يَوْم عَرَفَة. وَقيل: يَوْم النَّحْر. وَقد تقدم فِي بَاب الْفَضَائِل عَن ابْن إِسْحَاق: أَن قُريْشًا وجدت فِي الرُّكْن كتابا بالسُّرْيَانيَّة وَفِيه:

فصل ذكر الوقت الذي كانوا يفتحون فيه الكعبه واول من خلع النعل عند دخولها

" أَنا الله ذُو بكة خلقتها يَوْم خلقت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَى آخِره ". وَعَن الزُّهْرِيّ قَالَ: إِن قُريْشًا حِين بنوا الْكَعْبَة وجدوا فِيهِ حجرا وَفِيه ثَلَاثَة صفوح؛ فِي الصفح الأول: " أَنا الله ذُو بكة صنعتها يَوْم صنعت الشَّمْس وَالْقَمَر " إِلَى آخر كَلَام ابْن إِسْحَاق الْمُتَقَدّم فِي الْفَضَائِل. وَفِي الصفح الثَّانِي: " أَنا الله ذُو بكة خلقت الرَّحِم واشتققت لَهَا اسْما من اسْمِي فَمن وَصلهَا وصلته وَمن قطعهَا بتته ". وَفِي الصفح الثَّالِث: " أَنا الله ذُو بكة خلقت الْخَيْر وَالشَّر فطوبى لمن كَانَ الْخَيْر على يَدَيْهِ وويل لمن كَانَ الشَّرّ على يَدَيْهِ ". وَحضر سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَاء قُرَيْش وَله خمس وَثَلَاثُونَ سنة. وَقيل: خمس وَعِشْرُونَ سنة. حَكَاهُمَا النَّوَوِيّ. فصل: ذكر الْوَقْت الَّذِي كَانُوا يفتحون فِيهِ الْكَعْبَة وَأول من خلع النَّعْل عِنْد دُخُولهَا عَن عَمْرو الْهُذلِيّ قَالَ: رَأَيْت قُريْشًا يفتحون الْبَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس، وَكَانَ حجابه يَقْعُدُونَ عِنْد بَابه فيرتقي الرجل إِذا كَانُوا لَا يُرِيدُونَ دُخُوله فَيدْفَع ويطرح وَرُبمَا عطب، وَكَانُوا لَا يدْخلُونَ الْكَعْبَة بحذاء يعظمون ذَلِك ويضعون نعَالهمْ تَحت الدرجَة. وَأول من خلع الْخُف والنعل فَلم يدخلهَا بهما الْوَلِيد بن الْمُغيرَة؛ إعظاماً لَهَا فَجرى ذَلِك سنة. ويروى أَن فَاخِتَة بنت زُهَيْر بن حَرْب بن الْحَارِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى وَهِي أم حَكِيم بن حزَام دخلت الْكَعْبَة وَهِي حَامِل، فأدركها الْمَخَاض فِيهَا فَولدت حكيماً فِي الْكَعْبَة فَحملت فِي نطع، وَأخذ مَا تَحت مثبرها فَغسل عِنْد حَوْض زَمْزَم.

فصل ذكر بناء الزبير الكعبه وما زاد فيها وما نقص منها الحجاج

فصل: ذكر بِنَاء الزبير الْكَعْبَة وَمَا زَاد فِيهَا وَمَا نقص مِنْهَا الْحجَّاج عَن ابْن جريج قَالَ: سَمِعت غير وَاحِد مِمَّن حضر ابْن الزبير حِين هدم الْكَعْبَة وبناها فَقَالُوا: لما أَبْطَأَ عبد الله بن الزبير عَن بيعَة يزِيد بن مُعَاوِيَة وتخلف وخشي مِنْهُم لحق مَكَّة؛ ليمتنع بِالْحرم، وَجمع موَالِيه وَجعل يظْهر عيب يزِيد بن مُعَاوِيَة ويشتمه وَيذكر شربه الْخمر وَغير ذَلِك، ويجتمع النَّاس إِلَيْهِ فَيقوم فيهم بَين الْأَيَّام فيذكر مساوئ بني أُميَّة فيطنب فِي ذَلِك، فَبلغ ذَلِك يزِيد بن مُعَاوِيَة فأقسم لَا يُؤْتى بِهِ إِلَّا مغلولاً فَأرْسل إِلَيْهِ رجلا من أهل الشَّام فِي خيل من أهل الشَّام فَعظم على ابْن الزبير الْقَضِيَّة، وَقَالَ: لِأَن يسْتَحل الْحرم بسببك فَإِنَّهُ غير تاركك وَلَا تقوى عَلَيْهِ وَأقسم أَن لَا يُؤْتى بك إِلَّا مغلولاً وَقد عملت لَك غلاً من فضَّة وتلبس فَوْقه الثِّيَاب وتبر قسم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَالصُّلْح خير عَاقِبَة وأجمل بك وَبِه، فَقَالَ: دَعونِي أَيَّامًا حَتَّى أنظر فِي أَمْرِي فَشَاور أمه السَّمَاء بنت أبي بكر الصّديق فِي ذَلِك فَأَبت عَلَيْهِ أَن يذهب مغلولاً وَقَالَت: يَا بني عش كَرِيمًا ومت كَرِيمًا، وَلَا تمكن بني أُميَّة من نَفسك فتلعب بك فالموت أحسن من هَذَا، فَأبى أَن يذهب إِلَيْهِ فِي غل وَامْتنع فِي موَالِيه وَمن يألف إِلَيْهِ من أهل مَكَّة فَكَانَ يُقَال لَهُم: الزبيرية، فَبَيْنَمَا يزِيد على بعثة الجيوش إِلَيْهِ إِذْ أَتَى يزِيد خبر أهل الْمَدِينَة وَمَا فعلوا بعامله وَمن كَانَ بِالْمَدِينَةِ من بني أُميَّة وإخراجهم إيَّاهُم مِنْهَا إِلَّا من كَانَ من ولد عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ، فَجهز إِلَيْهِم مُسلم بن عقبَة المري فِي أهل الشَّام وَأمره بِقِتَال أهل الْمَدِينَة فَإِذا فرغ من ذَلِك سَار إِلَى ابْن الزبير بِمَكَّة، وَكَانَ مُسلم مَرِيضا فِي بَطْنه المَاء الْأَصْفَر فَقَالَ لَهُ يزِيد: إِن حدث بك الْمَوْت فول الْحصين بن نمير الْكِنْدِيّ على جيشك، فَسَار حَتَّى قدم الْمَدِينَة فقاتلوه فظفر بهم ودخلها وَقتل من قتل مِنْهُم، وأسرف فِي الْقَتْل فَسُمي بذلك مُسْرِفًا، وَنهب الْمَدِينَة ثَلَاثًا، وَسَار إِلَى مَكَّة فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق حَضرته الْوَفَاة فَدَعَا الْحصين بن نمير فَقَالَ لَهُ: يَا برذعة الْحمار لَوْلَا أكره أَنِّي أتزود عِنْد الْمَوْت مَعْصِيّة أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا وليتك، انْظُر إِذا قدمت مَكَّة فاحذر أَن تمكن قُريْشًا من أُذُنك فَتَقول فِيهَا لَكِن لَا يكن إِلَّا الوقاف ثمَّ العفاف ثمَّ الِانْصِرَاف، فَتوفي مُسلم المسرف وَمضى الْحصين بن نمير إِلَى مَكَّة فقاتل ابْن الزبير بهَا أَيَّامًا

وَجمع ابْن الزبير أَصْحَابه فتحصن بهم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وحول الْكَعْبَة، فَضرب أَصْحَاب ابْن الزبير خياماً يكتنون بهَا من حِجَارَة المنجنيق ويستظلون فِيهَا من الشَّمْس، وَكَانَ الْحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أخشبي مَكَّة وهما أَبُو قبيس والأحمر فَكَانَ يرميهم بهَا فتصيب الْحِجَارَة الْكَعْبَة حَتَّى تخرق كسوتها عَلَيْهَا، فَصَارَت كَأَنَّهَا جُيُوب النِّسَاء فوهّن الرَّمْي بالمنجنيق الْكَعْبَة، فَذهب رجل من أَصْحَاب ابْن الزبير يُوقد نَارا فِي بعض تِلْكَ الْخيام مِمَّا يَلِي الصَّفَا بَين الرُّكْن الْأسود والركن الْيَمَانِيّ، وَالْمَسْجِد يَوْمئِذٍ ضيق صَغِير، فطارت شرارة فِي الْخَيْمَة فاحترقت وَكَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم ريَاح شَدِيدَة، والكعبة يَوْمئِذٍ مَبْنِيَّة بِنَاء قُرَيْش مدماك من سَاج ومدماك من حِجَارَة من أَسْفَلهَا إِلَى أَعْلَاهَا وَعَلَيْهَا الْكسْوَة، فطارت الرِّيَاح بلهب تِلْكَ النَّار فاحترقت كسْوَة الْكَعْبَة، وَاحْتَرَقَ الساج الَّذِي بَين الْبناء، وَكَانَ احتراقها يَوْم السبت لثلاث لَيَال خلون من شهر ربيع الأول قبل أَن يَأْتِي نعى يزِيد بن مُعَاوِيَة بِتِسْعَة وَعشْرين يَوْمًا، وَجَاء نعيه فِي هِلَال شهر ربيع الآخر لَيْلَة الثُّلَاثَاء سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَكَانَ توفّي لأَرْبَع عشرَة خلت من شهر ربيع الأول سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَكَانَت خِلَافَته ثَلَاثَة سِنِين وَسَبْعَة أشهر، فَلَمَّا احترقت الْكَعْبَة وَاحْتَرَقَ الرُّكْن الْأسود وتصدع، كَانَ ابْن الزبير بعد ذَلِك ربطه بِالْفِضَّةِ وضعفت جدران الْكَعْبَة حَتَّى أَنَّهَا لتنقض من أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلهَا وَيَقَع الْحمام عَلَيْهَا فيستأثر حجارتها وَهِي مُجَرّدَة موهنة من كل جَانب، فَفَزعَ لذَلِك أهل مَكَّة وَأهل الشَّام جَمِيعًا وَالْحصين بن نمير محاصر ابْن الزبير، فَأرْسل ابْن الزبير رجَالًا من أهل مَكَّة من قُرَيْش وَغَيرهم مِنْهُم عبد الله بن خَالِد بن أسيد وَرِجَال من بني أُميَّة إِلَى الْحصين فكلموه وعظموا عَلَيْهِ مَا أصَاب الْكَعْبَة وَقَالُوا: إِن ذَلِك مِنْكُم رميتموها بالنفط. فأنكروا ذَلِك وَقَالُوا: قد توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ فعلى مَاذَا تقَاتل؟ ارْجع إِلَى الشَّام حَتَّى تنظر مَاذَا يجمع عَلَيْهِ رأى صَاحبك يعنون مُعَاوِيَة بن يزِيد وَهل يجمع النَّاس عَلَيْهِ؟ فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى لَان لَهُم وَرجع إِلَى الشَّام، فَلَمَّا أدبر جَيش الْحصين بن نمير وَكَانَ خُرُوجه من مَكَّة لخمس لَيَال خلون من شهر ربيع الآخر سنة أَربع وَسِتِّينَ، دَعَا ابْن الزبير وُجُوه النَّاس وأشرافهم فشاوروهم فِي هدم الْكَعْبَة، فَأَشَارَ عَلَيْهِم نَاس قَلِيلُونَ بهدمها وأبى كثير من النَّاس هدمها، وَكَانَ أَشَّدهم إباء عبد الله بن عَبَّاس قَالَ لَهُ: دعها على مَا أقرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنِّي أخْشَى أَن يَأْتِي بعْدك من يَهْدِمهَا، فَلَا تزَال

تهدم وتبنى فيتهاون النَّاس بحرمتها وَلَكِن أرقعها فَقَالَ ابْن الزبير: وَالله مَا يرضى أحدهم أَن يرقع بَيت أَبِيه وَأمه فَكيف أرقع بَيت الله تَعَالَى؟ وَكَانَ مِمَّن أَشَارَ عَلَيْهَا بهدمها جَابر ابْن عبد الله وَعبد بن نمير وَعبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة، فَأَقَامَ أَيَّامًا يشاور وَينظر ثمَّ أجمع على هدمها، وَكَانَ يحب أَن يكون هُوَ الَّذِي يحب أَن يردهَا على مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم وعَلى مَا وَصفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة، فأرادا أَن يبنيها بالورس وَيُرْسل إِلَى الْيمن فِي ورس يشترى بِهِ، فَقيل: إِن الورس يذهب وَلَكِن ابْنهَا بالقصة فَسَأَلَ عَن الْقِصَّة، فَأخْبر أَن قصَّة صنعاء هِيَ أَجود الْقِصَّة فَأرْسل إِلَى صنعاء بأربعمائة دِينَار يشترى لَهُ بهَا قصَّة ويكترى عَلَيْهَا وَأمر بتثجثج ذَلِك ثمَّ سَأَلَ رجَالًا من أهل الْعلم بِمَكَّة من أَيْن أخذت قُرَيْش حجارتها فأخبروه مبلغها، فَنقل لَهُ من الْحِجَارَة قدر مَا يحْتَاج، فَلَمَّا اجْتمعت وَأَرَادَ هدمها خرج أهل مَكَّة إِلَى منى وَأَقَامُوا بهَا ثَلَاثًا؛ فرقا أَن ينزل عَلَيْهِم عَذَاب بهدمها، فَأمر ابْن الزبير بهدمها فَلم يجترئ على ذَلِك أحد، فَلَمَّا رأى ذَلِك علاها هُوَ بِنَفسِهِ فَأخذ الْمعول وَجعل يَهْدِمهَا وَيَرْمِي بحجارتها، فَلَمَّا رَأَوْا أَنه لم يصبهُ شَيْء اجترءوا فَصَعِدُوا وهدموا وأرقى ابْن الزبير فَوْقهَا عبيدا من الْجَيْش فهدموها رَجَاء أَن يكون فيهم صفة الحبشي الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يخرب الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة ". وَقَالَ مُجَاهِد: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ يَقُول: كَأَنِّي بِهِ أصيلع أفيدع قَائِم عَلَيْهَا يَهْدِمهَا بمسحاته. وَقَالَ مُجَاهِد: فَلَمَّا هدم ابْن الزبير الْكَعْبَة جِئْت أنظر هَل أرى الصّفة الَّتِي قَالَ عبد الله بن عَمْرو؟ فَلم أرها فهدموا وَأَعَانَهُمْ

النَّاس فَمَا ترجلت الشَّمْس حَتَّى ألصقوها بِالْأَرْضِ كلهَا من جوانبها، وَكَانَ هدمها يَوْم السبت النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ، وَلم يقرب ابْن عَبَّاس مَكَّة حِين هدمت الْكَعْبَة حَتَّى فرغ مِنْهَا، وَأرْسل إِلَى ابْن الزبير لَا تدع النَّاس بِغَيْر قبْلَة انصب لَهُم حول الْكَعْبَة الْخشب وَاجعَل عَلَيْهَا الستور حَتَّى يطوف النَّاس من وَرَائِهَا وَيصلونَ إِلَيْهَا، فَفعل ذَلِك ابْن الزبير وَقَالَ ابْن الزبير: أشهد لسمعت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا تَقول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن قَوْمك استقصروا فِي بِنَاء الْبَيْت وعجزت بهم النَّفَقَة فتركوا فِي الْحجر مِنْهَا أذرعاً، وَلَوْلَا حَدَاثَة قَوْمك بالْكفْر لهدمت الْكَعْبَة وأعدت مَا تركُوا مِنْهَا، ولجعلت لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ بِالْأَرْضِ، بَابا شرقياً يدْخل مِنْهُ النَّاس، وباباً غربياً يخرج مِنْهُ النَّاس، وَهل تدرين لم كَانَ قَوْمك رفعوا بَابهَا؟ " قَالَت: قلت: لَا. قَالَ: " تعززاً أَن لَا يدخلهَا إِلَّا من أَرَادوا، فَكَانَ الرجل إِذا كَرهُوا أَن يدخلهَا يَدعُونَهُ أَن يرتقي حَتَّى إِذا كَاد أَن يدخلهَا دفعوه فَسقط، فَإِن بدا لقَوْمك هدمها فهلمى لأريك مَا تركُوا فِي الْحجر مِنْهَا " فأراها قَرِيبا من سَبْعَة أَذْرع. فَلَمَّا هدم ابْن الزبير الْكَعْبَة وسواها بِالْأَرْضِ كشف عَن الأساس أساس إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فَوَجَدَهُ دَاخِلا فِي الْحجر نَحوا من سِتَّة أَذْرع وشبر، كَأَنَّهَا أَعْنَاق الْإِبِل أَخذ بَعْضهَا بَعْضًا كتشبيك الْأَصَابِع بَعْضهَا بِبَعْض، يُحَرك الْحجر من الْقَوَاعِد فَتحَرك الْأَركان كلهَا، فَدَعَا ابْن الزبير خمسين رجلا من وُجُوه النَّاس وأشرافهم وأشهدهم على ذَلِك الأساس، قَالَ: فَأدْخل رجل من الْقَوْم كَانَ أيداً يُقَال لَهُ: عبد الله بن سميطع الْعَدوي عتلة كَانَت فِي يَده فِي ركن من أَرْكَان الْبَيْت فتزعزعت الْأَركان كلهَا جَمِيعًا، وَيُقَال: إِن مَكَّة رجفت رَجْفَة شَدِيدَة حِين زعزع الأساس، وَخَافَ النَّاس خوفًا شَدِيدا حَتَّى نَدم كل من كَانَ أَشَارَ على ابْن الزبير بهدمها وأعظموا ذَلِك إعظاماً شَدِيدا وَسقط فِي أَيْديهم، فَقَالَ لَهُم ابْن الزبير: اشْهَدُوا ثمَّ وضع الْبناء على ذَلِك الأساس، وَوضع جِدَار بَاب الْكَعْبَة على مدماك من الشاذروان اللاصق بِالْأَرْضِ، وَجعل الْبَاب الآخر بإزائه فِي ظهر الْكَعْبَة مُقَابِله،

وَجعل عتبته على الْحجر الْأَخْضَر الَّذِي فِي الشاذروان الَّذِي فِي ظهر الْكَعْبَة قَرِيبا من الرُّكْن الْيَمَانِيّ. وَكَانَ البناءون يبنون من وَرَاء السّتْر، وَالنَّاس يطوفون من خَارج، فَلَمَّا ارْتَفع الْبُنيان إِلَى مَوضِع الرُّكْن، وَكَانَ ابْن الزبير حِين هدم الْبَيْت جعل الرُّكْن فِي ديباجة وَأدْخلهُ فِي تَابُوت وقفل عَلَيْهِ وَوَضعه عِنْده فِي دَار الندوة وَعمد إِلَى مَا كَانَ فِي الْكَعْبَة من حلية وَثيَاب وَطيب فَوَضعه فِي خزانَة الْكَعْبَة فِي دَار شيبَة بن عُثْمَان حَتَّى أعَاد بناءها، فَلَمَّا بلغ الْبناء مَوضِع الرُّكْن أَمر ابْن الزبير بموضعه، فَنقرَ فِي حجرين من المدماك الَّذِي تَحْتَهُ وَحجر من المدماك الَّذِي فَوْقه بِقدر الرُّكْن وَطَرِيق بَينهمَا، فَلَمَّا فرغوا مِنْهُ أَمر ابْن الزبير ابْنه عباد بن عبد الله بن الزبير وَجبير بن شيبَة بن عُثْمَان أَن يجْعَلُوا الرُّكْن فِي ثوب، وَقَالَ لَهُم ابْن الزبير: إِذا دخلت فِي صَلَاة الظّهْر فاحملوه واجعلوه فِي مَوْضِعه فَأَنا أطول الصَّلَاة، فَإِذا فَرَغْتُمْ فكبروا حَتَّى أخفف صَلَاتي، وَكَانَ ذَلِك فِي حر شَدِيد فَلَمَّا أُقِيمَت الصَّلَاة وَكبر ابْن الزبير وَصلى بهم رَكْعَة خرج عباد بالركن من دَار الندوة وَهُوَ يحملهُ وَمَعَهُ جُبَير بن مطعم شيبَة بن عُثْمَان فخرقا بِهِ الصُّفُوف حَتَّى أدْخلَاهُ فِي السّتْر الَّذِي دون الْبناء، وَكَانَ الَّذِي وَضعه فِي مَوْضِعه هَذَا عباد بن عبد الله بن الزبير وأعانه عَلَيْهِ جُبَير بن شيبَة، وَقيل: الَّذِي وَضعه فِي مَوْضِعه الْآن حَمْزَة بن عبد الله بن الزبير، ذكره الزبير بن أبي بكر، فَلَمَّا قرروه فِي مَوْضِعه وَطَرِيق عَلَيْهِ الحجران كبروا فأخف ابْن الزبير صلَاته وسمه النَّاس بذلك، وَغَضب فِيهِ رجال من قُرَيْش حِين لم يحضرهم ابْن الزبير، وَقَالُوا: وَالله لقد رفع فِي الْجَاهِلِيَّة حِين وَقع بنته قُرَيْش فحكموا فِيهِ أول من يدْخل عَلَيْهِم من بَاب الْمَسْجِد، فطلع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعله فِي رِدَائه، ودعا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كل قَبيلَة من قُرَيْش رجلا فَأخذُوا بأركان الثَّوْب ثمَّ وَضعه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوْضِعه. وَفِي رِوَايَة ذكرهَا الْأَزْرَقِيّ: أَن ابْن الزبير وضع الْحجر الْأسود فِي مَوْضِعه هُوَ بِنَفسِهِ. إِلَى مَا كَانَ فِي الْكَعْبَة من حلية وَثيَاب وَطيب فَوَضعه فِي خزانَة الْكَعْبَة فِي دَار شيبَة بن عُثْمَان حَتَّى أعَاد بناءها، فَلَمَّا بلغ الْبناء مَوضِع الرُّكْن أَمر ابْن الزبير بموضعه، فَنقرَ فِي حجرين من المدماك الَّذِي تَحْتَهُ وَحجر من المدماك الَّذِي فَوْقه بِقدر الرُّكْن وَطَرِيق بَينهمَا، فَلَمَّا فرغوا مِنْهُ أَمر ابْن الزبير ابْنه عباد بن عبد الله بن الزبير وَجبير بن شيبَة بن عُثْمَان أَن يجْعَلُوا الرُّكْن فِي ثوب، وَقَالَ لَهُم ابْن الزبير: إِذا دخلت فِي صَلَاة الظّهْر فاحملوه واجعلوه فِي مَوْضِعه فَأَنا أطول الصَّلَاة، فَإِذا فَرَغْتُمْ فكبروا حَتَّى أخفف صَلَاتي، وَكَانَ ذَلِك فِي حر شَدِيد فَلَمَّا أُقِيمَت الصَّلَاة وَكبر ابْن الزبير وَصلى بهم رَكْعَة خرج عباد بالركن من دَار الندوة وَهُوَ يحملهُ وَمَعَهُ جُبَير بن مطعم شيبَة بن عُثْمَان فخرقا بِهِ الصُّفُوف حَتَّى أدْخلَاهُ فِي السّتْر الَّذِي دون الْبناء، وَكَانَ الَّذِي وَضعه فِي مَوْضِعه هَذَا عباد بن عبد الله بن الزبير وأعانه عَلَيْهِ جُبَير بن شيبَة، وَقيل: الَّذِي وَضعه فِي مَوْضِعه الْآن حَمْزَة بن عبد الله بن الزبير، ذكره الزبير بن أبي بكر، فَلَمَّا قرروه فِي مَوْضِعه وَطَرِيق عَلَيْهِ الحجران كبروا فأخف ابْن الزبير صلَاته وسمه النَّاس بذلك، وَغَضب فِيهِ رجال من قُرَيْش حِين لم يحضرهم ابْن الزبير، وَقَالُوا: وَالله لقد رفع فِي الْجَاهِلِيَّة حِين وَقع بنته قُرَيْش فحكموا فِيهِ أول من يدْخل عَلَيْهِم من بَاب الْمَسْجِد، فطلع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعله فِي رِدَائه، ودعا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كل قَبيلَة من قُرَيْش رجلا فَأخذُوا بأركان الثَّوْب ثمَّ وَضعه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوْضِعه. وَفِي رِوَايَة ذكرهَا الْأَزْرَقِيّ: أَن ابْن الزبير وضع الْحجر الْأسود فِي مَوْضِعه هُوَ بِنَفسِهِ.

وَكَانَ الرُّكْن قد تصدع من الْحَرِيق ثَلَاث فرق فانشظت مِنْهُ شظية كَانَت عِنْد بعض آل شيبَة بعد ذَلِك بدهر طَوِيل، فشده ابْن الزبير بِالْفِضَّةِ إِلَّا تِلْكَ الشظية من أَعْلَاهُ، موضعهَا بيّن فِي أَعلَى الرُّكْن، طول الرُّكْن ذراعان قد أَخذ عرض جِدَار الْكَعْبَة ومؤخر الرُّكْن دَاخله فِي الْجدر مُضرس على ثَلَاثَة رُؤُوس. قَالَ ابْن جريج: فَسمِعت من يصف لون مؤخره الَّذِي فِي الْجدر قَالَ بَعضهم: هُوَ مورد. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَبيض كالفضة. وَكَانَت الْكَعْبَة يَوْم هدمها ابْن الزبير ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا فِي السَّمَاء، فَلَمَّا أَن بلغ ابْن الزبير بِالْبِنَاءِ ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وجبرت بِحَال الزِّيَادَة الَّتِي زَاد من الْحجر فِيهَا، واستسمج ذَلِك إِذا صَارَت عريضة لَا طول لَهَا فَقَالَ: قد كَانَت قبل قُرَيْش تِسْعَة أَذْرع حَتَّى زَادَت قُرَيْش فِيهَا تِسْعَة أَذْرع طولا فِي السَّمَاء، فَأَنا أَزِيد فِيهَا تِسْعَة أَذْرع أُخْرَى، فبناها سَبْعَة وَعشْرين ذِرَاعا فِي أَسمَاء، وَهِي سَبْعَة وَعِشْرُونَ مدماكاً وَعرض جدارها ذراعان، وَجعل فِيهَا ثَلَاث دعائم، وَكَانَت قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة جعلت فِيهَا سِتّ دعائم، وَأرْسل ابْن الزبير إِلَى صنعاء فَأتى من رُخَام بهَا يُقَال لَهُ: البلق فَجعله فِي الروازن الَّتِي فِي سقفها للضوء، وَكَانَ بَاب الْكَعْبَة قبل بِنَاء ابْن الزبير مصراعاً وَاحِدًا، فَجعل لَهَا ابْن الزبير مصراعين، طولهما أحد عشر ذِرَاعا من الأَرْض إِلَى مُنْتَهى أَعْلَاهُ الْيَوْم، وَجعل الْبَاب الآخر الَّذِي فِي ظهرهَا بإزائه على الشاذروان الَّذِي على الأساس مثله، وَجعل ميزابها يسْكب فِي الْحجر، وَجعل لَهَا دَرَجَة فِي بَطنهَا فِي الرُّكْن الشَّامي من خشب منفرجة يصعد فِيهَا إِلَى ظهرهَا. فَلَمَّا فرغ ابْن الزبير من بِنَاء الْكَعْبَة جعلهَا من داخلها وخارجها من أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلهَا وَكَسَاهَا الْقبَاطِي، وَقَالَ: من كَانَت لي عَلَيْهِ طَاعَة فَليخْرجْ فليعتمر من التَّنْعِيم، فَمن قدر وَأَن ينْحَر بدنه فَلْيفْعَل، وَمن لم يقدر فليذبح شَاة، وَمن لم يقدر فليتصدق بِقدر طوله، وَخرج مَاشِيا وَخرج النَّاس مَعَه مشَاة حَتَّى اعتمروا من التَّنْعِيم شكرا لله سُبْحَانَهُ، وَلم ير يَوْم كَانَ أَكثر عتيقاً وَلَا أَكثر بَدَنَة منحورة وَلَا شَاة مذبوحة وَلَا صَدَقَة من ذَلِك الْيَوْم، وَنحر ابْن الزبير مائَة بَدَنَة، فَلَمَّا طَاف بِالْكَعْبَةِ اسْتَلم الْأَركان الْأَرْبَعَة جَمِيعًا وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ترك استلام هذَيْن الرُّكْنَيْنِ الشَّامي والركن الغربي؛ لِأَن الْبَيْت لم يكن تَاما. فَلم يزل الْبَيْت على بِنَاء ابْن الزبير إِذا كَاف الطَّائِف اسْتَلم الْأَركان جَمِيعهَا،

وَيدخل الْبَيْت من هَذَا الْبَاب وَيخرج من الْبَاب الغربي وأبوابه لاصقة بِالْأَرْضِ، حَتَّى قتل ابْن الزبير رَضِي الله عَنهُ وَدخل الْحجَّاج مَكَّة وَكتب كتابا إِلَى عبد الْملك بن مَرْوَان: أَن ابْن الزبير زَاد فِي الْبَيْت على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. فَكتب إِلَيْهِ عبد الْملك بن مَرْوَان: أَن سد بَابهَا الغربي الَّذِي فَتحه ابْن الزبير، واهدم مَا كَانَ زَاد فِيهَا من الْحجر، واكبسها بِهِ على مَا كَانَت عَلَيْهِ. فهدم الْحجَّاج مِنْهَا سِتَّة أَذْرع وشبراً مِمَّا يَلِي الْحجر، وبناها على أساس قُرَيْش الَّذِي كَانَت استقصرت عَلَيْهِ، وكبسها بِمَا كَانَ هدم مِنْهَا، وسد الْبَاب الَّذِي فِي ظهرهَا، وَترك سائرها وَلم يُحَرك مِنْهُ شَيْئا، فَكل شَيْء فِيهَا بِنَاء ابْن الزبير إِلَّا الْجِدَار الَّذِي فِي الْحجر فَإِنَّهُ بِنَاء الْحجَّاج، وسد الْبَاب الَّذِي فِي ظهرهَا وَمَا تَحت عتبَة الْبَاب الشَّرْقِي الَّذِي يدْخل مِنْهُ الْيَوْم إِلَى الأَرْض أَرْبَعَة أَذْرع وشبر، كل هَذَا بِنَاء الْحجَّاج، والدرجة الَّتِي فِي بَطنهَا الْيَوْم والبابان اللَّذَان عَلَيْهِمَا الْيَوْم هما أَيْضا من عمل الْحجَّاج فَلَمَّا فرغ الْحجَّاج من هَذَا كُله وَفد بعد ذَلِك الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي على عبد الْملك بن مَرْوَان، فَقَالَ لَهُ عبد الْملك: مَا أَظن ابْن الزبير سمع من عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَا كَانَ يزْعم أَنه سمع مِنْهَا فِي أَمر الْكَعْبَة. فَقَالَ الْحَارِث: أَنا سمعته من عَائِشَة. قَالَ: سَمعتهَا تَقول مَاذَا؟ قَالَ: سَمعتهَا تَقول: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن قَوْمك استقصروا فِي بتاء الْبَيْت، وَلَوْلَا حَدَاثَة عهد قَوْمك بالْكفْر أعدت فِيهِ مَا تركُوا، فَإِن بدا لقَوْمك أَن يبنوه فهلمي لأريك مَا تركُوا مِنْهُ " فأراها قَرِيبا من سبع أَذْرع. وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " وَجعلت لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ على الأَرْض، بَابا شرقياً يدْخل النَّاس مِنْهُ، وباباً غربياً يخرج النَّاس مِنْهُ ". قَالَ عبد الْملك بن مَرْوَان: أَنْت سَمعتهَا تَقول هَذَا. قَالَ: نعم. فَجعل ينكت مُنَكسًا بقضيب فِي يَده سَاعَة طَوِيلَة ثمَّ قَالَ: وددت وَالله أَنِّي كنت تركت ابْن الزبير وَمَا تحمل من ذَلِك. قَالَ ابْن جريج: وَكَانَ الْبَاب الَّذِي عمله ابْن الزبير طوله فِي السَّمَاء أحد عشر ذِرَاعا، فَلَمَّا كَانَ الْحجَّاج نقص من الْبَاب أَربع أَذْرع وشبراً، وَعمل لَهَا هذَيْن الْبَابَيْنِ وطولهما سِتَّة أَذْرع وشبر، فَلَمَّا كَانَ فِي خلَافَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بعث إِلَى واليه على

مَكَّة خَالِد بن عبد الله الْقشيرِي بِسِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فَضرب مِنْهَا على بَاب الْكَعْبَة صَفَائِح الذَّهَب وعَلى ميزاب الْكَعْبَة وعَلى الأساطين الَّتِي فِي جوفها. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: فَكل مَا على الْمِيزَاب وعَلى الْأَركان فِي جوفها من الذَّهَب فَهُوَ من عمل الْوَلِيد بن عبد الْملك، وَهُوَ أول من ذهّب الْبَيْت فِي الْإِسْلَام، فَأَما مَا كَانَ على الْبَاب من عمل الْوَلِيد بن عبد الْملك من الذَّهَب فَإِنَّهُ رق وتفرق، فَرفع ذَلِك إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد بن الرشيد فِي خِلَافَته فَأرْسل إِلَى سَالم بن الْجراح عَامل كَانَ لَهُ بِثمَانِيَة عشر ألف دِينَار؛ ليضْرب بهَا على صَفَائِح الذَّهَب على بَابي الْكَعْبَة فَقلع مَا كَانَ على الْبَاب من الصفائح وَزَاد عَلَيْهَا من الثَّمَانِية عشر ألف دِينَار، فَضرب عَلَيْهِ الصفائح الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْم والمسامير وحلى بَاب الْكَعْبَة وعَلى القبارين والعتب، وَذَلِكَ كُله من عمل مُحَمَّد بن هَارُون الرشيد، وَلم يقْلع فِي ذَلِك بَابي الْكَعْبَة وَلَكِن ضرب عَلَيْهِمَا الصفائح والمسامير وهما على حَالهمَا. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَأَخْبرنِي الْمثنى بن جُبَير الصَّواف أَنه حِين فرقوا ذهب بَاب الْكَعْبَة وجد فِيهِ ثَمَانِيَة عشر ألف مِثْقَال فزادوا عَلَيْهِ خَمْسَة عشر ألف دِينَار، وَأَن الَّذِي على الْبَاب من الذَّهَب ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ألف دِينَار. وَقَالُوا أَيْضا: أَنه لما قلع الذَّهَب عَن الْبَاب ألبس الْبَاب ثوبا أصفر. قَالَ ابْن جريج: وَعمل الْوَلِيد بن عبد الْملك الرخام الْأَحْمَر والأخضر والأبيض الَّذِي فِي بَطنهَا مؤزراً بِهِ جدرانها وفرشها بالرخام وَأرْسل بِهِ من الشَّام، فَجَمِيع مَا فِي الْكَعْبَة من الرخام فَهُوَ من عمل الْوَلِيد بن عبد الْملك، وَهُوَ أول من فرشها بالرخام وأزر بِهِ جدرانها، وَهُوَ أول من زخرف الْمَسَاجِد. انْتهى مَا ذكره الْأَزْرَقِيّ. وَأهل مَكَّة يعتمرون فِي كل لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَجَب من كل سنة وينسبون هَذِه الْعمرَة إِلَى ابْن الزبير.

قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَلَا يبعد أَن يكون بِنَاء الْكَعْبَة امْتَدَّ إِلَى هَذَا التَّارِيخ، وَقد تقدم هَذَا فِي بَاب الْعمرَة. وَذكروا أَن هَارُون الرشيد سَأَلَ مَالك بن أنس رَضِي الله عَنهُ عَن هدمها وردهَا إِلَى بِنَاء ابْن الزبير للأحاديث فِي ذَلِك. فَقَالَ مَالك: نشدتك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن لَا تجْعَل هَذَا الْبَيْت ملعبة للملوك، لَا يَشَاء أحد إِلَّا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صُدُور النَّاس. هَكَذَا ذكر النَّوَوِيّ أَن السَّائِل لمَالِك بن أنس هُوَ هَارُون الرشيد. وَقَالَ السُّهيْلي: إِن السَّائِل هُوَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور. وَقَالَ الشَّافِعِي: أحب أَن لَا تهدم الْكَعْبَة وتبنى لِئَلَّا تذْهب حرمتهَا. وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اسْتَمْتعُوا من هَذَا الْبَيْت فَإِنَّهُ يهدم مرَّتَيْنِ وَيرْفَع فِي الثَّالِثَة ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يخرب الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة ". وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " كَأَنِّي بِهِ أسود افحج يقلعها حجرا حجرا ". رَوَاهُ البُخَارِيّ. وَفِي حَدِيث آخر رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْفَهَانِي فِي غَرِيبه: " لَا يسْتَخْرج كنز الْكَعْبَة إِلَّا ذُو

السويقتين ". فَقَوله: " كَأَنِّي بِهِ " فِي معنى أبْصر بِهِ على معنى هَذِه الصّفة، والسويقتين تَصْغِير السَّاقَيْن وَهِي مُؤَنّثَة فَلذَلِك ظَهرت التَّاء فِي تصغيرها، وَإِنَّمَا صغر السَّاقَيْن؛ لِأَن الغالي على سوق الْحَبَشَة الدقة والحموشة، أَي: يخربها رجل من الْحَبَشَة لَهُ ساقان دقيقتان، وأسود وأفحج حالان عَن خبر كَأَن، وَكَأن وَإِن لم تكن بِفعل فَإِنَّهُ شبه بِهِ، وَإِذا قيد منصوبه أَو مرفوعه بِالْحَال كَانَ تقييداً بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ الَّذِي أشبه الْفِعْل، وأفحج بِالْفَاءِ ثمَّ الْحَاء الْمُهْملَة ثمَّ الْجِيم: الَّذِي يتدانى صُدُور قَدَمَيْهِ ويتباعد عقباه ويتفحج ساقاه وَمَعْنَاهُ: يتفرج، والفجج بجيمين فتح مَا بَين الرجلَيْن وَهُوَ أقبح من الفحج، ويقلعها فِي معنى الْحَال وَالضَّمِير للكعبة، وَمن صفة ذِي السويقتين أَنه أصمع أفيدع أصيلع، والأصمع بالصَّاد الْمُهْملَة ثمَّ الْمِيم ثمَّ الْعين الْمُهْملَة: الصَّغِير الْأذن من النَّاس وَغَيرهم، والأفيدع تَصْغِير أفدع، بِالْفَاءِ ثمَّ الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ: وَهُوَ المفرج الرسغ من الْيَد أَو الرجل، والأصيلع تَصْغِير الأصلع: وَهُوَ الَّذِي انحسر الشّعْر عَن رَأسه، وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة الطَّوِيل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كَأَنِّي بحبشي أفحج السَّاقَيْن، أَزْرَق الْعَينَيْنِ، أفطس الْأنف، كَبِير الْبَطن، وَأَصْحَابه ينقضونها حجرا حجرا ويتناولونها حَتَّى يرموا بهَا فِي الْبَحْر يَعْنِي الْكَعْبَة ". رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ، وَهُوَ حَدِيث فِيهِ طول. وَعَن عَليّ بن أبي طَالب: استكثروا من الطّواف بِهَذَا الْبَيْت قبل أَن يُحَال بَيْنكُم وَبَينه، فَكَأَنِّي بِرَجُل من الْحَبَشَة أصعل أصمع حمش السَّاقَيْن قَاعد عَلَيْهَا وَهِي تهدم. رَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام. قَالَ الْأَصْمَعِي: قَوْله: أصعل. هَكَذَا يرْوى، قَالَ: وَأما كَلَام

الْعَرَب فَهُوَ صعل بِغَيْر ألف: وَهُوَ الصَّغِير الرَّأْس، وَكَذَلِكَ الْحَبَشَة كلهم، وحمش السَّاقَيْن بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: دقيقهما. وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " يُبَايع لرجل بَين الرُّكْن وَالْمقَام، وَأول من يسْتَحل هَذَا الْبَيْت أَهله، فَإِذا اسْتَحَلُّوهُ فَلَا تسْأَل عَن هلكة الْعَرَب، ثمَّ تجئ الحبشى فيخربونه خراباً لَا يعمر بعده أبدا، وهم الَّذين يستخرجون كنزه ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ. وَذكر الْحَلِيمِيّ: أَن ذَلِك يكون فِي زمن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَذكر أَبُو حَامِد فِي كتاب " مَنَاسِك الْحَج " لَهُ وَغَيره، وَيُقَال: لَا تغرب الشَّمْس من يَوْم إِلَّا وَيَطوف بِهَذَا الْبَيْت رجل من الأبدال، وَلَا يطلع الْفجْر من لَيْلَة إِلَّا طَاف بِهِ وَاحِد من الْأَوْتَاد، وَإِذا انْقَطع ذَلِك كَانَ سَبَب رَفعه من الأَرْض، فَيُصْبِح النَّاس وَقد رفعت الْكَعْبَة لَيْسَ لَهَا أثر، وَهَذَا إِذا أَتَى عَلَيْهَا سبع سِنِين لم يحجها أحد، ثمَّ يرفع الْقُرْآن من الْمَصَاحِف فَيُصْبِح النَّاس فَإِذا الْوَرق أَبيض يلوح فِيهِ حرف، ثمَّ ينْسَخ الْقُرْآن من الْقُلُوب فَلَا يذكر مِنْهُ كلمة وَاحِدَة، ثمَّ يرجع النَّاس إِلَى الْأَشْعَار والأغاني وأخبار الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ يخرج الدَّجَّال وَينزل عِيسَى ابْن مَرْيَم فَيقْتل الدَّجَّال، والساعة عِنْد ذَلِك بِمَنْزِلَة الْحَامِل المقرب تقرب وِلَادَتهَا. انْتهى. وَقَالَ غير الْحَلِيمِيّ: إِن خرابه يكون بعد رفع الْقُرْآن وَذَلِكَ بعد موت عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام وَصَححهُ بعض متأخري الْعلمَاء. وَالله أعلم. وَاعْلَم أَن حَاصِل مَا ذكرنَا فِي بِنَاء الْكَعْبَة فِيمَا تقدم من الرِّوَايَات أَنَّهَا بنيت سبع مَرَّات: أولَاهُنَّ: بِنَاء الْمَلَائِكَة أَو آدم على الْخلاف الْمُتَقَدّم، الثَّانِيَة: بتاء إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْقَوَاعِد الأولى، الثَّالِثَة: بِنَاء العمالقة، الرَّابِعَة: بِنَاء جرهم، الْخَامِسَة: بِنَاء قُرَيْش من الْإِسْلَام بِخَمْسَة أَعْوَام وَقد حضر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْبناء كَمَا ذكرنَا، السَّادِسَة: بِنَاء عبد الله

فصل ذكر الجب الذي كان في الكعبه ومالها الذي كان فيه

ابْن الزبير حِين احترقت فِي عَهده بشررة طارت من أبي قبيس فَوَقَعت فِي أستارها فاحترقت. وَقيل: إِن امْرَأَة أَرَادَت أَن تجمرها فطارت شررة من المجمرة فِي أستارها فاحترقت، السَّابِعَة: بِنَاء الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ وَهُوَ الشَّيْء الَّذِي من نَاحيَة حجر إِسْمَاعِيل الَّذِي هُوَ مَوْجُود الْيَوْم. وَذكر السُّهيْلي: أَن بناءها كَانَ خمس مَرَّات وعد أولَاهُنَّ: بِنَاء شِيث بن آدم عَلَيْهِمَا السَّلَام، قَالَ: وَكَانَت قبل أَن يبنيها شِيث خيمة من ياقوتة حَمْرَاء يطوف بهَا آدم، قَالَ: وَقد قيل: إِنَّه بنى فِي أَيَّام جرهم مرّة أَو مرَّتَيْنِ؛ لِأَن السَّيْل كَانَ صدع حَائِطه وَلم يكن بنياناً إِنَّمَا كَانَ إصلاحاً لما وَهِي مِنْهُ، وجداراً بنى بَينه وَبَين السَّيْل بناه عَامر الحاذر، وَقد تقدم هَذَا الْخَبَر. انْتهى. وَيُقَال: إِن قصي بن كلاب جدد بناءها بعد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وسقفها بخشب الرّوم وجريد النّخل ثمَّ بنتهَا قُرَيْش. فصل: ذكر الْجب الَّذِي كَانَ فِي الْكَعْبَة وَمَالهَا الَّذِي كَانَ فِيهِ عَن مُجَاهِد قَالَ: كَانَ فِي الْكَعْبَة على يَمِين من دَخلهَا جب عميق حفره إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام حِين رفعا الْقَوَاعِد، وَكَانَ فِيهِ مَا يهدى للكعبة لَيْسَ لَهَا سقف، فَسرق مِنْهَا مَال على عهد جرهم مرّة بعد مرّة، وَكَانَ جرهم تَرْتَضِي لذَلِك رجلا يكون عَلَيْهِ يَحْرُسهُ، فَبينا رجل مِمَّن ارتضوه عِنْدهَا إِذْ سَوَّلت لَهُ نَفسه فَنظر حَتَّى إِذا انتصف النَّهَار وَقَامَت الْمجَالِس وتقلصت الظلال وانقطعت الطّرق وَمَكَّة إِذْ ذَاك شَدِيدَة الْحر بسط رِدَاءَهُ ثمَّ نزل فِي الْبِئْر فَأخْرج مَا فِيهَا فَجعله فِي ثَوْبه، فَأرْسل الله عز وَجل عَلَيْهِ حجرا من الْبِئْر فَأخْرج مَا فِيهَا فَجعله فِي ثَوْبه، فَأرْسل الله عز وَجل عَلَيْهِ حجرا من الْبِئْر فحبسه، حَتَّى رَاح النَّاس فوجدوه فأخرجوه وأعادوا مَا وجدوا فِي ثَوْبه من الْبِئْر فسميت بذلك الْبِئْر الأخسف، فَلَمَّا أَن خسف بالجرهمي وحبسه الله، بعث الله عِنْد ذَلِك ثعباناً فأسكنه فِي ذَلِك الْجب فِي بطن الْكَعْبَة أَكثر من خَمْسمِائَة سنة، يحرس مَا فِيهِ فَلَا يدْخلهُ أحد إِلَّا رفع رَأسه وَفتح فَاه، فَلَا يرَاهُ أحد إِلَّا ذعر مِنْهُ، وَكَانَ رُبمَا يشرف على جِدَار الْكَعْبَة فَأَقَامَ كَذَلِك فِي زمن جرهم وزمن خُزَاعَة وصدراً من عصر قُرَيْش حَتَّى اجْتمعت قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة على هدم الْبَيْت وعمارته فجَاء عِقَاب فاختطفه ثمَّ طَار بِهِ نَحْو أجياد الصَّغِير.

وَعَن شَقِيق عَن شيبَة يَعْنِي ابْن عُثْمَان قَالَ: قعد عمر بن الْخطاب فِي مَقْعَدك الَّذِي أَنْت فِيهِ فَقَالَ: لَا أخرج حَتَّى أقسم مَال الْكَعْبَة. قلت: مَا أَنْت بفاعل؟ قَالَ: بلَى لَأَفْعَلَنَّ. قلت: مَا أَنْت بفاعل. قَالَ: لم؟ قلت: لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مَكَانَهُ هُوَ وَأَبُو بكر وهما أحْوج مِنْك إِلَى المَال فَلم يحركاه فَقَامَ فَخرج. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالطَّيَالِسِي بِهَذَا اللَّفْظ، وَالْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ بِنَحْوِهِ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ عَن أبي وَائِل قَالَ: جَلَست مَعَ شيبَة على الْكُرْسِيّ فِي الْكَعْبَة فَقَالَ: لقد جلس هَذَا الْمجْلس عمر فَقَالَ: لقد هَمَمْت أَن لَا أدع فِيهَا صفراء وَلَا بَيْضَاء إِلَّا قسمته. قلت إِن صاحبيك لم يفعلا. قَالَ: هما المرءان أقتدي بهما. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لما أخبر شيبَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر لم يتعرضا لِلْمَالِ، رأى عمر أَن ذَلِك الصَّوَاب وَكَأَنَّهُ رأى حِينَئِذٍ أَن مَا جعل فِي الْكَعْبَة يجْرِي مجْرى الْوَقْف عَلَيْهَا فَلَا يجوز تَغْيِيره، أَو رأى ذَلِك تورعاً حِين أخبر أَنه تَركه صَاحِبَاه مَعَ رُؤْيَته جَوَاز إِنْفَاقه فِي سَبِيل الله؛ لِأَن صَاحِبيهِ إِنَّمَا تركاه للْعُذْر الَّذِي تضمنه حَدِيث عَائِشَة. انْتهى. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَذكروا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد فِي الجبّ الَّذِي كَانَ فِي الْكَعْبَة سبعين ألف أُوقِيَّة من الذَّهَب مِمَّا كَانَ يهدى للكعبة للبيت. وَأَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: يَا رَسُول الله لَو استعنت بِهَذَا المَال على حربك فَلم يحركه، ثمَّ ذكر لأبي بكر فَلم يحركه. وَعَن مُحَمَّد بن يحيى قَالَ: حَدثنِي بعض الحجبة فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَة أَن ذَلِك المَال بِعَيْنِه فِي خزانَة الْكَعْبَة ثمَّ لَا أَدْرِي مَا حَاله بعد. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وحَدثني جدي وَغَيره من مَشَايِخ أهل مَكَّة وَبَعض الحجبة أَن الْحُسَيْن بن عَليّ الْعلوِي عمد إِلَى خزانَة الْكَعْبَة فِي سنة مِائَتَيْنِ فِي الْفِتْنَة حِين أَخذ الطالبيون مَكَّة، فَأخذ مِمَّا فِيهَا مَالا عَظِيما وَنَقله إِلَيْهِ وَقَالَ: مَا تصنع بِهَذَا المَال، مَوْضُوعا لَا

فصل ذكر من كسا الكعبه في الجاهليه

ينْتَفع بِهِ! نَحن أَحَق بِهِ، نستعين على حربنا. ويروى أَن مَال الْكَعْبَة كَانَ يدعى الأبرق وَلم يخالط مَالا قطّ إِلَّا محقه، وَلم يرزأ أحد مِنْهُ إِلَّا بَان النَّقْص فِي مَاله وَأدنى مَا يُصِيب صَاحبه أَن يشدد عَلَيْهِ الْمَوْت. حَتَّى أَن فَتى من الحجبة حَضرته الْوَفَاة فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْمَوْت جدا فَمَكثَ أَيَّامًا ينْزع نزعاً شَدِيدا حَتَّى رَأَوْا مِنْهُ مَا غمهم وأحزنهم من شدَّة كربه، فَقَالَ أَبوهُ: يَا بني لَعَلَّك أصبت من هَذَا الأبرق شَيْئا يَعْنِي: مَال الْكَعْبَة قَالَ: نعم يَا أَبَت أَرْبَعمِائَة دِينَار. فَقَالَ أَبوهُ: اللَّهُمَّ إِن هَذِه الأربعمائة دين عليّ فِي أنفس مَالِي الْكَعْبَة أؤديها إِلَيْهَا ثمَّ انحرف إِلَى أَصْحَابنَا فَقَالَ: اشْهَدُوا أَن للكعبة عليّ أَرْبَعمِائَة دِينَار. فسرى عَن الْغُلَام ثمَّ لم يلبث الْفَتى أَن مَاتَ. فصل ذكر من كسا الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه: نهى عَن سبّ أسعد الْحِمْيَرِي وَهُوَ تبع وَهُوَ أول من كسا الْكَعْبَة كسْوَة كَامِلَة كَسَاه العصب، وَجعل لَهُ بَابا يغلق بضبة وَلم يكن يغلق قبل ذَلِك. ويروى أَن تبعا أرى فِي الْمَنَام أَن يَكْسُوهَا فكساها الأنطاع، ثمَّ أرى أَن يَكْسُوهَا فكساها الوصائل وَهِي ثِيَاب حبرَة من عصب الْيمن

فصل ذكر من كساها في الاسلام وطيبها وخدمها

وروى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج قَالَ: بلغنَا أَن تبعا أول من كسا الْكَعْبَة الوصائل. ويروى أَن تبعا لما كسا الْبَيْت المسوح والأنطاع انتفض الْبَيْت فَزَالَ ذَلِك عَنهُ، وَفعل ذَلِك حِين كَسَاه الخصف، فَلَمَّا كَسَاه الملاء والوصائل قبلهَا، ثمَّ كساها النَّاس بعد تبع فِي الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ ابْن جريج: وَقد زعم بعض عُلَمَائِنَا أَن أول من كسا الْكَعْبَة إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَت الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة تُكْسَى كسى شَيْئا من وصائل وأنطاع وكرار وخز ونمارق عراقية، وَإِذا بلَى مِنْهَا شَيْء أخلف مَكَانَهُ ثوب آخر، وَلَا ينْزع مِمَّا عَلَيْهَا شَيْء من ذَلِك. فصل ذكر من كساها فِي الْإِسْلَام وطيبها وخدمها كساها سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثِّيَاب اليمنية ثمَّ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم الْقبَاطِي، وَمُعَاوِيَة وَابْن الزبير وَمن بعدهمْ. وَعَن ابْن جريج قَالَ: كَانَت الْكَعْبَة فِيمَا مضى إِنَّمَا تُكْسَى يَوْم عَاشُورَاء إِذا ذهب آخر الْحَاج حَتَّى كَانَت بَنو هَاشم فَكَانُوا يعلقون عَلَيْهَا القمص يَوْم التَّرويَة من الديباج؛ لِأَن يرى النَّاس ذَلِك عَلَيْهَا بهاءً وجمالاً فَإِذا كَانَ يَوْم عَاشُورَاء عَلقُوا الْإِزَار. ويروى

أَن عُثْمَان أول من ظَاهر بهَا كسوتين الْقبَاطِي والبرود، وَكَانَ عمر يَكْسُوهَا من بَيت المَال. ويروى أَن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان كَانَ يَكْسُوهَا كسوتين: كسْوَة عمر رَضِي الله عَنهُ الْقبَاطِي، وَكِسْوَة ديباج، فَكَانَت تُكْسَى الديباج يَوْم عَاشُورَاء وتكسى الْقبَاطِي فِي آخر شهر رَمَضَان. وَكَانَ ابْن عمر يُجَلل بدنه الْقبَاطِي وَالْأَنْمَاط وَالْحلَل ثمَّ يبْعَث بهَا إِلَى الْكَعْبَة يَكْسُوهَا إِيَّاهَا. أخرجه مَالك. وَالْقَبَاطِي بِفَتْح الْقَاف: جمع قبطية بِضَم الْقَاف: وَهُوَ ثوب رَقِيق أَبيض من ثِيَاب مصر كَأَنَّهُ مَنْسُوب إِلَى القبط، وَالضَّم فِيهِ من تَغْيِير النّسَب، وَالضَّم خَاص بالثياب، وَأما فِي النَّاس فقبطي بِكَسْر الْقَاف لَا غير. وَالْأَنْمَاط ضرب من الْبسط وَاحِدهَا نمط. وَعَن ابْن عمر أَنه كَانَ يفعل ذَلِك فَلَمَّا كساها الْأُمَرَاء كَانَ إِذا نحر كساها الْمَسَاكِين. وَاخْتلفُوا فِي أول من كساها الديباج، فَقيل: عبد الله بن الزبير. وَقيل: يزِيد بن مُعَاوِيَة. وَقيل: عبد الْملك بن مَرْوَان. وَكَانَ النَّاس قبل ذَلِك يهْدُونَ الْبدن عَلَيْهَا الحبرات ثن يبعثون بالحبرات إِلَى الْبَيْت كسْوَة. ويروى أَن أول عَرَبِيَّة كست الْكَعْبَة الْحَرِير والديباج نتيلة بنت جناب أم الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَهِي بتاء منقوطة بِاثْنَتَيْنِ من فَوق، وَبَعْضهمْ يصحفها بثاء مُثَلّثَة قَالَه السهيلى.

وَكَانَ الْمَأْمُون يَكْسُوهَا ثَلَاث مَرَّات فيكسوها الديباج الْأَحْمَر يَوْم التَّرويَة، وَالْقَبَاطِي يَوْم هِلَال رَجَب، والديباج الْأَبْيَض يَوْم سبع وَعشْرين من رَمَضَان. ويروى أَنه ابْتَدَأَ الْكسْوَة بالأبيض سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ حِين سَأَلَ عَن أحسن مَا يكون فِي الْكَعْبَة فَقيل لَهُ: الديباج الْأَبْيَض. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَأول من خلق جَوف الْكَعْبَة ابْن الزبير، وَأول من دَعَا على الْكَعْبَة عبد الله بن شيبَة ويلقب الْأَعْجَم دَعَا لهشام بن عبد الْملك وَكَانَ خَليفَة. انْتهى. وَذكر الْوَاقِدِيّ عَن أشياخه: أَن عبد الْملك بن مَرْوَان لما ولي كَانَ يبْعَث إِلَيْهَا كل سنة بالطيب والمجمرة، وَكَانَ عبد الله بن الزبير يجمر الْكَعْبَة الشَّرِيفَة فِي كل يَوْم برطل من الطّيب وَيَوْم الْجُمُعَة برطلين. وأجرى لَهَا مُعَاوِيَة الطّيب لكل صَلَاة، فَكَانَ يبْعَث بالطيب والمجمر والخلوق فِي الْمَوْسِم وَفِي رَجَب، وأخدمها عبيدا بعث بهم والمجمرة، وَكَانَ عبد الله بن الزبير يجمر الْكَعْبَة الشَّرِيفَة فِي كل يَوْم برطل من الطّيب وَيَوْم الْجُمُعَة برطلين. وأجرى لَهَا مُعَاوِيَة الطّيب لكل صَلَاة، فَكَانَ يبْعَث بالطيب والمجمر والخلوق فِي الْمَوْسِم وَفِي رَجَب، وأخدمها عبيدا بعث بهم إِلَيْهَا فَكَانُوا يخدمونها، ثمَّ اتبعت ذَلِك الْوُلَاة بعد. وَعَن ابْن جريج قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَة أول من طيب الْكَعْبَة بالخلوق والمجمر، وأجرى الزَّيْت لقناديل الْمَسْجِد من بَيت المَال. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: كسْوَة الْكَعْبَة على الْأُمَرَاء. وعنها قَالَت: لطيب الْكَعْبَة أحب إليّ من أَن أهدي لَهَا ذَهَبا وَفِضة. وعنها قَالَت: طيبُوا الْكَعْبَة الْبَيْت فَإِن ذَلِك من تَطْهِيره. أخرجهن الْأَزْرَقِيّ. وَكِسْوَة الْكَعْبَة الْآن سَوْدَاء من حَرِير، وبطانتها من كتَّان أَبيض، وَهِي أَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ شقة كل شقة بطول الْكَعْبَة سَبْعَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا: مِنْهَا عشر شقَاق مَا بَين

فصل ما جاء في تجريد الكعبه

الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، واثني عشر شقة مَا بَين الرُّكْن الْيَمَانِيّ والغربي، وَعشر مَا بَين الغربي والشامي وَهُوَ جَانب الْحطيم، واثني عشر شقة مَا بَين الرُّكْن الشَّامي إِلَى الرُّكْن الْأسود وَهُوَ جَانب وَجه الْكَعْبَة بعد، وَالْكِسْوَة الْآن طراز مدور بِالْكَعْبَةِ بَين الطّراز إِلَى الأَرْض قريب من عشْرين ذِرَاعا، وَعرض الطّراز ذراعان إِلَّا شَيْئا يَسِيرا، مَكْتُوب فِي الطّراز على جَانب وَجه الْكَعْبَة بعد الْبَسْمَلَة: " إِن أول بَيت وضع للنَّاس إِلَى قَوْله غَنِي عَن الْعَالمين " صدق الله الْعَظِيم. وَبَين الرُّكْنَيْنِ اليمانيين مَكْتُوب بعد الْبَسْمَلَة: " جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام إِلَى قَوْله بِكُل شَيْء عليم ". صدق الله الْعَظِيم. وَبَين الرُّكْن الْيَمَانِيّ والغربي مَكْتُوب بعد الْبَسْمَلَة: " وَإِذ يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل إِلَى قَوْله التواب الرَّحِيم ". صدق الله الْعَظِيم. وَبَين الرُّكْن الغربي والشامي مَكْتُوب بعد الْبَسْمَلَة: كَمَا أَمر بِعَمَل هَذِه الْكسْوَة الشَّرِيفَة الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى السُّلْطَان فلَان اسْم ملك مصر. فصل: مَا جَاءَ فِي تَجْرِيد الْكَعْبَة عَن أبي نجيح قَالَ: كَانَ عمر بن الْخطاب ينْزع ثِيَاب الْكَعْبَة فِي كل سنة فَيقسمهَا على الْحَاج. ويروى أَن أول من جرد الْكَعْبَة وكشفها شيبَة بن عُثْمَان. ويروى أَنه دخل على عَائِشَة فَقَالَ: يَا أم الْمُؤمنِينَ تَجْتَمِع على الْكَعْبَة الثِّيَاب فتكثر، فيعمد إِلَى بيار فيحفرها ويعمقها فتدفن فِيهَا ثِيَاب الْكَعْبَة؛ لكيلا يلبسهَا الْحَائِض وَالْجنب. قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: مَا أصبت وَبئسَ مَا صنعت لَا تعد لذَلِك، فَإِن ثِيَاب الْكَعْبَة إِذا نزعت عَنْهَا لَا يَضرهَا من لبسهَا من حَائِض أَو جنب وَلَكِن بعها وَاجعَل ثمنهَا فِي سَبِيل الله وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل. رواهن الْأَزْرَقِيّ. وَحج الْمهْدي أَمِير الْمُؤمنِينَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة فَرفع إِلَيْهِ أَنه قد اجْتمع على الْكَعْبَة كسْوَة كَثِيرَة حَتَّى أَنَّهَا قد أثقلتها، وَيخَاف على جدرانها من ثقل الْكسْوَة فجردها حَتَّى لم يبْق عَلَيْهَا من كسوتها شَيْئا ثمَّ ضمخها من خَارِجهَا وداخلها بالغالية من أَسْفَلهَا إِلَى أَعْلَاهَا

فصل ما جاء في اسماء الكعبه وان لا يبني بيت يشرف عليه

من جوانبها كلهَا، وَصعد على ظهر الْكَعْبَة بقوارير الغالية فَجعل يفرغها على جدران الْكَعْبَة من خَارج من جوانبها كلهَا، وَعبيد الْكَعْبَة قد خرطوا فِي البيكار الَّذِي يخاط عَلَيْهَا ثِيَاب الْكَعْبَة، ثمَّ افرغ عَلَيْهَا ثَلَاث كسى من قَبَاطِي وخز وديباج، وَالْمهْدِي قَاعد على ظهر الْمَسْجِد مِمَّا يَلِي دَار الندوة. فصل: مَا جَاءَ فِي أَسمَاء الْكَعْبَة وَأَن لَا يبْنى بَيت يشرف عَلَيْهِ اإنما سميت الْكَعْبَة كعبة لوَجْهَيْنِ: الأول: لِأَنَّهَا مربعة، وَأكْثر بيُوت الْعَرَب مُدَوَّرَة، وَعند أهل اللُّغَة كل بَيت مدور مربع فَهُوَ مكعب، وكعبة بِفَتْح الْكَاف، وَكَانَ فِي خثعم بَيت يسمونه كعبة اليمانية. قَالَ سعيد بن سَالم: قَالَ ابْن جريج: وَكَانَ ابْن الزبير بنى الْكَعْبَة على مَا بناها إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: وَهِي كعبة على خلقَة الكعب؛ فَلذَلِك سميت الْكَعْبَة. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَكَانَ النَّاس يبنون بُيُوتهم مُدَوَّرَة تَعْظِيمًا للكعبة، وَأول من بنى بَيْتا مربعًا حميد بن زُهَيْر، فَقَالَت قُرَيْش: ربع حميد بن زُهَيْر بَيْتا إِمَّا حَيَاة وَإِمَّا موتا. الثَّانِي: لعلوها ونتوها ونشورها على الأَرْض، فَكل ناتئ بارز كَعْب، مستديراً كَانَ أَو غير مستدير، وَمِنْه كَعْب ثدي الْجَارِيَة وَكَعب الْقدَم وَكَعب الْقَنَاة. وَمن أسمائها الْبَيْت وَهُوَ اسْم علم على الْكَعْبَة زَادهَا الله تَشْرِيفًا وتكريماً سميت بذلك لِأَنَّهَا ذَات سقف وجدار وَهِي حَقِيقَة الْبَيْت وَإِن لم يكن بِهِ سَاكن، وَيُسمى الْبَيْت الْحَرَام لتَحْرِيم الله إِيَّاهَا؛ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن مَكَّة حرمهَا الله وَلم يحرمها النَّاس ". أَو لِأَن حرمتهَا انتشرت فَأُرِيد بِالتَّحْرِيمِ سَائِر الْحرم، كَمَا قَالَ عز وَجل: " هَديا بَالغ الْكَعْبَة ". وَأَرَادَ الْحرم. وَيُسمى الْبَيْت الْعَتِيق وَتقدم فِي بَاب الْفَضَائِل سَبَب تَسْمِيَتهَا

فصل ذكر اول من استصبح حول الكعبه وفي المسجد الحرام

بذلك. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَكَانَ يدعى الْبَيْت قادسياً، ويدعى بادراً، ويدعى الْقرْيَة الْقَدِيمَة. انْتهى. وَيُسمى بكة على قَول، وَأما مَكَّة فَهِيَ الْقرْيَة. وَذكر صَاحب الْمَشَارِق: من أسمائها البنية وبنية إِبْرَاهِيم، وبنية أبي طَالب. وَعَن شيبَة بن عُثْمَان: أَنه كَانَ يشرف فَلَا يرى بَيْتا مشرفاً على الْكَعْبَة إِلَّا أَمر بهدمه. وَعَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فِي نَاحيَة الْمَسْجِد الْحَرَام إِذْ نظر إِلَى بَيت مشرف على أبي قبيس فَقَالَ: أَبيت ذَلِك؟ قلت: نعم. قَالَ: إِذا رَأَيْت بيوتها يَعْنِي بذلك مَكَّة قد علت أخشبها، وفجرت بطونها أَنهَارًا فقد أزف الْأَمر. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وحَدثني جدي قَالَ: لما أَن بنى الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ دَاره الَّتِي بِمَكَّة على الصيارفة حِيَال الْمَسْجِد الْحَرَام، أَمر قوامه أَن لَا يرفعوها فيشرفوا بهَا على الْكَعْبَة، وَأَن يجْعَلُوا أَعْلَاهَا دون الْكَعْبَة فَتكون دونهَا؛ إعظاماً للكعبة أَن تشرف عَلَيْهَا، فَلم تبْق بِمَكَّة دَار لسلطان وَلَا غَيره حول الْمَسْجِد تشرف على الْكَعْبَة إِلَّا هدمت وَخَربَتْ إِلَّا هَذِه الدَّار فَإِنَّهَا على حَالهَا إِلَى الْيَوْم. فصل: ذكر أول من استصبح حول الْكَعْبَة وَفِي الْمَسْجِد الْحَرَام عَن مُسلم بن خَالِد الزنْجِي قَالَ: بلغنَا أَن أول من استصبح لأهل الطّواف فِي الْمَسْجِد الْحَرَام عقبَة بن الْأَزْرَق بن عَمْرو الغساني، وَكَانَت دَاره لاصقة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام من نَاحيَة وَجه الْكَعْبَة، وَالْمَسْجِد يَوْمئِذٍ ضيق لَيْسَ بَين جدر الْمَسْجِد وَبَين الْمَسْجِد الْحَرَام الْمقَام إِلَّا شَيْء يسير، فَكَانَ يضع على حرف دَاره مصباحاً كَبِيرا يستصبح فِيهِ فيضيء لَهُ وَجه الْكَعْبَة وَالْمقَام وَأَعْلَى الْمَسْجِد. وَأول من أجْرى لِلْمَسْجِدِ قناديل وزيتاً مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. فَلم يزل يضع عقبَة بن الْأَزْرَق ذَلِك الْمِصْبَاح على حرف الدَّار حَتَّى كَانَ خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فَوضع مِصْبَاح زَمْزَم مُقَابل الرُّكْن الْأسود فِي خلَافَة عبد الْملك بن مَرْوَان، وَدخلت تِلْكَ الدَّار فِي الْمَسْجِد حِين وَسعه ابْن الزبير ثمَّ الْمهْدي الأول، فَرفع ذَلِك

الْمِصْبَاح الَّذِي كَانَ يوضع على حرف الدَّار. وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يَأْمر النَّاس لَيْلَة هِلَال الْمحرم يوقدون النَّار فِي فجاج مَكَّة ويضعون المصابيح للمعتمرين مَخَافَة السرق. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: فَلم يزل مِصْبَاح زَمْزَم على عَمُود طَوِيل مُقَابل الرُّكْن الْأسود الَّذِي وَضعه خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، فَلَمَّا كَانَ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان على مَكَّة فِي خلَافَة الْمَأْمُون فِي سنة سِتّ عشرَة وَمِائَتَيْنِ وضع عموداً طَويلا مُقَابِله بحذاء الرُّكْن الغربي، فَلَمَّا ولي مَكَّة مُحَمَّد بن دَاوُد دعل عمودين طويلين أَحدهمَا بحذاء الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَالْآخر بحذاء الرُّكْن الشَّامي، فَلَمَّا ولي هَارُون الواثق بِاللَّه أَمر بعمد من شبه طوال عشرَة فَجعلت حول المطاف؛ ليستصبح عَلَيْهَا لأهل الطّواف، وَأمر بثمان ثريات كبار يستصبح فِيهَا وَتعلق فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فِي كل وَجه اثْنَتَانِ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَأول من استصبح بَين الصَّفَا والمروة خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي فِي خلَافَة سُلَيْمَان بن عبد الْملك، وَكَانَ حول الطّواف عشرَة أعمدة من صفر يستصبح بهَا على أهل الطّواف بعث بهَا الواثق العباسي. انْتهى كَلَامه. وَأما عَددهَا الْيَوْم فاثنان وَثَلَاثُونَ اسطوانة ثَمَانِيَة عشر مِنْهَا آجر مجصص، وَأَرْبَعَة عشر مِنْهَا حِجَارَة منحوتة دقيقة، وَبَين كل وَاحِدَة من الأساطين خَشَبَة ممدودة راكبة عَلَيْهَا وعَلى الَّتِي بإزائها لأجل الْقَنَادِيل الَّتِي تعلق فِيهَا للاستصباح، وَكَانَ فِي مَوضِع هَذِه الأساطين قبل ذَلِك أخشاب على صفة الأساطين، وَسبب عَملهَا هُوَ الاستضاءة بالقناديل على الطَّائِفَتَيْنِ حول الْكَعْبَة. قَالَ عز الدّين بن جمَاعَة: والأساطين الَّتِي حول المطاف الشريف أحدثت للاستضاءة بالقناديل الَّتِي تعلق بَينهَا بعد الْعشْرين وَسَبْعمائة، وَكَانَت من خشب وَخمسين وَسَبْعمائة فألتمتها ثمَّ جددت فِيهَا. انْتهى.

فصل ذكر ذرع الكعبه من داخل وخارج

وَذكر ابْن مَحْفُوظ أَن إِحْدَاث هَذِه الأساطين الْمَذْكُورَة فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة. وَالله أعلم. فصل: ذكر ذرع الْكَعْبَة من دَاخل وخارج قد تقدم أَن طول الْكَعْبَة فِي السَّمَاء سبع وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، وَقد ذكر الْأَزْرَقِيّ فِي ذرعها من داخلها وخارجها. قَالَ عز الدّين بن جمَاعَة: وحررت أَنا بارتفاعها وَمِقْدَار مَا بَين أَرْكَانهَا وَغير ذَلِك لما كنت مجاوراً بِمَكَّة سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة، فَكَانَ ارتفاعها من أَعلَى الْمُلْتَزم إِلَى أَرض الشاذروان ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا وَنصف ذِرَاع وَثلث ذِرَاع، وَبَين الرُّكْن الَّذِي فِيهِ الْحجر الْأسود وَبَين الرُّكْن الشَّامي وَيُقَال: الْعِرَاقِيّ من دَاخل الْكَعْبَة ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَثلث وَربع وَثمن، وَمن خَارِجهَا ثَلَاثَة وَعشْرين ذِرَاعا وَربع ذِرَاع، وارتفاع بَاب الْكَعْبَة الشَّرِيفَة من داخلها سِتَّة اذرع وقيراطان، وَمن خَارِجهَا خَمْسَة أَذْرع وَثلث وَعرضه من داخلها ثَلَاثَة أَذْرع وَربع ثمن وَمن خَارِجهَا ثَلَاثَة أَذْرع وَربع، وَعرض العتبة نصف ذِرَاع وَربع، وارتفاع الْبَاب الشريف عَن أَرض الشاذروان ثَلَاثَة أَذْرع وَثلث وَثمن، وارتفاع الشاذروان عَن أَرض المطاف ربع وَثمن، وَعرضه فِي هَذِه الْجِهَة نصف وَربع، وذرع الْمُلْتَزم وَهُوَ ابين الرُّكْن وَالْبَاب من دَاخل الْكَعْبَة ذراعان وَمن خَارِجهَا أَرْبَعَة وَسدس، وارتفاع الْحجر الْأسود عَن أَرض المطاف ذراعان وَربع و " سدس "، وَبَين الرُّكْن الشَّامي والغربي من دَاخل الْكَعْبَة خَمْسَة عشر ذِرَاعا وقيراطان، وَمن خَارِجهَا ثَمَانِيَة عشر وَنصف وَربع، وَبَين الغربي واليماني من داخلها ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَثلثا ذِرَاع وَثمن ذِرَاع، وَمن خَارِجهَا ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، وَبَين الْيَمَانِيّ والركن الْأسود من داخلها خَمْسَة عشر ذِرَاعا وَثلث ذِرَاع، وَمن خَارِجهَا تِسْعَة عشر بِتَقْدِيم التَّاء على السِّين وَربع، وذرع دائر الْحجر من دَاخله من الفتحة إِلَى الفتحة أحد وَثَلَاثُونَ وَثلث، وَمن خَارج من الفتحة إِلَى الفتحة سَبْعَة وَثَلَاثُونَ وَنصف وَربع وَثمن، وَمن الفتحة إِلَى الفتحة على الاسْتوَاء سَبْعَة عشر ذِرَاعا، وَمن صدر دائر الْحجر من دَاخله إِلَى جِدَار الْبَيْت تَحت الْمِيزَاب خَمْسَة عشر ذِرَاعا، وَعرض جِدَار الْحجر ذراعان وَثلث ذِرَاع، وارتفاعه عَن أَرض المطاف مِمَّا يَلِي الفتحة الَّتِي من جِهَة الْمقَام ذِرَاع وَثلثا ذِرَاع وَثمن ذِرَاع، وارتفاعه مِمَّا يَلِي الفتحة الْأُخْرَى ذِرَاع وَثلث وَنصف وَثمن، وارتفاعه من وَسطه ذِرَاع

فصل ذكر ما يدور بالحجر الاسود من الفضه

وَثلث ذِرَاع، وسعة مَا بَين جِدَار الْحجر والشاذروان عِنْد الفتحة الَّتِي من جِهَة الْمقَام أَرْبَعَة أَذْرع وَثلث، وَعرض الشاذروان فِي هَذِه الْجِهَة نصف ذِرَاع، وَالْخَارِج من جِدَار الْحجر فِي هَذِه الْجِهَة عَن مسامتة الشاذروان نصف ذِرَاع وَربع ذِرَاع وَثمن، وسعة الفتحة الْأُخْرَى أَرْبَعَة أَذْرع وَنصف، وَعرض الشاذروان فِي هَذِه الْجِهَة ثلثا ذِرَاع، وَالْخَارِج من جِدَار الْحجر فِي هَذِه الْجِهَة عَن مسامتة الشاذروان نصف ذِرَاع وَثلث ذِرَاع. قَالَ عز الدّين: كل ذَلِك حررته بِذِرَاع القماشي الْمُسْتَعْمل فِي زَمَاننَا بِمصْر. انْتهى كَلَامه. قَالَ الْأَزْرَقِيّ وذرع عرض بعد جِدَار الْكَعْبَة ذراعان، والكعبة لَهَا سقفان أَحدهمَا فَوق الآخر، وَكَانَت غير مسقفة فِي عهد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي سقف الْكَعْبَة أَربع روازن نَافِذَة من السّقف الْأَعْلَى إِلَى السّقف الْأَسْفَل للضوء، وعَلى الروازن رُخَام، وَكَانَ ابْن الزبير أَتَى بِهِ من صنعاء يُقَال لَهُ: البلق وَبَين السقفين فُرْجَة، وذرع التحجير الَّذِي فَوق ظهر سطح الْكَعْبَة ذراعان وَنصف، وذرع عرض جِدَار التحجير كَمَا يَدُور ذِرَاع، وَفِي التحجير ملبن مربع من سَاج فِي جدران سطح الْكَعْبَة، كَمَا يَدُور فِيهِ حلق حَدِيد تشد فِيهَا ثِيَاب الْكَعْبَة، وَكَانَ أَرض سطح الْكَعْبَة بالفسيفساء، ثمَّ كَانَت تتْلف عَلَيْهِم إِذا جَاءَ الْمَطَر فقلعته الحجبة بعد سنة الْمِائَتَيْنِ وشيدوه بالمرمر الْمَطْبُوخ والجص، وميزاب الْكَعْبَة فِي وسط الْجدر الَّذِي يَلِي الْحجر يسْكب فِي بطن الْحجر، وذرع طول الْمِيزَاب أَربع أَذْرع، وسعته ثَمَانِي أَصَابِع فِي ارْتِفَاع مثلهَا، والميزاب ملبس صَفَائِح ذهب دَاخله وخارجه، وَكَانَ الَّذِي جعل عَلَيْهِ الذَّهَب الْوَلِيد بن عبد الْملك، وذرع مسيل المَاء فِي الْجدر ذِرَاع وَسَبْعَة عشر إصبعاً. فصل: ذكر مَا يَدُور بِالْحجرِ الْأسود من الْفضة وَكَانَ ابْن الزبير أول من ربط الرُّكْن الْأسود بِالْفِضَّةِ لما أَصَابَهُ الْحَرِيق، ثمَّ كَانَت الْفضة قد رقت ونزعت حول الْحجر الْأسود حَتَّى خَافُوا على الرُّكْن أَن ينْقض، فَلَمَّا اعْتَمر

فصل ما جاء في مقام ابراهيم عليه السلام

أَمِير الْمُؤمنِينَ هَارُون الرشيد وجاور فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة أَمر بِالْحِجَارَةِ الَّتِي بَينهَا الْحجر الْأسود فثقبت بالماس من فَوْقهَا وتحتها ثمَّ أفرغ فِيهَا الْفضة. وَذكر المسبحي: أَن فِي سنة أَرْبَعِينَ وثلاثمائة قلع الحجبة الْحجر الْأسود وَكَانَ " بضه مِنْبَر " وجعلوه فِي الْكَعْبَة خوفًا عَلَيْهِ، وأحبوا أَن يجْعَلُوا لَهُ طوقاً من فضَّة يشد بِهِ كَمَا كَانَ قَدِيما فِي عهد ابْن الزبير، فأصلحه صائغان حاذقان وَعَملا لَهُ طوقاً من فضَّة وأحكماه، قَالَ: وَعَن مُحَمَّد بن نَافِع الْخُزَاعِيّ: أَن مبلغ مَا على الْحجر الْأسود من الطوق وَغَيره ثَلَاثَة آلَاف وَتِسْعَة وَتسْعُونَ درهما على مَا قيل. انْتهى. قيل: والحلية الَّتِي على الْحجر الْأسود الْآن غير الْحِلْية الْمُتَقَدّمَة؛ لِأَن دَاوُد بن عِيسَى بن فليتة الحسني أَمِير مَكَّة أَخذ طوق الْحجر الْأسود قبيل عَزله من مَكَّة فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة أَو فِي الَّتِي بعْدهَا على مَا ذكر غير وَاحِد من أهل التواريخ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون قلع الْحجر الْأسود ليعْمَل لَهُ طوق يصونه. فصل: مَا جَاءَ فِي مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الْمقَام فِي اللُّغَة: مَوضِع قدم الْقَائِم. ومقام إِبْرَاهِيم: هُوَ الْحجر الَّذِي وقف عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم. وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد من الْمقَام فِي قَوْله تَعَالَى: " فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم ". فَقَالَ الْجُمْهُور: هُوَ الْحجر الْمَعْرُوف. وَقيل: الْبَيْت كُله مقَام إِبْرَاهِيم؛ لِأَنَّهُ بناه وَقَامَ فِي جَمِيع أقطاره. وَقيل: مَكَّة كلهَا. وَقيل: الْحرم كُله. وَالصَّحِيح قَول الْجُمْهُور. وَفِي سَبَب وُقُوفه عَلَيْهِ أَقْوَال؛ أَحدهَا: إِنَّه وقف عَلَيْهِ لبِنَاء الْبَيْت قَالَه سعيد بن جُبَير. الثَّانِي: إِنَّه جَاءَ من الشَّام فَطلب ابْنه إِسْمَاعِيل فَلم يجده فَقَالَت لَهُ زَوجته: انْزِلْ فَأبى. فَقَالَت: دَعْنِي أغسل رَأسك، فَأَتَتْهُ بِحجر فَوضع رجله عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب فغسلت شقَّه، ثمَّ رفعته وَقد غَابَتْ رجله فِيهِ، فَوَضَعته تَحت الشق الآخر وغسلته فغابت رجله فِيهِ،

فصل ما جاء في موضع المقام وكيف رده عمر الي موضعه هذا

فَجعله الله تَعَالَى من الشعائر، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم. الثَّالِث: إِنَّه وقف عَلَيْهِ فَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: لما فرغ من التأذين أَمر بالْمقَام فَجعله قبْلَة، فَكَانَ يُصَلِّي إِلَيْهِ مُسْتَقْبل الْبَاب ثمَّ كَانَ إِسْمَاعِيل بعد يُصَلِّي إِلَيْهِ إِلَى بَاب الْكَعْبَة. وَعَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: رَأَيْت الْمقَام فِيهِ أَصَابِعه وأخمص قَدَمَيْهِ والعقب غير أَنه أذهبه مسح النَّاس بِأَيْدِيهِم. وَعَن قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: " وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى ". قَالَ: إِنَّمَا أمروا أَن يصلوا عِنْده وَلم يؤمروا بمسحه، وَلَقَد تكلفت هَذِه الْأمة شَيْئا مَا تكلفته الْأُمَم قبلهَا، وَلَقَد ذكر لنا بعض من رأى أَثَره وأصابعه فَمَا زَالَت هَذِه الْأمة تمسحه حَتَّى اخلولق وانماح. وَعَن نَوْفَل بن مُعَاوِيَة الديلِي قَالَ: رَأَيْت الْمقَام فِي عهد عبد الْمطلب مثل المهاة، والمهاة: خرزة بَيْضَاء. فصل: مَا جَاءَ فِي مَوضِع الْمقَام وَكَيف رده عمر إِلَى مَوْضِعه هَذَا اخْتلفُوا هَل كَانَ فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُلْصقًا بِالْبَيْتِ، أَو فِي مَوْضِعه الْآن؟ وَالصَّحِيح أَنه كَانَ فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُلْصقًا بِالْبَيْتِ. روى الْأَزْرَقِيّ عَن الْمطلب بن أبي ودَاعَة السَّهْمِي قَالَ: كَانَت السُّيُول تدخل الْمَسْجِد الْحَرَام من بَاب بني شيبَة قبل أَن يردم عمر بن الْخطاب الرَّدْم الْأَعْلَى، وَكَانَ يُقَال لهَذَا الْبَاب: بَاب السَّيْل، وَكَانَت السُّيُول رُبمَا رفعت الْمقَام عَن مَوْضِعه وَإِلَى وَجه الْكَعْبَة. حَتَّى جَاءَ سيل فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب يُقَال لَهُ: سيل أم نهشل، وَسمي بذلك؛ لِأَنَّهُ ذهب بِأم نهشل ابْنة عُبَيْدَة ابْن أبي حجيجة فَمَاتَتْ فِيهِ، فَاحْتمل الْمقَام من مَوْضِعه هَذَا فَذهب بِهِ حَتَّى وجد بِأَسْفَل مَكَّة، فَأتى بِهِ فَربط فِي أَسْتَار الْكَعْبَة فِي وَجههَا، وَكتب فِي ذَلِك إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ فَأقبل عمر فَزعًا، فَدخل بِعُمْرَة فِي شهر رَمَضَان وَقد عُفيَ مَوْضِعه وعفاه السَّيْل، فَدَعَا عمر بِالنَّاسِ فَقَالَ: أنْشد الله عبدا عِنْده علم فِي هَذَا الْمقَام أَيْن مَوْضِعه؟ فَقَالَ الْمطلب بن أبي ودَاعَة: عِنْدِي ذَلِك فقد كنت أخْشَى عَلَيْهِ

هَذَا، فَأخذت قدره فِي مَوْضِعه إِلَى الرُّكْن، وَمن مَوْضِعه إِلَى بَاب الْحجر وَمن مَوْضِعه إِلَى زَمْزَم بميقاط وَهُوَ عِنْدِي فِي الْبَيْت. فَقَالَ لَهُ عمر: فاجلس عِنْدِي وَأرْسل إِلَيْهَا. فَأتى بهَا فَمدَّهَا فَوَجَدَهَا مستوية إِلَى مَوْضِعه هَذَا، فَسَأَلَ النَّاس وشاورهم فَقَالُوا: نعم هَذَا مَوْضِعه. فَلَمَّا استثبت ذَلِك عمر وَحقّ عِنْده أَمر بِهِ فَاعْلَم بِبِنَاء ربضه تَحت الْمقَام ثمَّ حوله فَهُوَ فِي مَكَانَهُ هَذَا إِلَى الْيَوْم. وروى الْأَزْرَقِيّ أَيْضا عَن ابْن أبي مليكَة أَنه قَالَ: مَوضِع الْمقَام هُوَ الَّذِي بِهِ الْيَوْم، وَهُوَ مَوْضِعه فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَّا أَن السَّيْل ذهب بِهِ فِي خلَافَة عمر فَجعل فِي وَجه الْكَعْبَة حَتَّى قدم عمر رَضِي الله عَنهُ فَرده بِمحضر من النَّاس. وَنقل الْأَزْرَقِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير أَن الْمقَام كَانَ عِنْد صقع الْبَيْت فَأَما مَوْضِعه الَّذِي هُوَ مَوْضِعه فموضعه الْآن، وَأما مَا يَقُول النَّاس: إِنَّه كَانَ هُنَالك مَوْضِعه فَلَا. انْتهى كَلَام الْأَزْرَقِيّ. وَقَالَ مَالك فِي الْمُدَوَّنَة: كَانَ الْمقَام فِي عهد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ فِي مَكَانَهُ الْيَوْم، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة ألصقوه بِالْبَيْتِ خيفة السَّيْل وَكَانَ ذَلِك فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعهد أبي بكر، فَلَمَّا ولي عمر رَضِي الله عَنهُ رده بعد أَن قَاس مَوْضِعه بخيوط قديمَة قيس بهَا حِين أَخْبرُوهُ. وَحكى سَنَد عَن أَشهب عَن مَالك: أَن الَّذِي حمل عمر على ذَلِك وَالله أعلم مَا كلن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكرهُ من كَرَاهِيَة تَغْيِير مراسيم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَمِنْه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة: " لَوْلَا حدثان قَوْمك بِكفْر لنقضت الْكَعْبَة ". فَرَأى عمر أَن ذَلِك لَيْسَ فِيهِ تَغْيِير لمَكَان مَا رَآهُ من مراسيم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام انْتهى. وَفِي هَذَا مناقضة ظَاهِرَة لما ذكره الْأَزْرَقِيّ عَن ابْن أبي مليكَة، وَأما مَا ذكره الْمطلب

فصل ما جاء في الذهب الذي علي المقام ومن جعله عليه

ابْن أبي ودَاعَة فَيحْتَمل أَمريْن؛ أَحدهمَا: أَن يكون قَول عمر: أنْشد الله عبدا عِنْده علم فِي هَذَا الْمقَام أَيْن مَوْضِعه؟ أَي: الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد النُّبُوَّة وَهُوَ الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم؛ لِأَنَّهُ كَانَ بحاثاً عَن السّنة وقافاً عِنْدهَا، وَكَذَلِكَ فهمه ابْن أبي مليكَة فَأثْبت لذَلِك أَن مَوْضِعه الْيَوْم هُوَ الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ فِي عهد النُّبُوَّة، وَأَن إلصاقه بِالْبَيْتِ إِنَّمَا كَانَ لعَارض السَّيْل. الِاحْتِمَال الثَّانِي: أَن يكون عمر سَأَلَ عَن مَوْضِعه فِي زمن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ليَرُدهُ إِلَيْهِ لعلمه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُؤثر مراسيم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَيكرهُ تغييرها، وَيكون سَبيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تَقْرِير الْمقَام مُلْصقًا بِالْبَيْتِ إِلَى أَن توفّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبيله فِي تَقْرِير مَا كَانَ من الْكَعْبَة فِي الْحجر تأليفاً لقريش فِي عدم تَغْيِير مراسيمهم، فَلذَلِك سَأَلَ عمر عَن مَكَان الْمقَام فِي زمن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ليَرُدهُ إِلَيْهِ. وعَلى هَذَا التَّأْوِيل فَلَا مناقضة بَين مَا رَوَاهُ الْمطلب وَالْإِمَام مَالك فَيكون الْجمع بَينهمَا أولى من ترك أَحدهمَا وَيكون ابْن أبي مليكَة قَالَ مَا قَالَه فهما من سِيَاق مَا رَوَاهُ الْمطلب وَالْإِمَام مَالك أثبت مَا أثْبته جَازِمًا بِهِ، فَلَا يكون ذَلِك إِلَّا عَن تَوْقِيف فَكَانَ الْجمع أولى قَالَه الْمُحب الطَّبَرِيّ. ويروى أَن رجلا يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا كَانَ بِمَكَّة فَأسلم يُقَال لَهُ: جريج ففقد الْمقَام ذَات لَيْلَة فَوجدَ عِنْده أَرَادَ أَن يُخرجهُ إِلَى ملك الرّوم فَأخذ مِنْهُ وَضربت عُنُقه. وَعَن عبد الله بن السَّائِب وَكَانَ يُصَلِّي بِأَهْل مَكَّة قَالَ: أَنا أول من صلى خلف الْمقَام حِين رد فِي مَوْضِعه هَذَا، ثمَّ دخل عمر رَضِي الله عَنهُ وَأَنا فِي الصَّلَاة فصلى خَلْفي صَلَاة الْمغرب. فصل: مَا جَاءَ فِي الذَّهَب الَّذِي على الْمقَام وَمن جعله عَلَيْهِ أول مَا حلي الْمقَام فِي خلَافَة الْمهْدي العباسي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة كَمَا ذكره الفاكهي. وروى الْأَزْرَقِيّ عَن عبد الله بن شُعَيْب قَالَ: ذهبت أرفع الْمقَام فِي خلَافَة الْمهْدي فانثلم قَالَ: وَهُوَ من حجر رخو يشبه السنان فَخَشِينَا أَن يتفتت، فكتبنا فِي ذَلِك إِلَى الْمهْدي فَبعث إِلَيْنَا بِأَلف دِينَار فضببنا بهَا الْمقَام أَسْفَله وَأَعلاهُ، وَلم يزل ذَلِك الذَّهَب عَلَيْهِ حَتَّى ولى أَمِير الْمُؤمنِينَ جَعْفَر المتَوَكل على الله فَجعل عَلَيْهِ ذَهَبا فَوق ذَلِك الذَّهَب

فصل ذكر ذرع المقام

أحسن من ذَلِك الْعَمَل فِي مصدر الْحَاج سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثمَّ إِن الذَّهَب الَّذِي حلّي بِهِ الْمقَام فِي خلَافَة المتَوَكل لم يزل عَلَيْهِ إِلَى أَن أَخذه جَعْفَر بن الْفضل وَمُحَمّد بن حَاتِم فِي سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وضرباه دَنَانِير وأنفقاه على حَرْب إِسْمَاعِيل الْعلوِي فِيمَا ذكرُوا، وَبَقِي الذَّهَب الَّذِي عمل فِي خلَافَة الْمهْدي إِلَى سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ ثمَّ قلع وَضم إِلَيْهِ ذهب آخر وحلي الْمقَام بذلك كُله، وَكَانَ فِي الْمقَام حلية من فضَّة مَعَ الذَّهَب فَزَاد فِيهَا فِي هَذَا التَّارِيخ أَمِير مَكَّة عَليّ بن الْحُسَيْن الْهَاشِمِي العباسي، وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن الحجبة ذكرُوا لعَلي بن الْحُسَيْن الْمَذْكُور أَن الْمقَام قد وهى وَيخَاف عَلَيْهِ، وسألوه أَن يجدد عَلَيْهِ ويضببه حَتَّى يشْتَد، فأجابهم إِلَى مَا سَأَلُوهُ وَقلع مَا على الْمقَام من الذَّهَب وَالْفِضَّة، فَإِذا هُوَ سبع قطع ملصقة وَزَالَ عَنْهَا الإلصاق فألزم إلصاقه بالعقاقير وَركب عَلَيْهِ من حلية الذَّهَب وَالْفِضَّة مَا يزِيدهُ شدَّة ويستحسنه النَّاظر فِيهِ، وَكَانَ ابْتِدَاء عمل ذَلِك فِي الْمحرم سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ والفراغ مِنْهُ فِي ربيع الأول مِنْهَا، وَكَانَ جملَة مَا فِي الطوقين اللَّذين عملا فِي الْمقَام باللحوم الَّتِي فيهمَا ألفي مِثْقَال ذَهَبا إِلَّا ثَمَانِيَة مَثَاقِيل. انْتهى كَلَام الفاكهي مُخْتَصرا. قَالَ الشَّيْخ سعد الدّين الإسفرائيني فِي كتاب " زبدة الْأَعْمَال وخلاصة الْأَفْعَال ": وَفِي سنة تسع وَخمسين وَسَبْعمائة فِي زمَان القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن محب الدّين الطَّبَرِيّ قَاضِي مَكَّة سرق الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَعمل عَلَيْهِ الْفضة وَهِي عَلَيْهِ إِلَى الْآن. انْتهى. فصل ذكر ذرع الْمقَام ذكر الْأَزْرَقِيّ: أَن ذرع الْمقَام ذِرَاع، وَأَن الْقَدَمَيْنِ داخلان فِيهِ سبع أَصَابِع. وَقَالَ عز الدّين ابْن جمَاعَة: وحررت لما كنت بِمَكَّة سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة مِقْدَار ارتفاعه من الأَرْض فَكَانَ نصف ذِرَاع وَربع ذِرَاع وَثمن ذِرَاع بالذراع الْمُسْتَعْمل فِي زَمَاننَا بِمصْر فِي القماش، وَأَعْلَى الْمقَام مربع من كل جِهَة نصف ذِرَاع وَربع ذِرَاع، وَمَوْضِع " عرض " الْقَدَمَيْنِ فِي الْمقَام ملبّس بِفِضَّة، وعمقه من فَوق الْفضة سبع قراريط وَنصف قِيرَاط من

فصل ما جاء في اخراج جبريل زمزم لام اسماعيل ويروي لها

ذِرَاع القماش، وَالْمقَام الْيَوْم فِي صندوق من حَدِيد حوله شباك من حَدِيد، عرض الشباك عَن يَمِين الْمُصَلِّي ويساره خَمْسَة أَذْرع وَثمن ذِرَاع، وَطوله إِلَى جِهَة الْكَعْبَة خَمْسَة أَذْرع إِلَّا قيراطين، وَخلف الشباك الْمُصَلِّي وَهُوَ محوز بعمودين من حِجَارَة وحجرين من جَانِبي الْمُصَلِّي، وَطول الْمُصَلِّي خَمْسَة اذرع وَسدس ذِرَاع، وَمن صدر الشباك الَّذِي دَاخله الْمقَام إِلَى شاذروان الْكَعْبَة عشرُون ذِرَاعا وَثلثا ذِرَاع وَثمن ذِرَاع، كل ذَلِك بالذراع الْمُتَقَدّم ذكره. انْتهى كَلَام ابْن جمَاعَة. فصل: مَا جَاءَ فِي إِخْرَاج جِبْرِيل زَمْزَم لأم إِسْمَاعِيل " ويروى لَهَا " لما كَانَ بَين هَاجر أم إِسْمَاعِيل وَبَين سارة امْرَأَة إِبْرَاهِيم مَا كَانَ أقبل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بهاجر وَابْنهَا إِسْمَاعِيل وَهُوَ صَغِير يرضعها حَتَّى قدم بهما مَكَّة، وَمَعَ أم إِسْمَاعِيل شنة فِيهَا مَاء تشرب مِنْهُ وتدر على ابْنهَا وَلَيْسَ مَعهَا زَاد وَفِي رِوَايَة: وَمَعَهَا جراب فِيهِ تمر وسقاء فِيهِ مَاء وَلَيْسَ بِمَكَّة أحد وَلَيْسَ لَهَا مَاء فَعمد بهما إِبْرَاهِيم إِلَى دوحة فَوق زَمْزَم فوضعهما عِنْدهَا، ثمَّ توجه إِبْرَاهِيم خَارِجا على دَابَّته فتبعته أم إِسْمَاعِيل حَتَّى وافى إِبْرَاهِيم بكدا، فَقَالَت لَهُ أم إِسْمَاعِيل: إِلَى من تتركها وَوَلدهَا؟ قَالَ: إِلَى الله عز وَجل قَالَت: رضيت بِاللَّه وَفِي رِوَايَة: قَالَت لَهُ: أَيْن تذْهب وتتركنا بِهَذَا الْوَادي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أنيس وَلَا شَيْء؟ فَقَالَت لَهُ ذَلِك مرَارًا وَجعل لَا يلْتَفت إِلَيْهَا فَقَالَت: آللَّهُ أَمرك بِهَذَا؟ قَالَ: نعم. قَالَت: إِذن لَا يضيعنا ثمَّ رجعت تحمل ابْنهَا فَانْطَلق إِبْرَاهِيم حَتَّى إِذا كَانَ عِنْد الثَّنية حِين لَا يرونه اسْتقْبل بِوَجْهِهِ الْبَيْت ثمَّ دَعَا بهؤلاء الدَّعْوَات وَرفع يَدَيْهِ وَقَالَ: " رَبنَا إِنِّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذِي ذرع حَتَّى بلغ يشكرون ". وَجعلت أم إِسْمَاعِيل ترْضع إِسْمَاعِيل حَتَّى فنى مَاء شنها فَانْقَطع درها، فجاع ابْنهَا فَاشْتَدَّ جوعه حَتَّى نظرت إِلَيْهِ أمه يَتَشَحَّط فَخَشِيت أم إِسْمَاعِيل أَن يَمُوت، فَقَالَت: لَو تغيبت عَنهُ حَتَّى يَمُوت وَلَا أَدْرِي بِمَوْتِهِ. فَوجدت الصَّفَا أقرب جبل فِي الأَرْض يَليهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ، فاستقبلت الْوَادي تنظر هَل ترى أحدا فَلم تَرَ أحدا، فَهَبَطت

من الصَّفَا وَقَالَت: لَو مشيت بَين هذَيْن الجبلين تعللت حَتَّى يَمُوت الصَّبِي وَلَا أرَاهُ. فمشت بَينهمَا أم إِسْمَاعِيل حَتَّى إِذا بلغت الْوَادي رفعت طرف درعها، ثمَّ سعت سعي الْإِنْسَان المجهود حَتَّى جَاوَزت الْوَادي، ثمَّ أَتَت الْمَرْوَة فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنظرت فَلم تَرَ أحدا فَفعلت ذَلِك سبع مَرَّات، فَلذَلِك شرع السَّعْي بَينهمَا سبعا، فَلَمَّا أشرقت على الْمَرْوَة سَمِعت صَوتا فَقَالَت: صه تُرِيدُ نَفسهَا ثمَّ تسمعت فَسمِعت أَيْضا فَقَالَت: قد أسمعت إِن كَانَ عنْدك غواث، فَخرج لَهَا جِبْرِيل فاتبعته حَتَّى وصل عِنْد زَمْزَم فبحث بعقبه أَو بجناحه حَتَّى ظهر المَاء، وَتقول بِيَدِهَا هَكَذَا وتغرف من المَاء فِي سقائها وَهُوَ يفور بعد مَا تغرف فَشَرِبت وأرضعت وَلَدهَا، وَقَالَ لَهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: لَا تخافي الضَّيْعَة فَإِن هَا هُنَا بَيت الله عز وَجل يبنيه هَذَا الْغُلَام وَأَبوهُ، وَإِن الله تَعَالَى لَا يضيع أَهله. وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " يرحم الله أم إِسْمَاعِيل لَو تركت زَمْزَم أَو قَالَ: لَو لم تغرف من المَاء لكَانَتْ عينا معينا ". قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره: لَا يجوز لأحد أَن يتَعَلَّق بِهَذَا فِي طرح وَلَده وَعِيَاله بِأَرْض مضيعة، اتكالاً على الْعَزِيز الرَّحِيم، واقتداء بِفعل إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، كَمَا فعله غلاة الصُّوفِيَّة فِي حَقِيقَة التَّوَكُّل، قَالَ: إِبْرَاهِيم فعل ذَلِك بِأَمْر الله تَعَالَى؛ لقَوْله فِي الحَدِيث: آللَّهُ أَمرك بِهَذَا؟ قَالَ: نعم. وَقد رُوِيَ أَن سارة لما غارت من هَاجر بعد أَن ولدت إِسْمَاعِيل خرج بهَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى مَكَّة فَروِيَ أَنه ركب الْبراق هُوَ وَهَاجَر والطفل فجَاء فِي يَوْم وَاحِد من الشَّام إِلَى مَكَّة، وَأنزل ابْنه وَأمه هُنَاكَ وَركب منصرفاً من يَوْمه، وَكَانَ ذَلِك كُله بِوَحْي من الله عز وَجل فَلَمَّا ولّى دَعَا. انْتهى كَلَامه. فَبَيْنَمَا هَاجر وَابْنهَا كَذَلِك إِذْ مر ركب من جرهم قافلين من الشَّام فِي الطَّرِيق السفلي، فَرَأى الركب الطير على المَاء فَقَالَ بَعضهم: مَا كَانَ بِهَذَا الْوَادي من مَاء وَلَا أنيس فأرسلوا جريين لَهُم حَتَّى أَتَيَا أم إِسْمَاعِيل فكلماها، ثمَّ رجعا إِلَى ركبهما فأخبراهم بمكانها، فَرجع الركب كلهم حَتَّى حيوها فَردَّتْ عَلَيْهِم، وَقَالُوا: لمن هَذَا لماء؟ قَالَت أم إِسْمَاعِيل: هُوَ لي. قَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لنا أَن نسكن مَعَك؟ قَالَت: نعم. قَالَ النَّبِي

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " ألفى ذَلِك أم إِسْمَاعِيل، وَقد أحبت الْأنس " فنزلوا وبعثوا إِلَى أَهْليهمْ، فقدموا وَسَكنُوا تَحت الدوح واعترشوا عَلَيْهَا الْعَرْش، فَكَانَت مَعَهم هِيَ وَابْنهَا. قَالَ بعض أهل الْعلم: كَانَت جرهم تشرب من مَاء زَمْزَم فَمَكثت بذلك مَا شَاءَ الله أَن تمكث، فَلَمَّا استخفت جرهم بِالْحرم وتهاونت بِحرْمَة الْبَيْت، وأكلوا مَال الْكَعْبَة الَّذِي يهدى لَهَا سرا وَعَلَانِيَة وارتكبوا مَعَ ذَلِك أموراً عظاماً، نضب مَاء زَمْزَم وَانْقطع فَلم يزل مَوْضِعه يدرس ويتقادم وتمر عَلَيْهِ السُّيُول عصراً بعد عصر حَتَّى عفى مَكَانَهُ، وسلط الله خُزَاعَة على جرهم فأخرجتهم من الْحرم وَوليت عَلَيْهِم الْكَعْبَة وَالْحكم بِمَكَّة، وَمَوْضِع زَمْزَم فِي ذَلِك داثر لَا يعرف؛ لتقادم الزَّمَان حَتَّى بوأه الله لعبد الْمطلب بن هَاشم لما أَرَادَ الله تَعَالَى من ذَلِك فخصه بِهِ من بَين قُرَيْش. وَقيل: إِن جرهماً دفنت زَمْزَم حِين ظعنوا من مَكَّة وَاسْتولى عَلَيْهَا غَيرهم. قَالَ السُّهيْلي: وَلما أحدثت جرهم فِي الْحرم واستخفوا بالمناسك وَالْحرم، وبغى بَعضهم على بعض واجترم، تغوّر مَاء زَمْزَم واكتتم، فَلَمَّا أخرج الله جرهم من مَكَّة بالأسباب الَّتِي ذَكرنَاهَا، عمد الْحَارِث بن مضاض الْأَصْغَر إِلَى مَا كَانَ عِنْده من مَال الْكَعْبَة وَفِيه غزالان من ذهب وأسياف قلعية كَانَ أهداها ساسان ملك الْفرس، وَقيل: سَابُور، وَذكروا أَن الْأَوَائِل من مُلُوك الْفرس كَانَت تحج الْكَعْبَة إِلَى عهد ساسان أَو سَابُور، فَلَمَّا علم ابْن مضاض أَنه مخرج مِنْهَا جَاءَ فِي اللَّيْل حَتَّى دفن ذَلِك فِي زَمْزَم وغطى عَلَيْهَا، وَلم تزل دارسة عافياً اثرها حَتَّى آن مولد الْمُبَارك الَّذِي كَانَ يستسقى بِوَجْهِهِ غيث السَّمَاء، وتتفجر من بنانه ينابيع المَاء صَاحب الْكَوْثَر والحوض الرّواء، فَلَمَّا آن ظُهُوره أذن الله لسقيا أَبِيه أَن تظهر وَلما اندفن من مَائِهَا أَن يجْهر، فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد سقت النَّاس بركته قبل أَن يُولد وَسقوا بدعوته وَهُوَ طِفْل حِين أجدب بهم الْبَلَد، وَذَلِكَ حِين خرج بِهِ جده مستسقياً لقريش، وسقيت الخليقة غيوث السَّمَاء فِي حَيَاته الفينة بعد الفينة والمرة بعد الْمرة، تَارَة بدعائه وَتارَة ببنانه وَتارَة بإلقاء سَهْمه، ثمَّ بعد مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استشفع عمر بِعَمِّهِ إِلَى الله تَعَالَى إِلَى عَام الرَّمَادَة وَأقسم عَلَيْهِ بِهِ وبنبيه، فَلم يبرح حَتَّى قلصوا

فصل ما جاء في حفر عبد المطلب بن هاشم زمزم

المأزر واعتلقوا الْحذاء وخلصوا الغدران، وَسمعت الرفاق الْمُقبلَة إِلَى الْمَدِينَة فِي ذَلِك الْيَوْم صائحاً يَصِيح فِي السَّحَاب: أَتَاك الْغَوْث أَبَا حَفْص أَتَاك الْغَوْث أَبَا حَفْص، كل ذَلِك ببركة المبتعث بالرحمتين الدَّاعِي إِلَى الحياتين الْمَوْعُود بهما على يَدَيْهِ فِي الدَّاريْنِ. انْتهى كَلَام السُّهيْلي. وَقَالَ فِي تفجير زَمْزَم جِبْرِيل بالعقب دون أَن يفجرها بِالْيَدِ أَو غَيرهَا: إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لعقبه وراثة وَهُوَ مُحَمَّد وَأمته كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَجعلهَا كلمة بَاقِيَة فِي عقبه ". أَي: فِي أمة مُحَمَّد. انْتهى. فصل: مَا جَاءَ فِي حفر عبد الْمطلب بن هَاشم زَمْزَم عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: أول مَا ذكر من أَمر عبد الْمطلب بن هَاشم جد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن قُريْشًا خرجت فارة من أَصْحَاب الْفِيل وَهُوَ غُلَام شَاب، فَقَالَ: وَالله لَا أخرج من حرم الله أَبْتَغِي الْعِزّ فِي غَيره فَجَلَسَ عِنْد الْبَيْت، وأجلت عَنهُ قُرَيْش فَلم يزل ثَابتا فِي الْحرم حَتَّى أهلك الله الْفِيل وَأَصْحَابه، وَرجعت قُرَيْش وَقد عظم فِيهَا بصبره وتعظيمه محارم الله تَعَالَى، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ذَلِك وَقد ولد لَهُ أكبر بنيه وَهُوَ الْحَارِث بن عبد الْمطلب فَأدْرك، فَأتى عبد الْمطلب فِي الْمَنَام فَقَالَ لَهُ: احْفِرْ زَمْزَم خبئة الشَّيْخ الْأَعْظَم فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَين لي. فَأتي فِي الْمَنَام مرّة أُخْرَى فَقيل لَهُ: لحفرتكم بَين الفرث وَالدَّم فِي مَبْحَث الْغُرَاب فِي قَرْيَة النَّمْل مُسْتَقْبلَة الأنصاب الْحمر. فَقَامَ عبد الْمطلب فَمشى حَتَّى جلس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام ينْتَظر مَا سمي لَهُ من الْآيَات، فنحرت بقرة بالحزورة، فجزرت تِلْكَ الْبَقَرَة فِي مَكَانهَا حَتَّى احْتمل لَحمهَا، فَأقبل غراب يهوي حَتَّى وَقع فِي الفرث فبحث عِنْد قَرْيَة النَّمْل، فَقَامَ عبد الْمطلب فحفر هُنَالك فَجَاءَتْهُ قُرَيْش فَقَالَت لعبد الْمطلب: مَا هَذَا الصنع؟ إِنَّا لم نَكُنْ نريك بِالْجَهْلِ لم تحفر فِي مَسْجِدنَا؟ فَقَالَ عبد الْمطلب: إِنِّي لحافر هَذِه الْبِئْر وَمُجاهد من صدني عَنْهَا. فَطَفِقَ هُوَ وَابْنه الْحَارِث يحفران وَلَيْسَ لَهُ ولد يَوْمئِذٍ غَيره، فسفه عَلَيْهِمَا نَاس من قُرَيْش فنازعوهما وقاتلوهما، وتناهى عَنهُ

نَاس من قُرَيْش لما يعلمُونَ من علو نسبه وَصدقه واجتهاده فِي دينهم، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَذَى نذر إِن وفى لَهُ عشرَة من الْوَلَد أَن ينْحَر أحدهم، ثمَّ حفر حَتَّى أدْرك سيوفاً دفنت فِي زَمْزَم حِين دفنت، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش أَنه قد أدْرك السيوف قَالُوا: يَا عبد الْمطلب أجزنا مِمَّا وجدت. فَقَالَ عبد الْمطلب: هَذِه السيوف لبيت الله الْحَرَام. فحفر ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى انبط المَاء فِي الْقَرار ثمَّ بحرها حَتَّى لَا ينزف ثمَّ بنى عَلَيْهَا حوضاً، فَطَفِقَ هُوَ وَابْنه ينزعان فيملآن ذَلِك الْحَوْض فيشرب مِنْهُ الْحَاج، فيكسره نَاس من حسدة قُرَيْش بِاللَّيْلِ فَيُصْلِحهُ عبد الْمطلب حِين يصبح، فَلَمَّا أَكْثرُوا فَسَاده دَعَا عبد الْمطلب ربه فأري فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ: قل اللَّهُمَّ لَا أحلهَا لمغتسل، وَلَكِن هِيَ للشارب حل وبل ثمَّ كفيتهم، فَقَامَ عبد الْمطلب، فَنَادَى بِالَّذِي أرِي ثمَّ انْصَرف، فَلم يكن يفْسد حَوْضه ذَلِك عَلَيْهِ أحد من قُرَيْش إِلَّا رمي فِي جسده بداء حَتَّى تركُوا حَوْضه، ثمَّ تزوج عبد الْمطلب النِّسَاء فَولدت لَهُ عشرَة رَهْط، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي كنت نذرت لَك نحر أحدهم، وَإِنِّي أَقرع بَينهم فأصب بذلك من شِئْت فأقرع بَينهم فطارت الْقرعَة على عبد الله بن عبد الْمطلب وَكَانَ أحب وَلَده إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ عبد الله أحب إِلَيْك أم مائَة من الْإِبِل، ثمَّ أَقرع بَينه وَبَين الْمِائَة الْإِبِل فَكَانَت الْقرعَة على الْمِائَة من الْإِبِل فنحرها عبد الْمطلب. وَعَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: قَالَ عبد الْمطلب: إِنِّي لنائم فِي الْحجر أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: احْفِرْ طيبَة. قَالَ: قلت: وَمَا طيبَة؟ قَالَ: ثمَّ ذهب عني فَرَجَعت إِلَى مضجعي فَنمت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ برة. قَالَ: قلت: وَمَا برة؟ ثمَّ ذهب عني فَلَمَّا كَانَ من الْغَد رجعت إِلَى مضجعي فَنمت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ زَمْزَم. قَالَ: قلت: وَمَا زَمْزَم؟ قَالَ: لَا تنزف وَلَا تذم تَسْقِي الحجيج الْأَعْظَم، وَهِي بَين الفرث وَالدَّم عِنْد نقرة الْغُرَاب الأعصم عِنْد قَرْيَة النَّمْل. قَالَ: فَلَمَّا أبان لَهُ شَأْنهَا وَدلّ على موضعهَا وَعرف أَنه قد صدق، غَدا بمعوله وَمَعَهُ ابْنه الْحَارِث بن عبد الْمطلب لَيْسَ لَهُ يَوْمئِذٍ غَيره، فحفر فَلَمَّا بدا لعبد الْمطلب الطي كبّر، فَعرفت قُرَيْش أَنه قد أدْرك حَاجته، فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا عبد الْمطلب إِنَّهَا بِئْر إِسْمَاعِيل وَإِن لنا فِيهَا حَقًا، فأشركنا مَعَك فِيهَا. فَقَالَ عبد الْمطلب: مَا أَنا بفاعل إِن هَذَا إِلَّا خصصت بِهِ دونكم وأعطيته من بَيْنكُم. قَالُوا: فأنصفنا فَإنَّا غير تاركيك حَتَّى نحاكمك. قَالَ: فاجعلوا بيني وَبَيْنكُم من شِئْتُم أحاكمكم إِلَيْهِ. قَالُوا: كاهنة بني سعد بن هذيم. قَالَ:

نعم، وَكَانَت بأشراف الشَّام فَركب عبد الْمطلب وَمَعَهُ نفر من بني عبد منَاف وَركب من كل قَبيلَة من قُرَيْش نفر، قَالَ: وَالْأَرْض إِذْ ذَاك مفاوز فَخَرجُوا حَتَّى إِذا كَانُوا بِبَعْض المفاوز بَين الْحجاز وَالشَّام فنى مَاء عبد الْمطلب وَأَصْحَابه فظمئوا حَتَّى أيقنوا بالهلكة، واستسقوا من مَعَهم من قبائل قُرَيْش فَأَبَوا عَلَيْهِم وَقَالُوا: إِنَّا فِي مفازة تخشى فِيهَا على أَنْفُسنَا مثل مَا أَصَابَكُم، فَلَمَّا رأى عبد الْمطلب مَا صنع الْقَوْم وَمَا يتخوف على نَفسه وَأَصْحَابه قَالَ: مَاذَا ترَوْنَ؟ قَالُوا: مَا رَأينَا إِلَّا تبع لرأيك فمرنا بِمَا شِئْت. قَالَ: فَإِنِّي أرى أَن يحْفر كل رجل مِنْكُم لنَفسِهِ لما بكم الْآن من الْقُوَّة، فَكلما مَاتَ رجل دَفعه أَصْحَابه فِي حفرته، ثمَّ واروه حَتَّى يكون آخِره رجلا فضيعة رجل وَاحِد أيسر من ضَيْعَة ركب جَمِيعًا. قَالُوا: نعم مَا أمرت بِهِ. فَقَامَ كل رجل مِنْهُم يحْفر حفرته ثمَّ قعدوا ينتظرون الْمَوْت عطشاً، ثمَّ إِن عبد الْمطلب قَالَ لأَصْحَابه: إِن إلقاءنا بِأَيْدِينَا هلك للْمَوْت لعجز أَلا نضرب فِي الأَرْض، فَعَسَى الله أَن يرزقنا مَاء بِبَعْض الْبِلَاد فارتحلوا، فارتحلوا حَتَّى إِذا فرغوا وَمن مَعَهم من قُرَيْش ينظرُونَ إِلَيْهِم وَمَا هم فاعلون، تقدم عبد الْمطلب إِلَى رَاحِلَته فركبها فَلَمَّا انبعثت انفجرت تَحت خفها عين مَاء عذب فَكبر عبد الْمطلب وكبّر أَصْحَابه، ثمَّ نزل فَشرب وَشَرِبُوا وأسقوا حَتَّى ملأوا أسقيتهم ثمَّ دعى الْقَبَائِل الَّتِي مَعَه من قُرَيْش، فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى المَاء فقد سقانا الله تَعَالَى فَاشْرَبُوا وأسقوا. فَشَرِبُوا وَسقوا فَقَالَت الْقَبَائِل الَّتِي نازعته: قد وَالله قضى الله تَعَالَى لَك علينا يَا عبد الْمطلب، وَالله لَا نخاصمك فِي زَمْزَم أبدا، الَّذِي سقاك هَذَا المَاء بِهَذِهِ الفلاة هُوَ الَّذِي سقاك زَمْزَم، فَارْجِع إِلَى سقايتك راشداً. فَرجع وَرَجَعُوا مَعَه وَلم يمضوا إِلَى الكاهنة وخلوا بَينه وَبَين زَمْزَم. ابه فِي حفرته، ثمَّ واروه حَتَّى يكون آخِره رجلا فضيعة رجل وَاحِد أيسر من ضَيْعَة ركب جَمِيعًا. قَالُوا: نعم مَا أمرت بِهِ. فَقَامَ كل رجل مِنْهُم يحْفر حفرته ثمَّ قعدوا ينتظرون الْمَوْت عطشاً، ثمَّ إِن عبد الْمطلب قَالَ لأَصْحَابه: إِن إلقاءنا بِأَيْدِينَا هلك للْمَوْت لعجز أَلا نضرب فِي الأَرْض، فَعَسَى الله أَن يرزقنا مَاء بِبَعْض الْبِلَاد فارتحلوا، فارتحلوا حَتَّى إِذا فرغوا وَمن مَعَهم من قُرَيْش ينظرُونَ إِلَيْهِم وَمَا هم فاعلون، تقدم عبد الْمطلب إِلَى رَاحِلَته فركبها فَلَمَّا انبعثت انفجرت تَحت خفها عين مَاء عذب فَكبر عبد الْمطلب وكبّر أَصْحَابه، ثمَّ نزل فَشرب وَشَرِبُوا وأسقوا حَتَّى ملأوا أسقيتهم ثمَّ دعى الْقَبَائِل الَّتِي مَعَه من قُرَيْش، فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَى المَاء فقد سقانا الله تَعَالَى فَاشْرَبُوا وأسقوا. فَشَرِبُوا وَسقوا فَقَالَت الْقَبَائِل الَّتِي نازعته: قد وَالله قضى الله تَعَالَى لَك علينا يَا عبد الْمطلب، وَالله لَا نخاصمك فِي زَمْزَم أبدا، الَّذِي سقاك هَذَا المَاء بِهَذِهِ الفلاة هُوَ الَّذِي سقاك زَمْزَم، فَارْجِع إِلَى سقايتك راشداً. فَرجع وَرَجَعُوا مَعَه وَلم يمضوا إِلَى الكاهنة وخلوا بَينه وَبَين زَمْزَم. قَالَ ابْن إِسْحَاق: هَذَا الَّذِي بَلغنِي من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب فِي زَمْزَم، وَقد سَمِعت من يحدث عَن عبد الْمطلب أَنه قيل لَهُ حِين أَمر بِحَفر زَمْزَم:

ادْع بِالْمَاءِ الروي غير الكدر ... لتسقي حجيج الله فِي كل مبر لَيْسَ يخَاف عَنهُ شَيْء مَا عمر فَخرج عبد الْمطلب حِين قيل لَهُ ذَلِك إِلَى قُرَيْش، فَقَالَ: اعلموا أَنِّي قد أمرت أَن أحفر زَمْزَم. قَالُوا: فَهَل بَين لَك أَيْن هِيَ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: فَارْجِع إِلَى مضجعك الَّذِي رَأَيْت فِيهِ مَا رَأَيْت، فَإِن يَك حَقًا من الله يبين لَك، وَإِن يكن من الشَّيْطَان فَلَنْ يعود إِلَيْك. فَرجع عبد الْمطلب إِلَى مضجعه فَنَامَ فِيهِ فَأتي، فَقيل لَهُ: احْفِرْ زَمْزَم إِنَّك إِن حفرتها لن تندم، وَهِي تراث من أَبِيك الْأَعْظَم، لَا تنزف أبدا وَلَا تذم، تَسْقِي الحجيج الْأَعْظَم مثل نعام جافل لم يقسم ينذر ناذر لمنعم، تكون مِيرَاثا وعقداً مُحكم، لَيست كبعض مَا قد تعلم، وَهِي بَين الفرث وَالدَّم. قَالَ ابْن هِشَام: هَذَا الْكَلَام وَالَّذِي قبله فِي حَدِيث عَليّ فِي حَدِيث حفر زَمْزَم عِنْد سجع وَلَيْسَ بِشعر. قَالَ ابْن إِسْحَاق: فزعموا أَنه حِين قيل لَهُ ذَلِك قَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قيل لَهُ: عِنْد قَرْيَة النَّمْل حَيْثُ ينقر الْغُرَاب غَدا. فغدا عبد الْمطلب وَمَعَهُ ابْنه الْحَارِث فَوجدَ قَرْيَة النَّمْل وَوجد الْغُرَاب ينقر عِنْدهَا بَين الوثنين إساف ونائلة اللَّذين كَانَت قُرَيْش تذبح عِنْدهمَا، فجَاء بِالْمِعْوَلِ فحفر فَلَمَّا تَمَادى بِهِ الْحفر، فَوجدَ فِيهَا غزالين من ذهب وهما الغزالان اللَّذَان دفنتهما جرهم فِيهَا حِين خرجت من مَكَّة، وَوجد فِيهَا اسيافاً قلعية وأدراعاً، فَقَالَت لَهُ قُرَيْش: يَا عبد الْمطلب فِي هَذَا شرك وَحقّ. قَالَ: لَا، وَلَكِن هلموا إِلَى أَمر ينصف بيني وَبَيْنكُم. فَضرب عَلَيْهَا بِالْقداحِ قَالُوا: وَكَيف نصْنَع؟ قَالَ:

أجعَل للكعبة قدحين ولي قدحين، وَلكم قدحين فَمن خرج قدحاه على شَيْء كَانَ لَهُ، وَمن تخلف قدحاه فَلَا شَيْء لَهُ. قَالُوا: أنصفت. فَجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد الْمطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثمَّ أعْطوا القداح الَّذِي يضْرب بهَا عِنْد هُبل، وَقَامَ عبد الْمطلب يَدْعُو الله عز وَجل وَضرب صَاحب القداح فَخرج الأصفران على الغزالين، وَخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد الْمطلب، وتخلف قدحا قُرَيْش، فَضرب عبد الْمطلب الأسياف بَابا للكعبة، وَضرب فِي الْبَاب الغزالين فَكَانَت أول حلية حليته الْكَعْبَة. قَالَ السُّهيْلي: دلّ على زَمْزَم بعلامات ثَلَاث: بنقرة الْغُرَاب الأعصم، وَأَنَّهَا بَين الفرث وَالدَّم، عِنْد قَرْيَة النَّمْل، ويروى أَنه لما قَامَ ليحفرها رأى مَا رسم لَهُ من قَرْيَة النَّمْل ونقرة الْغُرَاب وَلم ير الفرث وَالدَّم، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك ندّت بقرة لجازرها فَلم يُدْرِكهَا حَتَّى دخلت الْمَسْجِد الْحَرَام ونحرها فِي الْموضع الَّذِي رسم لعبد الْمطلب فَسَالَ هُنَاكَ الفرث وَالدَّم، فحفر عبد الْمطلب حَيْثُ رسم لَهُ، وَلم تخص هَذِه العلامات الثَّلَاث بِأَن تكون دَلِيلا عَلَيْهَا إِلَّا لحكمة إلهية، وَفَائِدَة مشاكلة فِي علم التَّعْبِير والتوسم الصَّادِق يَعْنِي زَمْزَم وماءها. أما الفرث وَالدَّم: فَإِن ماءها طَعَام طعم وشفاء سقم وَهِي لما شربت لَهُ، وَقد تقوّت من مَائِهَا أَبُو ذَر ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة فسمن حَتَّى تكثرت عكنه، فَهِيَ إِذا كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اللَّبن: " إِذا شرب أحدكُم اللَّبن فَلْيقل: اللَّهُمَّ بَارك لنا فِيهِ وزدنا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْء يسد مسد الطَّعَام وَالشرَاب إِلَّا اللَّبن ". وَقَالَ تَعَالَى فِي اللَّبن: " من بَين فرث

وَدم لَبَنًا خَالِصا سائغاً للشاربين ". فظهرت هَذِه السقيا الْمُبَارَكَة بَين الفرث وَالدَّم وَكَانَت تِلْكَ من دلائلها المشاكلة لمعناها. وَأما قَوْله: الْغُرَاب الأعصم: قَالَ القتبي: الأعصم من الْغرْبَان الَّذِي فِي جناحيه بَيَاض. وَاعْترض على أبي عبيد لقَوْله فِي شرح الحَدِيث: الأعصم الَّذِي فِي يَدَيْهِ بَيَاض. وَقَالَ: كَيفَ يكون للغراب يدان؟ وَأجَاب عَنهُ السُّهيْلي وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَادَ أَبُو عبيد أَن هَذَا الْوَصْف لذوات الْأَرْبَع وَلذَلِك قَالَ: إِن هَذَا الْوَصْف فِي الْغرْبَان عَزِيز، وَكَأَنَّهُ ذهب إِلَى الَّذِي أَرَادَ ابْن قُتَيْبَة من بَيَاض الجناحين وَلَوْلَا ذَلِك لقَالَ: إِنَّه فِي الْغرْبَان محَال لَا يتَصَوَّر. قَالَ السُّهيْلي: وَفِي مُسْند ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي أُمَامَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يُغني عَن قَوْلهمَا وَفِيه الشِّفَاء، وَذَلِكَ أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " الْمَرْأَة الصَّالِحَة فِي النِّسَاء كالغراب الأعصم ". قيل: يَا رَسُول الله وَمَا الْغُرَاب الأعصم؟ قَالَ: الَّذِي إِحْدَى رجلَيْهِ بَيْضَاء ". قَالَ السُّهيْلي: فالغراب فِي التَّأْوِيل فَاسق وَهُوَ أسود، فدلت نقرته عِنْد الْكَعْبَة على نقرة الْأسود الحبشي بمعوله فِي أساس الْكَعْبَة يَهْدِمهَا فِي آخر الزَّمَان فَكَانَ نقر الْغُرَاب فِي ذَلِك الْمَكَان يُؤذن بِمَا يَفْعَله الْفَاسِق الْأسود فِي آخر الزَّمَان بقبلة الرَّحْمَن وسقيا أهل الْإِيمَان، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يرفع الْقُرْآن وتحيا عبَادَة الْأَوْثَان، وَفِي الصَّحِيح: فِي صفة الَّذِي يخرب الْكَعْبَة أَنه أفحج. وَهَذَا ينظر إِلَى كَون الْغُرَاب أعصم إِذا تفحج تبَاعد فِي الرجلَيْن، كَمَا أَن العصم اخْتِلَاف فيهمَا وَالِاخْتِلَاف تبَاعد، وَقد عرف بِذِي السويقتين كَمَا نعت الْغُرَاب بِصفة فِي سَاقيه فَتَأَمّله، فَهَذَا من خَفِي علم التَّعْبِير؛ لِأَنَّهَا كَانَت رُؤْيا وَإِن شِئْت كَانَت من بَاب الزّجر والتوسم الصَّادِق وَالِاعْتِبَار والفكر فِي معالم حِكْمَة الله، فَهَذَا سعيد بن الْمسيب حِين حدث بِحَدِيث الْبِئْر فِي الْبُسْتَان، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قعد على قفها، ودلى رجلَيْهِ فِيهَا، ثمَّ جَاءَ أَبُو بكر فَفعل مثل ذَلِك، ثمَّ جَاءَ عمر فَفعل مثل ذَلِك ثمَّ جَاءَ عُثْمَان فانتبذ مِنْهُم نَاحيَة وَقعد حجرَة قَالَ سعيد بن الْمسيب: فأولت ذَلِك قُبُورهم اجْتمعت قُبُور الثَّلَاثَة وَانْفَرَدَ قبر عُثْمَان، وَالله تَعَالَى يَقُول: " إِن فِي ذَلِك لآيَات للمتوسمين ". فَهَذَا من التوسم والفراسة الصادقة. وَأما قَرْيَة النَّمْل: فَفِيهَا من المشاكلة والمناسبة أَيْضا أَن زَمْزَم هِيَ عين مَكَّة الَّتِي

يردهَا الحجيج والعمار من كل جَانب فيحملون إِلَيْهَا الْبر وَالشعِير وَغير ذَلِك، وَهِي لَا تحرث وَلَا تزرع؛ لقَوْل إِبْرَاهِيم: " إِنِّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذِي زرع ". إِلَى قَوْله: " وارزقهم من الثمرات ". وقرية النَّمْل كَذَلِك لِأَن النَّمْل لَا يحرث وَلَا يبذر وتجلب الْحُبُوب إِلَى قريتها من كل جَانب، وَفِي مَكَّة قَالَ تَعَالَى: " قَرْيَة كَانَت آمِنَة مطمئنة يَأْتِيهَا رزقها رغداً من كل مَكَان ". مَعَ أَن لفظ قَرْيَة مَأْخُوذ من قَرَيْتُ المَاء فِي الْحَوْض إِذا جمعته. والرؤيا تعبر على اللَّفْظ تَارَة وعَلى الْمَعْنى أُخْرَى، فقد اجْتمع اللَّفْظ وَالْمعْنَى فِي هَذَا التَّأْوِيل، وَقيل: لعبد الْمطلب فِي صفة زَمْزَم: لَا تنزف أبدا وَلَا تذم. وَهَذَا برهَان عَظِيم لِأَنَّهَا لم تنزف من ذَلِك الْوَقْت إِلَى يَوْمنَا قطّ، وَقد وَقع فِيهَا حبشِي فَنُزِحَتْ من أَجله فوجدوا ماءها يثور من ثَلَاث أعين أقواها وأكثرها مَاء عين من نَاحيَة الْحجر الْأسود، روى هَذَا الحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ. وَقَوله: وَلَا تذم أَي لَا تعاب وَلَا تلفى مذمومة من قَوْلك: أذممته إِذا وجدته مذموماً. وَقيل: لَا يُوجد مَاؤُهَا قَلِيلا من قَوْلهم: بِئْر ذمَّة إِذا كَانَت قَليلَة المَاء. وَمِنْه حَدِيث الْبَراء فأتينا على بِئْر ذمَّة فنزلنا فِيهَا أَي قَليلَة المَاء كَذَا قَالَه ابْن الْأَثِير. وَضعف السُّهيْلي الْوَجْه الأول وَقَالَ: قَوْله: وَلَا تذم فِيهِ نظر وَلَيْسَ هُوَ على مَا يَبْدُو من ظَاهر اللَّفْظ من أَنَّهَا لَا يذمها أحد، فَلَو كَانَ من الذَّم لَكَانَ مَاؤُهَا أعذب الْمِيَاه ولتضلع مِنْهَا كل من يشربه، وَقد تقدم فِي الحَدِيث أَنه لَا يتضلع مِنْهَا الْمُنَافِق فماؤها إِذا مَذْمُوم عِنْدهم، وَقد كَانَ خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي أَمِير الْعرَاق يذمها ويسميها أم جعلان، واحتفر بِئْرا خَارج مَكَّة باسم الْوَلِيد بن عبد الْملك، وَجعل يفضلها على زَمْزَم وَيحمل النَّاس على التَّبَرُّك بهَا دون زَمْزَم، جَرَاءَة مِنْهُ على الله تَعَالَى وَقلة حَيَاء مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يفصح ويعلن بلعن عَليّ رَضِي الله عَنهُ على الْمِنْبَر. قَالَ السُّهيْلي: وَإِنَّمَا ذكرنَا هَذَا ليعلم أَنَّهَا قد ذمت قَالَ: فَقَوله إِذا: لَا تذم من قَوْلهم بِئْر ذمَّة أَي قَليلَة المَاء، فَهُوَ من أذممت الْبِئْر إِذا وَجدتهَا ذمَّة كَقَوْلِك: أكذبت الرجل إِذا وجدته كَاذِبًا، قَالَ تَعَالَى:

فصل ذكر علاج زمزم في الاسلام

" فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك ". قَالَ: فَهَذَا أولى مَا حمل عَلَيْهِ معنى قَوْله: " لَا تذم. انْتهى كَلَام السُّهيْلي وَهَذَا لَفظه. وَقَوله: ادعوا بِالْمَاءِ الروي غير الكدر، يُقَال: مَاء روى بِالْقصرِ، ورواء بِالْفَتْح وَالْمدّ. وَقَوله: يسقى حجيج الله فِي كل مبر: هُوَ مفعل من الْبر يُرِيد فِي مَنَاسِك الْحَج ومواضع الطَّاعَة. وَقَوله: مثل نعام جافل لم يقسم: الجافل من جفلت الْغنم إِذا انقلعت بحملها، وَلم تقسم أَي لم تتوزع وَلم تتفرق. وَقَوله: لَيْسَ يخَاف مِنْهُ شَيْء مَا عمر: أَي مَا عمر هَذَا المَاء فَإِنَّهُ لَا يُؤْذِي وَلَا يخَاف مِنْهُ مَا يخَاف من الْمِيَاه إِذا أفرط فِي شربهَا بل هُوَ بركَة على كل حَال. قَالَ السُّهيْلي: فعلى هَذَا يجوز أَن يحمل قَوْله: لَا تنزف وَلَا تذم أَي لَا تذم عَاقِبَة شربهَا وَهَذَا تَأْوِيل سَائِغ أَيْضا إِلَى مَا قدمنَا من التَّأْوِيل وَكِلَاهُمَا صَحِيح فِي صفتهَا. انْتهى. وَكَانَ حفر عبد الْمطلب لَهَا قبل مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا ذكره ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة عَن عَليّ، وَفِي تَارِيخ الْأَزْرَقِيّ أَن حفر عبد الْمطلب لزمزم كَانَ بعد قصَّة أَصْحَاب الْفِيل، فعلى هَذَا يكون حفر عبد الْمطلب لَهَا بعد مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله أعلم. ويروى أَن أَبَا طَالب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عالج زَمْزَم، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْقل فِي علاجه الْحِجَارَة وَهُوَ غُلَام رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده بِإِسْنَاد ضَعِيف. فصل: ذكر علاج زَمْزَم فِي الْإِسْلَام قَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ قد قل مَاؤُهَا جدا حَتَّى كَانَت تجم فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين

فصل ذكر فضل زمزم وخواصها

وَأَرْبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، فَضرب فِيهَا تسع أَذْرع سَحا فِي الأَرْض فِي تقوير جَانبهَا، ثمَّ جَاءَ الله بالأمطار والسيول فِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ فَكثر مَاؤُهَا، وَكَانَ سَالم بن الْجراح قد ضرب فِيهَا فِي خلَافَة هَارُون الرشيد اذرعاً وَضرب فِيهَا فِي خلَافَة الْمهْدي، وَكَانَ عمر بن ماهان قد ضرب فِيهَا، وَكَانَ مَاؤُهَا قد قل حَتَّى كَانَ رجل يُقَال لَهُ: مُحَمَّد بن مشير من أهل الطَّائِف يعْمل فِيهَا فَقَالَ: أَنا صليت فِي قعرها. انْتهى كَلَامه. وَأما الْعُيُون الَّتِي فِي قعرها فَثَلَاث كَمَا تقدم؛ عيح حذاء الرُّكْن الْأسود، وَعين حذاء الصَّفَا وَأبي قبيس، وَعين حذاء الْمَرْوَة. فصل: ذكر فضل زَمْزَم وخواصها قد تقدم فِي بَاب الْفَضَائِل الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فضائلها مِنْهَا: أَن ماءها لما شرب لَهُ كَمَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَقد شربه جمَاعَة من الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ لمقاصد جليلة وحوائج جزيلة فنالوها، من ذَلِك أَن الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ شربه للْعلم فَكَانَ فِيهِ غَايَة وللرمي فَكَانَ يُصِيب الْعشْرَة من الْعشْرَة والتسعة من الْعشْرَة، وَمن ذَلِك مَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ عَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ التِّرْمِذِيّ عَن أَبِيه

قَالَ: دخلت الطّواف فِي لَيْلَة مظْلمَة فأخذني التبول فاشغلني فَجعلت اعتصر حَتَّى آذَانِي، وَخفت إِن خرجت من الْمَسْجِد أَن أَطَأ بعض تِلْكَ الأقذار وَذَلِكَ أَيَّام الْحَج، فَذكرت الحَدِيث وَهُوَ أَن لما شرب لَهُ فذخلت زَمْزَم فتضلعت مِنْهُ فَذهب عني إِلَى الصَّباح وَمن ذَلِك أَن رجلا شرب سويقاً فِيهِ إبرة وَهُوَ لَا يشْعر بهَا، فاعترضت فِي حلقه وَصَارَ لَا يقدر يطبق فَمه وَكَاد يَمُوت، فَأمره بعض النَّاس بِشرب مَاء زَمْزَم وَأَن يسْأَل الله تَعَالَى فِيهِ الشِّفَاء، فَشرب مِنْهُ شَيْئا بِجهْد وَجلسَ عِنْد اسطوانة من الْمَسْجِد الْحَرَام فغلبته عَيناهُ فَنَامَ وانتبه وَهُوَ لَا يحس من الإبرة شَيْئا وَلَيْسَ بِهِ بَأْس. هَذَا ملخص مَا ذكره الفاكهي فِي فَضَائِل مَكَّة. وَمن ذَلِك أَن أَحْمد بن عبد الله الشريفي الْفراش بِالْحرم الشريف الْمَكِّيّ شربه للشفاء من الْعَمى فشفى. وَلَا الْتِفَات إِلَى مَا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات وَأَن حَدِيث: " مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ ". مَوْضُوع بل قد صَحَّ من طرق لما قد ذَكرْنَاهُ فِي بَاب الْفَضَائِل، وَأما حَدِيث " الباذنجان لما أكل لَهُ ". فَهُوَ حَدِيث مَوْضُوع كَمَا ذكره ابْن قيم الجوزية. وَمن فضائله: أَنه لَا يتضلع مِنْهُ المُنَافِقُونَ. " وَأَن آيَة مَا بَيْننَا وَبينهمْ هُوَ التضلع ". وَمِنْهَا: أَن من شرب مِنْهُ حرم الله جسده على النَّار. وَمِنْهَا: أَن الله تَعَالَى يرفع الْمِيَاه العذبة قبل يَوْم الْقِيَامَة غير زَمْزَم وتغور الْمِيَاه غير زَمْزَم قَالَه الضَّحَّاك بن مُزَاحم. وَمِنْهَا: أَن النّظر إِلَيْهَا عبَادَة. وَمِنْهَا: أَنَّهَا طَعَام طعم وشفاء سقم، يُؤَيّدهُ قَضِيَّة

إِسْلَام أبي ذَر الثَّابِتَة فِي الصَّحِيح وَأَنه أَقَامَ شهرا بِمَكَّة لَا قوت لَهُ إِلَّا مَاء زَمْزَم فسمن حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَن بَطْنه، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَغْدُونَ بعيالهم فيشربون مِنْهَا فَيكون صَبُوحًا لَهُم وَكَانُوا يعدونها عوناً على الْعِيَال وَكَانَت تسمى شباعة. وَعَن عِكْرِمَة بن خَالِد قَالَ: بَيْنَمَا أَنا ذَات لَيْلَة فِي جَوف اللَّيْل عِنْد زَمْزَم إِذا بِنَفر يطوفون عَلَيْهِم ثِيَاب بيض لم أر بَيَاض ثِيَابهمْ لشَيْء قطّ، فَلَمَّا فرغوا صلوا قَرِيبا مني فَالْتَفت بَعضهم فَقَالَ لأَصْحَابه: اذْهَبُوا بِنَا نشرب من شرب الْأَبْرَار. قَالَ: فَقَامُوا فَدَخَلُوا زَمْزَم فَقلت: وَالله لَو دخلت على الْقَوْم فسألتهم، فَقُمْت فَدخلت فَإِذا لَيْسَ فِيهَا أحد من الْبشر. وَعَن رَبَاح مولى لآل الْأَخْنَس أَنه قَالَ: أعتقني أَهلِي فَدخلت من الْبَادِيَة إِلَى مَكَّة فَأَصَابَنِي فِيهَا جوع شَدِيد حَتَّى كنت أكوم الْحَصْبَاء ثمَّ أَضَع كَبِدِي عَلَيْهِ قَالَ: فَقُمْت ذَات لَيْلَة إِلَى زَمْزَم فنزعت فَشَرِبت لَبَنًا كَأَنَّهُ لبن غنم مستوحمة أنفاساً وَفِي رِوَايَة: مكثت ثَلَاثَة أَيَّام لَا أجد شَيْئا آكله فَأتيت زَمْزَم فبركت على ركبتي مَخَافَة أَن أسْقى وَأَنا قَائِم فيرفعني الدَّلْو من الْجهد فَجعلت أنزع قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى أخرجت الدَّلْو فَشَرِبت، فَإِذا أَنا بصريف اللَّبن بَين ثناياي، فَقلت: لعَلي ناعس فَضربت بِالْمَاءِ على وَجْهي وَانْطَلَقت وَأَنا أجد قُوَّة اللَّبن وشبعه. والصريف: اللَّبن سَاعَة يصرف عَن الضَّرع. وَعَن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد أَن رَاعيا كَانَ يرْعَى وَكَانَ من الْعباد فَكَانَ إِذا ظمئ وجد فِيهَا لَبَنًا وَإِذا أَرَادَ أَن يتَوَضَّأ وجد فِيهَا مَاء. وَمِنْهَا: " أَن الِاطِّلَاع فِيهَا يحط الأوزار والخطايا ". رَوَاهُ الفاكهي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا من رِوَايَة مَكْحُول وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: الطّهُور مِنْهَا يحبط الْخَطَايَا. وَمِنْهَا: أَنه خير مَاء على وَجه الأَرْض كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَقَدّم فِي الْفَضَائِل، كَيفَ

وَقد اخْتصَّ بِأَن غسل مِنْهُ بطن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيث الْمِعْرَاج بعد الْبعْثَة، وَفِي ذَلِك دَلِيل على فَضِيلَة مَاء زَمْزَم على غَيره من الْمِيَاه إِذْ غسل مِنْهُ هَذَا الْمحل الْجَلِيل فِي هَذَا الموطن الرفيع. قَالَ ابْن أبي جَمْرَة لقَائِل أَن يَقُول: لم لم يغسل بِمَاء الْجنَّة الَّذِي هُوَ أطيب وأبرك؟ وَالْجَوَاب: أَنه لَو غسل بِمَاء الْجنَّة دون استقراره بِالْأَرْضِ لم يبْق لأمته أثر بركته، فَلَمَّا غسل بِمَاء زَمْزَم وَهُوَ مِمَّا اسْتَقر من مَاء السَّمَاء بِالْأَرْضِ على مَا قَالَه ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: " وأنزلنا من السَّمَاء مَاء بِقدر فأسكناه فِي الأَرْض وَإِنَّا على ذهَاب بِهِ لقادرون ". فَقَالَ: كل مَا فِي الأَرْض إِنَّمَا هُوَ مِمَّا ينزل من السَّمَاء. وَقد جَاءَ فِي الْأَثر: أَن مَا من مطر ينزل إِلَّا وَفِيه مزاج من الْجنَّة أَو بعضه مَعَ زَوَائِد. فَوَائِد جمة؛ مِنْهَا: مَا ذَكرْنَاهُ من إبْقَاء الْبركَة للْأمة. وَمِنْهَا: أَنه خص مقره بِهَذِهِ الأَرْض الْمُبَارَكَة. وَمِنْهَا: أَنه خص بِهِ الأَصْل الْمُبَارك وَهُوَ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَمِنْهَا: أَنه خص بِمَا لم يخص بِهِ غَيره من الْمِيَاه بِأَن جعل فِيهِ لهاجر أم إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام غذَاء، فَكَانَ يغنيها عَن الطَّعَام وَالشرَاب. وَمِنْهَا: أَن ظُهُوره كَانَ بِوَاسِطَة الْأمين جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَكَانَ أصلا مُبَارَكًا فِي مقرّ مبارك بِوَاسِطَة فعل أَمِين مبارك، فاختص بِهِ هَذَا السَّيِّد الْمُبَارك فَكَانَ ذَلِك زِيَادَة لَهُ فِي التشريف والتعظيم، وَالله تَعَالَى يفضل من يَشَاء من مخلوقاته حَيَوَانا كَانَ أَو جماداً، فجَاء بالحكمة العجيبة فِي الْملَّة الجليلة مِلَّة إِبْرَاهِيم بالمقال، وَفِي المَاء ملك إِسْمَاعِيل بِلِسَان الْحَال. انْتهى كَلَامه. وَهل المُرَاد بالبطن الَّذِي غسل بزمزم الْبَطن نَفسه أَو مَا فِي الْبَطن وَهُوَ الْقلب؟ قَالَ ابْن أبي حَمْزَة: الظَّاهِر أَن المُرَاد الْقلب؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى ذكر الْقلب وَلم يذكر الْبَطن. وَقَالَ: وَيُمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن يُقَال: أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة بِغسْل الْبَطن وَلم يتَعَرَّض لذكر الْقلب، وَأخْبر مرّة بِغسْل الْقلب وَلم يتَعَرَّض لذكر الْبَطن، فَيكون الْغسْل قد حصل فيهمَا جَمِيعًا مَعًا مُبَالغَة فِي تنظيف الْمحل. انْتهى. وَكَانَ الشَّيْخ سراج الدّين البُلْقِينِيّ فِيمَا يحْكى عَنهُ يُفْتِي بِأَن مَاء زَمْزَم أفضل من مَاء الْكَوْثَر. وَيذكر أَن السُّلْطَان صَلَاح الدّين أَبَا المظفر يُوسُف بن أَيُّوب كَانَ إِذا عَاد من

الْغَزْو نفض ثِيَابه من غُبَار الْغَزْو على نطع وَأمر من يجمعه، وَأَن ذَلِك الْغُبَار عجن بِمَاء زَمْزَم وَجعل لبنة لَطِيفَة وَجعلت تَحت رَأسه فِي قَبره. وَمن خَواص مَاء زَمْزَم أَنَّهَا لم تنزف من ذَلِك الْوَقْت إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَلم يذم. وَمِنْهَا: أَنه يبرد الْحمى كَمَا روينَاهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَاب الْفَضَائِل وَمِنْهَا: أَنه يذهب بالصداع كَمَا ذكره الضَّحَّاك بن مُزَاحم. وَمِنْهَا: أَنه يفضل مياه الأَرْض كلهَا طِبًّا وَشرعا كَمَا ذكره بدر الدّين الصاحب الْمصْرِيّ فِي تأليفه " نقل الْكِرَام وهديه دَار السَّلَام "، وَأنْشد لنَفسِهِ أبياتاً حَسَنَة فِي مدح مَاء زَمْزَم. وَمِنْهَا: أَن الِاطِّلَاع فِيهَا يجلو الْبَصَر كَمَا ذكره الطَّحَاوِيّ. وَمِنْهَا: أَن ماءها يحلو لَيْلَة النّصْف من شعْبَان ويطيب على مَا ذكره ابْن الْحَاج الْمَالِكِي فِي منسكه. قَالَ الضَّحَّاك بن مُزَاحم: بَلغنِي أَنه سَيَأْتِي عَلَيْهَا زمَان تكون أعذب من النّيل والفرات. قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ وَقد رَأينَا ذَلِك فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنه أصَاب مَكَّة أمطار كَثِيرَة فَسَالَ واديها بأسيال عِظَام فِي سنة تسع وَسبعين، وَسنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فَكثر مَاء زَمْزَم وارتفع حَتَّى قَارب رَأسهَا، فَلم يكن بَينه وَبَين شفتها الْعليا إِلَّا سبع أَذْرع أَو نَحْوهَا، وَمَا رَأَيْتهَا قطّ كَذَلِك وَلَا سَمِعت من يذكر أَنه رَآهَا كَذَلِك، وعذبت جدا حَتَّى كَانَ مَاؤُهَا أعذب من مياه مَكَّة الَّتِي يشْربهَا أَهلهَا، وَكنت أَنا وَكثير من أهل مَكَّة نَخْتَار الشّرْب مِنْهَا لعزوبته وَإِنَّا رَأينَا أعزب من مياه الْعُيُون. وَمِنْهَا: أَنه يكثر فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فِي كل سنة بِحَيْثُ إِن الْبِئْر يغص بِالْمَاءِ على مَا قيل، لَكِن لَا يُشَاهد هَذَا إِلَّا الْأَوْلِيَاء، وَمِمَّنْ شَاهد ذَلِك الشَّيْخ الصَّالح أَبُو الْحسن على الْمَعْرُوف بكرباج على مَا نَقله بَعضهم عَن الشَّيْخ فَخر الدّين النوري عَنهُ. وَمِنْهَا: أَن من حثى على رَأسه ثَلَاث حثيات مِنْهَا لم تصبه ذلة أبدا على مَا وجد فِي كتاب

فصل ذكر ذرع بئر زمزم

الرّوم كَمَا ذكره الفاكهي بِسَنَدِهِ عَن بعض مُلُوك الرّوم. وَمِنْهَا: أَن ماءها يعظم فِي الْمَوْسِم وَيكثر كَثْرَة خارقة لعادة الْآبَار كَمَا ذكره ابْن عَطِيَّة فِي التَّفْسِير. وَقد تقدم فِي بَاب الْفَضَائِل وَفِي الْبَاب الْعَاشِر تَمام مَا يتَعَلَّق بزمزم من فضائلها وآداب شربهَا، وَثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام حجَّة الْوَدَاع جَاءَ زَمْزَم فَقَالَ: " ناولوني دلواً. فناولوه فَشرب مِنْهَا ثمَّ مضمض فمج فِي الدَّلْو ثمَّ أَمر بِمَا فِي الدَّلْو فأفرغ فِي الْبِئْر ". قَالَ مسعر: مجّ فِي الدَّلْو مسكاً أَو أطيب من الْمسك. فصل: ذكر ذرع بِئْر زَمْزَم قَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ ذرع زَمْزَم من أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلهَا سِتِّينَ ذِرَاعا، ثمَّ قل مَاؤُهَا حَتَّى كَانَت تجم، فَضرب فِيهَا تسع أَذْرع سَحا فِي الأَرْض فِي تقوير جوانبها، قَالَ: فغورها من رَأسهَا إِلَى الْجَبَل أَرْبَعُونَ ذِرَاعا ذَلِك كُله بُنيان، وَمَا بَقِي فَهُوَ جبل منقور وَهُوَ تِسْعَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، قَالَ: وذرع حنك زَمْزَم فِي السَّمَاء ذراعان وشبر، وذرع تدوير فَم زَمْزَم أحد عشر ذِرَاعا، وسعة فَم زَمْزَم ثَلَاثَة أَذْرع وَثلثا ذِرَاع، وَأول من عمل الرخام على زَمْزَم وعَلى الشباك وفرش أرْضهَا بالرخام أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو جَعْفَر فِي خِلَافَته ثمَّ عَملهَا الْمهْدي فِي خِلَافَته ثمَّ غيرت فِي خلَافَة أَمِير الْمُؤمنِينَ المعتصم بِاللَّه سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَت مكشوفة قبل ذَلِك إِلَّا قبَّة صَغِيرَة على مَوضِع الْبِئْر. وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي تَارِيخه صفة مَا كَانَت عَلَيْهِ زَمْزَم وحجرتها وحوضها قبل أَن تغير فِي خلَافَة المعتصم بِاللَّه مِمَّا كَانَ عمله الْمهْدي فِي خِلَافَته، ثمَّ ذكر مَا غير من عمل زَمْزَم فِي خلَافَة المعتصم بِاللَّه، وذرعها إِلَى أَن غيرت فِي خلَافَة الواثق بِاللَّه فِي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ فَمن أَرَادَ ذَلِك كُله فلينظره ثمَّة. وَمن الْحجر الْأسود إِلَى جِدَار الْحُجْرَة الَّتِي فِيهَا بِئْر زَمْزَم أحد وَثَلَاثُونَ ذِرَاعا بِذِرَاع القماش الْمُتَقَدّم ذكره، وَأما صفة الْحُجْرَة الَّتِي فِيهَا بِئْر زَمْزَم فِي زَمَاننَا هَذَا فَهُوَ بَيت مربع، سقف فِي جدرانه تِسْعَة أحواض للْمَاء تملأ من بِئْر زَمْزَم يتَوَضَّأ

فصل ذكر سقايه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه

النَّاس مِنْهَا، وَالْخلْوَة الَّتِي إِلَى جَانب هَذِه الْحُجْرَة مِمَّا يَلِي الْيمن عملت على مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْم فِي سنة سبع وَثَمَانمِائَة، وَكَانَت قبل ذَلِك على غير هَذِه الصّفة، وَإِنَّمَا بنيت على هَذَا الْوَضع الْآن؛ ليتوضأ النَّاس من الزبازيب الَّتِي عملت فِي أَسْفَلهَا. فصل: ذكر سِقَايَة الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ هَذِه السِّقَايَة إِلَى الْآن حجرَة مربعة عَلَيْهَا قبَّة كَبِيرَة ساترة لجميعها، والقبة من آجر مَعْقُود بالنورة، وَفِي أَسْفَل جدرانها خلاء الْجنُوب شبابيك من حَدِيد تشرف على الْمَسْجِد الْحَرَام، فِي كل جِهَة شباكان، وَفِي جَانبهَا الشمالي من خَارِجهَا حوضان من رُخَام مفردين، وَبَاب السِّقَايَة بَينهمَا، وَفِي هَذِه الْحُجْرَة بركَة كَبِيرَة تملأ من بِئْر زَمْزَم يسْكب المَاء من الْبِئْر فِي خَشَبَة طَوِيلَة على صفة الْمِيزَاب مُتَّصِلَة بالجدار الشَّرْقِي فِي حجرَة زَمْزَم، وَيجْرِي المَاء مِنْهَا إِلَى الْجِدَار الْمَذْكُور ثمَّ إِلَى قناة تَحت الأَرْض حَتَّى تخرج فِي الْبركَة من فوارة فِي وَسطهَا، وَآخر وَقت عمرت فِيهِ هَذِه السِّقَايَة سنة سبع وَثَمَانمِائَة، وَسبب عمارتها فِي هَذِه السّنة سُقُوط الْقبَّة الَّتِي كَانَت على هَذِه السِّقَايَة وَكَانَت من عمل الْجواد، وَكَلَام الْأَزْرَقِيّ فِي أصل هَذِه السِّقَايَة مُخَالف مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآن، وَقد ذكر الْأَزْرَقِيّ ذرع مَا بَينهَا وَبَين الْحجر الْأسود وَغير ذَلِك من جَوَانِب الْمَسْجِد. فصل: ذكر حد الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَا يتَعَلَّق بِالنَّوْمِ وَالْوُضُوء فِيهِ وَأول من أدَار الصُّفُوف حول الْكَعْبَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: إِنَّا لنجد فِي كتاب الله تَعَالَى أَن حد الْمَسْجِد الْحَرَام من الْحَزْوَرَة إِلَى الْمَسْعَى. وَعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: أساس الْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي وَضعه إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من الْحَزْوَرَة إِلَى الْمَسْعَى إِلَى مخرج سيل أجياد. قَالَ: وَالْمهْدِي وضع الْمَسْجِد على الْمَسْعَى. وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: الْمَسْجِد الْحَرَام الْحرم كُله. وَأول من أدَار الصُّفُوف حول الْكَعْبَة خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، وَكَانَ النَّاس يقومُونَ قيام شهر رَمَضَان فِي أَعلَى الْمَسْجِد الْحَرَام تركز حَرْبَة خلف الْمقَام

فصل ذكر ما كان عليه المسجد الحرام وسعته وعمارته الي ان صار علي ما هو عليه الآن

بِرَبْوَةٍ فَيصَلي الإِمَام خلف الحربة وَالنَّاس وَرَاءه، فَمن أَرَادَ صلى مَعَ الإِمَام وَمن أَرَادَ طَاف وَركع خلف الْمقَام، فَلَمَّا ولى خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي مَكَّة لعبد الْملك بن مَرْوَان وَحضر شهر رَمَضَان أَمر خَالِد الْقُرَّاء أَن يتقدموا فيصلوا خلف الْمقَام وأدار الصُّفُوف حول الْكَعْبَة، وَذَلِكَ أَن النَّاس ضَاقَ عَلَيْهِم أَعلَى الْمَسْجِد فأدارهم حول الْكَعْبَة فَقيل لَهُ: يقطع الطّواف لغير الْمَكْتُوبَة. قَالَ: فَأَنا آمُرهُم يطوفون بَين كل ترويحتين بِسبع. فَقيل لَهُ: إِنَّه يكون فِي مُؤخر الْكَعْبَة وجوانبها من لَا يعلم بِانْقِضَاء طواف الطَّائِف من مصل وَغَيره فيتهيأ للصَّلَاة. فَأمر عبيد الْكَعْبَة أَن يكبروا حول لكعبة يَقُولُونَ: الْحَمد لله وَالله أكبر فَإِذا بلغُوا الرُّكْن الْأسود فِي الطّواف السَّادِس سكتوا بَين الرُّكْنَيْنِ سكتة حَتَّى يتهيأ النَّاس مِمَّن فِي الْحجر وَمن جَوَانِب الْمَسْجِد من مصل أَو غَيره فيعرفون ذَلِك بِانْقِطَاع التَّكْبِير، وَيُصلي ويخفف الْمُصَلِّي صلَاته ثمَّ يعودون إِلَى التَّكْبِير حَتَّى يفرغوا من السَّبع، وَيقوم مسمع فينادي الصَّلَاة رحمكم الله. وَكَانَ عَطاء وَعَمْرو بن دِينَار ونظراؤهم من الْعلمَاء يرَوْنَ ذَلِك وَلَا ينكرونه. وَعَن ابْن جريج قَالَ: قلت لعطاء: إِذا قل النَّاس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أحب إِلَيْك أَن يصلوا خلف الْمقَام أَو يَكُونُوا صفا وَاحِدًا حول الْكَعْبَة؟ قَالَ: أَن يَكُونُوا صفا وَاحِدًا حول الْكَعْبَة. وتلا: " وَترى الْمَلَائِكَة حافين من حول الْعَرْش ". وَعنهُ قَالَ: قلت لعطاء: أتكره النّوم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام؟ قَالَ: بل أحبه. وَعَن عَطاء أَنه كَانَ يتَوَضَّأ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام. روى ذَلِك كُله الْأَزْرَقِيّ. فصل: ذكر مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسْجِد الْحَرَام وسعته وعمارته إِلَى أَن صَار على مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآن لما اسْتخْلف عمر بن الْخطاب وَكثر النَّاس، وسع الْمَسْجِد وَاشْترى دوراً وَاتخذ لِلْمَسْجِدِ جداراً قَصِيرا دون الْقَامَة وَكَانَت المصابيح تُوضَع عَلَيْهِ، ثمَّ اشْترى عُثْمَان فِي خِلَافَته دوراً وهدمها ووسعه بهَا وَبنى الْمَسْجِد والأروقة، ثمَّ زَاد فِيهِ ابْن الزبير زِيَادَة

فصل ذكر عمل عمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنهما

كَبِيرَة ثمَّ عمره عبد الْملك بن مَرْوَان وَلم يزدْ فِيهِ لَكِن رفع جِدَاره وسقفه بالساج وعمره عمَارَة حَسَنَة، ثمَّ زَاد فِيهِ الْوَلِيد بن عبد الْملك وَحمل إِلَيْهِ أعمدة الرخام، ثمَّ زَاد فِيهِ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور، ثمَّ زَاد فِيهِ الْمهْدي بعده مرَّتَيْنِ الزِّيَادَة الأولى سنة سِتِّينَ وَمِائَة وَالثَّانيَِة سنة سبع وَسِتِّينَ إِلَى سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة وفيهَا مَاتَ الْمهْدي، وَكَانَت الْكَعْبَة فِي جَانب فَأحب أَن تكون متوسطة فَاشْترى من النَّاس الدّور ووسطها وَاسْتقر الْحَال على ذَلِك إِلَى وقتنا هَذَا. فصل: ذكر عمل عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا عَن ابْن جريج قَالَ: كَانَ الْمَسْجِد الْحَرَام لَيْسَ عَلَيْهِ جدران مُحِيطَة، إِنَّمَا كَانَت الدّور محدقة بِهِ من كل جَانب غير أَن بَين الدّور أبواباً يدْخل مِنْهَا النَّاس من كل نواحيه، فَضَاقَ على النَّاس فَاشْترى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ دوراً فَهَدمهَا وَهدم على قرب من الْمَسْجِد، وأبى بَعضهم أَن يَأْخُذ الثّمن وتمنع من البيع، فَوضعت أثمانها فِي خزانَة الْكَعْبَة حَتَّى أخذوها بعد، ثمَّ أحَاط عَلَيْهِ جداراً قَصِيرا، ثمَّ كثر النَّاس فِي زمَان عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فَوسعَ الْمَسْجِد فَاشْترى من قوم وأبى آخَرُونَ أَن يبيعوا فهدم عَلَيْهِم فصيحوا بِهِ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: إِنَّمَا جرأكم عليّ حلمي عَنْكُم فقد فعل بكم عمر هَذَا فَلم يَصح بِهِ أحد، فأحدثت على مِثَاله فصحتم بِي. ثمَّ أَمر بهم إِلَى الْحَبْس حَتَّى كَلمه فيهم عبد الله بن خَالِد بن أسيد. فصل: ذكر بُنيان ابْن الزبير وَعبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ الْمَسْجِد الْحَرَام محاطاً بجدار قصير غير مسقف، إِنَّمَا يجلس النَّاس حول الْمَسْجِد بِالْغَدَاةِ والعشي يتبعُون الأفياء فَإِذا قلص الظل قَامَت الْمجَالِس، فَزَاد ابْن الزبير فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَاشْترى من النَّاس دوراً وأدخلها فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ قد انْتهى بِالْمَسْجِدِ إِلَى أَن أشرعه على الْوَادي مِمَّا يَلِي الصَّفَا والوادى يَوْمئِذٍ فِي مَوضِع الْمَسْجِد الْيَوْم،

فصل ذكر عمل الوليد بن عبد الملك

ووسع الْمَسْجِد من جَمِيع نواحيه، وَكَانَت دَار الندوة يَوْمئِذٍ دَاخِلَة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وبابها فِي وسط الصحن، وَلم يزل بَاب دَار الندوة فِي مَوْضِعه حَتَّى زَاد أَبُو جَعْفَر فِي الْمَسْجِد فَأَخَّرَهُ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَسمعت من يذكر أَن ابْن الزبير كَانَ سقفه فَلَا أَدْرِي كُله أم بعضه، ثمَّ عمره عبد الْملك بن مَرْوَان وَلم يزدْ فِيهِ وَلكنه رفع جدرانه وسقفه بالساج وعمره عمَارَة حَسَنَة، كَمَا ذكرنَا، وَجعل فِي رُؤُوس الأساطين خمسين مِثْقَالا من ذهب فِي رَأس كل اسطوانة. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَذَلِكَ زمَان ابْن الزبير. فصل: ذكر عمل الْوَلِيد بن عبد الْملك عمر الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَانَ إِذا عمل الْمَسَاجِد زخرفها فنقض عمل عبد الْملك وَعمل عملا محكماً، وَهُوَ أول من نقل إِلَيْهِ الأساطين الرخام وسقفه بالساج المزخرف، وعَلى رُؤُوس الأساطين الذَّهَب على صَفَائِح الشّبَه من الصفر، وأزر الْمَسْجِد بالرخام من دَاخله وَجعل فِي وَجه الطيقان فِي أَعْلَاهُ الفسيفساء، وَهُوَ أول من عمله فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَجعل لِلْمَسْجِدِ شرافات، وَكَانَت هَذِه عمَارَة الْوَلِيد بن عبد الْملك. فصل: عمل أَمِير الْمُؤمنِينَ أبي جَعْفَر الْمَنْصُور لم يعمر الْمَسْجِد الْحَرَام بعد الْوَلِيد بن عبد الْملك أحد من الْخُلَفَاء وَلم يزدْ فِيهِ شَيْئا حَتَّى كَانَ أَبُو جَعْفَر أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَزَاد فِي شقَّه الشَّامي الَّذِي فِيهِ دَار النَّخْلَة وَدَار الندوة فِي أَسْفَله، وَلم يزدْ عَلَيْهِ فِي أَعْلَاهُ وَلَا فِي شقَّه الَّذِي على الْوَادي، فَاشْترى من النَّاس دُورهمْ الملاصقة بِالْمَسْجِدِ من أَسْفَله حَتَّى وَضعه على منتهاه الْيَوْم.

فصل ذكر زياده المهدي الاولي

فصل: ذكر زِيَادَة الْمهْدي الأولى حج الْمهْدي أَمِير الْمُؤمنِينَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة فَجرد الْكَعْبَة مِمَّا كَانَ عَلَيْهَا من الثِّيَاب، وَأمر بعمارة الْمَسْجِد الْحَرَام وَأمر أَن يُزَاد فِي أَعْلَاهُ، وَاشْترى مَا كَانَ فِي ذَلِك الْموضع من الدّور وَأمر بأساطين الرخام فنقلت فِي السفن من الشَّام حَتَّى أنزلت بجدة ثمَّ جرت على الْعجل من جدة إِلَى مَكَّة وَجعلت أساطين، وَلما وَضعهَا حفر لَهَا أرباضاً على كل صف من الأساطين جداراً مُسْتَقِيمًا. فصل: ذكر زِيَادَة الْمهْدي الثَّانِيَة وَلما بنى الْمهْدي الْمَسْجِد الْحَرَام وَزَاد الزِّيَادَة الأولى اتَّسع أَعْلَاهُ وأسفله وَشقه الَّذِي يَلِي دَار الندوة، وضاق شقَّه الْيَمَانِيّ الَّذِي يَلِي الصَّفَا فَكَانَت الْكَعْبَة فِي شقّ الْمَسْجِد، وَذَلِكَ أَن الْوَادي كَانَ دَاخِلا لاصقاً بِالْمَسْجِدِ فِي بطن الْمَسْجِد الْيَوْم، وَكَانَت الدّور وبيوت من وَرَائه فِي مَوضِع الْوَادي الْيَوْم، وَإِنَّمَا كَانَ يسْلك من الْمَسْجِد إِلَى الصَّفَا فِي بطن الْوَادي ثمَّ يسْلك فِي زقاق ضيق حَتَّى يخرج إِلَى الصَّفَا من التفاف الْبيُوت فِيهَا بَين الْوَادي والصفا، وَكَانَ الْمَسْعَى فِي مَوضِع الْمَسْجِد الْحَرَام الْيَوْم، فَلَمَّا حج الْمهْدي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَرَأى الْكَعْبَة فِي شقّ الْمَسْجِد كره ذَلِك وَأحب أَن تكون متوسطة فِي الْمَسْجِد، فدعى المهندسين فشاورهم فِي ذَلِك فقدروا فِي ذَلِك فَإِذا هُوَ لَا يَسْتَوِي لَهُم من أجل الْوَادي والسيل وَقَالُوا: إِن وَادي مَكَّة لَهُ سيول جارفة وَهُوَ وَادي حدور، وَنحن نَخَاف إِن حولنا الْوَادي عَن مَكَانَهُ أَن لَا ينْصَرف لنا على مَا نُرِيد؛ لِأَن وَرَاءه من الدّور والمساكن مَا تكْثر فِيهِ المئونة وَلَعَلَّه أَن لَا يتم. فَقَالَ الْمهْدي: لَا بُد لي أَن أوسعه حَتَّى أَوسط الْكَعْبَة فِي الْمَسْجِد على كل حَال، وَلَو أنفقت فِيهِ مَا فِي بيُوت الْأَمْوَال وعظمت فِي ذَلِك نِيَّته واشتدت رغبته فقدروا ذَلِك وَهُوَ حَاضر، وَنصب الرماح على الدّور من أول مَوضِع الْوَادي إِلَى آخِره، ثمَّ ذرعه من فَوق الرماح حَتَّى عرفُوا مَا يدْخل فِي الْمَسْجِد من ذَلِك وَمَا يكون للوادي فِيهِ فَلَمَّا نصبوا الرماح على جنبتي الْوَادي على مَا يدْخل فِي الْمَسْجِد من ذَلِك وزنوه مرّة بعد مرّة وقرروا ذَلِك، ثمَّ خرج الْمهْدي إِلَى الْعرَاق وخلفوا الْأَمْوَال فاشتروا من النَّاس دُورهمْ وَأرْسل إِلَى الشَّام وَإِلَى مصر فنقلت أساطين الرخام فِي السفن حَتَّى أنزلت

فصل ذكر ذرع المسجد الحرام

بجدة ثمَّ نقلت على الْعجل من جدة إِلَى مَكَّة، وَوَضَعُوا أَيْديهم فهدموا الدّور، وبنوا الْمَسْجِد منحدراً حَتَّى دخل دَار أم هَانِئ بنت أبي طَالب وَكَانَ عِنْدهَا بِئْر جَاهِلِيَّة كَانَ قصي حفرهَا فَدخلت تِلْكَ الْبِئْر فِي الْمَسْجِد، فحفر الْمهْدي عوضا عَنْهَا الْبِئْر الَّتِي على بَاب البقالين الَّتِي فِي حدّ ركن الْمَسْجِد الْحَرَام الْيَوْم وتعرف هَذِه الْبِئْر الْيَوْم ببئر حزورة ثمَّ مضوا فِي نائه بأساطين الرخام وسقفه بالساج الْمَذْهَب المنقوش حَتَّى توفّي الْمهْدي سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَقد انْتهى إِلَى آخر مُنْتَهى أساطين الرخام من أَسْفَل الْمَسْجِد، فاستخلف مُوسَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فبادروا الْيَوْم بإتمام الْمَسْجِد وأسرعوا فِي ذَلِك، وبنوا أساطينه بحجارة ثمَّ طليت بالجص وَعمل سقفه عملا دون عمل الْمهْدي فِي الإحكام وَالْحسن، فَهَذَا جَمِيع مَا عمر فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وأحدث فِيهِ إِلَى الْيَوْم. فصل: ذكر ذرع الْمَسْجِد الْحَرَام قَالَ الْأَزْرَقِيّ: ذرع الْمَسْجِد الْحَرَام مكسراً مائَة ألف ذِرَاع، وَعِشْرُونَ ألف ذِرَاع، وذرع الْمَسْجِد طولا من بَاب بنى جمح إِلَى بَاب بني هَاشم الَّذِي عِنْده الْعلم الْأَخْضَر مُقَابل دَار الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب أَرْبَعمِائَة ذِرَاع وَأَرْبَعَة أَذْرع، وَعرضه من بَاب دَار الندوة إِلَى الْجدر الَّذِي يَلِي الْوَادي عِنْد بَاب الصَّفَا ثَلَاثمِائَة ذِرَاع وَأَرْبَعمِائَة ذِرَاع. انْتهى كَلَامه. قَالَ عز الدّين بن جمَاعَة: ومساحة الْمَسْجِد الْحَرَام سِتَّة أفدنة وَنصف وَربع، والفدان عشرَة آلَاف ذِرَاع بِذِرَاع الْعَمَل الْمُسْتَعْمل فِي الْبُنيان بِمصْر وَهُوَ ثَلَاثَة أشبار تَقْرِيبًا. فصل: ذكر عدد أساطين الْمَسْجِد الْحَرَام الَّتِي بالرواقات غير الزيادتين وَغير الأساطين الَّتِي بِصَحْنِ الْمَسْجِد فِي الْمَسْجِد الْحَرَام الْآن غير الزيادتين وَغير أساطين المطاف الشريف أَرْبَعمِائَة اسطوانة وَتِسْعَة وَسِتُّونَ اسطوانة فِي جوانبه الْأَرْبَعَة، وعَلى أَبْوَاب الْمَسْجِد من دَاخله وخارجه سَبْعَة وَعِشْرُونَ اسطوانة، فَيصير الْجَمِيع أَرْبَعمِائَة اسطوانة وَسِتَّة

فصل ذكر عدد ابواب المسجد واسمائها وصفتها

وَتِسْعين اسطوانة بِتَقْدِيم التَّاء على السِّين وَمَا ذَكرْنَاهُ يزِيد على مَا ذكره الْأَزْرَقِيّ فِي أساطين الْمَسْجِد الْحَرَام بِعشْرَة أساطين، وكل هَذِه الأساطين رُخَام مَا عدا مائَة اسطوانة وَتِسْعَة وَعشْرين اسطوانة فَإِنَّهَا حِجَارَة منحوتة غالبها، وَمِنْهَا ثَلَاثَة أساطين آجر مجصص، وَتقدم ذكر عدد الأساطين الَّتِي بِصَحْنِ الْمَسْجِد الْحَرَام، وَأما عدد أساطين زِيَادَة دَار الندوة فستة وَسِتُّونَ اسطوانة فِي جوانبها الْأَرْبَعَة وَكلهَا حِجَارَة منحوتة، وَأما عدد أساطين زِيَادَة بَاب إِبْرَاهِيم فسبعة وَعِشْرُونَ اسطوانة حِجَارَة منحوتة أَيْضا، وَأما عدد طاقات الْمَسْجِد الْحَرَام وَهِي الْعُقُود الَّتِي على الأساطين بجوانبه الْأَرْبَعَة غير الزيادتين فأربعمائة طاق وَأَرْبَعَة وَثَمَانُونَ طاقاً، وَهَذَا يُخَالف مَا ذكره الْأَزْرَقِيّ فِي عدد طاقات الْمَسْجِد الْحَرَام، وَكَلَامه يَقْتَضِي أَنَّهَا تزيد على مَا ذَكرْنَاهُ أَرْبَعَة عشر طاقاً، وَأما عدد طاقات زِيَادَة دَار الندوة فثمانية وَسِتُّونَ طاقاً، وَأما عدد طاقات زِيَادَة بَاب إِبْرَاهِيم فستة وَثَلَاثُونَ طاقاً، وَأما عدد شرافات الْمَسْجِد الْحَرَام الَّتِي تلِي بطن الْمَسْجِد فَهِيَ أَرْبَعمِائَة وَثَلَاثَة عشر شرافة، وَأما عدد قناديل الْمَسْجِد الْحَرَام الْآن الْمرتبَة فِيهِ غالياً فَثَلَاثَة وَتسْعُونَ قِنْدِيلًا بِتَقْدِيم التَّاء على السِّين وَيُزَاد فِي الْقَنَادِيل فِي شهر رَمَضَان خُصُوصا فِي الْعشْر الآخر مِنْهُ وَفِي الْمَوْسِم، وَعدد قناديل الْمَسْجِد الْحَرَام الْآن وسلاسله تنقص كثيرا عَمَّا ذكره الْأَزْرَقِيّ فِي قناديل الْمَسْجِد؛ لِأَنَّهُ ذكر أَن فِيهِ من الْقَنَادِيل أَرْبَعمِائَة قنديل وَخَمْسَة وَسِتِّينَ قِنْدِيلًا. انْتهى. فصل: ذكر عدد أَبْوَاب الْمَسْجِد وأسمائها وصفتها عدد أبوابه الْيَوْم تِسْعَة عشر بَابا بِتَقْدِيم التَّاء على السِّين تنفتح على ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ طاقاً الأول: بَاب بني شيبَة وَيُقَال لَهُ: بَاب السَّلَام. وَهُوَ بَاب بني عبد شمس بن عبد منَاف وبهم كَانَ يعرف فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام عِنْد أهل مَكَّة فِيهِ ثَلَاث طاقات. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهُوَ الَّذِي يدْخل مِنْهُ الْخُلَفَاء، قَالَ: وَفِي عتبَة هَذَا الْبَاب حِجَارَة طوال مفروش بهَا العتبة. قَالَ: سَأَلت جدي عَنْهَا فَقلت: أبلغك أَن هَذِه الْحِجَارَة الطوَال كَانَت أوثاناً فِي الْجَاهِلِيَّة تعبد؟ فَضَحِك. وَقَالَ: لَا، لعمري مَا كَانَت بأوثان مَا يَقُول هَذَا

إِلَّا من لَا علم لَهُ، إِنَّمَا هِيَ حِجَارَة كَانَت فضلت مِمَّا قلع القسرى لبركته الَّتِي يُقَال لَهَا بركَة البردي بِفَم الثقبة، وأصل ثبير كَانَت حول الْبركَة مطروحة حَتَّى نقلت حِين بنى الْمهْدي الْمَسْجِد فَوضعت حَيْثُ رَأَيْت. انْتهى. الثَّانِي: بَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيعرف الْيَوْم بِبَاب الْجَنَائِز، وَإِنَّمَا قيل لَهُ بَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ كَانَ يخرج مِنْهُ إِلَى بَيت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَفِيه طاقان. الثَّالِث: بَاب الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَعِنْده علم الْمَسْعَى من خَارج، وَفِيه ثَلَاث طاقات، وَسَماهُ صَاحب النِّهَايَة وَابْن الْحَاج فِي منسكه بَاب الْجَنَائِز، وَلَعَلَّه كَانَت الْجَنَائِز يصلى عَلَيْهَا فِيهِ، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا ذكر الفاكهي أَنه يُصَلِّي على الْجَنَائِز فِي بَاب بني شيبَة وَبَاب الْعَبَّاس وَبَاب الصَّفَا قَالَ: وَكَانَ النَّاس فِيمَا مضى يصلونَ على الرجل الْمَذْكُور فِي الْمَسْجِد الْحَرَام. انْتهى. وَأَرَادَ بالمذكور الْمَشْهُور الْمَعْرُوف. وَأما فِي زَمَاننَا هَذَا فيصلى على الْمَوْتَى جَمِيعهم دَاخل الْمَسْجِد الْحَرَام وَبَعض عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة جاور بِمَكَّة المشرفة وَأوصى أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ عِنْد بَاب الْجَنَائِز خَارج الْمَسْجِد فصلى عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْمَشْهُور من النَّاس الْيَوْم يصلى عَلَيْهِ عِنْد بَاب الْكَعْبَة الشَّرِيفَة، ويحكى أَنهم كَانُوا يصلونَ عِنْد بَاب الْكَعْبَة على الْأَشْرَاف وقريش، ورأيناهم فِي زَمَاننَا يصلونَ عِنْد بَاب الْكَعْبَة على غَيرهم من الْأَعْيَان، وَبَعض النَّاس نَازع فِي ذَلِك وَزعم أَنه لَا يُصَلِّي عِنْد بَاب الْكَعْبَة على غير الْأَشْرَاف وقريش وَأَنه لَا يخرج غَيرهم، وَإِن كَانَ من الْعلمَاء والأعيان من بَاب بني شيبَة، وَهَذَا شَيْء لم يرد بِهِ أثر. وَلَو قيل: بأولوية إِخْرَاج الْمَيِّت من بَاب الْجَنَائِز لَكَانَ لَهُ وَجه؛ لكَونه بَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَطَرِيقه إِلَى بَاب زَوجته خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَأما مَا يَفْعَله الْأَشْرَاف فِي زَمَاننَا هَذَا من الطّواف بِالْمَيتِ حول الْكَعْبَة الشَّرِيفَة أسبوعا فبدعة شنيعة قبيحة، لم ينْقل عَن السّلف الصَّالح فعلهَا، وَيجب على ولي الْأَمر وَفقه الله تَعَالَى إِزَالَتهَا؛ لِأَنَّهُ يكره إِدْخَال الْمَيِّت الْمَسْجِد وَالصَّلَاة عَلَيْهِ فِيهِ، بل يُصَلِّي عَلَيْهِ خَارجه، فضلا عَن الطّواف بِهِ، وَأما الصَّلَاة على الْمَوْتَى عِنْد بَاب الْكَعْبَة فَكَلَام الفاكهي يَقْتَضِي أَن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام صلي عَلَيْهِ عِنْد بَاب الْكَعْبَة. انْتهى. وَمن لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْيَوْم عِنْد بَاب الْكَعْبَة يُصَلِّي عَلَيْهِ خلف مقَام إِبْرَاهِيم عِنْد مقَام الشَّافِعِي، والفقراء الطرحى يصلى عَلَيْهِم عِنْد بَاب الْحَزْوَرَة دَاخل الْمَسْجِد الْحَرَام أَمَام الرواق تجاه الرُّكْن

الْيَمَانِيّ، وَالظَّاهِر أَن ذَلِك لكَونه بِقرب الْموضع الَّذِي يغسلون فِيهِ وَكَونه أقرب إِلَى مَوضِع دفنهم. وَالله أعلم. الرَّابِع: بَاب عليّ وَفِيه ثَلَاث طاقات. وَهَذِه الْأَبْوَاب الْأَرْبَعَة فِي الشق الَّذِي يَلِي الْمَسْعَى وَهُوَ الشَّرْقِي. الْخَامِس: بَاب بني عائذة. وَيُقَال لَهُ الْيَوْم: بَاب بازان وَفِيه طاقان. السَّادِس: بَاب بني سُفْيَان بن عبد الْأسد. وَيُقَال لَهُ الْيَوْم: بَاب البغلة وَفِيه طاقان، وَسَماهُ صَاحب النِّهَايَة بَاب الحناطين. السَّابِع: بَاب الصَّفَا. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَكَانَ يُقَال لَهُ بَاب بني عدي بن كَعْب، كَانَت دور بني عدي مَا بَين الصَّفَا إِلَى الْمَسْجِد فتحولت بَنو عدي إِلَى دور بني سهم وَبَاعُوا رباعهم ومنازلهم هُنَاكَ. وَيُقَال لَهُ الْيَوْم: بَاب بني مَخْزُوم. انْتهى. وَفِيه خمس طاقات. الثَّامِن: بَاب أجياد الصَّغِير، وَفِيه طاقان. التَّاسِع: بَاب المجاهدية، وَفِيه طاقان. وَيُقَال لَهُ: بَاب الرَّحْمَة وَهُوَ من أَبْوَاب بني مَخْزُوم، وَكَذَا بَاب أجياد الصَّغِير كَمَا ذكره الْأَزْرَقِيّ عَنْهُمَا. الْعَاشِر: بَاب مدرسة الشريف عجلَان بن رميثة، وَفِيه طاقان. وَيُقَال لَهُ: بَاب بني تَمِيم. وَسَماهُ صَاحب النِّهَايَة: بَاب العلافين. الْحَادِي عشر: بَاب أم هَانِئ بنت أبي طَالب، وَفِيه طاقان. وَهَذَا الْبَاب مِمَّا يَلِي دور بني عبد شمس وَبني مَخْزُوم. وَيُقَال لهَذَا الْبَاب: بَاب الْمُلَاعنَة. وَيُقَال لَهُ: بَاب

الْفرج على مَا وجد بِخَط الأقشهري. وَسَماهُ صَاحب النِّهَايَة: بَاب أبي جهل. وَهَذِه الْأَبْوَاب السَّبْعَة فِي الشق الَّذِي يَلِي الْوَادي وَهُوَ الْجَانِب الْيَمَانِيّ. الثَّانِي عشر: بَاب الْحَزْوَرَة وَهُوَ الَّذِي تلِي المنارة الَّتِي تلِي أجياد الْكَبِير، وَعَامة مَكَّة يسمونه بَاب عزورة بِالْعينِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَفِيه طاقان. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهُوَ يُقَال لَهُ: بَاب حَكِيم بن حزَام وَبني الزبير بن الْعَوام، وَالْغَالِب عَلَيْهِ بَاب الحزامية؛ لِأَنَّهُ يَلِي خطّ الْحزَامِي. الثَّالِث عشر: بَاب إِبْرَاهِيم، وَفِيه طاقان وَاحِد كَبِير. وَذكر أَبُو عبيد الْبكْرِيّ أَن إِبْرَاهِيم الْمَنْسُوب إِلَيْهِ هَذَا الْبَاب هُوَ خياط كَانَ عِنْده على مَا قيل. وَنسبه سعد الدّين الإسفرائيني فِي كتاب " زبدة الْأَعْمَال " فَقَالَ: إِبْرَاهِيم الْأَصْبَهَانِيّ. وَبَعْضهمْ نسبه إِلَى إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام. وَلَا وَجه لخصوصيته دون الْأَبْوَاب بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَالله أعلم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَيُقَال لَهُ: بَاب الخياطين. الرَّابِع عشر: بَاب بني سهم وَيعرف الْيَوْم بِبَاب الْعمرَة، وَفِيه طاق وَاحِد. وَهَذِه الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة فِي الْجَانِب الغربي مِمَّا يَلِي خلف الْكَعْبَة. الْخَامِس عشر: بَاب السدة. وَقَالَ صَاحب النِّهَايَة: بَاب سدة الرهوط. انْتهى. وَيُقَال لَهُ: بَاب عَمْرو بن الْعَاصِ، وَفِيه طاقان وَاحِد صَغِير. السَّادِس عشر: بَاب دَار العجلة، وَفِيه طاق وَاحِد صَغِير. السَّابِع عشر: بَاب دَار الندوة، وَفِيه طاق وَاحِد. الثَّامِن عشر: بَاب زِيَادَة دَار الندوة. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهُوَ بَاب دَار شيبَة بن عُثْمَان

فصل ذكر منارات المسجد الحرام وما وضع فيه لمصلحه المسجد الحرام الآن

يسْلك مِنْهُ إِلَى السويقة، وَفِيه طاقان. التَّاسِع عشر: بَاب الدريبة، وَفِيه طاق وَاحِد صَغِير. وَهَذِه الْأَبْوَاب الْخَمْسَة فِي الْجَانِب الشَّامي مِمَّا يَلِي الْحطيم فَهَذِهِ جملَة أَبْوَاب الْحرم الْآن، وأسماؤها وصفاتها. فصل: ذكر منارات الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَا وضع فِيهِ لمصْلحَة الْمَسْجِد الْحَرَام الْآن خمس منائر مِنْهَا أَرْبَعَة فِي أَرْكَانه، وَوَاحِدَة فِي زِيَادَة دَار الندوة. وَقَالَ ابْن جُبَير: إِنَّه كَانَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَام سبع منائر عد مِنْهَا هَذِه الْخمس، ثمَّ قَالَ: وَأُخْرَى على بَاب الصَّفَا وَهِي أصغرها وَهِي علم لباب الصَّفَا وَلَيْسَ يصعد إِلَيْهَا لضيقها، قَالَ: وعَلى بَاب إِبْرَاهِيم صومعة. انْتهى. وَهَذِه الصومعة بَاقِيَة إِلَى الْآن لَكِن أَعْلَاهَا منهدم، وعمّر أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور من منائر الْمَسْجِد الْحَرَام مَنَارَة بَاب الْعمرَة، وعمّر ابْنه الْمهْدي المنارة الَّتِي على بَاب بني شيبَة وَالَّتِي على بَاب عليّ وَالَّتِي على بَاب الْحَزْوَرَة، وعمّر الْوَزير الْجواد مَنَارَة بَاب الْعمرَة فِي سنةإحدى وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَيذكر أَنه عمر منائر الْمَسْجِد الْحَرَام، وعمرت مَنَارَة الْحَزْوَرَة فِي دولة الْملك الْأَشْرَف شعْبَان صَاحب مصر بعد سُقُوطهَا فِي سنة إِحْدَى وَسبعين، وَفرغ من عمارتها فِي الْمحرم سنة اثْنَيْنِ وَسبعين وَسَبْعمائة. وعمرت مَنَارَة بَاب بني شيبَة فِي دولة الْملك النَّاصِر فرج صَاحب مصر بعد سُقُوطهَا فِي سنة تسع وَثَمَانمِائَة وعمرت فِي سنة عشر وَفِي الَّتِي بعْدهَا، وَجَاءَت عمارتها حَسَنَة الْبناء. وَذكر الفاكهي منائر الْمَسْجِد الْحَرَام الْأَرْبَع الَّتِي بأركانه الْأَرْبَع وَبَدَأَ فِي ذكرهَا بمنارة بَاب بني سهم، قَالَ: وفيهَا يُؤذن صَاحب الْوَقْت بِمَكَّة، وثنى بمنارة بَاب الْحَزْوَرَة قَالَ: وفيهَا يسحر الْمُؤَذّن فِي شهر رَمَضَان، وَثلث بمنارة بَاب عليّ، وَختم بمنارة بني شيبَة. انْتهى. وَهِي الْآن مَنَارَة صَاحب الْوَقْت خلافًا لما ذكره الفاكهي،

فصل ومن ذلك المنابر التي يخطب عليها

وَفِي جَمِيع منائر الْمَسْجِد الْحَرَام الْخمس يسحر المؤذنون فِي شهر رَمَضَان الْآن، وَكَلَام الفاكهي كَمَا قدمْنَاهُ يَقْتَضِي أَن الْمُؤَذّن كَانَ يسحر فِي مَنَارَة بَاب الْحَزْوَرَة فَقَط، وَذكر أَيْضا أَنه كَانَ يُؤذن على مَنَارَة كَبِيرَة عمرت فِي رُؤُوس جبال مَكَّة وظاهرها، مِنْهَا فِي أبي قبيس أَربع منارات، وَمِنْهَا فِي الْجَبَل الْأَحْمَر الْمُقَابل لَهُ منارتان، وَمِنْهَا فِي العلق مَنَارَة. وَقد ذكر الفاكهي بأوضح من هَذَا. وَفِي أبي قبيس وَغَيره من الْجبَال الَّتِي ذَكرنَاهَا يسحر بعض النَّاس فِي شهر رَمَضَان وَيُؤذن، وَمِمَّا وضع فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَبني فِيهِ لمصلحته قبَّة كَبِيرَة بَين زَمْزَم وسقاية الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ وعمرت فِي زمن النَّاصِر العباسي وَكَانَت مَوْجُودَة من قبل كَمَا ذكره ابْن عبد ربه فِي العقد. فصل: وَمن ذَلِك المنابر الَّتِي يخْطب عَلَيْهَا وَأول من خطب على مِنْبَر بِمَكَّة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان رَحمَه الله قدم بِهِ من الشَّام سنة حج فِي خِلَافَته، وَهُوَ مِنْبَر صَغِير على ثَلَاث دَرَجَات، وَكَانَت الْخُلَفَاء والولاة قبل ذَلِك يخطبون يَوْم الْجُمُعَة على أَرجُلهم قيَاما فِي وَجه الْكَعْبَة وَفِي الْحجر، وَكَانَ ذَلِك الْمِنْبَر الَّذِي جَاءَ بِهِ مُعَاوِيَة رُبمَا خرب فيعمر وَلَا يُزَاد فِيهِ، وَلم يزل يخْطب عَلَيْهِ حَتَّى حج هَارُون الرشيد فِي خِلَافَته، ومُوسَى بن عِيسَى عَامل لَهُ على مصر فأهذى لَهُ منبراً عَظِيما فِي تسع دَرَجَات مَنْقُوشًا فَكَانَ مِنْبَر مَكَّة، ثمَّ أَخذ مِنْبَر مَكَّة الْقَدِيم فَجعل بِعَرَفَة حَتَّى أَرَادَ الواثق بِاللَّه الْحجَج فَكتب، فَعمل لَهُ ثَلَاثَة مَنَابِر: مِنْبَر بِمَكَّة، ومنبر بمنى، ومنبر بِعَرَفَة. هَذَا مَا ذكره الْأَزْرَقِيّ من خبر المنابر. وَذكر الفاكهي ذَلِك وَزَاد: أَن الْمُنْتَصر بن المتَوَكل العباسي لما حج فِي خلَافَة أَبِيه جعل لَهُ مِنْبَر عَظِيم، فَخَطب عَلَيْهِ بِمَكَّة، ثمَّ خرج وَخَلفه بهَا. انْتهى. ثمَّ جعل بعد ذَلِك عدَّة مَنَابِر لِلْمَسْجِدِ الْحَرَام؛ مِنْهَا: مِنْبَر عمله وَزِير المقتدر العباسي وَكَانَ منبراً عَظِيما استقام بِأَلف دِينَار وَلما وصل إِلَى مَكَّة أحرق؛ لِأَنَّهُ كَانَ بعث بِهِ ليخطب عَلَيْهِ للخليفة المقتدى فَمنع من ذَلِك المصريون، وخطبوا للمنتصر العبيدي صَاحب مصر وأحرقوا الْمِنْبَر الْمَذْكُور، وَمِنْهَا: مِنْبَر عمل فِي دولة الْملك الْأَشْرَف شعْبَان صَاحب مصر فِي سنة سِتّ وَسَبْعمائة، وَمِنْهَا مِنْبَر بعث بِهِ الْملك الظَّاهِر برقوق صَاحب مصر فِي سنة سبع وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَهُوَ بَاقٍ يخْطب عَلَيْهِ الخطباء

فصل ومن ذلك المقامات التي هي الآن بالمسجد الحرام

إِلَى الْآن، وَأصْلح بعد وُصُوله إِلَى مَكَّة غير مرّة. فصل: وَمن ذَلِك المقامات الَّتِي هِيَ الْآن بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام أما صفتهَا فَإِنَّهَا غير مقَام الْحَنَفِيّ إسطوانتان من حِجَارَة، عَلَيْهَا عقد يشرف من أَعْلَاهُ، وَفِيه خَشَبَة مُعْتَرضَة فِيهَا خطاطيف للقناديل، وَمَا بَين الاسطوانتين من مقَام الشَّافِعِي لَا بِنَاء فِيهِ، وَمَا بَينهمَا من مقَام الْمَالِكِي والحنبلي مبْنى بحجارة مبيضة بالنورة، وَفِي وسط هَذَا الْبناء محراب، وَكَانَ عمل هَذِه المقامات على هَذِه الصّفة فِي سنة سبع وَثَمَانمِائَة لتبقى زَمَانا طَويلا. وَأما صفة مقَام الْحَنَفِيّ الْآن: فأربع أساطين من حِجَارَة منحوتة عَلَيْهَا سقف مدهون مزخرف بِالذَّهَب واللازورد، وَأَعْلَى السّقف مِمَّا يَلِي السَّمَاء مدكوك بالآجر مَطْلِي بالنورة، وَبَين الاسطوانتين المتقدمتين بِنَاء فِيهِ محراب مرخم، وَكَانَ ابْتِدَاء عمله على هَذِه الصّفة فِي شَوَّال أَو فِي ذِي الْقعدَة من سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة، وَفرغ مِنْهُ فِي أَوَائِل سنة اثْنَيْنِ وَثَمَانمِائَة. وَكَانَ بعض النَّاس أنكر عمله على هَذِه الصّفة، وَأفْتى بهدمه جمَاعَة مِمَّن عاصرناه من عُلَمَاء مصر، وَأفْتى بعض عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة بِجَوَاز بنائِهِ وإبقائه على حَاله وَعدم تَغْيِيره؛ لِأَن ذَلِك من بَاب التَّمْكِين لإِقَامَة الصَّلَاة وَفِيه مصلحَة عَظِيمَة لأهل الْمَسْجِد، يُؤَيّد ذَلِك مَا ذكره قَاضِي خَان فِي الدِّيات فِي فضل مَا يحدث فِي الْمَسْجِد أَن كل مُسلم مَنْدُوب إِلَى عمَارَة الْمَسْجِد، وَإِلَى مَا كَانَ من بَاب التَّمْكِين لإِقَامَة الصَّلَاة. انْتهى. قَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن فَهد فِي حَاشِيَته على تَارِيخ الفاسي: رَأَيْت بِخَط وَالِدي مَا صورته: أفتى جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة من أهل الْعلم بِجَوَاز بنائِهِ؛ لما فِيهِ من النَّفْع لعامة الْمُسلمين من الاستظلال من الشَّمْس والاستكفاف من الْبرد وَدفع الْمَطَر، وَأَن حكمه كالأروقة والأساطين الكائنة بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام، وَقد أخرب سقف مقَام الْحَنَفِيَّة الْأَمِير سودون المحمدي فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة وعمره أتقن مِمَّا كَانَ وَوضع عَلَيْهِ من أَعْلَاهُ قبَّة من خشب زوج مبيضة بالجص لَيْسَ لَهَا أثر من دَاخل سقف الْمقَام، وزاده فرشاً بحجارة حمر رخوة تعرف بحجارة المَاء، وَلم يكن هَذَا الْفرش فِيهِ وَلَا فِي غَيره من المقامات فِيمَا تقدم، وَهَذَا

الْفرش مستعل عَن الأَرْض وَله إِزَار مرتخ عَلَيْهِ من الْحِجَارَة الصلبة السود المنحوتة، تَدور على الْمقَام من الجوانب الثَّلَاثَة فَإِن الْجَانِب القبلي فِيهِ جدر الْمِحْرَاب، ثمَّ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَثَمَانمِائَة كشط نَاظر الْمَسْجِد الْحَرَام الْأَمِير طوعان دهان سقف الْمقَام الْمَذْكُور وزخرفه أحسن من زخرفته الأولى. انْتهى. قَالَ الشَّيْخ الْمَذْكُور: وَالَّذِي أفتى بِجَوَاز بنائِهِ على هَذِه الصّفة قَاضِي مَكَّة الشهَاب ابْن الضياء هَكَذَا أَخْبرنِي وَالِدي رَحمَه الله. وَأما موَاضعهَا من الْمَسْجِد الْحَرَام: فَإِن مقَام الشَّافِعِي خلف مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام والحنفي بَين الرُّكْن الشَّامي والغربي مِمَّا يَلِي الْحطيم، والمالكي بَين الرُّكْن الغربي واليماني، والحنبلي تجاه الْحجر الْأسود. وَأما كَيْفيَّة الصَّلَاة بِهَذِهِ المقامات فَإِنَّهُم يصلونَ مرَّتَيْنِ الشَّافِعِي ثمَّ الْحَنَفِيّ ثمَّ الْمَالِكِي ثمَّ الْحَنْبَلِيّ. وَكَلَام ابْن جُبَير يَقْتَضِي أَن الْمَالِكِي كَانَ يُصَلِّي قبل الْحَنَفِيّ، ثمَّ تقدم عَلَيْهِ الْحَنَفِيّ من بعد سنة تسعين وَسَبْعمائة، واضطرب كَلَام ابْن جُبَير فِي الْحَنَفِيّ والحنبلي؛ لِأَنَّهُ ذكر مَا يَقْتَضِي أَن كلا مِنْهُمَا يُصَلِّي قبل الآخر. وَهَذَا كُله فِي غير صَلَاة الْمغرب. أما فِيهَا فَإِنَّهُم يصلونها جَمِيعًا فِي وَقت وَاحِد ثمَّ بَطل ذَلِك فِي موسم سنة إِحْدَى عشرَة وَثَمَانمِائَة بِأَمْر الْملك النَّاصِر، وَصَارَ الشَّافِعِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمغرب وَحده، وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى أَن ورد أَمر الْملك الْمُؤَيد أبي النَّصْر شيخ صَاحب مصر بِأَن يُصَلِّي الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة الْمغرب، كَمَا كَانُوا يصلونَ قبل ذَلِك فَفَعَلُوا ذَلِك، وَأول وَقت فعل فِيهِ ذَلِك لَيْلَة السَّادِس من ذِي الْحجَّة سنة " سِتّ عشرَة " وَثَمَانمِائَة، وَكَذَلِكَ تَجْتَمِع الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة غير الشَّافِعِي على صَلَاة الْعشَاء فِي شهر رَمَضَان فِي وَقت وَاحِد، ويجتمع أَيْضا الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة المذكورون وَغَيرهم من الْأَئِمَّة الصغار والكبار بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام فِي صَلَاة التَّرَاوِيح فِي حَاشِيَة المطاف وَغَيرهَا من الْمَسْجِد، وَتَعْلُو أصوات الْأَئِمَّة والمكبرين خَلفهم فيتشوش بذلك الطائفون والمصلون،

فَيحصل للمصلين خَلفهم لبس كَبِير بِسَبَب التباس أصوات المبلغين وَاخْتِلَاف حركات الْمُصَلِّين، وَمَعَ ذَلِك يكثر اللَّغط واللغو وَأَحَادِيث الدُّنْيَا من المستمعين غير الْمُصَلِّين، ويجتمعون بذلك أَمَام كل إِمَام حلقا حلقا وأفواجاً مستدبرين الْقبْلَة متوجهين إِلَى الإِمَام، ويختلط الرِّجَال بِالنسَاء متزينات متعطرات فَيَزْدَاد التشويش على الطائفين، وَقل من يحصل لَهُ حُضُور فِي طواف أَو غَيره مَعَ اجْتِمَاع مثل ذَلِك الْجمع الْعَظِيم، ويعظم ذَلِك فِي الْعشْر الآخر من رَمَضَان ليَالِي الْخَتْم فيجتمع فِيهَا الْجمع الْعَظِيم من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان، ويهرع إِلَيْهَا الْأَعْرَاب وَأهل الْبَوَادِي والأودية من قرى شَتَّى خُصُوصا لَيْلَة الْخَامِس وَالْعِشْرين وَالسَّابِع وَالْعِشْرين من رَمَضَان، وَبعد الْفَرَاغ من الْخَتْم يصعد صَغِير على مِنْبَر والجم الْغَفِير تَحْتَهُ، ويخطب ويعظهم بِصَوْت عَال، بِحَيْثُ يبلغ الطائفين ويشوش عَلَيْهِم وَيجْلس فِي الْخطْبَة جلسات، وَيقْرَأ الْقُرَّاء الجالسون تَحْتَهُ عقيب كل جلْسَة عشرا من الْقُرْآن بِأَصْوَات عالية وألحان متنوعة، وَيحصل فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْفِتَن بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، وكل هَذِه بدع شنيعة ومنكرات قبيحة وفْق الله ولي الْأَمر لإزالتها، وأثاب المتسبب فِي إطفاء رسومها. وَفِي صَلَاة التَّرَاوِيح خلف الصّبيان اخْتِلَاف، قَالَ مشائخ الْعرَاق وَبَعض مشائخ بَلخ: لَا تجوز. وَقَالَ غَيرهم: تجوز. وَعَن نصر بن يحيى أَنه سُئِلَ عَنْهَا قَالَ: تجوز إِذا كَانَ ابْن عشر سِنِين. وَقَالَ السَّرخسِيّ: الصَّحِيح أَنَّهَا لَا تجوز؛ لِأَنَّهُ غير مُخَاطب وَصلَاته لَيست بصحيحة على الْحَقِيقَة، فَلَا تجوز إِمَامَته كإمامة الْمَجْنُون، أما إِذا أمّ الصَّبِي الصّبيان فَإِنَّهُ يجوز؛ لِأَن صَلَاة الإِمَام مثل صَلَاة الْمُقْتَدِي. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: " فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع ". قَالَ الْعلمَاء: يسْتَحبّ أَن ينور الْبَيْت الَّذِي يقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن بتعليق الْقَنَادِيل وَنصب الشموع وَيُزَاد فِي شهر رَمَضَان فِي أنوار الْمَسَاجِد. انْتهى. وَأما حكم صَلَاة الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة الْحَنَفِيّ والمالكي والحنبلي فِي المكتوبات على الصّفة الَّتِي ذَكرنَاهَا: فَاجْتمع أَصْحَابنَا على أَن الْمَسْجِد إِذا صلى فِيهِ جمَاعَة بعد جمَاعَة بِغَيْر أَذَان ثَان فَإِنَّهُ يُبَاح كَذَا ذكره شَارِح الْجمع؛ لِأَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَصْحَابنَا: الْمَسْجِد إِذا

فصل ذكر درج الصفا والمروه

كَانَ لَهُ إِمَام مَعْلُوم وَجَمَاعَة معلومون فِي محلّة خَاصَّة، فصلى فِيهِ أَهله جمَاعَة لَا يُبَاح تكْرَار الْجَمَاعَة فِيهِ بِأَذَان ثَان وَإِقَامَة ثَانِيَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: مُبَاح ذَلِك. قَالَ: وَالتَّقْيِيد بِالْمَسْجِدِ الْمُخْتَص بالمحلة احْتِرَاز من الشَّارِع، وَالْأَذَان الثَّانِي احْتِرَاز عَمَّا إِذا صلى فِي مَسْجِد الْمحلة جمَاعَة بِغَيْر أَذَان ثَان حَيْثُ يُبَاح إِجْمَاعًا. انْتهى. وَعَن أبي سعيد أَن رجلا دخل الْمَسْجِد وَقد صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَصْحَابِهِ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من يتَصَدَّق على هَذَا فَيصَلي مَعَه؟ " فَقَامَ رجل من الْقَوْم فصلى مَعَه. رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهُوَ قَول غير وَاحِد من أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم من التَّابِعين، وَقَالُوا: لَا بَأْس أَن يُصَلِّي الْقَوْم جمَاعَة فِي مَسْجِد قد صلى فِيهِ جمَاعَة وَبِه يَقُول أَحْمد وَإِسْحَاق. وَأما وَقت حدوثهم فَلم يعرف تَحْقِيقه وَقد ذكر أَن الْحَنَفِيّ والمالكي كَانَا موجودين فِي عَام " سَبْعَة " وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة، وَأما الْحَنْبَلِيّ فَلم يكن مَوْجُودا فِيهَا، وَقد ذكر أَن الْحَنْبَلِيّ كَانَ مَوْجُودا فِي عشر الْأَرْبَعين وَخَمْسمِائة. وَلما حج مرجان خَادِم المقتفي العباسي قلع الْحطيم الَّذِي للحنابلة بِمَكَّة وأبطل إمامتهم بهَا على مَا ذكر سبط ابْن الْجَوْزِيّ فِي الْمرْآة وَذكر أَنه كَانَ يَقُول: قصدي أَن أقلع مَذْهَب الْحَنَابِلَة. فصل: ذكر درج الصَّفَا والمروة قَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَت الصَّفَا والمروة يسْتَند فيهمَا من سعى بَينهمَا، وَلم يكن بَينهمَا بِنَاء وَلَا درج حَتَّى كَانَ عبد الصَّمد بن عَليّ فِي خلَافَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور فَبنى درجهما الَّتِي هِيَ الْيَوْم درجهما، فَكَانَ أول من أحدث بناءهما ثمَّ كحل بعد ذَلِك بالنورة فِي خلَافَة الْمَأْمُون.

فصل ذكر آيات البيت الحرام زاده الله تشريفا وتعظيما

فصل: ذكر آيَات الْبَيْت الْحَرَام زَاده الله تَشْرِيفًا وتعظيما ً تقدم فِي بَاب الْفَضَائِل ذكر أَشْيَاء من آيَات الْكَعْبَة الشَّرِيفَة مجملة وَنَذْكُر جملَة الْآيَات هُنَا مفصلة. فَنَقُول: من آياتها: الْحجر الْأسود وَمَا روى فِيهِ " أَنه من الْجنَّة "، وَمَا أشربت قُلُوب الْعَالم من تَعْظِيمه قبل الْإِسْلَام. وَمِنْهَا: بَقَاء بنائها الْمَوْجُود الْآن وَلَا يبْقى هَذِه الْمدَّة غَيرهَا من الْبُنيان على مَا يذكرهُ المهندسون، وَإِنَّمَا بَقَاؤُهَا آيَة من آيَات الله تَعَالَى وَهَذَا مَعْلُوم ضَرُورَة؛ لِأَن الرِّيَاح والأمطار إِذا تَوَاتَرَتْ على مَكَان خرب، والكعبة المعظمة مَا زَالَت الرِّيَاح الْعَاصِفَة والأمطار الْعَظِيمَة تتوالى عَلَيْهَا مُنْذُ بنيت إِلَى تَارِيخه وَذَلِكَ سَبْعمِائة سنة وَتِسْعَة وَأَرْبَعُونَ سنة، وَلم يحدث فِيهَا بِحَمْد الله تَعَالَى تغير فِي بنائها وَلَا خلل، وَغَايَة مَا حدث فِيهَا انكسار فلقَة من الرُّكْن الْيَمَانِيّ وتحرك الْبَيْت مرَارًا وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة، كَمَا ذكره أَبُو شامة فِي " الذيل " وَذكر ابْن الْأَثِير والمؤيد صَاحب حماه فِي أَخْبَار سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة: أَن الرُّكْن الْيَمَانِيّ تضعضع فِيهَا. وَذكر صَاحب " الْمرْآة " أَن فِي سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة شعب الْبَيْت الْحَرَام. وَذكر أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: أَن فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة انْكَسَرت من الرُّكْن الْيَمَانِيّ فلقَة قدر إِصْبَع. وَلَا تزَال الْكَعْبَة الشَّرِيفَة بَاقِيَة إِلَى أَن يَأْتِي أَمر الله وقضاؤه بتخريب الحبشي لَهَا فِي آخر الزَّمَان. وَمِنْهَا: على مَا قَالَه الجاحظ: إِنَّه لَا يرى الْبَيْت الْحَرَام أحد مِمَّن لم يكن رَآهُ إِلَّا ضحك أَو بَكَى. وَمِنْهَا: وَقع هيبتها فِي الْقُلُوب. وَمِنْهَا: كف الْجَبَابِرَة عَنْهَا مدى الدَّهْر. وَمِنْهَا: إذعان نفوس الْعَرَب وَغَيرهم قاطبة لتوقير هَذِه الْبقْعَة دون ناه وَلَا زاجر ذكره ابْن عَطِيَّة. وَمِنْهَا: كَونهَا بواد غير ذِي زرع، والأرزاق من كل قطر تجئ إِلَيْهَا عَن قرب وَعَن بعد. وَمِنْهَا: الأمنة الثَّابِتَة فِيهَا على قديم الدَّهْر، وَأَن الْعَرَب كَانَت يُغير بَعْضهَا على بعض وَيُتَخَطَّف النَّاس بِالْقَتْلِ وَأخذ الْأَمْوَال وأنواع الظُّلم إِلَّا فِي الْحرم، وابتنى على هَذَا أَمن الْحَيَوَان فِيهِ وسلامة الشّجر، وَذَلِكَ كُله للبركة الَّتِي خصها الله بهَا وللدعوة من الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله: " اجْعَل هَذَا بَلَدا آمنا ". وَالْعرب تَقول: آمن من حمام مَكَّة. تضرب الْمثل بهَا فِي الْأَمْن؛ لِأَنَّهَا لَا تهاج

وَلَا تضَاد. وَحكى النقاش عَن بعض الْعباد قَالَ: كنت أَطُوف حول الْكَعْبَة لَيْلًا فَقلت: يَا رب إِنَّك قلت: " وَمن دخله كَانَ آمنا ". فمما ذَا هُوَ آمن يَا رب؟ فَسمِعت ملكا يكلمني وَهُوَ يَقُول: من النَّار. فَنَظَرت وتأملت فَمَا كَانَ فِي الْمَكَان أحد. وَمِنْهَا: حجر الْمقَام وَذَلِكَ أَنه قَامَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَقت رَفعه الْقَوَاعِد من الْبَيْت لما طَال الْبناء، فَكلما علا الْجِدَار ارْتَفع الْحجر بِهِ فِي الْهوى، فَمَا زَالَ يَبْنِي وَهُوَ قَائِم عَلَيْهِ وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة والطين حَتَّى أكمل الْجِدَار، ثمَّ إِن الله تَعَالَى لما أَرَادَ إبْقَاء ذَلِك آيَة للْعَالمين لين الْحجر فغرقت فِيهِ قدما إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كَأَنَّهَا فِي طين، فَذَلِك الْأَثر الْعَظِيم بَاقٍ فِي الْحجر إِلَى الْيَوْم، وَقد نقلت كَافَّة الْعَرَب ذَلِك فِي الْجَاهِلِيَّة على مُرُور الْأَعْصَار كَذَا قَالَه ابْن عَطِيَّة. وَقَالَ أَبُو طَالب: وموطئ إِبْرَاهِيم فِي الصخر، " وَطئه " على قَدَمَيْهِ حافياً غير ناعل. وَمَا حفظ أَن أحدا من النَّاس نَازع فِي هَذَا القَوْل. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: " فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم ": إِن فِي مقَام إِبْرَاهِيم آيَات كَثِيرَة وَهِي أثر قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَة فِي الصَّخْرَة الصماء وإبداؤه دون سَائِر آيَات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَحفظه مَعَ كَثْرَة أعدائه من الْمُشْركين أُلُوف سنة. انْتهى. وَمِنْهَا: أَن الْفرْقَة من الطير من الْحمام وَغَيره يقبل حَتَّى إِذا كَادَت أَن تبلغ الْكَعْبَة انفرقت فرْقَتَيْن، فَلم يعل ظهرهَا شَيْء مِنْهَا. ذكره الجاحظ وَأَبُو عبيد الْبكْرِيّ. وَذكر مكي أَن الطير لَا يعلوه وَإِن علاهُ طير فَإِنَّمَا ذَلِك لمَرض بِهِ فَهُوَ يستشفى بِالْبَيْتِ. انْتهى. وَأنْشد فِي ذَلِك: وَالطير لَا يَعْلُو على أَرْكَانهَا ... إِلَّا إِذا أضحى بهَا متألماً وَقَالَ ابْن عَطِيَّة: وَهَذَا عِنْدِي ضَعِيف، وَالطير يعاين أَنَّهَا تعلوه، وَقد علاهُ الْعقَاب

الَّذِي أَخذ الْحَيَّة المشرفة على جِدَاره وَتلك كَانَت من آيَاته. انْتهى. قَالَ التوربشتي فِي " شرح المصابيح ": وَلَقَد شاهدت من كَرَامَة الْبَيْت الْمُبَارك أَيَّام مجاورتي بِمَكَّة أَن الطير كَانَ لَا يمر فَوْقه، وَكنت كثيرا أتدبر تحليق الطير فِي ذَلِك الجو، فأجدها مجتنبة عَن محاذاة الْبَيْت، وَرُبمَا انْقَضتْ من الجو حَتَّى تدانت فطافت بِهِ مرَارًا ثمَّ ارْتَفَعت، ثمَّ قَالَ: وَمن آيَات الله الْبَيِّنَة فِي كَرَامَة الْبَيْت أَن حمامات الْحرم إِذا نهضت للطيران طافت حوله مرَارًا من غير أَن تعلوه، فَإِذا وقفت عَن الطيران وَقعت على شرفات الْمَسْجِد أَو على بعض الأسطحة الَّتِي حول الْمَسْجِد، وَلَا تقع على ظهر الْبَيْت مَعَ خلوها عَمَّا ينفرها، وَقد كُنَّا نرى الْحَمَامَة إِذا مَرضت وتساقط ريشها وتناثر ترْتَفع من الأَرْض حَتَّى إِذا دنت من ظهر الْبَيْت أَلْقَت بِنَفسِهَا على الْمِيزَاب أَو على طرف ركن من الْأَركان فَتبقى بِهِ زَمَانا طَويلا حائمة كَهَيئَةِ المتخشع لَا حراك فِيهَا ثمَّ تَنْصَرِف مِنْهَا بعد حِين من غير أَن تعلو شَيْئا من سقف الْبَيْت. قَالَ بعض حجابه: قد تدبرتها كرة بعد أُخْرَى فَلم تخْتَلف فِيهِ كَمَا قَالَ سواهُ: كَانَت الطير مَمْنُوعَة عَن استعلاء الْبَيْت بالطبع، فَلَا غرو أَن يكون الْإِنْسَان مَمْنُوعًا عَنهُ بِالشَّرْعِ كَرَامَة للبيت. انْتهى كَلَامه. وَمِنْهَا: أَن مِفْتَاح الْكَعْبَة إِذا وضع فِي فَم الصَّغِير الَّذِي ثقل لِسَانه عَن الْكَلَام يتَكَلَّم سَرِيعا بقدرة الله تَعَالَى ذكر ذَلِك الفاكهي، وَذكر أَن المكيين يَفْعَلُونَهُ. انْتهى. وَهُوَ يفعل فِي عصرنا هَذَا. وَمِنْهَا: أَنه لايجئ سيل من الْجَبَل فَيدْخل الْحرم، وَإِنَّمَا يخرج من الْحرم إِلَى الْحل، وَإِذا انْتهى سيل الْحل إِلَى الْحرم وقف وَلم يدْخل فِيهِ، وَلَا يدْخل الْحرم إِلَّا سيل الْحرم. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَلَا يسيل وَاد من الْحل فِي الْحرم إِلَّا من مَوضِع وَاحِد عِنْد التَّنْعِيم عِنْد بيُوت غفار.

وَمن آيَات الْبَيْت وَالْحرم: ائتلاف الظباء وَالسِّبَاع فِيهِ حَتَّى أَن الظبي يجْتَمع مَعَ الْكَلْب فِي الْحرم فَإِذا خرجا مِنْهُ تنافراً. وَيتبع الْجَارِح للصَّيْد فِي الْحل فَإِذا دخل الْحرم تَركه ذكره الْقُرْطُبِيّ وَغَيره. وَقد تقدم فِي الْفَضَائِل أَن الْحيتَان الْكِبَار لم تَأْكُل الصغار زمن الطوفان فِي الْحرم تَعْظِيمًا لَهُ. وَمِنْهَا: فِيمَا ذكر النَّاس قَدِيما وحديثاً أَن الْمَطَر إِذا كَانَ نَاحيَة الرُّكْن الْيَمَانِيّ كَانَ الخصب بِالْيمن، وَإِذا كَانَ نَاحيَة الرُّكْن الشَّامي كَانَ الخصب بِالشَّام، وَإِذا هَبَط الْمَطَر من جوانبه الْأَرْبَع فِي الْعَام الْوَاحِد أخصبت آفَاق الأَرْض، وَإِن لم يصب جانباً مِنْهُ لم يخصب ذَلِك الْأُفق الَّذِي يَلِيهِ فِي ذَلِك الْعَام ذكر ذَلِك الْقُرْطُبِيّ وَابْن عَطِيَّة وَغَيرهمَا. وَمِنْهَا: تَعْجِيل الانتقام لمن عتى فِيهِ. من ذَلِك قصَّة الرجل الَّذِي كَانَ فِي الطّواف فبرز لَهُ ساعد امْرَأَة، فَوضع ساعده على ساعدها متلذذاً بِهِ فلصق ساعداهما، وقصة إساف لما فجر بنائلة فِي الْبَيْت فمسخا حجرين. وقصة الْمَرْأَة الَّتِي جَاءَت إِلَى الْبَيْت تعوذ بِهِ من ظَالِم فَمد يَده إِلَيْهَا فَصَارَ أشل. وقصة الرجل الَّذِي سَالَتْ عينه على خُذْهُ من نظره إِلَى شخص فِي الطّواف استحسنه. وَقد تقدم كل ذَلِك فِي الرَّقَائِق، وَمن أعظم ذَلِك أَمر تبع. وَمَا جرى لأَصْحَاب الْفِيل وَرمى طير الله عَنهُ بحجارة السجيل، وَذَلِكَ أَمر لم يخْتَلف كَافَّة الْعَرَب فِي نَقله وَصِحَّته إِلَى أَن أنزلهُ الله فِي كِتَابه. وَمِنْهَا: أَن الْكَعْبَة تفتح بِحَضْرَة الجم الْغَفِير من النَّاس، فيدخلها الْجَمِيع متزاحمين فيسعهم بقدرة الله تَعَالَى، وَلم يعلم أَن أحدا مَاتَ فِيهَا من الزحام إِلَّا سنة إِحْدَى

وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة مَاتَ فِيهَا أَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ نَفرا. قَالَ ابْن النقاش: والكعبة تسع ألف إِنْسَان وَإِذا انْفَتح الْبَاب فِي أَيَّام الْمَوْسِم دَخلهَا آلَاف كَثِيرَة. انْتهى. فعلى هَذَا الْكَعْبَة تتسع كَمَا ورد أَن منى تتسع كاتساع الرَّحِم وَهِي إِحْدَى آياتها الْمُتَقَدّمَة فِي بَاب الْفَضَائِل. وَالثَّانيَِة: إمحاق حَصى الْجمار على كَثْرَة الرَّمْي وَطول الزَّمَان. وَالثَّالِثَة: امْتنَاع تخطي الطير الدّور المشرفة بمنى على الجدران وَغَيرهَا وَهِي محروسة بحراسة الْقَادِر المقتدر. وَالرَّابِعَة: امْتنَاع وُقُوع الذُّبَاب على الطَّعَام فِي أَيَّام منى " على كل الزبل " وَنَحْوه مِمَّا يجمع الذُّبَاب فيحوم عَلَيْهِ فِي السَّمَاء وَلَا يَقع فِيهِ وَقد تقدم ذَلِك كُله فِي الْفَضَائِل وَمِنْهَا: أَن المَاء لم يعلها زمن الطوفان وَلكنه أَقَامَ حولهَا. وَمِنْهَا: طواف سفينة نوح بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا ذكر ابْن الْجَوْزِيّ، وأطاف بِالْبَيْتِ أسبوعاً كَمَا ذكر الْقُرْطُبِيّ. وَذكر الثَّعْلَبِيّ فِي " العرائس ": أَنَّهَا طافت بِالْحرم أسبوعاً كَمَا تقدم ذَلِك فِي الْفَضَائِل. وَمِنْهَا: أَن جبال مَكَّة متماثلة برؤوسها كالسجود للكعبة يرى هَذَا من يسير قَالَه ابْن النقاش. قَالَ: وفوقها جبال من ذهب وَفِضة وكنوز وجواهر وَرُبمَا يكْشف عَن بَعْضهَا. وَمِنْهَا: على مَا قَالَ ابْن النقاش أَيْضا: إِن الْكَعْبَة تزاد فِي طولهَا فِي أَوْقَات الصَّلَوَات وَنصف اللَّيْل وليالي الأعياد، وَيَوْم عَرَفَة يعْطى النَّاس نور، قَالَ: ويخيل للْوَاحِد إِذا كَانَ فَوْقهَا كَأَنَّهُ فَوق الْعَالم كُله وَأَنه قريب من السَّمَاء، قَالَ: وَتَحْت الْقَوَاعِد مجمرة من النُّور كشف عَنْهَا مرّة فسطع النُّور فِي الْحرم، قَالَ: وَتَحْت الْحرم مجوف، قَالَ: وَالطّيب بِمَكَّة أطيب مِنْهُ فِي سَائِر الْآفَاق، وظلال مَكَّة أطيب من سَائِر الظلال، والبركات فِيهَا أَعم وَأشيع وتجئ إِلَيْهَا ثَمَرَات كل شَيْء، قَالَ: والبدر لَيْلَة أَرْبَعَة عشر

لَيْسَ فِيهِ سَواد أحسن مَا يكون وَفِيه كِتَابَة ببياض، وَالشَّمْس يَوْم عَرَفَة من جدد النّظر إِلَيْهَا رأى لَهَا نورا آخر وفيهَا كِتَابَة بَيْضَاء. انْتهى كَلَامه. وَيذكر أَن الشَّمْس مَكْتُوب فِيهَا وَلَا يظْلمُونَ وَفِي الْقَمَر فتيلاً، أما مَا هُوَ مَكْتُوب فِي الْقَمَر فمشاهد محسوس لمن تَأمله. وَمِنْهَا على مَا ذكره ابْن عَطِيَّة: زَمْزَم فِي نبعها لهاجر بهمز جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بعقبه، وَفِي حفر عبد الْمطلب لَهَا آخرا بِعَدَد ثورها بِتِلْكَ الرُّؤْيَا الْمَشْهُورَة وَمَا نبع من المَاء تَحت خف نَاقَته فِي سَفَره إِلَى مناقرة قُرَيْش ومخاصمتها فِي أَمر زَمْزَم، كَمَا ذكره ابْن إِسْحَاق مستوعباً وقدمناه. وَمِنْهَا: على مَا ذكره ابْن عَطِيَّة أَيْضا: نفع مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ، وَأَنه يعظم مَاؤُهَا فِي الْمَوْسِم وَيكثر كَثْرَة خارقة لعادة الْآبَار. وَمن الْآيَات مَا رُوِيَ: أَن الْحجَّاج بن يُوسُف نصب المنجنيق على جبل أبي قبيس بِالْحِجَارَةِ والنيران فاشتعلت أَسْتَار الْكَعْبَة بالنَّار فَجَاءَت سَحَابَة من نَحْو جدة يسمع فِيهَا الرَّعْد وَيرى الْبَرْق، فمطرت فجاوز مطرها الْكَعْبَة والمطاف، فأطفأت النَّار وَأرْسل الله عَلَيْهِم صَاعِقَة فأحرقت منجنيقهم فتداركوه. قَالَ عِكْرِمَة: وأحسب أَنَّهَا أحرقت تَحْتَهُ أَرْبَعَة رجال. فَقَالَ الْحجَّاج: لَا يهولنكم هَذَا فَإِنَّهَا أَرض صواعق. فَأرْسل الله صَاعِقَة أُخْرَى فأحرقت المنجنيق وأحرقت مَعَه أَرْبَعِينَ رجلا وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَسبعين فِي أَيَّام عبد الْملك بن مَرْوَان، وَفِي هَذِه السّنة الْمَذْكُورَة دَامَ الْقِتَال أشهر إِلَى أَن قتل عبد الله بن الزبير بن الْعَوام أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي جنادى الأولى وطيف بِرَأْسِهِ فِي مصر وَغَيرهَا وَقتل مَعَه جمَاعَة، وَتوفيت أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق ذَات النطاقين أم ابْن الزبير بعد مصابه بِيَسِير، وفيهَا استوثق الْأَمر لعبد الْملك بن مَرْوَان، وَولى الْحجَّاج أَمر الْحجاز فنقض بعض الْكَعْبَة وأعادها إِلَى بنائها فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت قد تشعبت من المنجنيق، وأصي الْحجر الْأسود وأصلحوه ورفعوه، وَتُوفِّي الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ الطَّائِفِي فِي لَيْلَة مباركة على الْأمة لَيْلَة سبع وَعشْرين من رَمَضَان وَله خمس وَخَمْسُونَ أَو دونهَا، وَكَانَ شجاعاً مقداماً مهيباً ذَا هَيْبَة، فصيحاً بليغاً، سفاكاً للدماء، ولى الْحجاز وَالْعراق عشْرين سنة. وَفِي " جَامع الْأُصُول " قَالَ هِشَام بن حسان: أحصى من قتل الْحجَّاج صبرا فَوجدَ مائَة ألف وَعشْرين ألفا. أخرجه

التِّرْمِذِيّ. وَمِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن أَبَا طَالب قَالَ فِي الْجَاهِلِيَّة لقرشي قتل هاشمياً خطأ وَأنكر قَتله: اختر منا إِحْدَى ثَلَاث؛ إِن شِئْت أَن تُؤدِّي مائَة من الْإِبِل، وَإِن شِئْت حلف خَمْسُونَ من قَوْمك أَنَّك لم تقتله، فَإِن أَبيت قتلناك بِهِ. قَالَ: فَأَتَاهُ قومه فَذكر لَهُم ذَلِك فَقَالُوا: نحلف. فَأَتَتْهُ امْرَأَة من بني هَاشم كَانَت تَحت رجل مِنْهُم قد ولدت لَهُ فَقَالَت: يَا أَبَا طَالب أحب أَن أتخير ابْني هَذَا وَلَا تصير يَمِينه، حَيْثُ تصير الْأَيْمَان يَعْنِي الْموضع الَّذِي كَانُوا يحلفُونَ فِيهِ، وَهُوَ حطيم الْكَعْبَة مَا بَين الرُّكْن وَالْمقَام وزمزم وَالْحجر؛ لِأَن النَّاس كَانُوا يحطمون هُنَاكَ بالأيمان ويستجاب فِيهِ الدُّعَاء على الظَّالِم للمظلوم، فَقل من دَعَا هُنَالك على ظَالِم إِلَّا أهلك، وَقل من حلف هُنَالك إِثْمًا إِلَّا عجلت لَهُ الْعقُوبَة. فَكَانَ ذَلِك يحجز النَّاس عَن الظُّلم ويتهيب النَّاس الْأَيْمَان هُنَاكَ، فَلم يزل ذَلِك كَذَلِك حَتَّى جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ فَأخر الله ذَلِك؛ لما أَرَادَ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَفعل أَبُو طَالب ذَلِك وَأَتَاهُ رجل مِنْهُم فَقَالَ: يَا أَبَا طَالب هَذَانِ بعيران فاقبلهما عني، وَلَا تصير يَمِيني حَيْثُ تصير الْأَيْمَان فقبلهما وجاءه ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ رجلا فَحَلَفُوا. قَالَ ابْن عَبَّاس: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ مَا حَال الْحول وَمن الثَّمَانِية وَالْأَرْبَعِينَ عين تطرف. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِن ذَلِك أول قسَامَة فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَت. وَيُقَال: أول من بغى من قُرَيْش بِمَكَّة فأهلكهم الْبَغي بَنو الشيبان بن عدي بن قصي. ويروى أَن خمسين رجلا من بني عَامر بن لؤَي حلفوا فِي الْجَاهِلِيَّة عِنْد الْبَيْت على قسَامَة وحلفوا على بَاطِل ثمَّ خَرجُوا حَتَّى إِذا كَانُوا بِبَعْض الطَّرِيق نزلُوا تَحت صَخْرَة، فَبَيْنَمَا هم قَائِلُونَ إِذْ أَقبلت الصَّخْرَة عَلَيْهِم فَخَرجُوا من تحتهَا يَشْتَدُّونَ، فانفلقت خمسين فلقَة فأدركت كل فلقَة رجلا فَقتلته. ويروى أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ رجلا من بني سليم عَن ذهَاب بَصَره فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كُنَّا بني ضبعاء عشرَة وَكَانَ لنا ابْن عَم فَكُنَّا نظلمه ونضطهده، فَكَانَ يذكرنَا بِاللَّه وَالرحم أَن لَا نظلمه، وَكُنَّا أهل جَاهِلِيَّة نركب كل الْأُمُور فَلَمَّا رآنا ابْن عمنَا لَا نكف عَنهُ وَلَا نرد ظلامته أمْهل حَتَّى إِذا دخلت الْأَشْهر الْحرم انْتهى إِلَى الْحرم، فَجعل يرفع يَدَيْهِ إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَيَقُول: لَا هم أَدْعُوك دُعَاء جاهداً ... اقْتُل بني الضبعاء إِلَّا وَاحِدًا

ثمَّ اضْرِب الرجل فارمه قَاعِدا ... أعمى إِذا مَا قيد عني القائدا فَمَاتَ إخْوَة لي تِسْعَة فِي تِسْعَة أشهر فِي كل شهر وَاحِد، فَبَقيت أَنا فعميت وَلَيْسَ يلائمني قَائِد وَرمى الله فِي رجْلي. فَقَالَ عمر: سُبْحَانَ الله إِن هَذَا هُوَ الْعجب. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: سَمِعت عمر يسْأَل ابْن عمهم الَّذِي دَعَا عَلَيْهِم قَالَ: دَعَوْت عَلَيْهِم ليَالِي رَجَب الشَّهْر كُله بِهَذَا الدُّعَاء فأهلكوا فِي تِسْعَة اشهر وَأصَاب الْبَاقِي مَا أَصَابَهُ. وروى عَن حويطب بن عبد الْعُزَّى أَنه قَالَ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة فِي الْكَعْبَة حلق أَمْثَال لجم البهم يدْخل الْخَائِف يَده فِيهَا فَلَا يرِيبهُ أحد، فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم ذهب خَائِف ليدْخل يَده فِيهَا فاجتذبه رجل فشلت يَمِينه فأدركه الْإِسْلَام وَإنَّهُ لأشل. وَعَن عبد الْمطلب بن ربيعَة بن الْحَارِث قَالَ: عدا رجل من بني كنَانَة من هُذَيْل فِي الْجَاهِلِيَّة على ابْن عَم لَهُ بمظلمة واضطهده، فَنَاشَدَهُ بِاللَّه وبالرحم فَعظم عَلَيْهِ فَأبى إِلَّا ظلمه، فَقَالَ: وَالله لألحقن بحرم الله والشهر الْحَرَام فلأدعون الله عَلَيْك، فَقَالَ لَهُ بِزَعْمِهِ مستهزءاً بِهِ: هَذِه نَاقَتي فُلَانَة فَأَنا أقعدك على ظهرهَا فَاذْهَبْ فاجتهد. قَالَ: فَأعْطَاهُ نَاقَته وَخرج حَتَّى جَاءَ الْحرم فِي الشَّهْر الْحَرَام فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَدْعُوك جَاهد مُضْطَر على فلَان ابْن عمي لترميه بداء لَا دَوَاء لَهُ. قَالَ: ثمَّ انْصَرف فَوجدَ ابْن عَمه قد رمي فِي بَطْنه فَصَارَ مثل الزق فَمَا زَالَ ينتفخ حَتَّى انْشَقَّ. قَالَ عبد الْمطلب: فَحدثت هَذَا الحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: أَنا رَأَيْت رجلا دَعَا على ابْن عَمه بالعمى فرأيته يُقَاد أعمى. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: دَعَا رجل على ابْن عَم لَهُ استاق ذوداً لَهُ فَخرج فَطَلَبه حَتَّى أَصَابَهُ فِي الْحرم، فَقَالَ: ذودي. فَقَالَ اللص: كذبت لَيْسَ الذود لَك. فَقيل لَهُ: لَا سَبِيل لَك عَلَيْهِ. فَقَامَ رب الذود بَين الرُّكْن وَالْمقَام باسطاً يَدَيْهِ يَدْعُو على صَاحبه، فَمَا برح من مقَامه يَدْعُو عَلَيْهِ حَتَّى دله، فَذهب عقله وَجعل يَصِيح بِمَكَّة مَالِي وللذود مَالِي

وَلفُلَان رب الذود، فَبلغ ذَلِك عبد الْمطلب فَجمع ذوده وَدفعهَا إِلَى الْمَظْلُوم فَخرج بهَا وَبَقِي الآخر مدلهاً حَتَّى وَقع من جبل فتردى فأكلته السبَاع. وروى الْوَاقِدِيّ عَن أَيُّوب بن مُوسَى: أَن امْرَأَة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة مَعهَا ابْن عَم لَهَا صَغِير فَكَانَت تخرج فتكسب عَلَيْهِ ثمَّ تَأتي فتطعمه من كسبها، فَقَالَت لَهُ: يَا بني إِنِّي أغيب عَنْك وَإِنِّي أَخَاف أَن يظلمك ظَالِم، فَإِن جَاءَك ظَالِم بعدِي فَإِن لله تَعَالَى بِمَكَّة بَيْتا لَا يشبه شَيْئا من الْبيُوت وَلَا يُقَارِبه مُفسد وَعَلِيهِ ثِيَاب، فَإِن ظلمك ظَالِم يَوْمًا فعذ بِهِ فَإِن لَهُ رَبًّا سيمنعك. قَالَ: فَجَاءَهُ رجل فَذهب بِهِ فاسترقه قَالَ: وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يعمرون أنعامهم فأعمر سَيّده ظَهره، فَلَمَّا رأى الْغُلَام الْبَيْت عرف الصّفة، فَنزل يشْتَد حَتَّى تعلق بِالْبَيْتِ، وَجَاء سَيّده فَمد يَده إِلَيْهِ فيبست، فاستفتى فِي الْجَاهِلِيَّة فَأفْتى بِأَن ينْحَر عَن كل وَاحِدَة من يَدَيْهِ بَدَنَة فَفعل فأطلقت لَهُ يَدَاهُ، وَنزل الْغُلَام وخلى سَبيله. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ عمر بن الْخطاب وَذكر مَا كَانَ يُعَاقب بِهِ من حلف على ظلم فَقَالَ: إِن النَّاس الْيَوْم ليركبون مَا هُوَ أعظم من هَذَا، وَلَا تعجل لَهُم الْعقُوبَة مثل مَا كَانَت لأولئك فَمَا ترَوْنَ ذَلِك، فَقَالُوا: أَنْت أعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: إِن الله عز وَجل جعل فِي الْجَاهِلِيَّة إِذْ لَا دين حُرْمَة حرمهَا وعظمها وشرفها، وَعجل الْعقُوبَة لمن اسْتحلَّ شَيْئا مِمَّا حرم لِيَنْتَهُوا عَن الظُّلم مَخَافَة تَعْجِيل الْعقُوبَة، فَلَمَّا بعث الله تَعَالَى مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توعدهم فِيمَا انتهكوا مِمَّا حرم بالساعة فَقَالَ: " والساعة أدهى وَأمر ". فَأخر الْعقَاب إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَعَن طَاوُوس قَالَ: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يصنعون فِي الْحرم شَيْئا إِلَّا عجل لَهُم ثمَّ قد كَانَ من أَمر قد رَأَيْتُمْ يُوشك أَن لَا يُصِيب أحد مِنْهُم شَيْئا إِلَّا عجل لَهُ حَتَّى لَو عَادَتْ بِهِ أمه سَوْدَاء لم يعرض لَهَا أحد. وَمن الْآيَات مَا روى عَن عبد الْأَعْلَى بن عبد الله بن عَامر بن كرز: أَنه قدم مَعَ جدته أم عبد الله بن عَامر معتمرة فَدخلت عَلَيْهَا صَفِيَّة بنت شيبَة فأكرمتها وأجازتها، فَقَالَت صَفِيَّة: مَا أدرى مَا أكْرم بِهِ هَذِه الْمَرْأَة أما دنياهم فعظيمة، فَنَظَرت حَصَاة مِمَّا كَانَ

ينْقد من الرُّكْن الْأسود حِين أَصَابَهُ الْحَرِيق فجعلتها لَهَا فِي حق ثمَّ قَالَ لَهَا: انظري هَذِه الْحَصَاة فَإِنَّهَا حَصَاة من الرُّكْن الْأسود فاغليها للمرضى، فَإِنِّي أَرْجُو أَن يَجْعَل الله سُبْحَانَهُ لَهُم فِيهَا الشِّفَاء فَخرجت فِي أَصْحَابهَا، فَلَمَّا خرجت من الْحرم وَنزلت فِي بعض الْمنَازل صرع أَصْحَابهَا فَلم يبْق مِنْهُم أحد إِلَّا أَخَذته الْحمى، فَقَامَتْ وصلت ودعت رَبهَا عز وَجل ثمَّ التفتت إِلَيْهِم، وَقَالَت: وَيحكم انْظُرُوا مَاذَا خَرجْتُمْ بِهِ من الْحرم؟ فَمَاذَا الَّذِي أَصَابَكُم إِلَّا بذنب؟ قَالُوا: مَا نعلم خرجنَا من الْحرم بِشَيْء. قَالَ: قَالَت لَهُم: أَنا صَاحِبَة الذَّنب انْظُرُوا أمثلكم حَيَاة وحركة. قَالَ: فَقَالُوا: لَا نعلم أحدا منا أمثل من عبد الْأَعْلَى. قَالَت: فشدوا لَهُ رَحْله. فَفَعَلُوا ثمَّ دَعَتْهُ فَقَالَت: خُذ هَذِه الْحَصَاة الَّتِي فِي هَذَا الْحق، فَاذْهَبْ بهَا إِلَى أُخْتِي صَفِيَّة بنت شيبَة فَقل لَهَا: إِن الله تبَارك وَتَعَالَى وضع فِي حرمه وأمنه أمرا لم يكن لأحد أَن يُخرجهُ من حَيْثُ وَضعه، فخرجنا بِهَذِهِ الْحَصَاة فأصابتنا فِيهَا بلية عَظِيمَة فصرع أَصْحَابنَا كلهم، فإياك أَن تخرجيها من حرم الله عز وَجل. قَالَ عبد الْأَعْلَى: فَمَا هُوَ إِلَّا أَن دخلت الْحرم فَجعلنَا نبعث رجلا رجلا. وَمِنْهَا: أَن الْكَعْبَة مُنْذُ خلقهَا الله تَعَالَى مَا خلت من الطَّائِف يطوف بهَا من جن أَو إنس أَو ملك أَو طَائِر كَمَا تقدم فِي الْفَضَائِل، وَتقدم فِيهِ قَضِيَّة الْحَيَّة الَّتِي رئيت طَائِفَة بِالْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ الْجمل طَاف بِهِ يَوْم قتل ابْن الزبير. وَعَن أبي الطُّفَيْل قَالَ: كَانَت امْرَأَة من الْجِنّ فِي الْجَاهِلِيَّة تسكن ذَا طوى، وَكَانَ لَهَا ابْن وَلم يكن لَهَا ولد غَيره وَكَانَت تحبه حبا شَدِيدا، وَكَانَ شريفاً فِي قومه، فَتزَوج وأتى زَوجته فَلَمَّا كَانَ يَوْم سابعه قَالَ لأمه: إِنِّي أحب أَن أَطُوف بِالْكَعْبَةِ سبعا نَهَارا. قَالَت لَهُ: أَي بني إِنِّي أَخَاف عَلَيْك سُفَهَاء قُرَيْش. فَقَالَ: أَرْجُو السَّلامَة. فَأَذنت لَهُ فولى فِي صُورَة جَان، فَلَمَّا أدبر جعلت تعوذه وَتقول: أُعِيذهُ بِالْكَعْبَةِ المستورة، ودعوات ابْن أبي مَحْذُورَة، وَمَا تَلا مُحَمَّد من سُورَة، إِنِّي إِلَى حَيَاته فقيرة، وإنني بعيشه مسرورة. فَمضى الجان نَحْو الطّواف فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أقبل منقلباً حَتَّى إِذا كَانَ بِبَعْض دور بني سهم، عرض لَهُ شَاب من بني سهم أَحْمَر أَزْرَق أَحول أعْسر فَقتله، فثارت بِمَكَّة غبرة حَتَّى لم تَرَ الْجبَال، قَالَ أَبُو الطُّفَيْل: وبلغنا أَنه إِنَّمَا تثور تِلْكَ الغبرة عِنْد موت عَظِيم من الجان قَالَ: فَأصْبح من بني سهم موتى كَثِيرَة من قَتْلَى الْجِنّ فَكَانَ فيهم سَبْعُونَ شَيخا أصلع سوى " الشَّاب ". قَالَ: فَنَهَضت بَنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدهم فَرَكبُوا الْجبَال والشعاب بالثنية، فَمَا تركُوا حَيَّة وَلَا عقرباً وَلَا شَيْئا

يدب من الْهَوَام على وَجه الأَرْض إِلَّا قَتَلُوهُ، فأقاموا على ذَلِك ثَلَاثًا فَسَمِعُوا فِي اللَّيْلَة الثَّالِثَة على أبي قبيس هاتفاً يَهْتِف بِصَوْت جَهورِي يسمع بِهِ من بَين الجبلين: يَا معشر قُرَيْش الله الله فَإِن لكم أحلاماً وعقولاً، اعذرونا من بني سهم فقد قتلوا منا أَضْعَاف مَا قتلنَا مِنْهُم، ادخُلُوا بَيْننَا وَبينهمْ بِالصُّلْحِ، نعطهم ويعطونا الْعَهْد والميثاق أَن لَا يعود بَعْضنَا لبَعض بِسوء أبدا، فَفعلت قُرَيْش ذَلِك واستوثقوا للْبَعْض من الْبَعْض فسميت بَنو سهم " الغياطلة " قتلة الْجِنّ. وَعَن مُحَمَّد بن هِشَام السَّهْمِي قَالَ: كنت بِمَال لي أجد بِهِ نخلا وَبَين يَدي جَارِيَة لي فارهة، فصرعت قدامى فَقلت لبَعض خدمنا: هَل رَأَيْت هَذَا مِنْهَا قبل هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فوقفت عَلَيْهَا فَقلت: يَا معشر الْجِنّ أَنا رجل من بني سهم، وَقد علمْتُم مَا كَانَ بَيْننَا فِي الْجَاهِلِيَّة من الْحَرْب، وَمَا صرنا إِلَيْهِ من الصُّلْح والعهد والميثاق أَن لَا يغدر بَعْضنَا بِبَعْض، فَإِن وفيتم وَفينَا وَإِن غدرتم غدرنا إِلَى مَا تعرفُون. قَالَ: فأفاقت الْجَارِيَة وَرفعت رَأسهَا فَمَا عيد إِلَيْهَا بمكروه حَتَّى مَاتَت. وروى أَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ كَانَ فِي جمَاعَة جالسين بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام بَعْدَمَا ارْتَفع النَّهَار وقلصت الأفياء، وَإِذا هم ببريق أيم دخل من بَاب بني شيبَة فاشرأبت أَعينهم إِلَيْهِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا وَصلى رَكْعَتَيْنِ وَرَاء الْمقَام فقمنا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: أَلا أَيهَا الْمُعْتَمِر قد قضى الله نسكك وَإِن بأرضنا عبيدا وسفهاء وَإِنَّا نخشى عَلَيْك مِنْهُم، فكوم بِرَأْسِهِ كومة بطحاء فَوضع ذَنبه عَلَيْهَا فسما فِي السَّمَاء حَتَّى غَابَ فَمَا يرى. قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ: الأيم الْحَيَّة الذّكر. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: جَاءَ طَائِر من نَاحيَة أجياد الصَّغِير لَونه لون الْحبرَة بريشة حَمْرَاء وريشة سَوْدَاء، دَقِيق السَّاقَيْن طويلهما لَهُ عنق طَوِيلَة رَقِيق المنقار طويله، كَأَنَّهُ من طير الْبَحْر يَوْم السبت يَوْم سبع وَعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ حِين طلعت الشَّمْس، وَالنَّاس إِذْ ذَاك فِي الطّواف كثير من الحاد وَغَيرهم، فَوَقع فِي الْمَسْجِد الْحَرَام قَرِيبا من مِصْبَاح زَمْزَم مُقَابل الرُّكْن الْأسود سَاعَة طَوِيلَة، ثمَّ طَار حَتَّى صدم الْكَعْبَة فِي نَحْو صدرها بَين الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَالْأسود وَهُوَ إِلَى الرُّكْن الْأسود أقرب، ثمَّ

وَقع على منْكب رجل محرم من الْحَاج من أهل خُرَاسَان فِي الطّواف عِنْد الرُّكْن الْأسود، فَطَافَ الرجل بِهِ أسابيع وَعَيناهُ تدمعان على خديه، والطائر على مَنْكِبه الْأَيْمن، وَالنَّاس يدنون مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ سَاكن غير متوحش مِنْهُم، ثمَّ طَار من قبل نَفسه حَتَّى وَقع على يَمِين الْمقَام سَاعَة طَوِيلَة وَهُوَ يمد عُنُقه ويقبضها إِلَى جنَاحه، فَأقبل فَتى من الحجبة فَضرب بِيَدِهِ فِيهِ فَأَخذه؛ ليريه رجلا مِنْهُم كَانَ يرْكَع خلف الْمقَام فصاح الطير فِي يَده أَشد الصياح وأوحشه لَا يشبه صَوته أصوات الطير فَفَزعَ مِنْهُ، فَأرْسلهُ من يَده فطار حَتَّى وَقع بَين يَدي دَار الندوة، ثمَّ طَار من قبل نَفسه فَخرج من بَاب الْمَسْجِد الَّذِي بَين دَار الندوة وَبَين دَار العجلة نَحْو قعيقعان. ويروى أَنه أقبل طائران فِي الْجَاهِلِيَّة كَأَنَّهُمَا نعامتان يسيران كل يَوْم ميلًا أَو يزيدان حَتَّى أَتَيَا مَكَّة فوقعا على الْكَعْبَة، فَكَانَت قُرَيْش تطعمهما وتسقيهما فَإِذا خف الطّواف من النَّاس نزلا فدنيا حول الْكَعْبَة حَتَّى إِذا اجْتمع النَّاس طارا فوقعا على الْكَعْبَة فمكثا كَذَلِك شهرا وَنَحْوه ثمَّ ذَهَبا. وَمن آيَات الْحجر الْأسود: أَنه أزيل عَن مَكَانَهُ غير مرّة ثمَّ رده الله إِلَيْهِ، وَوَقع ذَلِك من جرهم وإياد والعماليق وخزاعة والقرامطة كَذَا ذكر عز الدّين بن جمَاعَة، وَلم أر مَا ذكره عَن العماليق، وَآخر من أزاله عَن مَوْضِعه أَبُو طَاهِر سُلَيْمَان بن الْحسن القرمطي يَوْم التَّرويَة سنة سبع عشرَة وثلاثمائة لما سَنذكرُهُ بعده. وَاعْلَم أَن ابْتِدَاء خُرُوج القرامطة كَانَ سنة إِحْدَى عشرَة وثلاثمائة، وَكَانَ أَبُو طَاهِر سُلَيْمَان بن الْحسن القرمطي رئيسهم فَدخل الْبَصْرَة فِي اللَّيْل فِي ألف وَسَبْعمائة فَارس، نصبوا السلاليم على السُّور ونزلوا فوضعوا السَّيْف فِي الْبَلَد وأحرقوا الْجَامِع، وهرب خلق إِلَى المَاء فَغَرقُوا وَسبوا الْحَرِيم، وَالله الْمُسْتَعَان.

وَفِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة فِي الْمحرم عَارض ركب الْعِرَاقِيّ وَمَعَهُ ألف فَارس وَألف راجل فوضعوا السَّيْف، واستباحوا الحجيج وَسَاقُوا الْجمال بالأموال والحريم، وَهلك النَّاس جوعا وعطشاً، وَنَجَا من نجا بِأَسْوَأ حَال، وَوَقع النوح والبكاء بِبَغْدَاد وَغَيرهَا، وَامْتنع النَّاس من الصَّلَوَات فِي الْمَسَاجِد، وَفِي سنة ثَلَاث عشرَة سَار الركب الْعِرَاقِيّ وَمَعَهُمْ ألف فَارس فاعترضهم القرمطي وناوشهم الْقِتَال فَردُّوا النَّاس، وَلم يحجوا وَنزل القرمطي على الْكُوفَة فقاتلوه فغلب على الْبَلَد فنهبه، وَفِي سنة أَربع عشرَة لم يحجّ أحد من الْعرَاق خوفًا من القرامطة ونزح أهل مَكَّة عَنْهَا خوفًا مِنْهُم. وَفِي سنة سبع عشرَة وثلاثمائة حج بِالنَّاسِ مَنْصُور الديلمي ودخلوا مَكَّة سَالِمين، فوافاهم يَوْم التَّرويَة عَدو الله أَبُو طَاهِر القرمطي فَقتل الْحجَّاج قتلا ذريعاً فِي الْمَسْجِد وَفِي فجاج مَكَّة، وَقتل أَمِير مَكَّة ابْن محَارب، وَقلع بَاب الْكَعْبَة، واقتلع الْحجر الْأسود وَأَخذه إِلَى هجر، وَكَانَ مَعَه تِسْعمائَة نفس فَقتلُوا فِي الْمَسْجِد ألفا وَسَبْعمائة، وَصعد على بَاب الْبَيْت وَصَاح: أَنا بِاللَّه وَبِاللَّهِ أَنا ... يخلق الْخلق وأفنيهم أَنا وَقيل: إِن الَّذِي قتل بفجاج مَكَّة وظاهرها زهاء ثَلَاثِينَ ألفا وسبى من النِّسَاء وَالصبيان نَحْو ذَلِك، وَأقَام بِمَكَّة سِتَّة أَيَّام وَلم يحجّ أحد. وَقَالَ مُحَمَّد الْأَصْبَهَانِيّ: دخل قرمطي وَهُوَ سَكرَان فصفر لفرسه فَبَال عِنْد الْبَيْت، وَقتل جمَاعَة، وَضرب الْحجر الْأسود بدبوس فَكسر مِنْهُ، ثمَّ قلعه وَبَقِي الْحجر الْأسود بهجر نيفاً وَعشْرين سنة، وَدفع لَهُم فِيهِ خَمْسُونَ ألف دِينَار فَأَبَوا هَكَذَا ذكر الذَّهَبِيّ فِي " العبر ". وَذكر غَيره: أَنه لما دخل مَكَّة فِي هَذِه السّنة سفك الدِّمَاء حَتَّى سَالَ بهَا الْوَادي، ثمَّ رمى بعض الْقَتْلَى فِي زَمْزَم وملأها مِنْهُم، وأصعد رجلا ليقلع الْمِيزَاب فتردى على رَأسه وَمَات، ثمَّ انْصَرف وَمَعَهُ الْحجر الْأسود وعلقه على الاسطوانة السَّابِعَة من جَامع الْكُوفَة، يعْتَقد أَن الْحَج ينْتَقل إِلَيْهَا، وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ الْمُطِيع لله أَبُو الْقَاسِم. وَقيل: أَبُو الْعَبَّاس الْفضل بن المقتدر بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار، وأعيد إِلَى مَكَانَهُ سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة، وَبَقِي عِنْدهم اثْنَيْنِ وَعشْرين سنة إِلَّا شهرا. هَكَذَا ذكر عز الدّين بن جمَاعَة

أَن الْمُطِيع اشْتَرَاهُ من أبي طَاهِر القرمطي وَفِيه نظر؛ لِأَن أَبَا طَاهِر مَاتَ قبل خلَافَة الْمُطِيع فِي سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة بهجر من جدري هلكه فَلَا رحم الله مِنْهُ مغرز إبرة على مَا ذكره ابْن الْأَثِير وَغَيره. وَلما أَخذه القرمطي هلك تَحْتَهُ أَرْبَعُونَ جملا وَلما حمل أُعِيد إِلَى مَكَانَهُ حمل على قعُود أعجف فسمن تَحْتَهُ. قَالَ المسبحي: كَانَت مُدَّة كينونة الْحجر الْأسود عِنْد القرمطي وَأَصْحَابه اثْنَيْنِ وَعشْرين سنة إِلَّا أَرْبَعَة أَيَّام. وَفِي كتاب " السّير " من شرح الطَّحَاوِيّ لأبي بكر الرَّازِيّ: اسْتِحْقَاق الْقَتْل لَا يَزُول عَن القرامطة المتسمية بالباطنية لعنهم الله بزعمهم أَنهم مقرون بِكَلِمَة التَّوْحِيد والنبوة؛ لأَنهم ينقضون ذَلِك للْحَال بقَوْلهمْ: إِن للشريعة بَاطِنا مرَادا غير مَا نقلته الْأمة، وَكَذَلِكَ أشباههم من معاير الْمُلْحِدِينَ. انْتهى. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي " العبر " فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَأَرْبَعمِائَة: تقدم بعض الباطنية من الْبَصرِيين فَضرب الْحجر الْأسود بدبوس فَقَتَلُوهُ فِي الْحَال. قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن الْعلوِي: قَامَ فَضرب الْحجر ثَلَاث ضربات. قَالَ: إِلَى مَتى يعبد الْحجر؟ وَلَا مُحَمَّد وَلَا عَليّ فيمنعني مُحَمَّد مِمَّا أَفعلهُ، فَإِنِّي الْيَوْم أهدم هَذَا الْبَيْت. فالتفاه أَكثر الْحَاضِرين وَكَانَ أَن يفلت، وَكَانَ أَحْمَر أشقر جسيماً طَويلا، وَكَانَ على بَاب الْمَسْجِد عشرَة فوارس ينصرونه فاحتسب رجل ووجأه بخنجر، ثمَّ تكاثروا عَلَيْهِ فَهَلَك وأحرق، وَقتل جمَاعَة مِمَّن اتهمَ بمعاونته واختبط الْوَفْد، وَمَال النَّاس على ركب الْبَصرِيين بالنهب، وتخشن وَجه الْحجر وتساقط مِنْهُ شظايا يسيرَة وتشقق، وَظهر مكسره أسمر يضْرب إِلَى صفرَة محبباً مثل الخشخاش، فَأَقَامَ الْحجر على ذَلِك يَوْمَيْنِ ثمَّ إِن بني شيبَة جمعُوا الفتات وعجنوه بالمسك واللك وحشوا الشقوق وطلوها بطلاء من ذَلِك فَهُوَ بَين لمن تَأمله. وَذكر ابْن الْأَثِير: أَن هَذِه الْحَادِثَة كَانَت فِي سنة أَربع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة. وَذكر المسبحي: أَن نَافِع بن مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ دخل الْكَعْبَة فِيمَن دَخلهَا للنَّظَر إِلَى الْحجر الْأسود لما كَانَ فِي الْكَعْبَة بعد رد القرامطة لَهُ، وَأَنه تَأمل الْحجر الْأسود فَإِذا

فصل في ذكر الاماكن المباركه بمكه المشرفه وحرمها وقربه التي يستحب زيارتها والصلاه والدعاء فيها رجاء بركتها

السوَاد فِي رَأسه، دون سائره وسائره أَبيض، قَالَ: وَكَانَ مِقْدَار طوله فِيمَا حررت مِقْدَار عظم الذِّرَاع، أَو كالذراع المقبوضة الْأَصَابِع، والسواد فِي وَجهه غير مَاض فِي سائره جَمِيعه. انْتهى. وَمَا ذكره الْعلوِي فِي صفة نوى الْحجر يُخَالف هَذَا. وَقيل فِي طوله أَكثر مِمَّا ذكره الْخُزَاعِيّ. وَمن آيَاته: حفظ الله لَهُ من الضّيَاع مُنْذُ أهبط إِلَى الأَرْض مَعَ مَا وَقع من الْأُمُور الْمُقْتَضِيَة لذهابه كالطوفان، وَدفن بني إياد، وكما وَقع من جرهم وَغَيرهم كَمَا قجمناه. وَمِنْهَا: أَنه لما حمل إِلَى هجر هلك تَحْتَهُ أَرْبَعُونَ جملا، فَلَمَّا أُعِيد حمل على قعُود أعجف فسمن كَمَا قدمْنَاهُ. وَقيل: هلك تَحْتَهُ ثَلَاثمِائَة بعير. وَقيل: خَمْسمِائَة. وَمِنْهَا: أَنه يطفو على المَاء إِذا وضع فِيهِ وَلَا يرسخ. وَمِنْهَا: أَنه لَا يسخن من النَّار، ذكر هَاتين الْآيَتَيْنِ ابْن أبي الدَّم فِي " الْفرق الإسلامية " فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ ابْن شَاكر الكتبي المؤرخ، وَنقل ذَلِك عَن بعض الْمُحدثين وَرَفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذِه صفة الْمَسْجِد الْحَرَام والكعبة المشرفة زَادهَا الله تَعَالَى شرفاً وتعظيماً. فصل: فِي ذكر الْأَمَاكِن الْمُبَارَكَة بِمَكَّة المشرفة وحرمها وقربه الَّتِي يسْتَحبّ زيارتها وَالصَّلَاة وَالدُّعَاء فِيهَا رَجَاء بركتها وَهَذِه الْأَمَاكِن مَسَاجِد ودور وجبال ومقابر. والمساجد أَكثر من غَيرهَا إِلَّا أَن بعض الْمَسَاجِد اشْتهر باسم المولد، وَبَعضهَا باسم الدَّار، وَسَنذكر كلا مِنْهَا على حِدة، أما مَا اشْتهر باسم الْمَسْجِد فَمن ذَلِك: مَسْجِد بِقرب المجزرة الْكَبِيرَة من أَعْلَاهَا على يَمِين الهابط إِلَى مَكَّة ويسار الصاعد مِنْهَا يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ الْمغرب على مَا هُوَ مَكْتُوب فِي حجرين بِهَذَا الْمَسْجِد؛ أَحدهمَا بِخَط عبد الرَّحْمَن بن أبي حرمى وَفِيه: أَنه عمر فِي رَجَب سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة، وَفِي الآخر: أَنه عمر فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يسْتَحبّ فِيهَا الصَّلَاة بِمَكَّة مِنْهَا: مَسْجِد بِأَعْلَى مَكَّة عِنْد سوق الْغنم عِنْد قرن " مقلة " قَالَ: ويزعمون أَن عِنْده بَايع النَّبِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس بِمَكَّة يَوْم الْفَتْح. انْتهى. وَزعم بعض أهل الْعَصْر أَن هَذَا الْمَسْجِد الَّذِي ذكره الْأَزْرَقِيّ هُوَ الَّذِي

ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا توهم هَذَا؛ لِأَن الْمَسْجِد الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ بلحف جبل وَعِنْده الْآن سوق الْغنم، وَقيل: لَيْسَ هَذَا التَّوَهُّم صَحِيحا؛ لِأَن الْجَبَل الَّذِي عِنْده هَذَا الْمَسْجِد هُوَ المشرف على الْمَرْوَة، وَيُسمى جبل الديلم كَمَا ذكره الْأَزْرَقِيّ، وَهُوَ فِي شقّ معلا مَكَّة الشَّامي، وَأما قرن مقلة الَّذِي ذكره الْأَزْرَقِيّ فقد ذكره فِي شقّ معلا مَكَّة الْيَمَانِيّ. وَالله أعلم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ فِي تَعْرِيف قرن مقلة: هُوَ قرن قد بقيت مِنْهُ بَقِيَّة بِأَعْلَى مَكَّة قَالَ: " ومقلة " رجل كَانَ يسكنهُ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَعَن ابْن جريج قَالَ: لما كَانَ يَوْم فتح مَكَّة جلس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قرن " مقلة " فَجَاءَهُ النَّاس يبايعونه بِأَعْلَى مَكَّة عِنْد سوق الْغنم. وَمن ذَلِك مَسْجِد فَوْقه بِأَعْلَى مَكَّة عِنْد الرَّدْم عِنْد بِئْر جُبَير بن مطعم يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ، وَهُوَ يعرف الْيَوْم بِمَسْجِد الرَّايَة كَمَا ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَقد بناه عبد الله بن عبيد الله بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم وعمره المعتصم بِاللَّه العباسي فِي شعْبَان سنة أَربع وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة، وعمره فِي زَمَاننَا الْأَمِير قطلبك الحامي المنجلي عِمَارَته الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْآن فِي أَوَائِل سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة. وَمن ذَلِك مَسْجِد بسوق اللَّيْل بِقرب مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُقَال لَهُ: المختبى، يزوره النَّاس كثيرا فِي صَبِيحَة الْيَوْم الثَّانِي عشر من شهر ربيع الأول من كل سنة، وَلم أر أحدا تعرض لذكره، وَلَا يعرف شَيْئا من أخباره وَمن ذَلِك مَسْجِد بِأَسْفَل مَكَّة ينْسب لأبي بكر الصّديق، وَيُقَال: إِنَّه من دَاره الَّتِي هَاجر مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة. وَمن ذَلِك مَسَاجِد خَارج مَكَّة من أَعْلَاهَا من ذَلِك مَسْجِد بِأَعْلَى مَكَّة يُقَال لَهُ:

مَسْجِد الْجِنّ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أهل مَكَّة مَسْجِد الحرس وعرفه الْأَزْرَقِيّ بِأَنَّهُ مُقَابل للحجون بِأَعْلَى مَكَّة وَأَنت مصعد على يَمِينك وَإِنَّمَا سمي مَسْجِد الحرس؛ لِأَن صَاحب الحرس كَانَ يطوف بِمَكَّة حَتَّى إِذا انْتهى إِلَيْهِ وقف عِنْده وَلم يجز حَتَّى يتوافى عِنْده عرفاؤه وحرسه يأتونه من شعب عَامر، وَإِذا توافوا عِنْده رَجَعَ منحدراً إِلَى مَكَّة قَالَ: وَهُوَ فِيمَا يُقَال لَهُ: مَوضِع الْخط الَّذِي خطّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ مَسْعُود لَيْلَة اسْتمع عَلَيْهِ الْجِنّ، قَالَ: وَهُوَ يُسمى مَسْجِد الْبيعَة. يُقَال: إِن الْجِنّ بَايعُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْموضع. وَمن ذَلِك مَسْجِد يُقَال لَهُ: مَسْجِد الشَّجَرَة بِأَعْلَى مَكَّة مُقَابل مَسْجِد الْجِنّ. يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا شَجَرَة كَانَت فِي مَوْضِعه وَهُوَ فِي مَسْجِد الْجِنّ يسْأَلهَا عَن شَيْء فَأَقْبَلت تخط بأصولها وعروقها الأَرْض حَتَّى وقفت بَين يَدَيْهِ، فَسَأَلَهَا عَمَّا يُرِيد ثمَّ أمرهَا فَرَجَعت حَتَّى انْتَهَت إِلَى موضعهَا. وَمن ذَلِك الْمَسْجِد الَّذِي يُقَال لَهُ: مَسْجِد الْإِجَابَة على يسَار الذَّاهِب إِلَى منى فِي شعب بِقرب ثنية إذاخر، وَهُوَ مَسْجِد مَشْهُور عِنْد أهل مَكَّة. يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ وَهَذَا الْمَسْجِد الْآن منخرب جدا وجدرانه سَاقِطَة إِلَّا القبلى، وَفِيه حجر مَكْتُوب فِيهِ إِنَّه مَسْجِد الْإِجَابَة، وَإنَّهُ عمر فِي سنة عشْرين وَسَبْعمائة. وَمن ذَلِك الْمَسْجِد الَّذِي يُقَال لَهُ: مَسْجِد الْبيعَة. وَهِي الْبيعَة الَّتِي بَايع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ الْأَنْصَار بِحَضْرَة عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب على مَا ذكره أهل السّير وَهَذَا الْمَسْجِد بِقرب الْعقبَة الَّتِي هِيَ حد منى من جِهَة مَكَّة، وَهُوَ وَرَاء الْعقبَة بِيَسِير إِلَى مَكَّة فِي شعب على يسَار الذَّاهِب إِلَى منى، وَفِيه حجران مَكْتُوب فِي أَحدهمَا إِن الْمَنْصُور العباسي أَمر ببنيان هَذَا الْمَسْجِد مَسْجِد الْبيعَة الَّتِي كَانَت أول بيعَة بَايع بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي الآخر ذكر أَنه مَسْجِد الْبيعَة، وَأَنه بنى فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَة، وعمره بعد ذَلِك الْمُسْتَنْصر العباسي فِي سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة، وَهُوَ الْآن منخرب جدا. وَمن ذَلِك مَسْجِد بمنى عِنْد الدَّار الْمَعْرُوفَة بدار النَّحْر بَين الْجَمْرَة الأولى وَالْوُسْطَى على يَمِين الصاعد إِلَى عَرَفَة، يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ الضُّحَى وَنحر هَدْيه على مَا هُوَ مَوْجُود فِي حجر فِيهِ مَكْتُوب ذَلِك، وَفِيه أَن الْملك قطب الدّين أَبَا بكر بن

الْملك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن أَمر بعمارته فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة. وَمن ذَلِك الْمَسْجِد الَّذِي يُقَال لَهُ، مَسْجِد الْكَبْش بمنى على يسَار الصاعد إِلَى عَرَفَة " بلحف ثبير "، وَهُوَ مَشْهُور بمنى، والكبش الَّذِي نسب هَذَا الْمَسْجِد إِلَيْهِ هُوَ الْكَبْش الَّذِي فدي بِهِ إِسْمَاعِيل أَو إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَذكر الفاكهي خَبرا عَن عَليّ يَقْتَضِي أَن هَذَا الْكَبْش نحر بَين الْجَمْرَتَيْن بمنى، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَن إِبْرَاهِيم نحر الْكَبْش فِي المنحر الَّذِي ينْحَر فِيهِ الْخُلَفَاء الْيَوْم. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَذَلِكَ فِي سفح الْجَبَل الْمُقَابل لَهُ يَعْنِي: الْمُقَابل لثبير وَأَشَارَ الْمُحب بذلك إِلَى الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ الْيَوْم دَار النَّحْر بمنى فَإِن أمامها ينْحَر هدى صَاحب الْيمن، وَهُوَ بِقرب الْمَسْجِد الَّذِي تقدم ذكره قبل هَذَا الْمَسْجِد. وَمن ذَلِك مَسْجِد الْخيف وَهُوَ مَسْجِد مَشْهُور عَظِيم الْفضل، تقدّمت فضائله فِي كتاب الْمَنَاسِك، وَتقدم تَعْرِيف مَوضِع مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه الْأَحْجَار الَّتِي بَين يَدي المنارة وَهَذَا الْموضع مَعْرُوف عِنْد النَّاس إِلَى الْآن. وَذكر الْأَزْرَقِيّ صفته وذرعه وَعدد أبوابه. والمنارة الَّتِي فِيهَا الْآن عمرها الْملك المظفر صَاحب الْيمن فِي سنة أَربع وَسبعين وسِتمِائَة وفيهَا عمر مَا تشعث من مَسْجِد الْخيف، وَمِمَّنْ عمره وَالِد

الْخَلِيفَة العباسي النَّاصِر واسْمه مَكْتُوب على بَابه الْكَبِير، وعمره من قبل ذَلِك الْجواد وَزِير صَاحب الْموصل، وعمره فِي سنة عشْرين وَسَبْعمائة تَاجر دمشقي يُقَال لَهُ ابْن الْمرْجَانِي بأزيد من عشْرين ألف دِرْهَم وَعمر فِيهِ بعد ذَلِك مَوَاضِع وَهُوَ الْآن كثيرا تشعث. وَمن ذَلِك مَسْجِد عَن يَمِين الْموقف يعرف بِمَسْجِد إِبْرَاهِيم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَلَيْسَ هُوَ بِمَسْجِد عَرَفَة الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الإِمَام بِعَرَفَة. وَمن ذَلِك مَسْجِد التَّنْعِيم حَيْثُ أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الرَّحْمَن يعمر عَائِشَة مِنْهُ، وَتقدم بِعَرَفَة فِي الْبَاب الرَّابِع عشر. وَمن ذَلِك مَسْجِد بِذِي طوى نزل هُنَالك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اعْتَمر وَحين حج تَحت سَمُرَة فِي مَوضِع الْمَسْجِد قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي " المثير ": وبنته زبيدة. وَمن ذَلِك مَسْجِد بأجياد، وَفِيه مَوضِع يُقَال لَهُ المتكئ يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتكئ هُنَاكَ ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ والأزرقي، وَقَالَ: سَمِعت جدي أَحْمد بن مُحَمَّد ويوسف بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم يسألان عَن المتكئ وَهل صَحَّ عِنْدهمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتكئ فِيهِ؟ فرأيتهما ينكران ذَلِك، ويقولان: لم نسْمع بِهِ من ثَبت. قَالَ: قَالَ جدي: سَمِعت جمَاعَة من أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن أَمر المتكئ لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم، بل يضعفونه غير أَنهم يثبتون أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بأجياد الصَّغِير لَا يثبت ذَلِك الْموضع وَلَا يُوقف عَلَيْهِ. قَالَ: وَلم أسمع أحدا من أهل مَكَّة يثبت أَمر المتكئ. وَمن ذَلِك مَسْجِد على جبل أبي قبيس يُقَال لَهُ: مَسْجِد إِبْرَاهِيم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: سَمِعت يُوسُف بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم يسْأَل عَنهُ هَل هُوَ مَسْجِد إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن عَلَيْهِ السَّلَام؟ فرأيته يُنكر ذَلِك وَيَقُول: إِنَّمَا قيل هَذَا حَدِيثا من الدَّهْر، وَلم أسمع أحدا من أهل الْعلم يُثبتهُ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَسَأَلت جدي عَنهُ فَقَالَ لي: مَتى بنى هَذَا الْمَسْجِد؟ إِنَّمَا بنى حَدِيثا من الدَّهْر. وَلَقَد سَمِعت بعض أهل الْعلم من أهل مَكَّة يسْأَل عَنهُ

أهل الْمَسْجِد مَسْجِد إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن فينكر ذَلِك، وَيَقُول: هَل هُوَ مَسْجِد إِبْرَاهِيم القبيسي إِنْسَان كَانَ فِي جبل أبي قبيس يسْأَل عِنْده. انْتهى. وَمن ذَلِك مَسْجِد بِقرب مَسْجِد الْخيف من جَانِبه يعرف بِمَسْجِد المرسلات، فِيهِ نزل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُورَة المرسلات، وَفِيه غَار وَهُوَ مَشْهُور الْيَوْم بمنى خلف مَسْجِد الْخيف، أَسْفَل الْجَبَل مِمَّا يَلِي الْيمن، كَذَلِك يأثره الْخلف عَن السّلف. وَقد تقدم ذكره فِي الْكتاب الْمَشْهُور. وَمن ذَلِك مَسْجِد الْجِعِرَّانَة أحرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هُنَالك. وَتقدم ذكره فِي الْبَاب الرَّابِع عشر من الْمَنَاسِك. وَمن ذَلِك مَسْجِد يُقَال لَهُ: مَسْجِد الْفَتْح بِقرب الجموم من وَادي مر يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ، وعمّر هَذَا الْمَسْجِد أَبُو نمى صَاحب مَكَّة على مَا ذكر، ثمَّ السَّيِّد حناش بن رَاجِح، وبيضه فِي عصرنا وَرفع أبوابه السَّيِّد الشريف حسن بن عجلَان صَاحب مَكَّة، وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي تَارِيخه مَسَاجِد أخر غير مَعْرُوفَة الْآن فاختصرناها. لَهُ المتكئ يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتكئ هُنَاكَ ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ والأزرقي، وَقَالَ: سَمِعت جدي أَحْمد بن مُحَمَّد ويوسف بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم يسألان عَن المتكئ وَهل صَحَّ عِنْدهمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتكئ فِيهِ؟ فرأيتهما ينكران ذَلِك، ويقولان: لم نسْمع بِهِ من ثَبت. قَالَ: قَالَ جدي: سَمِعت جمَاعَة من أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن أَمر المتكئ لَيْسَ بِالْقَوِيّ عِنْدهم، بل يضعفونه غير أَنهم يثبتون أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بأجياد الصَّغِير لَا يثبت ذَلِك الْموضع وَلَا يُوقف عَلَيْهِ. قَالَ: وَلم أسمع أحدا من أهل مَكَّة يثبت أَمر المتكئ. وَمن ذَلِك مَسْجِد على جبل أبي قبيس يُقَال لَهُ: مَسْجِد إِبْرَاهِيم. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: سَمِعت يُوسُف بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم يسْأَل عَنهُ هَل هُوَ مَسْجِد إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن عَلَيْهِ السَّلَام؟ فرأيته يُنكر ذَلِك وَيَقُول: إِنَّمَا قيل هَذَا حَدِيثا من الدَّهْر، وَلم أسمع أحدا من أهل الْعلم يُثبتهُ. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَسَأَلت جدي عَنهُ فَقَالَ لي: مَتى بنى هَذَا الْمَسْجِد؟ إِنَّمَا بنى حَدِيثا من الدَّهْر. وَلَقَد سَمِعت بعض أهل الْعلم من أهل مَكَّة يسْأَل عَنهُ أهل الْمَسْجِد مَسْجِد إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن فينكر ذَلِك، وَيَقُول: هَل هُوَ مَسْجِد إِبْرَاهِيم القبيسي إِنْسَان كَانَ فِي جبل أبي قبيس يسْأَل عِنْده. انْتهى. وَمن ذَلِك مَسْجِد بِقرب مَسْجِد الْخيف من جَانِبه يعرف بِمَسْجِد المرسلات، فِيهِ نزل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُورَة المرسلات، وَفِيه غَار وَهُوَ مَشْهُور الْيَوْم بمنى خلف مَسْجِد الْخيف، أَسْفَل الْجَبَل مِمَّا يَلِي الْيمن، كَذَلِك يأثره الْخلف عَن السّلف. وَقد تقدم ذكره فِي الْكتاب الْمَشْهُور. وَمن ذَلِك مَسْجِد الْجِعِرَّانَة أحرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هُنَالك. وَتقدم ذكره فِي الْبَاب الرَّابِع عشر من الْمَنَاسِك. وَمن ذَلِك مَسْجِد يُقَال لَهُ: مَسْجِد الْفَتْح بِقرب الجموم من وَادي مر يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ، وعمّر هَذَا الْمَسْجِد أَبُو نمى صَاحب مَكَّة على مَا ذكر، ثمَّ السَّيِّد حناش بن رَاجِح، وبيضه فِي عصرنا وَرفع أبوابه السَّيِّد الشريف حسن بن عجلَان صَاحب مَكَّة، وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي تَارِيخه مَسَاجِد أخر غير مَعْرُوفَة الْآن فاختصرناها. وَأما الْمَوَاضِع الْمُبَارَكَة بِمَكَّة الْمَعْرُوفَة بالمواليد: فَاعْلَم أَن هَذِه الْمَوَاضِع مَسَاجِد لَكِنَّهَا مَشْهُورَة عِنْد النَّاس باسم المواليد فأفردت عَن الْمَسَاجِد بِالذكر لهَذَا الْمَعْنى، وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عِنْد أهل مَكَّة مَشْهُور فِي الْموضع الْمَعْرُوف بسوق اللَّيْل. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: الْبَيْت الَّذِي ولد فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ فِي دَار مُحَمَّد بن يُوسُف، كَانَ عقيل بن أبي طَالب أَخذه حِين هَاجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه فِي غَيره يَقُول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام حجَّة الْوَدَاع " وَهل ترك لنا عقيل من ظلّ؟ " فَلم يزل بِيَدِهِ وبيد وَلَده حَتَّى بَاعه وَلَده من

مُحَمَّد بن يُوسُف أَخ الْحجَّاج فَأدْخلهُ فِي دَاره الَّتِي يُقَال لَهَا الْبَيْضَاء ثمَّ تعرف بدار ابْن يُوسُف، فَلم يزل ذَلِك الْبَيْت فِي الدَّار حَتَّى حجت الخيزران أم الخليفتين مُوسَى الْهَادِي وَهَارُون الرشيد فَجَعَلته مَسْجِدا تصلي فِيهِ وأخرجته من الدَّار، وأشرعته فِي الزقاق الَّذِي على أصل تِلْكَ الدَّار يُقَال لَهُ: زقاق المولد. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: سَمِعت جدي ويوسف بن مُحَمَّد يثبتان أَمر المولد وَأَنه ذَلِك الْبَيْت لَا اخْتِلَاف فِيهِ عِنْد أهل مَكَّة، وَعَن سُلَيْمَان بن أبي مرحب مولى بني جشم قَالَ: حَدثنِي نَاس كَانُوا يسكنون ذَلِك الْبَيْت قبل أَن تنزعه الخيزران من الدَّار ثمَّ انتقلوا عَنهُ حِين جعل مَسْجِدا، قَالُوا: لَا وَالله مَا أَصَابَنَا فِيهِ جَائِحَة وَلَا حَاجَة فأخرجنا مِنْهُ فَاشْتَدَّ الزَّمَان علينا. رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ. وَمَوْضِع سقطه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْمَسْجِد مَعْرُوف حَتَّى الْآن، وَهُوَ مَوضِع مثل التَّنور الصَّغِير. قَالَ السُّهيْلي: ولد بِالشعبِ وَقيل: بِالدَّار الَّتِي عِنْد الصَّفَا، وَكَانَت بعد لمُحَمد بن يُوسُف أَخ الْحجَّاج ثمَّ بنتهَا زبيدة مَسْجِدا حِين حجت. انْتهى. وَهَذَا غَرِيب وَأغْرب من هَذَا مَا قيل: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولد بالردم. وَقيل: بعسفان. ذكر هذَيْن الْقَوْلَيْنِ مغلطاي فِي سيرته. وَالْمرَاد بالردم: دور بني جمح بِمَكَّة على مَا ذكر الْبكْرِيّ، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ الرَّدْم الَّذِي بِأَعْلَى مَكَّة؛ لِأَن ذَلِك لم يكن إِلَّا فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ، وَالْمَعْرُوف من مَوضِع مولده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا سبق. وَمِمَّنْ عمّر هَذَا الْبَيْت الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا النَّاصِر العباسي سنة سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة، ثمَّ المظفر صَاحب الْيمن فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة، ثمَّ حفيده الْملك الْمُجَاهِد عَليّ بن الْمُؤَيد سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة وَبعد ذَلِك غير مرّة. وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مولد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا الْموضع مَشْهُور عِنْد النَّاس بِقرب مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَعْلَى الشّعب الَّذِي فِيهِ المولد وَلم يذكرهُ الْأَزْرَقِيّ، وَذكره ابْن جُبَير. وعَلى بَابه حجر مَكْتُوب فِيهِ هَذَا مولد أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب، وَفِيه ربى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي الْحجر مَكْتُوب إِن النَّاصِر العباسي أَمر بِعَمَلِهِ فِي سنة ثَمَان وسِتمِائَة. وَقيل: ولد عَليّ بن أبي طَالب فِي جَوف الْكَعْبَة. وَهَذَا ضَعِيف عِنْد الْعلمَاء

كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي " تَهْذِيب الْأَسْمَاء ". وَالْمَعْرُوف مَا قدمْنَاهُ. وَفِي هَذَا الْبَيْت مَوضِع مثل التَّنور يُقَال: إِنَّه مسْقط رَأس عَليّ بن أبي طَالب. قَالَ سعد الدّين الإسفرائيني فِي كتاب " زبدة الْأَعْمَال ": وَفِي جِدَاره فِي الزاوية حجر مركب يُقَال: كَانَ هَذَا الْحجر يكلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مَوضِع حَمْزَة بن عبد الْمطلب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِأَسْفَل مَكَّة بِقرب بَاب الماجن عِنْد عين باذان. وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مولد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي الْجَبَل الَّذِي تسميه أهل مَكَّة النوبى بِأَسْفَل مَكَّة. وَمِنْهَا: الْموضع الَّذِي يُقَال لَهُ: مولد جَعْفَر بن أبي طَالب فِي الدَّار الْمَعْرُوفَة بدار أبي سعيد عِنْد دَار العجلة، وعَلى بَابه حجر مَكْتُوب فِيهِ: هَذَا مولد جَعْفَر الصَّادِق ودخله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه أَن بعض المجاورين عمره فِي صفر سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة. وَأما الدّور الْمُبَارَكَة بِمَكَّة: فَاعْلَم أَن بِمَكَّة دوراً مباركة مَعْرُوفَة عِنْد النَّاس غالبها مَسَاجِد، وَلكنهَا اشتهرت بالدور عِنْد أهل مَكَّة فَلذَلِك أفردناها بِالذكر عَن الْمَسَاجِد. مِنْهَا: دَار أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا بالزقاق الْمَعْرُوف بزقاق الْحجر، وَيُقَال لَهُ قَدِيما: زقاق العطارين كَمَا ذكره الْأَزْرَقِيّ. وَيُقَال لهَذِهِ الدَّار: مولد فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا لِأَن فِيهَا ولدت. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ يسكنهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَدِيجَة، وفيهَا ابْنَتي بخديجة، وَولدت فِيهَا أَوْلَادهَا جَمِيعًا، وفيهَا توفيت، فَلم يزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا سَاكِنا حَتَّى خرج إِلَى الْمَدِينَة مُهَاجرا، فَأَخذهَا عقيل بن أبي طَالب، واشتراها مِنْهُ مُعَاوِيَة وَهُوَ خَليفَة فَجَعلهَا مَسْجِدا يصلى فِيهِ وبناها بناءها هَذَا، وَفتح مُعَاوِيَة فِيهَا بَابا من دَار أبي سُفْيَان بن حَرْب وَهُوَ قَائِم إِلَى الْيَوْم وَهِي الدَّار الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن ". قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَفِي بَيت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا

هَذَا صفيحة من حجر مَبْنِيّ عَلَيْهَا فِي الْجدر جدر الْبَيْت الَّذِي يسكنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اتخذ قُدَّام الصفيحة مَسْجِدا، وَهَذِه الصفيحة مُسْتَقلَّة فِي الْجدر من الأَرْض قدر مَا يجلس تحتهَا الرجل، وذرعها ذِرَاع فِي ذِرَاع وشبر. قَالَ الْأَزْرَقِيّ: سَأَلت جدي ويوسف بن مُحَمَّد وَغَيرهمَا من أهل الْعلم من أهل مَكَّة عَن هَذِه الصفيحة وَلم جعلت هُنَاكَ، وَقلت لَهُم: إِنِّي أسمع النَّاس يَقُولُونَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجلس تَحت تِلْكَ الصفيحة فيستدرى بهَا من الرَّمْي بِالْحِجَارَةِ إِذا جَاءَهُ من دَار أبي لَهب وَدَار عدي بن أبي الْحَمْرَاء الثَّقَفِيّ، فأنكروا ذَلِك وَقَالُوا: لم نسْمع بِهَذَا من ثَبت، وَلَقَد سمعنَا من يذكرهَا من أهل الْعلم فَأصْبح مَا انْتهى إِلَيْنَا من خبر ذَلِك أَن أهل مَكَّة كَانُوا يتخذون فِي بُيُوتهم صَفَائِح من حِجَارَة تكون شبه الرفاف، يوضع عَلَيْهَا الْمَتَاع وَالشَّيْء من الصبى والداجن يكون فِي الْبَيْت، فَقل بَيت يَخْلُو من تِلْكَ الرفاف. انْتهى. وغالب هَذِه الدَّار الْآن على صفة الْمَسْجِد وفيهَا قبَّة يُقَال لَهَا: قبَّة الْوَحْي. قَالَ سعد الدّين الإسفرائيني وَفِي هَذِه الْقبَّة حُفْرَة عِنْد الْبَاب يَقُول: كَانَ يجلس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا وَقت نزُول الْوَحْي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام يجلس فِي محراب الْقبَّة. انْتهى. وَإِلَى جنبها مَوضِع يزوره النَّاس مَعهَا يسمونه المختبئ، ويتصل بِهَذِهِ الْقبَّة أَيْضا الْموضع الَّذِي ولدت فِيهِ فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا. قَالَ سعد الدّين الإسفرائيني: وَفِي بَيت من بيُوت هَذِه الدَّار حُفْرَة مثل التَّنور يَقُولُونَ: إِنَّهَا مسْقط رَأس فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: هَذِه الدَّار أفضل الْأَمَاكِن بعد الْمَسْجِد الْحَرَام. وَمِمَّنْ عمرها النَّاصِر العباسي، وَعمر مِنْهَا شَيْء فِي دولة الْملك الْأَشْرَف شعْبَان صَاحب مصر، وَفِي أول دولة الْملك النَّاصِر فرج صَاحب مصر، وَمِمَّا عمر فِي دولته قبَّة الْوَحْي بعد سُقُوطهَا، وَيذكر أَن الْقبَّة الَّتِي كَانَت قبل هَذِه الْقبَّة من عمَارَة الْملك المظفر صَاحب الْيمن، وَفِي الرواق الْمُقدم من هَذِه الدَّار مَكْتُوب: إِن المقتدر العباسي أَمر بِعَمَلِهِ، وَإِلَى جَانب هَذِه الدَّار حوش كَبِير عمره النَّاصِر العباسي، وَوَقفه على مصَالح دَار خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا على مَا هُوَ مَوْجُود فِي حجر مَكْتُوب فِيهِ ذَلِك على بَاب الحوش، وَفِيه أَيْضا إِن هَذَا الْموضع مربد فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا. وَمِنْهَا: دَار أبي بكر الصّديق بزقاق الْحجر وَيُقَال لَهُ: زقاق الْمرْفق أَيْضا، وَهَذِه الدَّار مَعْرُوفَة مَشْهُورَة، وعَلى

بَابهَا حجر مَكْتُوب فِيهِ: إِنَّهَا دَار أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَإِنَّهَا عمرت بِأَمْر الْأَمِير الْكَبِير نور الدّين عمر بن عَليّ بن رَسُول الْملك المَسْعُودِيّ فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، ويقابل هَذِه الدَّار حجر فِي جِدَار يُقَال: إِنَّه الَّذِي كلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا ذكره ابْن رشيد بِضَم الرَّاء فِي رحلته نقلا عَن الْعلم أَحْمد بن أبي بكر بن خَلِيل الْعَسْقَلَانِي، عَن عَمه سُلَيْمَان بن خَلِيل، عَن ابْن أبي الصَّيف عَن الميانشي عَن كل من لقِيه بِمَكَّة، وَذكر ذَلِك ابْن جُبَير وَالنَّاس يتبركون بمسح هَذَا الْحجر إِلَى الْآن. وَذكر سعد الدّين الإسفرائيني فِي كتاب " زبدة الْأَعْمَال ": أَن أهل مَكَّة يَمْشُونَ فِي المواليد من دَار خَدِيجَة إِلَى مَسْجِد يَقُولُونَ: إِنَّه كَانَ دكان أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَبِيع فِيهِ الْخَزّ، وَأسلم فِيهِ على يَد عُثْمَان بن عَفَّان وَطَلْحَة بن الزبير وَغَيرهم من الصَّحَابَة قَالَ وَفِي جِدَار هَذَا الدّكان أثر مرفق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرْوى: أَنه جَاءَ دكان أبي بكر ذَات يَوْم واتكئ على هَذَا الْجِدَار ونادى بِأبي بكر مرَّتَيْنِ. قَالَ: وَفِي هَذَا الزقاق حجر مركب على جِدَار يزوره النَّاس وَيَقُولُونَ: هَذَا الْحجر سلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَالِي بعث. انْتهى. وروى التِّرْمِذِيّ وَمُسلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عَليّ قبل أَن ينزل على ". قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: وَفِي بعض المسندات زِيَادَة أَن هَذَا الْحجر الَّذِي كَانَ يسلم عَلَيْهِ هُوَ الْحجر الْأسود. قَالَ: وَهَذَا التَّسْلِيم الْأَظْهر فِيهِ أَن يكون حَقِيقَة، وَأَن يكون الله أنطقه إنطاقاً كَمَا خلق الحنين فِي الْجذع، وَلَيْسَ من شَرط الْكَلَام الَّذِي هُوَ حرف وَصَوت الْحَيَاة وَالْعلم والإرادة؛ لِأَنَّهُ صَوت كَسَائِر الْأَصْوَات، وَالصَّوْت عرض فِي قَول الْأَكْثَرين، وَلم يُخَالف فِيهِ إِلَّا النظام فَإِنَّهُ زعم أَنه جسم وَجعله الْأَشْعَرِيّ اصطكاكاً فِي الْجَوَاهِر بَعْضهَا لبَعض فَهُوَ عِنْده من الأكوان وَقَالَ أَبُو بكر بن الطّيب: لَيْسَ الصَّوْت نفس الاصطكاك وَلكنه معنى زَائِد عَلَيْهِ. قَالَ السُّهيْلي: وَلَو قَدرنَا الْكَلَام صفة قَائِمَة بِنَفس الْحجر، وَالصَّوْت عبارَة عَنهُ، لم يكن بُد من اشْتِرَاط الْحَيَاة وَالْعلم مَعَ الْكَلَام، وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ، أَكَانَ كلَاما مَقْرُونا بحياة وَعلم، فَيكون الْحجر بِهِ مُؤمنا، أم كَانَ صَوتا

مُجَردا غير مقرون بحياة؟ وَفِي كلا الْوَجْهَيْنِ هُوَ علم من أَعْلَام النُّبُوَّة. وَأما حنين الْجذع فقد سمي حنيناً، وَحَقِيقَة الحنين تَقْتَضِي شَرط الْحَيَاة، وَيحْتَمل تَسْلِيم الْحِجَارَة أَن يكون مُضَافا فِي الْحَقِيقَة إِلَى مَلَائِكَة يسكنون تِلْكَ الْأَمَاكِن ويعمرونها فَيكون مجَازًا من بَاب قَوْله: " واسأل الْقرْيَة ". وَالْأول أظهر. انْتهى كَلَامه. الزقاق حجر مركب على جِدَار يزوره النَّاس وَيَقُولُونَ: هَذَا الْحجر سلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَالِي بعث. انْتهى. وروى التِّرْمِذِيّ وَمُسلم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عَليّ قبل أَن ينزل على ". قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف: وَفِي بعض المسندات زِيَادَة أَن هَذَا الْحجر الَّذِي كَانَ يسلم عَلَيْهِ هُوَ الْحجر الْأسود. قَالَ: وَهَذَا التَّسْلِيم الْأَظْهر فِيهِ أَن يكون حَقِيقَة، وَأَن يكون الله أنطقه إنطاقاً كَمَا خلق الحنين فِي الْجذع، وَلَيْسَ من شَرط الْكَلَام الَّذِي هُوَ حرف وَصَوت الْحَيَاة وَالْعلم والإرادة؛ لِأَنَّهُ صَوت كَسَائِر الْأَصْوَات، وَالصَّوْت عرض فِي قَول الْأَكْثَرين، وَلم يُخَالف فِيهِ إِلَّا النظام فَإِنَّهُ زعم أَنه جسم وَجعله الْأَشْعَرِيّ اصطكاكاً فِي الْجَوَاهِر بَعْضهَا لبَعض فَهُوَ عِنْده من الأكوان وَقَالَ أَبُو بكر بن الطّيب: لَيْسَ الصَّوْت نفس الاصطكاك وَلكنه معنى زَائِد عَلَيْهِ. قَالَ السُّهيْلي: وَلَو قَدرنَا الْكَلَام صفة قَائِمَة بِنَفس الْحجر، وَالصَّوْت عبارَة عَنهُ، لم يكن بُد من اشْتِرَاط الْحَيَاة وَالْعلم مَعَ الْكَلَام، وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ، أَكَانَ كلَاما مَقْرُونا بحياة وَعلم، فَيكون الْحجر بِهِ مُؤمنا، أم كَانَ صَوتا مُجَردا غير مقرون بحياة؟ وَفِي كلا الْوَجْهَيْنِ هُوَ علم من أَعْلَام النُّبُوَّة. وَأما حنين الْجذع فقد سمي حنيناً، وَحَقِيقَة الحنين تَقْتَضِي شَرط الْحَيَاة، وَيحْتَمل تَسْلِيم الْحِجَارَة أَن يكون مُضَافا فِي الْحَقِيقَة إِلَى مَلَائِكَة يسكنون تِلْكَ الْأَمَاكِن ويعمرونها فَيكون مجَازًا من بَاب قَوْله: " واسأل الْقرْيَة ". وَالْأول أظهر. انْتهى كَلَامه. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه فِي ذكر تَسْلِيم الْحجر وَالشَّجر عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن جَابر بن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنِّي لأعرف حجرا بِمَكَّة كَانَ يسلم عليّ قبل أَن أبْعث، وَإِنِّي لأعرفه الْآن ". أخرجه مُسلم وَأَبُو حَاتِم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: " كَانَ يسلم عليّ ليَالِي بعثت ". وَقَالَ: حسن غَرِيب. وَقَالَ عِيَاض: قيل: إِنَّه الْحجر الْأسود. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَالظَّاهِر أَنه غَيره، فَإِن شَأْن الْحجر الْأسود عَظِيم، وَلَو كَانَ إِيَّاه لذكر وَلما أنكرهُ، قَالَ: وَالْيَوْم بِمَكَّة حجر عِنْد أبنية تعرف بدكان أبي بكر، أخبرنَا شَيخنَا أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن خَلِيل أَن أكَابِر أَشْيَاخ أهل مَكَّة أخبروا أَنه الْحجر الَّذِي كَانَ يسلم عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. انْتهى كَلَام الطَّبَرِيّ. وَقَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": قيل: هُوَ الْحجر الْأسود. وَقيل: الْحجر المستطيل بِبَاب دَار أبي سُفْيَان بزقاق الْحجر. قَالَ: وَهَذَا الْحجر على الدَّار بَاقٍ إِلَى الْيَوْم. انْتهى. وَهُوَ كَذَلِك بَاقٍ إِلَى الْآن. وَمِنْهَا: دَار الأرقم بن أبي الأرقم المَخْزُومِي الْمَعْرُوفَة بدار الخيزران الَّتِي عِنْد الصَّفَا، وَالْمَقْصُود من زيارتها مَسْجِد مَشْهُور فِيهَا. ذكره الْأَزْرَقِيّ وَذكر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مختفياً فِيهِ، وَأَن فِيهِ أسلم عمر بن الْخطاب. وَقَالَ غَيره: كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستتراً فِيهِ فِي بَدْء الْإِسْلَام، وَكَانَ بِهِ اجْتِمَاع من أسلم من الصَّحَابَة، وَبِه أسلم عمر بن الْخطاب وَحَمْزَة وَغَيرهمَا، وَمِنْه ظهر الْإِسْلَام وَله أَيْضا فضل كثير، قَالَ " الأرقم " الْمرْجَانِي: وأرقم بن أبي الأرقم اشْترى الْمهْدي دَاره بسبعة عشر ألف دِرْهَم، ووهبها للخيزران أم الخليفتين الْهَادِي والرشيد.

قَالَ سعد الدّين الإسفرائيني: وَالْمَسْجِد الَّذِي فِي هَذِه الدَّار بنته جَارِيَة الْمهْدي، وَمِمَّنْ عمر هَذَا الْمَسْجِد الْوَزير الْجواد ثمَّ الْمُسْتَنْصر العباسي، وَعمر فِي آخر الْقرن الثَّامِن بعض المجاورات. وَمِنْهَا: دَار الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي بالمسعى الْمُعظم، وَهِي الْآن رِبَاط يسكنهُ الْفُقَرَاء. وَمن الدّور الْمُبَارَكَة بِمَكَّة رِبَاط الْمُوفق بِأَسْفَل مَكَّة. وَتقدم فِي كتاب الْمَنَاسِك فِي ذكر الْأَمَاكِن المستجاب فِيهَا الدُّعَاء أَنه يُسْتَجَاب فِيهِ الدُّعَاء. وَمِنْهَا: معبد الْجُنَيْد بلحف الْجَبَل الَّذِي يُقَال لَهُ: الْأَحْمَر أحد أخشبي مَكَّة، وَهُوَ مَشْهُور عِنْد النَّاس. وَقَالَ سعد الدّين الإسفرائيني: إِنَّه معبد الْجُنَيْد ومعبد إِبْرَاهِيم بن أدهم. وَأما الْجبَال الْمُبَارَكَة بِمَكَّة وحرمها: فَمِنْهَا: الْجَبَل الْمَعْرُوف بِأبي قبيس، وَهُوَ الْجَبَل المشرف على الصَّفَا وَهُوَ أحد أخشبي مَكَّة، وَالْآخر الْأَحْمَر، وَإِنَّمَا سمي أَبَا قبيس لثَلَاثَة أوجه؛ أَحدهمَا: أَنه سمي بِرَجُل من إياد يُقَال لَهُ: أَبُو قبيس بنى فِيهِ فَلَمَّا صعد الْبناء فِيهِ سمي جبل أبي قبيس كَذَا ذكر الْأَزْرَقِيّ، وَقيل: إِن هَذَا الْجَبَل من مذْحج ذكره ابْن الْجَوْزِيّ. وَالثَّانِي: أَن الْحجر الْأسود استودع فِيهِ عَام الطوفان، فَلَمَّا بنى الْخَلِيل الْكَعْبَة نَادَى أَبُو قبيس: الرُّكْن منى بمَكَان كَذَا وَكَذَا كَمَا قدمْنَاهُ. وَالثَّالِث: سمي بقبيس ابْن سالح رجل من جرهم كَانَ قد وشى بَين عَمْرو بن مضاض وَبَين ابْنة عَمه ميّة، فنذرت أَن لَا تكَلمه وَكَانَ شَدِيد الكلف بهَا، فحلق ليقْتلن قبيساً فهرب مِنْهُ فِي الْجَبَل الْمَعْرُوف بِهِ وَانْقطع خَبره، فإمَّا مَاتَ فِيهِ وَإِمَّا تردى مِنْهُ، وَهُوَ خبر طَوِيل ذكره ابْن هِشَام فِي عبر السِّيرَة. وَصحح النَّوَوِيّ فِي " التَّهْذِيب " الْوَجْه الأول، وَقَالَ: إِن الْوَجْه الثَّانِي ضَعِيف أَو غلط. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: الأول أشهر عِنْد أهل مَكَّة وَكَانَ يُسمى فِي الْجَاهِلِيَّة الْأمين؛ للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْوَجْه الثَّانِي وَهَذَا مِمَّا يقويه ويرجحه على الْوَجْهَيْنِ الْأَخيرينِ.

وَالله أعلم. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: أول جبل وَضعه الله على الأَرْض حِين مادت أَبُو قبيس ثمَّ حدثت مِنْهُ الْجبَال ذكره الْأَزْرَقِيّ والواحدي، وقبر آدم فِيهِ على مَا قَالَ وهب بن مُنَبّه فِي غَار يُقَال لَهُ: غَار الْكَنْز وَهُوَ غير مَعْرُوف الْآن. وَقيل: إِن قَبره بِمَسْجِد الْخيف بعد أَن صلى عَلَيْهِ جِبْرِيل عِنْد بَاب الْكَعْبَة حَكَاهُ الفاكهي عَن عُرْوَة بن الزبير، وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي " درياق الْقُلُوب " وَقَالَ " دَفَنته الْمَلَائِكَة بِهِ. وَقيل: عِنْد مَسْجِد الْخيف ذكره الذَّهَبِيّ، وَفِي منسك الْفَارِسِي. وَقيل: عِنْد مَنَارَة مَسْجده، وَقيل: قَبره فِي الْهِنْد فِي الْموضع الَّذِي أهبط إِلَيْهِ من الْجنَّة وَصَححهُ الْحَافِظ ابْن كثير. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: إِن قبر آدم وَإِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب ويوسف فِي بَيت الْمُقَدّس. وَقد تقدّمت هَذِه الْأَقْوَال مَعَ زِيَادَة فَوَائِد فِي أَوَائِل هَذَا الْبَاب. وَفِي أبي قبيس على مَا قيل: قبر شِيث بن آدم وَأمه حَوَّاء كَذَا ذكر الذَّهَبِيّ فِي جُزْء أَلفه فِي تَارِيخ مُدَّة آدم وبنيه؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَدفن شِيث مَعَ أَبَوَيْهِ فِي غَار أبي قبيس. وَتقدم فِي بَاب الْفَضَائِل وَغَيره حَدِيث الْكتاب الْمَوْجُود فِي الرُّكْن وَفِيه: أَن مَكَّة لَا تَزُول حَتَّى يَزُول أخشباها. وَتقدم فِي أول الْبَاب أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أذّن فِي النَّاس بِالْحَجِّ على أبي قبيس على أحد الْأَقْوَال. وَقَالَ ابْن النقاش فِي: فهم الْمَنَاسِك ": من صعد فِي كل جُمُعَة إِلَى أبي قبيس رأى الْحرم مثل الطير يزهر، وَإِن صعد إِلَى ثَوْر أَو حراء أَو ثبير كَانَ أثبت لنظره ومشاهدته، وخصوصاً ليَالِي رَجَب وَشَعْبَان ورمضان وليالي الأعياد. وجبال مَكَّة تسمى جبال فاران كَذَا وجد فِي الْفَصْل الْعشْرين من السّفر الْخَامِس عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن الرب جَاءَ من طور سيناء وأشرق من ساعين واستعلن من جبال فاران فمجئ الله من طور سيناء هُوَ إنزاله التَّوْرَاة على مُوسَى، وإشراقه من " ساعين " إنزاله الْإِنْجِيل على عِيسَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ يسكن فِي " ساعين " أَرض الْخَلِيل فِي قَرْيَة ناصرة، واستعلانه من جبال فاران إنزاله الْقُرْآن على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وفاران هِيَ جبال مَكَّة فِي قَول الْجَمِيع.

قَالَ عُلَمَاء التَّارِيخ: جَمِيع مَا عرف فِي الأَرْض من الْجبَال مائَة وَثَمَانِية وَتسْعُونَ جبلا، من أعجبها سرنديب، وَهُوَ أقرب ذرا الأَرْض إِلَى السَّمَاء. وَقيل: صَخْرَة بَيت الْمُقَدّس أقرب ذرا الأَرْض من السَّمَاء بِثمَانِيَة عشر ميلًا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ. وَطول جبل سرنديب مِائَتَان ونيف وَسِتُّونَ ميلًا، فِيهِ أثر قدم آدم وَعَلِيهِ شبه الْبَرْق، لَا يذهب شتاء وَلَا صيفاً، وَحَوله الْيَاقُوت وَفِي واديه الماس، وَفِيه الْعود والفلفل ودابة الْمسك وهر الزباد، ووادي سرنديب مُتَّصِل إِلَى قرب سيلان. وجبل الرَّدْم الَّذِي فِيهِ السد طوله سَبْعمِائة فَرسَخ، وَيَنْتَهِي إِلَى الْبَحْر المظلم. وجبل قَاف من زمردة خضراء مُحِيط بالسموات وَالْأَرْض، وَمِنْه اخضرت السَّمَاء، دائر بِالْأَرْضِ من وَرَاء الْبَحْر الْمُحِيط وَالسَّمَاء عَلَيْهِ مقببة، وَمَا أصَاب النَّاس من زمرد كَانَ مِمَّا تساقط من ذَلِك الْجَبَل. وَقَالَ وهب: أشرف ذُو القرنين على جبل فَرَأى تَحْتَهُ جبالاً صغَارًا فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْت؟ قَالَ: أَنا قَاف. قَالَ: فَمَا هَذِه الْجبَال حولك؟ قَالَ: هِيَ عروقي وَمَا من مَدِينَة إِلَّا وفيهَا عرق من عروقي، فَإِذا أَرَادَ الله أَن يزلزل مَدِينَة أَمرنِي فحركت عرقي ذَلِك فتزلزل تِلْكَ الأَرْض. فَقَالَ: يَا قَاف أَخْبرنِي بِشَيْء من عَظمَة الله تَعَالَى. قَالَ: إِن شَأْن رَبنَا لعَظيم، وَإِن ورائي أَيْضا مسيرَة خَمْسمِائَة عَام فِي خَمْسمِائَة عَام من جبال ثلج، يحطم بَعْضهَا بَعْضًا لَوْلَا هِيَ لاحترقت من حر جَهَنَّم. قَالَ الْمرْجَانِي: وَاسم جبل قَاف عيلهون قَالَ: وَلأَجل هَذَا الِاسْم منع اسْتِعْمَال تِلْكَ الحفيظة حَكَاهُ الْمَازرِيّ، قَالَ: ووراء قَاف أَرض بَيْضَاء كافورية مثل الدُّنْيَا سبع مَرَّات، وَمن خلفهَا السَّبْعَة الأبحر: أَولهَا: يبطس، الثَّانِي: قيس، الثَّالِث: الْأَصَم، الرَّابِع: المظلم، الْخَامِس: مايس، السَّادِس: السَّاكِن، السَّابِع: الباكي وَهِي مُحِيطَة بَعْضهَا بِبَعْض حَكَاهُ الْكسَائي. قَالَ وهب: خلقهَا الله فِي الْيَوْم الثَّالِث. وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لما تجلى الله لجبل طور سيناء تشظى مِنْهُ شظايا، فَنزلت بِمَكَّة ثَلَاثَة؛ حراء وقديد وثور، وبالمدينة أحد وعير وورقان ". وَعنهُ أَيْضا قَالَ: " صَار لِعَظَمَة الله سِتَّة أجبل، فَوَقَعت ثَلَاثَة بِالْمَدِينَةِ: أحد وورقان ورضوى، وَوَقعت ثَلَاثَة بِمَكَّة ثَوْر وثبير وحراء ". وَقيل: نزلت بِمَكَّة أَرْبَعَة حراء وثبير وثور وقديد. انْتهى.

قَالَ الْمرْجَانِي: وَلم نعلم أَن بحرم مَكَّة جبلا يُقَال لَهُ: قديداً، إِنَّمَا قديد بَينهَا وَبَينه مِقْدَار أَرْبَعَة أَيَّام أَو خَمْسَة. وَالطور اسْم الْجَبَل الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى، وَهُوَ أحد جبال الْجنَّة، وَعَن عَمْرو بن عَوْف قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَرْبَعَة جبال من جبال، أَو أَرْبَعَة أَنهَار من أَنهَار الْجنَّة، وَأَرْبَعَة ملاحم من ملاحم الْجنَّة ". قيل: فَمَا الأجبل؟ قَالَ: " أحد جبل يحبنا ونحبه، وَالطور من جبال الْجنَّة، ولبنان من جبال الْجنَّة وخصيب من جبال الْجنَّة وَهُوَ بِالرَّوْحَاءِ والأنهار: النّيل والفرات وسيحان وجيحان، والملاحم: بدر وَأحد وَالْخَنْدَق وخيبر ". قَالَ: التوربشتى شَارِح المصابيح وَفِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَرْبَعَة أَنهَار من أَنهَار الْجنَّة ". الحَدِيث وَجْهَان؛ أَحدهمَا: أَن نقُول: إِنَّمَا جعل الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة من أَنهَار الْجنَّة؛ لما فِيهَا من السلاسلة والعذوبة والهضم وتضمنها الْبركَة الإلهية وتشرفها بورود الْأَنْبِيَاء إِلَيْهَا وشربهم مِنْهَا، وَذَلِكَ مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عَجْوَة الْمَدِينَة: " إِنَّهَا من ثمار الْجنَّة ". وَالْآخر أَن نقُول: يحْتَمل أَنه سمى الْأَنْهَار الَّتِي هِيَ أصُول أَنهَار الْجنَّة بِتِلْكَ الْأَسَامِي؛ ليعلم أَنَّهَا فِي الْجنَّة بِمَثَابَة الْأَنْهَار الْأَرْبَعَة فِي الدُّنْيَا، أَو لِأَنَّهَا مسميات بِتِلْكَ المسميات فَوَقع الِاشْتِرَاك فِيهَا. انْتهى. وَالطور هُوَ الَّذِي أقسم الله تَعَالَى بِهِ بقوله: " وَالطور وَكتاب مسطور ". لفضله على الْجبَال إِذْ روى أَن الله أوحى إِلَى الْجبَال أَنِّي مهبط على أحدكُم أَمْرِي يُرِيد رِسَالَة مُوسَى فتطاولت كلهَا إِلَّا الطّور فَإِنَّهُ استكان لأمر الله وَقَالَ: حسبي الله. فأهبط الله الْأَمر عَلَيْهِ ذكره ابْن عَطِيَّة. وَرُوِيَ أَن

الله تَعَالَى أوحى إِلَى الْجبَال أَن السَّفِينَة أَي سفينة نوح ترسو على وَاحِد مِنْهَا فتطاولت، وَبَقِي الجودي لم يَتَطَاوَل تواضعاً لله تَعَالَى فاستوت السَّفِينَة عَلَيْهِ وَبقيت عَلَيْهِ أعواده. وَقَالَ مُجَاهِد: تشامخت الْجبَال وتطاولت لِئَلَّا ينالها الْغَرق، فعلا المَاء فَوْقهَا خَمْسَة عشر ذِرَاعا، وتواضع الجودي فَلم يغرق ورست السَّفِينَة عَلَيْهِ. وَيُقَال: إِن الجودي من جبال الْجنَّة فَلهَذَا اسْتَوَت عَلَيْهِ. وَيُقَال أكْرم الله ثَلَاثَة جبال بِثَلَاثَة نفر: الجودي بِنوح، وطور سيناء بمُوسَى، وحراء بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكره الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ: لما تواضع الجودي وخضع عز، وَلما ارْتَفع غَيره واستعلا ذل، وَهَذِه سنة الله فِي خلقه يرفع من يخشع وَيَضَع من ترفع. وَلَقَد أحسن الْقَائِل: وَإِذا تذللت الرّقاب تخضعاً ... منا إِلَيْك فعزها فِي ذلها وَمن ذَلِك قصَّة " الْقَصْوَاء " نَاقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي كَانَت لَا تسبق فسبقها قعُود لأعرابي يَوْمًا، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن حَقًا على الله أَن لَا يرفع شَيْئا فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه ". انْتهى. وبحرم مَكَّة اثْنَا عشر ألف جبل ذكره الْأَزْرَقِيّ فِي الْجبَال، وَفِي أبي قبيس انْشَقَّ الْقَمَر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذكره الْحَافِظ قطب الدّين الْحلَبِي؛ لِأَنَّهُ قَالَ: كَانَ يرى نصفه على قعيقعان وَنصفه الآخر على أبي قبيس. وَذكر القطب أَن أَبَا نعيم الْحَافِظ روى بِسَنَدِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس أَن ذَلِك يَعْنِي انْشِقَاق الْقَمَر لَيْلَة أَربع عشرَة فانشق الْقَمَر نِصْفَيْنِ نصفا على الصَّفَا وَنصفا على الْمَرْوَة. انْتهى. والصفا مَحْسُوب من أبي قبيس على مَا ذكره الْعلمَاء فَلَا يضاد مَا ذكره القطب من أَن نصف الْقَمَر على أبي قبيس. وَذكر الْقُرْطُبِيّ فِي ذَلِك خَبرا وَقَالَ: اجْتمع الْمُشْركُونَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالُوا: إِن كنت صَادِقا فاشقق لنا الْقَمَر فرْقَتَيْن؛ نصف على أبي قبيس وَنصف على قعيقعان. فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن فعلت تؤمنون بِي ". قَالُوا: نعم. وَكَانَت تِلْكَ لَيْلَة بدر فَسَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربه أَن يُعْطِيهِ مَا قَالُوا: فانشق الْقَمَر فرْقَتَيْن وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنَادي الْمُشْركين: " يَا فلَان يَا فلَان، اشْهَدُوا ". وَأما كَون الانشقاق وَقع فِي أبي قبيس فِي الْموضع الَّذِي يَقُوله النَّاس

الْيَوْم فَلم أر مَا يدل على ذَلِك، وَقد اخْتلفت الْأَحَادِيث فِي مَوضِع انْشِقَاق الْقَمَر، فَفِي مُسْند عبد حميد وَالتِّرْمِذِيّ عَن أنس أَنه وَقع بِمَكَّة. وَفِي صَحِيح مُسلم حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه وَقع بمنى. وَفِي تَفْسِير ابْن عَطِيَّة: قَالَ ابْن مَسْعُود: رَأَيْته انْشَقَّ فَذهب فرقة وَرَاء جبل حراء. وَقد تقدم فِي الْأَمَاكِن المستجاب فِيهَا الدُّعَاء أَن الدُّعَاء يُسْتَجَاب فِي أبي قبيس، وَمن عجائبه مَا ذكر الْقزْوِينِي فِي كِتَابه " عجائب الْمَخْلُوقَات ": من أَنه يزْعم النَّاس أَن من أكل عَلَيْهِ الرَّأْس المشوي يَأْمَن أوجاع الرَّأْس، قَالَ: وَكثير من النَّاس يفعل ذَلِك. انْتهى. قَالَ قوام الدّين فِي " التَّبْيِين " شرح الأخسبكتي فِي بَاب حُرُوف الْمعَانِي: لما ذكر عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن الْوَاو للتَّرْتِيب، وَقَالَ: قد أنكر عَلَيْهِ أَصْحَابه فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَول لم يقل بِهِ أحد لمُخَالفَته لموضوع اللُّغَة، ثمَّ قَالَ قوام الدّين: وَالْعجب من الْغَزالِيّ حَيْثُ قرع صِفَات الْحسن الْبَصْرِيّ وَطعن على مَالك وشنع على أبي حنيفَة فِي آخر منخوله فَقَالَ: وَأما أَبُو حنيفَة فَلم يكن مُجْتَهدا، لِأَنَّهُ لَا يعرف اللُّغَة وَعَلِيهِ يدل قَوْله: لَو رَمَاه بأبو قبيس. ثمَّ غفل عَن سَهْو إِمَامه وَلَقَد صدقُوا فِي قَوْلهم: حبك للشَّيْء يعمى ويصم. وَالْجَوَاب عَنهُ من وُجُوه: أَحدهَا: إِنَّا نقُول: لَا نسلم أَن أَبَا حنيفَة تكلم بِهَذِهِ الْكَلِمَة أصلا وَمَا ذَاك إِلَّا افتراء عَلَيْهِ، فَأَي مَسْأَلَة تعلّقت بهَا وَأي كتاب من كتب أَصْحَابه حواها، وَأي دَلِيل دلّ عَلَيْهَا، وَالله وَالله إِن بعض الظَّن إِثْم. وَالثَّانِي: فَرضنَا أَنه تكلم بِمثل هَذِه الْكَلِمَة لَكِن لَا نسلم أَنه أَخطَأ؛ لِأَنَّهُ يجوز بطرِيق الْحِكَايَة مثل هَذَا لقَوْله: وجدنَا فِي كتاب بني تَمِيم ... أَحَق الْخَيل بالركض المعار

بِرَفْع الْقَاف وَالرَّاء. وكقولهم: قَرَأت " سُورَة أنزلناها ". بِضَم سُورَة. وَقَوْلهمْ: بدأت بِالْحَمْد لله. بِضَم الدَّال، وَلَا تنكر الْحِكَايَة، وَهُوَ أَن ينْقل القَوْل على مَا كَانَ إِلَّا من لَا يمس بِعلم الْإِعْرَاب أَو من لَهُ مس من الْجُنُون، وَالْجُنُون فنون. وَالثَّالِث: فَرضنَا أَنه أَخطَأ كَمَا زعم هَذَا الْقَائِل، لَكِن لَا نسلم أَن الشَّخْص لَا يكون مُجْتَهدا إِذا أَخطَأ فِي شَيْء؛ لِأَن القَوْل بِإِصَابَة كل مُجْتَهد لَيْسَ بِمذهب الْمُسلمين، بل الْمُجْتَهد يجوز لَهُ الْخَطَأ وَالصَّوَاب؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمعصوم، ثمَّ نقُول: هلا أورد الْغَزالِيّ فِي كِتَابه مَا أَخذ أهل اللُّغَة على إِمَامه فِي أَشْيَاء من الْغَلَط.! الأول: قَوْله فِي " أَحْكَام الْقُرْآن ": " ذَلِك أدنى أَن لَا تعولُوا ". أَي: لَا تكْثر عيالكم، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَا تميلوا، وَالثَّانِي: قَوْله فِي كِتَابه هَذَا: إِن الْوَاو للتَّرْتِيب، وَإِنَّمَا هِيَ لمُطلق الْجمع. وَالثَّالِث: قَوْله فِي كِتَابه: مَاء مالح، وَإِنَّمَا هُوَ مَاء ملح؛ لقَوْله تَعَالَى: " ملح أجاج ". وَالرَّابِع قَوْله: إِذا أشلى كَلْبه يُرِيد بِهِ أغراه وَإِنَّمَا يُقَال: أشلاه إِذا استدعاه. وَالْخَامِس: الْغرم الْهَلَاك، وَإِنَّمَا الْغرم اللُّزُوم إِلَى غير ذَلِك. ثمَّ الْغَزالِيّ شنع فِي كِتَابه " المنخول " فِي أَشْيَاء من غير حجَّة على دَعْوَاهُ وَلَا دَلِيل على مَا خيل لَهُ، وَالله إِنَّا كُنَّا نعتقده غَايَة الإعتقاد لأجل مَا جمع فِي " إحيائه " من كَلِمَات الْمَشَايِخ بِالنّظرِ إِلَى الظَّاهِر، ثمَّ لما رَأينَا طعنه على الْكِبَار بِلَا إِقَامَة برهَان حصل بِنَا مِنْهُ مَا حصل، وَلَقَد صدقُوا فِي قَوْلهم: تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ. اللَّهُمَّ ارزقنا الصدْق وَالْوَفَاء وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلاً للَّذين آمنُوا وهيئ لنا من أمرنَا رشدا. انْتهى كَلَام قوام الدّين وَهَذَا لَفظه. وَمِنْهَا: جبل حراء بِأَعْلَى مَكَّة وَهُوَ مَمْدُود، وَمِنْهُم من يذهب فِيهِ إِلَى التَّذْكِير فيصرفه، وَمِنْهُم من يذهب فِيهِ إِلَى التَّأْنِيث فيمنعه الصّرْف. وَهَذَا الْجَبَل من مَكَّة على ثَلَاثَة أَمْيَال كَمَا ذكره صَاحب الْمطَالع وَغَيره، وَهُوَ مُقَابل لثبير والوادي بَينهمَا، وهما على يسَار السالك إِلَى منى، وحراء قبلي ثبير مِمَّا يَلِي شمال الشَّمْس، وَأما ثَوْر فَمن جِهَة

الْجنُوب من على يَمِين الشَّمْس، و " يُسَمِّي هَذَا الْجَبَل بَعضهم جبل النُّور "، ولعمري إِنَّه كَذَلِك لِكَثْرَة مجاورة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعبده فِيهِ، وَمَا خصّه الله فِيهِ من الْكَرَامَة بالرسالة إِلَيْهِ ونزول الْوَحْي فِيهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي غَار فِي أَعْلَاهُ مَشْهُور يأثره الْخلف عَن السّلف رَحِمهم الله ويقصدونه بالزيارة، وَأما مَا ذكر الْأَزْرَقِيّ فِي تَارِيخه فِي ذكر الْجبَال: من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى هَذَا الْجَبَل واختبئ فِيهِ من الْمُشْركين فِي غَار فِي رَأسه مشرف مِمَّا يَلِي الْقبْلَة. فَقَالَ بعض من عاصرناه: إِن هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوف، وَالْمَعْرُوف أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يختبئ من الْمُشْركين إِلَّا فِي غَار ثَوْر بِأَسْفَل مَكَّة. انْتهى. وَيُؤَيّد مَا ذكره الْأَزْرَقِيّ مَا قَالَه القَاضِي عِيَاض ثمَّ الشهيلي فِي " الرَّوْض الْأنف "، أَن قُريْشًا حِين طلبُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ على ثبير فَقَالَ لَهُ ثبير وَهُوَ على ظَهره: اهبط عني يَا رَسُول الله، فَإِنِّي أَخَاف أَن تقتل على ظَهْري فيعذبني الله، فناداه حراء إليّ يَا رَسُول الله. فَيحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اختبئ فِيهِ من الْمُشْركين فِي وَاقعَة ثمَّ اختفى فِي ثَوْر فِي وَاقعَة أُخْرَى وَهِي خبر الْهِجْرَة. وَقَالَ السُّهيْلي فِي حَدِيث الْهِجْرَة: وأحسب فِي الحَدِيث أَن ثوراً ناداه أَيْضا لما قَالَ لَهُ ثبير: اهبط عني. وَهَذَا الْغَار الَّذِي فِي الْجَبَل مَشْهُور بِالْخَيرِ وَالْبركَة؛ لحَدِيث بَدْء الْوَحْي الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأورد ابْن أبي جَمْرَة سؤالاً وَهُوَ: أَنه لم اخْتصَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَار حراء فَكَانَ يَخْلُو فِيهِ ويتحنث دون غَيره من الْمَوَاضِع وَلم يُبدلهُ فِي طول تحنثه؟ وَأجَاب عَن ذَلِك بِأَن هَذَا الْغَار لَهُ فضل زَائِد على غَيره من قبل أَن يكون فِيهِ منزوياً مجموعاً لتحنثه وَهُوَ يبصر بَيت ربه وَالنَّظَر إِلَى الْبَيْت عبَادَة، فَكَانَ لَهُ اجْتِمَاع ثَلَاث عبادات وَهِي الْخلْوَة والتحنث وَالنَّظَر إِلَى الْبَيْت، وَجمع هَذِه الثَّلَاث أولى من الِاقْتِصَار على بَعْضهَا دون بعض، وَغَيره من الْأَمَاكِن لَيْسَ فِيهِ ذَلِك الْمَعْنى، فَجمع لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المبادي كل حسن بَادِي. انْتهى. وَعَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: جَاءَت خَدِيجَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحيس وَهُوَ بحراء فَجَاءَهُ جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد هَذِه خَدِيجَة قد جاءتك تحمل حَيْسًا مَعهَا وَالله يَأْمُرك أَن تقرئها السَّلَام وتبشرها بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب لَا صخب فِيهِ وَلَا نصب، فَلَمَّا أَن رقت

خَدِيجَة قَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يَا خَدِيجَة إِن جِبْرِيل جَاءَنِي وَالله يُقْرِئك السَّلَام، ويبشرك بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب لَا صخب فِيهِ وَلَا نصب ". فَقَالَت خَدِيجَة: الله السَّلَام وَمن الله السَّلَام وعَلى جِبْرِيل السَّلَام. رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ. وَذكر الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس " عَجِيبَة قَالَ: خرجت فِي بعض الْأَيَّام إِلَى زِيَارَة حراء وَكَانَ يَوْم السبت الثَّانِي من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث وَخمسين وَسَبْعمائة، وَكَانَ يَوْم غيم فَلَمَّا كَانَ بعد الظّهْر سَمِعت لبَعض تِلْكَ الحجار فِيهِ أصواتاً عَجِيبَة فَرفعت حجرين مِنْهَا فِي كل كف حجر، فَكنت أجد رعدة الْحجر فِي يَدي وَهُوَ يَصِيح، ثمَّ إِنِّي رفعت يَدي فصاحت كل وَاحِدَة من أصابعي أَيْضا وَكَانَ مَحل الصياح قامة من الأَرْض فَمَا كَانَ على سمتها صَاح وَمَا كَانَ أرفع من ذَلِك أَو أَخفض لم يتَكَلَّم فَعلمت أَن ذَلِك تَسْبِيح فدعوت الله تَعَالَى بِمَا تيَسّر فَلَمَّا طلعت الشَّمْس سكت فقست الشَّمْس فَوجدت ظلّ كل شَيْء مثله وَمثل ربعه فقدرته بعد ذَلِك بالإسطرلان فَكَانَت تِلْكَ هِيَ السَّاعَة الْعَاشِرَة وَكَانَ صَوت الْحجر يسمع من مدى مائَة خطْوَة قَالَ: فَذكرت مَا رَأَيْته لوالدي - رَحمَه الله - فَقَالَ: وَأَنا جرى لي بحراء شبه ذَلِك وَذَلِكَ أَنا كُنَّا جمَاعَة بائتين بِهِ وَكَانَت لَيْلَة غيم فَقُمْت فِي أثْنَاء اللَّيْل وَإِذا بإبريق للْفُقَرَاء وَشبه النَّار خَارج مِنْهُ وَقد أَضَاء الْمَكَان من ذَلِك قَالَ: فأيقظت الْجَمَاعَة وَكنت أفتح كفي فَيبقى على رَأس كل إِصْبَع شعلة نَار مثل الشمع قَالَ: فَوضعت عمامتي على عكاز ورفعته فَأشْعلَ كالشعل فَذَكرنَا ذَلِك لبَعض الصَّالِحين فَقَالَ: مرت بكم سَحَابَة السّكُون. قَالَ الْمرْجَانِي: والصفتان وَاحِدَة إِلَّا أَنِّي رَأَيْت ذَلِك نَهَارا فَكَانَ ضوءاً وهم رَأَوْهُ لَيْلًا فَكَانَ نورا قَالَ: ثمَّ إِنِّي صعدت الْجَبَل أَيْضا يَوْم السبت الثَّامِن عشر من شَوَّال سنة أَربع وَخمسين وَسَبْعمائة وَكَانَ معي جمَاعَة مِنْهُم " بِهِ " فاتفق لي مثل ذَلِك وَرَآهُ الْجَمَاعَة. قَالَ الْمرْجَانِي: وحَدثني وَالِدي عَن بعض من أدْركهُ من كبراء وقته أَنه كَانَ يصعد مَعَه إِلَى حراء فِي كل عَام مرّة فيلتقط ذَلِك الشَّخْص من بعض الْحِجَارَة قَالَ: فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ: أخرج مِنْهَا نفقتي " بِهِ " الْعَام ذَهَبا إبريزاً. انْتهى كَلَام الْمرْجَانِي وَله شعر أنْشدهُ فِي فَضَائِل حراء وَمَا اخْتصَّ بِهِ من الكرامات وَهُوَ: تَأمل حراء فِي جمال محياه ... فكم من أنَاس فِي حلا حسنه تاهوا

فمما حوى من هجا لعلياه زيراً ... يفرج عَنهُ الْهم فِي حَال مرقاه بِهِ خلْوَة الْهَادِي الشَّفِيع مُحَمَّد ... وَفِيه لَهُ غَار لَهُ كَانَ يرقاه وقبلته للقدس كَانَت بغاره ... وَفِيه أَتَاهُ الْوَحْي فِي حَال مبداه وَفِيه تجلى الرّوح بالموقف الَّذِي ... بِهِ الله فِي وَقت البداءه سواهُ وَتَحْت تخوم الأَرْض فِي السَّبع أَصله ... وَمن بعد هَذَا اهتز بالسفل أَعْلَاهُ وَلما تجلى الله قدس ذكره ... لطور تشظى فَهُوَ إِحْدَى شظاياه وَمِنْهَا ثيبر ثمَّ ثَوْر بِمَكَّة ... كَذَا قد أَتَى فِي نقل تَارِيخ مبداه وَفِي طيبَة أَيْضا ثَلَاثًا نعدها ... فعيراً وورقاناً وأحداً روينَاهُ وَيقبل فِيهِ سَاعَة الظّهْر من دَعَا ... بِهِ وينادي من دَعَانَا أجبناه وَفِي أحد الْأَقْوَال فِي عقبت حرا ... أَتَى ثمَّ قابيل لهابيل غشاه وَمِمَّا حوى سرا حوته صخوره ... من التبر إكسيراً يُقَام سمعنها سَمِعت بِهِ تسبيحها غير مرّة ... وأسمعته جمعا فَقَالُوا سمعناه بِهِ مَرْكَز النُّور الإلهي مثبتاً ... فَللَّه مَا أحلى مقَاما بأعلاه قيل: كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِيهِ إِلَى الْقُدس وَقيل: إِنَّمَا كَانَ يُصَلِّي ذَلِك الْوَقْت إِلَى الْكَعْبَة ثمَّ انْتقل إِلَى بَيت الْمُقَدّس ثمَّ بعد ذَلِك تحول إِلَى الْكَعْبَة قَالُوا: وَفِي حراء رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جِبْرِيل فِي الْخلقَة الأولى لَهُ سِتّمائَة جنَاح قد سد الْأُفق. وَمِنْهَا جبل ثَوْر بِأَسْفَل مَكَّة وَسَماهُ البكرى أَبَا ثَوْر وَالْمَعْرُوف فِيهِ ثَوْر كَمَا ذكره الْأَزْرَقِيّ والمحب الطَّبَرِيّ وَهُوَ من مَكَّة على ثَلَاثَة أَمْيَال كَمَا ذكره ابْن الْحَاج وَابْن جُبَير وَقَالَ الْبكْرِيّ: إِنَّه على ميلين من مَكَّة وَإِن ارتفاعه نَحْو ميل. قَالَ الْمرْجَانِي: وسمى الْجَبَل ثوراً وَإِنَّمَا اسْمه الْمحل سمي بثور بن مَنَاة بن طائخة؛ لِأَنَّهُ كَانَ ينزله. وَصَحَّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر الصّديق اختليا فِيهِ فِي غَار بِهِ وَهُوَ مَشْهُور يأثره الْخلف عَن السّلف، وَهُوَ الَّذِي ذكره الله سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآن فِي قَوْله: ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار " وَفِي حَدِيث الْهِجْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر لَحقا بِغَار فِي جبل ثَوْر بِأَسْفَل مَكَّة فدخلاه وَأمر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ ابْنه عبد الله أَن يتسمع لَهما مَا يَقُول

النَّاس فيهمَا نَهَاره ثمَّ يأتيهما إِذا أَمْسَى بِمَا يكون فِي ذَلِك الْيَوْم من الْخَبَر وَأمر عَامر ابْن فهَيْرَة مَوْلَاهُ أَن يرْعَى غنمه نَهَاره ثمَّ يريحها عَلَيْهِمَا إِذا أَمْسَى فِي الْغَار وَكَانَت أَسمَاء بنت أبي بكر تأتيهما من الطَّعَام بِمَا يصلبهما فَأَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغَار ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بكر وَجعلت قُرَيْش فِيهِ حِين فقدوه مائَة نَاقَة لمن رده عَلَيْهِم وَكَانَ عبد الله بن أبي بكر يكون فِي قُرَيْش وَمَعَهُمْ يتسمع مَا يَقُولُونَ فِي شَأْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر ثمَّ يأتيهما إِذا أَمْسَى ويخبرهما الْخَبَر وَكَانَ عَامر ابْن فهَيْرَة مولى أبي بكر يرْعَى فِي رعيان أهل مَكَّة فَإِذا أَمْسَى أراح عَلَيْهِمَا غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فَإِذا غَدا عبد الله بن أبي بكر من عِنْدهمَا إِلَى مَكَّة اتبع عَامر ابْن فهَيْرَة أَثَره بالغنم حَتَّى يعمى عَلَيْهِم حَتَّى إِذا مَضَت الثَّلَاث وَسكن عَنْهُم النَّاس أتاهما صَاحبهمَا الَّذِي استأجراه بعيرهما وأتتهما أَسمَاء بنت أبي بكر بسفرتهما وارتجلا الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِي رِوَايَة: لما دخلا غَار ثَوْر أَمر الله العنكبوت فَنسجَتْ على بَابه والراءة فَنَبَتَتْ وحمامتين وَحْشِيَّتَيْنِ فغشيتا على بَابه فأقاما فِي الْغَار بضعَة عشر يَوْمًا ثمَّ خرج مِنْهُ لَيْلَة الِاثْنَيْنِ لأَرْبَع لَيَال خلون من شهر ربيع الأول على نَاقَته الجذعاء. قَالَت أَسمَاء: فَمَكثْنَا ثَلَاثًا لَا نَدْرِي أَيْن وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أنْشد رجل من الْجِنّ من أَسْفَل مَكَّة أبياتاً من الشّعْر وَأَن النَّاس يتبعونه يسمعُونَ صَوته وَمَا يرونه حَتَّى خرج من أَعلَى مَكَّة. ويروى أَن أَبَا بكر لما خرج مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَوَجها إِلَى الْغَار جعل يمشي طوراً أَمَامه وطوراً خَلفه وطوراً عَن يَمِينه وطوراً عَن شِمَاله قَالَ: " مَا هَذَا يَا أَبَا بكر؟ " قَالَ: يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي أذكر الرصد فَأحب أَن أكون أمامك وأتخوف الطّلب فَأحب أَن أكون خَلفك وأحفظ الطَّرِيق يَمِينا وَشمَالًا فَقَالَ: " لَا بَأْس عَلَيْك يَا أَبَا بكر إِن الله مَعنا " قَالَ: وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير مخصر الْقدَم يطَأ بِجَمِيعِ قدمه الأَرْض وَكَانَ حافياً فحفى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحمل رَسُول الله أَبُو بكر على كَاهِله حَتَّى انْتهى إِلَى الْغَار فَلَمَّا وَضعه ذهب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليدْخل فَقَالَ أَبُو بكر: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا تدخل حَتَّى أَدخل فأسبره قبلك فَدخل رَضِي الله عَنهُ فَجعل يلْتَمس بِيَدِهِ فِي ظلمَة اللَّيْل الْغَار مَخَافَة أَن يكون فِيهِ شَيْء يُؤْذِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا لم ير شَيْئا دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَا فِيهِ، فَلَمَّا

اسْتَقر بعض الْإِسْفَار رأى أَبُو بكر خرقاً فِي الْغَار فألقمه قدمه حَتَّى الصَّباح مَخَافَة أَن يخرج مِنْهُ هَامة أَو مَا يُؤْذِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: كَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغَار فعطش أَبُو بكر عطشاً شَدِيدا فَشكى إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اذْهَبْ إِلَى صدر الْغَار فَاشْرَبْ ": فَانْطَلَقت إِلَى صدر الْغَار فَشَرِبت مَاء أحلى من الْعَسَل وأبيض من اللَّبن وأزكى رَائِحَة من الْمسك ثمَّ عدت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: شربت؟ فَقلت: شربت يَا رَسُول الله فَقَالَ: " أَلا أُبَشِّرك؟ " فَقلت: بلَى فدَاك أبي وَأمي يَا رَسُول الله قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن الله أَمر الْملك الْمُوكل بأنهار الْجنان أَن أخرق نَهرا من جنَّة الفردوس إِلَى صدر الْغَار ليشْرب أَبُو بكر " قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: ولى عِنْد الله هَذِه الْمنزلَة؟ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " نعم وَأفضل وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبيا لَا يدْخل الْجنَّة مبغضك وَلَو كَانَ لَهُ عمل سبعين نَبيا ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: نظرت إِلَى أَقْدَام الْمُشْركين وَنحن فِي الْغَار وَهُوَ على رؤوسنا فَقلت: يَا رَسُول الله لَو أَن أحدهم نظر إِلَى قدمه أبصرنا تَحت قَدَمَيْهِ فَقَالَ: " يَا أَبَا بكر مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما " وَعَن طَلْحَة الْبَصْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَبِثت مَعَ صَاحِبي يَعْنِي أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ فِي الْغَار بضعَة عشر يَوْمًا

وَمَا لنا طَعَام إِلَّا ثَمَر البرير " قَالَ أَبُو دَاوُد: البرير الْأَرَاك. وَقد ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَنَّهُمَا مكثا فِي الْغَار ثَلَاثًا وَهَذَا القَوْل هُوَ الرَّاجِح لإِجْمَاع أهل التَّارِيخ عَلَيْهِ وَيحْتَمل أَن يكون كلا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحا وَوجه الْجمع أَنَّهُمَا مكثا فِي الْغَار ثَلَاثًا وَيكون معنى الحَدِيث: مكثت مَعَ صَاحِبي مختفيين من الْمُشْركين فِي الطَّرِيق والغار بضعَة عشر يَوْمًا ويروى أَن الله تَعَالَى أَمر شَجَرَة لَيْلَة الْغَار فثبتت فِي وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسترته وَأمر الله تَعَالَى حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَعَتَا بِفَم الْغَار وَأَقْبل فتيَان قُرَيْش من كل بطن رجل بِعِصِيِّهِمْ " وهراوتهم " وَسُيُوفهمْ حَتَّى إِذا كَانُوا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقدر أَرْبَعِينَ ذِرَاعا تعجل رجل مِنْهُم لينْظر فِي الْغَار فَرَأى الحمامتين بِفَم الْغَار فَرجع إِلَى أَصْحَابه فَقَالُوا لَهُ: لم تنظر فِي الْغَار؟ فَقَالَ: رَأَيْت حَمَامَتَيْنِ بِفَم الْغَار فَعلمت أَنه لَيْسَ فِيهِ أحد فَسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ فَعلم أَن الله تَعَالَى قد دَرْء عَنهُ بهما فَدَعَا لَهما وسمت عَلَيْهِمَا وَفرض أجزاءهما وانحدرا فِي الْحرم رَوَاهُ أَبُو مُصعب الْمَكِّيّ. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: اسْتَأْجر الْمُشْركُونَ رجلا يُقَال لَهُ: كرز بن عَلْقَمَة الْخُزَاعِيّ فقفا لَهُم الْأَثر حَتَّى أَتَى بهم إِلَى ثَوْر وَهُوَ بِأَسْفَل مَكَّة فَقَالَ: انْتهى إِلَى هَاهُنَا أَثَره فَمَا أَدْرِي أَخذ يَمِينا أم شمالاً أم صعد الْجَبَل

فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى فَم الْغَار قَالَ قَائِل مِنْهُم: ادخُلُوا الْغَار فَقَالَ أُميَّة بن خلف: مَا أربكم إِلَى الْغَار إِن عَلَيْهِ لعنكبوتاً كَانَ قبل مِيلَاد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ جَاءَ فَبَال فِي صدر الْغَار حَتَّى سَالَ بَوْله بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر، فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل العنكبوت وَقَالَ: " إِنَّهَا لخيل من جنود الله تَعَالَى " رَوَاهُ عبد الْملك بن مُحَمَّد النَّيْسَابُورِي فِي كتاب " شرف الْمُصْطَفى ". وَعَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ قَالَ: لما دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَار دَعَا شَجَرَة كَانَت على بَاب الْغَار فَقَالَ لَهَا: ائْتِنِي فَأَقْبَلت حَتَّى وقفت على بَاب الْغَار قَالَ: وَكَانَ الَّذِي بَال مُسْتَقْبل الْغَار عَطِيَّة بن أبي معيط. وَفِي كتاب " الدَّلَائِل " للسيرقسطي: لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَار أنبت الله تَعَالَى على بَابه وَهِي شَجَرَة مَعْرُوفَة قَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ من أغلاف الشَّجَرَة وَتَكون مثل قامة الْإِنْسَان وَلها زهر أَبيض يحشى مِنْهُ المخاد وَقيل: هِيَ شَجَرَة أم غيلَان وَفِي مُسْند الْبَزَّار أَن الله تَعَالَى أرسل حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَوَقَعَتَا على وَجه الْغَار وَأَن نسل حمام الْحرم من نسل تِلْكَ الحمامتين. ذكره السُّهيْلي. وَفِي حَدِيث الْهِجْرَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يَا أَبَا بكر مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما ". فَوَائِد مِنْهَا: بَيَان فضل أبي بكر الصّديق حَيْثُ قرنه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ وَقَالَ: " مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما " مَعْنَاهُ ثالثهما بِالْحِفْظِ والعصمة والنصر والمعونة والتسدسد وَهُوَ دَاخل فِي قَوْله تَعَالَى: " إِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون " وَقيل: هُوَ معنى قَوْله: " إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا " وَمِنْهَا عظم قدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وارتفاع شَأْنه وَتَعَالَى رتبته ومكانه عَن التأثر بنوائب الدُّنْيَا والتغير بمصائبها ومتاعبها حَيْثُ اهتم أَبُو بكر بوصولهم إِلَى بَاب الْغَار متبعين لأثرهما وَخَافَ من اطلاعهم عَلَيْهِمَا وَلم يهتم وَلم يبال بأمرهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَثَبت جأش أبي بكر وأزال روعه وطمأن نَفسه على أَن الْمُفَسّرين ذكرُوا أَن كَثْرَة خوف أبي بكر رَضِي الله عَنهُ إِنَّمَا كَانَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا لنَفسِهِ، ويروى أَنه قَالَ لما خَافَ الطّلب: يَا رَسُول الله إِن قتلت فَأَنا رجل وَاحِد وَإِن أصبت

هَلَكت الْأمة وَفِيه بَيَان عظم توكل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى فِي هَذَا الْمقَام. قَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه فَضِيلَة لأبي بكر وَهِي أجل مناقبه من أوجه أَحدهَا: هَذَا اللَّفْظ الْمُعْطى تكريمه وتعظيمه. وَثَانِيها: بذل نَفسه ومفارقته أَهله وَمَاله ورياسته فِي طَاعَة الله وَرَسُوله وملازمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعاداة النَّاس فِيهِ. وَثَالِثهَا: جعل نَفسه وقاية عَنهُ انْتهى كَلَامه قيل: وَرَابِعهَا تَخْصِيص الله تَعَالَى إِيَّاه فِي أَمر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم باستصحابه دون غَيره من سَائِر النَّاس وَمن فَوَائِد الحَدِيث بَيَان كَرَاهَة الْمكْث بَين الْكفَّار والفجار والفساق الَّذين لَا يتدينون بِالْحَقِّ وَلَا يُمكن حملهمْ عَلَيْهِ وَمِنْهَا جَوَاز التحصن بالقلاع عِنْد الْخَوْف من الْعَدو وَمِنْهَا: أَن تعهد الْأَسْبَاب فِي الحاجيات لَا يقْدَح فِي التَّوَكُّل والاعتماد على الله تَعَالَى وَمِنْهَا: أَنه يجوز الْأَخْذ بالحزم وَإِظْهَار ظن السوء المتوقع من الْعَدو، وَلَيْسَ ذَلِك من الظَّن الْمنْهِي عَنهُ لِأَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لَأَبْصَرنَا تَحت قَدَمَيْهِ وَلم يُنكر عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمِنْهَا أَنه يجوز المسافرة بالرفيق الْوَاحِد عِنْد الْحَاجة بِلَا كَرَاهَة وَإِن ورد خير الرفقاء أَرْبَعَة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يستصحب سوى أبي بكر وَمِنْهَا أَنه يجوز لأحد الْفَرِيقَيْنِ أَن يظْهر لصَاحبه خَوفه مِمَّا يخَاف مِنْهُ ليخفف عَن نَفسه ببث الشكوى وليكون صَاحبه وَاقِفًا على الْحَال مستعداً لما عساه أَن يعرض. وَمِنْهَا: أَنه يَنْبَغِي للمشكو إِلَيْهِ أَن يسكن جأش الشاكي ويعده الْجَمِيل من الله تَعَالَى ويحثه على حسن الظَّن بِهِ وَمِنْهَا: اسْتِعْمَال الْأَدَب فِي المخاطبات بِذكر الْإِنْسَان بكنيته وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يتَضَمَّن الْإِكْرَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا أَبَا بكر. وَمِنْهَا: جَوَاز التكنية بِأبي فلَان وَإِن لم يكن للمكنى ابْن مُسَمّى بذلك إِذْ لم يكن لأبي بكر ابْن يُسمى بكرا. وَعَن غَالب بن عبد الله عَن أَبِيه عَن جده أَنه قَالَ: شهِدت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لحسان بن ثَابت: " قلت فِي أبي بكر شَيْئا قل: حَتَّى أسمع " قَالَ: قلت: وَثَانِي اثْنَيْنِ فِي الْغَار المنيف وَقد ... طَاف الْعَدو بِهِ إِذْ صاعد الجبلا وَكَانَ حب رَسُول الله قد علمُوا ... من الْخَلَائق لم يعدل بِهِ بَدَلا فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي الحَدِيث: بَيَان فضل جبل ثَوْر بِمَا خصّه الله بِهَذِهِ المزية الْكَرِيمَة والمنقبة الْعَظِيمَة من بَين سَائِر الأطواد والأعلام حَيْثُ جعله متحصن خير الْأَنَام وقلعة رَسُول الله وحبيبه عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَفِيه: بَين فَضِيلَة هَذَا الْغَار الشريف على سَائِر المغائر حَيْثُ كَانَ صدفاً لأشرف الْجَوَاهِر، وكهفاً لكهف الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وكنفاً لكنف الْخَلَائق من الْأَوَّلين والآخرين وَأنْشد للرافعي: فَخص بِذكر الله خير مغار ... وَلَا تتغافل عَن هجوم مغار وَكن حذرا من غيرَة الله واستقم ... لَدَيْهِ لِئَلَّا تبتلى بصغار

وَقلت فِي " تَخْلِيص الزبدة فِي تخميس الْبردَة " عِنْد قَوْله: وَمَا حوى الْغَار من خير وَمن كرم. . الأبيات: فَهُوَ الَّذِي رِيقه يشفي من السقم ... بتفله حلت الْآبَار فِي الطّعْم فاعجب لتغريد كالدر مُنْتَظم ... وَمَا حوى الْغَار من جود وَمن كرم وكل طرف من الْكفَّار عَنهُ عمى ... لما رَأَوْا غَار ثَوْر كلهم عميا ... وَصَارَ بدر الدجى باللطف مختفيا وَقَالَ يَا صَاح لَا تحزن فَلَنْ يريَا ... فالصدق فِي الْغَار وَالصديق لم يريَا وهم يَقُولُونَ مَا بِالْغَارِ من أَدَم ... باض الْحمام بِهِ والعشب قد لمندلا ... وَالْعَنْكَبُوت أجادت نسجها حللا وشجرة الرَّاء رمت فِي قلبهم عللا ... ظنُّوا الْحمام وظنوا العنكبوت على خير الْبَريَّة لم تنسج وَلم يحم ... فكم أسود بِنَار الْحَرْب عارفة ... وَفِي مثاقفة بل فِي مسابقة وَفِي الدروع مَعَ التجفاف خائفة ... وقاية الله أغنت عَن مضاعفة من الدروع وَعَن عَال من الأطم ... قَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": وَذكر بعض الحمالين أَنه عرف رجلا كَانَ لَهُ جمَاعَة بَنِينَ وأموال كَثِيرَة وَأَنه أُصِيب فِي ذَلِك كُله فَلم يحزن على شَيْء من ذَلِك لقُوَّة صبره، قَالَ: فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ: إِنَّه روى أَن من دخل غَار ثَوْر الَّذِي آوى إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يذهب عَنهُ الْحزن لم يحزن على شَيْء من مصائب الدُّنْيَا وَقد فعلت ذَلِك فَمَا ترى مِنْهُ. قَالَ الْمرْجَانِي: والخاصة فِي ذَلِك من قَوْله تَعَالَى: " ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا ". قَالَ: وَرَأَيْت بِهَذَا الْجَبَل حَيَوَانا يُسمى الْحُلْقُوم لَهُ ألف كرَاع فِي مِائَتي رجل، ورأيته أَيْضا بِأَرْض الطَّائِف ونخله بالقدس من أَرض فلسطين. انْتهى. وَالنَّاس يدْخلُونَ غَار جبل ثَوْر من بَابه الضّيق وَمن بَابه المتسع وَبَعض النَّاس يتَجَنَّب دُخُوله من بَابه الضّيق وَيَقُولُونَ: من لم يدْخل مِنْهُ لَيْسَ لِأَبِيهِ. وَقد وسع الْبَاب الضّيق فِي زَمَاننَا لِأَن بعض النَّاس انحبس فِيهِ لما ولج فَلم يقدر أَن يخرج وَلَا يدْخل وَمكث على ذَلِك قَرِيبا من لَيْلَة فراح عَلَيْهِ المجاورون ووسعوا لَهُ وَقَطعُوا عَنهُ الْحجر

فصل ذكر السقايات بمكه المشرفه وحرمها

من الجوانب فانفتح حَتَّى اتَّسع الْموضع. وَمِنْهَا: جبل ثبير وَهُوَ جبل الْمزْدَلِفَة الَّذِي على يسَار الذَّاهِب كَمَا عرفه الْأَزْرَقِيّ وَغَيره وَقد تقدم فِي أول الْبَاب الْحَادِي عشر ضَبطه وتعريفه وَهُوَ جبل مَشْهُور عِنْد أهل مَكَّة. قَالَ الْقزْوِينِي: إِنَّه جبل مبارك يَقْصِدهُ الزوار وَتقدم النَّقْل عَن ابْن النقاش أَنه يُسْتَجَاب الدُّعَاء بِهِ وَتقدم أَيْضا قبيل هَذَا أَنه تَعَالَى لما تجلى للجبل تشظى مِنْهُ شظايا فَوَقَعت بِمَكَّة ثَلَاثًا مِنْهَا ثبير قَالَ السُّهيْلي: ذكرُوا أَن ثبيراً كَانَ رجلا من هُذَيْل مَاتَ فِي ذَلِك الْجَبَل فَعرف الْجَبَل فِيهِ. وَمِنْهَا: الْجَبَل الَّذِي يلْحقهُ مَسْجِد الْخيف وَفِيه غَار المرسلات ياثره الْخلف عَن السّلف كَمَا ذكره الْمُحب الطَّبَرِيّ وعَلى ذَلِك أدركنا النَّاس فِي عصرنا يَقُولُونَ فِي أمره وَيدل لَهُ الحَدِيث الثَّابِت فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود قَالَ: بَيْنَمَا نَحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَار بمنى إِذْ نزلت عَلَيْهِ: " والمرسلات عرفا " الحَدِيث. وَقد تقدم ذكره فِي الْفَضَائِل أول هَذَا الْفَصْل. فصل: ذكر السقايات بِمَكَّة المشرفة وحرمها وبمكة المشرفة عدَّة سقايات وَيُقَال لَهَا السبل مِنْهَا سَبِيل عَطِيَّة بن ظهيرة وسبيل قَاسم الزانكي عِنْد مَسْجِد الرَّايَة، وسبيل أم الْحُسَيْن بنت القَاضِي شهَاب الدّين أَحْمد بالمسعى وسبيل ابْن بفلحة عِنْد عين بازان بالمسعى، وسبيل السَّيِّد حسن بن عجلَان برباطه، وَمِنْهَا: خَارج مَكَّة من أَعْلَاهَا سَبِيل أم سُلَيْمَان المتصوفة، وسبيل عَطِيَّة المطيبين فِي طرف الْمقْبرَة من أَعْلَاهَا وسبيل الْقَائِد سعد الدّين جبروه فِي بستانه وسبيل إِمَامه السَّيِّد

فصل ذكر البرك بمكه وحرمها

حسن بن عجلَان وسبيل السِّت بطرِيق منى وَيُقَال لَهُ: سَبِيل ابْن مزنة باسم رجل كَانَ فِيهِ، والست الْمَنْسُوب إِلَيْهَا هَذَا السَّبِيل هِيَ أُخْت الْملك النَّاصِر حسن صَاحب مصر، وتاريخ عِمَارَته لَهَا سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة، وبمنى عدَّة سبل وَفِيمَا بَين منى وعرفة عدَّة سبل أَيْضا إِلَّا أَنَّهَا منخربة جدا وبأسفل مَكَّة مِمَّا يَلِي التَّنْعِيم عدَّة سقايات مِنْهَا سَبِيل الزنجبيلي وَيُقَال لَهُ: سَبِيل أبي رائد لتجديده لَهُ وسبيل المكين لتجديده لَهُ أَيْضا وَمِنْهَا سَبِيل السيدة زَيْنَب بنت القَاضِي أَحْمد الطَّبَرِيّ وَهُوَ الْآن منخرب معطل لخرابه وَوجد فِي حجر مَكْتُوب ملقى فِيهِ أَن الْمُقْتَدِي العباسي ووالدته أمرا بعمارة هَذِه السِّقَايَة والآبار الَّتِي وَرَاءَهَا وتصدقا بهَا فِي سنة اثْنَيْنِ وثلاثمائة وسبيل دون هَذَا السَّبِيل إِلَى مَكَّة عمره الشهَاب المكين فِي سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة وَإِلَى جَانب ذَلِك حَوْض للبهائم وَكَانَ بِمَكَّة سقايات أَكثر مِمَّا ذكرنَا قَالَ الفاكهي لما ذكر السقايات: وبمكة فِي فجاجها وشعابها من بَاب الْمَسْجِد إِلَى منى ونواحيها وَمَسْجِد التَّنْعِيم نَحْو من مائَة سِقَايَة انْتهى. فصل: ذكر البرك بِمَكَّة وحرمها فِيهَا عدَّة برك: مِنْهَا بركتان عِنْد بَاب الْمُعَلَّى متلاصقان على يسَار الْخَارِج من مَكَّة إِلَى الْمُعَلَّى جددتا فِي دولة الْملك النَّاصِر حسن صَاحب مصر سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وَمِنْهَا بركتان متلاصقتان على يَمِين الْخَارِج إِلَى الْمُعَلَّى إِحْدَاهمَا بلصق سور بَاب الْمُعَلَّى ببستان الصارم، وكانتا معطلتين فعمرت إِحْدَاهمَا فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَثَمَانمِائَة وملئت من عين بازان، وَمِنْهَا بركتان عِنْد مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسوق اللَّيْل ببستان المسلماني على مَا ذكر، وَمِنْهَا بِأَسْفَل مَكَّة بركَة يُقَال لَهَا: بركَة الماجن وبحرم مَكَّة مِمَّا يَلِي منى وعرفة عدَّة برك مِنْهَا الْبركَة الْمَعْرُوفَة ببركة السّلم وَلم يعرف من أَنْشَأَهَا وجددها الْأَمِير الْمَعْرُوف بالمك نَائِب السلطنة بِمصْر وَعمر الْعين الَّتِي تصل إِلَيْهَا المَاء من منى وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة وبطرف منى مِمَّا يَلِي الْمزْدَلِفَة وَفِي طَرِيق عَرَفَة عدَّة برك أخر معطلة أَيْضا لخرابها وبعرفة عدَّة برك وغالبها الْآن ممتلئ بِالتُّرَابِ حَتَّى صَار ذَلِك مُسَاوِيا للْأَرْض وَبَعضهَا من عمَارَة الْعَجُوز وَالِدَة الْمُقْتَدِي وَذَلِكَ خمس برك وتاريخ عمارتها سنة خمس عشرَة وثلاثمائة وَبَعضهَا عمره المظفر صَاحب إربل فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَفِيمَا بعْدهَا وَبَعضهَا عمره أقبال الرابي المستنصري العباسي فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَاسم أقبال بَاقٍ فِي بعض البرك الَّتِي حول جبل الرَّحْمَة وَعمر بَعْضهَا الْملك نَائِب السلطنة بِمصْر فِي دولة الْملك الْأَشْرَف شعْبَان صَاحب مصر.

فصل ذكر الآبار بمكه وحرمها

فصل: ذكر الْآبَار بِمَكَّة وحرمها ذكر الْأَزْرَقِيّ رَحمَه الله شَيْئا من خبر الْآبَار الْجَاهِلِيَّة والإسلامية بِمَكَّة وحرمها بِعَرَفَة، وَلَيْسَ يعرف الْآن مِمَّا ذكره إِلَّا النَّادِر، وَجُمْلَة مَا احتوى عَلَيْهِ سور مَكَّة من الْآبَار ثَمَانِيَة وَخَمْسُونَ بِئْرا، وَكلهَا مسيلة إِلَّا الْبِئْر الَّتِي فِي بَيت المطيبين بِأَعْلَى مَكَّة والبئر الَّتِي فِي بَيت الْقَائِد زين الدّين شكر مولى الشريف حسن بن عجلَان والبئر الَّتِي فِي بَيت أَحْمد بن عبد الله الدوري الْفراش بِالْحرم الشريف الْمَكِّيّ والبئر الَّتِي فِي الْبَيْت الْمَعْرُوف بِبَيْت السَّقْي بِقرب بَيت الدوري وَلم يذكر فِي ذَلِك الْآبَار الَّتِي لَا مَاء فِيهَا. وَمن الْآبَار الْمَعْرُوفَة بِمَكَّة مِمَّا ذكره الْأَزْرَقِيّ الْبِئْر الَّتِي برباط السِّدْرَة وتعرف بسجلة حفرهَا هَاشم بن عبد منَاف وَقيل: قصي قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهِي الْبِئْر الَّتِي يُقَال لَهَا: بِئْر جُبَير بن مطعم دخلت فِي دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ بَين الصَّفَا والمروة فِي أصل الْمَسْجِد الْحَرَام الَّتِي يُقَال لَهَا: دَار الْقَوَارِير أدخلها حَمَّاد الْبَرْبَرِي حِين بنى الدَّار لأمير الْمُؤمنِينَ هَارُون الرشيد وَكَانَت الْبِئْر شارعة فِي الْمَسْعَى يُقَال: إِن جبيراً ابتاعها من ولد هَاشم وَقَالَ بعض المكيين: وَهبهَا لَهُ أَسد حِين ظَهرت زَمْزَم وَيُقَال: وَهبهَا عبد الْمطلب حِين حفر زَمْزَم وَاسْتغْنى عَنْهَا لمطعم بن عدي وَأذن لَهُ أَن يضع حوضاً من أَدَم عِنْد زَمْزَم يَسْتَقِي فِيهِ مِنْهَا ويسقي الْحَاج قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهُوَ اثْبتْ الْأَقَاوِيل عندنَا انْتهى كَلَامه. وَأما الْآبَار الَّتِي بَين بَاب المعلا وَمنى فستة عشر بِئْرا فِيهَا المَاء: مِنْهَا الْبِئْر الْمَعْرُوفَة ببئر مَيْمُون بن الْحَضْرَمِيّ أَخ الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ وَهِي الْبِئْر الَّتِي فِي السَّبِيل الْمَعْرُوف بسبيل السِّت على مَا ذكره عبد الرَّحْمَن بن أبي حرمي فِي حجر مَكْتُوب بِخَطِّهِ فِي هَذَا الْبِئْر يتَضَمَّن أَن المظفر صَاحب أربل عمرها سنة أَربع وسِتمِائَة. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَكَانَت آخر بِئْر حفرت فِي الْجَاهِلِيَّة قَالَ: وَعَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَغَيرهمَا من أهل الْعلم فِي قَوْله تَعَالَى: " فَمن يأتيكم بِمَاء معِين ". قَالُوا: زَمْزَم وبئر مَيْمُون ابْن الْحَضْرَمِيّ. وَذكر بعض النَّاس أَن بِئْر مَيْمُون بطرِيق وَادي مر الظهْرَان قيل: وَفِيه نظر وَمِنْهَا الْبِئْر الْمَعْرُوفَة بصلاصل قَالَ الْأَزْرَقِيّ: وَهِي الْبِئْر الَّتِي بِفَم شعب الْبيعَة عِنْد

عقبَة منى وَالنَّاس يسمون الْبِئْر الَّتِي بِفَم هَذَا الشّعب ببركة مهير ويسمون بصلاصل بِئْرا فِي الْجَانِب الَّذِي يكون على عين الذَّاهِب إِلَى منى وَهِي بِئْر مَشْهُورَة عِنْد النَّاس بِقرب هَذِه الْبِئْر وَذكر الْأَزْرَقِيّ أَنَّهَا من الْآبَار الإسلامية وَسميت صلاصل بصلصل بن أَوْس بن محَاسِن بن مُعَاوِيَة بن شرِيف من بني عَمْرو بن تَمِيم قَالَه الفاكهي. وَأما الْآبَار الَّتِي بِمُزْدَلِفَة فَهِيَ ثَلَاثَة وَأما الْآبَار الَّتِي بِعَرَفَة فَهِيَ آبار كَثِيرَة وَالَّتِي فِيهَا المَاء الْآن ثَلَاثَة آبار وَبَعض الْآبَار الَّتِي لَا مَاء فِيهَا من عمَارَة المظفر صَاحب إربل وَبَين عَرَفَة ومزدلفة بِئْر يُقَال لَهَا: السقيا على يسَار الذّهاب إِلَى عَرَفَة. وَأما الْآبَار الَّتِي بِظَاهِر مَكَّة من أَعْلَاهَا فِيمَا بَين بِئْر مَيْمُون بن الْحَضْرَمِيّ والأعلام الَّتِي هِيَ حد الْحرم فِي طَرِيق وَادي نَخْلَة فَهِيَ خَمْسَة عشر بِئْرا مِنْهَا أَرْبَعَة آبار تعرف بآبار الْعسيلَة وَفِي رَأس طي بَعْضهَا مَا يَقْتَضِي أَن الْمُقْتَدِي العباسي أَمر بِحَفر بئرين مِنْهَا وَفِي طي بَعْضهَا مَا يَقْتَضِي أَن الْعَجُوز وَالِدَة الْمُقْتَدِي عمرتها مَعَ سقايات هُنَاكَ والبئر الرَّابِعَة من آبار الْعسيلَة جددها بِعَدَد ثورها بعض الْأُمَرَاء المصريين فِي سنة اثْنَيْنِ وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَبَقِيَّة الْآبَار لَا مَاء فِيهَا إِلَّا بِئْر لأبي بكر الْحصار وَهِي تلِي آبار الْعسيلَة وَأما الْآبَار الَّتِي بِأَسْفَل مَكَّة فِي جِهَة التَّنْعِيم فَهِيَ ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ بِئْرا بجادة الطَّرِيق مِنْهَا بِئْر الْملك الْمَنْصُور صَاحب الْيمن عِنْد سَبيله تعرف بالزاكية وَمِنْهَا الْآبَار الْمَعْرُوفَة بآبار الزَّاهِر الْكَبِير وَبَعض هَذِه الْآبَار من عمَارَة الْمُقْتَدِي العباسي، وبقرب الشبيكة آبار أخر يُقَال لَهَا: آبار الزَّاهِر الصَّغِير وَهِي ثَلَاثَة آبار مِنْهَا وَاحِدَة لَا مَاء فِيهَا وَلها قرنان فِي أَحدهمَا حجر مَكْتُوب فِيهِ تَارِيخ عمارتها وتعرف هَذِه الْآبَار بِبَطن ذِي طوى على مَا ذكره الْأَزْرَقِيّ فِي تَعْرِيف ذِي طوى وبأسفل مَكَّة أَيْضا بِئْر يُقَال لَهَا: الطنبداوية وبأسفل مَكَّة مِمَّا يَلِي بَاب الماجن عدَّة آبار مِنْهَا بِئْر بِقُرْبِهِ من خَارجه وبئر بِالشعبِ الَّذِي يُقَال لَهُ: خم بخاء مُعْجمَة مَضْمُومَة وَهُوَ غير خم الَّذِي يرْوى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: عِنْدِي غديره " من كنت مَوْلَاهُ فعليّ مَوْلَاهُ ". لِأَن خماً هَذَا عِنْد الْجحْفَة وَذكرهَا الْأَزْرَقِيّ فِي الْآبَار الَّتِي

فصل ذكر عيون مكه

بِمَكَّة قبل زَمْزَم قَالَ: وحفرها كلاب بن مرّة. قَالَ السُّهيْلي: وَهِي من خممت الْبَيْت إِذا كنسته وَيُقَال: فلَان مخموم الْقلب أَي نقيه فَكَأَنَّهَا سميت بذلك لنقائها قَالَ: وَأما غَدِير خم الَّذِي عِنْد الْجحْفَة فَسُمي بِهِ لغيضة عِنْده يُقَال لَهَا: خم فِيمَا ذكرُوا انْتهى. فصل: ذكر عُيُون مَكَّة قَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ مُعَاوِيَة قد أجْرى فِي الْحرم عيُونا وَاتخذ لَهَا أخيافاً، فَكَانَت حَوَائِط وفيهَا النّخل وَالزَّرْع ثمَّ سردها الْأَزْرَقِيّ وَذكر أَنَّهَا عشر عُيُون ثمَّ قَالَ: وَكَانَ عُيُون مُعَاوِيَة قد انْقَطَعت وَذَهَبت فَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد بعيون مِنْهَا فَعمِلت وأحييت وصرفت فِي عين وَاحِدَة ثمَّ انْقَطَعت هَذِه الْعُيُون فَكَانَ النَّاس بعد انقطاعها فِي شدَّة من المَاء وَكَانَ أهل مَكَّة والحاج يلقون من ذَلِك الْمَشَقَّة حَتَّى أَن الراوية لتبلغ فِي الْمَوْسِم عشرَة دَرَاهِم وَأكْثر وَأَقل فَبلغ ذَلِك أم جَعْفَر بنت أبي الْفضل جَعْفَر بن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور فَأمر فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة بِعَمَل بركتها الَّتِي بِمَكَّة فأجرت لَهَا عينا من الْحرم فجرت بِمَاء قَلِيل فَلم يكن فِيهِ ري لأهل مَكَّة وَقد غرمت فِي ذَلِك غرماً عَظِيما فبلغها فَأمرت المهندسين أَن يجروا لَهَا عيُونا من الْحل وَكَانَ النَّاس يَقُولُونَ: إِن مَاء الْحل لَا يدْخل الْحرم لِأَنَّهُ يمر على عِقَاب وجبال فَأرْسلت بأموال عِظَام ثمَّ أمرت من يزن عينهَا الأولى فَوجدَ فِيهَا فَسَادًا فأنشأت عينا أُخْرَى إِلَى جنبها وأبطلت تِلْكَ الْعُيُون فَعمِلت عينهَا هَذِه بِأَحْكَم مَا يكون الْعَمَل وعظمت فِي ذَلِك رغبتها وَحسنت نِيَّتهَا، فَلم تزل تعْمل فِيهَا حَتَّى بلغت ثنية جبل فَإِذا المَاء لَا يظْهر فِي ذَلِك الْجَبَل فَأمرت بِالْجَبَلِ فَضرب فِيهِ وأنفقت فِي ذَلِك من الْأَمْوَال مَا لم تكن تطيب بِهِ نفس أحد حَتَّى أجراها الله تَعَالَى لَهَا وأجرت فِيهَا عيُونا من الْحل مِنْهَا عين المشاش واتخذت لَهَا بركاً تكون السُّيُول إِذا جَاءَت تَجْتَمِع فِيهَا ثمَّ أجرت لَهَا عيُونا من حنين فَصَارَت لَهَا مكرمَة لم تكن لأحد قبلهَا وَطَابَتْ نَفسهَا بِأَن أنفقت فِيهَا مَا لم تكن تطيب بِهِ نفس أحد، فَأهل مَكَّة والحاج إِنَّمَا يعيشون بهَا بقدرة الله تَعَالَى ثمَّ

أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون صَالح بن الْعَبَّاس فِي سنة عشر وَمِائَتَيْنِ أَن يتَّخذ لَهُ برك خمس فِي السُّوق لِئَلَّا يتعنى أهل أَسْفَل مَكَّة والثنية وأجيادين إِلَى بركَة أم جَعْفَر وأجرى عينا من بركَة أم جَعْفَر من فضل ماءها فِي عين تسكب فِي بركَة الْبَطْحَاء ثمَّ تمْضِي إِلَى بركَة عِنْد الصَّفَا ثمَّ تمْضِي إِلَى بركَة عِنْد الحناطين ثمَّ تمْضِي إِلَى بركَة بفوهة سكَّة الثَّنية دون دَار أويس ثمَّ تمْضِي إِلَى بركَة عِنْد سوق الْحَطب بِأَسْفَل مَكَّة ثمَّ تمْضِي فِي سرب ذَلِك إِلَى " ماجن " أبي صلابة، ثمَّ إِلَى الماجنين اللَّذين فِي حَائِط ابْن طَارق وبأسفل مَكَّة وَكَانَ صَالح بن الْعَبَّاس لما فرغ مِنْهَا ركب بِوُجُوه النَّاس إِلَيْهَا فَوقف عَلَيْهَا حِين جرى فِيهَا المَاء وَنحر عِنْد كل بركَة جزوراً وَقسم لَحمهَا على النَّاس انْتهى كَلَام الْأَزْرَقِيّ. وَذكر المَسْعُودِيّ فِي تَارِيخه مِقْدَار مَا صرفت زبيدة وَهِي أم جَعْفَر بنت أبي الْفضل الْمَذْكُورَة فِي عمَارَة هَذِه الْعين، وَذكر فِيمَا ذكر وأحصى ألف ألف وَسَبْعمائة ألف دِينَار نقل ذَلِك المَسْعُودِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ الْمصْرِيّ الْخُرَاسَانِي الأخباري وَالظَّاهِر أَن هَذِه هِيَ عين مَكَّة الْمَعْرُوفَة اليون بِعَين بازان بباء مُوَحدَة وألفين بَينهمَا زَاي لِأَنَّهَا فِي هَذِه الْجِهَة الَّتِي ذكرهَا الْأَزْرَقِيّ. وَالله أعلم. وَقد عمر هَذِه الْعين جمَاعَة من الْخُلَفَاء والملوك، مِنْهُم الْمُسْتَنْصر العباسي فِي سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة وَفِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَمِنْهُم الْأَمِير جوبان نَائِب السلطنة بالعراقين عَن السُّلْطَان أبي سعيد بن خربيدا ملك التتر وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة ووصلت إِلَى مَكَّة فِي الْعشْر الْأَخير من جُمَادَى الأولى من هَذِه السّنة وَعم نَفعهَا وَعظم، وَكَانَ جريانها هَذَا رَحْمَة من الله تَعَالَى لأمة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُم كَانُوا فِي جهد عَظِيم بِسَبَب قلَّة المَاء بِمَكَّة وعمرت مَرَّات كَثِيرَة فِي عصرنا وَفِيمَا قبله وَمِمَّنْ أحسن أمرهَا فِي عصرنا وَقَامَ بعمارتها وَصرف عَلَيْهَا الْأَمْوَال الجزيلة الشهَاب بركوت المكين لِأَنَّهُ الَّذِي يقوم بأمرها من سنة ثَلَاث عشرَة إِلَى تَارِيخه وَهُوَ سبع عشرَة، وَمن الْعُيُون الَّتِي أجريت بِمَكَّة عين أجراها الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون صَاحب مصر سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي مجْرى عين بازان وتعرف هَذِه الْعين بِعَين جبل ثقبة وَجُمْلَة المصروف عَلَيْهَا خَمْسَة آلَاف دِرْهَم وَذَلِكَ على يَد ابْن هِلَال الدولة مشيد الْعِمَارَة وَمِنْهَا عين أجراها الْأَمِير الْمَعْرُوف بِالْملكِ نَائِب السلطنة بِمصْر فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة من منى إِلَى بركَة السّلم بطرِيق منى.

فصل ذكر المطاهر التي تمكن بمكه المشرفه مطاهر

فصل: ذكر الْمَطَاهِر الَّتِي تمكن بِمَكَّة المشرفة مطاهر مِنْهَا: مطهرة الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون صَاحب مصر عِنْد بَاب بني شيبَة، وتاريخ عمارتها سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة وفيهَا وقفت، وَمِنْهَا مطعرة الْأَمِير الْمَعْرُوف بِالْملكِ نَائِب السلطنة بِمصْر عِنْد بَاب الْحَزْوَرَة وَلَعَلَّ عِمَارَته لَهَا كَانَت فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، وَهِي الْآن معطلة، وَمِنْهَا مطهرة الْأَمِير ضرغمش الناصري أحد كبار الْأُمَرَاء فِي دولة الْملك النَّاصِر حسن صَاحب مصر وَهِي فِيمَا بَين البيمارستان المستنصري ورباط أم الْخَلِيفَة وتاريخ عِمَارَته لَهَا سنة تسع وَخمسين ثمَّ عمرت بعد ذَلِك غير مرّة، وَمِنْهَا مطهرة الْملك الشّرف شعْبَان صَاحب مصر بالمسعى قبالة بَاب على أحد أَبْوَاب الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَانَت عمارتها فِي سنة سِتّ وَسبعين وَسَبْعمائة وَالْمُتوَلِّيّ لأمر عمارتها الْأَمِير أَبُو بكر بن سنقر الجبالي وللإشراف عَلَيْهَا وقف بِمَكَّة ريع فَوْقهَا ودكاكين ووقف بضواحي الْقَاهِرَة، وتخربت ثمَّ عمرها فِي سنة سبع عشرَة وَثَمَانمِائَة، وَمِنْهَا مطهرة خلفهَا عمرتها أم سُلَيْمَان المتصوفة صَاحِبَة الزاوية بسوق اللَّيْل وَفرغ من عمارتها فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة، وَمِنْهَا مطهرة الْأَمِير زين الدّين بركَة العثماني رَأس نوبَة النوب بِالْقَاهِرَةِ وَأحد مديري المملكة بهَا وَهِي المطهرة الَّتِي بسوق العطارين بِقرب بَاب بني شيبَة على يسَار الْخَارِج من الْبَاب وبابها مُقَابل بَاب المطهرة الناصرية الْمَذْكُورَة، وَمِنْهَا مطهرة تنْسب للأمير طنبغا الطَّوِيل أحد الْأُمَرَاء المقدمين بالديار المصرية عمرت فِي أَوَائِل عشر السّبْعين وَسَبْعمائة وَهِي بِأَسْفَل مَكَّة عِنْد بَاب الْعمرَة الْآن، والآن هِيَ معطلة، وَمِنْهَا: مطهرة عِنْد بَاب الْحَزْوَرَة يُقَال لَهَا: نطهرة الوَاسِطِيّ، وَلم يعرف المنسوبة إِلَيْهِ وَلَا مَتى وقفت، وَالله تَعَالَى أعلم.

الباب الثاني تاريخ المدينه وما يتعلق بالمسجد النبوي الشريف والحجره المقدسه والمنبر الشريف وزياره النبي صلي الله عليه وسلم ومزارات المدينه والجوار بها وآداب الرجوع وفيه عشره فصول

الْبَاب الثَّانِي تَارِيخ الْمَدِينَة وَمَا يتَعَلَّق بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ الشريف والحجرة المقدسة والمنبر الشريف وزيارة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومزارات الْمَدِينَة والجوار بهَا وآداب الرُّجُوع. وَفِيه عشرَة فُصُول.

الفصل الاول في اول ساكني المدينه وسكني اليهود الحجاز ثم نزول الاوس والخزرج بالمدينه

الْفَصْل الأول: فِي أول سَاكِني الْمَدِينَة وسكنى الْيَهُود الْحجاز ثمَّ نزُول الْأَوْس والخزرج بِالْمَدِينَةِ.

ذكر اول من نزل المدينه الشريفه

ذكر أول من نزل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة قَالَ أهل السّير: أول من نزل الْمَدِينَة بعد الطوفان قوم يُقَال لَهُم صعل وفالح، فغزاهم دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَأخذ مِنْهُم مائَة ألف عذراء، ثمَّ سلط الله عَلَيْهِم الدُّود فِي أَعْنَاقهم فهلكوا، فقبورهم هَذِه الَّتِي فِي السهل والجبل، وَدَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ من ولد يهوذا بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، بَينه وَبَين يهوذا عشرَة آبَاء، عَاشَ مائَة سنة، وَقيل: مائَة وَأَرْبَعين، وَقيل: سبعين، وَكَانَ يَدْعُو إِلَى شَرِيعَة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لِأَن الزبُور لم يكن فِيهِ أَحْكَام فَكَانَ خمسين وَمِائَة سُورَة: فِي خمسين ذكر مَا يلقون من بخْتنصر وَأهل بابل، وَفِي خمسين ذكر مَا يلقون من أهل إيرون، وَفِي خمسين مواعظ وَحكم، وَكَانَ يقرأه بسبعين لحناً. وكل كتاب يكون غليظ الْكِتَابَة يُقَال لَهُ: زبور. وَقيل: الزبُور: كل كتاب يصعب الْوُقُوف عَلَيْهِ من الْكتب الإلهية. وَقيل: الزبُور: الْكتاب الْمَقْصُور على الْحِكْمَة الإلهية الْعَقْلِيَّة دون الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. وَنزل عَلَيْهِ الزبُور بالعبرانية، وَكَانَ مُدَّة ملكه أَرْبَعِينَ سنة، كَانَ يَبِيع الدرْع بأَرْبعَة آلَاف وَهُوَ أول من عمل الدرْع، قَالَ الله تَعَالَى: " وألنا لَهُ الْحَدِيد ". الْآيَة. قَالَ أهل السّير: وَكَانَ سُكْنى العماليق غَزَّة وعسقلان وساحل بَحر الرّوم وَمَا بَين مصر وفلسطين ثمَّ سكنوا مَكَّة وَالْمَدينَة والحجاز كُله وعتوا، فَبعث إِلَيْهِم مُوسَى جنداً من بني إِسْرَائِيل فَقَتَلُوهُمْ. وَعَن زيد بن أسلم قَالَ: بَلغنِي أَن ضبعاً رئيت وَأَوْلَادهَا رابضة فِي حجاج عير رجل من العماليق قَالَ: وَلَقَد كَانَ يمْضِي فِي ذَلِك الزَّمَان أَرْبَعمِائَة سنة وَمَا يسمع بِجنَازَة، وَكَانَ جالوت من العماليق وَكَانَ عوج وَأمه عنَاق من العماليق اللَّذين كَانُوا بأريحا.

ذكر سكني اليهود الحجاز بعد العماليق

عَن ابْن عمر قَالَ: كَانَ طول عوج ثَلَاثَة وَعشْرين ألف ذِرَاع وثلاثمائة وَثَلَاثِينَ ذِرَاعا وثلثي ذِرَاع بِذِرَاع الْملك، وعاش ثَلَاثَة آلَاف سنة، وَأخذ إِحْدَى بَنَات آدم لصلبه، وَهِي أول من تغنى على وَجه الأَرْض فَهَلَكت، كَانَ كل إِصْبَع من أصابعها ثَلَاثَة أَذْرع فِي ذراعين، ولدت حَوَّاء على أَثَرهَا قابيل ثمَّ هابيل. قَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي " تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث ": وَمن الْعجب أَن عوجا كَانَ فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَله هَذَا الطول، وَفرْعَوْن ضِدّه فِي الْقصر على مَا ذكره الْحسن قَالَ: مَا كَانَ طول فِرْعَوْن إِلَّا ذِرَاعا وَكَانَت الْحَيَّة ذِرَاعا. وَقيل: كَانَ طوله ذراعين، وَكَانَ لفرعون مُوسَى من فسطاط مصر إِلَى أَرض الْحَبَشَة جبال، فِيهَا معادن الذَّهَب وَالْفِضَّة والزبرجد والياقوت، طمس الله عَلَيْهَا فَصَارَت حِجَارَة؛ لقَوْل مُوسَى: " رَبنَا اطْمِسْ على أَمْوَالهم ". وَفرْعَوْن أول من خضب بِالسَّوَادِ. ذكر سُكْنى الْيَهُود الْحجاز بعد العماليق اعْلَم أَن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما أهلك فِرْعَوْن وطئ الشَّام وَأهْلك من بهَا، وَبعث بعثاً من الْيَهُود إِلَى الْحجاز وَأمرهمْ أَن لَا يستبقوا من العماليق أحدا بلغ الْحل، فقدموا فَقَتَلُوهُمْ وَقتلُوا ملكهم وَكَانَ يُقَال لَهُ: الأرقم بن أبي الأرقم، واستجبوا ابْنا لَهُ شَابًّا وَقدمُوا بِهِ فَقبض مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قبل قدومهم، فتلقتهم بَنو إِسْرَائِيل فوجدوا الْغُلَام مَعَهم، فَقَالُوا لَهُم: إِن هَذِه لمعصية مِنْكُم لما خالفتكم من أَمر نَبِيكُم، وَالله لَا تدْخلُوا علينا بِلَادنَا وحالوا بَينهم وَبَين الشَّام فَرَجَعُوا فسكنوا الْحجاز، وَكَانَت الْحجاز إِذْ ذَاك أشجر بِلَاد الله وأطهرها، قَالُوا: وَكَانَ هَذَا أول سُكْنى الْيَهُود الْحجاز بعد العماليق، وَكَانَ جَمِيعهم بزهرة بَين الْحرَّة والسافلة مِمَّا يَلِي القف، وَكَانَت لَهُم الْأَمْوَال بالسافلة، وَنزل جُمْهُور بمَكَان يُقَال لَهُ يثرب بمجتمع السُّيُول سيل بطحان والعقيق وسيل قناة مِمَّا يَلِي زغابة، وَخرجت قُرَيْظَة وإخوتهم بَنو هذل وهم بَنو الْخَزْرَج وَالنضير بن النحام ابْن الْخَزْرَج وَقيل: قُرَيْظَة وَالنضير أَخَوان وهما بَنو أَبنَاء الْخَزْرَج بن الصَّرِيخ فَخَرجُوا بعد هَؤُلَاءِ فتتبعوا آثَارهم فنزلوا بِالْعَالِيَةِ على واديين يُقَال لَهما: مذينب ومهرور، فَنزلت بَنو النَّضِير على مذينب وَاتَّخذُوا عَلَيْهِ الْأَمْوَال، وَنزلت قُرَيْظَة وهذل على مهرور وَاتَّخذُوا عَلَيْهِ الْأَمْوَال، وَكَانُوا أول من احتفر بهَا البنار واغترس الْأَمْوَال وابتنى الْآطَام والنازل، فَكَانَ جَمِيع مَا ابتنى الْيَهُود بِالْمَدِينَةِ من الْآطَام تسعا وَخمسين أطماً، والآطام: الْحُصُون وَاحِدهَا

ذكر نزول الاوس والخزرج المدينه

أَطَم. قَالَ الْخطابِيّ: هُوَ بِنَاء من الْحِجَارَة، وَمثله الآجام والعياص. ثمَّ نزل أَحيَاء من الْعَرَب على يهود وَذَلِكَ أَنه كَانَ بِالْمَدِينَةِ قرى وأسواق من يهود بني إِسْرَائِيل وَكَانَ قد نزلها عَلَيْهِم أَحيَاء من الْعَرَب وابتنوا مَعَهم الأطام والمنازل قبل نزُول الْأَوْس والخزرج وهم بَنو أنيف حَيّ من بلَى، وَيُقَال: إِنَّهُم لمن بَقِيَّة العماليق وَبَنُو مرْثَد حَيّ من بلَى، وَبَنُو مُعَاوِيَة بن الْحَارِث بن بهية من بني قيس بن عيلان، وَبَنُو الجذمي حَيّ من الْيمن، وَكَانَ جَمِيع مَا ابتنى الْعَرَب من الْآطَام بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَة عشر أطماً. ذكر نزُول الْأَوْس والخزرج الْمَدِينَة لم تزل الْيَهُود الْغَالِبَة على الْمَدِينَة حَتَّى جَاءَ سيل العرم، وَكَانَ مِنْهُ مَا كَانَ وَمَا قصّ الله فِي كِتَابه، وَذَلِكَ أَن أهل مأرب وَهِي أَرض سبأ كَانُوا آمِنين فِي بِلَادهمْ تخرج الْمَرْأَة بمغزلها لَا تتزود شَيْئا تبيت فِي قَرْيَة وتقيل فِي أُخْرَى حَتَّى تَأتي الشَّام، وَلم يكن فِي أَرضهم حَيَّة وَلَا عقرب وَلَا مَا يُؤْذِي، فَبعث الله إِلَيْهِم ثَلَاثَة عشر نَبيا فكذبوهم وَقَالُوا: " رَبنَا باعد بَين أسفارنا " فَسلط الله عَلَيْهِم سيل العرم وَهُوَ السَّبِيل الشَّديد الَّذِي لَا يُطَاق وَقيل: العرم اسْم الْوَادي. وَقيل: اسْم الْمِيَاه. وَذَلِكَ أَن الله بعث عَلَيْهِم جرذاً يُسمى الْخلد والخلد هُوَ الفأر الْأَعْمَى فَنقبَ السد من أَسْفَله حَتَّى دخل السَّيْل عَلَيْهِم فغرقت أَرضهم. وَقيل: أرسل عَلَيْهِم مَاء أَحْمَر فخرب السد وتمزق من سلم مِنْهُم فِي الْبِلَاد، وَكَانَ السد فرسخاً فِي فَرسَخ بناه لُقْمَان الْأَكْبَر العادي للدهر على زَعمه، وَكَانَ يجْتَمع إِلَيْهِ مياه الْيمن من مسيرَة شهر، وَتقدم فِي الْبَاب قبل هَذَا قَضِيَّة طريفة الكاهنة وَمَا قَالَت لقومها وَأَنَّهَا قَالَت لَهُم: من كَانَ مِنْكُم يُرِيد الراسيات فِي الوحل المطعمات فِي الْمحل فليلحق بِيَثْرِب ذَات النّخل. فلحق بهَا الْأَوْس والخزرج فوجدوا الْآطَام وَالْأَمْوَال وَالْقُوَّة للْيَهُود فعاملوهم زَمَانا فَصَارَ لَهُم مَالا وعدداً، فَمَكثَ الْأَوْس والخزرج مَعَهم مَا شَاءَ الله ثمَّ سألوهم أَن يعقدوا بَينهم وَبينهمْ جواراً وحلفاً يَأْمَن بِهِ بَعضهم من بعض، ويمتنعون بِهِ مِمَّن سواهُم، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا، فَلم يزَالُوا على ذَلِك زَمَانا طَويلا حَتَّى قويت الْأَوْس والخزرج وَصَارَ لَهُم مَال وَعدد فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَة وَالنضير حَالهم خافوهم أَن يغلبوهم على دُورهمْ وَأَمْوَالهمْ فتنمروا لَهُم حَتَّى قطعُوا الْحلف الَّذِي كَانَ بَينهم، وَكَانَت قُرَيْظَة وَالنضير أعز وَأكْثر فأقامت الْأَوْس والخزرج فِي مَنَازِلهمْ

ذكر من قتل اليهود واستيلاء الاوس والخزرج علي المدينه

وهم خائفون أَن تجليهم يهود حَتَّى نجم مِنْهُم مَالك بن العجلان أَخُو بني سَالم بن عَوْف بن الْخَزْرَج. ذكر من قتل الْيَهُود واستيلاء الْأَوْس والخزرج على الْمَدِينَة لما نجم مَالك بن العجلان سَوْدَة الْجنان عَلَيْهِمَا فَبعث هُوَ وَجَمَاعَة قومه إِلَى من وَقع بِالشَّام من قَومهمْ يخبرونهم حَالهم، ويشكون إِلَيْهِم غَلَبَة الْيَهُود لَهُم، وَكَانَ رسولهم الرمق بن زيد بن امْرِئ الْقَيْس أحد بني سَالم بن عَوْف بن الْخَزْرَج، وَكَانَ قبيحاً ذَمِيمًا، شَاعِرًا بليغاً، فَمضى حَتَّى قدم الشَّام على ملك من مُلُوك غَسَّان الَّذين سَارُوا من يثرب إِلَى الشَّام يُقَال لَهُ أَبُو حبيلة من ولد حفْنَة بن عَمْرو بن عَامر. وَقيل: أحد بني جشم بن الْخَزْرَج، وَكَانَ قد اصاب ملكا بِالشَّام وشرفاً، فَشَكا إِلَيْهِم الرمق حَالهم وَغَلَبَة الْيَهُود لَهُم وَمَا يتخوفون مِنْهُم وَأَنَّهُمْ يَخْشونَ أَن يخرجوهم، فَأقبل أَبُو حبيلة فِي جمع كثير لنصرة الْأَوْس والخزرج، وَعَاهد الله أَن لَا يبرح حَتَّى يخرج من بهَا من الْيَهُود ويذلهم أَو يصيرهم تَحت أَيدي الْأَوْس والخزرج، فَسَار وَأظْهر أَنه يُرِيد الْيمن حَتَّى قدم الْمَدِينَة وَهِي يَوْمئِذٍ يثرب فَلَقِيَهُ الْأَوْس والخزرج وأعلمهم مَا جَاءَ بِهِ فَقَالُوا: إِن علم الْقَوْم مَا تُرِيدُ تحَصَّنُوا فِي آطامهم فَلم نقدر عَلَيْهِم، وَلَكِن ندعوهم للقائك وتلطفهم حَتَّى يأمنوك ويطمئنوا فنتمكن مِنْهُم، فَصنعَ لَهُم طَعَاما وَأرْسل إِلَى وُجُوههم وَرُؤَسَائِهِمْ فَلم يبْق من وُجُوههم أحد إِلَّا أَتَاهُ، وَجعل الرجل مِنْهُم يَأْتِي بحاشيته وحشمه رَجَاء أَن يحبوهم الْملك، وَكَانَ قد بنى لَهُم حيزاً وَجعل فِيهَا قوما وَأمرهمْ من دخل عَلَيْهِم مِنْهُم أَن يقتلوه حَتَّى أَتَى على وُجُوههم وَرُؤَسَائِهِمْ، فَلَمَّا فعل ذَلِك عزت الْأَوْس والخزرج بِالْمَدِينَةِ، وَاتَّخذُوا الديار وَالْأَمْوَال وَانْصَرف أَبُو حبيلة وَتَفَرَّقَتْ الْأَوْس والخزرج فِي عالية الْمَدِينَة وسافلها، وَكَانَ مِنْهُم من جَاءَ إِلَى عفاء من الأَرْض لَا سَاكن فِيهِ فنزله، وَمِنْهُم من لَجأ إِلَى قَرْيَة من قراها وَاتخذ الْأَمْوَال والآطام، وَكَانَ مَا ابْتَنَوْا من الْآطَام مائَة وَسَبْعَة وَعشْرين أطماً، وَأَقَامُوا كلمتهم وَاحِدَة وَأمرهمْ مُجْتَمع، ثمَّ دخلت بَينهم حروب عِظَام وَكَانَت لَهُم أَيَّام ومواطن وأشعار، فَلم تزل تِلْكَ الحروب بَينهم حَتَّى بعث الله تَعَالَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكرمهم الله باتباعه، والأوس والخزرج حَيَّان ينسبان إِلَى قحطان، لِأَن من قحطان افْتَرَقت سبع وَعِشْرُونَ قَبيلَة مِنْهُم الْأَوْس والخزرج، وهما الْأَنْصَار وَهُوَ جمع نصير، وَسموا أنصاراً حِين

آووا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونصروه، وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أسلمت الْمَلَائِكَة طَوْعًا، والأوس والخزرج طَوْعًا، وَجَمِيع الْعَرَب كرها ".

الفصل الثاني ذكر فتح المدينه وهجره النبي صلي الله عليه وسلم واصحابه اليها

الْفَصْل الثَّانِي: ذكر فتح الْمَدِينَة وهجرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِلَيْهَا.

ذكر ما جاء في فتحها

ذكر مَا جَاءَ فِي فتحهَا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: كل الْبِلَاد افتتحت بِالسَّيْفِ، وافتتحت الْمَدِينَة بِالْقُرْآنِ. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين بن النجار فِي تَارِيخه: فالمدينة الشَّرِيفَة لم تفتح بِقِتَال إِنَّمَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرض نَفسه فِي كل موسم على قبائل الْعَرَب وَيَقُول: " أَلا رجل يحملني إِلَى قومه فَإِن قُريْشًا قد مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي ". فيأبونه وَيَقُولُونَ لَهُ: قوم الرجل أعلم بِهِ. حَتَّى لَقِي فِي بعض السنين عِنْد الْعقبَة نَفرا من الْأَوْس والخزرج قدمُوا فِي المنافرة الَّتِي كَانَت بَينهم فَقَالَ لَهُم: " من أَنْتُم؟ ". قَالُوا: نفر من الْخَزْرَج. قَالَ: " أَمن موَالِي يهود؟ ". قَالُوا: نعم. قَالَ: " أَفلا تجلسون كلكُمْ؟ " قَالُوا: بلَى. فجلسوا مَعَه فَدَعَاهُمْ إِلَى الله عز وَجل وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام وتلا عَلَيْهِم الْقُرْآن وَكَانُوا أهل شرك أَصْحَاب أوثان، وَكَانُوا إِذا كَانَ بَينهم وَبَين الْيَهُود الَّذين مَعَهم بِالْمَدِينَةِ شَيْء قَالَت الْيَهُود لَهُم وَكَانُوا أَصْحَاب كتاب وَعلم: إِن النَّبِي مَبْعُوث الْآن وَقد أظل زَمَانه فنتبعه فنقتلكم مَعَه قتل عَاد وإرم. فَلَمَّا كلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُولَئِكَ النَّفر ودعاهم إِلَى الله، قَالَ بَعضهم لبَعض: يَا قوم تعلمُونَ وَالله أَنه النَّبِي الَّذِي توعدكم بِهِ يهود فَلَا سبقتكم إِلَيْهِ فاغتنموه وآمنوا بِهِ، فَأَجَابُوهُ فِيمَا دعاهم إِلَيْهِ وَصَدقُوهُ وقبلوا مِنْهُ مَا عرض عَلَيْهِم من الْإِسْلَام، وَقَالُوا: لقد تركنَا قَومنَا وَبينهمْ من الْعَدَاوَة وَالشَّر مَا بَينهم، وَعَسَى أَن يجمعهُمْ الله بك، فسنقدم عَلَيْهِم وندعوهم إِلَى أَمرك ونعرض عَلَيْهِم الَّذِي أجبناك إِلَيْهِ من هَذَا الدّين، فَإِن يجمعهُمْ الله عَلَيْهِ فَلَا رجل أعز مِنْك. قُم انصرفوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاجِعين إِلَى بِلَادهمْ قد آمنُوا وَصَدقُوا وَكَانُوا سِتَّة: سعد بن زُرَارَة وَهُوَ جد النُّقَبَاء فِي الْعقبَة الأولى وَالثَّانيَِة، وعَوْف بن عفراء وَهِي أمه وَأَبوهُ الْحَارِث

ذكر هجره النبي الي المدينه صلي الله عليه وسلم واصحابه الي المدينه الشريفه

ابْن رِفَاعَة، وَرَافِع بن مَالك بن العجلان، وَقُطْبَة بن عَامر بن حَدِيدَة، وَعقبَة بن عَامر بن نابي، وَجَابِر بن عبد الله بن رِئَاب، فَلَمَّا قدمُوا الْمَدِينَة إِلَى قَومهمْ ذكرُوا لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا جرى لَهُم ودعوهم إِلَى الْإِسْلَام فَفَشَا فيهم حَتَّى لم يبْق دَار من دور الْإِسْلَام إِلَّا ولرسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا ذكر، فَلَمَّا كَانَ الْعَام الْمقبل وافى الْمَوْسِم مِنْهُم اثْنَا عشر رجلا فَلَقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعقبَةِ وَهِي الْعقبَة الأولى فَبَايعُوهُ، فَلَمَّا انصرفوا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَهم مُصعب بن عُمَيْر إِلَى الْمَدِينَة وَأمره أَن يُقْرِئهُمْ الْقُرْآن، وَيُعلمهُم الْإِسْلَام ويفقههم فِي الدّين، وَكَانَ منزله على سعد بن زُرَارَة، ولقيه فِي الْمَوْسِم الآخر سَبْعُونَ رجلا من الْأَنْصَار مِنْهُم امْرَأَتَانِ فَبَايعُوهُ، وَأرْسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ خرج إِلَى الْغَار بعد ذَلِك ثمَّ توجه هُوَ وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْمَدِينَة. ذكر هِجْرَة النَّبِي إِلَى الْمَدِينَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة اعْلَم أَن هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة هِيَ من بعض معرفَة دَلَائِل صِفَات نعوته فِي الْكتب الإلهية، وَقد نطقت الْأَخْبَار بِأَن الْمَدِينَة دَار هِجْرَة نَبِي يخرج فِي آخر الزَّمَان. ذكر صَاحب " الدّرّ المنظم " والشهرستاني فِي كِتَابه " أَعْلَام النُّبُوَّة " فِي قصَّة يلخصها: أَن سيف بن ذِي يزن الْحِمْيَرِي لما ظفر بِالْحَبَشَةِ وَذَلِكَ بعد مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصدته وُفُود الْعَرَب بالهنية، وَخرج إِلَيْهِ وَفد قُرَيْش وَفِيهِمْ عبد الْمطلب إِلَى صنعاء وَهُوَ فِي قصره الْمَعْرُوف بغمدان، فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ وَأنْفق مَا أنْفق قَالَ سيف لعبد الْمطلب: إِنِّي وجدت فِي الْكتاب الْمكنون وَالْعلم المخزون الَّذِي اخترناه لأنفسنا دون غَيرنَا خَبرا جسيماً، وخطراً عَظِيما فِيهِ شرف الْحَيَاة وفضيلة الْوَفَاة، وَهُوَ للنَّاس عَامَّة ولرهطك كَافَّة وَلَك خَاصَّة، ثمَّ قَالَ لَهُ: إِذا ولد بتهامة غُلَام بِهِ عَلامَة كَانَت لَهُ الْإِمَامَة، وَلكم بِهِ الزعامة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَلَوْلَا أَن الْمَوْت يجتاحني قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حَتَّى أصير بِيَثْرِب دَار ملكي، فَإِنِّي أجد فِي الْكتاب النَّاطِق وَالْعلم السَّابِق أَن يثرب استحكام ملكه وَأهل نصرته وَمَوْضِع قَبره، وَلَوْلَا أَنِّي أقيه الْآفَات وَأحذر عَلَيْهِ العاهات لأوطأته الْعَرَب، وَلَكِنِّي صَارف إِلَيْك ذَلِك عَن غير يقيني بِمن مَعَك ثمَّ أَمر لكل وَاحِد من قومه بجائزة وَأَجَازَ

عبد الْمطلب بأضعافها، ثمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِخَبَرِهِ وَمَا يكون من أمره على رَأس الْحول، فَمَاتَ سيف قبل أَن يحول عَلَيْهِ الْحول. وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَحَادِيث: أخبرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صفته فِي التَّوْرَاة: " عَبدِي أَحْمد الْمُخْتَار، مولده بِمَكَّة، وَمُهَاجره بِالْمَدِينَةِ. أَو قَالَ: طيبَة، أمته الْحَمَّادُونَ لله على كل حَال ". وَقيل: معنى قَوْله تَعَالَى: " ووجدك ضَالًّا فهدى ". أَي ضَالًّا عَن الْهِجْرَة فهداك إِلَيْهَا. وَقيل: وَجدك ضَالًّا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة فهداك إِلَى الْمَدِينَة. وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: " التائبون العابدون الحامدون السائحون ". إِن السائحين الْمُهَاجِرين. وَقيل: لم يُهَاجر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى طلب الْهِجْرَة؛ لقَوْله تَعَالَى: " رَبنَا أخرجنَا من هَذِه الْقرْيَة الظَّالِم أَهلهَا وَاجعَل لنا من لَدُنْك وليا وَاجعَل لنا من لَدُنْك نَصِيرًا ". فالداعي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والرقة مَكَّة، وَالْوَلِيّ والنصير الْأَنْصَار. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقلت لَهُ: " يَا جِبْرِيل من يُهَاجر معي؟ " قَالَ: أَبُو بكر وَهُوَ يَلِي أمتك من بعْدك وَهُوَ أفضل أمتك ". وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث الْهِجْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للْمُسلمين: " إِنِّي رَأَيْت دَار هجرتكم ذَات نخل بَين لابتين وهما الحرتان ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " رَأَيْت فِي الْمَنَام أَنِّي أُهَاجِر من مَكَّة إِلَى أَرض بهَا نخل فَذهب وهلى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَة أَو هجر، فَإِذا هِيَ الْمَدِينَة يثرب ". فَلَمَّا ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا الْمَنَام لأَصْحَابه هَاجر من هَاجر مِنْهُم قبل الْمَدِينَة، وَرجع عَامَّة من كَانَ هَاجر بِأَرْض الْحَبَشَة إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ أول من هَاجر إِلَى الْحَبَشَة حَاطِب بن عَمْرو، وَقيل: عبد الله بن عبد الْأسد بن هِلَال. وَأول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام بِأَرْض الْحَبَشَة

عبد الله بن جَعْفَر بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ. وتجهز أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قبل الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " على رسلك فَإِنِّي أَرْجُو أَن يُؤذن لي " فَقَالَ أَبُو بكر: وَهل ترجو ذَلِك بِأبي أَنْت وَأمي؟ قَالَ: نعم. فحبس أَبُو بكر نَفسه على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليصحبه وعلف راحلتين كَانَتَا عِنْده الْخبط أَرْبَعَة أشهر ". قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: بَيْنَمَا نَحن يَوْمًا جُلُوس فِي بَيت أبي بكر فِي نَحْو الظهيرة قَالَ قَائِل لأبي بكر: هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متقنعاً فِي سَاعَة لم يكن يأتينا فِيهَا قَالَ أَبُو بكر: فدَاء لَهُ أبي وَأمي، وَالله مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِه السَّاعَة إِلَّا أَمر قَالَ: فجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْتَأْذن فَأذن لَهُ، فَدخل فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبي بكر: " اخْرُج من عنْدك " فَقَالَ أَبُو بكر: إِنَّمَا هم أهلك بِأبي أَنْت. قَالَ: " فَإِنِّي قد أذن لي فِي الْخُرُوج ". فَقَالَ أَبُو بكر: الصُّحْبَة يَا رَسُول الله؟ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " نعم ". قَالَ أَبُو بكر: فَخذ بِأبي أَنْت يَا رَسُول الله إِحْدَى رَاحِلَتي هَاتين. قَالَ رَسُول الله: " بِالثّمن ". قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فجهزناهما أحث الجهاز، ووضعنا لَهما سفرة فِي جراب والسفرة طَعَام يَتَّخِذهُ الْمُسَافِر وَكَانَ أَكثر مَا يحمل فِي جلد مستدير فَنقل اسْم الطَّعَام إِلَى الْجلد، كالراوية اسْم للبعير ونقلت إِلَى المزادة قَالَه الْخَلِيل قَالَت عَائِشَة: فَقطعت أَسمَاء بنت أبي بكر قِطْعَة من نطاقها فَربطت بِهِ على فَم الجراب، فبذلك سميت ذَات النطاقين. والنطاق: أَن تَأْخُذ الْمَرْأَة الثَّوْب فتشتمل بِهِ ثمَّ تشد وَسطهَا بخيط ثمَّ ترسل الْأَعْلَى على الْأَسْفَل قَالَت: ثمَّ لحق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر بِغَار جبل ثَوْر فمكثا فِيهِ ثَلَاثًا، يبيت عِنْدهمَا عبد الله بن أبي بكر، وَهُوَ غُلَام شَاب لقن، فيدلج من عِنْدهمَا بِسحر فَيُصْبِح مَعَ قُرَيْش بِمَكَّة كبائت، فَلَا يسمع أمرا بِهِ يكادان إِلَّا وعاه حَتَّى يأتيهما بخر ذَلِك حِين يخْتَلط

الظلام، ويرعى عَلَيْهِمَا عَامر بن فهَيْرَة مولى أبي بكر منحة من لبن فيريحها عَلَيْهِمَا حَتَّى تذْهب سَاعَة من الْعشَاء، فيبيتان فِي رسل حَتَّى ينعق بهما عَامر بِغَلَس فَفعل ذَلِك فِي كل لَيْلَة من تِلْكَ اللَّيَالِي، واستأجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر رجلا من بني الديل هادياً ماهراً بالهداية وَهُوَ على دين كفار قُرَيْش فأمناه فدفعا إِلَيْهِ راحلتيهما، وواعده غَار ثَوْر بعد ثَلَاث براحلتيهما، وَانْطَلق مَعَهُمَا عَامر بن فهَيْرَة وَالدَّلِيل فَأخذ بهم طَرِيق السواحل، وَكَانَ اسْم دليلهم عبد الله بن أريقط اللَّيْثِيّ، وَلم يعرف لَهُ إِسْلَام بعد ذَلِك، وَكَانَت هجرته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ لثمان خلون من شهر ربيع الأول. وَقيل: كَانَت آخر لَيْلَة من صفر، وعمره إِذْ ذَاك ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة وَتِسْعَة أشهر بعد الْمِعْرَاج بِسنة وشهرين وَيَوْم وَاحِد، فَكَانَ بَين الْبَعْث وَالْهجْرَة اثْنَا عشر سنة وَتِسْعَة أشهر وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقيل: كَانَت إِقَامَته بِمَكَّة بعد النُّبُوَّة ثَلَاث عشرَة سنة. ومروا على خَيْمَتي أم معبد الْخُزَاعِيَّة فِي قديد، وَكَانَت امْرَأَة بَرزَة جلدَة تَحْتَبِيَ وتجلس بِفنَاء الْخَيْمَة أَو الْقبَّة ثمَّ تَسْقِي وَتطعم، فَسَأَلُوهَا تَمرا وَلَحْمًا لِيَشْتَرُوهُ فَلم يُصِيبُوا عِنْدهَا شَيْئا من ذَلِك وَإِذا الْقَوْم مرملون مسنتون فَقَالَت: لَو كَانَ عندنَا شَيْء مَا أعوزكم الْقرى. فَنظر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى شَاة فِي كرّ خيمتها فَقَالَ: " مَا هَذِه الشَّاة يَا أم معبد؟ " فَقَالَت: شَاة خلفهَا الْجهد عَن الْغنم فَقَالَ: " هَل بهَا من لبن؟ " فَقَالَت: هِيَ أجهد من ذَلِك. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أفتأذنين لي أَن أَحْلَبَهَا؟ " قَالَت: نعم بِأبي أَنْت وَأمي إِن رَأَيْت بهَا حَلبًا فاحلبها. فَدَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشَّاة فَمسح ضرْعهَا، وَذكر اسْم الله

تَعَالَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارك لَهَا فِي شَاتِهَا " فتفاجت وَدرت واجترت، فَدَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِنَاء يربض الرَّهْط فَحلبَ فِيهَا ثَجًّا، حَتَّى علاهُ الْبَهَاء. ويروي الثمال، فَسَقَاهَا فَشَرِبت حَتَّى رويت، وَسَقَى أَصْحَابه حَتَّى رووا وَشرب آخِرهم وَقَالَ: " ساقي الْقَوْم آخِرهم شرباً ". فَشَرِبُوا جَمِيعًا عللاً بعد نهل حَتَّى أراضوا، ثمَّ حلب فِيهِ ثَانِيًا عوداً على بَدْء ثمَّ غَادَرَهُ عِنْدهَا ثمَّ ارتحلوا عَنْهَا بعد أَن بَايَعَهَا، فقلما لَبِثت أَن جَاءَ زَوجهَا أَبُو معبد أَكْثَم بن أبي الجون يَسُوق أغنماً عِجَافًا تشاركن هزلي ويروي عَازِب جبال وَلَا حَلُوب فِي الْبَيْت، قَالَت: لَا وَالله إِلَّا أَنه مر بِنَا رجل مبارك كَانَ من حَدِيثه كَيْت وَكَيْت. قَالَ: صَفيه لي يَا أم معبد. قَالَت: رَأَيْت رجلا ظَاهر الْوَضَاءَة، أَبْلَج الْوَجْه أَو مبتلج الْوَجْه، لم تَعبه ثجلة، وَلم تزر لَهُ صقلة أَو صعلة، ويروى لم تَعبه نحلة، وسيماً قسيماً، فِي عَيْنَيْهِ دعجٌ، وَفِي أَشْفَاره وَطف أَو عطف أَو غطف، وَفِي صورته صَحِلَ، وَفِي عُنُقه سَطَعَ، وَفِي لحيته كَثَافَة، أَزجّ،

أقرن، إِذا صمت فَعَلَيهِ الْوَقار، وَإِن تكلم سما وعلاه الْبَهَاء، أجمل النَّاس وابهاه من بعيد، وَأحسنه وأجمله من قريب، حُلْو الْمنطق أَو المنظر، فصل، لَا نزر وَلَا هذر، كَأَن مَنْطِقه خَرَزَات نظم يتحدرن، ربعَة، لَا يبأس من طول، وَلَا تَقْتَحِمُهُ عين من قصر، غُصْن بَين غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلَاثَة منْظرًا، وَأَحْسَنهمْ قدرا، لَهُ رُفَقَاء يحفونَ بِهِ، إِن قَالَ أَنْصتُوا لقَوْله، وَإِن أَمر تبَادرُوا إِلَى أمره، مَحْفُودٌ محشود، لَا عَابس، وَلَا مُفند. قَالَ أَبُو معبد: هَذَا وَالله صَاحب قُرَيْش الَّذِي ذكر لنا من أمره مَا ذكر بِمَكَّة، لقد هَمَمْت أَن أَصْحَبهُ وَلَأَفْعَلَن إِن وجدت إِلَى ذَلِك سَبِيلا. وَأصْبح صَوت بِمَكَّة عَالِيا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض يسمعونه وَلَا يرَوْنَ قَائِله: جزى الله رب النَّاس خير جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حلاّ خَيْمَتي أم معبد. . الأبيات قَالَ: فَأصْبح النَّاس قد فقدوا نَبِيّهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذُوا على خَيْمَتي أم معبد حَتَّى لَحِقُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ ابْن إِسْحَاق: بَلغنِي أَنه لما خرج قَالَ أهل السّير: وَلَقي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزبير فِي ركب من الْمُسلمين، كَانُوا تجارًا قافلين من الشَّام، فكسا الزبير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر ثِيَاب بَيَاض، وَسمع الْمُسلمُونَ بِالْمَدِينَةِ بمخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَكَّة فَكَانُوا يَغْدُونَ كل غَدَاة إِلَى ثنية الْوَدَاع ينتظرون قدوم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحين قدم قَالَ قَائِلهمْ: طلع الْبَدْر علينا ... من ثنيات الْوَدَاع وَجب الشُّكْر علينا ... مَا دَعَا لله دَاع أَنْت مُرْسل حَقًا ... جِئْت من أَمر مُطَاع جئتنا تمشي رويدا ... نحونا يَا خير دَاع

وأضيفت الثَّنية إِلَى الْوَدَاع؛ لِأَنَّهَا مَوضِع التوديع، وَهُوَ اسْم قديم جاهلي، وَهَذِه الثَّنية خَارج الْمَدِينَة وَأَقْبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة وَكَانَ مردفاً لأبي بكر وَأَبُو بكر شيخ يعرف وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاب لَا يعرف، فَيلقى الرجل أَبَا بكر فَيَقُول: يَا أَبَا بكر من هَذَا الرجل الَّذِي بَين يَديك؟ فَيَقُول: هَذَا الرجل الَّذِي يهديني السَّبِيل. فيحسب الحاسب أَنه يَعْنِي الطَّرِيق وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيل الْخَيْر، وَقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة حِين اشْتَدَّ الضُّحَى من يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول وَهُوَ الْأَصَح، وتلقى الْمُسلمُونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِظهْر الْحرَّة، فَعدل بهم ذَات الْيَمين حَتَّى نزل بهم فِي بني عمر بن عَوْف، فَقَامَ أَبُو بكر للنَّاس وَجلسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صامتاً، وطفق من جَاءَ من الْأَنْصَار مِمَّن لم ير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحيي أَبَا بكر حَتَّى أَصَابَت الشَّمْس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأقبل أَبُو بكر حَتَّى ظلل عَلَيْهِ بردائه، فَعرف النَّاس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد ذَلِك، وَنزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كُلْثُوم بن الْهدم، وَفِي هَذِه الْحرَّة قِطْعَة تسمى أَحْجَار الزَّيْت سميت بِهِ لسواد أحجارها؛ كَأَنَّهَا طليت بالزيت، وَهُوَ مَوضِع كَانَ يسْتَقرّ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبَعْضهمْ يَقُول: أَحْجَار الْبَيْت وَذَلِكَ خطأ. قَالَ الْبَراء بن عَازِب: أول من قدم علينا الْمَدِينَة مُصعب بن عُمَيْر وَابْن أم مَكْتُوم وَكَانَا يقرئان النَّاس، ثمَّ قدم عمار بن يَاسر وبلال ثمَّ عمر بن الْخطاب فِي عشْرين من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا رَأَيْت أهل الْمَدِينَة فرحوا بِشَيْء فَرَحهمْ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جعل الْإِمَاء يقلن: قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَت عَائِشَة: لما قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وعك أَبُو بكر وبلال قَالَت: فَدخلت عَلَيْهِمَا فَقلت: يَا ابت كَيفَ تجدك؟ وَيَا بِلَال كَيفَ تجدك؟ قَالَت: فَكَانَ أَبُو بكر إِذا أَخَذته الْحمى يَقُول:

كل امْرِئ مصبح فِي أَهله ... وَالْمَوْت أدنى من شِرَاك نَعله وَذكر أَبُو عبد الله المرزباني: أَن هَذَا الْبَيْت لحكيم بن الْحَارِث بن نهيك النَّهْشَلِي وَكَانَ جاهلياً، قيل: يَوْم الوقيظ وَهُوَ يَوْم كَانَ لبني قيس بن ثَعْلَبَة على بني تَمِيم وَكَانَ حَكِيم ينشده فِي ذَلِك الْيَوْم وَهُوَ يُقَاتل وَكَانَ بِلَال إِذا أقلع عَنهُ الْحمى يرفع عقيرته فَيَقُول: أَلا لَيْت شعري هَل أبيتن لَيْلَة ... بواد وحولي إذخر وجليل وَهل أردن يَوْمًا مياه مجنة ... وَهل يبدون لي شامة وطفيل قَالَت عَائِشَة: فَجئْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرته فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حبب إِلَيْنَا الْمَدِينَة كحبنا مَكَّة أَو أَشد، وصححها، وَبَارك لنا فِي صاعها ومدها، وانقل حماها وَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ ". قَالَ أهل السّير: وَأقَام عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ بِمَكَّة ثَلَاث لَيَال وأيامها حَتَّى أدّى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الودائع الَّتِي كَانَت عِنْده للنَّاس حَتَّى إِذا فرغ مِنْهَا لحق برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنزل مَعَه على كُلْثُوم بن الْهدم، وَلم يبْق بِمَكَّة إِلَّا من حَبسه أَهله أَو فتنوه. وَعَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه فِي قَوْله عز وَجل: " وَقل رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق وَاجعَل لي من لَدُنْك سُلْطَانا نَصِيرًا ". قَالَ: جعل الله مدْخل صدق الْمَدِينَة، ومخرج صدق مَكَّة، وسلطاناً نَصِيرًا الْأَنْصَار. وَقيل: أدخلني يَعْنِي غَار ثَوْر مدْخل صدق، وأخرجني يَعْنِي مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَة مخرج صدق وَقيل: غير ذَلِك. وَالله أعلم.

صفحة فارغة

الفصل الثالث حرمه المدينه وغبارها وتمرها وحدود حرمها في ما جاء في حرمه المدينه وغبارها وتمرها ودعائه صلي الله عليه وسلم لهم بالبركه وما يؤول اليه امرها وحدود حرمها

الْفَصْل الثَّالِث: حُرْمَة الْمَدِينَة وغبارها وتمرها وحدود حرمهَا فِي مَا جَاءَ فِي حُرْمَة الْمَدِينَة وغبارها وتمرها ودعائه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم بِالْبركَةِ وَمَا يؤول إِلَيْهِ أمرهَا وحدود حرمهَا:

ذكر حرمه المدينه المشرفه

ذكر حُرْمَة الْمَدِينَة المشرفة روى القَاضِي عِيَاض فِي " الشِّفَاء ": أَن مَالك بن أنس رَضِي الله عَنهُ كَانَ لَا يركب فِي الْمَدِينَة دَابَّة، وَكَانَ يَقُول: أستحيي من الله أَن أَطَأ تربة فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحافر دَابَّتي. وَرُوِيَ أَنه وهب للشَّافِعِيّ رَحمَه الله كُرَاعًا كثيرا كَانَ عِنْده فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِي: أمسك مِنْهَا دَابَّة فَأَجَابَهُ بِمثل هَذَا الْجَواب. وَكَانَ قد أفتى مَالك رَحمَه الله فِيمَن قَالَ: تربة الْمَدِينَة رَدِيئَة. بِضَرْب ثَلَاثِينَ درة وَأمر بحبسه وَكَانَ لَهُ قدر، وَقَالَ: مَا أحوجه إِلَى ضرب عُنُقه تربة دفن فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يزْعم أَنَّهَا غير طيبَة. وَعَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة رفع الله تَعَالَى الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس فتمر بِقَبْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ فَتَقول: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. فَيَقُول عَلَيْهِ السَّلَام: " وَعَلَيْك السَّلَام يَا كعبة الله مَا حَال أمتِي؟ فَتَقول: يَا مُحَمَّد أما من وَفد إليّ من أمتك فَأَنا الْقَائِمَة بِشَأْنِهِ، وَأما من لم يفد إليّ من أمتك فَأَنت الْقَائِم بِشَأْنِهِ ". رَوَاهُ أَبُو سعيد الْموصِلِي فِي بَاب رفع الْكَعْبَة المشرفة إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس. فَانْظُر لسر زِيَارَة الْبَيْت الْحَرَام للنَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَدخُول الْكَعْبَة المشرفة مَدِينَة خير الْأَنَام وَكفى بِهَذَا الشّرف تَعْظِيمًا. قَالَ الشَّيْخ عبد الله الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس والأسرار فِي تَارِيخ دَار هِجْرَة الْمُخْتَار ": لما جرى سَابق شرفها فِي الْقدَم أَخذ من تربَتهَا حِين خلق آدم فأوجد الموجد وجودهَا من بعد الْعَدَم. قَالَ أهل السّير: إِن الله تَعَالَى لما خمر طِينَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام حِين أَرَادَ خلقه أَمر جِبْرِيل أَن يَأْتِيهِ بالقبضة الْبَيْضَاء الَّتِي هِيَ قلب الأَرْض وبهاؤها ونورها؛ ليخلق مِنْهَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهبط جِبْرِيل فِي مَلَائِكَة الفراديس المقربين وملائكة الصفح الْأَعْلَى، فَقبض قَبْضَة من مَوضِع قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي يَوْمئِذٍ بَيْضَاء نقية، فعجنت بِمَاء التسنيم ورعرعت حَتَّى صَارَت كالدرة الْبَيْضَاء ثمَّ غمست فِي أَنهَار الْجنَّة كلهَا، وطيف بهَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض والبحار، فَعرفت الْمَلَائِكَة حِينَئِذٍ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفضله قبل أَن تعرف آدم وفضله، ثمَّ عجنت بطينة آدم بعد ذَلِك، وَلَا يخلق ذَلِك الْجَسَد إِلَّا من أفضل بقاع الأَرْض. حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ. وَحكى أَبُو عبيد الجرهمي وَكَانَ كَبِير السن عَالما بأخبار الْأُمَم: أَن تبعا الْأَصْغَر وَهُوَ تبع بن حسان بن تبع سَار إِلَى يثرب فَنزل فِي سفح جبل أحد، وَذهب إِلَى الْيَهُود وَقتل مِنْهُم ثَلَاثمِائَة وَخمسين رجلا صبرا وَأَرَادَ إخرابها، فَقَامَ إِلَيْهِ حبر من الْيَهُود

فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الْملك مثلك لَا يقبل على الْغَضَب وَلَا يقبل قَول الزُّور وَأَنت لَا تَسْتَطِيع أَن تخرب هَذِه الْقرْيَة. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لِأَنَّهَا مهَاجر نَبِي من ولد إِسْمَاعِيل يخرج من هَذِه البنية يَعْنِي الْبَيْت الْحَرَام فَكف تبع وَمضى إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ هَذَا الْيَهُودِيّ وَرجل آخر عَالم من الْيَهُود، فكسا الْبَيْت الْحَرَام كسْوَة وَنحر عِنْده سِتَّة آلَاف جزور وَأطْعم النَّاس، وَلم يزل بعد ذَلِك يحوط الْمَدِينَة الشَّرِيفَة ويعظمها. ويروى أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لما حَملته الريخ من اصطخر على مَمَره بوادي النَّمْل سَار إِلَى الْيمن فتوغل فِي الْبَادِيَة فسلك مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام: هَذِه دَار هِجْرَة نَبِي فِي آخر الزَّمَان طُوبَى لمن آمن بِهِ وَاتبعهُ. فَقَالَ لَهُ قوم: كم بَيْننَا وَبَين خُرُوجه؟ قَالَ: زهاء ألف عَام. ووادي النَّمْل هُوَ وَادي السديرة بِأَرْض الطَّائِف من أَرض الْحجاز. قَالَه كَعْب. وَقيل: هُوَ بِالشَّام. وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا قدم من سفر فَنظر إِلَى جدران الْمَدِينَة أوضع رَاحِلَته، وَإِن كَانَ على دَابَّة حركها. وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: يُوشك أَن يضْرب النَّاس أكباد الْإِبِل يطْلبُونَ الْعلم فَلَا يَجدونَ أحدا أعلم من عَالم الْمَدِينَة. قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن. روى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه قَالَ: هُوَ مَالك بن أنس رَضِي الله عَنهُ. وَعَن عبد الرَّزَّاق أَنه قَالَ: هُوَ الْعمريّ الزَّاهِد. قَالَ التوربشتي فِي " شرح المصابيح ": وَمَا ذكره ابْن عُيَيْنَة، وَعبد الرَّزَّاق فَهُوَ مَحْمُول مِنْهُمَا على غَلَبَة الظَّن دون الْقطع بِهِ، وَقد كَانَ مَالك رَحمَه الله حَقِيقا بِهَذَا الظَّن فَإِنَّهُ كَانَ إِمَام دَار الْهِجْرَة والمرجوع بهَا إِلَيْهِ فِي علم الْفتيا، وَكَذَا الْعمريّ الزَّاهِد وَهُوَ عبد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَقد كَانَ الشَّيْخ وَحده وَكَانَ من عباد الله الصَّالِحين الْمَشَّائِينَ فِي عباده وبلاده بِالنَّصِيحَةِ، وَلَقَد بلغنَا أَنه كَانَ يخرج إِلَى الْبَادِيَة؛ ليتفقد أَحْوَال أَهلهَا شَفَقَة مِنْهُ عَلَيْهِم أَو ألحق النَّصِيحَة فيهم فيأمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر، وَكَانَ يَقُول لعلماء الْمَدِينَة: شغلكم طلب الجاه وَحب الرياسة عَن تَوْفِيَة الْعلم حَقه فِي إخْوَانكُمْ من الْمُسلمين، تركتموهم فِي الْبَوَادِي والفلوات يعمهون فِي أَوديَة الْجَهْل ومتيهة الضلال، أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ. قَالَ التوربشتي: وَلَو جَازَ لنا أَن نتجاوز الظَّن فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة لَكَانَ قَوْلنَا إِنَّه

ما جاء في غبار المدينه الشريفه

عمر أولى من قَوْله إِنَّه لعمري مَعَ الْقطع بِهِ فقد لبث بِالْمَدِينَةِ أعواماً يجْتَهد فِي تمهيد الشَّرْع وَتبين الْأَحْكَام، وَلَقَد شهد لَهُ أَعْلَام الصَّحَابَة بالتفوق فِي الْعلم حَتَّى قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ يَوْم اسْتشْهد عمر رَضِي الله عَنهُ: لقد دفن بِمَوْتِهِ تِسْعَة أعشار الْعلم. انْتهى. قَالَ الْعَفِيف الْمرْجَانِي: سَمِعت وَالِدي يَقُول: كنت ذَات يَوْم جَالِسا فِي الْبُسْتَان فَإِذا بِمِقْدَار ثَلَاثِينَ أَو أَرْبَعِينَ فَارِسًا لابسين ثيابًا معممين ملثمين جَمِيعهم قَاصِدين الْمَدِينَة، فاتبعتهم فِي أَثَرهم فَلم أجد لَهُم خَبرا، فَسَأَلت عَنْهُم فَلم أجد من يُخْبِرنِي عَنْهُم بِخَبَر وَلم أجد لَهُم أثرا، فَعلمت أَنهم من الْمَلَائِكَة أَو من مؤمني الْجِنّ أَو صالحي الْإِنْس أَتَوا لزيارة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: والبستان الْيَوْم بَاقٍ مَعْرُوف بالمرجانية بِالْقربِ من الْمصلى. قَالَ الْعَفِيف: وسمعته يَقُول: من بركَة أَرض الْمَدِينَة أَنِّي زرعت بالبستان بطيخاً أَخْضَر فَلَمَّا اسْتَوَى أَتَانِي بعض الْفُقَرَاء من أَصْحَابِي فأشاروا إِلَى بطيخة قد انْتَهَت وَقَالُوا: هَذِه لَا تتصرف فِيهَا هِيَ لنا إِلَى الْيَوْم الْفُلَانِيّ. فَلَمَّا خَرجُوا أَتَى من قطعهَا وَلم أعلم فتشوشت من ذَلِك وَنظرت فَإِذا بنوارة قد طلعت مَكَان تِلْكَ البطيخة وعقدت بطيخة فَلم يَأْتِ يَوْم وعد الْفُقَرَاء إِلَّا وَهِي أكبر من الأولى فَأتوا وأكلوها وَلم يشكوا أَنَّهَا الأولى. وَقَالَ الْعَفِيف فِي " تَارِيخه " أَيْضا: سَمِعت وَالِدي يَقُول: سحرت امْرَأَة من أهل الْيمن زَوجهَا وغيرت صورته، وَاتفقَ لَهُم حِكَايَة طَوِيلَة ثمَّ شفع فِيهِ بعض النَّاس فَقَالَت امْرَأَته: لَا بُد أَن أترك فِيهِ عَلامَة فأطلقته بعد أَن نبت لَهُ ذَنْب كذنب الْحمار، فحج وَهُوَ على تِلْكَ الْحَالة فَشَكا ذَلِك إِلَى أبي عبد الله مُحَمَّد بن يحيى الغرناطي فَقِيه كَانَ بِمَكَّة فَأمره بِالسَّفرِ إِلَى الْمَدِينَة، فسافر فِي طَرِيق المشيان إِلَيْهَا قَالَ: فَعِنْدَ وُصُوله إِلَى قبَاء سقط مِنْهُ ذَلِك الذَّنب بِإِذن الله تَعَالَى. مَا جَاءَ فِي غُبَار الْمَدِينَة الشَّرِيفَة تقدم فِي بَاب الْفَضَائِل حَدِيث: " غُبَار الْمَدِينَة شِفَاء من الجذام ". وَعَن ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما دنا من الْمَدِينَة منصرفاً من تَبُوك خرج إِلَيْهِ يتلقاه أهل الْمَدِينَة من الْمَشَايِخ والغلمان، ثار من آثَارهم غبرة فخمر بعض من كَانَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنفه من الْغُبَار، فَمد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده فأماطها عَن وَجهه، وَقَالَ: " أما علمت أَن عَجْوَة الْمَدِينَة شِفَاء من السم، وغبارها شِفَاء من الجذام ".

ما جاء في تمر المدينه وثمارها ودعائه صلي الله عليه وسلم لها بالبركه

وَعَن إِبْرَاهِيم بن الجهم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بني الْحَارِث فَإِذا هم وؤباء، فَقَالَ: " مَا لكم يَا بني الْحَارِث وؤبى؟ " قَالُوا: نعم يَا رَسُول الله أصابتنا هَذِه الْحمى. قَالَ: " فَأَيْنَ أَنْتُم عَن صعيب؟ " قَالُوا: يَا رَسُول الله مَا نصْنَع بِهِ؟ قَالَ: " تأخذون من ترابه فتجعلونه فِي مَاء ثمَّ يتفل عَلَيْهِ أحدكُم وَيَقُول: بِسم الله تربة أَرْضنَا، بريق بَعْضنَا، شِفَاء لمريضنا بِإِذن رَبنَا " فَفَعَلُوا فتركتهم الْحمى. قَالَ أَبُو الْقَاسِم طَاهِر بن يحيى الْعلوِي: صعيب وَادي بطحان دون الماجشونية وَفِيه حُفْرَة يَأْخُذ النَّاس مِنْهَا، وَهُوَ الْيَوْم إِذْ أوبأ إِنْسَان يَأْخُذ مِنْهَا. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين بن النجار: رَأَيْت هَذِه الحفرة وَالنَّاس يَأْخُذُونَ مِنْهَا وَذكروا أَنهم قد جربوه فوجدوه صَحِيحا. قَالَ: وَأخذت أَنا مِنْهَا أَيْضا. وبطحان بِضَم الْبَاء وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة سمي بذلك لسعته وانبساطه من البطح وَهُوَ الْبسط، قَالَه أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام. وَعَن ابْن سلمَان أَن رجلا أُتِي بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبرجله قرحَة فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طرف الْحَصِير ثمَّ وضع أُصْبُعه الَّتِي تلِي الْإِبْهَام على التُّرَاب بَعْدَمَا مَسهَا بريقه فَقَالَ: " بِسم الله، بريق بَعْضنَا، بتربة أَرْضنَا، يشفي سقيمنا بِإِذن رَبنَا "، ثمَّ وضع أُصْبُعه على القرحة فَكَأَنَّمَا حلّ من عقال. مَا جَاءَ فِي تمر الْمَدِينَة وثمارها ودعائه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا بِالْبركَةِ أول من غرس النّخل فِي الأَرْض أنوس بن شِيث، وَأول من غرس بِالْمَدِينَةِ بَنو قُرَيْظَة وَبَنُو النَّضِير. حدث الْعَوْفِيّ عَن الْكَلْبِيّ فِي " تَارِيخ مُلُوك الأَرْض ": أَن شرية الْخَثْعَمِي عمّر ثَلَاثمِائَة سنة وَأدْركَ زمَان عمر بن الْخطاب فَقَالَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ: لقد رَأَيْت هَذَا الْوَادي الَّذِي أَنْتُم وَمَا بِهِ نخالة وَلَا شَجَرَة مِمَّا ترَوْنَ، وَلَقَد سَمِعت أخريات قومِي يشْهدُونَ بِمثل شهادتكم هَذِه يَعْنِي لَا إِلَه إِلَّا الله وَمِمَّنْ عمّر مثل هَذَا جمَاعَة مِنْهُم: سلمَان الْفَارِسِي والمستوغر بن ربيعَة. وَتقدم فِي الْفَضَائِل: " من تصبح بِسبع تمرات عَجْوَة لم يضرّهُ فِي ذَلِك الْيَوْم سم

ذكر ما يؤول اليه امر المدينه الشريفه

وَلَا سحر ". وَفِي صَحِيح مُسلم: " من أكل سبع تمرات من بَين لابتيها حِين يصبح لم يضرّهُ سم حَتَّى يُمْسِي ". واللابة: الْحرَّة حِجَارَة سود من الجبلين. فَقَوله: " من بَين لابتيها " أَي حرّيتها. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُؤْتى بِأول الثَّمر فَيَقُول: " اللَّهُمَّ بَارك لنا فِي مدينتنا، وَفِي ثمارنا، وَفِي كدنا وَفِي صاعنا، بركَة مَعَ بركَة، ثمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَر من يحضرهُ من الْولدَان ". وَفِي رِوَايَة ابْن السّني عَن أبي هُرَيْرَة: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أُتِي بباكورة وَضعهَا على عَيْنَيْهِ ثمَّ على شَفَتَيْه وَقَالَ: " اللَّهُمَّ كَمَا أريتنا أَوله فأرنا آخِره ثمَّ يُعْطِيهِ من يكون عِنْده من الصّبيان ". وَعَن عَليّ قَالَ: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى إِذا كُنَّا بالسقيا الَّتِي كَانَت لسعد بن أبي وَقاص فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " ائْتُونِي بِوضُوء "، فَلَمَّا تَوَضَّأ قَامَ فَاسْتقْبل الْقبْلَة ثمَّ كبر ثمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِن إِبْرَاهِيم كَانَ عَبدك وخليلك دعَاك لأهل مَكَّة بِالْبركَةِ، وَأَنا مُحَمَّد عَبدك وَرَسُولك أَدْعُوك أَن تبَارك لَهُم فِي مدهم مثل مَا باركت لأهل مَكَّة، وَمَعَ الْبركَة بركتين ". ذكر مَا يؤول إِلَيْهِ أَمر الْمَدِينَة الشَّرِيفَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لتتركن الْمَدِينَة على خير مَا كَانَت مدللة، ثمَّ أرها لَا يَغْشَاهَا إِلَّا العوافي يُرِيد عوافي الطير وَالسِّبَاع وَآخر من يحْشر مِنْهَا راعيان من مزينة يُريدَان الْمَدِينَة، ينعقان بغنمهما فيجدانها وحشاً حَتَّى إِذا

ما جاء في تحديد حدود حرم المدينه الشريفه

بلغا ثنية الْوَدَاع خرا على وُجُوههمَا ". رَوَاهُ البُخَارِيّ. وَعنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لتتركن الْمَدِينَة على أحسن مَا كَانَت حَتَّى يدْخل الْكَلْب أَو الذِّئْب فيغذى على بعض سواري الْمَسْجِد أَو على الْمِنْبَر ". فَقَالُوا: يَا رَسُول الله فَلِمَنْ تكون الثِّمَار فِي ذَلِك الزَّمن. فَقَالَ: " للعوافي الطير وَالسِّبَاع ". رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ. مَا جَاءَ فِي تَحْدِيد حُدُود حرم الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " الْمَدِينَة حرم مَا بَين عير إِلَى ثَوْر، فَمن أحدث فِيهَا حَدثا، أَو آوى مُحدثا، فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، لَا يقبل الله مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة صرفا وَلَا عدلا " وَأَرَادَ بِالْحَدَثِ: الْبِدْعَة وَذَلِكَ مَا لم تجر بِهِ سنة وَلم يتَقَدَّم بِهِ عمل، وبالمحدث: المبتدع. قَالَ التوربشتي: وروى بَعضهم الْمُحدث بِفَتْح الدَّال وَلَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة بِكَسْر الدَّال وَفِيه من طريف الْمَعْنى وَهن وَهُوَ أَن اللَّفْظَيْنِ يرجعان حِينَئِذٍ إِلَى شَيْء وَاحِد، فَإِن إِحْدَاث الْبِدْعَة وإيواءها سَوَاء، والإيواء قَلما يسْتَعْمل فِي الإحداث وَإِنَّمَا الْمَشْهُور اسْتِعْمَاله فِي الْأَعْيَان الَّتِي تنضم إِلَى المساوئ. انْتهى. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: مَا عندنَا شَيْء إِلَّا كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " الْمَدِينَة حرم مَا بَين عَابِر إِلَى كَذَا " رَوَاهُ البُخَارِيّ مطولا وَهَذَا لَفظه، وَرَوَاهُ مُسلم فَقَالَ: " مَا بَين عير إِلَى ثَوْر ". وَهَذَا هُوَ حد الْحرم فِي الطول. وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول: لَو رَأَيْت الظباء ترتع بِالْمَدِينَةِ مَا ذعرتها، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " مَا بَين لابتيها حرَام ". مُتَّفق عَلَيْهِ. وَهَذَا حد الْحرم فِي الْعرض. وَعنهُ قَالَ: حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَلَو وجدت الظباء مَا بَين لابتيها مَا ذعرتها، وَجعل اثنى

عشر ميلًا حمى رَوَاهُ مُسلم. قَالَ الْمَازِني: نقل بعض أهل الْعلم أَن ذكر ثَوْر هُنَا وهم من الرَّاوِي؛ لِأَن ثوراً بِمَكَّة، وَالصَّحِيح مَا بَين ثَوْر إِلَى أحد. وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام: إِن عيرًا جبل مَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ، وَأَن ثوراً لَا يعرف بهَا وَإِنَّمَا يعرف بِمَكَّة. قَالَ: فَإِذا نرى أَن أصل الحَدِيث مَا بَين عير إِلَى أحد. وَكَذَلِكَ قَالَ غَيره. وَقَالَ أَبُو بكر الْحَازِمِي: حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَين عير إِلَى أحد قَالَ: هَذِه الرِّوَايَة الصَّحِيحَة وَقيل: إِلَى ثَوْر. فَلَيْسَ لَهُ معنى. انْتهى. قَالُوا أَو يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمي أحدا ثوراً تَشْبِيها بثور مَكَّة، لوُقُوعه فِي مُقَابلَة جبل يُسمى عيرًا. وَقيل: أَرَادَ بهما مأزمي الْمَدِينَة؛ لما ورد فِي حَدِيث أبي سعيد: " حرمت مَا بَين مأزميها ". وَقيل: أَرَادَ الحرتين شبه إِحْدَى الحرتين بعير لنتوء وَسطه ونشوزه، وَالْآخر بثور لامتناعه تَشْبِيها بثور الْوَحْش. وَقيل: إِن مَا بَين عير مَكَّة إِلَى ثورها من الْمَدِينَة مثله حرَام. وَإِنَّمَا قيل: هَذِه التأويلات لما لم يعرف بِالْمَدِينَةِ جبل يُسمى ثوراً. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَقد أَخْبرنِي الثِّقَة الصدوق الْحَافِظ الْعَالم المجاور بحرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو مُحَمَّد عبد السَّلَام الْبَصْرِيّ أَن حذاء أحد عَن يسَاره جانحاً إِلَى وَرَائه جبل صَغِير يُقَال لَهُ: ثَوْر، وَأخْبر أَنه تكَرر سُؤَاله عَنهُ لطوائف من الْعَرَب العارفين بِتِلْكَ الأَرْض وَمَا فِيهَا من الْجبَال فَكل أخبر أَن ذَلِك الْجَبَل اسْمه ثَوْر، فَعلمنَا بذلك أَن مَا تضمنه الْخَبَر صَحِيح، وَعدم علم أكَابِر الْعلمَاء بِهِ لعدم شهرته وَعدم سُؤَالهمْ وبحثهم عَنهُ. انْتهى. وَقَالَ جمال الدّين المطري وَغَيره: قد ثَبت بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة عَن أَهلهَا القدماء الساكنين بالعمرية والغابة أَنهم يعْرفُونَ عَن آبَائِهِم وأجدادهم أَن وَرَاء أحد جبلا يُقَال لَهُ: ثَوْر مَعْرُوف. قَالَ: وشاهدنا الْجَبَل وَلم يخْتَلف فِي ذَلِك أحد، وَعَسَى أَن يكون أشكل على من تقدم لقلَّة سكناهم بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: وَهُوَ خلف جبل أحد من شماليه تَحْتَهُ وَهُوَ جبل صَغِير مدور وهما حد الْحرم كَمَا نقل، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا الِاسْم لم يبلغ أَبَا عبيد وَلَا الْمَازِني.

انْتهى. وَأما عير فَهُوَ الْجَبَل الْكَبِير الَّذِي من جِهَة قبْلَة الْمَدِينَة. وَاخْتلف فِي صيد حرم الْمَدِينَة وشجره ومذهبنا أَنه لَا يحرم، وَتقدم آخر الْبَاب التَّاسِع الْجَواب عَن حَدِيث سعد بن أبي وَقاص وَعَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة ". وَعَن حَدِيث سعد بن أبي وَقاص أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِنِّي أحرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يقطع عضاهها ". الحَدِيث. قَالَ التوربشتي فِي " شرح المصابيح ": وَكَانَ سعد وَزيد بن ثَابت يريان فِي ذَلِك الْجَزَاء. وَأجَاب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ نسخ فَلم يشعرا بِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذهب للنسخ من ذهب للأحاديث الَّتِي تدل على خلاف ذَلِك، وَلِهَذَا لم يَأْخُذ بحديثهما أحد من فُقَهَاء الْأَمْصَار، وَسُئِلَ مَالك عَن النَّهْي فِي قطع سدر الْمَدِينَة فَقَالَ: إِنَّمَا نهى عَنهُ لِئَلَّا يتوحش وليتقي بِهِ شَجَرهَا فيستأنس بذلك من هَاجر إِلَيْهَا ويستظل بهَا. انْتهى. وَأجَاب أَيْضا عَن حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " اللَّهُمَّ إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة فَجَعلهَا حرما ". الحَدِيث. وَفِيه " لَا ينفر صيدها ". وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث جَابر: " لَا يصاد صيدها ". قَالَ: والسبيل فِي ذَلِك أَن يحمل النَّهْي على مَا قَالَه مَالك وَغَيره من الْعلمَاء أَنه أحب أَن تكون الْمَدِينَة مأهولة مستأنسة، فَإِن صيدها وَإِن رأى تَحْرِيمه نفر يسير من الصَّحَابَة فَإِن الْجُمْهُور مِنْهُم لم ينكروا اصطياد الطُّيُور بِالْمَدِينَةِ، وَلم يبلغنَا فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى من طَرِيق يعْتَمد عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ حَرَامًا لم يسكت عَنهُ فِي مَوضِع الْحَاجة، ثمَّ لم يبلغنَا عَن أحد من الصَّحَابَة أَنه رأى الْجَزَاء فِي صيد الْمَدِينَة، وَلم يذهب أَيْضا إِلَى ذَلِك أحد من فُقَهَاء الْأَمْصَار الَّذين يَدُور عَلَيْهِم علم الْفتيا فِي بِلَاد الْإِسْلَام انْتهى.

وَأجَاب التوربشتي أَيْضا عَن حَدِيث سعد رَضِي الله عَنهُ أَنه وجد عبدا يقطع شَجرا أَو يخبطه فسلبه ثِيَابه. قَالَ: وَالْوَجْه فِي ذَلِك النّسخ فِي ذَلِك على مَا ذكرنَا وَقد كَانَت الْعُقُوبَات فِي أول الْإِسْلَام جَارِيَة فِي الْأَمْوَال. انْتهى.

الفصل الرابع ذكر اوديه المدينه الشريفه وآبارها المنسوبه الي النبي صلي الله عليه وسلم وعينها وذكر جبل احد والشهداء عنده

الْفَصْل الرَّابِع: ذكر أَوديَة الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وآبارها المنسوبة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعينها وَذكر جبل أحد وَالشُّهَدَاء عِنْده.

ذكر وادي العقيق وفضله

ذكر وَادي العقيق وفضله تقدم حَدِيث عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بوادي العقيق يَقُول: " أَتَانِي اللَّيْلَة آتٍ من رَبِّي. . " الحَدِيث. وَكَانَ عبد الله بن عمر ينيخ بالوادي يتحَرَّى معرس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَقُول: هُوَ أَسْفَل من الْمَسْجِد الَّذِي بِبَطن الْوَادي بَينه وَبَين الطَّرِيق وسط من ذَلِك. وَعَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص قَالَ: ركب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى العقيق ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ: " يَا عَائِشَة جِئْنَا من هَذَا العقيق فَمَا أَلين موطئِهِ وَمَا أعذب مَاءَهُ ". قَالَت: أَفلا تنْتَقل إِلَيْهِ " قَالَ: " كَيفَ وَقد ابتنى النَّاس ". قَالَ أهل السّير: وجد قبر آدَمِيّ عِنْد جما أم خَالِد بالعقيق مَكْتُوب فِيهِ: أَنا عبد الله رَسُول رَسُول الله سُلَيْمَان بن دَاوُد إِلَى أهل يثرب، وَوجد حجر آخر على قبر آدَمِيّ أَيْضا عَلَيْهِ مَكْتُوب: أَنا سود بن سوَادَة رَسُول رَسُول الله عِيسَى ابْن مَرْيَم إِلَى أهل هَذِه الْقرْيَة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين المطري: والجماوات أَرْبَعَة أجبل غربي وَادي العقيق. وابتنى النَّاس بالعقيق من خلَافَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ونزلوه وحفروا بِهِ الْآبَار وغرسوا فِيهِ النخيل وَالْأَشْجَار من جَمِيع نواحيه على جَنْبي وَادي العقيق إِلَى هَذِه الجماوات، وَسميت كل جما مِنْهَا باسم من بنى فِيهَا، وَنزل فِيهِ جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَسَعِيد بن الْعَاصِ بن سعيد بن الْعَاصِ وَسعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن زيد، وماتوا جَمِيعهم بِهِ وحملوا إِلَى الْمَدِينَة ودفنوا فِي البقيع وَكَذَلِكَ سكنه جمَاعَة من التَّابِعين وَمن بعدهمْ، وَكَانَت فِيهِ الْقُصُور المشيدة والآبار العذبة، ولأهلها أَخْبَار مستحسنة وأشعار رائقة، وَلما بنى عُرْوَة بن الزبير قصره بالعقيق ونزله، قيل لَهُ جفوت عَن مَسْجِد رَسُول

ذكر الآبار المنسوبه الي النبي صلي الله عليه وسلم

الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت مَسَاجِدهمْ لاهية، واسواقهم لاغية، والفاحشة فِي فجاجهم عالية، فَكَانَ فِيمَا هُنَالك عَمَّا هُوَ فِيهَا عَافِيَة، وَولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العقيق لرجل اسْمه هيضم الْمُزنِيّ، وَلم تزل الْوُلَاة على الْمَدِينَة الشَّرِيفَة يولون عَلَيْهِ والياً حَتَّى كَانَ دَاوُد بن عِيسَى فَتَركه فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة. فال ابْن النجار: ووادي العقيق الْيَوْم لَيْسَ فِيهِ سَاكن، وَفِيه بقايا بُنيان خراب وآثار تَجِد النَّفس برؤيتها أنسا. قَالَ الشَّيْخ منتخب الدّين: وبالمدينة عقيقان الْأَصْغَر فِيهِ بِئْر رومة، والأكبر فِيهِ بِئْر عُرْوَة، سميا بذلك لِأَنَّهُمَا عقا عَن حرَّة الْمَدِينَة أَي قطعا. قَالَ الْجمال المطري: وَرمل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْعَرَصَة الَّتِي تسيل من الجما الشمالية إِلَى الْوَادي فَيحمل مِنْهُ وَلَيْسَ فِي الْوَادي رمل أَحْمَر غير مَا يسيل من الْجَبَل. ذكر الْآبَار المنسوبة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد نقل أهل السّير أَسمَاء آبار بِالْمَدِينَةِ شرب مِنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبصق فِيهَا إِلَّا أَن أَكْثَرهَا لَا يعرف الْيَوْم، فَلَا حلاجة إِلَى ذكره، وَنَذْكُر الْآبَار الَّتِي هِيَ مَوْجُودَة الْيَوْم مَعْرُوفَة على مَا يذكر أهل الْمَدِينَة والعهدة عَلَيْهِم. الأولى: بِئْر حا. قَالَ ابْن النجار: وَهَذِه الْبِئْر الْيَوْم وسط حديقة صَغِيرَة جدا فِيهَا نخيلات وبزر حولهَا وَعِنْدهَا بَيت مَبْنِيّ على علو من الأَرْض، وَهِي قريبَة من البقيع وَمن سور الْمَدِينَة وَهِي ملك لبَعض أهل الْمَدِينَة، وماؤها عذب حُلْو، قَالَ: وذرعتها فَكَانَ طولهَا عشْرين ذِرَاعا مِنْهَا أحد عشر ذِرَاعا وَنصف مَاء وَالْبَاقِي بُنيان، وعرضها ثَلَاثَة أَذْرع ويسير، وَهِي مُقَابلَة الْمَسْجِد كَمَا ورد فِي الصَّحِيح.

وَقَالَ المطري: وَهِي شمَالي سور الْمَدِينَة، بَينهَا وَبَين السُّور الطَّرِيق، وتعرف الْيَوْم بالنويرية اشْتَرَاهَا ووقفها على الْفُقَرَاء وَغَيرهم. الثَّانِيَة: بِئْر أريس وَهِي الْبِئْر الَّتِي جلس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا وتوسط قفها وكشف عَن سَاقيه ودلاهما فِي الْبِئْر، وَكَانَ بَابهَا من جريد، فَدخل عَلَيْهِ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فبشره بِالْجنَّةِ وَجلسَ عَن يَمِين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه فِي القف ودلى رجلَيْهِ فِي الْبِئْر وكشف عَن سَاقيه، ثمَّ دخل عمر رَضِي الله عَنهُ وَبشر بِالْجنَّةِ وَجلسَ عَن يسَاره وصنع كَمَا صنع أَبُو بكر، ثمَّ دخل عُثْمَان بن عَفَّان وبشره بِالْجنَّةِ مَعَ بلوى تصيبه فَوجدَ القف قد ملئ فَجَلَسَ وجاههم من الشق الآخر. ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَكَانَ البواب أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. قَالَ سعيد بن الْمسيب: فَأَوَّلتهَا قُبُورهم. قَالَ ابْن النجار: وَهَذِه الْبِئْر مُقَابلَة مَسْجِد قبَاء، وَعِنْدهَا مزارع ويستسقى مِنْهَا مَاؤُهَا عذب، قَالَ: وذرعتها فَكَانَ طولهَا أَرْبَعَة عشر ذِرَاعا وشبراً، مِنْهَا ذراعان وَنصف مَاء وعرضها خَمْسَة أَذْرع، وَطول قفها الَّذِي جلس عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاحباه ثَلَاثَة اذرع تشف كفا، والبئر تَحت أَطَم عَال خراب من حِجَارَة. قَالَ المطري: الْبِئْر غربي مَسْجِد قبَاء فِي حديقة الْأَشْرَاف الكبراء من بني الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، والأطم الْمَذْكُور من جِهَة الْقبْلَة وَقد بنى فِي أَعْلَاهُ مسكن يسكنهُ من يقوم بالحديقة ويخدم " الْمَسْجِد الشريف " وحولها دور الْأَنْصَار وآثارهم رَضِي الله عَنْهُم وَقد جدد لَهَا الشَّيْخ صفي الدّين أَبُو بكر أَحْمد السلَامِي رَحمَه الله درجاً ينزل إِلَيْهَا مِنْهُ، وعَلى الدرج قبو وَذَلِكَ فِي سنة أَربع عشرَة وَسَبْعمائة. الثَّالِثَة: بِئْر بضَاعَة. وَقد تقدم فِي الْفَضَائِل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَصق فِيهَا ودعا لَهَا

وَهَذِه الْبِئْر كَانَت لبني سَاعِدَة وهم قوم من الْخَزْرَج. قَالَ الْمرْجَانِي فِي تَارِيخه: وَالظَّاهِر أَن بضَاعَة رجل أَو امْرَأَة تنْسب إِلَيْهِ الْبِئْر، وَكَانَ موضعهَا ممر السُّيُول فتكمح الأقذار من الطّرق إِلَيْهَا لَكِن المَاء لكثرته لَا يُؤثر ذَلِك فِيهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد فِي السّنَن: سَالَتْ قيم بِئْر بضَاعَة عَن عمقها فَقلت: أَكثر مَا يكون فِيهَا المَاء؟ قَالَ: إِلَى الْعَانَة. قلت: فَإِذا نقص. قَالَ: دون الْعَوْرَة. قَالَ أَبُو دَاوُد: قد ذرعت بِئْر بضَاعَة برداء مددته عَلَيْهَا ثمَّ ذرعته فَهَذَا عرضه سِتَّة أَذْرع، وَسَأَلت الَّذِي فتح بَاب الْبُسْتَان فَأَدْخلنِي إِلَيْهِ هَل غير بناؤها عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا. وَرَأَيْت فِيهَا مَاء متغير اللَّوْن. قَالَ: ابْن الْعَرَبِيّ: وَهِي فِي وسط السبخة فماؤها يكون متغيراً من قَرَارهَا. قَالَ الْمُحب بن النجار: وماؤها عذب طيب، صَاف أَبيض، وريحه كَذَلِك، ويستقى مِنْهَا كثيرا، قَالَ: وذرعتها فَكَانَ طولهَا أحد عشر ذِرَاعا وشبراً، مِنْهَا ذراعان راجحة مَاء وَالْبَاقِي بِنَاء، وعرضها سِتَّة اذرع كَمَا ذكر أَبُو دَاوُد. قَالَ الْجمال المطري: وَهِي الْيَوْم فِي نَاحيَة حديقة شمَالي سور الْمَدِينَة وَغَرْبِيٌّ بِئْر حا إِلَى جِهَة الشمَال، يستقى مِنْهَا أهل الحديقة، والحديقة فِي قبْلَة الْبِئْر ويستقى مِنْهَا أهل حديقة أُخْرَى شمَالي الْبِئْر، والبئر وسط بَينهمَا. وَهَذِه الْآبَار الْمَذْكُورَة تقدم فَضلهَا فِي الْفَضَائِل. الرَّابِعَة: بِئْر غرس عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن رُقَيْش قَالَ: جَاءَنَا أنس بن مَالك بقباء فَقَالَ: أَيْن بئركم هَذِه؟ يَعْنِي بِئْر غرس فدللناه عَلَيْهَا قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءها وَإِنَّهَا لتسنى على حمَار بِسحر فَدَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدَلْو من مَائِهَا فَتَوَضَّأ مِنْهُ ثمَّ سكبه فِيهَا فَمَا نزفت بعده. وَعَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن مجمع قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " رَأَيْت اللَّيْلَة أَنِّي أَصبَحت على بِئْر من الْجنَّة "، فَأصْبح على بِئْر غرس فَتَوَضَّأ مِنْهَا وبصق

فِيهَا، وَغسل مِنْهَا حِين مَاتَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يشرب مِنْهَا. قَالَ الْمُحب بن النجار: وَهَذِه الْبِئْر بَينهَا وَبَين مَسْجِد قبَاء نَحْو نصف ميل، وَهِي فِي وسط الصَّحرَاء، وَقد خربها السَّيْل وطمها، وَفِيه مَاء أَخْضَر إِلَّا أَنه عذب طيب، وريحه الْغَالِب عَلَيْهِ الأجون، قَالَ: وذرعتها فَكَانَ طولهَا سَبْعَة أَذْرع شافة، مِنْهَا ذراعان مَاء، وعرضها عشرَة أَذْرع. قَالَ المطري: هِيَ شَرْقي قبَاء إِلَى جِهَة الشمَال وَهِي بَين النخيل، وَيعرف مَكَانهَا الْيَوْم وَمَا حولهَا بالغرس، وَهِي ملك بعض أهل الْمَدِينَة وجدت بعد السبعمائة، وَهِي كَثِيرَة المَاء، وعرضها عشرَة أَذْرع وطولها يزِيد على ذَلِك. الْخَامِسَة: بِئْر البصة. عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِي الشُّهَدَاء وأبناءهم ويتعاهد عِيَالهمْ، قَالَ: فجَاء يَوْمًا أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ فَقَالَ: " هَل عنْدك من سدر أغسل بِهِ رَأْسِي فَإِن الْيَوْم الْجُمُعَة؟ " قَالَ: نعم فَأخْرج لَهُ سدراً وَخرج مَعَه إِلَى البصة فَغسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه وصب غسالة رَأسه ومراقة شعره فِي البصة ". قَالَ ابْن النجار: وَهَذِه الْبِئْر قريبَة من البقيع على يسَار الْمَاضِي إِلَى قبَاء، وَهِي بَين نخل، وَقد هدمها السَّيْل وطمها، وفيهَا مَاء أَخْضَر، ووقفت على قفها وذرعت طولهَا فَكَانَ أحد عشر ذِرَاعا، مِنْهَا ذراعان مَاء وعرضها تِسْعَة اذرع، وَهِي مَبْنِيَّة بِالْحِجَارَةِ، ولون مَائِهَا إِذا انْفَصل مِنْهَا أَبيض، وطعمه حُلْو إِلَّا أَن الأجون غَالب عَلَيْهِ، قَالَ: وَذكر لي الثِّقَة أَن أهل الْمَدِينَة كَانُوا يستقون مِنْهَا قبل أَن يطمها السَّيْل.

قَالَ المطري: وَهِي الْيَوْم " حديقة كَبِيرَة " محوط عَلَيْهَا بحائط، وَعِنْدهَا فِي الحديقة بِئْر صَغِير أَصْغَر مِنْهَا، وَالنَّاس يَخْتَلِفُونَ فيهمَا أَيهمَا بِئْر البصة إِلَّا أَن الشَّيْخ محب الدّين قطع بِأَنَّهَا الْكَبِيرَة الْقبلية، وَقِيَاس الصُّغْرَى كالكبرى، وعرضها سِتَّة أَذْرع وَهِي الَّتِي تلِي أَطَم مَالك بن سِنَان أَبُو أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: وَسمعت بعض من أدْركْت من أكَابِر خدام الْحرم الشريف وَغَيرهم من أهل الْمَدِينَة يَقُولُونَ: إِنَّهَا الْكُبْرَى الْقبلية. وَأَن الْفَقِيه الصَّالح أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُوسَى بن عجيل وَغَيره من صلحاء الْيمن إِذا جاؤها للتبرك إِنَّمَا يقصدون الْكُبْرَى، والحديقة الَّتِي هِيَ فِيهَا الْيَوْم وقف على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والواردين والصادرين لزيارة سيد الْمُرْسلين، أوقفها الشَّيْخ عَزِيز الدولة ريحَان الندى الشهابي شيخ خدام الْحرم الشريف قبل وَفَاته " بيومين " أَو ثَلَاثَة، وَكَانَت وَفَاته سنة سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة. السَّادِسَة: بِئْر رومة. قَالَ الإِمَام منتخب الدّين أَبُو الْفَتْح الْعجلِيّ: لما قدم الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة الشَّرِيفَة استنكروا المَاء لملوحته، وَكَانَ لرجل من بني غفار عين يُقَال لَهَا بِئْر رومة يَبِيع مِنْهَا الْقرْبَة بِمد من الطَّعَام، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " بعنيها بِعَين فِي الْجنَّة ". فَقَالَ لَيْسَ لي غَيرهَا. فَبلغ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فاشتراها بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم ثمَّ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَتجْعَلُ لي مثل الَّذِي جعلت لَهُ؟ فَقَالَ: نعم. قَالَ الشَّيْخ: وَهَذِه الْبِئْر فِي العقيق الْأَصْغَر وَفِي العقيق الْأَكْبَر بِئْر عُرْوَة كَمَا قدمنَا. وَعَن مُوسَى بن طَلْحَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " نعم الحفيرة، حفيرة الْمُزنِيّ يَعْنِي رومة " فَلَمَّا سمع بذلك عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ابْتَاعَ نصفهَا بِمِائَة بكرَة وَتصدق بهَا فَجعل النَّاس يستقون مِنْهَا، فَلَمَّا رأى صَاحبهَا أَن قد امْتنع مِنْهُ مَا كَانَ يُصِيب عَلَيْهَا بَاعَ من عُثْمَان النّصْف الْبَاقِي بِشَيْء يسير فَتصدق بهَا كلهَا. وَذكر ابْن عبد الْبر أَن بِئْر رومة كَانَت ركية ليهودي يَبِيع من مَائِهَا للْمُسلمين، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من يَشْتَرِي رومة فيجعلها للْمُسلمين يضْرب بدلوه فِي دلائلهم، وَله بهَا مشربَة فِي الْجنَّة ". فَأتى عُثْمَان الْيَهُودِيّ

فساومه بهَا فَأبى أَن يَبِيعهَا كلهَا، فَاشْترى عُثْمَان نصفهَا بِاثْنَيْ عشر ألف دِرْهَم فَجَعلهَا للْمُسلمين، فَقَالَ لَهُ عُثْمَان: إِن شِئْت جعلت " قرنين "، وَإِن شِئْت فلي يَوْم وَلَك يَوْم فَقَالَ: بل لَك يَوْم ولي يَوْم. فَكَانَ إِذا كَانَ يَوْم عُثْمَان يَسْتَقِي الْمُسلمُونَ مَا يكفيهم يَوْمَيْنِ فَلَمَّا رأى ذَلِك الْيَهُودِيّ قَالَ: أفسدت عليّ ركيتي فَاشْترى النّصْف الآخر بِثمَانِيَة آلَاف دِرْهَم. قَالَ ابْن النجار: وَهَذِه الْبِئْر الْيَوْم بعيدَة عَن الْمَدِينَة جدا، وَعِنْدهَا بِنَاء من حِجَارَة خراب، قيل إِنَّه كَانَ ديراً ليهودية، وحولها مزارع وآبار، وأرضها رَملَة، قد انتفضت خرزتها وأعلامها إِلَّا بِئْر مليحة مَبْنِيَّة بِالْحِجَارَةِ الموجهة، قَالَ: وذرعتها فَكَانَ طولهَا ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا، مِنْهَا ذراعان مَاء وباقيها مطموم بالرمل الَّذِي تسفيه الرِّيَاح فِيهَا، وعرضها ثَمَانِيَة أَذْرع وماؤها صَاف وطعمها حُلْو إِلَّا أَن الأجون قد غلب عَلَيْهِ. قَالَ المطري: وسط وَادي العقيق من أَسْفَله فِي براح وَاسع من الأَرْض، وَقد خربَتْ وَأخذت حجارتها وَلم يبْق إِلَّا آثارها. قَالَ ابْن النجار: وَاعْلَم أَن هَذِه الْآبَار قد يزِيد مَاؤُهَا فِي بعض الزَّمَان، وَقد ينقص وَرُبمَا بَقِي مِنْهَا مَا كَانَ مطموماً. وَقد ذكر المطري أَن الْآبَار الْمَذْكُورَة سِتَّة وَالسَّابِعَة لَا تعرف الْيَوْم إِلَّا مَا يسمع من قَول الْعَامَّة: إِنَّهَا بِئْر جمل وَلم يعلم أَيْن هِيَ وَلَا من ذكرهَا إِلَّا أَنه ورد فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " أقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَحْو بِئْر جمل ". ثمَّ قَالَ: إِلَّا أَنِّي رَأَيْت حَاشِيَة بِخَط الشَّيْخ محب الدّين بن عَسَاكِر على نُسْخَة من " الدرة الثمينة " لِابْنِ النجار مَا مِثَاله الْعدَد ينقص على الْمَشْهُور بِئْرا وَاحِدَة؛ لِأَن الْمُثبت سِتّ والمأثور الْمَشْهُور سبع. وَالسَّابِعَة: اسْمهَا بِئْر العهن بِالْعَالِيَةِ يزرع عَلَيْهَا الْيَوْم، وَعِنْدهَا سِدْرَة وَلها اسْم آخر مَشْهُورَة بِهِ. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: بِئْر العهن هَذِه مَعْرُوفَة بالعوالي انْتَقَلت بِالشِّرَاءِ إِلَى الشَّهِيد المرحوم عَليّ بن مطرف الْعمريّ، وَهِي بِئْر مليحة منقورة فِي الْجَبَل وَعِنْدهَا سِدْرَة كَمَا ذكر وَلَا تكَاد تنزف أبدا، العوالي وَيُقَال الْعَالِيَة أَيْضا، سميت بِهِ لإشراف موَاضعهَا

وَهِي منَازِل حول الْمَدِينَة. قَالَ مَالك: بَين أبعد العوالي وَالْمَدينَة ثَلَاثَة أَمْيَال) . وَقد ذكر ابْن زبالة فِي تَارِيخه عدَّة آبار بِالْمَدِينَةِ وسماها فِي دور الْأَنْصَار وَنقل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَاهَا وَتَوَضَّأ من بَعْضهَا وَشرب مِنْهَا، لَا يعرف الْيَوْم مِنْهَا شَيْء. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَمن جملَة مَا ذكر آبار فِي الْحرَّة الغربية فِي آخر منزلَة المنعمي على يسَار السالك الْيَوْم على بِئْر على الْمحرم، وعَلى جَانبهَا الشمالي بِنَاء مستطيل مجصص يُقَال لَهَا السقيا كَانَت لسعد بن أبي وَقاص تقدم ذكرهَا، نقل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " عوض " جَيش بدر بالسقيا وَصلى فِي مَسْجِدهَا، ودعا فِي هُنَاكَ لأهل الْمَدِينَة أَن يُبَارك لَهُم فِي مدهم وصاعهم وَأَن يَأْتِيهم بالرزق من هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَشرب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بِئْرهَا، وَيُقَال لأرضها السفلجان. وَهِي الْيَوْم معطلة خراب وَهِي بِئْر كَبِيرَة مليحة منقورة فِي الْجَبَل، وَنقل أَن السقيا عين من طرف الْحرَّة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة يَوْمَانِ كَذَا فِي كتاب أبي دَاوُد. وَنقل الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرض جَيْشه على بِئْر أبي عنبة بِالْحرَّةِ فَوق هَذِه الْبِئْر إِلَى الْمغرب، وَنقل أَنَّهَا على ميل من الْمَدِينَة. وَمِنْهَا بِئْر أُخْرَى إِذا وقفت على هَذِه الْمَذْكُورَة وَأَنت على جادة الطَّرِيق وَهِي على يسارك كَانَت هَذِه على يَمِينك وَلكنهَا بعيدَة عَن الطَّرِيق قَلِيلا، وَهِي فِي سَنَد من الْحرَّة قد حوط حولهَا بِنَاء مجصص وَكَانَ على شفيرها حَوْض من حِجَارَة لم تزل أهل الْمَدِينَة قَدِيما يتبركون بهَا وَيَشْرَبُونَ من مَائِهَا وينقل إِلَى الْآفَاق مِنْهَا كَمَا ينْقل مَاء زَمْزَم، ويسمونها زَمْزَم أَيْضا لبركتها، قَالَ: وَلم أعلم أحدا ذكر مِنْهَا أحدا يعْتَمد عَلَيْهِ وَالله أعلم أَيَّتهمَا هِيَ السُّفْلى الأولى لقربها من الطَّرِيق أم هَذِه لتواتر الْبركَة فِيهَا. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَيُمكن أَن يكون تسميتهم إِيَّاهَا زَمْزَم لِكَثْرَة مَائِهَا يُقَال: مَاء زَمْزَم لِكَثْرَة مَائِهَا أَي كثير. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: أَو لَعَلَّهَا الْبِئْر الَّتِي احتفرتها فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن بن عَليّ زَوْجَة الْحسن بن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم حِين أخرجت من بَيت جدَّتهَا

ذكر عين النبي صلي الله عليه وسلم

فَاطِمَة الْكُبْرَى أَيَّام الْوَلِيد بن عبد الْملك حِين أَمر بِإِدْخَال حجر أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَيت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهُن فِي الْمَسْجِد، فَإِنَّهَا بنت دارها فِي الْحرَّة وَأمرت بِحَفر بِئْر فِيهَا، فطلع لَهُم جبل فَذكرُوا ذَلِك لَهَا، فَتَوَضَّأت وصلت رَكْعَتَيْنِ ودعت ورشت مَوضِع الْبِئْر بِفضل وضوئها، وأمرتهم فَحَفَرُوا فَلم يتَوَقَّف عَلَيْهِم من الْجَبَل شَيْء حَتَّى ظهر المَاء. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَالظَّاهِر أَنَّهَا هَذِه، وَأَن السقيا هِيَ الأولى؛ لِأَنَّهَا على جادة الطَّرِيق وَهُوَ الْأَقْرَب. وَالله أعلم. ذكر عين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن طَلْحَة بن خرَاش قَالَ: كَانُوا أَيَّام الخَنْدَق يحفرون مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَخَافُونَ عَلَيْهِ فَيدْخلُونَ بِهِ كَهْف بني حزَام فيبيت فِيهِ حَتَّى إِذا أصبح هَبَط، قَالَ: ونقر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العيينة الَّتِي عِنْد الْكَهْف فَلم تزل تجْرِي حَتَّى الْيَوْم. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَهَذِه الْعين فِي ظَاهر الْمَدِينَة وَعَلَيْهَا بِنَاء، وَهِي مُقَابلَة الْمصلى. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: أما الْكَهْف الَّذِي ذكره ابْن النجار فمعروف على غربي جبل يبلغ عَن يَمِين إِلَى سَاحل الْفَتْح من الطَّرِيق الْقبلية، وعَلى يسَار السالك إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة إِذا زار الْمَسْجِد وسلك الْمَدِينَة مُسْتَقْبل الْقبْلَة يُقَابله حديقة نخل تعرف بِالْغَنِيمَةِ فِي بطن وَادي بطحان غربي جبل سلع، وَفِي هَذَا الْوَادي عين تَأتي من عوالي الْمَدِينَة تَسْقِي مَا حول الْمَسَاجِد من الْمزَارِع والنخيل تعرف بِعَين الْخيف خيف شَامي، وتعرف تِلْكَ النَّاحِيَة بالسيح بِالسِّين الْمُهْملَة بعْدهَا يَاء مثناة من أَسْفَل وحاء مُهْملَة، وَأما الْعين الَّتِي ذكر الشَّيْخ محب الدّين الْمُقَابلَة للْمُصَلِّي فَهِيَ عين الْأَزْرَق وَهُوَ مَرْوَان بن الحكم، الَّتِي " خرجها " بِأَمْر مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ واليه على الْمَدِينَة، وَأَصلهَا من قبَاء من بِئْر كَبِيرَة غربي مَسْجِد قبَاء فِي حديقة " نخل "، والقبة مقسومة نِصْفَيْنِ يخرج المَاء مِنْهَا من وَجْهَيْن مدرجين، وَجه قبلي وَالْآخر شمَالي

يغْتَسل فيهمَا وَينْتَفع بهما، وَتخرج الْعين من " الْقبْلَة " من جِهَة الْمشرق ثمَّ تَأْخُذ إِلَى جِهَة الشمَال، وَأخذ الْأَمِير سيف الدّين الْحُسَيْن بن أبي الهيجاء فِي حُدُود السِّتين وَخَمْسمِائة مِنْهَا شُعْبَة من عِنْد مخرجها من الْقبْلَة، فساقها إِلَى بَاب الْمَدِينَة الشَّرِيفَة بَاب الْمصلى، ثمَّ أوصلها إِلَى الرحبة الَّتِي عِنْد مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جِهَة بَاب السَّلَام الْمَعْرُوف قَدِيما بِبَاب مَرْوَان، وَبنى لَهَا منهلاً بدرج من تَحت الدّور يستقى مِنْهُ أهل الْمَدِينَة، وَذَلِكَ الْموضع مَوضِع سوق الْمَدِينَة الْآن، ثمَّ جعل لَهَا " مصرفين " تَحت الأَرْض تشق وسط الْمَدِينَة على البلاط ثمَّ تخرج على ظَاهر الْمَدِينَة من جِهَة الشمَال شَرْقي حصن أَمِير الْمَدِينَة، وَجعل مها شُعْبَة صَغِيرَة تدخل إِلَى صحن الْمَسْجِد الشريف أزيلت كَمَا سَيَأْتِي ذكره فِي الْفَصْل السَّادِس إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَاعْلَم أَن الْعين إِذا خرجت من الْقبَّة الَّتِي فِي الْمصلى سَارَتْ إِلَى جِهَة الشمَال حَتَّى تصل إِلَى سور الْمَدِينَة فَتدخل من تَحْتَهُ إِلَى منهل آخر بِوَجْهَيْنِ مدرجين، ثمَّ تخرج إِلَى خَارج الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فتصل إِلَى منهل آخر بِوَجْهَيْنِ عِنْد قبر النَّفس الزكية، ثمَّ تخرج من هُنَاكَ وتجتمع هِيَ وَمَا يتَحَصَّل من فَضلهَا فِي قناة وَاحِدَة إِلَى الْبركَة الَّتِي ينزلها الْحجَّاج، ثمَّ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: وَأما عين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي ذكر ابْن النجار فَلَيْسَتْ تعرف الْيَوْم، وَإِن كَانَت كَمَا ذكر قَالَ: عِنْد الْكَهْف الْمَذْكُور فقد دثرت وَعَفا أَثَرهَا. ذكر جبل أحد وَالشُّهَدَاء عِنْده تقدم فِي بَاب الْفَضَائِل ذكر فضل جبل أحد وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك، وَتقدم معنى قَوْله فِي الحَدِيث فِي " أحد يحبنا ونحبه "، وَتقدم أَيْضا حَدِيث: " أثبت أحد فَإِنَّمَا عَلَيْك نَبِي وصديق وشهيدان ". قيل: إِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا إِشَارَة عَمَّا أحدثه قوم

مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما اخْتَار السّبْعين للميقات وَوَقع فِي نُفُوسهم مَا وَقع تزلزل الْجَبَل بِهِ، فَكَأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشَارَ أَنه لَيْسَ عَلَيْك مِمَّن يشك كقوم مُوسَى. وَعَن جَابر بن عتِيك عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " خرج مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام حاجين أَو معتمرين فَلَمَّا كَانَا بِالْمَدِينَةِ مرض هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام فثقل، فخاف عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام الْيَهُود، فَدخل أحدا فَمَاتَ فدفنه فِيهِ ". وَقيل: مَاتَ مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي التيه، وقبر مُوسَى مَعْرُوف بالقدس فِي أول التيه يزار. وَعَن أنس رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لما تجلى الله لجبل طور سيناء فَصَارَ لِعَظَمَة الله تَعَالَى سِتَّة أجبل، فَوَقَعت ثَلَاثَة بِالْمَدِينَةِ: أحد وورقان ورضوى وَوَقعت ثَلَاثَة بِمَكَّة ثَوْر وثبير وحراء ". قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: فأحد مَعْرُوف وَهُوَ شمَالي الْمَدِينَة وَأقرب الْجبَال إِلَيْهَا وَهُوَ على نَحْو فرسخين مِنْهَا، وَقيل: على نَحْو أَرْبَعَة أَمْيَال. وعير مُقَابِله فِي قبْلَة الْمَدِينَة وَالْمَدينَة بَينهمَا، وورقان قبل شعب عليّ، مَا بَين الشّعب والروحاء إِلَى الْقبْلَة، وَاسْتشْهدَ بِأحد سَبْعُونَ رجلا أَرْبَعَة من الْمُهَاجِرين وهم حَمْزَة بن عبد الْمطلب، وَعبد الله بن جحش، وَمصْعَب بن عُمَيْر، وشماس بن عُثْمَان، وَالْبَاقُونَ كلهم أنصار، وَقتل حَمْزَة يَوْم أحد وحشى بن حَرْب الحبشي مولى جُبَير بن مطعم وَذَلِكَ فِي النّصْف من شَوَّال يَوْم السبت على رَأس اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ من الْهِجْرَة، وَكَانَ يُقَاتل بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسيفين فعثر فَوَقع فانكشف الدرْع عَن بَطْنه فطعن، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين رَآهُ وَقد مثل بِهِ: " جَاءَنِي جِبْرِيل فَأَخْبرنِي أَن حَمْزَة مَكْتُوب فِي أهل السَّمَاوَات السَّبع حَمْزَة بن عبد الْمطلب أَسد الله وَأسد رَسُوله ". وَكبر رَسُول الله

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جنَازَته سبعين تَكْبِيرَة. وَقيل: كبر عَلَيْهِ سبعا. وَدفن هُوَ وَابْن أُخْته عبد الله بن حجر فِي قبر وَاحِد. وَالشُّهَدَاء يَوْم أحد سَبْعُونَ: الأول: حَمْزَة بن عبد الْمطلب أحد أعمام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَخُوهُ من الرضَاعَة. الثَّانِي: عبد الله بن جحش الْأَسدي من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين أُخْته زَيْنَب بنت جحش زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الَّذِي انْقَطع سَيْفه يَوْم أحد فَأعْطَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرجون نَخْلَة فَصَارَ فِي يَده سَيْفا، وَلم يزل ينْتَقل حَتَّى بيع من بغا التركي بِمِائَتي دِينَار وَدفن مَعَ حَمْزَة. الثَّالِث: مُصعب بن عُمَيْر الْعَبدَرِي وَهُوَ أول من هَاجر إِلَى الْمَدِينَة وَأول من جمع فِي الْإِسْلَام يَوْم الْجُمُعَة، وَكَانَ لِوَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَعْظَم لِوَاء الْمُهَاجِرين يَوْم بدر مَعَه وَيَوْم أحد، وَضرب ابْن قمئة يَد مُصعب فقطعها، وَمصْعَب يَقُول: " وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل ". وَأخذ اللِّوَاء بِيَدِهِ الْيُسْرَى فضربها ابْن قمئة فقطعها فَجَثَا على اللِّوَاء فضمه بَين عضديه إِلَى صَدره ثمَّ حمل عَلَيْهِ الثَّالِثَة فأنفذه وَوَقع مُصعب وَسقط اللِّوَاء، وَذكر ابْن سعد أَن مصعباً حِين قتل أَخذ الرَّايَة ملك على صورته فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " تقدم يَا مُصعب ". فَقَالَ الْملك لست بمصعب فَعلم أَنه ملك. الرَّابِع: شماس بن عُثْمَان الشريد الْقرشِي حمل من بَين الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَة وَبِه رَمق ثمَّ مَاتَ عِنْد أم سَلمَة، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يرد إِلَى أحد فيدفن كَمَا هُوَ فِي ثِيَابه الَّتِي مَاتَ فِيهَا بعد أَن مكث يَوْمًا وَلَيْلَة إِلَّا أَنه لم يَأْكُل وَلم يشرب، وَلم يصل عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يغسلهُ. الْخَامِس: عمار بن زِيَاد بن السكن لما أثخن وسد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدمه فَمَاتَ. السَّادِس: عَمْرو بن ثَابت بن وقش كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَام فَلم يسلم إِلَّا يَوْم أحد وَأسلم وَقَاتل حَتَّى قتل فذكروه لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " إِنَّه لمن أهل الْجنَّة ". السَّابِع وَالثَّامِن: ثَابت بن وقش أَبُو عَمْرو الْمَذْكُور، واليمان أَبُو حُذَيْفَة كَانَا شيخين ارتفعا فِي الْآطَام مَعَ النِّسَاء وَالصبيان وَلما خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى

أحد فَقَالَ أَحدهمَا للْآخر: مَا تنْتَظر وخرجا فَقَاتلا حَتَّى قتلا. التَّاسِع: حَنْظَلَة بن أبي عَامر الأوسي قَتله أَبُو سُفْيَان، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قتل: " إِن صَاحبكُم لتغسله الْمَلَائِكَة ". فَسُئِلت صاحبته عَنهُ فَقَالَت: خرج وَهُوَ جنب حِين سمع النداء. فَكَانَ يعرف بغسيل الْمَلَائِكَة ". الْعَاشِر: أنس بن النَّضر بن ضَمْضَم عَم أنس بن مَالك وجد فِيهِ بضعَة وَثَمَانُونَ طعنة وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن من عباد الله من لَو أقسم على الله لَأَبَره " ويروى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " من رجل ينظر إِلَى مَا فعل سعد بن الرّبيع فِي الْأَحْيَاء هُوَ أم فِي الْأَمْوَات؟ " فَنظر رجل من الْأَنْصَار، قيل: هُوَ أبي بن كَعْب، فَوَجَدَهُ جريحاً فِي الْقَتْلَى فِيهِ رَمق قَالَ: فَقلت لَهُ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرنِي أَن أنظر فِي الْأَحْيَاء أَنْت أم فِي الْأَمْوَات. فَقَالَ: أَنا فِي الْأَمْوَات فأبلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مني السَّلَام، وَقل لَهُ: إِن سعد بن الرّبيع يَقُول لَك: جَزَاك الله عَنَّا خير مَا جزي نَبيا عَن أمته، وأبلغ قَوْمك مني السَّلَام وَقل لَهُم إِن سعد بن الرّبيع يَقُول لكم: إِنَّه لَا عذر لكم عِنْد الله إِن خلص إِلَى نَبِيكُم وَفِيكُمْ عين تطرف، قَالَ: ثمَّ لم ابرح حَتَّى مَاتَ فَجئْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَخْبَرته. الثَّانِي عشر: عبد الله بن عَمْرو بن حرَام وَهُوَ أول من قتل يم أحد، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِهِ جَابر: " لَا تبكه مَا زَالَت الْمَلَائِكَة تظله بأجنحتها حَتَّى رفعتموه ". الثَّالِث عشر: عَمْرو بن الجموح أحد نقباء الْأَنْصَار وَكَانَ أعرج، وَكَانَ لَهُ بنُون أَرْبَعَة فأراجوا حَبسه فَامْتنعَ، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبَنِيهِ: " مَا عَلَيْكُم أَلا تمنعوه لَعَلَّ الله عز وَجل يرزقه الشَّهَادَة: فَخرج مَعَه. قيل: يُؤْخَذ من هَذَا أَن أَصْحَاب الْأَعْذَار إِذا خَرجُوا نالوا دَرَجَة الشَّهَادَة.

الْحَارِث بن أَوْس بن معَاذ بن النُّعْمَان، واسعد بن سُوَيْد بن قيس من بني حدرة، الْحَارِث بن أنس بن رَافع، عَمْرو بن معَاذ بن النُّعْمَان، أسلمة بن ثَابت بن وقش، رِفَاعَة بن وقش، صفي بن قيظي، حباب بن قيظي، غباد بن سهل، إِيَاس بن أَوْس بن عتِيك، عبيد بن التيهَان وَيُقَال: عتِيك، حبيب بن زيد بن تيم البياضي، يزِيد بن حَاطِب بن عَمْرو الأشْهَلِي، أَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث بن قيس البياضي، أنيس بن قَتَادَة، أَبُو حَيَّة بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاة من تَحت وَيُقَال: بِالْبَاء الْمُوَحدَة أَخُو سعد بن خَيْثَمَة لأمه وَقيل أَبُو حنة بالنُّون لِأَنَّهُ شهد بَدْرًا وَلَيْسَ فِيمَن شهد بَدْرًا أحد يُقَال لَهُ أَبُو حَبَّة بِالْبَاء الْمُوَحدَة، عبد الله بن جُبَير بن النُّعْمَان، خَيْثَمَة أَبُو سعيد بن خَيْثَمَة، عبد الله بن سَلمَة، يسبع بن حلوان بن الْحَارِث، وَقيل: سبيع بن حَاطِب بن الْحَارِث، عَمْرو بن قيس بن زيد، ابْن قيس، ثَابت بن عَمْرو بن زيد، عَامر بن مخلد، أَبُو هُبَيْرَة بن الْحَارِث، وَيُقَال: أَبُو أسيرة، وَيُقَال: إِن أَبَا أسيرة أَخُوهُ، عَمْرو بن مطرف بن عَلْقَمَة، أَوْس بن ثَابت بن الْمُنْذر أَخُو حسان بن ثَابت، قيس بن مخلد، كيسَان عبد أبي قَارون بن النجار، سليم بن الْحَارِث، نعْمَان بن عَمْرو خَارِجَة بن زيد، أَوْس بن الأرقم بن زيد، مَالك بن سِنَان أَبُو أبي سعيد الْخُدْرِيّ، عتبَة بن ربيع بن رَافع، ثَعْلَبَة بن سعد بن مَالك، ثقف بن فَرْوَة بن الندى، عبد الله بن عَمْرو بن وهب، ضَمرَة حَلِيف لبني طريف من جُهَيْنَة، نَوْفَل بن عبد الله، عَبَّاس بن عبَادَة، نعْمَان بن مَالك بن ثَعْلَبَة، المجذر بن زِيَاد، عبَادَة بن الخشخاش، رِفَاعَة بن عَمْرو وَقيل: رِفَاعَة بن رَافع بن يزِيد بن عَمْرو، خَلاد بن عَمْرو بن الجموح، أَبُو أَيمن مولى خَلاد بن عَمْرو الْمَذْكُور، سليم وَقيل: سُلَيْمَان وَالْأول أصح وَقيل: سَالم بن عَامر وَقيل: ابْن عَمْرو بن حَدِيدَة، مَوْلَاهُ عنزة وَيُقَال: عنيزة أَو عنترة، سهل بن قيس بن أبي بن كَعْب، ذكْوَان بن عبد قيس بن خَالِد بن مخلد الزرقي، عبيد بن الْمُعَلَّى بن لوذان، مَالك بن نميلَة، الْحَارِث بن عدي بن خَرشَة، مَالك بن أياس، إِيَاس بن عدي، عَمْرو بن إِيَاس، وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي قَتْلَى أحد: " هَؤُلَاءِ شُهَدَاء فأتوهم وسلموا

عَلَيْهِم وَلنْ يسلم عَلَيْهِم أحد مَا قَامَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِلَّا ردوا عَلَيْهِ ". وروى جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق عَن أَبِيه عَن جده أَن فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت تخْتَلف بَين الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة إِلَى قُبُور الشُّهَدَاء بِأحد فَتُصَلِّي هُنَاكَ وَتَدْعُو وتبكي حَتَّى مَاتَت. وروى العطاف بن خَالِد قَالَ: حَدَّثتنِي خَالَة لي وَكَانَت من العابدات قَالَت: ركبت يَوْمًا حَتَّى جِئْت قبر حَمْزَة فَصليت مَا شَاءَ الله وَلَا وَالله مَا فِي الْوَادي من دَاع وَلَا مُجيب وَغُلَامِي أَخذ بِرَأْس دَابَّتي فَلَمَّا فرغت من صَلَاتي قلت: السَّلَام عَلَيْكُم واشرت بيَدي فَسمِعت رد السَّلَام على من تَحت الأَرْض أعرفهُ كَمَا أعرف أَن الله سُبْحَانَهُ خلقني فاقشعرت كل شَعْرَة مني فدعوت الْغُلَام وَركبت. وَقد وَردت آثَار كَثِيرَة فِي أَن أجساد الشُّهَدَاء لَا تبلى وَقد شوهد ذَلِك، وشوهد ايضاً بَقَاء أجساد شُهَدَاء الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة، ومصداق ذَلِك قَوْله تَعَالَى: " وَعدا عَلَيْهِ حَقًا فِي التَّوْرَاة والانجيل وَالْقُرْآن ". فالآية عَامَّة فِي سَائِر مؤمني الْأُمَم، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا تبلى أَجْسَادهم، وَقد حرم الله على الأَرْض أَن تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء، وَقد وجدت أجساد الْمُلُوك والحكماء المدبرين مَعَ طراوة أَجْسَادهم بالحيلة بعد وفاتهم بمئين من الأعوام بل بعض حكماء الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة وملوكها يوجدون إِلَى هَذَا الزَّمن أطرياء لم يتَغَيَّر مِنْهُم شَيْء وَذَلِكَ أَنهم وبروا أدهاناً ادهنوا بهَا عِنْد مَوْتهمْ فمنعتهم من الْبلَاء قَالَ هرمس: وَقد أمرت من يفعل بِي ذَلِك إِذا أَنا مت وَأَشَارَ إِلَى أَن يطلى بالشمس وَالْقَمَر مرموزاً وَهُوَ الزئبق وَالْملح بالرمز الثَّانِي. ويروى: أَنه مَتى شدّ جَمِيع الشَّخْص بِالذَّهَب لَا يبْلى مَا بَقِي الذَّهَب، وَقد وجد شخص مكفن بِالذَّهَب فِي ورقة من ذهب فَقلعت فَإِذا فِيهَا سَبْعُونَ درهما. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَفِي قبْلَة جبل أحد قُبُور الشُّهَدَاء وَلَا يعلم مِنْهَا الْآن إِلَّا قبر حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ وَمَعَهُ فِي الْقَبْر ابْن أُخْته كَمَا تقدم، وَعَلِيهِ قبَّة عالية ومشهد بنته أم الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن المستضئ سنة تسعين وَخَمْسمِائة وعَلى المشهد بَاب من حَدِيد يفتح كل خَمِيس وشمالي الْمَسْجِد أرام من حِجَارَة يُقَال إِنَّهَا من قُبُور الشُّهَدَاء وَكَذَلِكَ من غربته أَيْضا، وَقد ورد أَن هَذِه قُبُور أنَاس مَاتُوا عَام الرَّمَادَة فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ، وَلَا شكّ أَن قُبُور الشُّهَدَاء حول حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ إِذْ لَا ضَرُورَة أَن يبعدوا عَنهُ، وَعند رجل حَمْزَة قبر رجل تركي كَانَ مُتَوَلِّيًا عمَارَة المشهد الشريف يُقَال لَهُ: سنقر،

وَكَذَلِكَ فِي صحن الْمَسْجِد الشريف قبر دفن فِيهِ بعض الْأَشْرَاف من أُمَرَاء الْمَدِينَة. وَتَحْت جبل أحد من جِهَة الْقبْلَة لاصقاً بِالْمَسْجِدِ مَسْجِد شرِيف صَغِير قد تهدم يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ الظّهْر وَالْعصر بعد انْفِصَال الْقِتَال، وَفِي جِهَة الْقبْلَة من هَذَا الْمَسْجِد مَوضِع منقور فِي الْحجر على قدر رَأس الْإِنْسَان يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس على الصَّخْرَة الَّتِي تَحْتَهُ وَأدْخل رَأسه فِيهِ، وَكَذَلِكَ شمَالي الْمَسْجِد غَار فِي الْجَبَل يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخله. وَلم يرد بذلك نقل صَحِيح. وقبلي المشهد جبل صَغِير يُسمى عنين بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر النُّون الأولى والوادي بَينهمَا كَانَ علية الرُّمَاة يَوْم أحد وَعِنْده مسجدان أَحدهمَا مَعَ ركنة الشَّرْقِي يُقَال: إِنَّه الْموضع الَّذِي طعن فِيهِ حَمْزَة وَالْمَسْجِد الآخر شمَالي هَذَا الْمَسْجِد على شَفير هَذَا الْوَادي يُقَال: إِنَّه مصرع حَمْزَة وَإنَّهُ مَشى بطعنته إِلَى هُنَاكَ ثمَّ صرع رَضِي الله عَنهُ، وَبَين المشهد وَالْمَدينَة ثَلَاثَة أَمْيَال وَنصف وَإِلَى أحد مَا يُقَارب أَرْبَعَة أَمْيَال. وَكَانَت غزَاة أحد فِي السّنة الثَّالِثَة من الْهِجْرَة. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: جَاءَت قُرَيْش من مَكَّة لِحَرْب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاقوه يَوْم السبت النّصْف من شَوَّال سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة عِنْد جبل أحد. وَقيل: كَانَ نزُول قُرَيْش يَوْم أحد بِالْمَدِينَةِ بِالْجمعَةِ وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: يَوْم الْأَرْبَعَاء فنزلوا بِالْمَدِينَةِ برومة من وَادي العقيق وَصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجُمُعَة بِالْمَدِينَةِ ثمَّ لبس لامته وَخرج هُوَ وَأَصْحَابه على الْحرَّة الشرقية حرَّة واقم وَبَاكٍ بالسيحين مَوضِع بِالْمَدِينَةِ وَأحد مَعَ الْحرَّة إِلَى جبل أحد وغزا صبح يَوْم السبت إِلَى أحد فَفِيهِ كَانَت وقْعَة أحد، قيل: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم السبت لسبع لَيَال خلون من شَوَّال على رَأس اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ شهرا من الْهِجْرَة وَكَانَ دَلِيل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أحد سهل بن أبي حثْمَة. وَعَن قَتَادَة: لما قدم أَبُو سُفْيَان بالمشركين رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُؤْيا فِي النّوم فتأولها قتلا فِي أَصْحَابه، وَرَأى سَيْفه ذَا الفقار انفصم فَكَانَ قتل حَمْزَة، وَرَأى كَبْشًا أغبر قتل فَكَانَ صَاحب لِوَاء الْمُشْركين عُثْمَان بن أبي طَلْحَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه بعد الرُّؤْيَا: " إِنِّي فِي جنَّة حَصِينَة يَعْنِي الْمَدِينَة فدعوهم يدْخلُونَ نقاتلهم " فَقَالَ نَاس من الْأَنْصَار: يَا رَسُول الله إِنَّا نكره أَن نقْتل فِي طرف الْمَدِينَة فابرز بِنَا إِلَى الْقَوْم فَلبس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لامته وَنَدم الْقَوْم فِيمَا أشاروا بِهِ وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: " إِنَّه لَيْسَ لنَبِيّ إِذا لبس لامته أَن يَضَعهَا حَتَّى يُقَاتل سَتَكُون فِيكُم مُصِيبَة " قَالُوا: يَا رَسُول الله خَاصَّة أم عَامَّة. قَالَ مكي: فقتادة يذهب إِلَى أَن الذَّنب الَّذِي عدده الله فِي قَوْله: " أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قد أصبْتُم

مثليها قُلْتُمْ أَنى هَذَا قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم ". هُوَ مَا أشاروا بِهِ. وَقيل فِيهِ غير ذَلِك، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد فِي ألف، وَالْمُشْرِكُونَ فِي ثَلَاثَة آلَاف، وَكَانَ جِبْرِيل وَمِيكَائِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام عَن يَمِين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن يسَاره يقاتلان لشدَّة الْقِتَال. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا يَوْم أحد فَقَالَ: " يَا صريخ المكروبين ومجيب الْمُضْطَرين وَكَاشف الكرب الْعَظِيم اكشف كربي وهمي وغمي فَإنَّك ترى حَالي وَحَال أَصْحَابِي ". قَالَ: فصرف الله عدوه وغزا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدا على فرسه السكب كَانَ اشْتَرَاهُ من أَعْرَابِي من بني فَزَارَة بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ اسْمه عِنْد الْأَعرَابِي المضرس، وَهُوَ أول فرس ملكه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأول غزَاة غزا عَلَيْهِ أحدا، وَكَانَ طلق الْيَمين لَهُ سبْحَة وسابق عَلَيْهِ فَسبق فعرج بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُقَال: فرس سكب أَي كثير الجري، ثمَّ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاتل الْمُشْركين يَوْم أحد وَالْمُسْلِمين وخلص الْعَدو إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذب بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقع بشقه فَانْكَسَرت رباعيته وشج فِي وَجهه وَكلمت شفته وَكَانَ ذَلِك كَرَامَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولأصحابه الَّذين اسْتشْهدُوا بَين يَدَيْهِ وَكَانُوا سبعين رجلا كَمَا تقدم.

الفصل الخامس ذكر جلاء بني النضير من المدينه وحفر الخندق وقتل بني قريظه بالمدينه

الْفَصْل الْخَامِس: ذكر جلاء بني النَّضِير من الْمَدِينَة وحفر الخَنْدَق وَقتل بني قُرَيْظَة بِالْمَدِينَةِ.

ذكر جلاء بني النضير من المدينه

ذكر جلاء بني النَّضِير من الْمَدِينَة اعْلَم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد عقد حلفا بَين بني النَّضِير من الْيَهُود وَبَين بني عَامر، فَعدا عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي من بني النَّضِير على رجلَيْنِ من بني عَامر فَقَتَلَهُمَا، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني قُرَيْظَة يَسْتَعِينهُمْ فِي دِيَة الْقَتِيلين، فَقَالُوا: نعم. ثمَّ خلا بَعضهم بِبَعْض فَقَالُوا: إِنَّكُم لن تَجدوا الرجل على مثل حَاله هَذَا، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاعِدا إِلَى جنب جِدَار من بُيُوتهم، فَمن رجل يعلوا على هَذَا الْبَيْت فيلقي عَلَيْهِ صَخْرَة، فَصَعدَ أحدهم لذَلِك، فَأتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَبَر من السَّمَاء فَقَامَ وَرجع إِلَى الْمَدِينَة، وَأخْبر أَصْحَابه الَّذين مَعَه مِنْهُم أَبُو بكر وَعمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُم وَأمرهمْ بالتهيؤ لحربهم، وَسَار حَتَّى نزل بهم فِي شهر ربيع الآخر سنة أَربع من الْهِجْرَة فَتَحَصَّنُوا فِي الْحُصُون، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقطع نخيلهم وَتَحْرِيقهَا، وَقذف الله فِي قُلُوبهم الرعب، فسألوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يخليهم ويكف عَن دِمَائِهِمْ على أَن لَهُم مَا حملت الْإِبِل من أَمْوَالهم إِلَّا السِّلَاح فَفعل، فَخَرجُوا إِلَى خَيْبَر وَمِنْهُم من سَار إِلَى الشَّام، وخلوا الْأَمْوَال فَقَسمهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين دون الْأَنْصَار إِلَّا أَن سهل بن حنيف وَأَبا دُجَانَة سماك بن خَرشَة ذكرا فقرا فَأَعْطَاهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يسلم من بني النَّضِير إِلَّا رجلَانِ يَامِين بن عُمَيْر وَأَبُو سعيد بن وهب، أسلما على أَمْوَالهم فأحرزاهما، وَأنزل الله تَعَالَى فِي بني النَّضِير سُورَة الْحَشْر بأسرها، وَكَانَت نخيل بني النَّضِير تسمى نُوَيْرَة، وَقيل: بويرة، اسْم بَلْدَة أَو مَوضِع من مَوَاضِع بني النَّضِير. ذكر حفر الخَنْدَق حفر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الخَنْدَق يَوْم الْأَحْزَاب، وَذَلِكَ أَن نَفرا من بني النَّضِير الَّذين أجلاهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا بِخَيْبَر وَكَانَ رئيسهم حييّ بن أَخطب قدم هُوَ ورؤساء قومه إِلَى مَكَّة على قُرَيْش، فدعوهم لِحَرْب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأطاعتهم قُرَيْش وغَطَفَان بِمن جمعُوا، فَلَمَّا سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضرب الخَنْدَق على الْمَدِينَة، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْقل التُّرَاب يَوْم الخَنْدَق حَتَّى

اغبر بَطْنه كَمَا ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ، واشتدت عَلَيْهِم صَخْرَة فِي الخَنْدَق فشكوها إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدَعَا بِإِنَاء من مَاء فتفل فِيهِ ثمَّ دَعَا بِمَا شَاءَ الله أَن يدعوا بِهِ ثمَّ نضح ذَلِك المَاء على تِلْكَ الصَّخْرَة، فانهالت حَتَّى عَادَتْ كالكثيب لَا ترد فأساً وَلَا مسحاة، وَلم يزل الْمُسلمُونَ يعْملُونَ فِيهِ حَتَّى أتموه، وحفره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طولا من أَعلَى وَادي بطحان غربي الْوَادي مَعَ الْحرَّة إِلَى غربي الْمُصَلِّي مصلى الْعِيد، ثمَّ إِلَى مَسْجِد الْفَتْح ثمَّ إِلَى الجبلين الصغيرن اللَّذين فِي غربي الْوَادي، يُقَال لأَحَدهمَا: رابح وَللْآخر جبل بني عبيد، وَأَقْبَلت قُرَيْش وكنانة وَمن تبعها من الأجاييش فِي عشرَة آلَاف حَتَّى نزلُوا بمجتمع السُّيُول من رومة وَادي العقيق وَقَائِدهمْ أَبُو سُفْيَان، وَأَقْبَلت غطفان وبنوا أَسد وَمن تبعها من أهل نجد حَتَّى نزلُوا بذنب نقميىعلى جَانب أحد مَا بَين طرفِي وَادي النقمي وَقَائِدهمْ عُيَيْنَة بن حصن، وأتى الْحَارِث بن بن عَوْف فِي بني مرّة ومسعود بن رحيلة فِي أَشْجَع، وَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون فِي ثَلَاثَة آلَاف حَتَّى جعلُوا ظُهُورهمْ إِلَى جبل سلع، وَضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُبَّته على الْقرن الَّذِي فِي غربي جبل سلع مَوضِع مَسْجده الْيَوْم، ثمَّ سعى حييّ بن أَخطب حَتَّى قطع الْحلف الَّذِي كَانَ بَين بني قُرَيْظَة وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَخَافَ لِحَرْب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاشْتَدَّ الْخَوْف، وَاشْتَدَّ الْحصار على الْمُسلمين وَكَانَ فِي ذَلِك مَا قصّ الله تَعَالَى بقوله: " إِذْ جاؤكم من فَوْقكُم وَمن أَسْفَل مِنْكُم. . الْآيَات ". فَأَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمُشْرِكُونَ بضعاً وَعشْرين لَيْلَة لم يكن لَهُم حَرْب إِلَّا الرَّمْي بِالنَّبلِ إِلَّا الفوارس من قُرَيْش فَإِنَّهُم قَاتلُوا فَقتلُوا وَقتلُوا، وَأصَاب سعد بن معَاذ سهم فحسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جرحه فانتفخت يَده ونزف الدَّم، فَلَمَّا رأى ذَلِك قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت أبقيت من حَرْب قُرَيْش شَيْئا فأبقني لَهَا، اللَّهُمَّ إِن كنت وضعت الْحَرْب بَيْننَا وَبينهمْ فاجعله لي شَهَادَة، وَلَا تمتني حَتَّى تقر عَيْني فِي بني قُرَيْظَة، وَكَانَ راميه حبّان بن العرقة رَمَاه بِسَهْم فِي عضده أصَاب أكحله فَانْقَطع، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَرْب فسطاط فِي الْمَسْجِد لسعد فَكَانَ يعودهُ فِي كل يَوْم، وَاسْتشْهدَ يَوْمئِذٍ من الْمُسلمين سِتَّة من الْأَنْصَار، وَلم يزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه على مَا هم عَلَيْهِ من الْخَوْف والشدة حَتَّى هذى الله تَعَالَى نعيم بن مَسْعُود دَاخل غطفان لِلْإِسْلَامِ، وَلم يعلم أَصْحَابه، وخدع بَين بني قُرَيْظَة وقريش وغَطَفَان وَرمى بَينهم الْفِتَن، وَبعث الله تَعَالَى عَلَيْهِم الرّيح فِي لَيَال بَارِدَة فَجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادهمْ، وَكَانَ مجيئهم وذهابهم فِي

ذكر قتل بني قريظه بالمدينه الشريفه

شَوَّال سنة خمس من الْهِجْرَة، يرْوى أَنهم لما وقفُوا على الخَنْدَق قَالُوا: إِن هَذِه لمكيدة مَا كَانَت الْعَرَب تكيدها، وَيُقَال: إِن سلمَان الْفَارِسِي أَشَارَ بِهِ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَالْخَنْدَق الْيَوْم بَاقٍ وَفِيه قناة تَأتي من عين بقباء إِلَى النّخل الَّذِي بِأَسْفَل الْمَدِينَة الْمَعْرُوف بالسيح حول مَسْجِد الْفَتْح، وَقد انطم أَثَره وتهدمت حيطانه. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين المطري: وَأما الْيَوْم فقد عَفا أثر الخَنْدَق وَلم يبْق مِنْهُ شَيْء يعرف إِلَّا ناحيته؛ لِأَن وَادي بطحان استولى على مَوضِع الخَنْدَق فَصَارَ مسيله فِي مَوضِع الخَنْدَق. وَقَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَفِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة أَرَانِي وَالِدي رَحمَه الله بَاقِي جِدَار مِنْهُ. ذكر قتل بني قُرَيْظَة بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَلما انْصَرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الخَنْدَق رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة والمسلمون وَوَضَعُوا السِّلَاح، فَأتى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معتجراً بعمامة من إستبرق على بغلة عَلَيْهَا قطيفة من ديباج فَقَالَ: لقد وضعت السِّلَاح يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: نعم. قَالَ: مَا وضعت الْمَلَائِكَة بعد السِّلَاح، وَمَا رجعت الْآن إِلَّا من طلب الْقَوْم، إِن الله يَأْمُرك بالسير إِلَى بني قُرَيْظَة فَإِنِّي عَامِد إِلَيْهِم فَمُزَلْزِل بهم. فأذّن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّاس: " من كَانَ سَامِعًا مُطيعًا فَلَا يصلين الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة ". فَنزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَاصَرَهُمْ خمْسا وَعشْرين لَيْلَة، وَقذف الله تَعَالَى فِي قُلُوبهم الرعب حَتَّى نزلُوا على حكم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فتواثبت الْأَوْس وَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِنَّهُم موالينا دون الْخَزْرَج فهم لنا، فَقَالَ: " أَلا ترْضونَ يَا معشر الْأَوْس أَن نحكم فيهم رجلا مِنْكُم ". قَالُوا: بلَى، قَالَ: " فَذَلِك إِلَى سعد بن معَاذ ". وَكَانَ سعد فِي خيمته يداوي جرحه، وَكَانَ حَارِثَة بن كلدة هُوَ الَّذِي يداويه وَكَانَ طَبِيب الْعَرَب وَهُوَ مولى أبي بكرَة مسروح، فَأَتَت الْأَوْس سعد بن معَاذ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ: " احكم فِي بني قُرَيْظَة " فَقَالَ: إِنِّي أحكم فيهم أَن تقتل الرجل وتقسم الْأَمْوَال وتسبى

الذرارى. فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لقد حكمت فيهم بِحكم الله من فَوق سَبْعَة أَرقعَة " أَي من فَوق سبع سماوات، وَكَانَ الَّذين نزلُوا على حكمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعمِائَة، واستنزلوا بني قُرَيْظَة من حصونهم فحبسوا بِالْمَدِينَةِ فِي دَار امْرَأَة من بني النجار، ثمَّ خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى سوق الْمَدِينَة فَخَنْدَق فِيهَا خنادق ثمَّ بعث إِلَيْهِم فجيء بهم فَضرب أَعْنَاقهم فِي تِلْكَ الْخَنَادِق، وَكَانُوا سَبْعمِائة وَفِيهِمْ حييّ بن أَخطب الَّذين حرضهم على نقض الْعَهْد، فَقتل مِنْهُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل من أنبت، واستحيى من لم ينْبت، وَقتل مِنْهُم امْرَأَة كَانَت طرحت رحى على خَلاد بن سُوَيْد من الْحصن فَقتلته يَوْم قتال بني قُرَيْظَة فَقَتلهَا بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخْبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لخلاد أجر شهيدين، ثمَّ قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمْوَالهم ونساءهم وأبناءهم على الْمُسلمين، وَأنزل الله تَعَالَى فِي بني قُرَيْظَة وَالْخَنْدَق من قَوْله تَعَالَى: " يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم " إِلَى قَوْله: " وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ وأرضاً لم تطؤها " قيل: هِيَ نِسَاؤُهُم. ثمَّ انفتق على سعد بن معَاذ جرحه فَمَاتَ مِنْهُ شَهِيدا، وَذَلِكَ بعد أَن أَصَابَهُ السهْم بِشَهْر فِي شَوَّال سنة خمس، وَكَانَ رجلا طوَالًا ضخماً، وَلم تزل بقايا الْيَهُود بِالْمَدِينَةِ إِلَى خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ، وَرُوِيَ عَن ابْن شهَاب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا يجْتَمع دينان فِي جَزِيرَة الْعَرَب " قَالَ ابْن شهَاب: ففحص عَن ذَلِك عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا يجْتَمع دينان فِي جَزِيرَة الْعَرَب ". فَأجلى يهود خَيْبَر وَأجلى يهود نَجْرَان وفدك. انْتهى.

الفصل السادس

الْفَصْل السَّادِس : ذكر ابْتِدَاء بِنَاء مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا زيد فِيهِ أَو نقص مِنْهُ إِلَى هَذَا التَّارِيخ وَفِيه ذكر مَا جَاءَ فِي قبْلَة مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اللَّيْل وَذكر قصَّة الْجذع وَذكر مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالرَّوْضَة الشَّرِيفَة وَذكر سد الْأَبْوَاب الشوارع فِي الْمَسْجِد الشريف وَذكر تجمير الْمَسْجِد الشريف وتخليقه وَذكر مَوضِع تأذين بِلَال رَضِي الله عَنهُ وَذكر أهل الصّفة وَذكر زِيَادَة عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر بطحاء مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر زِيَادَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَذكر زِيَادَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان وَذكر زِيَادَة الْمهْدي وَذكر بلاعات الْمَسْجِد وَسَائِر صحنه والسقايات الَّتِي كَانَت فِيهِ وَذكر احتراق الْمَسْجِد الشريف وَذكر الخوخ والأبواب الَّتِي كَانَت فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر ذرع الْمَسْجِد الْيَوْم وَعدد أساطينه وطيقانه وحدود الْمَسْجِد الْقَدِيم وَذكر أسوار الْمَدِينَة الشَّرِيفَة.

ذكر ابتداء بناء مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم

ذكر ابْتِدَاء بِنَاء مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة نزل على أم كُلْثُوم بن الْهدم فِي بني عَمْرو بن سَالم ابْن عَوْف، فَمَكثَ عِنْدهم الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء وَالْخَمِيس، وَكَانَ كُلْثُوم بن الْهدم أسلم قبل قدوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَتُوفِّي فِي السّنة الأولى، وروى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكث فِي بني عَمْرو بن عَوْف بضع عشرَة لَيْلَة، وَعَن مُسلم: أَقَامَ فِيهِ أَربع عشرَة لَيْلَة، وَأخذ مربد كُلْثُوم بن الْهدم وَعَمله مَسْجِدا وأسسه وَصلى فِيهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَخرج من عِنْدهم يَوْم الْجُمُعَة عِنْد ارْتِفَاع النَّهَار فَركب نَاقَته الْقَصْوَاء، وجد الْمُسلمُونَ ولبسوا السِّلَاح عَن يَمِينه وشماله وَخَلفه وَكَانَ لَا يمر بدار من دور الْأَنْصَار إِلَّا قَالُوا: هَلُمَّ يَا رَسُول الله إِلَى الْقُوَّة والمنعة والثروة فَيَقُول لَهُم خيرا، وَيَقُول عَن نَاقَته: " إِنَّهَا مأمورة خلوا سَبِيلهَا "، فَمر ببني سَالم بن عَوْف فَأتى مَسْجِدهمْ الَّذِي فِي وَادي رَانُونَاء وأدركته صَلَاة الْجُمُعَة فصلى بهم هُنَالك وَكَانُوا مائَة رجل، وَقيل: أَرْبَعُونَ، وَكَانَت أول جُمُعَة صلاهَا بِالْمَدِينَةِ، ثمَّ ركب رَاحِلَته وأرخى لَهَا زمامها وَمَا يحركها وَهِي تنظر يَمِينا وَشمَالًا حَتَّى انْتَهَت بِهِ إِلَى زقاق الْحسنى من بني النجار فبركت على بَاب دَار أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، وَقيل: بَركت أَولا على بَاب مَسْجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ ثارت وَهُوَ عَلَيْهَا فبركت على بَاب أبي أَيُّوب، ثمَّ الْتفت وثارت وبركت فِي مبركها الأول، وَأَلْقَتْ جِرَانهَا فِي الأَرْض وزرمت فَنزل عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: هَذَا الْمنزل يَا رَسُول الله فَاحْتمل

أَبُو أَيُّوب رَحْله وَأدْخلهُ بَيته، فَأَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيت أبي أَيُّوب سَبْعَة ايام ثمَّ بنى مَسْجده، ثمَّ لم يزل فِي بَيت أبي أَيُّوب ينزل عَلَيْهِ من الْوَحْي حَتَّى ابتنى مَسْجده ومساكنه، وَكَانَ ابْتِدَاء بُنْيَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسْجده فِي شهر ربيع الأول من السّنة الأولى، وَكَانَت إِقَامَته فِي دَار أبي أَيُّوب سَبْعَة أشهر. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَدَار أبي أَيُّوب مُقَابلَة لدار عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ من جِهَة الْقبْلَة وَالطَّرِيق بَينهمَا، وَهِي الْيَوْم مدرسة للمذاهب الْأَرْبَعَة اشْترى عرصتها الْملك المظفر شهَاب الدّين غَازِي بن الْملك الْعَادِل سيف الدّين أبي بكر بن ايوب بن شادي وبناها، وأوقفها على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وأوقف عَلَيْهَا وَقفا بميافارقين وَهِي دَار ملكه وَلها بِدِمَشْق وقف أَيْضا، ويليها من جِهَة الْقبْلَة عَرصَة كَبِيرَة تحاذيها من الْقبْلَة كَانَت دَارا لجَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق، وفيهَا الْآن قبْلَة مَسْجده وفيهَا اثر المحاريب، وَهِي الْيَوْم ملك للأشراف المنايفة، وللمدرسة قاعتان كبرى وصغرى، وَفِي إيوَان الصُّغْرَى الغربي خزانَة صَغِيرَة مِمَّا يَلِي الْقبْلَة فِيهَا محراب يُقَال إِنَّه مبرك نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: وَاعْلَم أَن الْمَسْجِد الشريف فِي دَار بني غنم بن مَالك بن النجار وَكَانَ مربداً للتمر لسهل وَسُهيْل بني رَافع بن مَالك بن النجار وَكَانَا غلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مَسْجِدا فَقَالَا: بل نهبه لَك يَا رَسُول الله، فَأبى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقبله مِنْهُمَا هبة حَتَّى ابتاعه مِنْهُمَا وبناه، وَقيل: لم يَأْخُذ لَهُ ثمنا، وَقيل: اشْتَرَاهُ من بني عفراء بِعشْرَة دَنَانِير دَفعهَا عَنهُ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَت دَار بني النجار أَوسط دور الْأَنْصَار وأفضلها، وَبَنُو النجار أخوال عبد الْمطلب بن هَاشم جد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والنجار تيم اللات بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الْخَزْرَج وهم بطُون كَثِيرَة، سمي بالنجار؛ لِأَنَّهُ اختتن بالقدوم، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " خير دور الْأَنْصَار دور بني النجار ". وَعَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أَخذ المربد من بني

النجار كَانَ فِيهِ نخل وقبور الْمُشْركين وَخرب، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنخيل فَقطع وبقبور الْمُشْركين فنبشت وبالخرب فسويت، قَالَ: فصفوا النّخل قبْلَة لَهُ وَجعلُوا عضادتيه حِجَارَة، وطفق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْقل مَعَهم اللَّبن فِي بُنْيَانه، وَبنى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسْجده مربعًا وَجعل قبلته إِلَى بَيت الْمَسْجِد، وَطوله سَبْعُونَ ذِرَاعا فِي عرض شبر أَو أَزِيد، وَجعل لَهُ ثَلَاثَة أَبْوَاب وَجعلُوا ساريتي الْمَسْجِد من الْحِجَارَة وبنوا بَاقِيه من اللَّبن، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: كَانَ جِدَار الْمَسْجِد مَا كَادَت الشَّاة تجوزه. وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: كَانَ طول جِدَار الْمَسْجِد بسطة، وَكَانَ عرض الْحَائِط لبنة لبنة، ثمَّ إِن الْمُسلمين كَثُرُوا فبنوه لبنة وَنصفا، ثمَّ قَالُوا: يَا رَسُول الله لَو أمرت بِالْمَسْجِدِ فظلل، قَالَ: نعم، فأقيم لَهُ سوار من جُذُوع النّخل شقة شقة ثمَّ طرحت عَلَيْهَا الْعَوَارِض والخصف والإذخر، وَجعل وَسطه رحبة فَأَصَابَتْهُمْ الأمطار فَجعل الْمَسْجِد يكف بهم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله لَو أمرت بِالْمَسْجِدِ فطين، فَقَالَ لَهُم: " عَرِيش كعريش مُوسَى ثمام وخشيبات يعم فَيعْمل وَالْأَمر أعجل من ذَلِك "، فَلم يزل كَذَلِك حَتَّى قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيُقَال: إِن عَرِيش مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا قَامَ بِهِ اصاب رَأسه السّقف. قَالَ أهل السّير: وَبنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسْجده مرَّتَيْنِ، بناه حِين قدم أقل من مائَة فِي مائَة، فَلَمَّا فتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ خَيْبَر بناه فَزَاد فِي الدّور مثله.

ذكر ما جاء في قبله مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم

ذكر مَا جَاءَ فِي قبْلَة مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْلَم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَسْجده مُتَوَجها إِلَى بَيت الْمُقَدّس سَبْعَة عشر شهرا، وَقيل: سِتَّة عشر، ثمَّ أَمر بالتحول إِلَى الْكَعْبَة فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة فِي صَلَاة الظّهْر يم الثُّلَاثَاء النّصْف من شعْبَان، وَقيل: فِي رَجَب، فَأَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رهطاً على زَوَايَا الْمَسْجِد ليعدل الْقبْلَة، فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: يَا رَسُول الله ضع الْقبْلَة وَأَنت تنظر إِلَى الْكَعْبَة ثمَّ قَالَ: بِيَدِهِ هَكَذَا، فأمات كل جبل بَينه وَبَين الْكَعْبَة لَا يحول دون نظره شَيْء فَلَمَّا فرغ، قَالَ جِبْرِيل: هَكَذَا فَأَعَادَ الْجبَال وَالشَّجر والأشياء على حَالهَا وَصَارَت قبلته إِلَى الْمِيزَاب من الْبَيْت، فَهِيَ الْمَقْطُوع بِصِحَّتِهَا. وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَت قبْلَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الشَّام، وَكَانَ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ للنَّاس من الشَّام من مَسْجده أَن تضع الإسطوانة المحلقة الْيَوْم خلف ظهرك ثمَّ تمشي مُسْتَقْبل الشَّام وَهِي خلف ظهرك حَتَّى إِذا كنت محاذياً لباب عُثْمَان الْمَعْرُوف الْيَوْم بِبَاب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَالْبَاب عَن منكبك الْأَيْمن وَأَنت فِي صحن الْمَسْجِد كَانَت قبلته فِي ذَلِك الْموضع، وَأَنت وَاقِف فِي مُصَلَّاهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَيَأْتِي ذكر الاسطوانة فِي مَحَله. يرْوى أَن أول مَا نسخ من أُمُور الشَّرْع أَمر الْقبْلَة، وَتقدم فِي بَاب الْفَضَائِل فضل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن الْمَسْجِد الَّذِي أسس على التَّقْوَى هُوَ مَسْجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. ذكر حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسْجده بنى بَيْتَيْنِ لزوجتيه عَائِشَة وَسَوْدَة رَضِي الله عَنْهُمَا على نعت بِنَاء الْمَسْجِد من لبن وجريد، وَكَانَ لبيت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مصراع وَاحِد من عرعر أوساج، وَلما تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ بنى لَهُنَّ حجرات وَهِي تِسْعَة أَبْيَات، وَهِي مَا بَين بَيت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا إِلَى الْبَاب الَّذِي يَلِي بَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ أهل السّير: ضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحجرات مَا بَينه وَبَين الْقبْلَة والشرق إِلَى الشَّام، وَلم يضْربهَا فِي غربيّه، وَكَانَت خَارِجَة من الْمَسْجِد مديرة بِهِ إِلَى جِهَة الْمغرب، وَكَانَت أَبْوَابهَا شارعة فِي الْمَسْجِد. قَالَ عمرَان بن أبي أنس: كَانَت مِنْهَا أَرْبَعَة أَبْيَات

بِلَبن لَهَا حجر من جريد، وَكَانَت خَمْسَة أَبْيَات من جريد مطينة لَا حجر لَهَا، على أَبْوَابهَا مسوح الشّعْر. قَالَ النجار: وذرعت السّتْر فَوَجَدته ثَلَاثَة أَذْرع فِي ذِرَاع، وَكَانَ النَّاس يدْخلُونَ حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد وَفَاته يصلونَ فِيهَا يَوْم الْجُمُعَة حَكَاهُ مَالك، وَقَالَ: كَانَ الْمَسْجِد يضيق على أَهله، وحجرات أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيست من الْمَسْجِد وَلَكِن أَبْوَابهَا شارعة فِيهِ. وَقَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اعْتكف يدني إِلَى رَأسه فأرجله، وَكَانَ لَا يدْخل الْبَيْت إِلَّا لحَاجَة الْإِنْسَان. وَعَن عبد الله بن يزِيد الْهُذلِيّ قَالَ: رَأَيْت بيُوت أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين هدمها عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَت بُيُوتًا بِاللَّبنِ وَلها حجر من جريد، وَرَأَيْت بَيت أم سَلمَة وحجرتها من لبن فَسَأَلت ابْن ابْنهَا، فَقَالَ: لما غزا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دومة الجندل بنت أم سَلمَة بَابهَا وحجرتها بِلَبن، فَلَمَّا قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نظر إِلَى اللَّبن فَقَالَ: " مَا هَذَا الْبناء "؟ فَقَالَت: أردْت أَن أكف أبصار النَّاس. فَقَالَ لي: " يَا أم سَلمَة شَرّ مَا ذهب فِيهِ مَال الْمُسلمين الْبُنيان ". وَقَالَ عَطاء الخرساني: أدْركْت حجر أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جريد النّخل على أَبْوَابهَا المسوح من شعر أسود فَحَضَرت كتاب الْوَلِيد يقْرَأ يَأْمر بإدخالهم فِي الْمَسْجِد، فَمَا رَأَيْت باكياً أَكثر من ذَلِك الْيَوْم. وَسمعت سعيد بن الْمسيب يَقُول يَوْمئِذٍ: وَالله لَوَدِدْت أَنهم يتركونها على حَالهَا ينشأ نَاس من أهل الْمَدِينَة فَيقدم القادم من الْآفَاق فَيرى مَا اكْتفى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته، فَيكون ذَلِك مِمَّا يزهد النَّاس فِي التكاثر وَالْفَخْر. وَقَالَ يزِيد بن أُمَامَة: ليتها تركت حَتَّى يقصر النَّاس من الْبُنيان، ويروا مَا رَضِي الله عز وَجل لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومفاتيح الدُّنْيَا عِنْده. وَأما بَيت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا فَإِنَّهُ كَانَ خلف بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن يسَار الْمصلى إِلَى الْقبْلَة، وَكَانَ فِيهِ خوخة إِلَى بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا

ذكر مصلي رسول الله صلي الله عليه وسلم من الليل

قَامَ من اللَّيْل إِلَى الْمخْرج اطلع مِنْهُ يعلم خبرهم، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْتِي بَابهَا كل صباح فَيَأْخُذ بعضادتيه وَيَقُول: " الصَّلَاة الصَّلَاة، إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا ". قَالَ الْحَافِظ محب الدّين بن النجار: وبيتها الْيَوْم حوله مَقْصُورَة، وَفِيه محراب وَهُوَ خلف حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَهُوَ الْيَوْم أَيْضا بَاقٍ على ذَلِك. ذكر مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اللَّيْل وروى عِيسَى بن عبد الله عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطْرَح حَصِيرا كل لَيْلَة إِذا انكفت النَّاس وَرَاء بَيت عليّ رَضِي الله عَنهُ ثمَّ يُصَلِّي صَلَاة اللَّيْل، قَالَ: وَذَلِكَ مَوضِع الاسطوان الَّذِي مِمَّا يَلِي الدويرة على طَرِيق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن سعيد بن عبد الله بن فضل قَالَ: مر بِي مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وَأَنا أُصَلِّي إِلَيْهَا فَقَالَ لي: أَرَاك تلْزم هَذِه الاسطوانة هَل جَاءَك فِيهَا أثر؟ قلت: لَا. قَالَ: فالزمها فَإِنَّهَا كَانَت مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اللَّيْل، ثمَّ قَالَ: قلت: هَذِه الاسطوانة؟ قَالَ: نعم. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهَذِه الاسطوانة خلف بَيت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا فالواقف الْمصلى إِلَيْهَا يكون بَاب جِبْرِيل الْمَعْرُوف قَدِيما بِبَاب عُثْمَان على يسَاره، وحول الدرابزين الدابر على حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد كتب فِيهَا بالرخام هَذَا متهجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَبَيت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا من جِهَة الشمَال، وَفِيه محراب إِذا توجه الْمُصَلِّي إِلَيْهِ كَانَت يسَاره إِلَى بَاب عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ. ذكر قصَّة الْجذع عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة إِلَى جنب خَشَبَة مُسْندًا ظَهره إِلَيْهَا فَلَمَّا كثر النَّاس قَالُوا: ابْنُوا لَهُ منبراً، فبنوا لَهُ منبراً لَهُ عتبتان فَلَمَّا قَامَ على الْمِنْبَر يخْطب حنت الْخَشَبَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أنس: وَأَنا فِي الْمَسْجِد فَسمِعت الْخَشَبَة تحن حنين الواله، فَمَا زَالَت تحن حَتَّى نزل إِلَيْهَا فاحتضنها فسكنت وَكَانَ الْحسن إِذا حدث

بِهَذَا الحَدِيث بَكَى، وَقَالَ: يَا عباد الله الْخَشَبَة تحن إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شوقاً إِلَيْهِ لمكانه من الله عز وَجل، فَأنْتم أَحَق أَن تشتاقوا إِلَى لِقَائِه. وَعَن جَابر بن عبد الله كَانَ الْمَسْجِد مسقوفاً على جُذُوع نخل فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خطب يقوم إِلَى جذع مِنْهَا فَلَمَّا صنع الْمِنْبَر سمعنَا لذَلِك الْجذع صَوتا كصوت العشار. وَفِي رِوَايَة أنس حَتَّى ارتج الْمِنْبَر لخواره، روى بجواره بِالْجِيم، وَفِي رِوَايَة سهل: وَكثر بكاء النَّاس لما رَأَوْا بِهِ، وَفِي رِوَايَة الْمطلب: حَتَّى تصدع وَانْشَقَّ حَتَّى جَاءَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوضع يَده عَلَيْهِ فَسكت، زَاد غَيره فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن هَذَا بَكَى لما فقد من الذّكر "، وَزَاد غَيره: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو لم ألتزمه لم يزل هَكَذَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة تحزناً على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم "، فَأمر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدفن تَحت الْمِنْبَر. كَذَا فِي حَدِيث الْمطلب، وَسَهل بن سعد، وَإِسْحَاق عَن أنس، وَفِي بعض الرِّوَايَات جعل فِي السّقف. قيل: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى صلى إِلَيْهِ فَلَمَّا هدم الْمَسْجِد أَخذه أبيّ وَكَانَ عِنْده إِلَى أَن أَكلته الأَرْض. وَعَن الإسفرائيني: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَاهُ إِلَى نَفسه فَجَاءَهُ يهرق الأَرْض، فَالْتَزمهُ ثمَّ أمره فَعَاد إِلَى مَكَانَهُ. وَفِي حَدِيث أبي بُرَيْدَة قَالَ: يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن شِئْت أردك إِلَى الْحَائِط الَّذِي كنت فِيهِ تنْبت لَك عروقك، ويكمل لَك خلقك ويجدد لَك خوص وَثَمَرَة، وَإِن شِئْت أغرسك فِي الْجنَّة فيأكل أَوْلِيَاء الله من ثمرك ". ثمَّ أصغى لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمع مَا يَقُول فَقَالَ: بل تغرسني فِي الْجنَّة يَأْكُل مني أَوْلِيَاء الله، وأكون فِي مَكَان لَا ابلى فِيهِ فَسَمعهُ من يَلِيهِ. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " قد فعلت ". ثمَّ قَالَ: " اخْتَار دَار الْبَقَاء على دَار الفناء ". قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا:

لما قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك غَار الْجذع فَذهب. وقصة الْجذع نَظِير إحْيَاء الْمَوْتَى لعيسى عَلَيْهِ السَّلَام وأكبر. وَقَالَ ابْن أبي الزِّنَاد: وَلم يزل الْجذع على حَاله زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُم فَلَمَّا هدم عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ الْمَسْجِد اخْتلف فِي الْجذع، فَمنهمْ من قَالَ: أَخذه أبيّ بن كَعْب، وَمِنْهُم من قَالَ: دفن فِي مَوْضِعه. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَكَانَ الْجذع فِي مَوضِع الاسطوانة المحلقة عَن يَمِين الْمِحْرَاب محراب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الصندوق. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: إِنَّه كَانَ لاصقاً بجدار الْمَسْجِد القبلي فِي مَوضِع كرْسِي الشمعة الْيُمْنَى الَّتِي عَن يَمِين الْمصلى فِي مقَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والاسطوانة الَّتِي قبل الْكُرْسِيّ مُتَقَدّمَة عَن مَوضِع الْجذع، فَلَا يعْتَمد على قَول من جعلهَا مَوضِع الْجذع، وَفِي الاسطوانة خَشَبَة ظَاهِرَة مثبتة بالرصاص بِموضع كَانَ فِي حجر من حِجَارَة الاسطوانة مَفْتُوح قد حوط عَلَيْهِ بالبياض والخشبة ظَاهِرَة تَقول الْعَامَّة هَذَا الْجذع، وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ من جملَة الْبدع الَّتِي يجب إِزَالَتهَا؛ لِئَلَّا يفتتن بهَا كَمَا أزيلت الْجَذعَة الَّتِي فِي الْمِحْرَاب القبلي، فَإِن الشَّيْخ أَبَا حَامِد رَحمَه الله ذكر مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقَّقَهُ بقوله: إِذا وقف الْمُصَلِّي فِي مقَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اكون رمانة الْمِنْبَر الشريف حَذْو مَنْكِبه الْأَيْمن، وَيجْعَل الْجَذعَة الَّتِي فِي الْقبْلَة بَين يَدي عَيْنَيْهِ، فَيكون وَاقِفًا فِي مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَذَلِكَ قبل احتراق الْمَسْجِد الشريف، وَقبل أَن يَجْعَل هَذَا اللَّوْح الْقَائِم فِي قبْلَة مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا جعل بعد حريق الْمَسْجِد وَكَانَ يحصل بِتِلْكَ الْجَذعَة تشويش كثير، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: هَذِه خرزة فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت عالية فَيتَعَلَّق النِّسَاء وَالرِّجَال إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَت سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة جاور الصاحب زين أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن حنا فَأمر بقلعها فَقلعت، وَهِي الْيَوْم فِي حَاصِل الْحرم الشريف ثمَّ توجه إِلَى مَكَّة فِي أثْنَاء السّنة فَرَأى أَيْضا مَا يَقع من الْفِتْنَة عِنْد دُخُول الْبَيْت الْحَرَام من الرِّجَال وَالنِّسَاء لاستمساك العروة الوثقى فِي

ذكر منبر النبي صلي الله عليه وسلم وروضته الشريفه

زعمهم فَأمر بقلع ذَلِك الْمِثَال أَيْضا، وَالْحَمْد لله، وَأما الْعود الَّذِي فِي الاسطوانة الَّتِي عَن يَمِين مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الْجذع الْمُتَقَدّم ذكره. فَقَالَ الْحَافِظ محب الدّين: روى عَن مُصعب بن ثَابت قَالَ: طلبنا علم الْعود الَّذِي فِي مقَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم نقدر على أحد يذكر لنا فِيهِ شَيْئا حَتَّى أَخْبرنِي مُحَمَّد بن مُسلم بن السَّائِب صَاحب الْمَقْصُورَة أَنه جلس إِلَى جنبه أنس بن مَالك فَقَالَ: تَدْرِي لم صنع هَذَا الْعود؟ وَلم اسأله فَقلت: مَا أَدْرِي. قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يضع عَلَيْهِ يَمِينه ثمَّ يلْتَفت إِلَيْنَا، فَيَقُول: " اسْتَووا وَعدلُوا صفوفكم ". فَلَمَّا توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سرق الْعود فَطَلَبه أَبُو بكر فَلم يجده، ثمَّ وجده عمر عِنْد رجل من الْأَنْصَار بقباء قد دَفنه فِي الأَرْض فأكلته الأَرْض، فَأخذ لَهُ عوداً فشقه وَأدْخلهُ فِيهِ ثمَّ شعبه ورده إِلَى الْجِدَار، وَهُوَ الْعود الَّذِي وَضعه عمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْقبْلَة، وَهُوَ الَّذِي فِي الْمِحْرَاب الْيَوْم بَاقٍ. قَالَ مُسلم بن حَيَّان: كَانَ ذَلِك الْعود من طرفاء الغابة. وَقيل: بل كَانَ من الْجذع الْمَذْكُور. قَالَ الْمرْجَانِي: قلت وَالله أعلم: إِن هَذَا الْجذع الَّذِي ذكره ابْن النجار إِنَّه فِي الْقبْلَة بَاقٍ إِلَى الْيَوْم، لَعَلَّه الَّذِي قَاس بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وقلعه ابْن حنا. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَكَانَ ذَلِك قبل حريق الْمَسْجِد الشريف. ذكر مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروضته الشَّرِيفَة عَن أبي حَازِم أَن نَفرا جَاءُوا إِلَى سهل بن سعد وَقد تماروا فِي الْمِنْبَر من أَي عود هُوَ؟ فَقَالَ: أما وَالله إِنِّي لأعرف من أَي عود هُوَ، وَمن عمله، وَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول يَوْم جلس عَلَيْهِ. فَقلت لَهُ: فحدثنا فَقَالَ: أرسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى امْرَأَة " انظري غلامك النجار يعْمل لي أعواداً أحكم للنَّاس عَلَيْهَا " فَعمل هَذِه الثَّلَاث دَرَجَات، ثمَّ أَمر بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوضعت هَذَا الْموضع، وَهِي من طرفاء الغابة والطرفاء شجر يشبه الأثل إِلَّا أَن الأثل أعظم مِنْهُ. وَعَن جَابر بن عبد الله أَن امْرَأَة من الْأَنْصَار قَالَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا رَسُول الله أَلا أجعَل لَك شَيْئا تقعد عَلَيْهِ فَإِن لي غُلَاما نجاراً. فَقَالَ: إِن شِئْت. فَعمل لَهُ الْمِنْبَر.

وَعَن عبد الله بن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بدن قَالَ لَهُ تَمِيم الدَّارِيّ: أَلا أَتَّخِذ لَك منبراً يَا رَسُول الله يجمع أَو يحمل عظامك. قَالَ: بلَى. قَالَ: فَاتخذ لَهُ منبراً مرقاتين. وَعَن أبي الزِّنَاد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْطب فِي يَوْم الْجُمُعَة إِلَى جذع فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: إِن الْقيام قد يشق عَليّ وشكا ضعفا فِي رجلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ تَمِيم الدَّارِيّ وَكَانَ من أهل فلسطين: يَا رَسُول الله أَنا أعمل لَك منبراً كَمَا رَأَيْت يصنع بِالشَّام. قَالَ: فَلَمَّا اجْتمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذوا الرَّأْي من أَصْحَابه على اتِّخَاذه، قَالَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب: إِن لي غُلَاما يُقَال لَهُ فلَان أعمل النَّاس، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فمره يعْمل، فَأرْسل إِلَى اثلة بِالْغَابَةِ فقطعها ثمَّ عَملهَا دَرَجَتَيْنِ ومجلساً، ثمَّ جَاءَ بالمنبر فَوَضعه فِي مَوْضِعه الْيَوْم ثمَّ رَاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْجُمُعَة، فَلَمَّا جَاوز الْجذع يُرِيد الْمِنْبَر حن الْجذع ثَلَاث مَرَّات كَأَنَّهُ خوار بقرة حَتَّى ارتاع النَّاس وَقَامَ بَعضهم على رجلَيْهِ، وَأَقْبل رَسُول الله حَتَّى مَسّه بِيَدِهِ فسكن، فَمَا سمع لَهُ صَوت بعد ذَلِك، ثمَّ رَجَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمِنْبَر فَقَامَ عَلَيْهِ. وَقد رُوِيَ أَن هَذَا الْغُلَام الَّذِي صنع الْمِنْبَر اسْمه مينا بياء سَاكِنة مثناة من أَسْفَل بعْدهَا نون. وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز: عمله صباح غُلَام الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب. قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَذَلِكَ فِي السّنة الثَّامِنَة من الْهِجْرَة اتَّخذهُ دَرَجَتَيْنِ ومقعدة. قَالَ ابْن أبي الزِّنَاد: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجلس على الْمِنْبَر وَيَضَع رجلَيْهِ على الدرجَة الثَّانِيَة، فَلَمَّا ولي أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قَامَ على الدرجَة الثَّانِيَة وَوضع رجلَيْهِ على الدرجَة الثَّالِثَة السُّفْلى، فَلَمَّا ولي عمر رَضِي الله عَنهُ قَامَ على الدرجَة السُّفْلى كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ سِتّ سِنِين، ثمَّ علا فَجَلَسَ مَوضِع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكسا الْمِنْبَر قبطية. ذكر الشَّيْخ محب الدّين عَن مُحَمَّد بن الْحسن بن زبالة قَالَ: كَانَ طول الْمِنْبَر مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأول فِي السَّمَاء ذراعين وشبراً وَثَلَاثَة أَصَابِع، وَعرضه ذِرَاع رَاجِح، وَطول صَدره وَهُوَ مُسْند إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذِرَاع، وَطول رمانتي الْمِنْبَر اللَّتَيْنِ كَانَ يمسكهما صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا جلس يخْطب شبر وأصبعان، وَعرضه ذِرَاع فِي ذِرَاع وتربيعه سَوَاء، وَعدد دَرَجه ثَلَاث بالمقعد، وَفِيه خَمْسَة أَعْوَاد فِي جوانبه الثَّلَاث قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي خلَافَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم، فَلَمَّا حج

مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فِي خِلَافَته كَسَاه قبطية ثمَّ كتب إِلَى مَرْوَان بن عبد الحكم وَهُوَ عَامله على الْمَدِينَة أَن ارْفَعْ الْمِنْبَر عَن الأَرْض، فَدَعَا لَهُ النجارين ورفعوه عَن الأَرْض وَزَادُوا من أَسْفَله سِتّ دَرَجَات، وَصَارَ الْمِنْبَر بِسبع دَرَجَات بِالْمَجْلِسِ. قَالَ ابْن زبالة: لم يزدْ فِيهِ أحد قبله وَلَا بعده. وَقَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: هَذَا فِي زمَان مُحَمَّد بن زبالة، وروى أَيْضا عَن ابْن زبالة أَن طول مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا زيد فِيهِ أَرْبَعَة أَذْرع وَمن أَسْفَله عتبَة، وَذكر ابْن زبالة أَيْضا أَن الْمهْدي بن الْمَنْصُور لما حج سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة قَالَ للْإِمَام مَالك بن أنس رَحمَه الله: أُرِيد أَن أُعِيد مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على حَاله الأول، فَقَالَ لَهُ مَالك: إِنَّمَا هُوَ من طرفاء وَقد شدّ إِلَى هَذِه العيدان وَسمر فَهِيَ ببركته حفت أَن تتهافت فَلَا أرى تَغْيِيره، فَتَركه الْمهْدي على حَاله، قيل: إِن الْمهْدي فرق فِي هَذِه الْحجَّة ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وَمِائَة ألف وَخمسين ألف ثوب، وَحمل إِلَيْهِ الثَّلج من بَغْدَاد إِلَى مَكَّة وكسا الْبَيْت ثَلَاث كساوي بَيْضَاء وحمراء وسوداء توفّي بِمَاء سندان بِموضع يُقَال لَهُ الرَّد، فِي الْمحرم سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَذكر لي يَعْقُوب بن أبي بكر بن أوحد من أَوْلَاد المجاورين بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة وَكَانَ أَبوهُ أَبُو بكر فراشا من قوام الْمَسْجِد الشريف، وَهُوَ الَّذِي كَانَ حريق الْمَسْجِد على يَدَيْهِ وَاحْتَرَقَ هُوَ أَيْضا فِي حَاصِل الْحرم، إِن هَذَا الْمِنْبَر الَّذِي زَاده مُعَاوِيَة وَرفع مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد قد تهافت على طول الزَّمَان وَإِن بعض خلفاء بني الْعَبَّاس جدده وَاتَّخذُوا من بقايا أَعْوَاد مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمشاطاً للتبرك بهَا، والمنبر الَّذِي ذكره ابْن النجار هُوَ الْمَذْكُور أَولا فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَارِيخه: وَطول الْمِنْبَر الْيَوْم ثَلَاثَة أَذْرع وشبر وَثَلَاثَة أَصَابِع، والدكة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا من رُخَام طولهَا شبر وَعقد، وَمن رَأسه إِلَى عتبته خَمْسَة أَذْرع وشبر وَأَرْبع أَصَابِع، وَقد زيد فِيهِ الْيَوْم عتبتان وَجعل عَلَيْهِ بَاب يفتح يَوْم الْجُمُعَة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: فَدلَّ ذَلِك على أَن الْمِنْبَر الَّذِي احْتَرَقَ غير الْمِنْبَر الأول الَّذِي عمله مُعَاوِيَة وَرفع مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوْقه. قَالَ الْفَقِيه يَعْقُوب بن أبي بكر: سَمِعت ذَلِك مِمَّن أدْركْت بِأَن بعض الْخُلَفَاء جدد الْمِنْبَر وَاتخذ من بقايا أعواده أمشاطاً، وَإِن الْمِنْبَر المحترق هُوَ الَّذِي جدده الْخَلِيفَة الْمَذْكُور، وَهُوَ الَّذِي أدْركهُ الشَّيْخ محب الدّين قبل احتراق الْمَسْجِد الشريف، فَإِن الْحَافِظ محب الدّين كتب التَّارِيخ فِي سنة ثَلَاث

وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة، وَكَانَ احتراق الْمَسْجِد لَيْلَة الْجُمُعَة أول رَمَضَان سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: ثمَّ إِن الْملك المظفر عمل منبراً وأرسله فِي سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة، وَنصب فِي مَوضِع مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رمانتاه من الصندل، وَلم يزل إِلَى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة عشر سِنِين يخْطب عَلَيْهِ، ثمَّ إِن الْملك الظَّاهِر أرسل هَذَا الْمِنْبَر الْمَوْجُود الْيَوْم فَحمل مِنْبَر صَاحب الْيمن إِلَى حَاصِل الْحرم وَهُوَ بَاقٍ فِيهِ وَنصب هَذَا مَكَانَهُ، وَطوله أَرْبَعَة أَذْرع، وَمن رَأسه إِلَى عتبته سَبْعَة أَذْرع يزِيد قَلِيلا، وَعدد درجاته سبع بالمقعد، وَالْمَنْقُول أَن مَا بَين الْمِنْبَر ومصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ إِلَى أَن توفّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة عشر ذِرَاعا. وَأما الرَّوْضَة الشَّرِيفَة فَتقدم فِي بَاب الْفَضَائِل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " مَا بَين قَبْرِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة ". وَتقدم معنى الحَدِيث. وَفِي حَدِيث آخر: " مَا بَين حُجْرَتي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة ". وَفِي رِوَايَة: " مَا بَين بَيْتِي ومنبري ". قَالَ القَاضِي عِيَاض: قَالَ الطَّبَرِيّ: فِيهِ مَعْنيانِ؛ أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِالْبَيْتِ بَيت سكناهُ على الظَّاهِر مَعَ أَنه روى مَا يُبينهُ " مَا بَين حُجْرَتي ومنبري ". وَالثَّانِي: أَن الْبَيْت هَاهُنَا الْقَبْر، وَهُوَ قَول زيد بن أسلم فِي هَذَا الحَدِيث، كَمَا روى " مَا بَين قَبْرِي ومنبري " قَالَ الطَّبَرِيّ: وَإِذا كَانَ قَبره فِي بَيته اتّفقت مَعَاني الرِّوَايَات وَلم يكن بَينهَا خلاف؛ لِأَن قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجرته وَهُوَ بَيته.

ذكر سد الابواب الشوارع في المسجد

ذكر سد الْأَبْوَاب الشوارع فِي الْمَسْجِد عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: خطب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " إِن الله خير عبدا بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده فَاخْتَارَ مَا عِنْد الله ". فَبكى أَبُو بكر، فَقلت فِي نَفسِي: مَا يبكي هَذَا الشَّيْخ أَن يكون عبدا خَيره الله بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده فَاخْتَارَ مَا عِنْد الله، فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ العَبْد، وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا بكر لَا تبك إِن آمن النَّاس عليّ فِي صحبته وَمَاله أَبُو بكر، وَلَو كنت متخذاً من أمتِي خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر، وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام ومودته، لَا يبْقين فِي الْمَسْجِد بَاب إِلَّا سد، إِلَّا بَاب أبي بكر. وَكَانَ بَاب أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فِي غربي الْمَسْجِد. وروى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالأبواب كلهَا فَسدتْ إِلَّا بَاب عَليّ رَضِي الله عَنهُ. ذكر تجمير الْمَسْجِد الشريف وتخليقه ذكر أهل السّير: أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَتَى بسفط من عود فَقَالَ: أجمروا بِهِ الْمَسْجِد لينْتَفع بِهِ الْمُسلمُونَ. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: فَبَقيت سنة فِي الْخُلَفَاء إِلَى الْيَوْم يُؤْتى فِي كل عَام بسفط من عود يجمر بِهِ الْمَسْجِد لَيْلَة الْجُمُعَة وَيَوْم الْجُمُعَة عِنْد مِنْبَر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خَلفه إِذا كَانَ الإِمَام يخْطب، قَالُوا: وأتى عمر رَضِي الله عَنهُ بمجمرة من فضَّة فِيهَا تماثيل من الشَّام فَكَانَ يجمر بهَا الْمَسْجِد ثمَّ تُوضَع بَين يَدَيْهِ، فَلَمَّا قدم إِبْرَاهِيم بن يحيى والياً على الْمَدِينَة غَيرهَا وَجعلهَا ساجاً. فَقَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَهِي فِي يَوْمنَا هَذَا منقوشة. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَكَذَلِكَ هِيَ مستمرة إِلَى يَوْمنَا هَذَا. وَأما تخليقه: فَروِيَ أَن عُثْمَان بن مَظْعُون رَضِي الله عَنهُ تفل فِي الْمَسْجِد فَأصْبح كئيباً فَقَالَت لَهُ امْرَأَته: مَا لي أَرَاك كئيباً؟ فَقَالَ: مَا شَيْء إِلَّا أَنِّي تفلت فِي الْمَسْجِد وَأَنا أُصَلِّي فعمدت إِلَى الْقبْلَة فغسلتها ثمَّ خلقتها، فَكَانَ أول من خلق الْقبْلَة. وَعَن جَابر بن عبد الله أول من خلق الْقبْلَة عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ. ثمَّ لما حجت الخيزران أم مُوسَى وَهَارُون الرشيد فِي سنة سبعين وَمِائَة أمرت بِالْمَسْجِدِ الشريف أَن يخلق، فَتَوَلّى تخليقه جاريتها مؤنسة فخلقته جَمِيعه وخلقت الْحُجْرَة الشَّرِيفَة جَمِيعهَا.

ذكر موضع تاذين بلال رضي الله عنه

ذكر مَوضِع تأذين بِلَال رَضِي الله عَنهُ روى ابْن إِسْحَاق: أَن امْرَأَة من بني النجار قَالَت: كَانَ بَيْتِي من أطول بَيت حول الْمَسْجِد، وَكَانَ بِلَال يُؤذن عَلَيْهِ الْفجْر كل غَدَاة، فَيَأْتِي بِسحر فيجلس على الْبَيْت ينْتَظر عَلَيْهِ الْفجْر فَإِذا رَآهُ تمطى، قَالَ: اللَّهُمَّ أحمدك وأستعينك على قُرَيْش أَن يقيموا دينك، قَالَت: ثمَّ يُؤذن. وَذكر أهل السّير: أَن بِلَالًا كَانَ يُؤذن على إسطوان فِي قبْلَة الْمَسْجِد يرقى إِلَيْهَا بأقباب وَهِي قَائِمَة إِلَى الْآن فِي منزل عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ. وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ بِلَال يُؤذن على مَنَارَة فِي دَار حَفْصَة بنت عمر الَّتِي فِي الْمَسْجِد قَالَ: وَكَانَ يرقى على أقباب فِيهَا، وَكَانَت خَارِجَة من مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تكن فِيهِ وَلَيْسَت فِيهِ الْيَوْم، وَكَانَ يُؤذن بعد بِلَال. وَقيل: مَعَه عبد الله بن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، وَأذن بعدهمَا سعد بن عَابِد مولى عمار بن يَاسر وَهُوَ سعد القرط، وَسمي سعد القرط؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِذا أتجر فِي شَيْء وضع فِيهِ فاتجر فِي القرط فربح فَلَزِمَ التِّجَارَة فِيهِ، جعله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُؤذنًا بقباء فَلَمَّا مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَترك بِلَال الْأَذَان، نقل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ سَعْدا هَذَا إِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يزل يُؤذن فِيهِ إِلَى أَن مَاتَ، وتوارث عَنهُ بنوه الْأَذَان فِيهِ إِلَى زمن مَالك رَحمَه الله وَبعده أَيْضا، وَقيل: إِن الَّذِي نَقله إِلَى الْمَدِينَة للأذان عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: إِنَّه كَانَ يُؤذن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستخلفه على الْأَذَان فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ حِين خرج بِلَال إِلَى الشَّام. وَقَالَ خَليفَة بن خياط: أذن لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ سعد القرط مولى عمار بن يَاسر إِلَى أَن مَاتَ أَبُو بكر، وَأذن بعده لعمر رَضِي الله عَنهُ. حَكَاهُ ابْن عبد الْبر. ذكر أهل الصّفة روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه أَن أهل الصّفة كَانُوا فُقَرَاء. وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لقد رَأَيْت سبعين من أهل الصّفة مَا مِنْهُم رجل عَلَيْهِم رِدَاء، إِمَّا إِزَار وَإِمَّا كسَاء وَقد ربطوه فِي أَعْنَاقهم، فَمِنْهَا مَا يبلغ نصف السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يبلغ الْكَعْبَيْنِ فَيجمع يَده، كَرَاهِيَة أَن ترى عَوْرَته. وروى أهل السّير: أَن مُحَمَّد بن مسلمة رأى أضيافاً عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد

ذكر زياده عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم

فَقَالَ: أَلا تفرق هَذِه الأضياف فِي دور الْأَنْصَار، وَيجْعَل لَك من كل حَائِط قنو ليَكُون لمن يَأْتِيك من هَؤُلَاءِ الأقوام، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " بلَى ". فَكَانَ كل من جذ مَاله جَاءَ بقنو فَجعله فِي الْمَسْجِد بَين ساريتين فَجعل النَّاس يَفْعَلُونَ ذَلِك، وَكَانَ معَاذ يقوم عَلَيْهِم وَكَانَ يَجْعَل حبلاً بَين الساريتين ثمَّ تعلق الأقناء على الْحَبل، وَيجمع الْعشْرين أَو الْأَكْثَر فيهش عَلَيْهِم بعصاه من الأقناء فَيَأْكُلُونَ حَتَّى يشبعون ثمَّ يَنْصَرِفُونَ، وَيَأْتِي غَيرهم فيفعل لَهُم مثل ذَلِك، فَإِذا كَانَ اللَّيْل فعل لَهُم مثل ذَلِك. وَأهل الصّفة هم أهل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالصّفة بِالْمَدِينَةِ خَارج الْمَسْجِد وبمكة دَاخل الْمَسْجِد، وسدة الْمَسْجِد هِيَ الظلال الَّتِي حول الْمَسْجِد، وَقيل: الْبَاب نَفسه، والسدى مَنْسُوب إِلَيْهِ، وَجَاء فِي الحَدِيث: وَكَانَ يُصَلِّي فِي السدة سدة الْمَسْجِد. وَأما أهل الصّفة فهم: أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، وَعبد الله بن مَسْعُود، والمقداد، وبلال، وَأَبُو ذَر، وصهيب، وخباب بن الْأَرَت، وعمار بن يَاسر، وَعتبَة بن غَزوَان، وَزيد بن الْخطاب، وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة، وَأَبُو مرْثَد بن مَسْعُود، وَأَبُو الدَّرْدَاء، ومسطح بن إياثة، وعكاشة بن مُحصن، وَطَلْحَة بن عَمْرو، وواثلة بن الْأَسْقَع، ومعاذ بن الْحَارِث، والسائب بن خَلاد، وَصَفوَان بن بَيْضَاء، ومسعود بن الرّبيع، وَأَبُو الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو، وَأَبُو عِيسَى بن حَيّ، وعويمر بن سَاعِدَة، وَأَبُو لبانة، وَسَالم بن عُمَيْر، وخبيب بن يسَاف، وَعبد الله بن أنيس، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، وَعبد الله بن بدر، وَالْحجاج بن عَمْرو، وَأَبُو هُرَيْرَة، وثوبان مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو عُبَيْدَة مَوْلَاهُ أَيْضا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وثابت بن وَدِيعَة، وَسَالم بن عبيد، وجرهد بن خويلد، وَبشير بن الْخَصَاصَة، وَرَبِيعَة بن كَعْب، وثابت بن الضَّحَّاك، وَأَسْمَاء بنت حَارِثَة، وَسَالم من عُبَيْدَة الْأَشْجَعِيّ، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وحزيم بن فاتك، فَهَؤُلَاءِ أهل الصّفة، وَتقدم فِي بَاب الْفَضَائِل فضل الاسطوانات الْمَشْهُورَة فِي الرَّوْضَة وَالصَّلَاة إِلَيْهَا فَلْينْظر ثمَّ. ذكر زِيَادَة عمر بن الْخطاب فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرْوى أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " إِنِّي أُرِيد أَن أَزِيد فِي الْمَسْجِد مَا زِدْت فِيهِ ". وَعَن سَلمَة بن خباب أَن النَّبِي

ذكر بطحاء مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْمًا وَهُوَ فِي مُصَلَّاهُ فِي الْمَسْجِد: " لَو زِدْنَا فِي مَسْجِدنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْو الْقبْلَة " فأجلسوا رجلا فِي مَوضِع مصلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رفعوا يَد الرجل وحطوها حَتَّى رَأَوْا أَن ذَلِك نَحْو مَا رَأَوْا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع يَده، ثمَّ مدوا ميقاطاً فوضعوا أَطْرَافه بيد الرجل ثمَّ مدوه، فَلم يزَالُوا يقدمونه ويؤخرونه حَتَّى رَأَوْا أَن ذَلِك شَبيه لما أَشَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الزِّيَادَة، فَقدم عمر الْقبْلَة فَكَانَ مَوضِع جِدَار عمر رَضِي الله عَنهُ فِي مَوضِع عيدَان الْمَقْصُورَة، وَكَانَ صَاحب الْمَقْصُورَة فِي زمَان الصَّحَابَة السَّائِب بن خباب مولى قُرَيْش، وَقيل: مولى فَاطِمَة بنت عتبَة. قَالَ أهل السّير: كَانَ بَين الْمِنْبَر وَبَين الْجِدَار بِقدر مَا تمر شَاة، فَأخذ عمر رَضِي الله عَنهُ مَوضِع الْمَقْصُورَة وَزَاد فِي يَمِين الْقبْلَة، فَصَارَ طول الْمَسْجِد الشريف أَرْبَعِينَ وَمِائَة ذِرَاع، وَعرضه عشْرين وَمِائَة، وَطول السّقف أحد عشر ذِرَاعا، وسقفه جريد ذراعان، وَبنى فَوق ظهر الْمَسْجِد ستْرَة ثَلَاثَة اذرع، وَبنى أساسه بِالْحِجَارَةِ إِلَى أَن بلغ قامة، وَجعل لَهُ سِتَّة أَبْوَاب؛ بَابَيْنِ عَن يَمِين الْقبْلَة، وبابين عَن يسارها، وَلم يُغير بَاب عَاتِكَة، وَلَا الْبَاب الَّذِي كَانَ يدْخل مِنْهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفتح بَابا عِنْد دَار مَرْوَان بن الحكم، وبابين فِي مُؤخر الْمَسْجِد. وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَو بنى هَذَا الْمَسْجِد إِلَى صنعاء كَانَ مَسْجِدي ". وروى غَيره مَرْفُوعا قَالَ: " هَذَا مَسْجِد وَمَا زيد فِيهِ فَهُوَ مِنْهُ وَلَو بلغ صنعاء كَانَ مَسْجِدي " وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَو زيد فِي هَذَا الْمَسْجِد مَا زيد لَكَانَ الْكل مَسْجِدي ". وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ لَو مد مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الزِّيَادَة دَار الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَهبهَا للْمُسلمين وَاشْترى نصف مَوضِع كَانَ خطه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فزاده فِي الْمَسْجِد وبناه على بُنْيَانه الَّذِي كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّبنِ والجريد وَأعَاد عمده خشباً. ذكر بطحاء مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بشر بن سعيد أَو سُلَيْمَان بن يسَار شكّ الضَّحَّاك أَنه حَدثهُ: أَن الْمَسْجِد كَانَ يرش زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزمان أبي بكر وَعَامة زمَان عمر رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ النَّاس يتنخمون فِيهِ ويبصقون حَتَّى عَاد زلقاً حَتَّى قدم أَبُو مَسْعُود الثَّقَفِيّ فَقَالَ لعمر رَضِي الله عَنهُ: الْيَسْ بقربكم وَاد؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: فَمر بحصباء تطرح فِيهِ فَهُوَ ألف للمخاط والنخامة فَأمر عمر رَضِي الله عَنهُ بهَا، ثمَّ قَالَ: هُوَ أَغفر للنخامة وألين فِي الموطئ. الغفر بالغين الْمُعْجَمَة

ذكر زياده عثمان رضي الله عنه

التغطية والستر وَمِنْه الْمَغْفِرَة، وَقد حرم التنخم فِي الْمَسْجِد إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَالَ: بنجاستها وَتفرد بِهَذَا القَوْل وَلم يتبع فِيهِ، بل كفارتها سترهَا. وَعَن أبي الْوَلِيد قَالَ: سَأَلت ابْن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا عَن الْحَصْبَاء الَّتِي كَانَت فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: إِنَّا مُطِرْنَا ذَات لَيْلَة فَأَصْبَحت الأَرْض مبتلة، فَجعل الرجل يَجِيء بالحصباء فِي ثَوْبه فيبسطه تَحْتَهُ، فَلَمَّا قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَاته قَالَ: مَا أجر هَذَا؟ . وَعَن مُحَمَّد بن سعد أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ألْقى الْحَصْبَاء فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ النَّاس إِذا رفعوا رؤوسهم من السُّجُود يَنْفضونَ أَيْديهم من أَيْديهم فجيء بالحصباء من العقيق من هَذِه الْعَرَصَة فبسطت فِي الْمَسْجِد. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَرمل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحمل من وَادي العقيق من الْعَرَصَة الَّتِي تسيل من الجما الشمالية إِلَى الْوَادي فَيحمل مِنْهُ، وَلَيْسَ بالوادي رمل أَحْمَر غير مَا يسيل من الجما، والجماوات أَرْبَعَة وَهُوَ رمل أَحْمَر يغربل ثمَّ يبسط فِي الْمَسْجِد. ذكر زِيَادَة عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ كَانَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ولى الْخلَافَة سنة أَربع وَعشْرين، فَلَمَّا بلغت خِلَافَته أَربع سِنِين كَلمه النَّاس فِي الزِّيَادَة وَشَكوا إِلَيْهِ ضيق الْمَسْجِد يَوْم الْجُمُعَة، فَشَاور عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أهل الرَّأْي من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك وَزَاد فِي الْمَسْجِد زِيَادَة كَثِيرَة وبنة جِدَاره بِالْحِجَارَةِ المنقوشة والقصة، وَجعل عمده من حِجَارَة منقوشة حشوها أعمدة الْحَدِيد والرصاص، وسقفه بالساج، وباشر ذَلِك بِنَفسِهِ، وَكَانَ عمله فِي أول ربيع الآخر سنة تسع وَعشْرين، وَفرغ مِنْهُ حِين دخلت السّنة لهِلَال الْمحرم سنة ثَلَاثِينَ، وَكَانَ عمله عشرَة أشهر، وَزَاد فِي الْقبْلَة إِلَى مَوضِع الْجِدَار الْيَوْم، وَزَاد فِيهِ من الْمغرب إسطواناً بعد المربعة، وَزَاد فِيهِ من الشَّام خمسين ذِرَاعا، وَلم يزدْ من الشرق شَيْئا، وَقدر زيد بن ثَابت أساطينه فَجَعلهَا على قدر النّخل، وَجعل فِيهَا طبقين مِمَّا يَلِي الْمشرق وَالْمغْرب، وَبنى الْمَقْصُورَة بِلَبن وَجعل فِيهَا كوَّة ينظر النَّاس فِيهَا إِلَى الْأَمَام، وَجعل طول الْمَسْجِد الشريف سِتِّينَ وَمِائَة ذِرَاع، وَعرضه خمسين وَمِائَة ذِرَاع، وَجعل أبوابه سِتَّة على مَا كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَاب عَاتِكَة، وَالْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وَبَاب مَرْوَان، وَبَاب

ذكر زياده الوليد بن عبد الملك بن مروان

النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وبابين فِي آخِره. ذكر زِيَادَة الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان وَذَلِكَ أَنه لما اسْتعْمل عمر بن عبد العزبز على الْمَدِينَة الشَّرِيفَة أمره بِالزِّيَادَةِ فِي الْمَسْجِد، فَاشْترى عمر مَا حوله من الْمشرق وَالْمغْرب وَالشَّام، وَمن أَبى أَن يَبِيع هدم عَلَيْهِ وَوضع لَهُ الثّمن، فَلَمَّا صَار إِلَى الْقبْلَة قَالَ عبيد الله بن عبد الله بن عمر: لسنا نبيع هَذَا هُوَ فِي حق حَفْصَة، وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسكنهَا، فَلَمَّا كثر الْكَلَام بَينهمَا قَالَ لَهُ عمر بن عبد الْعَزِيز: أجعَل لكم فِي الْمَسْجِد بَابا وأعطيكم دَار الرِّفْق، وَمَا بَقِي من الدَّرَاهِم فَهِيَ لكم يَعْنِي الَّتِي تفضل من الْعِمَارَة فَفَعَلُوا، فَأخْرج بابهم فِي الْمَسْجِد وَهِي الخوخة الَّتِي تخرج من دَار حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا، وَقدم الْجِدَار فِي مَوْضِعه الْيَوْم، وَزَاد من الشرق مَا بَين الاسطوانة المربعة إِلَى جِدَار الْمَسْجِد، وَمَعَهُ عشرَة أساطين من مربعة الْقَبْر الشريف إِلَى الرحبة وَإِلَى الشَّام، وَمد من الْمغرب إسطوانتين، وَأدْخل فِيهِ حجرات أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَيت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا وَأدْخل فِيهِ دور عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَدَار عبد الله بن مَسْعُود، وَأدْخل فِيهِ من الْمغرب دَار طَلْحَة بن عبد الله، وَدَار سُبْرَة بن أبي رهم، وَدَار عمار بن يَاسر، وَبَعض دَار الْعَبَّاس وَعلم مَا دخل مِنْهَا فَجعل سَائِر سواريها الَّتِي تلِي السّقف أعظم من غَيرهَا من السَّوَارِي، وَبعث الْوَلِيد بن عبد الْملك إِلَى ملك الرّوم إِنَّا نُرِيد أَن نعمل مَسْجِد نَبينَا الْأَعْظَم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعنا فِيهِ بعمال وفسيفساء وَهِي الفصوص المزججة المذهبة فَبعث إِلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ من الرّوم، وبأربعين من النبط، وبأربعين ألف مِثْقَال عوناً لَهُ، وبأجمال فسيفساء، وسلاسل الْقَنَادِيل الْيَوْم، وَهدم عمر الْمَسْجِد وأخمد النورة الَّتِي يعْمل مِنْهَا الفسيفساء سنة، وَحمل الْقِصَّة من النّخل، وَعمل الأساس بِالْحِجَارَةِ والجدار بِالْحِجَارَةِ المنقوشة الْمُطَابقَة، وَجعل عمد الْمَسْجِد حِجَارَة حشوها عمد الْحَدِيد والرصاص، وَجعل طوله مِائَتي ذِرَاع، وَعرضه من مقدمه مِائَتي ذِرَاع، وَمن مؤخره مائَة وَثَمَانِينَ ذِرَاعا، وَعَمله بالفسيفساء والمرمر، وسقفه بالساج وَمَاء الذَّهَب، وَأدْخل الحجرات والقبر الْمُقَدّس فِي الْمَسْجِد وَنقل لبن الحجرات فَبنى بِهِ دَاره فِي الْحرَّة. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: فَهُوَ بهَا لليوم لَهُ بَيَاض على اللَّبن. وَقَالَ الَّذين عمِلُوا الفسيفساء: إِنَّمَا عَملنَا على مَا وجدنَا من صور شجر الْجنَّة وقصورها، وَكَانَ عمر بن عبد

الْعَزِيز إِذا عمل الْعَامِل الشَّجَرَة الْكَبِيرَة من الفسيفساء وَأحسن عَملهَا نفله ثَلَاثِينَ درهما، وَكَانَت زِيَادَة الْوَلِيد من الْمشرق سِتَّة أساطين، وَزَاد من الشَّام الاسطوانة المربعة الَّتِي فِي الْقَبْر الشريف أَرْبَعَة عشر إسطواناً، مِنْهَا عشرَة فِي الرحبة، وَأَرْبَعَة فِي السقايف الأولى الَّتِي كَانَت قبل، وَزَاد فِي الإسطوانة الَّتِي دون المربعة إِلَى الْمشرق أَربع أساطين، وَأدْخل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد، وَبَقِي ثَلَاثَة أساطين فِي السقايف، وَجعل لِلْمَسْجِدِ فِي أَربع زواياه أَربع منارات، وَكَانَت الرَّابِعَة مطلة على دَار مَرْوَان، فَلَمَّا حج سُلَيْمَان بن عبد الْملك أذن الْمُؤَذّن فأطل عَلَيْهِ فَأمر بهَا فهدمت، وَأمر عمر بن عبد الْعَزِيز حِين بنى الْمَسْجِد بِأَسْفَل الأساطين فَجعل قدر ستْرَة اثْنَيْنِ يصليان إيها، وَقدر مجْلِس اثْنَيْنِ يستندان إِلَيْهَا، وَلما صَار إِلَى جِدَار الْقبْلَة دَعَا مشايخه من أهل الْمَدِينَة من قُرَيْش وَالْأَنْصَار وَالْعرب والموالي فَقَالَ: احضروا بُنيان قبلتكم، لَا تَقولُوا غير عمر قبلتنا فَجعل لَا ينْزع حجرا إِلَّا وضع حجرا. وَهُوَ أول من أحدث الشرافات والمحراب وَعمل بالميازيب من رصاص، وَلم يبْق مِنْهَا إِلَّا مِيزَابَانِ، أَحدهمَا فِي مَوضِع الْجَنَائِز، وَالْآخر على الْبَاب الَّذِي يدْخل مِنْهُ أهل السُّوق يَعْنِي بَاب عَاتِكَة، وَعمل الْمَقْصُورَة من سَاج، وَجعل لِلْمَسْجِدِ عشْرين بَابا وَكَانَ هَدمه لِلْمَسْجِدِ فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمكث فِي بُنْيَانه ثَلَاث سِنِين، فَلَمَّا قدم الْوَلِيد بن عبد الْملك حَاجا جعل ينظر إِلَى الْبُنيان فَقَالَ حِين رأى سقف الْمَقْصُورَة: أَلا عملت السّقف مثل هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِذا تعظم النَّفَقَة جدا فَقَالَ: وَإِن كَانَ، وَكَانَت النَّفَقَة فِي ذَلِك أَرْبَعِينَ ألف مِثْقَال، وَلما استنفد الْوَلِيد النّظر إِلَى الْمَسْجِد الْتفت إِلَى أبان بن عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: أَيْن بنياننا من بنيانكم؟ فَقَالَ: إِنَّا بنيناه بِنَاء الْمَسَاجِد وبنيتموه بِنَاء الْكَنَائِس. وَقَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وخلا فِي بعض الْأَيَّام الْمَسْجِد فَقَالَ بعض الرّوم: لأبولن على قبر نَبِيّهم، فَنَهَاهُ أَصْحَابه فَلم يقبل فَلَمَّا هم اقتلع حجر فألقي على رَأسه فانتثر دماغه، فَأسلم بعض أُولَئِكَ النَّصَارَى، وَعمل أحدهم على رَأس خمس طاقات من جِدَار الْقبْلَة فِي صحن الْمَسْجِد صُورَة خِنْزِير فَظهر عَلَيْهِ عمر بن عبد الْعَزِيز فَأمر بِهِ فَضربت عُنُقه، وَكَانَ عمل القبط مقدم الْمَسْجِد، وَالروم مَا خرج من الصقف من جوانبه ومؤخره، وَأَرَادَ عمر بن عبد الْعَزِيز أَن يعْمل على كل بَاب سلسلة تمنع الدَّوَابّ، فَعمل وَاحِدَة فِي بَاب مَرْوَان، ثمَّ بدا لَهُ عَن الْبَوَاقِي، واقام الحرس فِيهِ يمْنَعُونَ النَّاس من الصَّلَاة

ذكر زياده المهدي

على الْجَنَائِز فِيهِ. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَالسّنة فِي الْجَنَائِز بَاقِيَة إِلَى يَوْمنَا هَذَا إِلَّا فِي حق العلويين والأمراء وَغَيرهم من الْأَعْيَان، وَالْبَاقُونَ يصلى عَلَيْهِم خلف الْحَائِط الشَّرْقِي، إِذا وقف الإِمَام على الْجِنَازَة كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على يَمِينه. وَقَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَكَذَلِكَ الْأَمر بَاقٍ إِلَى هَذَا التَّارِيخ، والوليد بن عبد الْملك هُوَ الَّذِي بنى مَسْجِد مَكَّة وَمَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد دمشق وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وقبة الصَّخْرَة، وَأنْفق على مَسْجِد دمشق أحد عشر ألف ألف مِثْقَال ونيفاً، وَقيل: أنْفق عَلَيْهِ خراج الدُّنْيَا ثَلَاث دفعات، وَهُوَ أول من نقل إِلَى مَكَّة أساطين الرخام مُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين وَتِسْعَة أشهر، وَتُوفِّي بدير مَرْوَان وَحمل إِلَى دمشق فَدفن فِي مَقْبرَة الفراديس، وَكَانَ مَسْجِد دمشق للصابئين، ثمَّ صَار لليونانيين، ثمَّ صَار للْيَهُود، وَفِي ذَلِك الزَّمَان قتل يحيى بن زَكَرِيَّا وَنصب رَأسه على بَاب حيرون، وَعَلِيهِ نصب رَأس الْحُسَيْن، ثمَّ غلبت عَلَيْهِ النَّصَارَى ثمَّ غلبت عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ. ذكر زِيَادَة الْمهْدي وَذَلِكَ أَنه لما ولي الْخلَافَة آخر ذِي الْحجَّة من سنة ثَمَان وَخمسين وَمِائَة شرع فِي بِنَاء الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد الْمَدِينَة المشرفة على مَا هما عَلَيْهِ الْيَوْم، وَبنى بَيت الْمُقَدّس وَقد كَانَ هدمته الزلازل، وَحج فِي سنة سِتِّينَ وَمِائَة، وَاسْتعْمل فِي هَذِه السّنة على الْمَدِينَة جَعْفَر بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن عَبَّاس وَأمره بِالزِّيَادَةِ فِي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، وولاه بناءه هُوَ وَعَاصِم بن عمر بن عبد الْعَزِيز، وَعبد الْملك بن شبيب الغساني فزادوا فِي الْمَسْجِد من جِهَة الشَّام إِلَى منتهاه الْيَوْم، فَكَانَت زِيَادَته مائَة ذِرَاع، وَلم يزدْ فِيهِ من الشرق والغرب شَيْئا، ثمَّ سد على آل عمر خوختهم الَّتِي فِي دَار حَفْصَة، فَكثر كَلَامهم، فَصَالحهُمْ على أَن يخْفض الْمَقْصُورَة ذراعين، وَزَاد فِي الْمَسْجِد لتِلْك الخوخة ثَلَاث دَرَجَات، وحفر الخوخة حَتَّى صَارَت تَحت الْمَقْصُورَة وَجعل عَلَيْهَا فِي جِدَار الْقبْلَة شباك حَدِيد فَهُوَ عَلَيْهَا الْيَوْم، وَكَانَ الَّذِي دخل فِي الْمَسْجِد من الدّور؛ دَار عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَدَار شُرَحْبِيل، وَبَقِيَّة دَار عبد الله بن مَسْعُود، وَدَار الْمسور بن مخرمَة، وَفرغ من بُنْيَانه سنة خمس وَسِتِّينَ

ذكر بلاعات المسجد وستائر صحنه والسقايات التي كانت فيه

وَمِائَة، وَكَانَ ابتداؤه سنة اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَعرض منقبته مِمَّا يَلِي الْمشرق ذراعان وَأَرْبع أَصَابِع وَهُوَ أعرضها؛ لِأَنَّهُ من نَاحيَة السَّيْل. ذكر بلاعات الْمَسْجِد وستائر صحنه والسقايات الَّتِي كَانَت فِيهِ قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَفِي صحن الْمَسْجِد أَربع وَسِتُّونَ بلاعة، عَلَيْهَا أرحاء لَهَا صمائم من حِجَارَة، وَكَانَ أَبُو البحتري وهب بن وهب القَاضِي والياً على الْمَدِينَة لهارون الرشيد وكشف سقف الْمَسْجِد فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة فَوجدَ فِيهِ سبعين خَشَبَة فأصلحها، وَكَانَ مَاء الْمَطَر إِذا كثر فِي صحن الْمَسْجِد يغشى قبْلَة الْمَسْجِد، فَجعل بَين الْقبْلَة والصحن " لاصقاً حجاراً من المربعة " الَّتِي فِي غربي الْمَسْجِد إِلَى المربعة الَّتِي فِي شرقيه الَّتِي تلِي الْقَبْر الْمُقَدّس تمنع المَاء والحصب. وَأما الستائر الَّتِي كَانَت فِي صحن الْمَسْجِد: فَذَلِك أَنه لما قدم أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور سنة أَرْبَعِينَ وَمِائَة أَمر بستور فَستر بهَا صحن الْمَسْجِد، على عمد لَهَا رُؤُوس كقريات الفساطيط، وَجعلت فِي الطيقان، فَكَانَت لَا تزَال الْعمد تسْقط على النَّاس، فغيرها وَأمر بستور أكثف من تِلْكَ الستور، وحبال تَأتي من جدة تسمى القنبار وَجعلت مشتبكة، فَكَانَت تجْعَل على النَّاس كل جُمُعَة، فَلم تزل حَتَّى خرج مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن يَوْم الْأَرْبَعَاء لليلتين بَقِيَتَا من جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَة، فَأمر بهَا فَقطعت ذراريع لمن كَانَ يُقَاتل مَعَه، فَتركت حَتَّى كَانَ زمَان هَارُون فَأخذت هَذِه الأستار الْيَوْم، وَلم يكن يستر بهَا فِي زمَان بني أُميَّة. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: ثمَّ إِنَّهَا تركت لما جدد الْملك النَّاصِر الرواقين. وَعَن حسن بن مُصعب قَالَ: أدْركْت كسْوَة الْكَعْبَة يُؤْتى بهَا الْمَدِينَة قبل مَكَّة فتنشر على الرضراض فِي مُؤخر الْمَسْجِد ثمَّ يخرج بهَا إِلَى مَكَّة، وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ أَو اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. انْتهى وَأما الْآن فَلَا يُؤْتى بهَا إِلَى الْمَدِينَة وَإِنَّمَا يُؤْتى بهَا صُحْبَة الركب الْمصْرِيّ. وَأما السقايات: فَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن بن زبالة: كَانَ فِي صحن الْمَسْجِد تسع عشرَة سِقَايَة إِلَى أَن كتبنَا كتَابنَا هَذَا فِي صفر سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة، مِنْهَا ثَلَاث عشرَة

ذكر احتراق المسجد الشريف

أحدثتها خَالِصَة وَهِي أول من أحدث ذَلِك، وَثَلَاث لزيد الْبَرْبَرِي مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ، وسقاية لأبي البحتري وهب بن وهب، وسقاية لسحر أم ولد هَارُون الرشيد، وسقاية لسلسبيل أم ولد جَعْفَر بن أبي جَعْفَر. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَأما الْآن فَلَيْسَ بِهِ سِقَايَة إِلَّا أَن فِي وَسطه بركَة كَبِيرَة مَبْنِيَّة بالآجر والجص والخشب، بهَا درج أَربع فِي جوانبها، وَالْمَاء يَنْبع من فوارة فِي وَسطهَا تَأتي من الْعين الزَّرْقَاء، وَلَا يكون فِيهَا المَاء إِلَّا فِي المواسم، بناها بعض أُمَرَاء الشَّام تسمى شامة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَكَانَ يحصل بِهَذِهِ الْبركَة انتهاك لحُرْمَة الْمَسْجِد فَسدتْ لذَلِك. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وعملت الْجِهَة أم الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله فِي مُؤخر الْمَسْجِد سنة تسعين وَخَمْسمِائة سِقَايَة فِيهَا عدَّة من الْبيُوت، وحفرت لَهَا بِئْرا، وَفتحت لَهَا بَابا إِلَى الْمَسْجِد فِي الْحَائِط الَّذِي يَلِي الشَّام وَهِي تفتح فِي الْمَوْسِم. ذكر احتراق الْمَسْجِد الشريف وَاحْتَرَقَ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجُمُعَة أول شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَخمسين وسِتمِائَة، بعد خُرُوج نَار الْحرَّة الْآتِي ذكرهَا فِي السّنة نَفسهَا، فَكتب بذلك إِلَى الْخَلِيفَة المستعصم بِاللَّه أبي أَحْمد عبد الله بن الْمُسْتَنْصر فِي الشَّهْر الْمَذْكُور، فواصل الصَّاع والآله فِي صُحْبَة حجاج الْعرَاق وابتدئ فِيهِ بالعمارة من أول سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة، وَاسْتولى الْحَرِيق على جَمِيع سقوفه حَتَّى لم يبْق فِيهِ خَشَبَة وَاحِدَة، وَبقيت السَّوَارِي قَائِمَة وذاب رصاص بَعْضهَا فَسَقَطت، وَاحْتَرَقَ سقف الْحُجْرَة المقدسة، وَأنْشد بَعضهم فِي ذَلِك: لم يَحْتَرِق حرم النَّبِي لحادث ... يخْشَى عَلَيْهِ وَلَا دهاه الْعَار لَكِنَّهَا أَيدي الروافض لامست ... ذَاك الجناب فطهرته النَّار وقصة هَذِه النَّازِلَة على مَا نَقله ابْن أبي شامة والمطري وَغَيرهمَا: وَذَلِكَ أَنه لما كَانَت اللَّيْلَة لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَخمسين وسِتمِائَة ظهر بِالْمَدِينَةِ دوِي عَظِيم، ثمَّ زلازل رجفت مِنْهَا الْمَدِينَة والحيطان سَاعَة بعد سَاعَة، وَكَانَ بَين الْيَوْم وَاللَّيْلَة أَرْبَعَة عشر زَلْزَلَة، واضطرب الْمِنْبَر إِلَى أَن سمع مِنْهُ صَوت الْحَدِيد، واضطربت

قناديل الْمَسْجِد، وَسمع لسقف الْمَسْجِد صرير، وتمت الزلازل إِلَى يَوْم الْجُمُعَة ضحى ثمَّ انبجست الأَرْض بِنَار عَظِيمَة فِي وَاد يُقَال لَهُ: أخيلين بَينه وَبَين الْمَدِينَة نصف يَوْم، ثمَّ انبجست من رَأسه فِي الْحرَّة الشرقية من وَرَاء قُرَيْظَة على طَرِيق الشوارقية بالمقاعد، ثمَّ ظهر لَهَا دُخان عَظِيم فِي السَّمَاء ينْعَقد حَتَّى يبْقى كالسحاب الْأَبْيَض، وللنار ألسن محمرة صاعدة فِي الْهَوَاء، وَبَقِي النَّاس فِي مثل ضور الْقَمَر، وَصَارَت النَّار قدر الْمَدِينَة الْعَظِيمَة، وَمَا ظَهرت إِلَّا لَيْلَة السبت، وَكَانَ اشتعالها أَكثر من ثَلَاث منائر وَهِي ترمي بشرر كالقصر، وشررها صَخْر كالجمال، وسال من هَذِه النَّار وَاد يكون مِقْدَاره خَمْسَة فراسخ، وَعرضه أَرْبَعَة أَمْيَال، وعمقه قامة وَنصف، وَهُوَ يجْرِي على وَجه الأَرْض، وَيخرج مِنْهُ أمهاد وحبال يسير على وَجه الأَرْض، وَهُوَ صَخْر يذوب حَتَّى يصير كالآنك، فَإِذا جمد صَار أسود وَقبل الجمود لَونه أَحْمَر، وسال مِنْهَا وَاد من نَار حَتَّى حَاذَى جبل أحد، وسالت من أخيلين نَار تنحدر مَعَ الْوَادي إِلَى الشظاة، وَالْحِجَارَة تسير مَعهَا حَتَّى عَادَتْ تقَارب حرَّة العريض، ثمَّ وَقعت أَيَّامًا تخرج من النَّار ألسن ترمي بحجارة خلفهَا وأمامها حَتَّى نبت لَهَا جبل، وَلها كل يَوْم صَوت من آخر النَّهَار ورؤي ضوء هَذِه النَّار من مَكَّة وَمن الينبع، وَلَا يرى الشَّمْس وَالْقَمَر من يَوْم ظُهُور النَّار إِلَّا كاسفين. قَالَ ابْن أبي شامة: ظهر عندنَا بِدِمَشْق أثر الْكُسُوف من ضعف نور الشَّمْس على الْحِيطَان، وكلنَا حيارى من ذَلِك مَا هُوَ حَتَّى أَتَى خبر النَّار. قَالَ المطري: سَارَتْ النَّار من مخرجها الأول إِلَى جِهَة الشمَال ثَلَاثَة أشهر تدب كدبيب النَّمْل، تَأْكُل كلما دبت عَلَيْهِ من جبل أَو حجر وَلَا تَأْكُل الشّجر، فتثير كل مَا مرت عَلَيْهِ فَيصير سداً لَا مَسْلَك فِيهِ لإِنْسَان إِلَى مُنْتَهى الْحرَّة من جِهَة الشمَال، فَقطعت فِي وسط وَادي الشظاة إِلَى جبل وَغَيره، فَسدتْ الْوَادي الْمَذْكُور بسد عَظِيم بِالْحجرِ المسبوك بالنَّار، وَلَا كسد ذِي القرنين، لَا يصفه إِلَّا من رَآهُ طولا وعرضاً وارتفاعاً وَانْقطع وَادي الشظاة بِسَبَبِهِ، وَصَارَ السَّيْل منحبس خلف السد وَهُوَ وَاد عَظِيم، فيجتمع خَلفه الْمِيَاه حَتَّى يصير بحراً كنيل مصر عِنْد زِيَادَته قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: شاهدته كَذَلِك فِي شهر رَجَب من سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة، قَالَ: وَأَخْبرنِي علم الدّين سحر المغربي، من عُتَقَاء الْأَمِير عز الدّين منيف بن شيحة بن الْقَاسِم بن مهنا الْحُسَيْنِي أَمِير الْمَدِينَة، قَالَ: أَرْسلنِي مولَايَ الْأَمِير الْمَذْكُور بعد ظُهُور النَّار بأيام وَمَعِي شخص من الْعَرَب يُسمى خطيب بن منان وَقَالَ لنا: اقربا من هَذِه النَّار وانظرا هَل يقدر أحد على الْقرب مِنْهَا؟ فخرجنا إِلَى أَن قربنا مِنْهَا فَلم نجد لَهَا حرا، فَنزلت عَن فرسي

وسرت إِلَى أَن وصلت إِلَيْهَا وَهِي تَأْكُل الصخر، ومددت يَدي إِلَيْهَا بِسَهْم فغرق النصل وَلم يَحْتَرِق وَاحْتَرَقَ الريش. انْتهى. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: انْظُر إِلَى عظم لطف الْبَارِي تَعَالَى بعباده إِذْ سخرها بِلَا حرارة، إِذْ لَو كَانَت كنارنا لأحرقت من مدى الْبعد، فناهيك بقربها وعظمها، وَلكنهَا لَيست بِأول مكارمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وامتنان خَالِقهَا عز وَجل إِذْ خمد حرهَا، وَجعل سَيرهَا تهويداً لَا تنفيثاً، حفظا لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولأمته، ورفقاً بعباده ولطفاً بهم: " أَلا يعلم من خلق وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير ". وَقد ظهر بظهورها معجزات بَان بهَا آيَات وأسرار بديعة وعنايات ربانية منيعة، فَفِي انطماس نورها فكرة، وَسَببه عدم حرهَا، وَفِي عدم حرهَا عِبْرَة، وَسَببه خفَّة سَيرهَا، وَفِي استرسال دبيبها قدرَة وَسَببه عدم أكلهَا، وَفِي عدم أكلهَا حُرْمَة، وَسَببه لَا يعضد نبتها. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وأخبرتني بعض من أدركتنا من النِّسَاء إنَّهُنَّ كن يغزلن على ضوئها بِاللَّيْلِ على أسطحة الْبيُوت. قَالَ رَحمَه الله: وَظهر بظهورها معْجزَة من معجزات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي مَا ورد فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تظهر نَار بالحجاز تضيء لَهَا أَعْنَاق الْإِبِل ببصرى ". فَكَانَت هِيَ إِذا لم يظْهر قبلهَا وَلَا بعْدهَا، ثمَّ قَالَ رَحمَه الله: وَظهر لي أَنه فِي معنى أَنَّهَا كَانَت تَأْكُل الْحجر وَلَا تَأْكُل الشّجر، إِن ذَلِك لتَحْرِيم سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شجر الْمَدِينَة فمنعت من أكله؛ لوُجُوب طَاعَته، وَهَذَا من أوضح معجزاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقدم إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فِي جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة نجابة من الْعرَاق، وأخبروا أَن بَغْدَاد أَصَابَهَا غرق عَظِيم حَتَّى دخل المَاء من أسوارها إِلَى الْبَلَد، وغرق كثير من الْبَلَد وَدخل المَاء دَار الْخَلِيفَة، وانهدمت دَار الْوَزير وثلثمائة وَثَمَانُونَ دَارا، وانهدم مخزن الْخَلِيفَة وَهلك من السِّلَاح شَيْء كثير، واشرف النَّاس على الْهَلَاك وتخرقت أَزِقَّة بَغْدَاد، وَدخلت السفن وسط الْبلدَانِ، وَفِي تِلْكَ السّنة احْتَرَقَ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة أول لَيْلَة من رَمَضَان الْمُعظم. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وانخرق السد من تَحْتَهُ فِي سنة تسعين وسِتمِائَة؛ لتكاثر

المَاء من خَلفه، فَجرى فِي الْوَادي الْمَذْكُور سنة كَامِلَة سيلاً يمْلَأ مَا بَين جَانِبي الْوَادي، ثمَّ سنة أُخْرَى دون ذَلِك، ثمَّ انخرق فِي الْعشْر الأول بعد السبعمائة فَجرى سنة أَو أَزِيد، ثمَّ انخرق فِي سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة بعد تَوَاتر أمطار عَظِيمَة، وَعلا المَاء من جَانِبي السد من دونه مِمَّا يَلِي جبل أَو غَيره، فجَاء السَّيْل طام لَا يُوصف، وَمَجْرَاهُ على مشْهد حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ وحفروا وَاديا آخر قبلي الْوَادي ومشهد حَمْزَة وقبلي جبل عنين، وَبَقِي المشهد وجبل عنين فِي وسط السَّيْل أَرْبَعَة أشهر، وَلَو زَاد المَاء مِقْدَار ذِرَاع وصل إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة. قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: وَكُنَّا نقف خَارج بَاب البقيع على التل الَّذِي هُنَاكَ فنراه ونسمع خريره، ثمَّ اسْتَقر فِي الْوَادي بَين القبلي الَّذِي أحدثته النَّار والشمالي قَرِيبا من سنة، وكشف عَن عين قديمَة قبل الْوَادي، فجددها الْأَمِير ودي بن جماز أَمِير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فِي ولَايَته. انْتهى. رَجعْنَا إِلَى الْمَقْصُود قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَلما ابتدأوا بالعمارة قصدُوا إِزَالَة مَا وَقع من السقوف على الْقُبُور المقدسة فَلم يجسروا، وَرَأَوا من الرَّأْي أَن يطالعوا الإِمَام المستعصم فِي ذَلِك، وَكَتَبُوا لَهُ فَلم يصل إِلَيْهِم حول، وَحصل للخليفة الْمَذْكُور شغل باستيلاء التتار على بِلَادهمْ تِلْكَ السّنة، فتركوا الرَّدْم وأعادوا سقفاً فَوْقه على رُؤُوس السَّوَارِي الَّتِي حول الْحُجْرَة الشَّرِيفَة، فَإِن الْحَائِط الَّذِي بناه عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ حول بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين هَذِه السَّوَارِي الَّتِي حول بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبلغ بِهِ السّقف الْأَعْلَى، بل جعلُوا فَوق الحوائط وَبَين السَّوَارِي إِلَى السّقف شباكاً من خشب يظْهر لمن تَأمله من تَحت الْكسْوَة على دوران الْحَائِط جَمِيعه؛ لِأَنَّهُ أُعِيد بعد الاحتراق على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل ذَلِك، وسقفوا فِي هَذِه السّنة وَهِي سنة خمس وَخمسين الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَمَا حولهَا إِلَى الْحَائِط الشَّرْقِي إِلَى بَاب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَمن جِهَة الغرب الرَّوْضَة الشَّرِيفَة جَمِيعهَا إِلَى الْمِنْبَر المنيف، ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة فَكَانَ فِي الْمحرم وَمِنْهَا وَاقعَة بَغْدَاد وَقتل الْخَلِيفَة الْمَذْكُور، ووصلت الْآلَة من مصر، وَكَانَ المتولى لَهَا تِلْكَ السّنة الْملك الْمَنْصُور عَليّ بن الْملك الْعَزِيز بن أَبِيك الصَّالِحِي، فَأرْسل الآلت والأخشاب فعملوا إِلَى بَاب السَّلَام، ثمَّ عزل صَاحب مصر الْمَذْكُور، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ مَمْلُوك أَبِيه الْملك المظفر سيف الدّين قطز المعزي، واسْمه الْحَقِيقِيّ مُحَمَّد بن مَمْدُود، وَأمه أُخْت السُّلْطَان جلال الدّين خوارزم شاه، وَأَبوهُ ابْن عَمه، وَقع عَلَيْهِ السَّبي عِنْد غَلَبَة التتار فَبيع بِدِمَشْق ثمَّ انْتقل بِالْبيعِ إِلَى مصر وتملك فِي سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة، وَفِي شهر رَمَضَان من السّنة

ذكر الخوخ والابواب التي كانت في مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم

الْمَذْكُورَة كَانَت وقْعَة عين جالوت على يَده، ثمَّ قتل بعد الْوَقْعَة بِشَهْر وَهُوَ دَاخل إِلَى مصر، وَكَانَ الْعَمَل فِي الْمَسْجِد الشريف تِلْكَ السّنة من بَاب السَّلَام إِلَى بَاب الرَّحْمَة الْمَعْرُوف قَدِيما بِبَاب عَاتِكَة بنت عبد الله بن يزِيد بن مُعَاوِيَة، كَانَت لَهَا دَار تقَابل الْبَاب فنسب لَهَا كَمَا نسب بَاب عُثْمَان وَبَاب مَرْوَان، وَمن بَاب جِبْرِيل إِلَى بَاب النِّسَاء الْمَعْرُوف قَدِيما بِبَاب ريطة بنت أبي الْعَبَّاس السفاح، وَتَوَلَّى مصر آخر تِلْكَ السّنة الْملك الظَّاهِر ركن الدّين بيبرس الصَّالِحِي الْمَعْرُوف بالبندقداري، فَعمل فِي أَيَّامه بَاقِي الْمَسْجِد الشريف من بَاب الرَّحْمَة إِلَى شمَالي الْمَسْجِد ثمَّ إِلَى بَاب النِّسَاء، وكمل سقف الْمَسْجِد كَمَا كَانَ قبل الْحَرِيق سقفاً فَوق سقف، وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى جددوا السّقف الشَّرْقِي والسقف الغربي فِي سنتي خمس وست وَسَبْعمائة فِي أول دولة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون، فَجعلَا سقفاً وَاحِدًا يشبه السّقف الشمالي فَإِنَّهُ جعل فِي عمَارَة الْملك الظَّاهِر كَذَلِك. فِي أَيَّامه بَاقِي الْمَسْجِد الشريف من بَاب الرَّحْمَة إِلَى شمَالي الْمَسْجِد ثمَّ إِلَى بَاب النِّسَاء، وكمل سقف الْمَسْجِد كَمَا كَانَ قبل الْحَرِيق سقفاً فَوق سقف، وَلم يزل على ذَلِك حَتَّى جددوا السّقف الشَّرْقِي والسقف الغربي فِي سنتي خمس وست وَسَبْعمائة فِي أول دولة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون، فَجعلَا سقفاً وَاحِدًا يشبه السّقف الشمالي فَإِنَّهُ جعل فِي عمَارَة الْملك الظَّاهِر كَذَلِك. ذكر الخوخ والأبواب الَّتِي كَانَت فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: اعْلَم أَن الخوخة الَّتِي تَحت الأَرْض وَلها شباك فِي الْقبْلَة وطابق مقفل يفتح أَيَّام الْحَاج، وَهِي طَرِيق آل عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم إِلَى دَارهم الَّتِي تسمى الْيَوْم دَار الْعشْرَة، وَإِنَّمَا هِيَ دَار آل عبد الله بن عمر، وَكَانَ بَيت حَفْصَة رَضِي الله عَنْهَا قد صَار إِلَى آل عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، فَلَمَّا أَدخل عمر بن عبد الْعَزِيز بَيت حَفْصَة فِي الْمَسْجِد جعل لَهُم طَرِيقا فِي الْمَسْجِد وَفتح لَهُم حَائِطا فِي الْحَائِط القبلي، يدْخلُونَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِد وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى عمل الْمهْدي بن الْمَنْصُور الْمَقْصُورَة على الرواقين، فسد الْبَاب وَجعل لَهُم شباكاً حديداً، وحفر لَهُم من تَحت الأَرْض طَرِيقا يخرج إِلَى خَارج الْمَقْصُورَة، فَهِيَ هَذِه الْمَوْجُودَة الْيَوْم وَهِي إِلَى الْآن بيد آل عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم وَأما خوخة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَإِن بَاب أبي بكر كَانَ فِي غربي الْمَسْجِد، وَنقل أَيْضا أَنه كَانَ قَرِيبا من الْمِنْبَر، وَلما زَاد فِي الْمَسْجِد إِلَى عمده من الْمغرب نقلوا الخوخة، وجعلوها فِي مثل مَكَانهَا الأول، كَمَا نقل بَاب عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَوْضِعه الْيَوْم. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَبَاب خوخة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ الْيَوْم هُوَ بَاب خزانَة لبَعض حواصل الْمَسْجِد، إِذا دخلت من بَاب السَّلَام كَانَت على يسارك قَرِيبا من الْبَاب.

وَأما أَبْوَاب مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَذَلِك أَنه لما بنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَسْجده أَولا جعل لَهُ ثَلَاثَة أَبْوَاب: بَاب فِي مؤخره، وَبَاب عَاتِكَة، وَبَاب الرَّحْمَة، وَالْبَاب الَّذِي كَانَ يدْخل مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بَاب عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ الْمَعْرُوف الْيَوْم بِبَاب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: روى عَن ربيعَة بن عُثْمَان قَالَ: لم يبْق من الْأَبْوَاب الَّتِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل مِنْهَا إِلَّا بَاب عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: فَلَمَّا بنى الْوَلِيد بن عبد الْملك الْمَسْجِد جعل لَهُ عشْرين بَابا ثَمَانِيَة فِي جِهَة الشرق فِي الْحَائِط القبلي: الأول: بَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. سمي بذلك لمقابلته بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا لِأَنَّهُ دخل مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد سد عِنْد تَجْدِيد الْحَائِط، وَجعل مِنْهُ شباك يقف الْإِنْسَان عَلَيْهِ من خَارج الْمَسْجِد، فَيرى حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِي: بَاب عليّ رَضِي الله عَنهُ كَانَ يُقَابل بَيته خلف بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد سد أَيْضا عِنْد تَجْدِيد الْحَائِط. الثَّالِث: بَاب عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ نقل عِنْد بِنَاء الْحَائِط الشَّرْقِي قبالة الْبَاب الأول الَّذِي كَانَ يدْخل مِنْهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بَاب جِبْرِيل، وَهُوَ مُقَابل لدار عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ اشْترى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ دَارا حولهَا إِلَى الْقبْلَة والشرق، وشمالها الطَّرِيق إِلَى بَاب جِبْرِيل إِلَى بَاب الْمَدِينَة الأول من عمل جمال الدّين الْأَصْبَهَانِيّ، وَمِنْه يخرج إِلَى البقيع فَالَّذِي يُقَابل بَاب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام مِنْهَا الْيَوْم رِبَاط أنشأه جمال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن مَنْصُور الْأَصْبَهَانِيّ وَزِير بني زنكي وَوَقفه على فُقَرَاء الْعَجم، وَجعل لَهُ فِيهِ مشهداً دفن فِيهِ، وَكَانَ قد جدد أَمَاكِن كَثِيرَة بِمَكَّة وَالْمَدينَة، مِنْهَا بَاب إِبْرَاهِيم بِمَكَّة وزيادته واسْمه مَكْتُوب على الْبَاب، وتاريخه من سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَمِنْهَا المنابر بِمَكَّة وَعَلَيْهَا اسْمه، وَكَانَ أَولا قد جدد بَاب الْكَعْبَة وَأخذ الْبَاب الْعَتِيق وَحمله إِلَى بَلَده، وَعمل مِنْهُ تابوتاً حمل فِيهِ بعد مَوته إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة، وَمَات مسجوناً بقلعة الْموصل سنة تسع وَخمسين وَخَمْسمِائة وَحمل إِلَى مَكَّة ثمَّ إِلَى الْمَدِينَة وَأنْشد فِي ذَلِك: سرى نعشه فَوق الركاب وطالما ... سرى جوده فَوق الركاب ونائله يمر على الْوَادي فتثنى رماله ... عَلَيْهِ وبالبادي فتثنى أرامله وَهُوَ الَّذِي بنى سور الْمَدِينَة الثَّانِي بعد السُّور الأول الْقَدِيم، وَعمل لَهَا أبواباً من حَدِيد وَلكنه كَانَ على مَا حول الْمَسْجِد، فَلَمَّا كثر النَّاس بِالْمَدِينَةِ وَوصل السُّلْطَان الْملك الْعَادِل

نور الدّين الشَّهِيد مَحْمُود بن زنكي ملك الشَّام إِلَى الْمَدِينَة لأمر حدث بهَا يَأْتِي ذكره فِي آخر هَذَا الْفَصْل، أَمر بِبِنَاء هَذَا السُّور الْمَوْجُود الْيَوْم، وَفِي قبْلَة الرِّبَاط الْمَذْكُور من دَار عُثْمَان تربة اشْترى عرصتها أَسد الدّين شيركوه بن شادي عَم السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف، وعملها تربة نقل إِلَيْهَا هُوَ وَأَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب بعد مَوْتهمَا ودفنا بهَا، وَتُوفِّي أَسد الدّين شَهِيدا بخانوق كَانَ يَعْتَرِيه سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ. الرَّابِع: بَاب ريطة وَيعرف بِبَاب النِّسَاء، وَفِي أَعْلَاهُ من خَارج لوح من الفسيفساء مَكْتُوب فِيهِ آيه الْكُرْسِيّ من بَقِيَّة الْبُنيان الْقَدِيم الَّذِي بناه عمر بن عبد الْعَزِيز، وَدَار ريطة الْمُقَابلَة لَهُ كَانَت دَارا لأبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ، وَنقل أَنه توفّي بهَا وَهِي الْآن مدرسة للحنفية بناها ياركوج أحد أُمَرَاء الشَّام وَيعرف بالياركوجية، وَعمل لَهُ فِيهَا مشهداً نقل إِلَيْهِ من الشَّام بعد مَوته، وَالطَّرِيق إِلَى البقيع بَينهَا وَبَين دَار عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، وَالطَّرِيق سَبْعَة أَذْرع قَالَه ابْن زبالة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهِي الْيَوْم قريب من هَذَا. الْخَامِس: بَاب يُقَابل بَاب أَسمَاء ابْنة الْحُسَيْن بن عبد الله بن عبيد الله بن الْعَبَّاس كَانَت لجبلة بن عَمْرو السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، ثمَّ صَارَت لسَعِيد بن خَالِد بن عَمْرو بن عُثْمَان، ثمَّ صَارَت لأسماء، وَقد سد عِنْد تَجْدِيد الْحَائِط الشَّرْقِي فِي أَيَّام النَّاصِر لدين الله سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة، وَدَار أَسمَاء الْمَذْكُورَة هِيَ الْيَوْم رِبَاط للنِّسَاء. السَّادِس: بَاب يُقَابل دَار خَالِد بن الْوَلِيد وَقد دخل فِي بِنَاء الْحَائِط الْمَذْكُور، وَدَار خَالِد الْآن رِبَاط للرِّجَال، وَمَعَهَا من جِهَة الشمَال دَار عَمْرو بن الْعَاصِ، والرباطان الْمَذْكُورَان بناهما قَاضِي الْقُضَاة كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن الْقَاسِم الشهرزوري. السَّابِع: بَاب يُقَابل زقاق المناصع بَين دَار عَمْرو بن الْعَاصِ وَدَار مُوسَى بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي، والزقاق الْيَوْم ينفذ إِلَى دَار الْحسن بن عَليّ العسكري رَحمَه الله تَعَالَى وَكَانَ الزقاق نَافِذا إِلَى المناصع خَارِجا عَن الْمَدِينَة، وَهُوَ متبرز النِّسَاء بِاللَّيْلِ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدَار مُوسَى بن إِبْرَاهِيم الْيَوْم رِبَاط للرِّجَال أنشأه محيي الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ بن الْحُسَيْن اللَّخْمِيّ التباني ثمَّ الْعَسْقَلَانِي، وَدخل هَذَا الْبَاب فِي الْحَائِط أَيْضا. الثَّامِن: بَاب كَانَ يُقَابل أَبْيَات الصوافي، دوراً كَانَت بَين مُوسَى بن إِبْرَاهِيم وَبَين عبد الله بن الْحُسَيْن الْأَصْغَر بن عَليّ بن زين العابدين بن الْحُسَيْن بن عَليّ، دخل فِي الْحَائِط أَيْضا وموضه هَذِه الدّور الْيَوْم دَار اشْتَرَاهَا صفي الدّين أَبُو بكر بن أَحْمد السلَامِي

ذكر ذرع المسجد اليوم وعدد اساطينه وطيقانه وذكر حدود المسجد القديم

ووقفها على قرَابَته السلاميين، وَفِي شمَالي الْمَسْجِد الشريف أَرْبَعَة أَبْوَاب سدت أَيْضا عِنْد تَجْدِيد الْحَائِط الشمالي، وَلَيْسَ فِي شمَالي الْمَسْجِد الْيَوْم إِلَّا بَاب سِقَايَة عمرتها أم الإِمَام النَّاصِر لدين الله للْوُضُوء فِي سنة تسعين وَخَمْسمِائة كَمَا تقدم، وَمِمَّا يَلِي الْمغرب ثَمَانِيَة أَبْوَاب، بَابَانِ مسدودان، وَبَقِيَّة بَاب ثَالِث سد وَبقيت مِنْهُ قِطْعَة وَدخل بَاقِيه عِنْد تَجْدِيد الْحَائِط، ثمَّ بَاب عَاتِكَة إِلَيْهِ ثمَّ بَاب عَاتِكَة بنت عبد الله بن يزِيد وَهُوَ بَاب الرَّحْمَة وَكَانَ يُقَابل دَار عَاتِكَة، ثمَّ صَارَت الدَّار ليحيى بن خَالِد بن برمك وَزِير الرشيد، وبابان سدا أَيْضا عِنْد تَجْدِيد الْحَائِط مَا بَين بَاب عَاتِكَة هَذَا وخوخة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ خوخة أبي بكر وَقد تقدم ذكرهَا، ثمَّ الْبَاب الثَّامِن بَاب مَرْوَان بن عبد الحكم، وَكَانَت دَاره تقابله من الْمغرب وَمن الْقبْلَة، وَيعرف الْآن بِبَاب السَّلَام وَبَاب الْخُشُوع، وَلم يكن فِي الْقبْلَة وَلَا إِلَى الْيَوْم بَاب إِلَّا خوخة آل عمر الْمُتَقَدّم ذكرهَا، وخوخة كَانَت لمروان عِنْد دَاره فِي ركن الْمَسْجِد الغربي. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: شاهدناها عِنْد بِنَاء المنارة الْكَبِيرَة المستجدة فِي سنة سِتّ وَسَبْعمائة، أَمر بإنشائها الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون، وَكَانَ بَابهَا عَلَيْهَا وَهُوَ من سَاج، فَلم يبل إِلَى هَذَا التَّارِيخ وَقد استدت بحائط المنارة المغربي. ذكر ذرع الْمَسْجِد الْيَوْم وَعدد أساطينه وطيقانه وَذكر حُدُود الْمَسْجِد الْقَدِيم : قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: اعْلَم أَن طول الْمَسْجِد الْيَوْم بعد الزِّيَادَات كلهَا من قبلته إِلَى الشَّام مِائَتَا ذِرَاع وَأَرْبع وَخَمْسُونَ ذِرَاعا وَأَرْبع أَصَابِع وَعرضه من مقدمه من الْمشرق إِلَى الْمغرب مِائَتَا ذِرَاع وَسَبْعُونَ ذِرَاعا شافة، وَعرضه من مؤخره مائَة ذِرَاع وَخَمْسَة وَثَلَاثُونَ ذِرَاعا، وَطول رحبته من الْقبْلَة إِلَى الشَّام مائَة ذِرَاع وتسع وَخَمْسُونَ ذِرَاعا وَثَلَاث أَصَابِع، وَذَلِكَ قبل زِيَادَة الرواقين، وَمن شرقيه إِلَى غربيه سبع وَتسْعُونَ ذِرَاعا راجحة، وَطول الْمَسْجِد فِي السَّمَاء خَمْسَة وَعِشْرُونَ. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: هَذَا مَا ذرعته أَنا بخيط. وَذكر الشَّيْخ جمال الدّين أَن ابْن زبالة ذكر مثل ذَلِك وَمَا يُقَارِبه. وَذكر ابْن زبالة: أَن طول منائره خمس وَخَمْسُونَ ذِرَاعا، وعرضهن ثَمَانِيَة أَذْرع فِي ثَمَانِيَة. وَأما الطيقان فَفِي الْقبْلَة ثَمَان وَسِتُّونَ: مِنْهَا فِي الْقَبْر الْمُقَدّس أَرْبَعَة، وَفِي الشَّام

مثلهَا، وَفِي الْمشرق أَرْبَعُونَ مِنْهَا اثْنَتَانِ فِي الْحُجْرَة المعظمة، وَفِي الْمغرب سِتُّونَ وَبَين كل اسطوانتين تِسْعَة أَذْرع، وَذَلِكَ قبل زِيَادَة الرواقين وَلَيْسَ على رُؤُوس السَّوَارِي أقواس بل عوارض غير الدائر بالرحبة، والرواقين اللَّذين زيدا فِي دولة الْملك النَّاصِر. وَأما حُدُود مَسْجِد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقَدِيم الْمشَار إِلَيْهِ أَولا فَذكر الْحَافِظ محب الدّين أَن حَده من الْقبْلَة الدرابزينات الَّتِي بَين الأساطين الَّتِي فِي قبَّة الرَّوْضَة الشَّرِيفَة، وَمن الشَّام الخشبتان المغروزتان فِي صحن الْمَسْجِد هَذَا طوله، أما عرضه من الْمشرق إِلَى الْمغرب فَهُوَ من حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الاسطوان الَّذِي بعد الْمِنْبَر الشريف وَهُوَ آخر البلاط. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: أما الدرابزينات الَّتِي ذكرت فِي جِهَة الْقبْلَة فَهِيَ مُتَقَدّمَة عَن مَوضِع الْحَائِط القبلي الَّذِي كَانَ محاذياً لمصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما ورد أَن الْوَاقِف فِي مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكون رمانة الْمِنْبَر الرفيع حَذْو مَنْكِبه الْأَيْمن، فمقام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُغير بِاتِّفَاق، وَكَذَلِكَ الْمِنْبَر الشَّامي لم يُؤَخر عَن منصبه الأول، وَإِنَّمَا جعل هَذَا الصندوق الَّذِي فِي قبْلَة مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ستْرَة بَين الْمقَام وَبَين الاسطوانات، وَورد أَيْضا أَنه كَانَ بَين الْحَائِط القبلي وَبَين الْمِنْبَر ممر الشَّاة، وَبَين الْمِنْبَر والدرابزين الْيَوْم مِقْدَار أَرْبَعَة أَذْرع وَربع، ثمَّ قَالَ: رَحمَه الله: وَفِي صحن الْمَسْجِد الْيَوْم حجران، يذكر أَنَّهُمَا حد مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الشَّام وَالْمغْرب ولكنهما ليسَا على سمت الْمِنْبَر الشريف، بل هما داخلان إِلَى جِهَة الْمشرق مِقْدَار أَرْبَعَة أَذْرع أَو أقل، وَكَذَلِكَ هما متقدمان إِلَى الْقبْلَة بِمثل ذَلِك لِأَنِّي اعْتبرت ذَلِك بالذراع فوجدتهما ليسَا على حد ذرع الْمَسْجِد الأول. وَالله أعلم. قَالَ الْحَارِث بن اسد المحاسبي: حد الْمَسْجِد الأول سِتَّة اساطين فِي عرضه عَن يَمِين الْمِنْبَر إِلَى الْقَنَادِيل الَّتِي حذاء الخوخة، وَثَلَاث سواري عَن يسَاره من نَاحيَة المنحرف، ومنتهى طوله من قبلته إِلَى مؤخره حذاء تَمام الرَّابِع من طيقان الْمَسْجِد الْيَوْم، فَمَا زَاد على ذَلِك فَهُوَ خَارج عَن الْمَسْجِد الأول، قَالَ: وروى عَن مَالك أَنه قَالَ: مُؤخر الْمَسْجِد بحذاء عضادة الْبَاب الثَّانِي الَّذِي يُقَابل بَاب عُثْمَان، وَهُوَ بَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعنِي العضادة الْآخِرَة السُّفْلى، وَهُوَ أَرْبَعَة طيقان من الْمَسْجِد مَا قصر حَتَّى يصير فِي الرَّوْضَة، وَالرَّوْضَة مَا بَين

الْقَبْر والمنبر فَمَا كَانَ مِنْهَا من الإسطوانة السَّادِسَة الَّتِي حدثت لَك عَن يَمِين الْمِنْبَر فَلَيْسَ من الْمَسْجِد الأول، إِنَّمَا كَانَ من حجرَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَوسعَ بِهِ الْمَسْجِد وَهُوَ من الرَّوْضَة وتدنو من نَاحيَة الْمِنْبَر على يَمِينك حذاء الصندوق الْمَوْضُوع هُنَاكَ إِلَى الْمِنْبَر، يرْوى أَنه من وقف حذاء ذَلِك الصندوق وَجعل عَمُود الْمِنْبَر حذاء مَنْكِبه الْأَيْمن، فقد وقف موقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ يقوم فِيهِ. قَالَ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة فِي " مَنَاسِكه الْكُبْرَى ": وَقد حررت ذرع مَا حول مَا بِهِ الْمَسْجِد فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَانَ مَا بَين الْجِدَار الَّذِي دَاخله الْحُجْرَة المقدسة وَبَين السارية السَّابِعَة اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا وَثلثا ذِرَاع، وَمَا بَين الدرابزين والحجرتين سِتَّة وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا وَثلثا ذِرَاع، وذرعت مَا بَين الْجِدَار الَّذِي حول الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَبَين الْمِنْبَر فَكَانَ أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ ذِرَاعا وقيراطاً وَذَلِكَ طول الرَّوْضَة الشَّرِيفَة، قَالَ: وَلم يتحرر لي عرضهَا وَمَا سامت بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو الْمِنْبَر فَهُوَ من الرَّوْضَة بِلَا شكّ، وَبَين الْمِنْبَر والدرجة الَّتِي ننزل مِنْهَا إِلَى الحضرة الَّتِي هِيَ مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن يَمِين الإِمَام تِسْعَة أَذْرع وقيراط، وَعرض الدرجَة سدس ذِرَاع وَثمن ذِرَاع، وسعة الحضرة ذِرَاع وَثلث ذِرَاع وَربع ذِرَاع وَثمن ذِرَاع فِي مثله، كل ذَلِك بِذِرَاع الْعَمَل بِمصْر المحروسة. انْتهى كَلَام ابْن جمَاعَة. ورحبة الْمَسْجِد مِقْدَار ثَلَاثَة عشر، وعَلى جَانبهَا بِئْر، وعَلى جَانبهَا الغربي قبَّة حَاصِل الْمَسْجِد الشريف أنشأ لَهَا السُّلْطَان الْملك النَّاصِر، وبهذه الْقبَّة الْمُصحف العثماني، وَأول من جمع الْقُرْآن بَين اللَّوْحَيْنِ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ ثمَّ إِنَّه أَمر زيد بن ثَابت بِجمع الْقُرْآن وَذَلِكَ بعد أَيَّام الْيَمَامَة، فَلَمَّا جمعه زيد كَانَ عِنْد حَفْصَة، فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة: أرسلي إِلَيْنَا بالمصحف فننسخها بالمصاحف، ثمَّ جمع زيدا وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَابْن عَبَّاس وَعبد الله بن الزبير وَعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام وَأمرهمْ بنسخها فِي مصحف فَفَعَلُوا، ثمَّ رد عُثْمَان الْمُصحف إِلَى حَفْصَة، وَقيل: أحرقها، وَقيل: جعل مِنْهَا أَربع نسخ فَبعث أحدهن إِلَى الْكُوفَة، وَإِلَى الْبَصْرَة أُخْرَى، وَإِلَى الشَّام الثَّالِثَة، وَأمْسك عِنْد نَفسه وَاحِدَة فَهِيَ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: جعل سبع نسخ، وَوجه من ذَلِك أَيْضا نُسْخَة إِلَى مَكَّة، ونسخة إِلَى الْيمن، ونسخة إِلَى الْبَحْرين، وَالْأول أصح. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وبمكة الْآن مِنْهُنَّ نُسْخَة، وَذكروا أَنَّهَا كَانَت عَلَيْهَا شبكة من اللُّؤْلُؤ فِيمَا تقدم، وَكَانَ أهل مَكَّة يستسقون بهَا وَكَانَت فِي جَوف الْكَعْبَة، وَهِي فِي مِقْدَار قطع ذِرَاع فِي ذِرَاع. انْتهى كَلَامه.

ذكر اسوار المدينه الشريفه

ذكر أسوار الْمَدِينَة الشَّرِيفَة السُّور الأول: نقل قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين بن خلكان: أَن هَذَا السُّور الْقَدِيم بناه عضد الدولة ابْن نوبَة الْمُسَمّى بالْحسنِ بن مُوسَى بعد السِّتين وثلاثمائة فِي خلَافَة الإِمَام الطائع لله بن الْمُطِيع، ثمَّ تهدم على طول الزَّمَان وَلم يبْق إِلَّا آثاره وَهِي بَاقِيَة إِلَى الْآن. السُّور الثَّانِي: هُوَ الَّذِي بناه جمال الدّين الْأَصْبَهَانِيّ على رَأس الْأَرْبَعين وَخَمْسمِائة. السُّور الثَّالِث: بناه السُّلْطَان الْملك الْعَادِل، وَذَلِكَ أَن الْمَدِينَة الشَّرِيفَة ضَاقَتْ بِأَهْلِهَا فَلَمَّا قدم السُّلْطَان الْمَذْكُور فِي سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة إِلَى الْمَدِينَة بِسَبَب رُؤْيا رَآهَا، اسْتَغَاثَ بِهِ أهل الْمَدِينَة وطلبوا أَن يَبْنِي عَلَيْهِم سوراً يحفظهم ويحفظ مَوَاشِيهمْ، فَأمر بِبِنَاء هَذَا السُّور الْمَوْجُود الْيَوْم، فَبنى فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَكتب اسْمه على بَاب البقيع وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْيَوْم، وقصة الرُّؤْيَا على مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيّ وَغَيره: أَن السُّلْطَان مَحْمُودًا رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث مَرَّات فِي لَيْلَة وَاحِدَة، وَهُوَ يَقُول لَهُ فِي كل وَاحِدَة مِنْهَا: يَا مَحْمُود أنقذني من هذَيْن الشخصين الأشقرين فحلفه، فَاسْتَحْضر وزيره قبل الصُّبْح فَذكر لَهُ ذَلِك فَقَالَ: هَذَا أَمر حدث بِالْمَدِينَةِ لَيْسَ لَهُ غَيْرك، فتجهز وَخرج على عجل بِمِقْدَار ألف رَاحِلَة وَمَا يتبعهَا من خيل وَغير ذَلِك حَتَّى دخل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة على غَفلَة من أَهلهَا، وزار وَجلسَ فِي الْمَسْجِد لَا يدْرِي مَا يصنع، فَقَالَ لَهُ وزيره: أتعرف الشخصين إِذا رأيتهما؟ قَالَ: نعم، فَأمره بِالصَّدَقَةِ وَطلب النَّاس عَامَّة وَفرق عَلَيْهِم ذَهَبا وَفِضة، وَقَالَ: لَا يبْقين أحد بِالْمَدِينَةِ إِلَّا جَاءَ، فَلم يبْق إِلَّا رجلَيْنِ مُهَاجِرين من أهل الأندلس نازلين فِي النَّاحِيَة الَّتِي تلِي قبْلَة حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خَارج الْمَسْجِد عِنْد دَار آل عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فطلبهما للصدقة فامتنعا، فجد فِي طلبهما فجيء بهما فَلَمَّا رآهما، قَالَ: هما هَذَانِ فَسَأَلَهُمَا عَن حَالهمَا، فَقَالَا: جِئْنَا للمجاورة، فَقَالَ: اصدقاني، وتكرر السُّؤَال حَتَّى أفْضى إِلَى معاقبتهما، فأقرا أَنَّهُمَا من النَّصَارَى وأنهما وصلا لكَي ينقلا من فِي هَذِه الْحُجْرَة المقدسة بِاتِّفَاق من ملوكهما، ووجدوهما قد حفرا نقباً من تَحت الأَرْض من تَحت حَائِط الْمَسْجِد القبلي، وهما قاصدان إِلَى جِهَة الْحُجْرَة الشَّرِيفَة، ويجعلان التُّرَاب فِي بِئْر عِنْدهمَا فِي الْبَيْت الَّذِي هما فِيهِ، فَضرب أعناقهما عِنْد الشباك الَّذِي فِي شَرْقي حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَارج الْمَسْجِد، ثمَّ أحرقا آخر النَّهَار، وَركب وَتوجه إِلَى الشَّام. انْتهى. وَالله أعلم.

الفصل السابع

الْفَصْل السَّابِع : ذكر الْمَسَاجِد الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَعْرُوفَة بِالْمَدِينَةِ وَغَيرهَا وَفِيه ذكر الْمَسَاجِد الْمَعْرُوفَة بِالْمَدِينَةِ المشرفة وَذكر مَسَاجِد بِالْمَدِينَةِ صلى فِيهَا لَا تعرف الْيَوْم وَذكر الْمَسَاجِد الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَذكر الْمَسَاجِد الْمَشْهُورَة فِي الْغَزَوَات وَغَيرهَا الَّتِي صلى فِيهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

ذكر المساجد المعروفه بالمدينه الشريفه

ذكر الْمَسَاجِد الْمَعْرُوفَة بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة فَمِنْهَا: مَسْجِد قبَاء. قَالَ الله تَعَالَى: " لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى من أول يَوْم " أَي بنيت جدره وَرفعت قَوَاعِده. عَن ابْن عَبَّاس وَالضَّحَّاك وَالْحسن: هُوَ مَسْجِد قبَاء، وتعلقوا بقوله تَعَالَى: " من أول يَوْم " وَهُوَ قَول بَرِيرَة وَابْن زيد وَعُرْوَة، وَدَلِيل الظّرْف يَقْتَضِي الرِّجَال المتطهرين فَهُوَ مَسْجِد قبَاء. وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي أهل قبَاء: " فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ". فِيهِ أَي من حاضريه، قيل: كَانُوا يجمعُونَ بَين المَاء وَالْحجر. مَسْجِد قبَاء فِي بني عَمْرو بن عَوْف كَانَ مربداً لكلثوم بن الْهدم فَأعْطَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فبناه مَسْجِدا وأسسه وَصلى فِيهِ قبل أَن يدْخل الْمَدِينَة حِين قدومه من مَكَّة، كَمَا تقدم. وَتقدم فِي بَاب الْفَضَائِل الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فضل قبَاء وَالصَّلَاة فِيهِ. وروى نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى إِلَى الاسطوان الثَّالِث فِي مَسْجِد قبَاء الَّتِي فِي الرحبة. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَلم يزل مَسْجِد قبَاء على مَا بناه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَن بناه عمر بن عبد الْعَزِيز حِين بنى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووسعه، ونقشه بالفسيفساء وسقفه بالساج وَعمل لَهُ مَنَارَة، وَجعل لَهُ أروقة وَفِي وَسطه رحبة، فتهدم حَتَّى جدده جمال الدّين الْأَصْبَهَانِيّ وَزِير بني زنكي فِي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة، قَالَ: وذرعته فَكَانَ طوله ثَمَانِيَة وَسِتِّينَ ذِرَاعا راجحاً قَلِيلا، وَعرضه كَذَلِك، وارتفاعه فِي السَّمَاء عشرُون ذِرَاعا، وَطول منارته فِي سطحه اثْنَان وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، وعَلى رَأسهَا قبَّة نَحْو الْعشْرَة أَذْرع، وَفِي الْمَسْجِد تسع وَثَلَاثُونَ إسطوانة، بَين كل اسطوانتين سَبْعَة أَذْرع راجحة، وَفِي جدرانه طاقات فِي كل جَانب ثَمَان إِلَّا الْجَانِب الشَّامي فَإِن الثَّانِيَة سدت

بالمنارة، ومنارة مربعة وَهِي على يَمِين الْمصلى. وَمِنْهَا مَسْجِد الْفَتْح: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا فِي مَسْجِد الْفَتْح يَوْم الِاثْنَيْنِ وَيَوْم الثُّلَاثَاء ويم الْأَرْبَعَاء، فاستجيب لَهُ يَوْم الْأَرْبَعَاء بَين الصَّلَاتَيْنِ، فَعرف الْبشر فِي وَجهه. وَقد تقدم فِي بَاب الْفَضَائِل. وَعَن هَارُون بن كثير عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا يَوْم الخَنْدَق على الْأَحْزَاب فِي مَوضِع الإسطوانة الْوُسْطَى من مَسْجِد الْفَتْح الَّذِي على الْجَبَل. قَالَ الشَّيْخ جمال: مَسْجِد الْفَتْح على قِطْعَة من جبل سلع من جِهَة الْمغرب، وغربيه وَادي بطحان، وَتَحْته فِي الْوَادي عين تجْرِي، وَيعرف الْموضع بالسيح بِالسِّين الْمُهْملَة يصعد إِلَى الْمَسْجِد من دَرَجَتَيْنِ شمالية وشرقية، وَكَانَت فِيهِ ثَلَاث اسطوانات قبل هَذَا الْبناء الَّذِي هُوَ الْيَوْم عَلَيْهِ من بِنَاء عمر بن عبد الْعَزِيز فتهدم، ثمَّ جدده الْأَمِير سيف الدّين الْحُسَيْن بن أبي الهيجا أحد وزراء العبيديين بِمصْر فِي سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة، وَكَذَلِكَ جدد المسجدين اللَّذين تَحْتَهُ من جِهَة الْقبْلَة، يعرف الأول القبلي بِمَسْجِد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَالثَّانِي يَلِي الشمَال يعرف بِمَسْجِد سلمَان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ جددهما فِي سنة سبع وَسبعين وَسَبْعمائة. وَذكر الْحَافِظ محب الدّين: أَنه كَانَ مَعَهُمَا مَسْجِد ثَالِث فَذَلِك لم يبْق لَهُ أثر. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وروى عَن معَاذ بن سعد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَسْجِد الْفَتْح الَّذِي على الْجَبَل، وَفِي الْمَسَاجِد الَّتِي حوله، وَفِي المسجدين القبليين. وَمِنْهَا: مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ. عَن عُثْمَان بن مُحَمَّد الأخنسي، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زار امْرَأَة من بني سَلمَة يُقَال لَهَا أم بشر فِي بني سَلمَة فصنعت لَهُ طَعَاما، فحانت الظّهْر فصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَصْحَابِهِ فِي مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ الظّهْر، فَلَمَّا صلى رَكْعَتَيْنِ أَمر أَن يتَوَجَّه إِلَى الْكَعْبَة فَاسْتَدَارَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْكَعْبَة. فَسُمي ذَلِك مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ،

وَكَانَت الظّهْر يَوْمئِذٍ أَربع رَكْعَات، مِنْهَا اثْنَان إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَاثْنَانِ إِلَى الْكَعْبَة، وصرفت الْقبْلَة يَوْم الثُّلَاثَاء النّصْف من شعْبَان فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وَقيل: بل صرفت الْقبْلَة فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة الْعَصْر يَوْم الِاثْنَيْنِ النّصْف من رَجَب على رَأس سَبْعَة عشر شهرا من الْهِجْرَة. وَقَالَ ابْن الْمسيب: صرفت قبل بدر بشهرين. وَالْأول أصح. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَهَذَا الْمَسْجِد بعيد من الْمَدِينَة قريب من بِئْر رومة وَقد تقدم، وَلم يبْق إِلَّا آثاره، وَمَوْضِع الْمَسْجِد يعرف بالقاع، والقاع الْمَكَان المستوي. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَبِهَذَا الْوَادي سَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن مَعَه بِالْخَيْلِ وَالْإِبِل على ظهر المَاء لما أَن غزا خَيْبَر قَالَ رَضِي الله عَنهُ: وجدنَا السُّيُول بالقاع فقدرنا المَاء فَإِذا هُوَ أَرْبَعَة عشر قامة فَنزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسجدَ ودعا ثمَّ قَالَ: " سِيرُوا على اسْم الله "، فسرنا على المَاء. وَكَانَ ذَلِك نَظِير فلق الْبَحْر لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَمَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ بعيد عَن مَسْجِد الْفَتْح من جِهَة الغرب على رابية على شَفير وَادي العقيق، وَحَوله خراب عَتيق على الْحرَّة، وَحَوله آبار ومزارع تعرف بِالْعرضِ، فِي قبله مزارع الجرف الْمَعْرُوف بِالْمَسْجِدِ الْمَذْكُور فِي قَرْيَة بني سَلمَة، وَيُقَال لَهَا خرباة، ثمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا الْمَسْجِد وَهُوَ مَسْجِد بني حزَام من بني سَلمَة رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النخامة فحكها بعرجون كَانَ فِي يَده، ثمَّ دَعَا بخلوق فَجعله على رَأس العرجون، ثمَّ جعله على مَوضِع النخامة، فَكَانَ أول مَسْجِد خلق فِي الْإِسْلَام. وَمِنْهَا مَسْجِد الفضيخ. روى هِشَام بن عُرْوَة والْحَارث بن فُضَيْل أَنَّهُمَا قَالَا: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْجِد الفضيح. وَعَن جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حاصر بني النَّضِير ضرب قُبَّته فِي مَوضِع مَسْجِد الفضيح وَأقَام بهَا سِتا، قَالَ: وَجَاء تَحْرِيم الْخمر فِي السّنة الثَّالِثَة من الْهِجْرَة، وَقيل: فِي السّنة الرَّابِعَة، وَأَبُو أَيُّوب فِي نفر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوْضِعه مَعَهم رِوَايَة خمر من فضيخ، فَأمر أَبُو

أَيُّوب رَضِي الله عَنهُ بعزلا المزادة ففتحت فَسَالَ الفضيخ فِيهِ فَسُمي مَسْجِد الفضيخ، والفضيخ: نوع من الْخمر. وَهُوَ مَا افتضخ من الْبُسْر من غير أَن تمسه النَّار، وَيُقَال لَهُ: الفضوخ وَهُوَ من أَسمَاء الْخمر. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَمَسْجِد الفضيخ قريب من قبَاء من شرقيه وَيعرف بِمَسْجِد الشَّمْس. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهُوَ على شَفير الْوَادي على نشز من الأَرْض، مرضوم بحجارة سود وَهُوَ صَغِير جدا. وَمِنْهَا: مَسْجِد بني قُرَيْظَة. عَن مُحَمَّد بن عتبَة بن أبي مَالك قَالَ: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيت امْرَأَة من الْحَضَر فِي بني قُرَيْظَة، فَأدْخل الْوَلِيد بن عبد الْملك ذَلِك الْبَيْت فِي الْمَسْجِد حِين بناه. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: روى عَن عليّ بن رِفَاعَة عَن اشياخ من قومه، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي بَيت امْرَأَة من بني قُرَيْظَة، فَأدْخل ذَلِك الْمَكَان فِي مَسْجِد بني قُرَيْظَة، وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببني قُرَيْظَة، وَقيل: إِنَّمَا أَدخل الْبَيْت فِي الْمَسْجِد عمر بن عبد الْعَزِيز حِين بِنَاء مَسْجِد قبَاء. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَهَذَا الْمَسْجِد بَاقٍ بالعوالي طوله نَحْو الْعشْرين ذِرَاعا، وَعرضه كَذَلِك، وَفِيه نَحْو السِّتَّة عشر اسطوانات، فتهدم وَوَقعت منارته وَأخذت أحجاره، وَقد كَانَ مَبْنِيا على شكل بِنَاء مَسْجِد قبَاء وَحَوله بساتين ومزارع. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: هَذَا الْمَسْجِد شَرْقي مَسْجِد الشَّمْس بَعيدا عَنهُ بِالْقربِ من الْحرَّة الشرقية على بَاب حديقة، يعرف الْآن بحاجوم وقف على الْفُقَرَاء بَين أَبْيَات خراب، هِيَ بعض دور بني قُرَيْظَة، وَهِي شمَالي بَاب الحديقة، وَطوله نَحْو من خَمْسَة وَأَرْبَعين ذِرَاعا، وَعرضه كَذَلِك، وَبَقِي أَثَره إِلَى الْعشْر الأول بعد السبعمائة، فجدد وَبنى عَلَيْهِ حضير مِقْدَار نصف قامة، وَكَانَ قد نسي فَمن ذَلِك التَّارِيخ عرف. وَمِنْهَا: مَسْجِد الْجُمُعَة. وَهُوَ الَّذِي أدْرك فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَاة الْجُمُعَة بعد أَن أسس مَسْجِد قبَاء وَهُوَ قادم إِلَى الْمَدِينَة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهَذَا الْمَسْجِد على يَمِين السالك إِلَى مَسْجِد قبَاء شماليه أَطَم خراب، وَيُقَال لَهُ: الْمزْدَلِفَة، أَطَم عتْبَان من بني مَالك وَهُوَ فِي بطن الْوَادي، وَهُوَ مَسْجِد صَغِير مَبْنِيّ بحجارة قدر نصف الْقَامَة، وَهُوَ الَّذِي كَانَ

يحول السَّيْل بَينه وَبَين عتْبَان إِذا سَالَ، والآن منَازِل بني سَالم بن عَوْف كَانَت غربي هَذَا الْوَادي على طرف الْحرَّة وآثارهم بَاقِيَة هُنَاكَ، فَسَأَلَ عتْبَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُصَلِّي لَهُ فِي بَيته يَتَّخِذهُ مصلى فَفعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا: مَسْجِد بني ظفر من الْأَوْس. عَن إِدْرِيس بن مُحَمَّد بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن أنيس بن فضَالة الصفرى عَن جده، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس على الْحجر الَّذِي فِي مَسْجِد بني ظفر، وَأَن زِيَاد بن عبيد الله أَمر بقلعه حَتَّى جَاءَتْهُ مشيخة بني ظفر فأعلموه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس عَلَيْهِ فَرده، قَالَ: فَقل امْرَأَة يصعب حملهَا تجْلِس عَلَيْهِ إِلَّا حملت، وَعِنْده أثر فِي الْحجر يُقَال: إِنَّه أثر حافر بغلة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جِهَة الْقبْلَة، وَفِي غربيه حجر عَلَيْهِ أثر كَأَنَّهُ أثر مرفق، وعَلى حجر آخر أثر أَصَابِع وَالنَّاس يتبركون بهَا. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهَذَا الْمَسْجِد شَرْقي البقيع مَعَ طرف الْحرَّة الشرقية وَيعرف الْيَوْم بِمَسْجِد البغلة. وَمِنْهَا: مَسْجِد بني مُعَاوِيَة بن مَالك بن النجار بن الْخَزْرَج. عَن عتِيك بن الْحَارِث أَنه قَالَ: جَاءَنَا عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي بني مُعَاوِيَة وَهِي قَرْيَة من قرى الْأَنْصَار، فَقَالَ: هَل تَدْرُونَ أَيْن صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْجِدكُمْ هَذَا؟ قلت: نعم وأشرت إِلَى نَاحيَة مِنْهُ، فَقَالَ: هَل تَدْرِي مَا الثَّلَاث الَّتِي دَعَا بهَا؟ قلت: نعم قَالَ: فَأَخْبرنِي بِهن، قلت: دَعَا أَن لَا يظْهر عَلَيْهِم عَدو من غَيرهم فأعطيها، وَأَن لَا يُهْلِكهُمْ بِالسِّنِينَ فأعطيها، وَأَن لَا يَجْعَل بأسهم بَينهم فَمنعهَا، قَالَ عبد الله بن عمر: صدقت، فَلَنْ يزَال الهراج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين وَيعرف هَذَا الْمَسْجِد الْيَوْم بِمَسْجِد الْإِجَابَة، وَهُوَ شمَالي البقيع على يسَار طَرِيق السالك إِلَى العريض وسط تلول، وَهِي أثر قَرْيَة بني مُعَاوِيَة وَهِي الْيَوْم خراب. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: فَيجب زِيَارَة هَذِه الْمَوَاضِع وَإِن لم تعرف أسماؤها؛ لِأَن الْوَلِيد بن عبد الْملك كتب إِلَى عمر بن عبد الْعَزِيز: مهما صَحَّ عنْدك من الْمَوَاضِع الَّتِي صلى فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَابْن عَلَيْهَا مَسْجِدا، فالآثار كلهَا أثر بِنَاء عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ. وَأما مشربَة أم إِبْرَاهِيم بن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فروى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن يحيى بن مُحَمَّد بن ثَابت، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مشربَة أم إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ

السَّلَام. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: هَذَا الْموضع بالعوالي بَين النخيل، وَهُوَ أكمة قد حوط حولهَا بِلَبن، والمشربة الْبُسْتَان، وَأَظنهُ قد كَانَ بستاناً لمارية الْقبْطِيَّة أم إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: الْمشْربَة شمَالي مَسْجِد بني قُرَيْظَة قَرِيبا من الْحرَّة الشرقية، فِي مَوضِع يعرف بالدشت بَين نخل يعرف بالأشراف القواسم من بني قَاسم بن إِدْرِيس بن جَعْفَر أَخ الْحُسَيْن العسكري؛ لِأَن آل شُعَيْب بن جماز مِنْهُم، وصهيب بِالْقربِ من دَار بني الْحَارِث بن الْخَزْرَج الَّتِي كَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ نازلاً فِيهَا بِزَوْجَتِهِ حَبِيبَة بنت خَارِجَة وَقيل: مليكَة أُخْت ابْن خَارِجَة. وَمِنْهَا: مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعِيد. عَن هِشَام بن سعيد بن إِبْرَاهِيم بن أبي أُميَّة وَعَن شيخ من أهل السن، أَن أول عيد صلاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلاه فِي حارة الدوس عِنْد بَين أبي الْجنُوب، ثمَّ صلى الْعِيد الثَّانِي بِفنَاء دَار حَكِيم بن العداء عِنْد دَار حُفْرَة دَاخِلا فِي الْبَيْت الَّذِي بِفنَاء الْمَسْجِد، ثمَّ صلى الْعِيد الثَّالِث عِنْد دَار عبد الله بن درة الْمَازِني دَاخِلا بَين الدَّاريْنِ دَار مُعَاوِيَة وَدَار كثير بن الصَّلْت، ثمَّ صلى الْعِيد الرَّابِع عِنْد أَحْجَار عِنْد الحناطين بالمصلى، ثمَّ صلى دَاخِلا فِي منزل مُحَمَّد بن عبد الله بن كثير بن الصَّلْت، ثمَّ صلى حَيْثُ صلى النَّاس الْيَوْم. وروى عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن أول فطر أَو أضحى جمع فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِفنَاء دَار حَكِيم بن العداء عِنْد أَصْحَاب المحامل. وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يسْلك إِلَى الْمصلى من الطَّرِيق الْعُظْمَى على أَصْحَاب الفساطيط، وَيرجع من الطَّرِيق الْأُخْرَى على دَار عمار بن يَاسر رَضِي الله عَنهُ. وروى عَن عَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص عَن أَبِيهَا رَضِي الله عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " مَا بَين مَسْجِدي إِلَى الْمصلى رَوْضَة من رياض الْجنَّة ". وروى عَن حَمْزَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يذبح أضحيته بِيَدِهِ إِذا انْصَرف من الْمصلى على نَاحيَة الطَّرِيق الَّتِي كَانَ ينْصَرف مِنْهَا، وَتلك الطَّرِيق وَالْمَكَان الَّذِي كَانَ يذبح فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُقَابل الْمغرب مِمَّا يَلِي طَرِيق بني زُرَيْق. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَأما الطَّرِيق الْعُظْمَى فَهِيَ طَرِيق النَّاس الْيَوْم من بَاب الْمَدِينَة إِلَى الْمصلى، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ: ثمَّ صلى حَيْثُ صلى النَّاس الْيَوْم، وَلَا يعرف من الْمَسَاجِد الَّتِي ذكرت لصَلَاة الْعِيد إِلَّا هَذَا الَّذِي يصلى فِيهِ الْعِيد الْيَوْم. قَالَ: وشماليه مَسْجِد وسط

الحديقة الْمَعْرُوفَة بالعريص الْمُتَّصِلَة بقبة عين الْأَزْرَق، وَيعرف الْيَوْم بِمَسْجِد أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَلَعَلَّه صلى فِيهِ فِي خِلَافَته، وشمالي الحديقة أَيْضا مَسْجِد كَبِير مُتَّصِل يُسمى مَسْجِد عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَلم يرد أَنه صلى بِالْمَدِينَةِ عيداً فِي خِلَافَته. فَتكون هَذِه الْمَسَاجِد الْمَوْجُودَة الْيَوْم من الْأَمَاكِن الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة، إِذْ لَا يخْتَص أَبُو بكر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا بمسجدين لأنفسهما ويتركان الْمَسْجِد الَّذِي صلى فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة مَسْجِد يعرف غير مَا ذكر إِلَّا مَسْجِد على ثنية الْوَادي على يسَار الدَّاخِل إِلَى الْمَدِينَة من طَرِيق الشَّام، وَمَسْجِد آخر صَغِير على طَرِيق السافلة، وَهِي الطَّرِيق الْيُمْنَى الشرقية إِلَى مَسْجِد حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ يُقَال: إِنَّه مَسْجِد أبي ذَر الْغِفَارِيّ رَضِي الله عَنهُ وَلم يرد فيهمَا نقل يعْتَمد عَلَيْهِ. وَأما مَسْجِد الضرار: فَهُوَ الْمَسْجِد الَّذِي بناه المُنَافِقُونَ مضاهاة لمَسْجِد قبَاء، فَلَمَّا بنوه أَتَوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ متجهز إِلَى تَبُوك فأمروه أَن يُصَلِّي لَهُم فِيهِ، فَقَالَ: " إِنِّي على جنَاح سفر وَحَال شغل وَلَو قدمنَا عَن شَاءَ الله لأتيناكم فصلينا لكم فِيهِ ". فَلَمَّا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي أولن بلد بَينه وَبَين الْمَدِينَة سَاعَة من نَهَار مرجعه من تَبُوك أَتَاهُ خبر الْمَسْجِد، فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَالك بن الدخشم ومعن بن عدي وأخاه عَاصِمًا، وَفِي رِوَايَة وعامر بن السكن ووحشياً قَاتل حَمْزَة، فَقَالَ: " انْطَلقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِد الظَّالِم أَهله فَاهْدِمَاهُ وَحَرِّقَاهُ ". فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا سَالم بن عَوْف فَأخذ سَعَفًا من النّخل وأشعلاه، ثمَّ دخلا الْمَسْجِد وَفِيه أَهله فَحَرقَاهُ وَهَدَمَاهُ، وَأنزل الله تَعَالَى فِيهِ: " وَالَّذين اتَّخذُوا مَسْجِدا ضِرَارًا. . " إِلَى آخر الْقِصَّة نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي عَامر الراهب؛ لِأَنَّهُ كَانَ خرج إِلَى قَيْصر وَتَنصر، وَوَعدهمْ قَيْصر أَنه سيأتيهم فبنوا مَسْجِد الضرار، وَكَانَ الَّذين بنوه اثْنَا عشر رجلا: خذام بن خَالِد وَمن بَيته أخرج الْمَسْجِد، ومعتب بن قُشَيْر، وَأَبُو حَبِيبَة بن الأزعر، وَعباد بن حنيف، وَجَارِيَة بن عَامر، وابناه مجمع، وبحزج،

ونبيل بن الْحَارِث، ويخلد بن عُثْمَان، وذريعة بن ثَابت، وثعلبة بن حَاطِب، مَذْكُور فيهم وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ شهد بَدْرًا قَالَه ابْن عبد الْبر. وكل مَسْجِد بني على ضرار أَو رِيَاء أَو سمعة فَحكمه حكم مَسْجِد الضرار لَا تجوز الصَّلَاة فِيهِ. قَالَ النقاش: فَيلْزم أَن لَا يُصَلِّي فِي كَنِيسَة وَنَحْوهَا، فَإِنَّهَا بنيت على شَرّ. قَالَ الْقُرْطُبِيّ، إِنَّمَا بنوها لعبادتهم، وَقد أجمع الْعلمَاء أَن من صلى فِي كَنِيسَة أَو بيعَة على مَوضِع طَاهِر جَازَ. وَذكر أَبُو دَاوُد عَن عُثْمَان بن الْعَاصِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره أَن يَجْعَل مَسْجِد الطَّائِف حَيْثُ كَانَت طواغيتهم. وَقَوله تَعَالَى: " لَا تقم فِيهِ أبدا ". قد يعبر عَن الصَّلَاة بِالْقيامِ، وَمِنْه: " من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتساباً غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه ". وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يمر بِالطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا هَذَا الْمَسْجِد، وَأمر بموضعه أَن يتَّخذ كناسَة ومزبلة. وروى سعيد بن جُبَير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أرسل ليهْدم رؤى الدُّخان يخرج مِنْهُ. وَقيل: كَانَ الرجل يدْخل فِيهِ سعفة فيخرجها سَوْدَاء محترقة. وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: جَهَنَّم فِي الأَرْض ثمَّ تَلا: " فانهار بِهِ فِي جَهَنَّم ". قَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف هَل ذَلِك حَقِيقَة أم مجَاز على قَوْلَيْنِ، أَحدهمَا: أَن ذَلِك حَقِيقَة وَأَنه كَانَ يحْفر ذَلِك الْموضع الَّذِي انهار بِهِ فَيخرج مِنْهُ دُخان وَقَالَ جَابر بن

ذكر مساجد صلي فيها النبي صلي الله عليه وسلم بالمدينه المشرفه

عبد الله: أَنا رَأَيْت الدُّخان يخرج مِنْهُ. وَقَالَ خلف بن سِيرِين: رَأَيْت فِي مَسْجِد الْمُنَافِقين حجرا يخرج مِنْهُ الدُّخان. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: هَذَا الْمَسْجِد قريب من مَسْجِد قبَاء وَهُوَ كَبِير وحيطانه عالية، وَقد كَانَ بِنَاؤُه مليحاً. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَأما الْيَوْم فَلَا أثر لَهُ وَلَا يعرف لَهُ مَكَان، وَمَا ذكره الشَّيْخ محب الدّين فَهُوَ وهم لَا اصل لَهُ. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَقد ذكر الشَّيْخ جمال الدّين وَابْن النجار هَذَا الْمَسْجِد فِي تاريخهما وعداه من جملَة الْمَسَاجِد الَّتِي صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل فِيهِ فَلذَلِك أخرنا ذكره. انْتهى كَلَامه. وَأما النَّقَاء وحاجز الْمَذْكُورَان فِي الْأَشْعَار: فَاعْلَم أَن النَّقَاء من غربي مصلى الْعِيد الْمَذْكُور إِلَى منزلَة الْحجَّاج غربي وَادي بطحان، والوادي يفصل بَين مصلى الْعِيد والنقاء من أجل مجاورة المكانين، وَفِيه يَقُول بَعضهم مورياً عَن الشيب ومصلى الْجَنَائِز: أَلا يَا سائراً فِي قفر عَمْرو ... يكابد فِي المسرى وعراً وسهلاً بلغت نقاء المشيب وجزت عَنهُ ... وَمَا بعد النَّقَاء إِلَّا الْمصلى وَأما حاجز: فَهُوَ من غربي النَّقَاء إِلَى مُنْتَهى الْحرَّة من وَادي العقيق. ذكر مَسَاجِد صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ المشرفة : لَا يعرف الْيَوْم إِلَّا بعض أماكنها وَهِي فِي قرى الْأَنْصَار، مِنْهَا: مَسْجِد بني زُرَيْق من الْخَزْرَج وَهُوَ أول مَسْجِد قرئَ فِيهِ الْقُرْآن بِالْمَدِينَةِ قبل هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن رَافع بن مَالك الزرقي رَضِي الله عَنهُ لما لَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعقبَة أعطَاهُ مَا نزل عَلَيْهِ من الْقُرْآن بِمَكَّة إِلَى لَيْلَة الْعقبَة، وَذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فِيهِ وَلم يصل. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وقرية بني زُرَيْق قبل سور الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَقبل الْمصلى، وَبَعضهَا كَانَ من دَاخل السُّور الْيَوْم بالموضع الْمَعْرُوف بدردان أَو ذِي أروان الَّتِي وضع لبيد ابْن عَاصِم وَهُوَ من يهود بني زُرَيْق السحر فِي راعونة بِئْرهَا والْحَدِيث مَشْهُور. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْفَتْح: ذُو أروان اسْم محلّة بني زُرَيْق، وَهُنَاكَ بِئْر يُسمى بِئْر ذِي أروان وَالْمَسْجِد هُنَاكَ. وَمَسْجِد بني سَاعِدَة من الْخَزْرَج رَهْط سعد بن عبَادَة، ذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ وَجلسَ فِي السَّقِيفَة. عَن عبد الْمُهَيْمِن بن عَبَّاس عَن سُهَيْل بن سعد عَن

أَبِيه عَن جده قَالَ: جلس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سقيفتنا الَّتِي عِنْد الْمَسْجِد واستقى، فخصت لَهُ وَطْأَة فَشرب ثمَّ قَالَ: زِدْنِي، فخصت لَهُ أُخْرَى فَشرب ثمَّ قَالَ: كَانَت الأولى أطيب وَفِي هَذِه السَّقِيفَة كَانَت بيعَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وقرية بني سَاعِدَة عِنْد بِئْر بضَاعَة، والبئر وسط بُيُوتهم، وشمالي الْبِئْر الْيَوْم إِلَى جِهَة الْمغرب بَقِيَّة أَطَم يُقَال إِنَّه من دَار أبي دُجَانَة رَضِي الله عَنهُ السغرى الَّتِي عِنْد بضَاعَة، وَمَسْجِد عِنْد بيُوت الْمَطَر عِنْد خيام بني عَفَّان، روى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ، وَأَن تِلْكَ الْمنَازل كَانَت منَازِل آل بني وهم كُلْثُوم بن الْحصين الغافري رَضِي الله عَنهُ. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين، وَلَيْسَت النَّاحِيَة مَعْرُوفَة الْيَوْم. وَمَسْجِد لجهينة وَلمن هَاجر من بني الربعة عَن خَارِجَة بن الْحَارِث بن رَافع عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: جَاءَ رَسُول الله يعود رجلا من أَصْحَابه فِي بني الربعة من جُهَيْنَة يُقَال لَهُ أَبُو مَرْيَم، فعاده بَين منزل بني قيس الْعَطَّار الَّذِي فِيهِ الأراكة وَبَين منزلهم الْأُخْرَى الَّذِي يَلِي دَار الْأَنْصَار، فصلة فِي الْمنزل فَقَالَ نفر من جُهَيْنَة لأبي مَرْيَم: لَو جِئْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلته أَن يخط لنا مَسْجِدا، فَقَالَ: احْمِلُونِي فَحَمَلُوهُ فلحق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا لَك يَا أَبَا مَرْيَم؟ " فَقَالَ: يَا رَسُول الله لَو خططت لنا مَسْجِدا، فجَاء إِلَى مَسْجِد جُهَيْنَة وَفِيه خيام ليلى فَأخذ طلقاً أَو محجناً فَخط لَهُم، فالمنزل لبلى والخطة لجهينة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهَذِه النَّاحِيَة الْيَوْم مَعْرُوفَة غربي حصن صَاحب الْمَدِينَة، والسور الْقَدِيم بَينهمَا وَبَين جبل سلع، وَعِنْدهَا أثر بَاب من أَبْوَاب الْمَدِينَة خراب، وَيعرف الْيَوْم بدرب جُهَيْنَة، والناحية من دَاخل السُّور بَينه وَبَين حصن الْمَدِينَة. وَمَسْجِد قار النَّابِغَة ذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ. وَمَسْجِد بني عدي بن النجار ذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ أَيْضا. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهَذِه الدَّار غربي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي دَار بني عدي بن النجار وَمَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يَلِيهِ من جِهَة الْمشرق دَار غنم بن مَالك بن النجار. وَمَسْجِد بني خدرة. وَقيل: خدرة بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة واسْمه لأبجر بن عَوْف بن الْحَارِث، وَقيل: خدرة أم أبجر، وَالْأول أشهر، وَهُوَ بطن من الْأَنْصَار، وأبجر بِفَتْح الْهمزَة وَالْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة. عَن هِشَام بن عُرْوَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَسْجِد بني خدرة. وَعَن يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن أبي صعصعة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي بعض منَازِل بني خدرة، فَهُوَ الْمَسْجِد الصَّغِير الَّذِي فِي بني خدرة مُقَابل بَيت

الْحَيَّة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَدَار بني خدرة عِنْد بِئْر البصة. وَمَسْجِد بني مَازِن عَن عَمْرو بن يحيى بن عمَارَة عَن أَبِيه أَن رَسُول الله وضع مَسْجِد بني مَازِن بن النجار بِيَدِهِ، وهيأ قبلته وَلم يصل فِيهِ. وَعَن يَعْقُوب بن مُحَمَّد بن أبي صعصعة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي بَيت أم أبي بردة فِي بني مَازِن. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَدَار بني مَازِن قبلي بِئْر البصة وَتسَمى النَّاحِيَة الْيَوْم أَبَا مَازِن. وَمَسْجِد بني جديلة وَهُوَ مَسْجِد أبي بن كَعْب رَضِي الله عَنهُ عَن يُوسُف الْأَعْرَج وَرَبِيعَة بن عُثْمَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَسْجِد بني جديلة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَدَار بني جديلة عِنْد بِئْر حاء شمَالي سور الْمَدِينَة من جِهَة الْمشرق، وَبَنُو جديلة هم بَنو مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن مَالك بن النجار بن الْخَزْرَج. وَمَسْجِد بني دِينَار ذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَسْجِد بني دِينَار عِنْد العالين، وَأَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ تزوج امْرَأَة من بني دِينَار بن النجار، فَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ، فكلموه أَن يُصَلِّي لَهُم فِي مَكَان يصلونَ فِيهِ فصلى لَهُم فِي هَذَا الْمَسْجِد، وَمَسْجِد بني دِينَار بَين دَار بني جديلة وَدَار بني مُعَاوِيَة أهل مَسْجِد الإباجة الْمُتَقَدّم ذكره أَعنِي مَسْجِد بني مُعَاوِيَة فَهَذِهِ بطُون بني النجار كلهَا، ودورهم هَذِه الْمَذْكُورَة بِالْمَدِينَةِ وَمَا حولهَا من جِهَة الشمَال إِلَى مَسْجِد الْإِجَابَة، وهم بَنو غنم بن النجار، وَبَنُو عدي بن النجار، وَبَنُو مَازِن بن النجار، وَبَنُو دِينَار بن النجار، وَبَنُو مُعَاوِيَة بن النجار. وَمَسْجِد بِأَصْل المنارتين من طَرِيق العقيق الْكُبْرَى صلى فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ لَا يعرف. وَمَسْجِد بني حَارِثَة من الْأَوْس ذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ، وَدَار بني حَارِثَة بِيَثْرِب. وَمَسْجِد بني عبد الْأَشْهَل رَهْط سعد بن معَاذ وَأسيد بن حصن ذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ، وَأَن أم عَامر بن يزِيد بن السكن أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعرف فتعرفه ثمَّ قَامَ قَالَ: فصلى فَلم يتَوَضَّأ، وَبَنُو عبد الْأَشْهَل منسوبون إِلَى عبد الْأَشْهَل بن جشم بن الْحَارِث بن الْخَزْرَج، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " خير دور الْأَنْصَار بَنو النجار، ثمَّ بَنو عبد الْأَشْهَل، ثمَّ بَنو الْحَارِث ثمَّ بَنو سَاعِدَة، وَفِي كل دور بني الْأَنْصَار خير ". وَمَسْجِد بني الحبلى وهم رَهْط عبد الله بن سلول، ذكر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ. وَمَسْجِد بني الْحَارِث بن الْخَزْرَج، ذكر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَدَار بني الحبلى بَين قبَاء وَبَين دَار بني

النجار، وَدَار بني النجار شَرْقي وَادي بطحان، تعرف الْيَوْم بِالْحَارِثِ بِإِسْقَاط بني. وَمَسْجِد بني أُميَّة بن زيد بالعوالي فِي الكبا عِنْد مَال نهيك بن أبي نهيك، ذكر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: ودارهم شَرْقي دَار بني الْحَارِث، وَفِيهِمْ كَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ نازلاً بامرأته الْأَنْصَارِيَّة أم عَاصِم بنت أَو أُخْت عَاصِم بن ثَابت بن أبي الْأَفْلَح رَضِي الله عَنهُ وَمَسْجِد بني خدرة ذكر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ مَسْجِد بني خدرة عِنْد الأطم الَّذِي بجوار سعد بن عبَادَة، وَوضع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده على الْحجر الَّذِي فِي أَطَم سعد. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهَذِه الدَّار قبلي دَار بني سَاعِدَة وَبَين بضَاعَة وَمِمَّا يَلِي سوق الْمَدِينَة، عرضه مَا بَين الْمصلى إِلَى جِدَار سعد الْمَذْكُور، وَهِي جِدَار كَانَ يَسْتَقِي النَّاس فِيهَا المَاء كَمَا ورد عَنهُ بعد وَفَاة أمه رَضِي الله عَنهُ. وَمَسْجِد النُّور صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ وَلَا يعرف الْيَوْم. وَمَسْجِد بني وَاقِف ذكر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ وَهُوَ مَوضِع بالعوالي، كَانَت فِيهِ منَازِل بني وَاقِف من الْأَوْس رَهْط هِلَال بن أُميَّة الوَاقِفِي، أحد الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا، وَلَا يعرف مَكَان دَارهم الْيَوْم إِلَّا أَنَّهَا بالعوالي. وَمَسْجِد فِي دَار سعد بن خَيْثَمَة بقباء ذكر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَدَار سعد بن خَيْثَمَة أحد الدّور الَّتِي قبل مَسْجِد قبَاء، يزورها النَّاس إِذا زاروا قبَاء وَهُنَاكَ أَيْضا دَار كُلْثُوم بن الْهدم فِي تِلْكَ الْعَرَصَة وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نازلاً بهَا خين قدم الْمَدِينَة، وَكَذَلِكَ أَهله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأهل أبي بكر رَضِي الله عَنهُ حِين قدم بهم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، وَهن سَوْدَة بنت زَمعَة وَعَائِشَة وَأمّهَا أم رُومَان، وَأُخْتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، وَولدت أَسمَاء عبد الله بن الزبير قبل نزولهم إِلَى الْمَدِينَة، فَكَانَ أول مَوْلُود ولد من الْمُهَاجِرين بِالْمَدِينَةِ. وَمَسْجِد التَّوْبَة صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ وَهُوَ بالعصبة عِنْد بئرهم، وَهُوَ غير مَعْرُوف. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: أما الْعصبَة فَهِيَ غربي مَسْجِد قبَاء، فِيهَا مزارع وآبار كَثِيرَة، وَهِي منَازِل بني حججابن لَعَلَّه بطن من الْأَوْس. وَمَسْجِد بني أنيف يَقُولُونَ: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا كَانَ يعود طَلْحَة بن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ قَرِيبا من أطمهم. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: يلون دَار بني أنيف وهم بطن من الْأَوْس بَين قَرْيَة بني عَمْرو بن عَوْف بقباء وَبَين الْعصبَة. وَمَسْجِد الشيختين وَيُسمى مَسْجِد الشَّيْخ صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ، وَهُوَ مَوضِع بَين

الْمَدِينَة وَبَين أحد، على الطَّرِيق الشرقية مَعَ الْحرَّة إِلَى جبل أحد، وَذكروا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هُنَاكَ غَدا إِلَى أحد يَوْم أحد كَمَا قدمنَا. وَمَسْجِد بني حطمة صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ. وَمَسْجِد الْعَجُوز ذكر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَسْجِد الْعَجُوز ببني حطمة وَهِي امْرَأَة من بني سليم وَمَسْجِد بني وَائِل صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: الظَّاهِر أَن مَنَازِلهمْ بالعوالي شَرْقي مَسْجِد الشَّمْس؛ لِأَن تِلْكَ النواحي كلهَا ديار الْأَوْس، وَمَا سفل من ذَلِك إِلَى الْمَدِينَة ديار الْخَزْرَج. وَمَسْجِد بني بياضة من الْخَزْرَج صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ، وَبَنُو بياضة بطن من الْأَنْصَار ثمَّ من الْخَزْرَج. قَالَ المطري: وَكَانَت دَار بني بياضة فِيمَا بَين دَار بني مَازِن، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما صلى الْجُمُعَة فِي بني سَالم بن عَوْف برانوناء ركب رَاحِلَته، فَانْطَلَقت بِهِ حَتَّى وارت دَار بني بياضة تِلْقَاء زِيَاد بن لبيد وفروة بن عمْرَة فِي رجال بني بياضة وَمَسْجِد بفيفاء الْخِيَار ذكر ابْن إِسْحَاق فِي غَزْوَة الْعَشِيرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلك على نقب بني دِينَار ثمَّ على فيفاء الْخِيَار، فَنزل تَحت شَجَرَة ببطحاء ابْن زَاهِر يُقَال لَهَا ذَات السَّاق، فصلى عِنْدهَا فثم مَسْجده وصنع لَهُ طَعَاما عِنْدهَا، وَمَوْضِع أبانى المرمة مَعْلُوم، واستقى لَهُ من مَاء يُقَال لَهُ المشترب. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: فيفاء الْخِيَار غربي الجماوات الَّتِي بوادي العقيق وَهِي الْجبَال الَّتِي فِي غربي وَادي العقيق، وَهِي أَرض فِيهَا سهولة وفيهَا حِجَارَة وحفائر، وَهُوَ الْموضع الَّذِي كَانَت ترعى فِيهِ إبل الصَّدَقَة ولقاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ ورد فِي رِوَايَة أَنَّهَا إبل الصَّدَقَة، وَفِي أُخْرَى أَنَّهَا لقاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنَّهَا كَانَت ترعى بِذِي آكِد وَغَرْبِيٌّ جبل عير على سِتَّة أَمْيَال من الْمَدِينَة، وَالرِّوَايَتَانِ صحيحتان، وَالْجمع بَينهمَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت لَهُ إبل من نصِيبه من الْمغنم، وَكَانَت ترعى مَعَ إبل الصَّدَقَة، فَنحر مرّة عَن إبِله، وَمرَّة عَن إبل الصَّدَقَة وَإِن النَّفر من عكل أَو من عرينة أَمرهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يلْحقُوا بِإِبِل الصَّدَقَة يشْربُوا من أبوالها وَأَلْبَانهَا فَفَعَلُوا، ثمَّ قتلوا الرَّاعِي وَكَانَ يُسمى يسَار من موَالِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاسْتَاقُوا الْإِبِل، فَبعث فِي أَثَرهم عشْرين فَارِسًا وَاسْتعْمل عَلَيْهِم ثَوْر بن جَابر الفِهري فأدركوهم فربطوهم، وَفقدُوا وَاحِدَة من لقاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تدعى الْحِنَّاء، فَلَمَّا دخلُوا بهم الْمَدِينَة كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْغَابَةِ أَسْفَل الْمَدِينَة فَخَرجُوا بهم نَحوه فَلَقوهُ وَهُوَ رَاجع إِلَى الْمَدِينَة، وَهُوَ الْيَوْم مَوضِع مَعْرُوف يجْتَمع فِيهِ سيل قبَاء وسيل بطحان، فَأمر بهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ذكر المساجد التي صلي فيها صلي الله عليه وسلم بين مكه والمدينه

فَقطعت أَيْديهم وأرجلهم وسملت أَعينهم وصلبوا هُنَاكَ. ذكر الْمَسَاجِد الَّتِي صلى فِيهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين مَكَّة وَالْمَدينَة : مِنْهَا: مَسْجِد ذِي الحليفة، وَهِي محرم الْحجَّاج مِيقَات أهل الْمَدِينَة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَمَسْجِد الحليفة هُوَ الْمَسْجِد الْكَبِير الَّذِي هُنَاكَ، وَكَانَت فِيهِ عُقُود فِي قبلته ومنارة فِي رُكْنه الغربي الشمالي فتهدم على طول الزَّمَان، وَهُوَ مَبْنِيّ على مَوضِع الشَّجَرَة الَّتِي كَانَت هُنَالك وَبهَا سمي مَسْجِد الشَّجَرَة، والبئر من جِهَة شماليه، وَفِي هَذَا الْمَسْجِد مَسْجِد آخر أَصْغَر مِنْهُ، وَلَا يبعد أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ بَينهمَا مِقْدَار رمية سهم، وَعَن عبد الله بن عمر أَنه قَالَ: بَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الحليفة مبدأه وَصلى فِي مَسْجِدهَا. ويروى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي مَسْجِد الشَّجَرَة إِلَى جِهَة الإسطوان الْوُسْطَى اسْتَقْبلهَا، وَكَانَ مَوضِع الشَّجَرَة الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى إِلَيْهَا وَكَانَت سَمُرَة، فَيَنْبَغِي للْحَاج إِذا وصل إِلَى ذِي الحليفة أَن لَا يتَعَدَّى فِي نُزُوله الْمَسْجِد الْمَذْكُور من أَربع نواحيه. وَمَسْجِد بشرقي الروحاء الروحاء من أَعمال الْفَرْع عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه قَالَ: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشرقي الروحاء عَن يَمِين الطَّرِيق وَأَنت ذَاهِب إِلَى مَكَّة وَعَن يسارها وَأَنت مقبل من مَكَّة. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: شَرق الروحاء هُوَ آخر السيالة وَأَنت مُتَوَجّه إِلَى مَكَّة، وَأول السيالة إِذا قطعت فرش مَالك وَأَنت مغرب، وَكَانَت الصخيرات صخيرات الإِمَام عَن يَمِينك، وهبطت من فرش مَالك ثمَّ رجعت عَن يسارك واستقبلت الْقبْلَة هَذِه السيالة، وَكَانَت قد تجدّد فِيهَا بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُيُون وسكان وَآخِرهَا الشرق الْمَذْكُور، وَالْمَسْجِد عِنْده وَعِنْده قُبُور قديمَة، ثمَّ تهبط فِي وَادي الروحاء مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وتعرف الْيَوْم بوادي بني سَالم بطن من حَرْب، فتمشى مُسْتَقْبل الْقبْلَة وَشعب على ابْن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ على يسارك إِلَى أَن يَدُور الطَّرِيق بك إِلَى الْمغرب وَأَنت مَعَ أصل الْجَبَل الَّذِي على يَمِينك، وَأول مَا يلقاك مَسْجِد على يَمِينك وَيعرف ذَلِك الْمَكَان بغرف الظبية، وَيبقى جبل ورقان على يسارك، وَمَسْجِد بغرف الظبية وَهُوَ الْمُتَقَدّم ذكره آنِفا، وَكَانَ فِيهِ قُبُور كَثِيرَة فِي قبلته فمهدهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي الْمَسْجِد الْآن حجر قد نقش عَلَيْهِ بالخط الْكُوفِي عِنْد عِمَارَته الْميل الْفُلَانِيّ من الْبَرِيد الْفُلَانِيّ. وَمَسْجِد الزبير: حَدثنَا ابْن الْحسن عَن أَخِيه عَن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن

عَوْف عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: أول غزَاة غَزَاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وانا مَعَه غَزْوَة الإيواء حَتَّى إِذا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ عِنْد غرف الظبية قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا اسْم هَذَا الْجَبَل يَعْنِي ورقان؟ هَذَا حمت اللَّهُمَّ بَارك فِيهِ وَبَارك لأَهله فِيهِ، تَدْرُونَ مَا اسْم هَذَا الْوَادي يَعْنِي وَادي الروحاء؟ هَذَا سجاسج، لقد صلى فِي هَذَا الْمَسْجِد قبلي سَبْعُونَ نَبيا، وَلَقَد مر بهَا يَعْنِي الروحاء مُوسَى بن عمرَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سبعين ألفا من بني إِسْرَائِيل، عَلَيْهِ عباءتان قطوانيتان على نَاقَة لَهُ وَرْقَاء، وَلَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يمر بهَا عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام حَاجا أَو مُعْتَمِرًا أَو يجمع الله تَعَالَى لَهُ ذَلِك ". وَذكر أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: أَن قبر مُضر بن نزار بِالرَّوْحَاءِ على لَيْلَتَيْنِ من الْمَدِينَة بَينهمَا أحد وَأَرْبَعُونَ ميلًا. وَقيل: أَرْبَعُونَ، وَقيل عشرَة فراسخ، وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ ميلًا، وَفِي صَحِيح مُسلم: أَن مَا بَين الروحاء وَالْمَدينَة سِتَّة وَثَلَاثُونَ ميلًا. وَمَسْجِد الغزالة: فِي آخر وَادي الروحاء مَعَ طرف الْجَبَل على يسارك وَأَنت ذَاهِب إِلَى مَكَّة المشرفة، لم يبْق مِنْهُ الْيَوْم إِلَّا عقد الْبَاب، صلى فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن يَمِين الطَّرِيق إِذا كنت بِهَذَا الْمَسْجِد وَأَنت مُسْتَقْبل النازية مَوضِع كَانَ عبد الله بن عمر ينزل فِيهِ، وَيَقُول: هَذَا مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ ثمَّ شَجَرَة كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يصب فضل وضوئِهِ فِي أَصْلهَا، وَيَقُول: هَكَذَا رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل. وَإِذا كَانَ الْإِنْسَان عِنْد مَسْجِد الغزالة الْمَذْكُور كَانَت كريق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَكَّة المشرفة على يسَاره مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وَفِي الطَّرِيق الْمَعْهُود من قديم الزَّمَان يمر على بِئْر يُقَال لَهَا السقيا، ثمَّ على ثنية هرشاء، وَهِي طَرِيق الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم وَالطَّرِيق الْيَوْم فِي طَرِيق الروحاء على النازية إِلَى مضيق الصَّفْرَاء، وَمَسْجِد على يَمِين الطَّرِيق الْمَذْكُورَة تَجدهُ حِين تُفْضِي من أكمة دون الدويثة بميلين تَحت صخيرة ضخمة، قد انْكَسَرَ أَعْلَاهَا فانثنى فِي جوفها وَهِي قَائِمَة على سَاق، والدويثة مَعْرُوفَة وَالْمَسْجِد غير مَعْرُوف. وَمَسْجِد بطرِيق بلعة من وَرَاء العرج وَأَنت ذَاهِب إِلَى مَكَّة المشرفة عَن يَمِين الطَّرِيق على رَأس خَمْسَة أَمْيَال من العرج إِلَى هبطة هُنَاكَ، وَعِنْدهَا ثَلَاثَة أقبر ورضم من حِجَارَة بَين سلمات كَانَ عبد الله بن عمر يروح من العرج بعد أَن تميل الشَّمْس بالهاجرة فَيصَلي الظّهْر فِي هَذَا الْمَسْجِد، وَالْعَرج مَعْرُوف إِلَّا الْمَسْجِد. وَمَسْجِد على يسَار الطَّرِيق وَأَنت ذَاهِب إِلَى مَكَّة المشرفة فِي مسيل دون ثنية هرشاء إِلَى سرحة هِيَ أقرب السرحات إِلَى الطَّرِيق وَهِي أَطْوَلهنَّ، وَعقبَة هرشاء مَعْرُوفَة سهلة المسالك. وَمَسْجِد بالأثاثة وَلَا تعرف. وَمَسْجِد بالمسيل الَّذِي بوادي مر الظهْرَان حِين

ذكر المساجد المشهوره التي صلي فيها النبي صلي الله عليه وسلم في الغزوات وغيرها

تهبط من الصفراوات على يسَار الطَّرِيق وَأَنت ذَاهِب إِلَى مَكَّة المشرفة. وَمَسْجِد بِذِي طوى ووادي طوى بِمَكَّة بَين الثنيتين ومصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ أكمة سَوْدَاء، تدع من الأكمة عشرَة أَذْرع أَو نَحْوهَا يَمِينا، ثمَّ تصلي مُسْتَقْبل الفرضين بَين الْجَبَل الطَّوِيل الَّذِي بَيْنك وَبَين الْكَعْبَة وَلَيْسَ بِمَعْرُوف، وَذكر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل بالدبة دبة المستعجلة من الْمضيق واستقى لَهُ من بِئْر الشعبة الصابة اسفل من الدبة فَهُوَ لَا يفارقها المَاء أبدا، قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: والمستعجلة هِيَ الْمضيق الَّذِي يصعد إِلَيْهِ الْحَاج إِذا قطع النازية وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى الصَّفْرَاء. وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل بشعب يسفر، وَهُوَ الشّعب الَّذِي بَين المستعجلة والصفراء، وَقسم بِهِ غَنَائِم أهل بدر، وَلَا يزَال المَاء بِهِ غَالِبا. وَمَسْجِد الصَّفْرَاء ذكر ابْن زباله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ، وَصلى بِمَسْجِد آخر بِموضع يُسمى ذَات الْمَنّ مضيق الصَّفْرَاء، وَفِي مَسْجِد آخر بدفران وَاد مَعْرُوف يصب فِي الصَّفْرَاء من جِهَة الغرب، وَأَنَّهُمْ حفروا بِئْرا فِي مَوضِع سُجُود النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووجدوا المَاء بهَا لَهُ فضل من العذوبة على مَا حولهَا ببركة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمَسْجِد بالبرود ذكرُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل فِي مَوضِع الْمَسْجِد الَّذِي بالبرود من مضيق الْفرج وَصلى فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمَسْجِد من طَرِيق مبرك ذكرُوا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ فِي مطلعه من طَرِيق مبركه فِي مَسْجِد هُنَاكَ بَينه وَبَين زعان بِسِتَّة أَمْيَال. ذكر الْمَسَاجِد الْمَشْهُورَة الَّتِي صلى فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغَزَوَات وَغَيرهَا : مِنْهَا: مَسْجِد بعضد على مرحلة من الْمَدِينَة صلى فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد خُرُوجه إِلَى خَيْبَر. وَمَسْجِد بالصهباء والصهباء من أدنى خَيْبَر صلى بِهِ الْمَعْرُوف وَهُوَ مَعْرُوف، وَذكر ابْن زبالة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين وصل إِلَى خَيْبَر من رُجُوعه من الطَّائِف نزل بَين أهل الشق وَأهل النضاة وَصلى إِلَى عَوْسَجَة هُنَاكَ، وَجعل حول مُصَلَّاهُ حِجَارَة يعرف بهَا. وَمَسْجِد بشمران ذكر ابْن زبالة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى أَيْضا على جبل بِخَيْبَر يُقَال لَهُ شمران فثم مَسْجده من نَاحيَة سهم بني النزار. قَالَ المطري وَيعرف الْجَبَل الْيَوْم بسمران بِالسِّين الْمُهْملَة يرْوى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " ميلان فِي ميل من خَيْبَر مقدس " وَعَن سعيد بن الْمسيب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " خَيْبَر مُقَدَّسَة والسوارقة مؤتفكة ". وخيبر كَانَت مسكن الْيَهُود وَمَوْضِع الْجَبَابِرَة مِنْهَا على ثَمَانِيَة برد من الْمَدِينَة، وَفِي خَيْبَر رد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّمْس على عليّ رَضِي الله عَنهُ بعد مَا غربت حَتَّى صلى الْعَصْر. وَمَسْجِد ببدر كَانَ عِنْد

الْعَريش الَّذِي بنى لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر، وَهُوَ مَعْرُوف الْيَوْم يُصَلِّي فِيهِ بِبَطن الْوَادي بَين النخيل وَالْعين قريبَة مِنْهُ. وَمَسْجِد بالعشيرة فِي بطن يَنْبع مَعْرُوف الْيَوْم. وَمَسْجِد بِالْحُدَيْبِية لَا يعرف بل يعرف ناحيته لَا غير، وَهُوَ بَين جدة وَمَكَّة، بَينه وَبَين جدة مثل مَا بَين مَكَّة والطائف، وَمثل مَا بَين مَكَّة وَعُسْفَان. قَالَ مَالك: وَبَينهمَا أَرْبَعَة برد. وَتقدم تَحْدِيد الْحُدَيْبِيَة وتعريفها فِي محلهَا. وَمَسْجِد لية من أَرض الطَّائِف قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَهُوَ مَعْرُوف رَأَيْته وَعِنْده أثر فِي حجر يُقَال إِنَّه أثر خف نَاقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأقاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بنحرة الرُّغَاء حِين قدم، وَهُوَ أول دم أقيد فِي الْإِسْلَام رجل من بني لَيْث قتل رجلا من بني هُذَيْل فَقتله بِهِ. قَالَ أَيْن إِسْحَاق: ثمَّ سلك من لية على نخب وَهِي عقبَة فِي الْجَبَل حِين نزل تَحت سِدْرَة يُقَال لَهَا الصادرة، ثمَّ ارتحل فَنزل بِالطَّائِف وَكَانَ قد نزل قَرِيبا من حصن الطَّائِف فَقتل جمَاعَة من أَصْحَابه بِالنَّبلِ، فانتقل إِلَى مَوضِع مَسْجده الَّذِي بِالطَّائِف الْيَوْم. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَهَذَا الْحصن بَاقٍ إِلَى الْآن بِالْبِنَاءِ الجاهلي وَفِيه بِئْر وفيهَا تنين عَظِيم يمنعهُم الْبناء فِيهِ إِلَّا أَن يذبحوا عِنْده، وَهُوَ بِالْقربِ من مَسْجِد الْحجَّاج بن يُوسُف، وَقد كَانَ بنى هَذَا الْمَسْجِد بتربة حَمْرَاء يُؤْتى بهَا من الْيمن، وَلم يبْق إِلَّا آثاره ومنارتاه خراب، وَمَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالطَّائِف فِي وسط الْمَسْجِد الْمَعْرُوف الْيَوْم بِمَسْجِد سيدنَا عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، وَفِي ركن الْمَسْجِد الْكَبِير مَنَارَة عالية بنيت فِي أَيَّام النَّاصِر لدين الله أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن المستضئ، وَخَلفه تَحت المنارة بِئْر ينزل فِيهَا إِلَى المَاء بدرج قريب الْأَرْبَعين دَرَجَة، وَمَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْجَامِع بَين قبتين صغيرتين يُقَال إنَّهُمَا بنيتا فِي مَوضِع قبتي زوجتيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّتَيْنِ كَانَتَا مَعَه عَائِشَة وَأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَبَين القبتين محراب، وَكَذَلِكَ قُدَّام الْقبْلَة أَيْضا محراب، وَلَا يبعد أَن يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي المحرابين، وللمسجد العباسي أَرْبَعَة أروقة فِي قبلته، وَله ثَلَاثَة أَبْوَاب فِي يَمِينه ويساره ومؤخره، وَفِي رُكْنه الْأَيْمن القبلي قبر سيدنَا عبد الله بن الْعَبَّاس ابْن عَم سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى قَبره ملبن سَاج على بُنيان طوله من الأَرْض ثَلَاثَة أشبار، وَعرضه بطول الْقَبْر عشرَة أشبار وَقَلِيل، وَعرض الْقَبْر سِتَّة أشبار وَقَلِيل، أَمر بِعَمَلِهِ الإِمَام المقتفى لأمر الله فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، كَذَا مَكْتُوب فِي الْخشب، وَتُوفِّي بِالطَّائِف سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَقد أضرّ. قَالَ مَيْمُون بن مهْرَان: شَهِدنَا جنَازَته بِالطَّائِف فَلَمَّا وضع ليسلم عَلَيْهِ جَاءَ طَائِر أَبيض حَتَّى دخل فِي أَكْفَانه فالتمس فَلم يُوجد، فَلَمَّا سوى عَلَيْهِ التُّرَاب سمعنَا صَوتا وَلم نر شخصا

يَقُول: " يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية ". . إِلَى آخر السُّورَة. وَعِنْده فِي الْقبَّة ثَلَاثَة قُبُور، هَذَا قبر زبيدة توفيت فِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة خمس وَسِتِّينَ وثلاثمائة. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَالظَّاهِر أَن هَذِه عين زبيدة بنت جَعْفَر امْرَأَة هَارُون الرشيد، وَقد ذكر المَسْعُودِيّ فِي " مروج الذَّهَب ": أَن زبيدة بنت جَعْفَر توفيت سنة سِتّ عشر وَمِائَتَيْنِ فِي خلَافَة الْمَأْمُون، اسْمهَا أمة الْعَزِيز وَهِي ابْنة عمَّة الرشيد وَزَوجته وَأم الْأمين، وَهِي الَّتِي بنت الْآبَار والبرك والمصانع بِمَكَّة المشرفة، وحفرت الْعين الْمَعْرُوفَة بِعَين المشاش بِالْحِجَارَةِ، وأجرتها من مَسَافَة اثْنَي عشر ميلًا إِلَى مَكَّة المشرفة وأنفقت عَلَيْهَا ألف ألف مِثْقَال وَسَبْعمائة ألف مِثْقَال وأدخلتها مَكَّة وفرقتها فِي شوارعها. المشاش بِالْحِجَارَةِ، وأجرتها من مَسَافَة اثْنَي عشر ميلًا إِلَى مَكَّة المشرفة وأنفقت عَلَيْهَا ألف ألف مِثْقَال وَسَبْعمائة ألف مِثْقَال وأدخلتها مَكَّة وفرقتها فِي شوارعها. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَرَأَيْت بِالطَّائِف شجرات سدر يذكر أَنَّهُنَّ من عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِنَّ وَاحِدَة دفر جدرها خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ شبْرًا، وَأُخْرَى تزيد على الْأَرْبَعين، وَأُخْرَى سَبْعَة وَثَلَاثُونَ، قَالَ: وَهُنَاكَ شَجَرَة يذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بهَا وَهُوَ على رَاحِلَته فانفرق جدرها نِصْفَيْنِ، يذكر أَن نَاقَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخلت من بَينهمَا وَهُوَ ناعس، قَالَ رَحمَه الله: رَأَيْتهَا فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وسِتمِائَة، وحملت من ثَمَرهَا إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ دخلت الطَّائِف فِي سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة فرأيتها قد وَقعت ويبست وجدرها ملقى لَا يمسهُ أحد لحرمتها. قَالَ الْمرْجَانِي: وَرَأَيْت بوح قَرْيَة من قرى الطَّائِف سِدْرَة محاذية للحيرة قَرْيَة أَيْضا يذكر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جلس تحتهَا حِين أَتَاهُ عديس بالطبق الْعِنَب وَأسلم، وَقَالَ: شَجَرَة مُحَمَّد، والقصة مَشْهُورَة، قَالَ: وَرَأَيْت غاراً فِي جبل هُنَاكَ عِنْد آخر الْحيرَة تَحت الْعين يذكر أَنه جلس فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. انْتهى.

الفصل الثامن

الْفَصْل الثَّامِن : ذكر وَفَاة رَسُول الله وصاحبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه ذكر وَفَاة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ ووفاة عمر رَضِي الله عَنهُ وَذكر مَا جَاءَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام خلقُوا من طِينَة وَاحِدَة وَمَا جَاءَ فِي صفة وضع الْقُبُور المقدسة وَصفَة الْحُجْرَة الشَّرِيفَة.

اما ذكر وفاه رسول الله صلي الله عليه وسلم

أما ذكر وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الله تَعَالَى: " إِنَّك لمَيت وَإِنَّهُم ميتون ". حكى أَبُو معَاذ عَن النَّحْوِيين أَن الميْت بِالتَّخْفِيفِ الَّذِي فَارقه الرّوح، وبالتشديد الَّذِي لم يكن يمت بعد وَهُوَ يَمُوت، فَأخْبرهُ تَعَالَى أَنه ميّت إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: " كل من عَلَيْهَا فان ". ثمَّ عَن الله تَعَالَى خيّره حِين بعث إِلَيْهِ ملك الْمَوْت على أَن يقبض روحه أَو ينْصَرف، فَلم يُخَيّر قبله نَبِي وَلَا رَسُول أَلا ترى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حِين قَالَ ملك الْمَوْت: أجب رَبك، فَلَطَمَهُ ففقأ عينه، وَلَو أَتَاهُ على وَجه التَّخْيِير لما بَطش بِهِ، وَقَول ملك الْمَوْت حِين رَجَعَ: إِنَّك أرسلتني إِلَى عبد لَا يُرِيد الْمَوْت قَالَ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ: وقصة مُوسَى وَملك الْمَوْت لَا يردهَا إِلَّا كل مُبْتَدع ضال، يُؤَيّدهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن ملك الْمَوْت كَانَ يَأْتِي النَّاس عيَانًا حَتَّى أَتَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ليقبضه فَلَطَمَهُ ففقأ عينه، فجَاء ملك الْمَوْت بعد ذَلِك خُفْيَة ". وَكَذَلِكَ قصَّته مَعَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام حِين غلقت عَلَيْهِ أبوابه فَرَأى ملك الْمَوْت عِنْده فَقَالَ لَهُ: مَا أدْخلك دَاري بِغَيْر إذني، فَقَالَ: أَنا الَّذِي أَدخل على الْمُلُوك بِغَيْر إِذن، فَقَالَ: فَأَنت ملك الْمَوْت، قَالَ: نعم، قَالَ: جِئْت دَاعيا أم ناعياً؟ قَالَ: بل ناعياً، قَالَ: فَهَلا أرْسلت إليّ قبل ذَلِك لأستعد للْمَوْت؟ قَالَ: كم أرْسلت إِلَيْك فَلم تنتبه، قَالَ: وَمن كَانَت رسلك؟ قَالَ: يَا دَاوُد أَيْن أَبوك؟ أَيْن أمك؟ أَيْن أَخُوك؟ قَالَ: مَاتُوا، قَالَ: أما علمت أَنهم رُسُلِي وَأَن النّوبَة تبلغك. قَالَ الْعلمَاء: وابتدأ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَعه يَوْم الْخَمِيس فِي لَيَال بَقينَ من صفر، وَقيل: فِي أول ربيع الأول فِي السّنة الْحَادِيَة عشر من الْهِجْرَة، وَمُدَّة مَرضه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اثْنَي عشر يَوْمًا، وَقيل: أَرْبَعَة عشر، وَكَانَ مَرضه بالصداع، وَاشْتَدَّ وَجَعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيت مَيْمُونَة فَدَعَا نِسَاءَهُ واستأذنهن فِي أَن يمرض فِي بَيت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَأذن لَهُ فَخرج يمشي بَين رجلَيْنِ من أهل بَيته الْفضل بن الْعَبَّاس وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا وَخرج نَهَار الْخَمِيس فصلى على أَصْحَاب أحد

واستغفر لَهُم، ثمَّ أَمر بسد الْأَبْوَاب فِي الْمَسْجِد إِلَّا بَاب أبي بكر. قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: اضْطجع فِي حجري فَدخل عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فِي يَده سواك أَخْضَر، قَالَت: فَنظر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَده نظرا عرفت أَنه يُريدهُ، قَالَت: فَقلت: يَا رَسُول الله أَتُحِبُّ أَن أُعْطِيك هَذَا السِّوَاك؟ قَالَ: نعم، قَالَت: فَأَخَذته فمضغته لَهُ حَتَّى لينته ثمَّ أَعْطيته إِيَّاه، قَالَت: فاستن بِهِ كأشد مَا رَأَيْته اسْتنَّ بسواك قطّ ثمَّ وَضعه، وَوجدت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يثقل فِي حجري فَذَهَبت أنظر فِي وَجهه فَإِذا بَصَره قد شخص، وَهُوَ يَقُول: بل الرفيق الْأَعْلَى فِي الْجنَّة، فَقلت: خيّرت فاخترت وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ. وروى ابْن أبي مليكَة قَالَ: لما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عاصباً رَأسه إِلَى صَلَاة الصُّبْح، وَأَبُو بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تفرج النَّاس، فَعرف أَبُو بكر أَن النَّاس لم يصنعوا ذَلِك إِلَّا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنكص عَن مُصَلَّاهُ، فَدفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ظَهره وَقَالَ: صلّ بِالنَّاسِ، وَجلسَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جنبه فصلى قَاعِدا عَن يَمِين أبي بكر، فَلَمَّا فرغ من صلَاته أقبل على النَّاس رَافعا صَوته حَتَّى خرج صَوته من بَاب الْمَسْجِد يَقُول: " يَا أَيهَا النَّاس سعرت النَّار وَأَقْبَلت الْفِتَن كَقطع اللَّيْل المظلم، إِنِّي وَالله مَا تمسكون عَليّ بِشَيْء، إِنِّي لم أحل إِلَّا مَا أحل الْقُرْآن، وَلم أحرم إِلَّا مَا حرم الْقُرْآن ". فَلَمَّا فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَلَامه، قَالَ لَهُ أَبُو بكر: يَا نَبِي الله أَرَاك قد أَصبَحت بِنِعْمَة الله وفضله كَمَا تحب، وَالْيَوْم يَوْم ابْنة خَارِجَة، أفآتيها؟ قَالَ: نعم، ثمَّ دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخرج أَبُو بكر إِلَى أَهله بالسنح، وَخرج عَليّ رَضِي الله عَنهُ من عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: يَا أَبَا الْحسن كَيفَ أصبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: أصبح بِحَمْد الله بارئاً، قَالَ: فَأخذ الْعَبَّاس بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ: يَا عَليّ أَنْت وَالله عبد الْعَصَا بعد ثَلَاث، أَحْلف بِاللَّه لقد عرفت الْمَوْت فِي وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا كنت أعرفهُ فِي وُجُوه بني عبد الْمطلب، فَانْطَلق بِنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن كَانَ هَذَا الْأَمر فِينَا عَرفْنَاهُ، وَإِن كَانَ فِي غَيرنَا أمرناه فأوصى بِنَا النَّاس، فَقَالَ: وَالله لَا أفعل، وَالله لَئِن منعناه لَا يؤتينا بعده أحد، فَتوفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اشْتَدَّ الضُّحَى من ذَلِك الْيَوْم. قيل: إِن الصَّلَاة الني صلاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ جَالس عَن يَمِين أبي بكر صَلَاة

الظّهْر قَالَه ابْن وضاح وَأَبُو عبد الله بن عتاب. وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ: " أَن جِبْرِيل أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل مَوته بِثَلَاثَة أَيَّام فَقَالَ: يَا أَحْمد إِن الله أَرْسلنِي إِلَيْك يَسْأَلك عَمَّا هُوَ أعلم بِهِ مِنْك يَقُول: كَيفَ تجدك؟ فَقَالَ: أجدني يَا جِبْرِيل مغموماً وأجدني يَا جِبْرِيل مكروباً، وَأَتَاهُ فِي الْيَوْم الثَّانِي فَأَعَادَ السُّؤَال فَثنى الْجَواب، ثمَّ قَالَ فِي الْيَوْم الثَّالِث مثل ذَلِك وَهُوَ يُجيب كَذَلِك، فَإِذا ملك الْمَوْت يسْتَأْذن فَقَالَ: يَا أَحْمد هَذَا ملك الْمَوْت يسْتَأْذن عَلَيْك وَلم يسْتَأْذن على آدَمِيّ قبلك وَلَا يسْتَأْذن على آدَمِيّ بعْدك، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَدخل فَوقف بَين يَدَيْهِ فَقَالَ: إِن الله أَرْسلنِي إِلَيْك وَأَمرَنِي أَن أطيعك، فَإِن أَمرتنِي أَن أَقبض نَفسك قبضتها، وَإِن أَمرتنِي أَن أتركها تركتهَا، فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: يَا أَحْمد إِن الله قد اشتاق إِلَيْك، قَالَ: امْضِ لما أمرت بِهِ يَا ملك الْمَوْت، فَقَالَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله هَذَا آخر موطئي الأَرْض، إِنَّمَا كنت حَاجَتي فِي الدُّنْيَا، فَتوفي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسْتَندا إِلَى ظهر عَائِشَة فِي كسَاء ملبد وَإِزَار غليظ. وَتُوفِّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أثر السم؛ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجَعه الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " مَا زَالَت أَكلَة خَيْبَر تعاودني، فَالْآن أَوَان قطعت أَبْهَري ". قَالَ ابْن إِسْحَاق: إِن كَانَ الْمُسلمُونَ لَيرَوْنَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ شَهِيدا مَعَ مَا أكْرمه الله تَعَالَى بِهِ من النُّبُوَّة، وَتُوفِّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ حِين اشْتَدَّ الضُّحَى لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول، وَقيل: لليلتين خلتا مِنْهُ، وَدفن لَيْلَة الْأَرْبَعَاء، وَقيل: لَيْلَة الثُّلَاثَاء، وَقيل: وَكَانَت وَفَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة تِسْعمائَة وَخمْس وَثَلَاثِينَ سنة من سنّ ذِي القرنين حَكَاهُ المَسْعُودِيّ فِي " مروج الذَّهَب "، وَقد بلغ من الْعُمر ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سنة، وَقيل: خمْسا وَسِتِّينَ سنة، وَقيل: سِتِّينَ سنة وَالْأول أصح، روى الثَّلَاثَة مُسلم، وَهِي صَحِيحَة، فَقَوْل من قَالَ: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ فَهُوَ على اصله، وَمن قَالَ: سِتِّينَ فَإِنَّهُم كَانُوا فِي الزَّمَان الأول لَا يذكرُونَ الْكسر، وَمن قَالَ: خمْسا وَسِتِّينَ حسب السّنة الَّتِي ولد فِيهَا وَالَّتِي توفّي فِيهَا

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الْحَاكِم: اخْتلفت الرِّوَايَة فِي سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يَخْتَلِفُوا أَنه ولد فِي عَام الْفِيل، وَأَنه بعث وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، وَأَنه أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عشرا، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي مقَامه بِمَكَّة المشرفة بعد الْبَعْث فَقيل: عشرا، وَقيل: ثَلَاثَة عشر، وَقيل: خَمْسَة عشر، وسجى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبرد حبرَة. وَقيل: إِن الْمَلَائِكَة سجته، وَكذب بعض أَصْحَابه بِمَوْتِهِ دهشة مِنْهُم عمر بن الْخطاب، وأخرس بَعضهم فَمَا تكلم إِلَّا بعد الْغَد مِنْهُم عُثْمَان بن عَفَّان، وأقعد آخَرُونَ مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي: وَالْحكمَة فِي ذَلِك أَنه لما كَانَ عمر أبلغ النَّاس نظرا وَأَعْلَاهُمْ فراسة صَحِيح تخيل الْفِكر عَظِيم قياسة أدهش حَتَّى لم يتخيل موت الْمُخْتَار، وَلما كَانَ عُثْمَان حوى أثقال الفصاحة وَله فِي القَوْل على من سواهُ رجاحة أخرس بإنطاق حجب الأستار، وَلما كَانَ على سبف الله الْقَاطِع وَعَلِيهِ اسْم الْقُوَّة وَاقع اقعد عَن مد خطوَات الأقدار، وَلم يكن أثبت من الْعَبَّاس وَأبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا وَبَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيته يَوْم الِاثْنَيْنِ وَلَيْلَة الْأَرْبَعَاء، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء أقبل النَّاس على جهاز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَمِعُوا من بَاب الْحُجْرَة حِين ذكرُوا غسله لَا تغسلوه فَإِنَّهُ طَاهِر مطهر، ثمَّ سمعُوا بعده غسلوه فَإِن ذَلِك إِبْلِيس وَأَنا الْخضر، وَقَالَ: إِن فِي الله عزاء من كل مُصِيبَة، وخلفاً من كل هَالك، ودركاً من كل فَائت، فبالله نتقوى، وإياه فَارْجِعُوا، فَإِن الْمُصَاب من حرم الثَّوَاب، ثمَّ كَلمهمْ مُكَلم من نَاحيَة الْبَيْت غسلوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ ثِيَابه، وَكَانُوا قد اخْتلفُوا فِي ذَلِك فغسلوه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَمِيصه، وَكَانُوا لَا يرَوْنَ أَن يقلبوا مِنْهُ عضوا إِلَّا انْقَلب بِنَفسِهِ، وَإِن مَعَهم لحفيفاً كَالرِّيحِ يصوت بهم ارفقوا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّكُم ستكفونه، وَتَوَلَّى غسله عليّ وَالْعَبَّاس وَالْفضل وَقثم بن الْعَبَّاس يقلبونه مَعَهم، وَأُسَامَة بن زيد وشقران موليا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصبَّانِ المَاء، وَأَوْس ابْن خولي الْأنْصَارِيّ مِمَّن حضر غسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يرْوى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ: أَوْصَانِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يغسلهُ غَيْرِي " فَإِنَّهُ لَا يرى أحد عورتي إِلَّا طمست عَيناهُ ". وسطعت مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ريح لم يَجدوا مثلهَا قطّ. وكفن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض سحُولِيَّة من كُرْسُف لَيْسَ فِيهَا

قَمِيص وَلَا عِمَامَة، وَكَانَ فِي حنوطه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمسك، ثمَّ وضع على سَرِيره فِي بَيته وَدخل النَّاس يصلونَ عَلَيْهِ أَرْسَالًا أفذاذاً الرِّجَال ثمَّ النِّسَاء ثمَّ الصّبيان، وَلم يؤمهم أحد بِوَصِيَّة مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِيهَا: " أول من يُصَلِّي عليّ خليلي وحبيبي جِبْرِيل ثمَّ مِيكَائِيل ثمَّ إسْرَافيل ثمَّ ملك الْمَوْت مَعَ مَلَائِكَة كَثِيرَة ". قيل: فعل ذَلِك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَكُون كل مِنْهُم فِي صَلَاة، وَقيل: ليطول وَقت الصَّلَاة فَيلْحق من يَأْتِي من حول الْمَدِينَة، وَاخْتلفُوا فِي مَكَان دَفنه فَقَائِل يَقُول: بِالبَقِيعِ، وَقَالَ قَائِل: عِنْد منبره، وَقَالَ قَائِل: فِي مُصَلَّاهُ، فجَاء أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ: إِن عِنْدِي من هَذَا خَبرا وعلماً سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " مَا قبض نَبِي إِلَّا دفن حَيْثُ توفّي ". فحول فرَاشه وحفر لَهُ مَوْضِعه، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ عُبَيْدَة بن الْجراح يضرح كحفر أهل مَكَّة، وَكَانَ أَبُو طَلْحَة يلْحد لأهل الْمَدِينَة فَبعث الْعَبَّاس خلفهمَا رجلَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ خر لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء أَبُو طَلْحَة فلحد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدفن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وسط اللَّيْل لَيْلَة الْأَرْبَعَاء، وَنزل قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليّ وَالْعَبَّاس وَقثم وَالْفضل ابْنا الْعَبَّاس وشقران مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَوْس بن خولى، وَبسط شقران تَحْتَهُ فِي الْقَبْر قطيفة حَمْرَاء كَانَ يفرشها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: كَانَ يتغطى بهَا، وَقيل: إِن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود نزل مَعَهم، وَكَذَلِكَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وأطبق أُسَامَة على قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع لبنات نصبن نصبا وَلما دفن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا فوقفت على قَبره وَأخذت قَبْضَة من تُرَاب الْقَبْر فَوَضَعته على عينهَا وبكت وأنشأت تَقول: مَاذَا على من شم تربة أَحْمد ... أَن لَا يشم مدى الزَّمَان غواليا صبَّتْ عليّ مصائب لَو أَنَّهَا ... صبَّتْ على الْأَيَّام عدن لياليا وَتوفيت بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسِتَّة أشهر، وَقيل: ثَمَانِيَة أشهر، وَقيل: ثَلَاثَة اشهر، وَقيل: سَبْعُونَ يَوْمًا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرهَا أَنَّهَا أول أَهله لُحُوقا بِهِ فَكَانَت كَذَلِك، وَقبض صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن

ذكر وفاه ابي بكر الصديق رضي الله عنه

مائَة ألف وَأَرْبَعَة وَعشْرين ألفا من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم قَالَه أَبُو مُوسَى، وَقَالَ أَيْضا: شهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع أَرْبَعُونَ ألفا من الصَّحَابَة مِمَّن روى عَنهُ وَسمع مِنْهُ، وَشهد مَعَه تَبُوك سَبْعُونَ ألفا. ذكر وَفَاة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ : ذكر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ: أَن الْيَهُود سمت أَبَا بكر فِي أرزة. وَقيل: أكل هُوَ والْحَارث ابْن كلدة حريرة أهديت لأبي بكر، فَقَالَ الْحَارِث: أرفع يَدي إِن فِيهَا لسم سنة، وَأَنا وَأَنت نموت فِي يَوْم وَاحِد عِنْد انْقِضَاء سنة. وَقيل: توفّي من لدغة الجريش لَيْلَة الْغَار. وَقيل: كَانَ بِهِ طرف من السل قَالَه الزبير بن بكار، وَمرض خَمْسَة عشر يَوْمًا وَكَانَ فِي دَاره الَّتِي قطع لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجاه دَار عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، توفّي رَضِي الله عَنهُ بَين الْمغرب وَالْعشَاء من لَيْلَة الثُّلَاثَاء لثمان لَيَال بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة وَهُوَ الْأَشْهر، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: توفّي لَيْلَة الْجُمُعَة لسبع لَيَال بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشر من الْهِجْرَة وَهُوَ الْأَشْهر، وَقيل: توفّي فِي جُمَادَى الأولى حَكَاهُ الْحَاكِم، وَقيل: يَوْم الِاثْنَيْنِ لليلتين بَقِيَتَا من جُمَادَى الْآخِرَة، وَكَانَت خِلَافَته سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر إِلَّا خمس لَيَال وَقيل: عشر لَيَال، وَقيل: وَثَمَانِية أَيَّام، وَقيل: وَسَبْعَة عشر يَوْمًا، استوفى بخلافته سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما ولي الْخلَافَة اسْتعْمل عمر بن الْخطاب على الْحَج، ثمَّ حج من قَابل ثمَّ اعْتَمر فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْ عشر، وَتُوفِّي أَبُو بكر قبل أبي قُحَافَة فورث أَبُو قُحَافَة مِنْهُ السُّدس ورده على ولد أبي بكر، وَمَات أَبُو قُحَافَة فِي الْمحرم سنة أَربع عشر من الْهِجْرَة وَهُوَ ابْن سبع وَتِسْعين سنة، وغسلت أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ زَوجته أَسمَاء بِوَصِيَّة مِنْهُ وَابْنه عبد الرَّحْمَن يصب عَلَيْهَا المَاء، وَحمل على السرير الَّذِي حمل عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصلى عَلَيْهِ عمر رَضِي الله عَنهُ وجاءه الْمِنْبَر، وَدفن إِلَى جنب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَصِيَّة مِنْهُ، وألصق لحده بلحد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَدخل قَبره عمر وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر.

ذكر وفاه عمر رضي الله عنه

ذكر وَفَاة عمر رَضِي الله عَنهُ : يرْوى أَنه خرج يطوف بِالسوقِ بعد حجَّته فَلَقِيَهُ أَبُو لؤلؤة فَيْرُوز الْفَارِسِي غُلَام للْمُغِيرَة بن شُعْبَة وَكَانَ نَصْرَانِيّا، وَقيل: مجوسياً، أعدا عليّ الْمُغيرَة بن شُعْبَة فَإِن عليّ خراجاً كثيرا، قَالَ: فكم خراجك؟ قَالَ: دِرْهَمَانِ فِي كل يَوْم، قَالَ: فإيش صناعتك؟ قَالَ: نقاش نجار حداد. قَالَ: فَمَا أرى خراجك كثير على مَا تصنع من الْأَعْمَال، ثمَّ قَالَ لَهُ: وَبَلغنِي أَنَّك قلت: لَو أردْت أَن أعمل رحى يتحدث بهَا من بَين الْمشرق وَالْمغْرب ثمَّ انْصَرف، فَقَالَ عمر: لقد توعدني العلج آنِفا، ثمَّ أَتَى عمر منزله فَجَاءَهُ كَعْب الْأَحْبَار فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اعهد فَإنَّك ميت فِي ثَلَاثَة أَيَّام، فَقَالَ: وَمَا يدْريك؟ فَقَالَ: أجد فِي كتاب الله التَّوْرَاة، فَقَالَ عمر: الله إِنَّك لتجد عمر بن الْخطاب فِي التَّوْرَاة، قَالَ: اللَّهُمَّ لَا وَلَكِن أجد صِفَتك وحليتك وَإنَّهُ قد فنى أَجلك، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد جَاءَهُ كَعْب فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ذهب يَوْم وَبَقِي يَوْمَانِ، ثمَّ جَاءَهُ بعد ذَلِك فَقَالَ: ذهب يَوْمَانِ وَبَقِي يَوْم وَلَيْلَة وَهِي لَك إِلَى صبحها، فَلَمَّا كَانَ الصُّبْح خرج عمر إِلَى الصَّلَاة وَدخل أَبُو لؤلؤة فِي النَّاس فِي يَده خنجر لَهُ رأسان نصابه فِي وَسطه فَضرب عمر سِتّ ضربات، إِحْدَاهُنَّ تَحت سرته وَهِي الَّتِي قتلته وَسقط عمر، وَظهر العلج لَا يمر على أحد يَمِينا أَو شمالاً إِلَّا طعنه حَتَّى طعن ثَلَاثَة عشر رجلا مَاتَ مِنْهُم سَبْعَة، وَقيل: سِتَّة، وَطرح عَلَيْهِ رجل من الْمُسلمين برنساً واحتضنه من خَلفه فَنحر العلج نَفسه، وَأخذ عمر بيد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فقدمه فصلى بِالنَّاسِ بقل هُوَ الله أحد وَقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَحمل عمر إِلَى منزله وَدخل عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار يسلمُونَ عَلَيْهِ، وَدخل فِي النَّاس كَعْب فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ عمر أنشأ يَقُول: وواعدني كَعْب ثَلَاثًا أعدهَا ... وَلَا شكّ أَن القَوْل مَا قَالَه كَعْب وَمَا بِي حذار الْمَوْت إِنِّي لمَيت ... وَلَكِن حذار الذَّنب يتبعهُ ذَنْب طعن يَوْم السبت غرَّة الْمحرم سنة أَربع وَعشْرين بعد حجَّة تِلْكَ السّنة، وَقيل: طعن يَوْم الِاثْنَيْنِ لأَرْبَع لَيَال بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَعشْرين، وَقيل: لثلاث لَيَال بَقينَ من ذِي الْحجَّة، وَبَقِي ثَلَاثَة أَيَّام بعد الطعنة ثمَّ توفّي، وَاسْتَأْذَنَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن يدْفن مَعَ صَاحِبيهِ فَأَذنت لَهُ، وَقَالُوا لَهُ: أوصى اسْتخْلف، فَقَالَ: مَا أجد أحدا أولى وَلَا أَحَق بِهَذَا الْأَمر من هَؤُلَاءِ النَّفر الَّذِي توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عَنْهُم رَاض فَسُمي عُثْمَان وعلياً وَالزُّبَيْر وَطَلْحَة وسعداً وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف فهم أهل

الشورى، وَتُوفِّي وسنه يَوْمئِذٍ ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة، وَقيل: سِتُّونَ. وَقيل: إِحْدَى وَسِتُّونَ، وَقيل: سِتّ وَسِتُّونَ، وَقيل: خمس وَسِتُّونَ، وَقيل: خمس وَخَمْسُونَ، وَنزل قَبره عُثْمَان وعليّ وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص، وَقيل: صُهَيْب وَابْنه عبد الله بن عمر عوضا عَن الزبير وَسعد، تولى الْخلَافَة سنة ثَلَاث عشرَة من الْهِجْرَة لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة وَقيل: بُويِعَ لَهُ فِي رَجَب، وَقيل: فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة فَكَانَت مُدَّة خِلَافَته عشر سِنِين وَسِتَّة اشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام، وَلما دفن عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَت عَاتِكَة ابْنة زيد بن عَمْرو بن عقيل امْرَأَة عمر بن الْخطاب ترثيه: وفجعني فَيْرُوز لَا در دره ... بأبيض تال للْكتاب منيب رؤوف على الْأَدْنَى غليظ على العدا ... أَخا ثِقَة فِي النائبات نجيب مَتى مَا يقل لَا يكذب القَوْل فعله ... سريع إِلَى الْخيرَات غير قطوب وعاتكة امْرَأَته تزَوجهَا عبد الله بن أبي بكر فَقتل عَنْهَا ثمَّ عمر فَقتل عَنْهَا ثمَّ الزبير فَقتل عَنْهَا ثمَّ توفيت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَلما دفن رَضِي الله عَنهُ لَزِمت عَائِشَة ثِيَابهَا الدرْع والخمار والإزار وَقَالَت: إِنَّمَا كَانَ أبي وَزَوْجي فَلَمَّا دخل مَعَهُمَا غَيرهمَا لَزِمت ثِيَابِي، وابتنت حَائِطا بَينهَا وَبَين الْقُبُور وَبقيت فِي بَقِيَّة الْبَيْت من جِهَة الشَّام، ويروى عَنْهَا رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا رَأَتْ فِي الْمَنَام أَنه سقط فِي حجرها وَرُوِيَ فِي حُجْرَتهَا ثَلَاثَة أقمار فَذكرت ذَلِك لأبي بكر فَقَالَ: خيرا. قَالَ يحيى: فَسمِعت بعد ذَلِك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما دفن فِي بَيتهَا، قَالَ أَبُو بكر: هَذَا أحد أقمارك يَا بنية وَهُوَ خَيرهَا. قَالَ عفيف الدّين الْمرْجَانِي فِي فَضَائِل عمر رَضِي الله عَنهُ: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: رَأَيْت عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَنَام بعد وَفَاته فَقلت لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من أَيْن أَقبلت؟ قَالَ: من حَضْرَة رَبِّي عز وَجل فَسَأَلته مَاذَا فعل الله بك؟ فَقَالَ: أوقفني بَين يَدَيْهِ فَسَأَلَنِي ثمَّ قَالَ: يَا عمر تناديك امْرَأَة على شاطئ الْفُرَات فَأهْلك من شاها شَاة تَقول: واعمراها واعمراها تستغيث بك فَلَا تجيبها. فَقلت: وَعزَّتك وجلالك مَا علمت بذلك وَأَنت أعلم مني، فَقَالَ لي: وَقد كَانَ يجب عَلَيْك، وَإِنِّي أرعد من تِلْكَ الْمَسْأَلَة إِلَى هَذَا الْوَقْت، قَالَ ابْن عَبَّاس: ثمَّ مَاذَا قَالَ؟ قَالَ: رددت إِلَى مضجعي فهبط عليّ مُنكر وَنَكِير فَقَالَا لي: من رَبك؟ وَمن نبيك؟ فَقلت لَهما: أما تستحيان مني ولمثلي تقولان هَذَا وجذبتهما إليّ، وَقلت: الله رَبِّي وضجيعي نَبِي وأنتما من رَبكُمَا؟ فَقَالَ نَكِير لمنكر: وَالله يَا أخي مَا

ما جاء ان النبي صلي الله عليه وسلم وابا بكر وعمر رضي الله عنهما وعيسي عليه السلام خلقوا من طينه واحده وان كل مخلوق يدفن في تربته التي خلق منها

نَدْرِي نَحن المبعوثون إِلَى عمر أم عمر الْمَبْعُوث إِلَيْنَا، فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه من لحده فَقَالَ لَهما: " هُوَ عمر بن الْخطاب هُوَ أعرف بربه مِنْكُمَا ". مَا جَاءَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام خلقُوا من طِينَة وَاحِدَة وَأَن كل مَخْلُوق يدْفن فِي تربته الَّتِي خلق مِنْهَا : عَن أنس بن يحيى قَالَ: لَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَنَازَة فِي بعض سِكَك الْمَدِينَة فَسَأَلَ عَنْهَا فَقَالُوا: فلَان الحبشي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " سيق من أرضه وسمائه إِلَى التربة الَّتِي خلق مِنْهَا ". قَالَ الْحَافِظ محب الدّين بن النجار: فعلى هَذَا طِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي خلق مِنْهَا من الْمَدِينَة، وطينة أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا من طِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذِه منزلَة رفيعة. وَفِي قَوْله تَعَالَى: " ممنها خَلَقْنَاكُمْ وفيهَا نعيدكم وَمِنْهَا نخرجكم ". إِشَارَة إِلَى رد الْإِنْسَان إِلَى طِينَة المبدأ الَّتِي مِنْهَا النشأة الأولى، فالإنسان يدْفن فِي مَكَان أَخذ تربته على حد الموازنة، فَلَا يُقَال لأهل البقيع إِنَّهُم من تربة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا لَهُم شركَة فِي الأَرْض الْمَأْخُوذ مِنْهَا، دَلِيله مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " مَا من مَوْلُود إِلَّا وَفِي سرته من تربته الَّتِي يخلق مِنْهَا، فَإِذا رد إِلَى أرذل الْعُمر رد إِلَى تربته الَّتِي خلق مِنْهَا حَتَّى يدْفن فِيهَا، وَإِنِّي وَأَبا بكر وَعمر خلقنَا من تربة وَاحِدَة وفيهَا ندفن ". انْتهى. وَمن دفن مِنْهُ جُزْء بِأَرْض وَدفن جُزْء آخر بِأَرْض أُخْرَى يُمكن أَن يُقَال خلق من تربتين من أَرضين، وَقيل: لَا يُمكن وَلَيْسَت تربته إِلَّا مَا حازت عجب الذَّنب مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا فِيمَا يظْهر تربة حفرته بِدَلِيل بَقَائِهَا وَمِنْهَا ينْبت فِي النشأة الثَّانِيَة كَذَا ذكره عفيف الدّين الْمرْجَانِي. قَالَ أهل السّير: وَفِي بَيت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَوضِع قبر فِي السهوة الشرقية، قَالَ سعيد بن الْمسيب: فِيهِ يدْفن عِيسَى ابْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن عبد الله بن سَلام عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: يدْفن عِيسَى ابْن مَرْيَم مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاحبيه رَضِي الله عَنْهُمَا، وَيكون قَبره الرَّابِع فعلى هَذَا فطينته من طينتهم. وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا أهبط الله الْمَسِيح فيعيش

ما جاء في صفه وضع القبور المقدسه وصفه الحجره الشريفه

فِي هَذِه الْأمة مَا يعِيش فَيَمُوت بمدينتي هَذِه، ويدفن إِلَى جَانب قبر عمر، فطوبى لأبي بكر وَعمر يحشران بَين نبيين " فَانْظُر إِلَى هَذَا الْفضل الْعَظِيم وَعَن هَارُون بن مُوسَى العروي. قَالَ: سَمِعت جدي أَبَا عَلْقَمَة سُئِلَ كَيفَ كَانَ النَّاس يسلمُونَ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يدْخل الْبَيْت فِي الْمَسْجِد؟ فَقَالَ: كَانَ يقف النَّاس عِنْد بَاب الْبَيْت يسلمُونَ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْبَاب لَيْسَ عَلَيْهِ غلق حَتَّى هَلَكت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَقيل: كَانَ النَّاس يَأْخُذُونَ من تُرَاب قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمرت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا بجدار فَضرب عَلَيْهِم. ويروى أَن امْرَأَة قَالَت لعَائِشَة: اكشفي لي قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكشفته لَهَا فَبَكَتْ حَتَّى مَاتَت. مَا جَاءَ فِي صفة وضع الْقُبُور المقدسة وَصفَة الْحُجْرَة الشَّرِيفَة : سَبَب الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك شدَّة هَيْبَة تلْحق النَّاظر فتزيل مِنْهُ كَيْفيَّة التَّمْيِيز، كَمَا سُئِلَ بعض من نزل الْحُجْرَة المقدسة لسَبَب يَأْتِي فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا رَأَيْت. عَن عمر بن بطاس قَالَ: رَأَيْت قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما هدم عمر بن عبد الْعَزِيز عَنهُ الْبَيْت مرتفعاً نَحوا من أَربع أَصَابِع عَلَيْهِ حَصْبَاء إِلَى الْحمرَة مَا هِيَ، وَرَأَيْت قبر أبي بكر رَضِي الله عَنهُ وَرَاء قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأَيْت قبر عمر أَسْفَل مِنْهُ، وَهَذِه صفته:

قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبر أبي بكر رَضِي الله عَنهُ قبر عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا يَلِي الْمغرب، وَرَأس أبي بكر عِنْد رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعمر خلف ظهر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذِه صفته: قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر رَضِي الله عَنهُ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَعَن نَافِع بن أبي نعيم: أَن صفة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقبر أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمامهما إِلَى الْقبْلَة مقدما، ثمَّ قبر أبي بكر حذاء مَنْكِبي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقبر عمر حذاء مَنْكِبي أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَذِه صفته: قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبر أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قبر عمر رَضِي الله عَنهُ وَعَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ: دخلت على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فَقلت: يَا أمه أريني قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصاحبيه رَضِي الله عَنْهُمَا فَكشفت لي عَن قُبُورهم فَإِذا هِيَ لَا مُرْتَفعَة وَلَا لاطئة مبطوحة بَيْضَاء حَمْرَاء من بطحاء الْعَرَصَة، وَإِذا قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمامها، ورجلا أبي بكر عِنْد رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَأس عمر عِنْد رجْلي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه صفته: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ عمر رَضِي الله عَنهُ وروى ابْن الْمُنْكَدر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ: قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وقبر أبي بكر خَلفه، وقبر عمر عِنْد رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه صفته: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ عمر رَضِي الله عَنهُ وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل قَالَ: خرجت فِي لَيْلَة مطيرة إِلَى الْمَسْجِد حَتَّى إِذا كنت عِنْد دَار الْمُغيرَة بن شُعْبَة لقيتني رَائِحَة وَالله مَا وجدت مثلهَا قطّ، فَجئْت الْمَسْجِد

فَبَدَأت لقبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا جِدَاره قد انْهَدم، فَدخلت فَسلمت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَكَثت فِيهِ مَلِيًّا، وَرَأَيْت الْقُبُور فَإِذا قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقبر أبي بكر عِنْد رجلَيْهِ، وقبر عمر عِنْد رجْلي أبي بكر رَضِي الله عَنْهُمَا، وَهَذِه صفته: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ عمر رَضِي الله عَنهُ وعَلى هَذِه الصّفة الْمَذْكُورَة رُوِيَ عَن عبد الله بن الزبير أَيْضا، وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة فِي قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَل هُوَ مسنم أم مسطح؟ فروى الوصفان جَمِيعًا، والمسنم الْمُرْتَفع، وَكَذَلِكَ اخْتلفُوا فِي قبر ضجيعيه رَضِي الله عَنْهُمَا. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَسقط جِدَار حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي يَلِي مَوضِع الْجَنَائِز فِي زمَان عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ، فظهرت الْقُبُور فَأمر عمر بن عبد الْعَزِيز بقباطي فخيطت ثمَّ ستر الْموضع، وَأمر ابْن وردان أَن يكْشف عَن الأساس فَبَيْنَمَا هُوَ يكشفه إِذْ رفع يَده وَتَنَحَّى، فَقَامَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَزعًا فَرَأى قدمين وَرَأى الأساس وَعَلَيْهَا السعد، فَقَالَ لَهُ عبد الله بن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ: أَيهَا الْأَمِير لَا يروعك فهما قدما جدك عمر بن الْخطاب ضَاقَ الْبَيْت عَنهُ، فحفر لَهُ فِي الأساس، فَقَالَ لَهُ ابْن وردان: غط مَا رَأَيْت فَفعل. وَعَن هِشَام بن عَوْف عَن أَبِيه قَالَ: لما سقط الْحَائِط فِي زمن الْوَلِيد أخذُوا فِي بُنْيَانه، فبدت لَهُم قدم ففزعوا وظنوا أَنَّهَا قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى قَالَ لَهُم عُرْوَة: لَا وَالله مَا هِيَ قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا هِيَ إِلَّا قدم عمر. وَأمر عمر بن عبد الْعَزِيز أَبَا حَفْصَة مولى عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وناساً مَعَه فبنوا الْجِدَار وَجعلُوا فِيهِ كوَّة فَلَمَّا فرغوا مِنْهُ وربعوه، دخل مُزَاحم مولى عمر رَضِي الله عَنهُ فَقُمْ مَا سقط على الْقَبْر من التُّرَاب والطين وَنزع

الْقبَاطِي. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَبنى عمر بن عبد الْعَزِيز على حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَائِطا وَلم يوصله إِلَى السّقف بل دونه بِمِقْدَار أَرْبَعَة أَذْرع وأدار عَلَيْهَا شباكاً من خشب. قَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: وَبعد احتراق الْمَسْجِد أُعِيد الشباك كَمَا كَانَ أَولا، وَهُوَ يظْهر الْيَوْم لمن تَأمله من تَحت الْكسْوَة، وَأدْخل عمر بن عبد الْعَزِيز بعض بَيت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا من جِهَة الشمَال فِي الْحَائِز الَّذِي بناه بحرفاء يلتقي على ركن وَاحِد كَمَا سنبينه، فَصَارَ لَهَا ركن خَامِس، لِئَلَّا تكون الْحُجْرَة الشَّرِيفَة مربعة كالكعبة، فتتصور جهال الْعَامَّة أَن الصَّلَاة إِلَيْهَا كَالصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَة، وَبَقِي بَقِيَّة من الْبَيْت من جِهَة الشمَال وَفِيه الْيَوْم صندوق مربع من خشب فِيهِ إسطوان وَخَلفه محراب. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: لما ولى المتَوَكل الْخلَافَة أَمر إِسْحَاق بن سَلمَة وَكَانَ على عمَارَة الْحَرَمَيْنِ من قبله بِأَن تؤزر الْحُجْرَة المقدسة بالرخام من حولهَا فَفعل، وَلم يزل إِلَى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة فِي خلَافَة المقتفى، فجدد تأزيرها جمال الدّين الْأَصْبَهَانِيّ وَجعل الرخام حولهَا قامة وبسطة، وَهُوَ الَّذِي عمل الشباك الدائر بالحجرة المقدسة اللاصق بالسقف وَهُوَ الَّذِي احْتَرَقَ وَكَانَ من خشب الصندوق والأبنوس مَكْتُوبًا بأقطاع الْخشب الأراونك سُورَة الْإِخْلَاص صَنْعَة بديعة، وَلم تزل حَتَّى عمل لَهَا الْحُسَيْن بن أبي الهيجاء صهر الْملك الصَّالح ستارة، وَعَلَيْهَا الطرز والجامات المرقومة بالإبريسم، وأدار عَلَيْهَا إزاراً من الإبريسم مَكْتُوبًا فِيهِ سُورَة يس فعلقها نَحْو العامين، ثمَّ جَاءَت من الْخَلِيفَة ستارة فنفذت تِلْكَ الْمُتَقَدّمَة إِلَى مشْهد عليّ بِالْكُوفَةِ وعلقت هَذِه عوضهَا، فَلَمَّا ولى الإِمَام النَّاصِر لدين الله نفذ ستارة أُخْرَى فعلقت فَوق تِلْكَ الْمَذْكُورَة، فَلَمَّا حجت الْخَلِيفَة أم الْخَلِيفَة وعادت إِلَى الْعرَاق نفذت ستارة فعلقت على الستارتين قَالَ ابْن النجار: فَفِي يَوْمنَا هَذَا عَلَيْهَا ثَلَاث ستائر، ثمَّ قَالَ رَحمَه الله: وَالْيَوْم فِي رصف سقف الْمَسْجِد الَّذِي بَين الْحُجْرَة والقبلة نيّف وَأَرْبَعُونَ قِنْدِيلًا كبارًا وصغاراً من الْفضة المنقوشة

والسادج، وفيهَا اثْنَان بلور وَوَاحِد ذهب وفيهَا قمر فضَّة مغموس فِي الذَّهَب نفذتها الْمُلُوك وأرباب الْأَمْوَال. قَالَ الْمرْجَانِي: وَهِي إِلَى الْآن بَاقِيَة. قَالَ المطري: وَلم يكن على الْحُجْرَة الشَّرِيفَة قبَّة، بل كَانَ مَا حول حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَصِيرا فِي السَّطْح مَبْنِيا بالآجر مِقْدَار نصف قامة، يُمَيّز الْحُجْرَة عَن السَّطْح إِلَى سنة ثَمَان وَسبعين وَسَبْعمائة فِي دولة السُّلْطَان الْملك الْمَنْصُور قلاوون عمل هَذِه الْقبَّة، وَهِي أخشاب أُقِيمَت وَسمر عَلَيْهَا أَلْوَاح خشب ثمَّ الواح رصاص، وَعمل مَكَان الْحَصِير شباكاً من خشب وَتَحْته بَين السقفين أَيْضا شباكاً خشب تحكيه، وَفِي سقف الْحُجْرَة الشَّرِيفَة بَين السقفين أَلْوَاح خشب سمر بَعْضهَا إِلَى بعض، وَسمر عَلَيْهَا ثوب مشمع، وَهُنَاكَ طابق مقفل إِذا فتح كَانَ النُّزُول مِنْهُ إِلَى مَا بَين حَائِط بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الْحَائِز الَّذِي بناه عمر بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: وكما حج السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة اقْتضى رَأْيه أَن يُدِير على الْحُجْرَة الشَّرِيفَة درابزيناً، فقاس مَا حولهَا بِيَدِهِ وَعمل الدرابزين الْمَوْجُود الْيَوْم، وأرسله فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وأداره عَلَيْهَا، وَفِيه ثَلَاثَة أَبْوَاب قبلي وشرقي وَغَرْبِيٌّ، ونصبه مَا بَين الأساطين الَّتِي تلِي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة إِلَّا من نَاحيَة الشمَال، فَإِنَّهُ زَاد فِيهِ إِلَى متهجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَظن ذَلِك زِيَادَة حُرْمَة للحجرة المقدسة، فحجر طَائِفَة من الرَّوْضَة مِمَّا يَلِي بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو كَانَ مَا حجره عكس، وَجعل من النَّاحِيَة فِيهِ لَيست من الرَّوْضَة وَلَا من الْمَسْجِد الْقَدِيم، بل مِمَّا زيد فِي أَيَّام الْوَلِيد، ثمَّ قَالَ: وَلم يبلغنِي أَن أحدا أنكر ذَلِك وَلَا ألْقى إِلَيْهِ بَالا، وَهَذَا من أهم مَا ينظر فِيهِ، وَكَانَ الدرابزين الَّذِي عمل الْملك الظَّاهِر نَحْو القامتين، فَلَمَّا كَانَ فِي تَارِيخ سنة أَربع وَتِسْعين وسِتمِائَة زَاد عَلَيْهِ الْملك الْعَادِل زين الدّين كتبغا شباكاً دائراً عَلَيْهِ وَرَفعه حَتَّى أوصله السّقف، قَالَ رَحمَه الله: وَمِمَّا أحدث فِي صحن الْمَسْجِد الشريف قبَّة كَبِيرَة عمرها الإِمَام النَّاصِر لدين الله فِي سنة سبعين وَخَمْسمِائة؛ لحفظ حواصل الْحرم وذخائره، مثل الْمُصحف العقماني، وَلما احْتَرَقَ الْمَسْجِد سلم مَا فِيهَا ببركة الْمُصحف

الْكَرِيم، ولكونها فِي وسط الْمَسْجِد، وَمِمَّا أحدث أَيْضا فِي الصَّخْرَة من جِهَة الْقبْلَة رواقان أَمر بإنشائهما السُّلْطَان الْملك النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فِي سنة تسع وَعشْرين وَسَبْعمائة، فاتصل ظلّ السّقف القبلي بهما وَعم نفعهما، وهما المقوس أعلاهما وأزيلت الْمَقْصُورَة الَّتِي كَانَت تظل الْحُجْرَة الشَّرِيفَة للاستغناء عَنْهَا بهما. وَكَانَ المتسبب فِي إِزَالَتهَا إِمَام الْمَدِينَة الشَّرِيفَة شرف الدّين أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الأسيوطي، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَت يجْتَمع فِيهَا أهل الْبدع وَكَانَت لَهُم كالمجتهد فاجتهد فِي إِزَالَتهَا وهدمها لَيْلًا وأدخلها فِي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة، فتربعت الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة، توفّي رَحمَه الله يَوْم الرَّابِع والعشري من صفر سنة خمس وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، وَهَذِه صفة مِثَال الْحَائِز الَّذِي بناه عمر بن عبد الْعَزِيز وَصفَة حجرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَسطه. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وَاعْلَم أَن فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة سمعُوا صَوت هدّة فِي الْحُجْرَة المقدسة، وَكَانَ الْأَمِير يَوْمئِذٍ قَاسم بن مهنا الْحُسَيْنِي فأخبروه بِالْحَال فَقَالَ: يَنْبَغِي أَن ينزل شخص لينْظر مَا هَذِه الهدة، فَلم يَجدوا أمثل حَالا من الشَّيْخ عمر النشائي شيخ شُيُوخ الصُّوفِيَّة بالموصل، فَاعْتَذر لمَرض كَانَ بِهِ يحْتَاج إِلَى الْوضُوء فِي غَالب الْأَوْقَات، فألزموه فَامْتنعَ من الْأكل وَالشرب مُدَّة، وَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إمْسَاك الْمَرَض عَنهُ بِقدر مَا يبصر وَيخرج، وَنزل بحبال من بَين السقفين وَمَعَهُ شمعة، وَدخل إِلَى الْحُجْرَة فَرَأى شَيْئا من السّقف قد وَقع على الْقُبُور المقدسة فأزاله وكنس التُّرَاب بلحيته، وَأمْسك الله عَنهُ الدَّاء بِقدر مَا خرج وَعَاد إِلَيْهِ، توفّي الشَّيْخ عمر بِمَكَّة بعد نُزُوله بتسع سِنِين فِي سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة، وَكَذَلِكَ أَيْضا فِي سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة فِي أَيَّام قَاسم الْمَذْكُور وجد فِي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة رَائِحَة مُنكرَة، فذكروه للأمير فَأَمرهمْ بالنزول، فَنزل الطواشي بَيَان الْأسود أحد خدام الْحُجْرَة الشَّرِيفَة، وَنزل مَعَه الصفي الْموصِلِي مُتَوَلِّي عمَارَة الْمَسْجِد، وَهَارُون الشادي الصُّوفِي بعد أَن بذل جملَة من المَال للأمير فِي ذَلِك، فوجدوا هراً قد هَبَط من الشباك الَّذِي فِي أَعلَى الْحَائِز بَين الْحَائِز وَبَين بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخرجوه وطيبوا مَكَانَهُ، وَكَانَ نزولهم يَوْم السبت الْحَادِي عشر من ربيع الْآخِرَة.

صفحة فارغة

الفصل التاسع

الْفَصْل التَّاسِع : حكم زِيَارَة رَسُول الله وكيفيتها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفضلها وكيفيتها وَكَيْفِيَّة زِيَارَة ضجيعيه رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَيْفِيَّة السَّلَام عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال الزِّيَارَة وَالسَّلَام على ضجيعيه والتوسل بِهِ إِلَى الله عز وَجل وَإِثْبَات حَيَاته وَبَقَاء حرمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد وَفَاته وَذكر مَا روى فِي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة من الْعَجَائِب وشوهد فِيهَا من الغرائب.

ذكر حكم زياره النبي وفضلها صلي الله عليه وسلم وفضلها

ذكر حكم زِيَارَة النَّبِي وفضلها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفضلها : إِذا انْصَرف الْحجَّاج والمعتمرون عَن مَكَّة المشرفة يسْتَحبّ لَهُم اسْتِحْبَابا مؤكداً أَن يتوجهوا إِلَى مَدِينَة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ للفوز بزيارته، فَإِنَّهَا من أعظم القربات وأرجى الطَّاعَات وَالْحج المتاعي، وَفِي " شرح الْمُخْتَار ": لما جرى الرَّسْم أَن الْحَاج إِذا فرغوا من مناسكهم وقفلوا عَن الْمَسْجِد الْحَرَام قصدُوا الْمَدِينَة زائرين قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ هِيَ من أفضل المندوبات والمستحبات، بل تقرب من دَرَجَة الْوَاجِب، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرض عَلَيْهَا وَبَالغ فِي النّدب إِلَيْهَا، أَحْبَبْت أَن أذكر فِيهَا فصلا أذكر فِيهِ نبذاً من الْآدَاب وَذكرهَا. وَفِي مَنَاسِك الْفَارِسِي: أَنَّهَا قريبَة إِلَى الْوَاجِب فِي حق من كَانَ لَهُ سَعَة. وَمِمَّنْ صرح باستحبابها وَكَونهَا سنة من الشَّافِعِيَّة فِي أَوَاخِر بَاب أَعمال الْحَج الْغَزالِيّ فِي " الْإِحْيَاء " وَالْبَغوِيّ فِي " التَّهْذِيب " وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي " مَنَاسِكه "، وَأَبُو عَمْرو بن الصّلاح وَأَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيّ رَحِمهم اله تَعَالَى، وَمن الْحَنَابِلَة الشَّيْخ موفق الدّين وَالْإِمَام أَبُو الْفرج الْبَغْدَادِيّ وَغَيرهم، وَأما الْمَالِكِيَّة فقد حكى القَاضِي عِيَاض مِنْهُم الْإِجْمَاع على ذَلِك، وَفِي " تَهْذِيب الطالبين " لعبد الْحق عَن الشَّيْخ ابْن عمرَان الْمَالِكِي: أَن زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِبَة، قَالَ عبد الْحق: يَعْنِي من السّنَن الْوَاجِبَة، وَفِي كَلَام الْعَبْدي الْمَالِكِي فِي " شرح الرسَالَة ": أَن الْمَشْي إِلَى الْمَدِينَة لزيارة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من الْكَعْبَة وَمن بَيت الْمُقَدّس. وَأكْثر عِبَارَات الْفُقَهَاء أَصْحَاب الْمذَاهب تَقْتَضِي اسْتِحْبَاب السّفر للزيارة؛ لأَنهم استحبوا للْحَاج بعد الْفَرَاغ من الْحَج الزِّيَارَة وَمن ضرورتها السّفر وَأما نفس الزِّيَارَة فالأدلة عَلَيْهَا كَثِيرَة وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: " وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لَهُم الرَّسُول ". . الْآيَة وَلَا شكّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيّ وَأَن أَعمال أمته معروضة عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور فِي بَاب الْفَضَائِل يرفعهُ: " من زار قَبْرِي وَجَبت لَهُ شَفَاعَتِي ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَابْن أبي الدُّنْيَا وَابْن خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِيّ فِي " الشّعب ". وَفِي لفظ: " من جَاءَنِي زَائِرًا لم تنزعه حَاجَة إِلَّا زيارتي كَانَ

حَقًا عليّ أَن أكون لَهُ شَفِيعًا يَوْم الْقِيَامَة ". كَذَا فِي الخلعيات، وَعند أبي يعلى الْموصِلِي بِلَفْظ: " من زارني بعد وفاتي عِنْد قَبْرِي فَكَأَنَّمَا زارني فِي حَياتِي ". وَفِي لفظ الدَّارَقُطْنِيّ: " كَانَ كمن زارني فِي حَياتِي وصحبني ". وَفِي لفظ: " من زارني محتسباً إِلَى الْمَدِينَة كَانَ فِي جواري يَوْم الْقِيَامَة ". ذكره الْبَيْهَقِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ وَغَيرهمَا. وَعَن ابْن عدي عَن ابْن عمر يرفعهُ: " من حج الْبَيْت وَلم يزرني فقد جفاني ". وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات وَهُوَ غير جيد، لِأَن ابْن عدي لما رَوَاهُ بَين سَنَده وَحكم بِأَنَّهُ جيد، وَالدَّارَقُطْنِيّ لما رَوَاهُ فِي " غَرِيب مَالك " قَالَ: تفرد بِهِ هَذَا الشَّيْخ يَعْنِي النُّعْمَان بن سبل وَهُوَ مُنكر، وَلَا يلْزم من هَذَا أَن يكون الْمَتْن مُنْكرا، وَفِي الْبَيْهَقِيّ فِي " السّنَن الْكَبِير " وَفِي الثَّانِي من فَوَائِد الْحَافِظ أبي الْفَتْح الْأَزْدِيّ عَن ابْن مَسْعُود يرفعهُ: " من حج حجَّة الْإِسْلَام وزار قَبْرِي وغزا غَزْوَة وَصلى عليّ من بَيت الْمُقَدّس لم يسْأَله الله تَعَالَى فِيمَا افْترض عَلَيْهِ ". وَفِي " الدرة الثمينة " لِابْنِ النجار عَن أنس يرفعهُ: " مَا من أحد من أمتِي لَهُ مَنْعَة لم يزرني فَلَيْسَ لَهُ عذر ". وَقد تقدم فِي بَاب الْفَضَائِل الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فضل زِيَارَة الْقَبْر الْمُقَدّس قَوْله فِي الحَدِيث: " وَجَبت لَهُ شَفَاعَتِي " مَعْنَاهُ حققت وَثبتت ولزمت وَإنَّهُ لَا بُد مِنْهَا بوعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تفضلاً مِنْهُ. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ وَقَوله: " وَجَبت لَهُ " إِمَّا أَن يكون المُرَاد لَهُ بخصوصية بِمَعْنى أَن الزائرين يخصون بشفاعة لَا تحصل لغَيرهم عُمُوما وَلَا خُصُوصا، وَإِمَّا أَن يكون المُرَاد أَنهم يفردون بشفاعة مِمَّا يحصل لغَيرهم وَيكون إفرادهم بذلك تَشْرِيفًا وتنويهاً بِسَبَب الزِّيَارَة، وَإِمَّا أَن يكون المُرَاد أَنه ببركة الزِّيَارَة يجب دُخُوله فِي عُمُوم من تناله الشَّفَاعَة، وَفَائِدَة ذَلِك الْبُشْرَى بِأَنَّهُ يَمُوت مُسلما وعَلى هَذَا التَّقْدِير الثَّالِث يجب إِجْرَاء اللَّفْظ على عُمُومه؛ لأننا لَو أضمرنا فِيهِ شرطا لَو مَاتَ على الْإِسْلَام لم يكن لذكر الزِّيَارَة معنى؛

لِأَن الْإِسْلَام وَجه كَاف فِي نيل هَذِه الشَّفَاعَة وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلين يَصح هَذَا الْإِضْمَار، فَالْحَاصِل أَن أثر الزِّيَارَة إِمَّا الْوَفَاة على الْإِسْلَام مُطلقًا لكل زَائِره وَكفى بهَا نعْمَة، وَإِمَّا شَفَاعَة خَاصَّة بالزائر أخص من الشَّفَاعَة الْعَامَّة. وَقَوله: شَفَاعَتِي فِي الْإِضَافَة إِلَيْهِ تشريف لَهَا فَإِن الْمَلَائِكَة والأنبياء وَالْمُؤمنِينَ يشفعون والزائر لقبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ نِسْبَة خَاصَّة مِنْهُ يشفع فِيهِ هُوَ بِنَفسِهِ والشفاعة تعظم بِعظم الشافع فَكَمَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل من غَيره كَذَلِك شَفَاعَته أفضل من شَفَاعَة غَيره. انْتهى كَلَام السُّبْكِيّ. وَمِنْهَا: أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْيَاهُ الله بعد مَوته حَيَاة تَامَّة واستمرت تِلْكَ الْحَيَاة إِلَى الْآن، وَهِي مستمرة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ويشاركه فِي ذَلِك جَمِيع الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالدَّلِيل على ذَلِك أُمُور أَحدهَا: قَوْله تَعَالَى: " وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ ". وَالشَّهَادَة حَاصِلَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أتم الْوُجُوه؛ لِأَنَّهُ شَهِيد الشُّهَدَاء، قَالَ الله تَعَالَى: " وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا ". وَإِن توهم أَن ذَلِك من خَصَائِص الْقَتْل، فقد حصل لَهُ ذَلِك أَيْضا من أَكلَة خَيْبَر، صرح ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَغَيرهمَا بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاتَ شَهِيدا. ثَانِيهَا: حَدِيث أنس يرفعهُ: " الْأَنْبِيَاء أَحيَاء فِي قُبُورهم يصلونَ ". وَفِي لفظ عِنْد الْبَيْهَقِيّ: " الْأَنْبِيَاء لَا يتركون فِي قُبُورهم بعد أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَلَكنهُمْ يصلونَ بَين يَدي الله عز وَجل حَتَّى ينْفخ فِي الصُّور ". ثَالِثهَا: حَدِيث أنس عِنْد مُسلم: " أتيت على مُوسَى لَيْلَة أسرِي بِي وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي قَبره ". رَابِعهَا: حَدِيث الْإِسْرَاء ورؤيته الْأَنْبِيَاء وَذكره لكل أحد أَنه على صُورَة كَذَا وبهيئة كَذَا ومستند إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور، وأمثال ذَلِك دَلَائِل قَاطِعَة على أَنهم أَحيَاء بأجسادهم. خَامِسهَا: حَدِيث أَوْس بن أَوْس " إِن الله حرم على الأَرْض أَن تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء ". وَفِيه دَلِيل وَاضح وَقد ذهب إِلَى مَا ذكرنَا دَلِيله وأوضحنا حجَّته جماعته من أهل الْعلم وصرحوا بِهِ، مِنْهُم الإِمَام الْبَيْهَقِيّ والأستاذ أَبُو

الْقَاسِم الْقشيرِي وَأَبُو حَاتِم بن حبَان وَأَبُو طَاهِر الْحُسَيْن بن عَليّ الأردستاني، وَصرح بِهِ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح ومحيي الدّين النَّوَوِيّ والحافظ محب الدّين الطَّبَرِيّ وَغَيرهم. وَأما حَدِيث: " لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد ". فَلَا دلَالَة فِيهِ على النَّهْي عَن الزِّيَارَة، بل هُوَ حجَّة فِي ذَلِك، وَمن جعله دَلِيلا على حُرْمَة الزِّيَارَة فقد أعظم الجرأة على الله وعَلى رَسُوله، وَفِيه برهَان قَاطع على غباوة قَائِله، وقصوره عَن ذوق صافي الْعلم، وقصوره عَن نيل دَرَجَة كَيْفيَّة الاستنباط وَالِاسْتِدْلَال، والْحَدِيث فِيهِ دَلِيل على اسْتِحْبَاب الزِّيَارَة من وَجْهَيْن؛ الأول: أَن مَوضِع قَبره الشريف أفضل بقاع الأَرْض، وَهُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل الْخلق وَأكْرمهمْ على الله تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لم يقسم بحياة أحد غَيره، وَأخذ الْمِيثَاق من الْأَنْبِيَاء بِالْإِيمَان بِهِ وبنصره، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: " وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه. . " الْآيَة. وشرفه بفضله على سَائِر الْمُرْسلين وَكَرمه؛ بِأَن ختم بِهِ النَّبِيين وَرفع دَرَجَته فِي عليين، فَإِذا تقرر أَنه أفضل المخلوقين وَأَن تربته أفضل بقاع الأَرْض، اسْتحبَّ شدّ الرّحال إِلَيْهِ وَإِلَى تربته بطرِيق الأولى. الْوَجْه الثَّانِي: أَنه اسْتحبَّ شدّ الرّحال إِلَى مَسْجِد الْمَدِينَة، وَلَا يتَصَوَّر من الْمُؤمنِينَ المخلصين انفكاك قَصده عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَيف يتَصَوَّر أَن الْمُؤمن الْمُعظم قدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يدْخل مَسْجده ويشاهد حجرته ويتحقق أَنه يسمع كَلَامه ثمَّ بعد ذَلِك يَسعهُ أَن لَا يقْصد الْحُجْرَة والقبر، وَيسلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا مِمَّا لَا خَفَاء فِيهِ على أحد، وَكَذَلِكَ لَو قصد زِيَارَة قَبره لم يَنْفَكّ قَصده عَن قَصده الْمَسْجِد، وَمن الدَّلِيل على الزِّيَارَة الْأَحَادِيث الْكَثِيرَة الصَّحِيحَة فِي فضل زِيَارَة الإخوان فِي الله، فزيارة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى وَأولى. وَمِنْهَا: أَن حرمته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِبَة حَيا وَمَيتًا، وَلَا شكّ أَن الْهِجْرَة إِلَيْهِ كَانَت فِي حَيَاته من أهم الْأَشْيَاء فَكَذَا بعد مَوته. وَمِنْهَا: الْأَحَادِيث الدَّالَّة على اسْتِحْبَاب زِيَارَة الْقُبُور، وَهَذَا فِي حق الرِّجَال مجمع عَلَيْهِ، وَفِي حق النِّسَاء فِيهِ خلاف، هَذَا فِي غير قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَأما زِيَارَة قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالإجماع على استحبابها للرِّجَال وَالنِّسَاء. وَمِنْهَا: أَن الْإِجْمَاع على جَوَاز شدّ الرّحال للتِّجَارَة وَتَحْصِيل الْمصَالح الدُّنْيَوِيَّة فَهَذَا أولى؛ لِأَنَّهُ من أعظم الْمصَالح الأخروية. وَمِنْهَا: إِجْمَاع النَّاس العملي على زيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشد الرّحال إِلَيْهِ بعد الْحَج، من بعد وَفَاته إِلَى زَمَاننَا هَذَا. وَمِنْهَا: الْإِجْمَاع القولي. قَالَ

القَاضِي عِيَاض: زِيَارَة قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة من الْمُسلمين مجمع عَلَيْهَا. وَأما الْآثَار فكثيرة جدا، عَن يزِيد الْمهْدي قَالَ: لما ودعت عمر بن عبد الْعَزِيز قَالَ: إِنِّي لي إِلَيْك حَاجَة. قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَيفَ ترى حَاجَتك عِنْدِي؟ قَالَ: إِنِّي أَرَاك إِذا أتيت الْمَدِينَة سترى قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأقرئه مني السَّلَام. وَعَن حَاتِم بن وردان قَالَ: كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يُوَجه الْبَرِيد قَاصِدا من الشَّام إِلَى الْمَدِينَة، ليقرئ عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّلَام. وَفِي بَاب الْحَج من فَتَاوَى الْفَقِيه أبي اللَّيْث قَالَ أَبُو الْقَاسِم: لما أردْت الْخُرُوج إِلَى مَكَّة قَالَ الْقَاسِم بن غَسَّان: إِن لي إِلَيْك حَاجَة إِذا أتيت قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأقرئه مني السَّلَام. فَلَمَّا وضعت رجْلي فِي مَسْجِد الْمَدِينَة ذكرت لَك. قَالَ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث: فِيهِ دَلِيل أَن من لم يقدر على الْخُرُوج فَأمر غَيره ليسلم عَنهُ فَإِنَّهُ ينَال فضل السَّلَام إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِي مُسْند الدَّارمِيّ: أَنه لما كَانَ أَيَّام الْحرَّة لم يُؤذن فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثًا وَلم يقم وَلم يبرح سعيد بن الْمسيب فِي الْمَسْجِد، وَكَانَ لَا يعرف وَقت الصَّلَاة إِلَّا بهمهمة يسْمعهَا من قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن أم الدَّرْدَاء قَالَت: لما رَحل عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ من فتح بَيت الْمُقَدّس فَصَارَ إِلَى الخابية، فَسَأَلَهُ بِلَال أَن يقره بِالشَّام فَفعل ذَلِك، فَقَالَ: وَأخي أَبُو رويحة يَعْنِي عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الْخَثْعَمِي الَّذِي آخى بيني وَبَينه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنزل دَارنَا فِي خولان فَأقبل هُوَ وَأَخُوهُ إِلَى قوم من خولان، فَقَالَ لَهُم: إِنَّا قد أَتَيْنَاكُم خاطبين، وَقد كُنَّا كَافِرين فهدانا الله تَعَالَى، ومملوكين فأعتقنا الله تَعَالَى، وفقيرين فأغنانا الله تَعَالَى، فَإِن تزوجونا فَالْحَمْد لله تَعَالَى، وَإِن تردونا فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، فزوجوهما، ثمَّ إِن بِلَالًا رأى فِي مَنَامه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يَقُول: مَا هَذِه الجفوة يَا بِلَال أما آن لَك أَن تزورني. فانتبه بِلَال حَزينًا وجلاً خَائفًا، فَركب رَاحِلَته وَقصد الْمَدِينَة فَأتى قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعل يبكي عِنْده ويمرغ وَجهه عَلَيْهِ، فَأقبل الْحسن وَالْحُسَيْن فَجعل يضمهما ويقبلهما، فَقَالَا لَهُ: يَا بِلَال نشتهي نسْمع أذانك الَّذِي كنت تؤذن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد فَفعل، فعلا سطح الْمَسْجِد فَوقف موقفه الَّذِي كَانَ يقف فِيهِ، فَلَمَّا قَالَ: الله أكبر الله أكبر ارتجت الْمَدِينَة، فَلَمَّا قَالَ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ازدادت رجتها، فَلَمَّا قَالَ: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله خرجت الْعَوَاتِق من خُدُورهنَّ، وَقَالُوا: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا رُؤِيَ يَوْم أَكثر باكياً وَلَا باكية بِالْمَدِينَةِ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك، ذكره ابْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمَة بِلَال. وَلَيْسَ الِاعْتِمَاد فِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث على رُؤْيا الْمَنَام فَقَط، بل على فعل بِلَال وَهُوَ

واما كيفيه زيارته صلي الله عليه وسلم وزياره ضجيعيه رضي الله عنهما

صَحَابِيّ لَا سِيمَا فِي خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ، وَالصَّحَابَة متوافرون وَلَا تخفى عَنْهُم هَذِه الْقِصَّة، فسفر بِلَال فِي زمن صدر الصَّحَابَة لم يكن إِلَّا للزيارة وَالسَّلَام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ إبراد عمر بن عبد الْعَزِيز الْبَرِيد من الشَّام فِي زمن صدر التَّابِعين فَلَا يقل من لَا علم لَهُ: إِن السّفر لمُجَرّد الزِّيَارَة لَيْسَ بِسنة. وَأنْشد بَعضهم: تَمام الْحَج أَن تقف المطايا ... على ليلى وتقرئها السلاما " وَفِي الْوَاقِعَات ": الْأَحْسَن بالحاج أَن يبْدَأ بِمَكَّة فَإِذا قضى نُسكه بِمَكَّة أَتَى الْمَدِينَة، لِأَن الْحَج فرض والزيارة سنة، وَلَو كَانَ الْحَج غير حجَّة الْإِسْلَام يبْدَأ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَو بَدَأَ بِالْمَدِينَةِ فِي الْوَجْه الأول جَازَ، وَإِذا نوى زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلينو مَعَ ذَلِك زِيَارَة مَسْجده؛ لِأَنَّهُ أحد الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة. وَأما كَيْفيَّة زيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزيارة ضجيعيه رَضِي الله عَنْهُمَا : فَإِذا توجه إِلَى زِيَارَة قَبره الشريف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم على سيدنَا مُحَمَّد البشير النذير صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طَرِيقه، وَيَنْبَغِي أَن ينيخ بالبطحاء الَّتِي بِذِي الحليفة وَهِي المعرس وَيُصلي بهَا؛ تأسياً بسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا شَدِيد الْحِرْص على ذَلِك، ويروى عَن نَافِع أَنه انْقَطع عَن ابْن عمر حَتَّى سبقه إِلَى المعرس ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: مَا حَبسك عني، فَأخْبرهُ فَقَالَ: إِنِّي ظَنَنْت أَنَّك أخذت الطَّرِيق الْأُخْرَى وَلَو فعلت لأوجعتك ضربا. وليزد فِي الصَّلَاة وَالسَّلَام عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا وَقع بَصَره على معاهد الْمَدِينَة وحرمها ونخيلها وآبارها، وَكلما قرب من الْمَدِينَة وعمرانها زَاد من الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم، وَسَأَلَ الله تَعَالَى أَن يَنْفَعهُ بزيارته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ويستشعر تَعْظِيم عرصاتها ويتخيل منازلها ورحباتها فَإِنَّهَا المواطن الَّتِي عمرت بِالْوَحْي والتنزيل، وَكثر فِيهَا تردد أبي الْفتُوح جِبْرِيل وَأبي الْغَنَائِم مِيكَائِيل، واشتملت تربَتهَا على جَسَد سيد الْبشر، وانتشر عَنْهَا من دين الله تَعَالَى وَسنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا انْتَشَر، وَقد أحسن ناظم هَذِه الأبيات راداً على من أنكر سَماع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمصلى عَلَيْهِ الصَّلَاة، وَهِي هَذِه الأبيات: أَلا أَيهَا الغادي إِلَى يثرب مهلا ... لتحمل شوقاً مَا أُطِيق لَهُ حملا تحمل رعاك الله مني تَحِيَّة ... وَبلغ سلامي روح من طيبَة حلا وقف عِنْد ذَاك الْقَبْر فِي الرَّوْضَة الَّتِي ... تكون على يمنى الْمُصَلِّي إِذا صلى وقم خاضعاً فِي مهبط الْوَحْي خَاشِعًا ... وخفض هُنَاكَ الصَّوْت واسمع لما يُتْلَى

وناد سَلام الله يَا قبر أَحْمد ... على جَسَد لم يبل فِيك وَلنْ تبلى تراني أَرَانِي عِنْد قبرك قَائِما ... يناديكم عبد مَاله غَيْركُمْ مولى وَتسمع عَن قرب صَلَاتي مِثْلَمَا ... تبلغ عَن بعد صَلَاة الَّذِي صلى أناديك يَا خير الْخَلَائق وَالَّذِي ... بِهِ ختم الله النَّبِيين والرسلا نَبِي الْهدى لولاك لم نَعْرِف الْهدى ... ولولاك لم نَعْرِف حَرَامًا وَلَا حلا ولولاك لَا وَالله مَا كَانَ كَائِن ... وَلم يخلق الرَّحْمَن جُزْءا وَلَا كلا وَاسْتحبَّ بعض الْعلمَاء أَن يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا حرم رَسُولك فاجعله لي وقاية من النَّار، وأماناً من الْعَذَاب وَسُوء الْحساب، اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أَبْوَاب رحمتك، وارزقني فِي زِيَارَة رَسُولك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا رزقته أولياءك وَأهل طَاعَتك، واغفر لي وارحمني يَا خير مسئول. وَمَا يَفْعَله بعض النَّاس من النُّزُول عَن الرَّوَاحِل عِنْد رُؤْيَتهمْ الْمَدِينَة وَالْحرم النَّبَوِيّ، ومشيهم إِمَّا قَلِيلا أَو إِلَى أَن يصلوا لَا بَأْس بِهِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر على وَفد عبد الْقَيْس حِين نزلُوا عَن الرَّوَاحِل لما رَأَوْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وتعظيم جِهَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحرمه الْمُقَدّس بعد وَفَاته كَهُوَ فِي حَيَاته. وَحكى القَاضِي عِيَاض فِي " الشِّفَاء ": أَن أَبَا الْفضل الْجَوْهَرِي لما ورد الْمَدِينَة زَائِرًا وَقرب من بيوتها ترجّل وَمَشى باكياً، منشداً: وَلما رَأينَا من لم يدع لنا ... فؤاداً لعرفان الرسوم وَلَا لبّى نزلنَا عَن الأكوار نمشي كَرَامَة ... لمن بَان عَنهُ أَن نلمّ بِهِ ركبا وَيَنْبَغِي أَن يغْتَسل عِنْد دُخُولهَا أَو يتَوَضَّأ كَمَا ذكرنَا فِي دُخُول مَكَّة، ويلبس أنظف ثِيَابه والجديد أفضل ويتطيب، ثمَّ يدْخل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة قَائِلا: بِسم الله رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق وَاجعَل لي من لَدُنْك سُلْطَانا نَصِيرًا، وَليكن خاضعاً خَاشِعًا مُعظما لحرمتها، مكثراً من الصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاصِدا الْمَسْجِد الشريف، وليحضر فِي نَفسه شرف الْبقْعَة وجلالة من شرفت بِهِ، وَأَنَّهَا دَار هجرته ومهبط وحيه وأصل الْأَحْكَام ومنبع الْإِيمَان، وَليكن ممتلئ الْقلب من هيبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّهُ يرَاهُ، وليمتثل فِي نَفسه إِذا مَشى مَوَاضِع الْأَقْدَام الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة فَلَعَلَّهُ فِي مَوضِع قَدَمَيْهِ العزيزتين، فَلَا يضع قدمه إِلَّا بسكينة ووقار كَمَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمشي، وَمن الْأَدَب إِذا دَخلهَا أَن لَا يركب فِيهَا كَمَا كَانَ مَالك رَحمَه الله يفعل وَكَانَ يَقُول: استحيى من الله عز وَجل أَن أَطَأ

تربة فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحافر دَابَّة. فغذا وصل بَاب الْمَسْجِد الشريف فَيدْخل من بَاب جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَيقدم رجله الْيُمْنَى فِي الدُّخُول واليسرى فِي الْخُرُوج وَليقل مَا قدمْنَاهُ فِي دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام، وليدخل بخضوع وتذلل وأدب، حامداً لله تَعَالَى شاكراً لَهُ على نعْمَته عَلَيْهِ، وَاسْتحبَّ الْعلمَاء أَن يقْصد أول دُخُوله الرَّوْضَة المقدسة وَهِي بَين الْمِنْبَر والقبر الْمُقَدّس، فَيصَلي تَحِيَّة الْمَسْجِد فِي مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي الحفرة أَو فِي غَيره من الرَّوْضَة أَو من الْمَسْجِد، فَإِذا صلى التَّحِيَّة شكر الله تَعَالَى على مَا أنعم بِهِ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ إتْمَام النِّعْمَة بقبوله زيارته. قَالَ الْكرْمَانِي: وَيسْجد بعد تَحِيَّة الْمَسْجِد سَجْدَة شكرا لله تَعَالَى على وُصُوله إِلَى تِلْكَ الْبقْعَة الشَّرِيفَة وَالرَّوْضَة المنيفة. وَفِي " الِاخْتِيَار ": يسْجد شكرا لله على مَا وَقفه، فَإِن خَافَ فَوت الْمَكْتُوبَة بَدَأَ بهَا وكفته عَن تَحِيَّة الْمَسْجِد، ثمَّ ينْهض إِلَى الْقَبْر الشريف الْمُقَدّس من نَاحيَة الْقبْلَة فيقف قبالة وَجهه الشريف. قَالَ رشيد الدّين: فيستدبر الْقبْلَة وَيسْتَقْبل المسمار الْفضة الَّذِي بجدار الْقَبْر الْمُقَدّس، على نَحْو أَرْبَعَة أَذْرع من السارية الَّتِي هِيَ غربي رَأس الْقَبْر الشريف فِي زَاوِيَة جِدَاره. وَقَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام: يقف على نَحْو ثَلَاثَة أَذْرع من الْجِدَار وَيجْعَل الْقنْدِيل الْكَبِير على رَأسه، نَاظرا إِلَى الأَرْض غاض الطّرف فِي مقَام الهيبة والتعظيم والإجلال، فارغ الْقلب من علائق الدُّنْيَا، مستحضراً فِي نَفسه جلالة موقفه ومنزلة من هُوَ بِحَضْرَتِهِ، وَعلمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحُضُورِهِ وقيامه وَسَلَامه، ويمثل صورته الشَّرِيفَة فِي حَيَاته مَوْضُوعا فِي لحده. واستدبار الْقبْلَة هُوَ الْمُسْتَحبّ عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيَّة والحنابلة. وَاخْتلفت عبارَة أَصْحَابنَا فِي ذَلِك: فَفِي مَنَاسِك الْفَارِسِي والكرماني عَن أبي اللَّيْث: يقف مُسْتَقْبل الْقبْلَة مستدبر الْقَبْر الْمُقَدّس، وَيَضَع يَمِينه على شِمَاله كَمَا فِي الصَّلَاة وَهَذَا شَاذ، وَالصَّحِيح الْمُعْتَمد عَلَيْهِ أَنه يقف عِنْد الرَّأْس الْمُقَدّس بِحَيْثُ يكون على يسَاره، وَيبعد عَن الْجِدَار قدر أَرْبَعَة أَذْرع، ثمَّ يَدُور إِلَى أَن يقف قبالة الْوَجْه الْمُقَدّس مستدبر الْقبْلَة، وَيُصلي عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يسلم على أبي بكر وَعلي وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا. وروى الإِمَام أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فِي مُسْنده عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: من السّنة أَن تَأتي قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قبل الْقبْلَة، وَتجْعَل ظهرك إِلَى الْقبْلَة وتستقبل الْقَبْر بِوَجْهِك ثمَّ تَقول: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. وَلَيْسَ من السّنة أَن يمس الْجِدَار أَو يقبله بل الْوُقُوف من الْبعد أقرب إِلَى الْإِحْرَام، وَمن الْآدَاب أَن

لَا يرفع صَوته بِالتَّسْلِيمِ وَلَا يمس الْقَبْر بِيَدِهِ وَلَا يقف عِنْد الْقَبْر طَويلا، ويرون أَن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور نَاظر مَالك بن أنس فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ مَالك: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا ترفع صَوْتك فِي هَذَا الْمَسْجِد، فَإِن الله عز وَجل أدب قوما فَقَالَ: " لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي " الْآيَة. ومدح قوما فَقَالَ: " إِن الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتهم عِنْد رَسُول الله ". الْآيَة. وذم أقوما فَقَالَ: " إِن الَّذين يُنَادُونَك من وَرَاء الحجرات " الْآيَة. وَإِن لِحُرْمَتِهِ مَيتا كحرمته حَيا. فاستكان لَهَا أَبُو جَعْفَر وَقَالَ: يَا أَبَا عبد الله أستقبل الْقبْلَة وأدعو، أم أستقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: وَلم تصرف وَجهك عَنهُ، وَهُوَ وسيلتك ووسيلة أَبِيك آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة، بل استقبله واستشفع بِهِ فيشفعه الله فِيك. رَوَاهُ الْحَافِظ ابْن بشكوال، ثمَّ القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله فِي " الشِّفَاء ". قَالَ ابْن جمَاعَة: وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من زعم أَنه مَوْضُوع، لهواه الَّذِي أَرَادَهُ. قَالَ الْحَافِظ محب الدّين: وعلامة الْوُقُوف تجاه الْوَجْه الْكَرِيم مِسْمَار فضَّة مَضْرُوبَة فِي رخامة حَمْرَاء. قَالَ الْمرْجَانِي فِي " بهجة النُّفُوس ": وَجَمِيع التواريخ الْمُتَقَدّمَة يذكرُونَ الْعَلامَة بالمسمار ويصفونه بِأَنَّهُ صفر وَلَعَلَّه غيّر، وَالَّذِي هُوَ مَوْجُود الْآن عيَانًا ومشاهدة أَنه من فضَّة. وَالله أعلم. وَأما الدّلَالَة بالقنديل فَقَالَ الشَّيْخ جمال الدّين: الْآن هُنَالك عدَّة قناديل جددت بعد احتراق الْمَسْجِد، ثمَّ قَالَ: وموقف النَّاس الْيَوْم للسلام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَرصَة بَيت أم الْمُؤمنِينَ حَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَ الْمرْجَانِي: وَذكر لي بعض المتبصرين أَنه أَتَى للسلام على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرى فِي الْحجر الْأسود الَّذِي تَحت الرخامة الْحَمْرَاء الَّذِي فِيهَا المسمار الْفضة، صُورَة شخص لَهُ شعر طَوِيل، مرّة يعرفهُ وَمرَّة يتْركهُ، وَهُوَ ينظر إِلَى من يَأْتِي للسلام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

كيفيه السلام عليه صلي الله عليه وسلم حال الزياره والسلام علي ضجيعيه رضي الله عنهما

فَمرَّة يتبسم فِي وَجه الْمُسلم وَمرَّة لَا ينظر إِلَى أحد، وَأكْثر قعوده ثَانِيًا إِحْدَى رجلَيْهِ نصف تربيعة وركبته الْأُخْرَى قَائِمَة، وَمن جَانِبه الْأَيْمن مِمَّا يَلِي الرَّوْضَة شخص آخر، وَمن جَانِبه الآخر الْأَيْسَر الْبكْرِيّ شخصان آخرَانِ، قَالَ الراءي: فعدمت الْخُشُوع فِي ذَلِك الْمحل الشريف بِسَبَب رؤيتي لَهما وشغل خاطري بهما. قَالَ الْمرْجَانِي: إِشَارَة أَيْضا إِلَى إِثْبَات الْوَقار وَالْحُرْمَة المحركة لخواطر الِاعْتِبَار، سَمِعت وَالِدي رَحمَه الله يَقُول: صلينَا يَوْمًا الظّهْر بحرم الْمَدِينَة، وَأَقْبل طَائِر عَظِيم أَبيض طَوِيل السَّاقَيْن أَتَى من جِهَة بَاب السَّلَام، وَهُوَ يطير مَعَ جِدَار الْقبْلَة، وَقد مَلأ جناحاه مَا بَين الْحَائِط القبلي والسواري، فَلَمَّا حَاذَى الْمِحْرَاب وقف وَمَشى قَلِيلا قَلِيلا إِلَى أَن وصل إِلَى الشباك موقف الْمُسلمين على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاسْتقْبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووقف، وَجعل يضع منقاره على الأَرْض وَيَرْفَعهُ مرَارًا إِلَى أَن فرغ النَّاس من صلَاتهم، واجتمعوا عَلَيْهِ ينظرونه ثمَّ مَشى حَتَّى خرج إِلَى صحن الْمَسْجِد إِلَى نَحْو الْحِجَارَة الَّتِي يذكر أَنَّهَا حد الْمَسْجِد الْقَدِيم، ثمَّ فتح أجنحته وطار مرتفعاً فِي الجو غير مائل يَمِينا وَلَا شمالاً حَتَّى غَابَ عَن أَعيننَا. كَيْفيَّة السَّلَام عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال الزِّيَارَة وَالسَّلَام على ضجيعيه رَضِي الله عَنْهُمَا : ليقل بخضوع قلب وغض طرف وخفض صَوت وَسُكُون جوارح: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا نَبِي الله، وَالسَّلَام عَلَيْك يَا خيرة الله من خلقه، السَّلَام عَلَيْك يَا حبيب الله، السَّلَام عَلَيْك يَا صفوة الله، السَّلَام عَلَيْك يَا سيد الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ، السَّلَام عَلَيْك يَا خَاتم النَّبِيين، السَّلَام عَلَيْك يَا خير الْخَلَائق أَجْمَعِينَ، السَّلَام عَلَيْك يَا قَائِد الغر المحجلين، السَّلَام عَلَيْك وعَلى أهل بَيْتك الطاهرين، السَّلَام عَلَيْك وعَلى أَزوَاجك الطاهرات أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ، السَّلَام عَلَيْك وعَلى أَصْحَابك وآلك أَجْمَعِينَ، السَّلَام عَلَيْك وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَسَائِر عباد الله الصَّالِحين، السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، جَزَاك الله عَنَّا يَا رَسُول الله أفضل مَا جزى نَبيا ورسولاً عَن أمته، صلى الله عَلَيْك كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عَن ذكرك الغافلون، وَصلى عَلَيْك فِي الْأَوَّلين والآخرين أفضل وأكمل وَأطيب مَا صلى على أحد من خلقه أَجْمَعِينَ، كَمَا استنقذنا بك من الضَّلَالَة، وبصرنا بك من العماية، وهدانا بك من الْجَهَالَة، أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَنَّك عَبده وَرَسُوله وأمينه وَخيرته من خلقه، وَأشْهد يَا رَسُول الله أَنَّك بلغت الرسَالَة، وَأديت الْأَمَانَة، وَنَصَحْت الْأمة، وكشفت الْغُمَّة، وجاهدت فِي الله حق جهاده، وعبدت رَبك حَتَّى أَتَاك الْيَقِين، وَنحن وفدك يَا رَسُول الله وأضيافك، جِئْنَا إِلَى جنابك الْكَرِيم من بِلَاد شاسعة وأماكن بعيدَة، نقصد بذلك قَضَاء

حَقك علينا، وَالنَّظَر إِلَى مآثرك، والتيمن بزيارتك، والتبرك بِالسَّلَامِ عَلَيْك، والاستشفاع بك إِلَى رَبنَا عز وَجل، فَإِن خطايانا قد قصمت ظُهُورنَا، وأوزارنا قد أثقلت كواهلنا، وَأَنت الشافع المشفع، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لَهُم الرَّسُول لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما ". وَقد جئْنَاك يَا رَسُول الله ظالمين لأنفسنا مستغفرين لذنوبنا، فاشفع لنا إِلَى رَبنَا، واسأله أَن يميتنا على سنتك، ويحشرنا فِي زمرتك، ويسقينا بكأسك غير خزايا وَلَا ندامى، ويرزقنا مرافقتك فِي الفردوس الْأَعْلَى مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا، يَا رَسُول الله الشَّفَاعَة الشَّفَاعَة، اللَّهُمَّ صلي على مُحَمَّد وعَلى آله مُحَمَّد، وَإنَّهُ نِهَايَة مَا يَنْبَغِي أَن يسْأَله السائلون، وخصة بالْمقَام الْمَحْمُود والوسيلة والفضيلة والدرجة الْعَالِيَة، وبغاية مَا يَنْبَغِي أَن يأمله الآملون، اللَّهُمَّ صلي على مُحَمَّد عَبدك وَرَسُولك النَّبِي الْأُمِّي وعَلى آل مُحَمَّد وأزواجه وَذريته، كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم، وَبَارك على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد وأزواجه وَذريته، كَمَا باركت على إِبْرَاهِيم وعَلى آل إِبْرَاهِيم فِي الْعَالمين إِنَّك حميد مجيد، ثمَّ يتَحَوَّل إِلَى صوب يَمِينه بِقدر ذِرَاع فَيسلم على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ؛ لِأَن رَأسه بحيال منْكب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْأَكْثَرين، فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْك يَا خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصفيه وثانيه فِي الْغَار أَبَا بكر الصّديق، جَزَاك الله عَن أمة مُحَمَّد خيرا، ولقاك فِي الْقِيَامَة أمنا وَبرا، ثمَّ يتَأَخَّر إِلَى صوب يَمِينه بِقدر ذِرَاع فَيسلم على عمر؛ لِأَن رَأسه عِنْد منْكب أبي بكر رَضِي الله عَنهُ عِنْد الْأَكْثَرين، فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر الْفَارُوق الَّذِي أعز الله بك الْإِسْلَام، جَزَاك الله عَن الْإِسْلَام وَأمة نبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيرا. وَمن قَالَ من الْحَنَفِيَّة: إِنَّه يسْتَقْبل الْقبْلَة عِنْد السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا أَرَادَ السَّلَام على أبي بكر يتَحَوَّل عَن يسَاره مِقْدَار ذِرَاع، وَكَذَلِكَ يفعل للسلام على عمر رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ يرجع إِلَى موقفه الأول قبالة وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيحمد الله تَعَالَى ويمجده، وَيُصلي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويتوسل إِلَى الله تَعَالَى فِي حَوَائِجه، ويستشفع بِهِ إِلَى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَدْعُو لنَفسِهِ ولوالديه وَلِلْمُؤْمنِينَ وَلمن أحب بِمَا أحب، وَيخْتم دعاءه بآمين وبالصلاة على سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي " مَنَاسِك الْفَارِسِي ": إِذا فرغ من السَّلَام على عمر رَضِي الله عَنهُ يرجع قدر نصف ذِرَاع فيقف بَين رَأس الصّديق وَرَأس الْفَارُوق وَيَقُول: السَّلَام عَلَيْكُمَا يَا ضجيعي

رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، السَّلَام عَلَيْكُمَا يَا صَاحِبي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، السَّلَام عَلَيْكُمَا يَا وزيري رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، المعاونين لَهُ فِي الدّين والعاملين بسنته حَتَّى أتاكما الْيَقِين، فجزاكما الله خير جَزَاء، جِئْنَا يَا صَاحِبي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زائرين لنبينا وصديقنا وفاروقنا، وَنحن نتوسل بكما إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليشفع لنا. انْتهى. وَكَذَلِكَ ذكر فِي " الِاخْتِيَار ". ثمَّ يتَقَدَّم إِلَى رَأس الْقَبْر الشريف فيقف بَين الْقَبْر والاسطوانة الَّتِي هُنَاكَ، وَيسْتَقْبل الْقبْلَة وَيجْعَل الرَّأْس الْمُقَدّس عَن يسَاره ويحمد الله تعلى ويثنى عَلَيْهِ، وَيُصلي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَدْعُو لنَفسِهِ وَلمن أحب بِمَا أحب. قَالَ قَاضِي الْقُضَاة عز الدّين بن جمَاعَة: وماذكره من الْعود إِلَى قبالة وَجهه الشريف وَمن التَّقَدُّم إِلَى رَأس الْقَبْر الْمُقَدّس للدُّعَاء عقب الزِّيَارَة، لم ينْقل عَن فعل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ رَحِمهم الله؛ وَمن عجز عَن حفظ مَا قدمنَا ذكره عِنْد السَّلَام عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو ضَاقَ وقته اقْتصر على بعضه، واقله السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والمروي عَن جمَاعَة من السّلف أَلا يجاز فِي هَذَا جدا، فَعَن الإِمَام مَالك رَحمَه الله أَنه كَانَ يَقُول: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. وَعَن ابْن عمر أَنه كَانَ إِذا قدم من سفر دخل الْمَسْجِد، ثمَّ أَتَى الْقَبْر الشريف وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَا بكر، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه ثمَّ ينْصَرف. ثمَّ إِن كَانَ أحد أوصاه بِالسَّلَامِ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلْيقل: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله من فلَان بن فلَان، أَو فلَان بن فلَان يسلم عَلَيْك يَا رَسُول الله، أَو نَحْو هَذَا من الْعبارَات. ويروى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ يوصى بذلك وَيُرْسل الْبَرِيد من الشَّام بذلك كَمَا قدمْنَاهُ. وروى ابْن أبي فديك وَهُوَ من عُلَمَاء أهل الْمَدِينَة، وَمِمَّنْ روى عَنهُ الشَّافِعِي قَالَ: سَمِعت بعض من أدْركْت يَقُول: بلغنَا أَن من وقف عِنْد قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتلا هَذِه الْآيَة: " إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي ". الْآيَة ثمَّ قَالَ: صلى الله عَلَيْك يَا مُحَمَّد سبعين مرّة، ناداه ملك صلى الله عَلَيْك يَا فلَان، وَلم يسْقط لَهُ حَاجَة. وَمن أحسن مَا

يَقُول مَا حَكَاهُ الْعلمَاء عَن العتبى " مستحبين " قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجَاء أَعْرَابِي فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله سَمِعت الله يَقُول: " وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لَهُم الرَّسُول لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما ". وَقد جئْتُك مُسْتَغْفِرًا من ذَنبي، مستشفعاً بك إِلَى رَبِّي، ثمَّ أنشأ يَقُول: يَا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نَفسِي الْفِدَاء لقبر أَنْت ساكنه ... فِيهِ العفاف وَفِيه الْجُود وَالْكَرم ثمَّ اسْتغْفر وَانْصَرف، فغلبتني عَيْنَايَ فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام فَقَالَ: يَا عتبى الْحق بالأعرابي فبشره أَن الله قد غفر لَهُ. قَالَ بعض الْعلمَاء: يَقُول الزائر بعد السَّلَام وَالصَّلَاة عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ إِنَّك قلت وقولك الْحق: " وَلَو أَنهم إِذْ ظلمُوا أنفسهم جاءوك ". الْآيَة. اللَّهُمَّ إِنَّا قد سمعنَا قَوْلك وأطعنا أَمرك، وقصدنا نبيك هَذَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستشفعين بِهِ إِلَيْك من ذنوبنا، وَمَا اثقل ظُهُورنَا من أوزارنا، تَائِبين إِلَيْك من زللنا، معترفين بخطايانا وتقسيرنا، اللَّهُمَّ فتب علينا، وشفع نبيك هَذَا فِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وارفعنا بِمَنْزِلَتِهِ عنْدك وَحقه عَلَيْك، اللَّهُمَّ اغْفِر للمهاجرين وَالْأَنْصَار وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلاً للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم، وَللَّه در هَذَا الْأَعرَابِي حَيْثُ استنبط من الْآيَة الْكَرِيمَة الْمَجِيء إِلَى زيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَوته مُسْتَغْفِرًا، فَإِن ذَلِك أظهر فِي قصد التَّعْظِيم وَصدق الْإِيمَان، واستغفار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْمَوْت حَاصِل؛ لِأَنَّهُ الشَّفِيع الْأَكْبَر يَوْم الْقِيَامَة والوسيلة الْعُظْمَى فِي طلب الغفران وَرفع الدَّرَجَات، من بَين سَائِر ولد آدم، والمجيء إِلَيْهِ بعد مَوته تَجْدِيد لتأكيد التوسل بِهِ إِلَى الله تَعَالَى وَقت الْحَاجة، وَقد خمس هذَيْن الْبَيْتَيْنِ الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَمِين الأقشهري رَحمَه الله تَعَالَى فَقَالَ: خير المزار لدُنْيَا ثمَّ أعظمه ... وَخير من سرّ عرش الرب مقدمه ناديته بمقول وَهُوَ أقومه ... يَا خير من دفنت فِي الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم طُوبَى لجاركم طابت مساكنه ... جَار بجار وجار المرتع آمنهُ قَول إِذا قلت تشفيني محاسنه ... نَفسِي الْفِدَاء لقبر أَنْت ساكنه فِيهِ العفاف وَفِيه الْجُود وَالْكَرم

قَالَ عز الدّين بن جمَاعَة: وشتان بَين هَذَا الْأَعرَابِي وَبَين من أضلّهُ الله فَحرم السّفر إِلَى زيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي من أعظم القربات كَمَا قدمْنَاهُ ولبعض زوار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَتَيْتُك زَائِرًا وودت أَنِّي ... جعلت سَواد عَيْني أمتطيه وَمَا لي لَا أَسِير على جفوني ... إِلَى قبر رَسُول الله فِيهِ قَالَ القَاضِي عِيَاض رَحمَه الله: وجدير بمواطن عمرت بِالْوَحْي والتنزيل، وَتردد بهَا جِبْرِيل وَمِيكَائِيل، وعرجت مِنْهَا الْمَلَائِكَة وَالروح، وضجت فِي عرصاتها بالتقديس وَالتَّسْبِيح، واشتملت تربَتهَا على جَسَد سيد الْبشر، وانتشر عَنْهَا من دين الله وَسنة نبيه مَا انْتَشَر، مدارس آيَات، ومساجد وصلوات، ومشاهد الْفَضَائِل والخيرات، ومعاهد الْبَرَاهِين والمعجزات، ومساكن الدّين، ومشاعر الْمُسلمين، وموقف سيد الْمُرْسلين، ومتبوأ خَاتم النَّبِيين، حَيْثُ انفجرت النُّبُوَّة وفاض عبابها، ومواطن مهبط الرسَالَة، وَأول أَرض مس جلد الْمُصْطَفى ترابها، أَن تعظم عرصاتها، وتنسم نفحاتها، وتقبّل ربوعها وجدرانها، وَأنْشد: يَا دَار خير الْمُرْسلين وَمن بِهِ ... هدى الْأَنَام وَخص بِالْآيَاتِ عِنْدِي لِأَجلِك لوعة وصبابة ... وَتَشَوُّقِ متوقد الجمرات وعليّ عهد إِن مَلَأت محاجري ... من تلكم الجدرات والعرصات لأُعَفِّرَنَّ مصون شيبي بَينهَا ... من كَثْرَة التَّقْبِيل والرشفات لَوْلَا العوادي والأعادي زرتها ... أبدا وَلَو سحباً على الوجنات لَكِن سأهدي من حفيل تحيتي ... لقطين تِلْكَ الدَّار والحجرات أزكى من الْمسك المفتق نفحة ... تغشاه بالآصال والبكرات وتخصه بزواكي الصَّلَوَات ... وتوأمي التَّسْلِيم والبركات

قَالَ مُؤَلفه: انْتهى إكماله بمعونة الله وتوفيقه على يَد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى أَحْمد أبي السرُور بن عدي بن أبي اللَّيْث بن الضياء الْحَنَفِيّ. عَامله الله بِلُطْفِهِ الْخَفي، وَمن كتب بِسَبَبِهِ، وبلغه غَايَة أربه، وَذَلِكَ فِي الْيَوْم الْمُبَارك يَوْم السبت حادي عشر محرم الْحَرَام عَام أَربع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة، وَالْحَمْد لله على التَّيْسِير والإتمام وعَلى الإفضال والإنعام، وأشكره على كل حَال، مدى الدَّهْر وَالْأَيَّام وأصلي على نَبينَا مُحَمَّد، أفضل من صلى وَحج الْبَيْت الْحَرَام وَصَامَ، الْمَبْعُوث إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود، وَالْخَاص وَالْعَام، عدد من سبح الله وقدسه من أول الدُّنْيَا إِلَى يَوْم الْقيام، وعَلى آله وَأَصْحَابه الأخيار الْأَعْلَام، جعلنَا الله فِي زمرتهم فِي دَار السَّلَام، بمنه وَكَرمه، آمين، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين. تمّ الْكتاب بعون الْملك الْوَهَّاب على يَد العَبْد الْفَقِير عَلَيْهَا: عاشور بن عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن رَجَب بن مُحَمَّد، الْبُرُلُّسِيّ أصلا، الإدكاوي مولداً، الْحُسَيْنِي الشَّافِعِي، أصلح الله شَأْنه وصانه عَمَّا شانه، وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَحَد الْمُبَارك سَابِع عشر فِي رَجَب الْفَرد الْحَرَام سنة ثَلَاثَة وَمِائَة وَألف. وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وصحيه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.

§1/1