تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة

عبد العزيز صالح

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة عن البيئة والسكان توافر لشبه الجزيرة العربية موقعها المكاني المتوسط بين بلاد الشرق الأدنى القديم، ودروها البشري المؤثر فى تكوين السلالات الأكثر عددًا بين سكانه الأقدمين، كما كان لها نصيب أيضًا من دور الوساطة والتأثير فى بعض خطوط اتصالاته واقتصادياته. وسوف يكتفي هذا الكتاب فى منهاجه العلمي بتحليل المسارات الرئيسية للتاريخ العربي القديم، والمعالم والتطورات العامة لحضاراته، مع تأجيل التوسع فى مشكلاتها وتفاصيلها إلى مجلد أكبر نصدره قريبًا على نسق بقية مؤلفاتنا الكبيرة السابقة، بمشيئة الله تعالى. وقد عرضنا فى سياق الفصل الأول من مؤلفنا عن الشرق الأدنى القديم جـ 1 - 1967 ص 9 - 13، أو 1990 ص 14 - 19 لنوعية التأثيرات المتبادلة بين بيئة شبه الجزيرة العربية وبين أهلها فى العصور القديمة التى كانوا فيها أكثر التزامًا بظروف بيئتهم وإيحاءاتها عما هم عليه الآن إلى حد كبير، وذلك من حيث مدى انطباعهم في بعض سبل معايشهم، وبعض عاداتهم وعقائدهم، وظروف تفرقهم أو تجمعهم، وبداوتهم أو تحضرهم، وتنقلهم أو استقرارهم، بخصائص الاتساع الجغرافي الكبير لشبه الجزيرة وتنوع تضاريسها بين صحراوات وواحات وجبال ووديان وسواحل، مع غلبة الطبيعة الصحراوية عليها -وما ترتب على هذا من تفاوت أسباب ونتائج الخصب أو الجفاف، ووفرة الإنتاج أو شح الموارد، ومدى الأمن أو القلق، والانطلاق أو الانطواء، واليسر أو المشقة فى المعايش والاتصالات، وهلم جرًّا. ثم من حيث تباين الفرص التى أتيحت أمام مختلف جماعات السكان هنا أو هناك فى مجالات التبادل الاقتصادي والثقافي مع بقية الشعوب الحضرية القديمة المعاصرة لهم، نتيجة لاختلاف مواقع إقامتهم بالنسبة لجيرانهم فى الداخل وفي الخارج، وبالنسبة لاتجاهات طرق التجارة البرية والبحرية الرئيسية القديمة. وعرضنا في الفصل ذاته لمسببات التحركات القبلية الداخلية القديمة، أو الهجرات الداخلية المحدودة لمختلف البطون والعشائر في شبه الجزيرة، تبعًا لتفرق

موارد الماء والتسابق إلى مناطق الكلأ. والتماس المواطن ذات الحماية الطبيعية والأمن النسبي والموارد الكافية. ثم ما ترتب على هذا كله من تنمية الروح الاستقلالية لدى القبائل وبين الأفراد، في مقابل تغليب المصالح القبلية على المصلحة العامة أو المصلحة القومية، وصعوبة قيام وحدة عامة بين السكان، حتى وحدهم دين الإسلام ودولة الإسلام. وناقشنا كذلك في شيء من التفصيل المسببات المناخية والبشرية والاقتصادية المؤدية إلى خروج الهجرات البشرية الكبيرة من شبه الجزيرة إلى أطرافها. وفاضلنا بين النظريات المرجحة لتأثير دورات الجفاف الشديد المتباعدة، وبين الآراء المرجحة لتأثيرات فترات الضعف السياسي وتحول طرق التجارة الرئيسية. كما تتبعنا المراحل المحتملة لهذه الهجرات حتى استقرارها فى مناطق الهلال الخصيب أو بقربها. الجنس والاسم: تعددت الآراء قديمًا وحديثًا حول تحديد الموطن الأصلي للجنس الغالب في شبه الجزيرة العربية، وهي آراء رغم كثرة ترديدها فى مؤلفات التاريخ القديم، لا تكاد تؤدي إلى نتائج يقينية فى سوى أمرين: أولهما أن ضخامة الكتلة الصحراوية لشبه الجزيرة قد ساعدت على النقاء الجنسي واللغوي بين أهلها، ومناطقها الوسطى بخاصة، إلى حد نسبي كبير. والقول بالنسبية هنا ضرورة علمية لازمة حيث لا وجود لسلالة بشرية لم تختلط بغيرها قط، بينما دلت الشواهد التاريخية على أن اختلاط السلالات والأمم بعضها ببعض قد يؤدي أحيانًا إلى تجديد حيويتها وثراء حضارتها، وذلك على شريطة ألا تطغى العناصر الدخيلة على العناصر الأصيلة فيها. أما الأمر الثاني فهو ترجيح انتماء سكان شبه الجزيرة العربية في لبانتهم أو فى جوهرهم إلى سلالة بشرية متجانسة ذات خصائص رئيسية متشابهة تعرف عادة باسم السلالة السامية أو الساميين. وهو اسم اصطلاحي نشر للباحث النمسوي شلوسر ( August Ludvig Schlozer) في أواخر القرن الثامن عشر 1781م، واستعاره مما ذكرته أنساب التوارة في مثل الإصحاح العاشر من سفر التكوين عن ولد لنوح عليه السلام يدعى شام أو سام في مقابل ولد آخر يدعى حام، وولد ثالث هو يافث. وتواتر استخدام اسم الساميين بين معظم الباحثين، وإن أصبح بعضهم يطلقونه أساسًا على مجموعة اللغات ذات الأصل المشترك التى استخدمها سكان شبه الجزيرة وأطرافها. وجيرانهم ممن اتصلوا بهم بصلة الدم في

الهلال الخصيب، أو بصلة الجوار والاستيطان والتعامل على الساحل الأفريقي لجنوب البحر الأحمر. وعلى الساحل الشمالي لأفريقيا لا سيما فى قرطاجة الفينيقية، وذلك أكثر مما يرتبونه على سلالة بشرية مغلقة على ذاتها. وهذا اتجاه سليم نعود إليه فى موضوع آخر. ويكفي أن نشير هنا إلى أن القرآن الكريم لم يذكر للنبي نوح عليه السلام غير ولد واحد كان من المغرقين. وذلك مما يعنى عدم ضرورة الالتزام بالرواية العبرية وإن لم ينفها تمامًا، وأن الفوارق الطبقية والشعوبية التى وضعها العبرانيون فى أنساب التوراة بين الساميين وبين الحاميين هى مفتعلة لم يسبب ظواهرها من حيث اختلاف اللون واللغة فى واقع الأمر غير الفوارق المناخية ومطالب البيئات وفوارق اللهجات. على أننا قد نضطر إلى استخدام تعبير الساميين وتعبير الحاميين أحيانًا فى سياق أحاديثنا نظرًا لشيوعهما، ولا بأس من ذلك ما دمنا نتبين حقيقة الأمر فيهما. ومع وحدة الأصل البعيد انشعبت اللغات السامية القديمة إلى شعبتين كبيرتين كانت لكل منهما فروعها العديدة، وذلك من قبل أن توحد لغة القرآن الفصحى بينهما. وكانتا: شعبة سامية غربية شاعت بقواعدها ولهجاتها فى غرب شبه الجزيرة العربية ووسطها وجنوبها وشمالها، وفي أغلب بلاد الشام وأغلب مصر، ثم بعد ذلك فى جزء من شمال أفريقيا وجزء من شمال السودان، بل وامتدت قديمًا من اليمن إلى أكسوم فى الحبشة وجزء من الساحل الأفريقي القريب منها. ثم شعبة سامية شرقية شاعت بخصائصها فى المناطق الشرقية من شبه الجزيرة العربية وما اتصل بها من نواحي الخليج العربي وجزره، وبلاد النهرين أو العراق القديم. وكنموذج للصلات القديمة بين الأصول وبين الفروع من هذه الشعوب المتجاورة قدمنا في الفصل الأول من كتاب الشرق الأدنى القديم نماذج من أوجه التشابه بين بعض قواعد اللغة العربية وبين بعض قواعد اللغة المصرية القديمة، على الرغم من اختلاف صور الكتابة بينهما- وذلك مع تقدير أن قواعد اللغات لا يمكن أن تنتقل مع التجارة أو باتصلات عارضة شأنها شأن المفردات اللفظية، وإنما يدل تشابهها بين اللغات على وحدة الأصول بينها فى أغلب الأحوال حتى ولو كانت أصولا بعيدة. وذلك مما يمكن تقريبه إلى افتراض وجود أم لغوية قديمة واحدة وأبناء متنوعين أخذ كل منهم يطوع مفردات لغته ولهجتها بما تناسب مع ظروف بيئته ومطالب حياته. وتعددت الآراء مرة أخرى في منشأ وتفسير تسمية العرب، كما تعددت أمثالها فى شأن تسميات كثير من الشعوب والبلدان القديمة الأخرى مثل تسميات مصر وسومر وعراق وشام وعبري وآرام ... إلخ.

فمن وجهات النظر العربية القديمة فيها القول باشتقاق لفظ العرب من اسم جد أعلى كان يسمى يعرب بن قحطان، أو من فعل يعرب بمعنى يفصح تدليلا على ما كان العرب يعتزون به من فصاحة البيان .. ، ثم القول باشتقاقها من اسم عربة وهو أحد أسماء مكة التى شب إسماعيل عليه السلام على أرضها، أو هو اسم لجزء منها. ومن وجهات النظر السامية الأخرى القول باشتقاق تسمية العرب من أحد الأصول التي خرجت منها كلمات عبرية شبيهة بها وليس من الكلمات العبرية نفسها مثل عرابة بمعنى الأرض الجافة، وأرابا بمعنى الأرض الداكنة المعشبة، وإرب بمعنى الشرود عن النظام، وعابار بمعنى التجوال أو الترحال ... إلخ. وعندما استخدمت النصوص المسمارية العراقية القديمة تسميات أربي وأريبي وأريبو ... إلخ، بمعنى العربي والعرب والعربية منذ القرن التاسع ق. م. لم تقصرها على سكان شبه الجزيرة وحدهم، وإنما أطلقها كذلك على بعض أهل بادية جنوب الشام، وعنت بهم الأعراب البدو في أغلب الأحوال. وكذا فعلت بعض قصص التوراة. كما مد المؤرخون والرحالة الإغريق والرومان فيما بعد تسمية أرابيا وأرايبيا إلى صحراء مصر الشرقية. واستخدمت بعض النصوص المصرية القديمة لفظ أربايا تجريفًا فيما يبدو عن عربية أو العربية، للدلالة على المنطقة القريبة من الحدود المصرية فى شبه الجزيرة العربية. كما استخدمت النصوص الفارسية نفس اللفظ أربايا في القرن الخامس ق. م. للدلالة على بادية فلسطين وشبه جزيرة سيناء وما يتصل بهما من شمال شبه الجزيرة العربية. ودلت تسمية ع ر ب ن، وأعرب فى نصوص الجنوب العربي القديم على معنى الأعراب أساسًا، لا سيما الخيالة والأبالة من بدو وسط شبه الجزيرة العربية، وقالت عنهم فيما قالت أعرب طودم أي أعراب الهضبة أو أعراب النجد، وأعرب تهمت أي أعراب تهامة أو الوديان والسهول الساحلية.

_ طبعة أولى - الرياض 1964، جدة 1975. طعبة ثانية - القاهرة 1980. طبعة ثالثة - القاهرة 1988.

الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم ودراساته الأثرية الحديثة

الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم ودراساته الأثرية الحديثة ... الفصل الأول: مصادر البحث فى التاريخ العربي القديم ومراحل دراستها الحديثة تعاقبت على شبه الجزيرة العربية خلال تاريخها القديم عصور كثيرة سبقت عهود الجاهلية بمعناها المحدود بقرون طويلة. وتعددت مصادر البحث فى تاريخ هذه العصور- ويمكن عرضها على النحو التالي: أولا: الآثار المادية الباقية، وهذه تبدأ بما خلفه إنسانها البدائي القديم في دهوره الحجرية من أدوات حجرية متواضعة، وما خطه من رسوم بدائية متفرقة. ثم تتضمن أساسًا ما تركته الجماعات العربية المتحضرة فى عصورها التاريخية القديمة من آثار معمارية قائمة كبقايا المعابد والأسوار والسدود، والحصون والأبراج، والمساكن والمقابر، وما عثر عليه فى هذه وتلك من آثار منقولة متنوعة لأدوات الاستعمال اليومي وأدوات الزينة وفنون النحت والنقش، في مناطق عدة من أنحاء شبه الجزيرة العربية. والآثار فيما نعلم هى التاريخ الحي لأهلها، أو هي الشاهد الصادق على حضارة أصحابها، فهي تكشف عن مدى التقدم أو مدى البداءة في إنتاجهم، ومدى الثراء أو مدى الفقر فى إمكاناتهم، ومدى الأصالة أو مدى التقليد في صناعاتهم، ومدى التأثر أو مدى التأثير بين حضارتهم وبين حضارات جيرانهم. ثم هى تعبر عن هيئاتهم وأزيائهم وطبيعة أذواقهم، ولا جدال فى أنه كلما زاد الكشف عن هذه الآثار كلما زادت الحصيلة التى يستنتج منها تاريخ بلدها وقومها. وقد يضاف إلى مدلول الآثار ما يهتم به علماء الأنثروبولوجي من دراسة الهياكل البشرية التي يمكن أن تحدد السلالات ومدى النقاء أو مدى الاختلاط النسبي فيها. ثم ما يهتم به علماء الجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والتاريخية من دراسة التكوينات البيئية لتحديد الأماكن القديمة للآبار والواحات والمناجم، ومواطن الاستقرار والاستثمار القديمة، فضلا عن ظروف المناخ واتجاهات

الوديان ومسالك الهجرات والتجارة، وهلم جرًّا. ثانيًا: النصوص العربية القديمة التي عثر عليها داخل شبه الجزيرة وخارجها، سواء كتبت بخطوط المسند ومشتقاتها، أم بالخطوط الآرامية -لا سيما النبطية- والتدمرية، أم بالخطوط العربية الخالصة. والنصوص سواء أكانت شخصية أم سياسية أم حربية أم دينية تمثل ثروة تاريخية مفيدة، وتسجل رأي أهلها فى أنفسهم ووجهات نظرهم فى علاقاتهم بجيرانهم. ولكنها إذا عوملت بموازين النقد العلمي احتمل بعضها الشك كما يحتمل بعضها التأييد. وبتعبير آخر فإن النصوص القديمة مع أهميتها فى التعبير عن آراء أصحابها لا تخلو عادة من مبالغات فى تضخيم الانتصارات إذا كانت نصوصًا حربية. ولا تخلو من الإسراف فى تعظيم وتقديس الملوك والرؤساء إذا كانت نصوصًا رسمية أو نصوصًا للموظفين وأتباع الحكام. ولا تخلو من ادعاءات بالصلاح والإصلاح إذا كانت نصوصًا شخصية. ولا تخلو من تكرار وسذاجة إذا كان كتبتها من الأفراد البسطاء. ولا تخلو من غموض الاصطلاحات إذا كانت نصوصًا إدارية أو تقنينية. ولا تخلو من تخيلات وأوهام إذا كانت نصوصًا عقائدية أو سحرية. ولكنها فى مجملها، وعلى الرغم من ذلك كله، هي المصدر الرئيسي لتصوير عادات أهلها وعقائدهم وأوضاعهم السياسية والاجتماعية وعلاقاتهم الخارجية، فضلا على ما يمكن أن يستفاد به من بين سطورها مما لم يشأ كتبتها أن يفصحوا عنه صراحة من مشكلات عصورهم. وجلي أن ما عقبنا به هنا على إيجابيات وسلبيات الآثار والنصوص العربية القديمة يمكن أن يقال كذلك عن بقية الآثار والنصوص القديمة كلها. ثالثًا: النصوص المسمارية التي تحدثت عن علاقات بعض دول العراق القديمة بعدد من قبائل ودويلات شبه الجزيرة منذ القرن التاسع ق. م. وهذه هي الأخرى لا تخلو من قيمة ولا تخلو من شك في الوقت ذاته. فهي قد اعتادت على أن تنسب إلى أصحابها الآشوريين والبابليين سلطانًا واسعًا، وأسرفت فى تصوير انتصاراتهم الحربية على العرب -أو الأعراب. وتعتبر في أغلبها نصوصًا تدل على جانب واحد نظرًا لأنه لم يعثر على نصوص عربية تقابلها وتعاصرها وتشرح وجهة نظر أصحابها إلا فى القليل النادر. وذلك ما يعني أنه ليس من ضرورة إلى التسليم بحرفية أخبارها. ولكن نفس هذه النصوص المسمارية على الرغم من تحيزها ومبالغاتها لم تخل مما يستفاد به منها. فهي أقدم المصادر التى سجلت تسمية العرب كتابة منذ أواسط القرن التاسع ق. م. بصيغ أربي وأريبي وأريبو كما أسلفنا. وهى المصادر الوحيدة حتى الآن التي

تحدثت عن نحو ست ملكات عربيات شماليات ظهرن خلال القرن الثامن والقرن السابع ق. م. وإذا كانت المصادر المصرية القديمة المعاصرة للمصادر العراقية لم تسجل تسمية العرب صراحة إلا فى قرون متأخرة فى الزمن نسبيا، إلا أنها ذكرت قبل ذلك بقرون طويلة أسماء بعض المناطق الإقليمية على طرق التجارة في شمال شبه الجزيرة، كما أشارت إلى استخدام منتجات الجنوب العربي فى مصر بوفرة منذ الألف الثاني ق. م. على أقل تقدير، ودلت بذلك على قدم اتصالاتها بأهله اتصالا مباشرا أحيانا وعن طريق وسطاء التجارة أحيانا أخرى. رابعًا: مصادر التوراة: وهذه بما تضمنته من أسفار وقصص ليست كلها منزلة من السماء وليست كلها من رسالات الأنبياء. وإذا كان بعضها له قداسته، فإن بعضها الآخر تضمن أخبارا أضافها الأحبار والرواة. وصورت هذه المصادر فى عبارات مقتضبة من سفر التكوين وسفر حزقيال وسفر المزامير وسفر عاموس وسفر دانيال، ومن التلمود، علاقات العبرانيين ببعض قبائل ودويلات عبر شبه الجزيرة، ومعلوماتهم عنهم وعن مناطقهم تصويرا بعضه مقبول وأغلبه مفتعل. وحاولت أن ترتب أنساب القبائل التى عرفها العبرانيون ترتيبا قليله مقبول وكثيره مفتعل أيضا. ولهذا تؤخذ معلوماتها بحذر شديد. خامسًا: كتابات الرحالة والمؤرخين الإغريق والرومان الذين زاروا أطراف وسواحل شبه الجزيرة العربية أوجمعوا الأخبار عنها ممن زاروها من قبلهم، ثم سجلوا أسماء دولها ومدنها وموانيها وقبائلها، وأهم مصادر الثروة فيها، وطرق التجارة منها وإليها، وضمنوها فى مؤلفاتهم ابتداء من القرن الخامس ق. م. على وجه التقريب. ومن هذه الكتابات ما هو واقعى صحيح مفيد، ومنها ما يسوده الوهم والخيال وتحريف الأسماء نظرا لقصر زياراتهم لها ولاختلاف لغاتهم عن اللغة العربية وشقيقاتها الساميات. ومن أهم هؤلاء الرحالة والمؤرخين هيرودوت في أواسط القرن الخامس ق. م. وثيوفراتيس في أواخر القرن الرابع ق. م. وإراتوسثنيس في أواسط القرن الثالث ق. م. وجوبا في أواخر القرن الثاني ق. م. وديودور الصقلي في أواسط القرن الأول ق. م. واسترابون في أواخر القرن الأول ق. م. وبليني في أوائل القرن الأول الميلادي، وبطلميوس في أواسط القرن الثاني الميلادي، ومؤلف الطواف حول البحر الإرتيري بين القرنين الأول والثالث للميلاد، ويوسيبيوس في أوائل القرن الرابع الميلادي. ثم مجموعة من المؤرخين والرحالة المسيحيين والبيزنطيين الذين اتصلوا بالحبشة وإمارتي الحيرة وغسان،

ومنهم روفينوس بترانيوس، وشمعون مؤلف رسائل الشهداء الحميريين فى نجران، وبروكوييوس صاحب كتاب تاريخ الحروب وصديق القائد البيزنطي بليزاريوس .. وغيرهم. ولا تقتصر أهمية ما كتبه هؤلاء الكلاسيكيون على ما تضمنه من معلومان، وإنما يفيد كثيرا أيضا فى عقد التواريخ المقارنة بين العهود التى تحدثوا عنها ويمكن تحديدها، وبين أحداث شبه الجزيرة التى عجزت نصوصها عن تحديد زمنها بدقة. سادسًا: آيات القرآن الكريم التى وصفت بعض أحوال الشعوب العربية القديمة، ونبهت إلى العبرة من مسالك أهلها مع الرسل والأنبياء، وبينت أنه كان فيهم مؤمنون وكفرة، وعلماء وجهلة، ولبعضهم ممالك ومنشآت .. لا سيما فيما يختص بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ومكة والبيت الحرام، وأقوام: شعيب وهود وصالح وغيرهم في مدين وعاد وإرم وثمود وأصحاب الرس وسبأ والأخدود .. إلخ. ويقترن ببعض ما جاء به القرآن الكريم ما ورد من أحاديث نبوية تعرضت أحيانا بالتعديل أو النقد أو التجريح أو الإجازة لبعض أوضاع الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فى عهد الجاهلية القريبة من بداية العصور الإسلامية. سابعًا: مؤلفات المؤرخين المسلمين التى جمعوا بعض أخبارها من القصص العربية والأشعار الجاهلية وسلاسل الأنساب المروية، وجمعوا بعضا آخر من أخبارها من الإسرائيليات والقصص السريانية بل والفارسية، فضلا على مشاهداتهم الشخصية لما بقي من آثار المدن والمعابد والمقابر القديمة حتى العهود التى عاشوا فيها. ومن هؤلاء المؤرخين: عبيد بين شرية الجرهمي اليمني في القرن الهجري الأول، ونسب إليه كتاب الملوك وأخبار الماضين. وهب بن منبه، ت 110هـ ونسب إليه كتاب الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم، وكتاب المبتدأ. هشام بن محمد بن سائب الكلبي ت 204هـ، ومن مؤلفاته الكثيرة جمهرة النسب أو الجمهرة فى الأنساب، وكتاب الأصنام. ونسب إليه كتاب الحيرة، وكتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات ونسب العباديين

وكتاب ملوك كندة وكتاب الكلاب الأول والكلاب الثاني ... إلخ. محمد بن هشام بن أيوب الحميري، ت 213 هـ، وأخرج كتاب التيجان وملوك حمير. أبو محمد الحسن الهمداني، ت 334 هـ ومن مؤلفاته الضخمة الإكليل وصفة جزيرة العرب وملوك كندة. ونسب إلى الأصمعي كتاب جزيرة العرب ومياه العرب ... إلخ. وأخرج الحسن الغدة الأصفهاني مؤلفه عن بلاد العرب. وألف نشوان الحميري القصيدة الحميرية والقصيدة اليائية ... إلخ. وأقرب إلى الوقائع التاريخية فيما كتبه هؤلاء المؤرخون المسلمون هى أخبار عهود الجاهلية القريبة من ظهور الإسلام، أما ما سبقها من عصور فقل منهم من أخضع رواياته عنها للنقد العلمي، وندر منهم من استطاع أن يقرأ نصوصها القديمة قراءة سليمة. وكما كانت أشعار الجاهلية من المصادر التى اعتمد عليها هؤلاء المؤرخون وكثير غيرهم، فهي لازالت فى حد ذاتها مصدرا لتصوير أيام العرب وحروبهم وعاداتهم الاجتماعية ومثلهم العليا، وذلك على الرغم مما ينبه النقاد إليه من كثرة منحولاتها الأدبية والتاريخية. تلك إذن مصادر عدة فيما رأينا، ولكنها فى حقيقتها لاتزال مصادر شحيحة لا تعطي الكثير لا سيما بالنسبة للعصور الأولى من التاريخ العربي القديم، وهي باستثناء آيات القرآن الكريم، تتفاوت فيما بينها فى مدى صحتها ومدى وضوح تعبيراتها، ومدى المحلية أو العمومية فى أخبارها، وإن كانت لا تخلو على الرغم من بعض أوجه النقص فيها، مما يستفاد به منها فى تحديد وتصوير الخطوط العامة للتاريخ العربي القديم. وليس من شك في أن أوسع المصادر السابقة تعبيرًا عن أحوال سكان شبه الجزيرة الأقدمين، هما المصدران الأولان: أي الآثار العربية القديمة الباقية، والنصوص العربية القديمة الباقية. وقل نصيب أراضي المناطق الوسطى والشمالية والشرقية لشبه الجزيرة العربية من هذين المصدرين حتى الآن نتيجة لأربعة أسباب هي:

قلة البحوث الأثرية التي جريت فيها قلة نسبية، إلى أن أخذت الدولة السعودية، ودول الخليج العربي، تولي هذه البحوث عناية طيبة خلال العقود الأخيرة. شدة اتساع أرضها الذي كان من عوائق اجتماع سكانها القدماء قبل الإسلام في دولة كبيرة واحدة تستطيع أن تيقيم تنظيمات متستقرة ومنشآت كبيرة، أو تعمل على تدوين أخبارها فى نصوص كبيرة متصلة. قلة مواردها الطبيعية القديمة قلة نسبية لم تسمح لجموعها بأن يقيموا غير منشأة صغيرة لم تستطع مغالبة عوادي الزمن إلا فى الشمال الغربي. عدم احتفال أهل العصور الإسلامية المتعاقبة إلى ما قبل العهود الحديثة برعاية الآثار القديمة في البلاد التي نشأ الإسلام فيها. نتيجة لاختلاف عقائدها عن ديانة التوحيد، ونتيجة لما وجدوه من صعوبة فى معرفة أغراضها الحقيقية وصعوبة قراءة نصوصها قراءة صحية. وزاد حظ المناطق الجنوبية القديمة من شبه الجزيرة العربية من هذين المصدرين، أي من الآثار والنصوص الباقية، نتيجة لستة أسباب، وهي: ظهور الكتابة فيها في وقت مبكر نسبيًا مما ساعد على وفرة نصوصها المكتوبة وفرة نسبية وقدم عهدها قدمًا نسبيًا أيضًا. بعدها النسبي عن مركز نشأة الدعوة الإسلامية في الشمال الغربي مما ساعد على بقاء بعض آثارها الظاهرة ونصوصها القديمة إلى الآن نظرًا لتجاوز العصور الإسلامية المتتابعة عن إزالتها. تعدد الفواصل الطبيعية في أرضها مما عمل على تجميع أعداد متاجنسة من سكانها فى دولة سياسية واضحة الحدود والمعالم اهتمت بتدوين أخبارها وعملت كل منها على تمييز إنتاجها الحضاري ما استطاعت. سخاء بيئتها الطبيعية القديمة سخاء نسبيًا مما يسر استقرار دولها وطول أمد عهودها وكثرة منشآتها. وفرة موارد تجارتها القديمة القائمة على الإنتاج الداخلي وعلى الوساطة الخارجية، مما شجع أهلها على أن يقيموا آثارًا ضخمة قاومت عوادي الزمن وبقي بعضها حتى الآن. بدء أعمال البحث الأثري فيها في وقت مبكر نسبيًا من العصر الحديث. وعلى أية حال، فقد خضعت كل من آثار الجنوب والشمال والشرق والغرب في

شبه الجزيرة لعوامل هدامة أخرى قللت من أعدادها ومن أحجامها، ألا وهي شدة السيول والعواصف التى كانت تطيح بما لايثبت أمامها من المباني، وقلة اهتمام العرب القدماء أنفسهم بالتعمق فى إرساء أسس مبانيهم مما عجل بانهيارها. ثم انتفاع الأجيال المتعاقبة من السكان بأحجار المباني القديمة في إقامة مبانيهم. فضلًا على ما جناه لصوص الآثار في العصر الحديث من سرقة الآثار الصغيرة الفنية الثمينة للاتجار بها. نشأة الدراسات والاكتشافات الحديثة: انتفعت الدراسات التاريخية الحديثة لشبه الجزيرة العربية كما انتفعت أمثالها في بقية مناطق الشرق القديم بأنشطة حركة البحث العلمي وجهود الكشف عن الحضارات القديمة وإحياء التراث التى نشأت فى أوروبا منذ القرن الثامن عشر وما تلاه. وبفضلها ثابرت مجهودات البحث العلمي والأثري فى العصر الحديث على كشف النقاب عن التاريخ العربي القديم بنصوصه وآثاره من أجل التعرف عليه كما صنعه أصحابه أو كما سجلوه بأنفسهم. ولفت أنظار أوائل المؤرخين والرحالة الحديثين الأجانب إلى تاريخ وآثار شبه الجزيرة العربية ما أتت به الكتب المقدسة عن ملكة سبأ وثراء دولتها، وعن أقوام مدين وعاد وثمود ... ، وما كتبه الكلاسيكيون الإغريق والرومان عن أرض البخور وتجارتها، وما قرأه المستشرقون من كتب المؤرخين والجغرافيين المسلمين، إلى جانب دافع الفضول عندهم لمعرفة المزيد عن الأرض التي انبعث الإسلام منها. وإذا كان واقع الأمر يدعو إلى الاعتراف بأن أغلب من سنتناول جهودهم من المؤرخين والآثاريين والرحالة فى العصر الحديث كانوا من الأوروبيين، فإنه يجب الاعتراف كذلك بأن تحفظ الدولة العثمانية التى كانت تسيطر على الشرق الإسلامي حينذاك، وتخوف المسلمين من سوابق أطماع المستعمرين الغربيين، كلاهما حدد عدد البعثات العلمية وجعل أغلب جهودها فردية تتم في غير علنية وبغير الطرق الرسمية بل وعن غير طرق المتخصصين أيحانًا. وفي الوقت نفسه لم تكن حركة الكشف العلمي الأوربي تستهدف غرضًا واحدًا، أوتستهدف العلم وحده، وإنما كانت تستهدف الكشف عن خبايا الأرض والثروات الطبيعية، وعن المعالم الجغرافية والمعالم التاريخية في آن واحد. ويبدوا أنه كان لوجود أعداد من اليهود والأغراب المستوطنين فى مناطق الجنوب العربي أثر في اتجاه أوائل الرحلات الكشفية الحديثة إليها لسهولة التخفي في زي بعض

طوائف سكانها والطارئين عليها وبالتالي إمكانية التنقل فى أراضيها. وسوف نكتفي فيما يلي بحديث موجز عن الرواد الأوائل الذين يسروا السبيل أمام الدراسات الموسعة فى الوقت الحاضر. فتحت أبواب الدراسات التاريخية الحديثة لمناطق الجنوب العربي بعثة يسرت لها حكومة الدانمرك طريق الوصول إلى اليمن فى عام 1761 للقيام بدراسات جغرافية ونباتية وحيوانية. وتجولت البعثة في اليمن، وكان أنشط أعضائها وأطولهم بقاء الهولندي كارستين نيبور Karsten Niebuhr وقد زار مخا وعمان وعدة مناطق من الخليج العربي، ونشر نتائج رحلته فى عام 1772 ووصف فيها ما شاهده، ودون عددًا من الملاحظات الطبوغرافية والخرائط التوضيحية للمناطق التى زارها، كما ضمنها مستنسخات لعدد من نصوص المسند التي وجدت فى مدينة ظفار إحدى عواصم دولة سبأ وذوريدان القديمة. ولفت الأنظار إلى أطلال المواقع الأثرية التى شاهدها وأثبتها على خرائطه. والطريف أن تجربة نيبور مع الآثار والنصوص العربية الجنوبية فى عام 1761 شجعته على أن يجري نفس النشاط مع الآثار والنصوص الفارسية فى مدينة برسوبوليس بإيران، فأصبح بذلك رائدًا للدراسات القديمة فى كل من البلدين. واقتفى أثر نيبور الألماني أو ليرخ جسبار سيتزن A.J. Seetzen الذي زار ظفار فى صيف 1810 واستنتسخ بعض نقوشها. وكان من المتوقع أن يتاح لرحالة انجلترا وفرنسا وهما الدولتان الكبيرتان في القرن التاسع عشر نصيب من الكشف عن حضارات الشرق القديم. ففي عام 1836 نجح كل من هلتون وكروتندن البريطانيين في استنساخ نقوش سبئية من صنعاء. وباسم البحرية الهندية أو شركة الهند البريطانية كلف الكابتن ولستد R. Wellsted وزميله هاينس S.B.Haines في عام 1835 بمهمة تتبع خطوط الساحل العربي. وكانت لولستد اهتماماته الخاصة بالرحلة والآثار فوجه الأنظار في حضرموت إلى أطلال ونقوش حصن الغراب الذي كان يحمي ميناء من أكبر موانئ دولة حضرموت القديمة. ونبه إلى أطلال مدينة نقب الحجر أحد المراكز الحضارية القديمة. وسجل ملاحظاته عن خصب وادي حضرموت. ووصل إلى أطراف الربع الخالي. كما بدأ رحلاته الجغرافية في عمان حتى وصل إلى الحافة الجنوبية للجبل الأخضر.

وشابهه في مثل هذا المجهود الألماني أدولف بارون فون فريده Adolf-Barron von Wrede. وفي هذه الأثناء تفرغ بعض المستشرقين للتعرف على خصائص الكتابة العربية الجنوبية عن طريق مقارنتها بما يشبهها ويعرفونه من الكتابات الحبشية والعبرية والفينقية وغيرها من الكتابات السامية القديمة. وكان من أوائل من بدأوا هذا المجهود اللغويات إميل ريدجر Emil R.Rodiger (1837) وولهام جيسينيوس H.F. Wilhelm Gesenius ( يبي 1841) وتبعهما أرنست أوسندر. وقامت البعثات الفرنسية بنصيبها الكشفي، وكان أشهر رجالها أرتو، وهاليفي. وركز توماس جوزيف أرنو Thomas J.Arnaud وهو صيدلي رحالة، جهود فى عام 1843 في صرواح ومأرب عاصمتي دولة سبأ -وسجل مشاهداته كتابة ورسمًا عن سد مأرب، ومحرم بلقيس (أو معبد إلمقه). ونسخ حوالي 56 نقشًا قديمًا نشرها فلجانس فرينل قنصل فرنسا فى جدة فى عام 1845 في كتابه بحوث في النقوش الحميرية. وأدت هذه الجهود إلى أن قررت الأكاديمية الفرنسية في باريس عام 1869 البدء في إصدار موسوعة النقوش السامية- Corpus Inscriptionum Semiticar وكان ذلك كسبًا كبيرًا للدراسات العربية القديمة. وكان جوزيف هاليفي Joscph Halevy أكثر حظًا فى التوغل فى الجنوب العربي وفي وصف أهم آثاره الظاهرة واستنساخ العديد من نصوصه وترجمتها. وفي هيئة اليهودي الفقير وصل إلى مواضع لم يصل إليها من سبقوه. فلم يكتف بالآثار السبئية فى مأرب وصرواح وصنعاء، وإنما اجتاز أيضًا منطقة الجوف الجنوبي، وتعرف على بعض آثار دولة معين القديمة فى مدينتي قارنا وويطيل بما فيهما من أسوار ومعابد وحصون. ووصل نجران وأطراف الربع الخالي فى عام 1869 - ثم عاد إلى فرنسا وفي حصيلته 686 نصًا من 37 موضعًا. ونشر نتائج رحلته فى المجلة الآسيوية فى عام 1872 وشفعها بدراسة تحليلية للنصوص الجنوبية المعروفة حتى وقته. كما نشر مقالًا في عام 1877 عن رحلته إلى نجران. وأهم من يقرن بها ليفي من حيث غزارة المادة هو المستشرق النمسوي إدوارد جلاسر Edward Glaser وقد اكتست رحلاته بنوع من العلنية والرسمية

بعد أن يسر له المسئولون الأتراك فى صنعاء هذه الرحلات فى أعوام 1887، 1888، 1892، وبهذا اتسعت دراساته للآثار والنصوص الحميرية في همدان وظفار، والنصوص السبئية فى مأرب، كما اتسعت جهوده للآثار والنصوص المعينية والحضرمية والقتبانية، وقدم تخطيطًا دقيقًا لبقايا القنوات والسدود القديمة. ومن الشخصيات التى ساهمت فى استخلاص قواعد اللغة العربية الجنوبية فريتز هومل F.Hommel في بحث أصدره عام 1893 اعتمد فيه على النصوص المعينية واعتبرها أصلًا لغيرها، وهو ما يعارضه الآن فيه باحثون آخرون. وهكذا مهدت رحلات ودراسات المستشرقين فى القرن التاسع عشر السبيل أمام أبحاث أكثر عمقًا وشمولًا في القرن العشرين، فبرز خلال هذا القرن عدد ممن تتلمذوا على الرواد الأوائل اهتموا بتحقيق النصوص وتأريخ الأحداث والاستعانة بالدراسات المقارنة. وظلت الدراسات الجغرافية لطرق التجارة ومشروعات الري مكملة لهذه الجهود. وتعدت الدراسات الأثرية وصف الآثار الظاهرة إلى التنقيب عن الآثار الدفينة تحت التلال وفي باطن الأرض. وتعددت على هذا السبيل بعثات نمسوية وبريطانية وأمريكية. في اليمين بأجزائها وعدن وحضر موت ومقسط وعمان. فكشف عن أعداد من المعابد والمقابر والحصون والمنازل فضلًا على النصوص والآثار المنقولة المتنوعة. وبدأ عدد من الباحثين العرب، ومن المصريين بخاصة، يشاركون بجهودهم فى المجالات اللغوية والأثرية في شبه الجزيرة منذ عام 1936 وحتى الآن. وعن طريق تعاون المؤرخين والأثاريين واللغويين زادت المعرفة بأسماء القبائل والمدن القديمة وتحديد مواقعها، وزاد التعرف على كنه المعبودات الجنوبية، والعلاقات بين الممالك المتعاصرة، والصلات بين حكامها، وتتابع عهودهم وما تم فيها من تجديدات سياسية أو عمرانية. وعن طريق تعاون المؤرخين والأثاريين واللغويين زادت المعرفة بأسماء القبائل والمدن القديمة وتحديد مواقعها، وزاد التعرف على كنه المعبودات الجنوبية، والعلاقات بين الممالك المتعاصرة، والصلات بين حكمها، وتتابع عهودهم وما تم قيها من تجديدات سياسية أو عمرانية. ولم يقل نصيب المناطق العربية الشمالية والغربية والشرقية فى شبه الجزيرة من اهتمام الرحالة والباحثين فى العصر الحديث كثيرًا عن نصيب

المناطق الجنوبية. وكان من مقدمات البحث فيها فضول بعض الرحالة الأجانب للتعرف على الأماكن الإسلامية المقدسة، وتتبع آثار الأنباط الكبيرة التى انتشرت في جنوب الأردن وامتدت حتى شمال المناطق الحجازية. وكانت عمائرها في الأردن واضحة معروفة وإن لم تكن نصوصها قد حلت رموزها بعد. وجدير بالذكر أن رحالة يدعى عبد الغني بن أحمد بن إبراهيم النابلسي أخرج كتابًا فى عام 1693 بعنوان الحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز وصف في سياقه بعض آثار مدائن صالح والحجر ومغاير شعيب واستنسخ بعض نقوشها، وسبق غيره من الغربيين فى هذا السبيل. وكما حدث فى الجنوب العربي لم تتعمد الجهود الأولي للرحالة الأوروبيين الكشف العلمي مباشرة عن الحضارات القديمة، وإنما صاحبتها رغبة التعرف على ثروات البلاد الطبيعية ودراسة حياة البدو. وكانت أغلب رحلاتهم في شبه الجزيرة استمراراً لرحلاتهم الأخرى في بوادى الشام وفلسطين ومناطق الخليج العربي. وعلى الرغم من تحريم دخول المدينتين المقدستين على غير المسلمين ترحيمًا قاطعًا، فقد استطاع بعضهم دخولها. وكان في تعدد أجناس الحجاج وتنوع هيئاتهم فرصة لبعض الأوروبيين الذين تظاهروا بالإسلام واستخفوا في هيئات شتى لم تكشف عن أجنبيتهم. وعن هذا الطريق تسلل عدد منهم إلى المدينتين المقدستين منذ بداية القرن السادس عشر، ومن أوائلهم الأسباني Badia Leblich Domingo الذي تنكر تحت اسم على بك ووصف الأماكن المقدسة فى مكة وماحولها. وكما مهدت رحلة نيبور للدراسات الحديثة فى الجنوب العربي، مهدت رحلة السويسري لودفيج بوركهارت J.L.Burckhardt السبيل لدراسات الأجزاء الشمالية الغربية من شبه الجزيرة. وقد أشهر إسلامه وتسمى .. إبراهيم بن عبد الله، وخرج من القاهرة إلى جدة فى عام 1814. وزار مكة والطائف وتتبع الطريق الساحلي، وربما دخل الحجر. ووصل المدينة عام 1815. ثم عاد إلى ينبع ومنها إلى القاهرة. وحاول أن يكون دقيقًا فى تسجيل ما شاهده فى رحلته وما نشره عنها. ولم يكن بوركهات آثاريًا ولكنه فتح الطريق أمام المهتمين بالآثار. وكان إدوارد روبل أو أوروبي يزور مغاير شعيب وآثارها فى العصر الحديث. وإلى جانب الرحالة الأوربيين العاديين والمندوبين السياسيين الذين زاروا أراضي الدولة السعودية فى منتصف القرن التاسع عشر (مثل فالين. وسادليير)،

وصف ر. برتون R.Barton المقابر النبطية فى مغاير شعيب، ولفت الأنظار إلى آثار المناجم القديمة فى منطقة مدين، خلال دراساته الطبوغرافية التى كان يقوم بها فى الأراضي الحجازية الممتدة من هضبة حسمى إلى ساحل تهامة. وتبعه ج. ر. ولستد فى زيارة مغاير شعيب حيث استنسخ بعض نصوصها، وكتب عن ميناء الوجه الذي يبدو أنه كان يخدم تجارة دولة ددان ولحيان. ومن الرحالة ذوي الميول الأثرية وليم ج. بلجريف W.G.Palgrave في سياق مانشره عن رحلاته فى أراضي نجد. شمالها ووسطها وشرقها، فى عامي 1862 - 1863. للأغراض المتنوعة التى استهدفها رحالة عصره. أشار إلى بعض المعالم الأثرية كالمقابر ونحوها في عام 1865. ولكن أخذ عليه أنه كان يعتمد على السماع أحيانًا فيما يكتبه دون أن يمحصه ودون أن يقطع الشك فيه باليقين. وهكذا استأثر بالتقدير دونه شارل مونتاج دوتي Charles M.Doughty الذي زار مناطق مدائن صالح. والعلا والخريبة، فى عامي 1876، 1877 - واستنسخ منها نصوصًا نبطية وثمودية ولحيانية نشرها فى عام 1884 - وترجمها الباحث اللغوي جوزيف رينان J.Renan وأشار دوتي إلى معالم قديمة أخرى فى تيماء والطائف ووادي فاطمة. ونبه خلال دراساته الجيولوجية إلى وجود أدوات حجرية لدهور ما قبل التاريخ فى معان. وانتفعت دراسة آثار ونقوش شبه الجزيرة ووسطها كذلك بما جمعه منها تشارلزهوير Ch.Huber خلال رحلاته فى 1878 - 1882. 1883 - 1884 وما نشره عنها في عام 1884 - وفي عام 1891. وقد هلك خلالها. وكان قد شاركه يوليوس يوتج J.Euting في زيارة العلا ومدائن صالح والخريبة، ثم زار تيماء. ونشر عن آثار متفرقة وعن نتائج رحلاته داخل شبه الجزيرة فى عام 1896، وعام 1914، وعن النقوش النبطية فى عام 1885، والنقوش النمودية في عام 1904، وقد عاود ترجمة هذه النصوص كل من اللغويين هـ. مولدر، وإنو ليتمان E.Littmann. ومع أوائل القرن العشرين تجمعت من جهود الرحالة والباحثين حصيلة مناسبة لتحقيقات علمية أكثر شمولًا عن التاريخ القديم لشبه الجزيرة. وقد ساهم فيها بنصيب كبير ألوا موزيل Alois Musil فقدم دراسات تفصيلية عن شمال الحجاز وشمال نجد، خلال عشرين عام (1896 - 1915)، قام فيها بعدة رحلات، مع دراسات مستفيضة أخرى عن جنوب فلسطين وبادية الشام. وقد

نشرها في عدة كتب بين 1907 - 1930، وتناول فيها طبوغرافية الأرض ومصادر المياه، وحقق أسماء الأماكن، والأعلام، وترسم طرق التجارة، وتعرف على كنه المواضع التي عثر فيها على النصوص القديمة النبطية والثمودية واللحيانية، والعربية والإغريقية واللاتينية. وحاول أن يربط بين هذا كله وبين ما ذكرته قصص الكتب المقدسة عن شعوب المنطقة وأنبيائها كشعوب مدين وثمود وإرم وقصة يوسف وقصة موسى وخروج بني إسرائيل مستعينًا بروايات المؤرخين والجغرافيين الإغريق والرومان، ومؤلفات المؤرخين والجغرافيين المسلمين، وما انتهت إليه الدراسات الحديثة للآثار والنصوص حتى أيامه، وكل ذلك إلى جانب الكتابة المعتادة عن السكان وحياة البدو الاجتماعية فى العصر الحديث الذي قام فيها برحلاته. وفي نفس الوقت تقريبًا، غلبت الصبغة اللغوية والأثرية على رحلات الباحثين جوسين وسافينياك A.Jaussen,R.Savignac في شمال شبه الجزيرة وساحل الحجاز، وكانا من الآباء الفرنسيسكان فى القدس، وأسهما في نشر وإعادة نشر عشرات من النصوص النبطية واللحيانية والثمودية وترجمتها، ودراسة الآثار فى تفصيل وتصويرها تصويرًا دقيقًا، لا سيما فى مدائن صالح والخريبة ثم في تيماء. وقد نشرا ذلك كله فى ثلاثة أجزاء كبيرة (1909 - 1920) وفي عدد من البحوث القصيرة. وكانت دراساتهما من الأسس التى اعتمدت عليها المؤلفات المستفيضة عن الحضارة النبطية (مثل مؤلفات كرامور، وكونتينو - er,J.Contineau A.Kramer - وعن الحضارة اللحيانية (في مثل مؤلفات فريدرك وينت، وفريتز كاسكل F.V.Winnett,W.Caskel) وعن الحضارة الثمودية (في مثل مؤلف فإن دن براندن ( A.Van den Branden) . واهتمت رحلات برترام توماس Bertram Thomas جزئيًا بجنوب نجد، فكأن أول الأوربيين الذين حاولوا كشف النقاب عن طبيعة الربع الخالي، حين عبر الجزء الشرقي منه فى طريقه من ظفار إلى قطر، وقدم نماذج جيولوجية وأثرية من رحلته، ورسم خرية لمسالكه ومعالمه الطبيعية. وكانت دراساته عونًا لدراسات سان جون فلبي H.St. J.B. Philby وتشيجر Z.Thesiger عن الربع الخالي، وهي دراسات نبهت ضمن ما نبهت إلى بعض الطرق التجارية التى كانت تحاذي حافته الغربية وتقوم فيها بعض محطات القوافل. ولعل الآراءلم تختلف في الحكم على مؤلفات باحث فى تاريخ شبه الجزيرة العربية كما اختلفت في الحكم على مؤلفات فلبي العديدة. وكل ما يمكن قوله إنه قدم في ثناياها معلومات متناثرة كثيرة، وترك لغيره أن ينتقي منها ويمحصها.

وتتابعت الجهود العلمية حتى الآن، كما تعدد المشتغلون باللغويات والآثار والدهور الحجرية والتاريخ القديم عن كل هذه المناطق الواسعة، وظهرت منهم أسماء لامعة لاتزال تقدم بحوثها حتى الآن من الأجانب ومن المواطنين ومن بقية البلاد العربية، ممن سوف نعاود التنويه بهم في الفصل الحادي عشر، مع وجود التفاوت المعتاد بينهم فيما ينشرونه، فمنهم من يستهدف الدعاية ولا تكاد صفحة مما يكتبه تخلو من اهتمامه بأنه قابل فلانًا وأكل عند هذا وقال لهذا .... ومنهم من يكتفي بالوصف والدراسة السطحية، ومنهم كذلك من يفضل العلم للعلم فيدقق ويجدد، وهو الأنفع والأبقى. من المؤلفات المختارة فى دراسات الفصل: بيرن (جاكلين): اكتشاف جزيرة العرب -مترجم- بيروت 1964. جروهمان، 1: مادة العرب -في دائرة المعارف الإسلامية. حمد الجاسر: في مجلة العرب -سبتمبر 1969. عبد العزيز صالح: الرحلات والكشوف الأثرية للعصر الحديث في شبه الجزيرة العربية - إصدار دراسات الخليج والجزيرة العربية 4 - الكويت 1981 - ص5 - 93. وات، جونز، بار، لطفي، الدوري، الجاسر: في مصادر تاريخ الجزيرة العربية -جـ1جامعة الرياض 1979 (في مواضع مختلفة).

الفصل الثاني: ممهدات العصور التاريخية في شبه الجزيرة العربية

الفصل الثاني: ممهدات العصور التاريخية في شبه الجزيرة العربية مدخل ... الفصل الثاني: ممهدات العصور التاريخية في شبه الجزيرة العربية أسلفنا أن المفهوم العلمي للتاريخ القديم في شبه الجزيرة العربية لا يقتصر على عهود الجاهلية بمعناها التقليدي المحدود، وإنما يمتد كذلك إلى حضارات أخرى سبقتها بعصور طويلة وآماد بعيدة. وبدأ النشاط العملي للإنسان القديم فيما قبل التاريخ في المناطق الصالحة للإقامة خلال ما يسمي اصطلاحًا باسم الدهور الحجرية تلك التي تبعد أزمنتها عن عصرنا الحاضر بعشرات الآلاف من الأعوام. وقد قدمنا عنها فى الفصل الثاني من كتابنا عن الشرق الأدنى القديم أنه تعاقبت خلالها على شبه الجزيرة العربية وغيرها من مناطق العروض الوسطي في الشرق الأدنى، عصور مطيرة طويلة، وعصور جفاف عنيف طويلة أيضًا (وذلك في مقابل ما شهدته العروض العليا في أوربا مثلًا من عصور تقدم الجليد وعصور تراجعه). وكان لكل طائفة من هذه العصور نباتاتها وحيواناتها المناسبة لظروفها، كما أن تأثيراتها الطبيعية أي تأثيرات العصور المطيرة وعصور الجفاف يمكن ترسمها جزئيًا حتى الآن في تكوينات الأودية الكبيرة التى يجري بعضها ناحية الخليج العربي، ويجري بعضها ناحية البحر الأحمر، ويضيع معظمها الآخر في قلب الصحراء. ومن هذه وتلك وادي الحمض ووادي الرمة ووادي حنيفة ووادي فاطمة ووديان حضرموت وبيجان وحريب وأذنة .. إلخ. وكلها كانت قد شقتها مياه أمطار غزيرة في فترات قديمة طويلة. ويغلب على الظن أن مدرجاتها لا تزال تحتفظ ببعض أدوات الدهور الحجرية، وهي أدوات متواضعة صنعها الإنسان البدائي واستخدمها في الدفاع عن نفسه وفي صيد الحيوان وفي تحصيل قوته. وعثر على نماذج منها في أنحاء مختلفة من الأحساء والعروض، والأطراف الشمالية، ومناطق متفرقة من دول الخليج واليمن الشمالي والجنوبي. وفي البداية عثر على أغلبها عن طريق المصادفة، ولكن عددًا من بعثات الآثار الدانمركية

والعربية قد أولتها أخيرًا عناية خاصة في حفائرها بشرق شبه الجزيرة ومناطق دول الخليج العربي. وسوف نتناول خصائصها وماتدل عليه حين الدراسة التفصيلية للأماكن التى وجدت فيها في الفصل الحادي عشر. ومن المحتمل أن تكون شبه الجزيرة العربية قد شاركت بقية مناطق الشرق الأدنى منذ العصر الحجري الحديث فى الألف السادس ق. م. أو نحوه في معرفة حرفة الرعي بعد مرحلتين متتابعتين مهدتا لها، وهما مرحلة أسر بعض الحيوانات البرية الصغيرة من آكلات العشب لتكون احتياطيًا حيًا من اللحم في فترات الجفاف وقلة الحيوانات، ثم مرحلة استئناسها وتعويدها على جيرة الإنسان، لاسيما ما كان منها من ذوات الظلف المدرة للبن. وحين نتناول ظروف شبه الجزيرة في تلك الدهور البعيدة، فلا ينبغي أن نتصور لها حدودًا مغلقة على أهلها أو أمام أهلها، فالحدود الإقليمية لم تكن معروفة بعد، وكانت الجماعات تنتشر هنا وهناك حيثما استطاعت وفي كل اتجاه بحثًا عن الأراضي النباتية والمعشبة التى يتوافر فيها حيوان الصيد والرعي وموارد الماء على نطاق الشرق الأدني باتساعه الكبير. ومن المحتمل كذلك أن الموقع المتوسط لشبه الجزيرة العربية قد يسر لبعض سكان أطرافها أن يشاركوا في نقل المتاجر المناسبة لعهودهم بين أقطار الهلال الخصيب حين بدأت عصورها التاريخية منذ الألف الثالث ق. م. وازدادت معها إمكانياتها ومطالبها. كما قام بعض هؤلاء السكان بدور الوسيط التلقائي في المناطق التي يرتادونها، عملوا كذلك في صلب العصور التاريخية على نقل ما يمكن الاتجار به من منتجات بلادهم نفسها لا سيما منتجات البخور واللبان والصموغ والمر من الجنوب العربي. ويبدو أن هذا الدور التجاري لم يتم على نطاق أوسع إلا بعد استئناس الجمل سفينة الصحراء واستخدامه في النقل والأسفار، نظرًا لما هو معروف عن قدرته على تحمل المشقة والعطش والسير المتصل في رمال الصحراء. وليس من المستبعد أن معرفة الإنسان بالإبل كانت قديمة وتقرب من قدم معرفته بغيرها من الحيوانات آكلة العشب المدرة للبن (ففي مصر القديمة مثلًا كشف عما يشبه هيئة الجمل في نحو 15 نموذجًا أثريًا منذ فجر التاريخ حتى الدولة الحديثة). ولكن الغريب هو أن مصادر شبه الجزيرة والهلال الخصيب ومصر لم تذكر الجمل أو اسمه صراحة إلا في وقت متأخر يقدره الباحث ألبرايت ( W.Albright) بالنصف الثاني من الألف الثاني ق. م. (وفي حوالي القرن 12ق. م.). وإذا صح أن هذا التاريخ ينطبق فعلًا على استخدام الجمل في النقل والتنقل في شبه الجزيرة لكان فيه ما يفسر بداية

التغيير في الحياة النمطية لسكانها في وقت لاحق بقليل. ويبدو أن العرب كانوا قبل ذلك يعتمدون على الحمير. ولهذا ظلت تحركاتهم بطيئه، فلما استخدموا الإبل زادت إمكاناتهم الاقتصادية وأصبحوا أقدر على مداومة الاتصال بعضهم ببعض. وعلى تكوين الوحدات السياسية فى بعض المناطق المشجعة على حياة الاستقرار. واتسعت آفاق اتصالاتهم حينذاك بجيرانهم في الهلال الخصيب وانتفعوا ببعض عناصر خصائص حضاراتهم المتقدمة وأخصها فكرة الكتابة. وربما زكى هذا الارتباط ما يتجه إليه بعض الرأي من إرجاع أوائل النصوص العربية المعروفة، وهي مجرد مخربشات أولية في مثل وادي بيجان بالجنوب العربي، إلى أواخر الألف الثاني ق. م. وقد وجدت حول نبع ماء دائم وعدة برك صغيرة. وبفضل العوامل الطبيعية والبشرية والتطورية التي تقدم ذكرها ظهرت دول وإمارات عدة على فترات مختلفة في مناطق متفرقة من شبه الجزيرة. فتميزت في الجنوب العربي خمس دول كبيرة، وهي سبأ وقتبان وأوسان ومعين وحضرموت، وقد تعاصر بعضها على بعض، وتعاقب بعضها إثر بعض. وكانت للدولة الأولى منها وهي سبأ عدة أطوار متعاقب. وانتفعت هذه الدول بما اتصفت به بيئاتها من الوفرة النسبية في الأمطار والوديان والأنهار. والوفرة النسبية بالتالي في محاصيل الزراعة ومنتجاتها البخور والصموغ واللبان والمر والذريرة، وربما في بعض المعادن أيضًا كالذهب. وانتفعت كذلك بإشرافها على مداخل طرق القوافل التجارية الرئيسية التى كانت تربط بين جنوب شبه الجزيرة وبين شمالها ثم تتفرع بعد ذلك إلى مختلف مناطق الهلال الخصيب، ثم بإشرافها شيئًا فشيئًا على مناطق ساحلية طويلة أطلت بموانيها (المحدودة) وخلجانها الطبيعة على البحر الأحمر وعلى المحيط العربي (أو الهندي) فتعاملت منها مع مناطق الإنتاج الطبيعي على سواحل أفريقيا الشرقية. وبعد ذلك مع سواحل الهند الغربية. وقامت بدور الوسيط التجاري في تصديرها إلى مناطق الاستهلاك والاستيراد في العالم الخارجي المتحضر القديم. وتوزعت مناطق العمران والاستقرار والحضارة فى المناطق الشمالية والغربية والوسطى والشرقية من شبه الجزيرة العربية والخليج، على أسس مشابهة فتركزت في الوديان وحول موارد المياه في مناطق الواحات والحرات وحول الطرق التجارية الداخلية. والطرق التجارية الكبيرة المؤدية إلى الخارج، وحول الخلجان والموانئ على السواحل البحرية. وهكذا ظهرت مع توالي العصور إمارات مدين وعاد وثمود. وممالك دومة، وقيدار، وتيماء وددان، ولحيان، والأنباط، وكندة وتجمعات مذحج والأزد

وقحطان ومعد. كما ازدهرت مكة ويثرب، وانتعشت مواني الشعيبة والجار والوجه والحوراء وآملج على البحر الأحمر، وجرها وأقطار دلمون وماجان وملوخا على الخليج العربي. وربما قامت إلى جانب ذلك تجمعات قبلية أخرى في قلب الصحراء لم تكتشف آثارها بعد. وأخيرًا قامت على الأطراف الشرقية والشمالية الغربية. دولة المناذرة، ودولة الغساسنة، حتى ظهر الإسلام وجعل من شبه الجزيرة العربية دولة كبيرة واحدة. ولم يقتصر نشاط العرب القدماء على أرضهم، وإنما خرجت جاليات منهم إلى جزيرة سوقطرة وساحل الصومال وشاطئ الحبشة وميناء رهابتا قرب دار السلام في شرق أفريقيا. وذلك بطبيعة الحال إلى جانب هجراتهم الشعوبية الكبيرة التى استوطنت في بعض أراضي الهلال الخصيب على فترات متباعدة لا سيما في مناطق الأطراف الواصلة بينها وبين البوادي القريبة منها. وسوف يعترضنا خلال البحث التفصيلي للدول والإمارات العربية القديمة كثير من الجدل حول تحديد بداياتها الزمنية. وترتب هذا الجدل على أن كتبة تلك الدول والإمارات لم يسجلوا أحداثها بتاريخ ثابت إلا في عهود متأخرة. ولم يسجلوا سنوات حكم ملوكهم إلا في عهود متأخرة أيضًا. ولم تعرف لهم حتى الآن قوائم ترتب أسماء حكمهم واحدًا بعد الآخر. وذلك بحيث أنه لا يتيسر تحديد عهد حاكم منهم تحديدًا قاطعًا إلا إذا ورد اسمه أو مايدل عليه في نص خارجي معاصر له، من النصوص المسمارية، والمصادر المصرية والشامية والإغريقية والرومانية، أو إذا كان عهده من العهود المتأخرة التى استخدم بعض العرب فيها التاريخ الثابت، حين عرفوه على أطراف الشام بعد عام 312ق. م.، وعرفوه في سبأ وحمير في عام ما بين 115 وبين 109 ق. م. واستخدموه في دولة الأنباط في عام 106 بعد الميلاد.

خطوط الكتابة القديمة في شبه الجزيرة العربية

خطوط الكتابة القديمة في شبه الجزيرة العربية ... خطوط الكتابات القديمة في شبه الجزيرة العربية ترجع خطوط الكتابات القديمة التى سبقت الخط العربي المألوف في شبه الجزيرة العربية، إلى مجموعتين كبيرتين: مجموعة شاعت فيها كتابة المسند، وهي كتابة استخدمتها الدول العربية الجنوبية المتحضرة القديمة، سبأ وقتبان ومعين وحضرموت وأوسان. ثم شاركتها فيها بعض الإمارات والجماعات الشمالية والغربية في شبه الجزيرة العربية وما يتصل بها من جنوب الشام، بعد أن حور كتبتها في أشكال حروفها بما يتفق مع مدى إتقانهم لها وربما بما يناسب مخارج ألفاظهم، تعديلات عفوية أحيانًا وتعديلات مقصودة أحيانًا أخرى. وهكذا خرجوا منها بخطوط إقليمية امتاز منها الخط اللحياني والخط الثمودي والخط الصفوي. ويرى بعض اللغويين أن هذه الخطوط الإقليمية يمكن التمييز فيها أيضًا بين عدة خطوط فرعية محلية اختلفت فيما بينها باختلافات طفيفة. ثم مجموعة ثانية من الخطوط اعتمدت أساسًا على قواعد الكتابة الآرامية وكتب بها فريق آخر من الدول والإمارات العربية الشمالية والغربية، بعد أن حور كتبتها فيها هم الآخرون تحويرًا قليلًا أو كثيرًا. وأهم هذه الدول هي إدوم والأنباط وتدمر، مع احتمال وجود خطوط أخرى فرعية في داخلها. وأخيرًا اشتق كتبة الحجاز الخط العربي الصريح من الخط النبطي في الأجيال القليلة التى سبقت ظهور الإسلام لا سيما في مكة ويثرب. وعثر على بعض نصوص هذه الكتابات الشمالية منها والجنوبية منقوشة على سطوح حجرية كبيرة وصغيرة مثل جدران المعابد ومداخل المدن والحصون وسفوح الجبال وقواعد التماثيل وسطوح النصب وكسر الحجر الصغيرة. وعثر عليها منقوشة كذلك على سطوح معدنية كالصحاف وقواعد التماثيل الصغيرة وقطع العملة وما إليها. وربما كانت منقوشة على الأخشاب أيضًا. ولكن ندر حتى الآن ما يحتمل معه أن العرب القدماء كتبوا عليه من ألواح الصلصال التي كتب عليها كتبة الهلال الخصيب، والجلود والرق والعظام وحقاف النخيل التى كتب العرب عليها في صدر الإسلام، أو صحائف البردي التى صنعها وكتب عليها المصريون القدماء ثم تعلم استخدامها منهم بعض الآراميين. ولو أنه ليس من المستبعد أن العرب القدماء في الشمال وفي الجنوب كتبوا على بعض هذه المواد، ولكنها بليت بمرور الزمن نظرًا لطبيعتها الهشة وفعل الأرضة والحشرات فيها.

وفي سياق النصوص المنقوشة يمكن التمييز بين نوعين: نصوص مطولة إلى حد ما نقش الكتبة المهرة حروفها بعناية على جدران المعابد والنصب وواجهات المقابر والمباني الدنيوية الكبيرة أحيانًا، وعلى بعض المصنوعات الثمينة. ثم نصوص أخرى مختصرة أطلق المستشرقون عليها لفظ المخربشات. وقد حزها أو خربش حروفها فى عجلة رجالة عاديون من أهل المدن والقرى لخدمة مطالب حياتهم اليومية، كما حزها وخربش حروفها بعض الكتبة المصاحبين للقوافل على سفوح التلال وجوانب الوديان التى كانوا يمرون بها ويريحون عندها، وسجلوا فيها بعض أسمائهم ودعواتهم بأسماء معبوداتهم، بل وبعض ما عن لهم من خواطر شخصية أيضًا.

كتابة المسند

كتابة المسند: ليس ما يمكن تأكيده حتى الآن عن المنطقة أو الدولة التى بدأت فيها كتابة المسند في الأجزاء الجنوبية من شبه الجزيرة العربية. فبينما كان هناك رأي قديم رد ابتداعها إلى دولة معين، نبه رأي آخر إلى دلالة العثور على أقدم صور معروفة لهذه الكتابة في دولة قتبان. ونبه رأي ثالث إلى وضع ظاهر تركز أغلب النصوص المعروفة حتى الآن في دولة سبأ موضع الاعتبار. ومرة أخرى ليس ما يمكن تأكيده عن العهد الذي ظهرت فيه بداية كتابة المسند في هذه المناطق، وذهب بعض الاحتمال إلى تعيين هذا العهد بأواخر الألف الثاني ق. م. أو أوائل الألف الأول ق. م.، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وإن افترضت جاكلين بيرن لها تاريخًا أحدث من هذا بكثير. وتضمنت كتابة المسند تسعة وعشرين حرفًا جامدًا لم تتأكد أسماؤها القديمة ولا ترتيبها القديم حتى الآن. ولكن تشابهت أصوات ثمانية وعشرين حرفًا جامدًا لم تتأكد أسماؤها القديمة ولا ترتيبها القديم حتى الآن. ولكن تشابهت أصوات ثمانية وعشرين حرفًا منها مع أصوات حروف الهجاء العربية الحالية، وزادت عليه حرفًا واحدًا يسمى (في العبرية) حرف سامك كان ينطق قريبًا من نطق حرف السين على الرغم من وجود سين أخرى عادية في كتاب المسند (وقد وجد حرفان للسين فى الكتابة المصرية القديمة أيضًا). وذلك في مقابل عدم تضمنها حرف لا المركب في الكتابة العربية. وتتصف كتابة المسند بصفات أخرى بعضها اختصت به. وبعضها اشتركت في مع غيرها من الكتابات السامية القديمة. وكان من ذلك على سبيل المثال:

أولًا: كانت حروفها تخطيطية، وليس صورًا صريحة أو مقاطع صوتية. وقد يدل ذلك على أنه كانت لها أصول أخرى تصويرية لم تكتشف بعد، أو أنها نقلت حروفها ناضجة من كتابة أخرى متطورة هي فيما يغلب على الظن الكتابة الكنعانية المبكرة. ثانيًا: أن حروفها ظلت تكتب منفصلة غير متصلة. الواحد منها بجوار الآخر، وكان ذلك هو شأن أغلب الكتابات القديمة أيضًا حتى ما قبل الميلاد بقليل. ثالثًا: لم تتغير أشكال حروف المسند، سواء كتبت في بداية الكلمة أو وسطها أو آخرها. وكانت سطورها الأفقية تكتب عادة من اليمين إلى اليسار. ولكن فردية الحروف، وثبات أشكالها، كل منهما سمح لبعض الكتبة ببداية السطور من اليسار أحيانًا. وقد يخالف الكتاب بين بدايتي سطرين متتاليين فيبدأ أولهما من اليمين ويبدأ الثاني من اليسار، إما لإظهار المهارة ورغبة التغيير، أو للتعمية على القارئ العادي في النصوص اللغوية. رابعًا: كانت كل كلمة فيها تنفصل عن الأخرى في سطرها الأفقي بخط قائم، دون ترك مسافة مقصودة بين كلمة وأخرى إلا في القليل النادر وذلك مع إلحاق حرف الوصل بأول الكلمة المتصل بها. خامسًا: أنها لم تتضمن حروفًا لينة أو حروف حركة ولم تسجل تشكيل الحروف، شأنها في ذلك شأن أغلب الكتابات السامية القديمة، وإن لم يمنع هذا من ترجيح استعمال الحروف اللينة في لغتها المنطوقة ووجود قواعد شفهية لنطق كلماتها مشكلة. سادسًا: أنها لم تأخذ بالحروف المنقوطة، واكتفت بتغيير أشكال حروفها المتقاربة بعضها من بعض. سابعًا: أنها عبرت أحيانًا عن التعريف والتنوين بإضافة نون أخيرة في نهاية الاسم، كما عبرت أحيانًا عن التنكير بإضافة حرف ميم أخيرة في نهاية الاسم، وذلك بما يتفق مع لهجة أهلها. ثامنًا: أنها نسبت أغلب أفعالها إلى ضمير الغائب، على الرغم من معرفة لغتها بضمائر المتكلم والمخاطب في الإفراد والجمع والتذكير والتأنيث. تاسعًا: أنها اكتفت في أغلب أحوالها بكتابة أصول الأفعال، وتركت للقارئ أن يستنتج صيغ هذه الأفعال من سياق النصوص، فيما خلا التعبير عن صيغة المستقبل بإضافة حرف السين أو حرف الهاء في بدايتها، بما يتفق مع لهجة أصحابها.

عاشرًا: أنها عبرت عن التشديد أحيانًا بتكرار الحرف المراد تشديده، ولم تتضمن ما يعبر صراحة عن صيغة الاستفهام وما يشبهها. وتعددت آراء اللغويين في تعليل تسمية كتابة المسند وأقرب هذه الآراء إلى الاحتمال رأين وهما: أولًا: أن العرب الجنوبيين كانوا يستخدمون كلمة مسند بمعنى الكتابة على الإطلاق. ويزكي هذا الفرض أن بعض الأوامر الملكية القديمة كانت تبدأ عندهم بعبارة: سطرو ذن مسندن، أى: سطروا أو أكتبوا هذه الكتابة. ثانيًا: أن الفواصل القائمة بين كل كلمة وأخرى في هذه الكتابة، قد أوحت إلى أهلها، أو أوحت إلى المؤرخين المسلمين، بتسمية خطهم باسم الخط المسند، على اعتبار أن كل كلمة فيه تكاد تستند على الخط القائم الذي يسبقها والخط القائم الذي يليها. أسلفنا أن بعض الدول والجماعات العربية الشمالية كتبت بالخط المسند، نتيجة لظروف واتصالات نتعرض لها فيما بعد، وأهمها دولة ددان أو لحيان التى قامت حاضراتها في واحة العلا الحالية. وكانت حروفها أقرب الحروف الشمالية شبهًا بحروف المسند الجنوبية، مع تعديلات طفيفة فيها. ثم جماعات الثموديين الذين تعددت مناطقهم في شمال الحجاز وشمال نجد وغيرهما من مناطق شبه الجزيرة وخارجها، وقد كتبوا نصوصهم الرأسية بخط تقيدوا فيه بأشكال حروف المسند التقليدية في النصوص الرئيسية، وخط آخر اشتقوا أشكال حروفه من أشكال المسند أيضًا ولكنهم حوروا فيها تحويرًا ملحوظًا وغالبًا ما استخدموه في النصوص الموجزة والمخربشات. أما المنطقة الثالثة التى أخذت بكتابة المسند فقد انتشرت نصوصها أساسًا بين جبل سيس شرقي دمشق وبين قلعة الزرقا إلى الشمال الشرقي من عمان (وعلى سفوح جبل حوران إلى الجنوب الشرقي من دمشق). وسميت كتابتها اصطلاحًا باسم الكتابة الصفوية، مع أن أقدم نصوصها وجدت في الحرة وليس في الصفا، ولكن كثرة الحرار واتقاء اللبس بينها دعيا إلى نسبتها تجاوزًا إلى الصفا. وقد حور كتبتها في رسم حروفها عن حروف المسند أكثر مما فعل غيرهم. ولم ينتشر الخط المسند القديم في هذه المناطق العربية وحدها، وإنما وجد سبيله كذلك إلى منطقة أكسوم الحبشية حيث كتب به الجعزيون (وهم الأحرار من نصوصهم بين اللغة الأفريقية المحلية وبين اللغة العربية الجنوبية. ويرى بعض اللغويين أن تسميات الحروف وترتيبها فيما احتفظت به الأبجدية الحبشية قد تلقى

ضوءًا على تسميات وترتيب الحروف في الجنوب العربي القديم نظرًا للصلات المكانية والبشرية والحضارية بين الجانبين.

الخط النبطي وتطوره الى الخط العربي

الخط النبطي وتطوره إلى الخط العربي سلف التنويه بمجموعة رئيسية ثانية من الخطوط القديمة في شبه الجزيرة العربية رجعت أصولها إلى الكتابة الآرامية ثم سلكت وجهات إقليمية أو شعوبية، وتمايز منها الخط النبطي والخط التدمري فضلًا عن الخط السرياني ... إلخ. ويعنينا الآن منها الخط النبطي بخاصة لوثيق صلته بالخط العربي ووثيق صلة أصحابه بالعرب. تعلم كتبة الأنباط الخط الأرامي من موضعين، من إمارة إدوم بعد أن استقروا في أرضها وتغلبوا على حكمها في نواحي هضبة إدوم وجبل سعير شرقي العقبة وجنوب شرقي الأردن، ثم من دويلة دمشق الآرامية الأصل التى اتصلوا بها عن طريق التجارة واستفادوا من حضارتها وحاولوا أن يحتلوها أكثر من مرة. وحين تعلم الأنباط الخط الآرامي تعلموه كيفما اتفق وفي غير دقة كبيرة، فرسموا حروفه في أشكال مختصرة وكتبوا بها لغتهم المحلية وكانت لغة عربية فى مجملها ولكنها عربية ذات رطانة آرامية لاسيما فى مناطق استقرارهم الشمالية. وكان الآراميون ومن أخذوا بخطهم قد كتبوا حروفهم من قبل مفردة، وكلماتهم متعاقبة دون فواصل بينها. فلما انفرد الأنباط بخطهم كان خير مازادوه فيه تجديدان، وهما محاولة وصل حروف الكلمة الواحدة بعضها ببعض، أو على الأقل محاولة وصل الحرفين المتجاورين مع بعضهما. ثم محاولة الفصل بين كل كلمة والكلمة التى تليها في سطرها الأفقي بطريقة ما. وأدى هذان التجديدان إلى زيادة الفوارق بين الخط النبطي وبين أصوله الآرامية القديمة. وبدأ كتبة الأنباط خطوة وصل الحروف بالوصل بين حرفي الباء والراء في كلمة بر بمعنى بن نظرًا لكثرة استخدامها في ذكر نسب الشخص إلى أبيه. واتخذوا الوصل بين هذين الحرفين نموذجًا لكلمات ثنائية أخرى تبدأ بحرف الباء (مثل به)، وذلك منذ القرن الأول قبل الميلاد على أقل تقدير. ثم طبقوا هذا الربط على أغلب الكلمات الثنائية الأخرى (مثل يد، من، نه، إلخ). وبعض الكلمات الثلاثية التي يكثر استعمالها في كتابة النصوص مثل كلمة ملك، وفعل عبد بمعنى صنع، وذلك منذ القرن الأول الميلادي. وعملوا بعد ذلك على تطبيق هذه الطريقة على كثير من كلماتهم الأخرى خلال القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، مع استثناء حروف معينة تركوها مفردة (مثل الألف والواو).

واستخدم الأنباط أربع وسائل في ربط الحروف ببعضها، وهي: أسند الحرف على ساق الحرف الذي يليه. ب ربط الحرف بذيل الحرف الذي يليه. ج مزج الحرف مع الحرف الذي يليه مثل: لا. د ربط حروف الكلمة من أسفلها برباط واحد. وشابه الأنباط فى محاولات الربط بين الحروف، كتبة دولة تدمر في القرن الثالث الميلادي على أقل تقدير. أما خطوة الفصل بين كل كلمة وأخرى، فاستخدم كتبة الأنباط لها أربع وسائل أيضًا لا زلنا نستعمل بعضها حتى الآن، وهي: أالتفرقة بين شكل الحرف إذا أتى في أول الكلمة وبين شكله إذا أتى في وسطها أو في نهايتها. ب إطالة ذيل الحرف النهائي للكلمة. ج الفصل بين كل كلمة والكلمة التي تليها بفراغ قليل، ولو أن هذه الوسيلة كانت قليلة الاتباع. د إضافة حروف أجنبية استعاروها من نصوص جيرانهم، إلى نهاية الكلمة (مثل الألف النهائية والتاء النهائية). ولو أنهم ما لبثوا حتى استغنوا عن بعضها بعد أن تعودوا على بقية وسائل الفصل الأخرى. وظلت تنقص الكتابة النبطية خطوات أخرى لم يستكملها العرب إلا في صدر الإسلام، وهي: عدم تنقيط الحروف المتقاربة مما أدى إلى تشابه كتابة التاء مع الثاء، والدال مع الذال، والصاد مع الضاد .. إلخ. وعدم كتابة حروف الحركة أو حروف المد في داخل الكلمة (مثل كتابة ملك عوضًا عن مالك). وعدم تشكيل الحروف أو الكلمات. وكتابة تاء التأنيث الأخيرة تاء مفتوحة على الرغم من نطقها هاء، مثل حرثت عوضًا عن حارثة. وكليبت عوضًا عن كليبة ... إلخ. ولكن في مقابل هذا تضمنت اللغة النبطية بعض القواعد التى عرفتها اللغة

العربية، مثل إضافة الـ التعريف، واستخدام الفاء والواو للترتيب، والاستثناء بكلمة غير، واستخدام الماضي في الدعاء. وبعد أن ورث العرب الشماليون خط الأنباط واستخدموه، أضافوا إليه بضعة تجديدات قبيل ظهور الإسلام وفي أوائله. ومن هذه التجديات ربط بعض الحروف من رأسها لتصبح تحت مستوي السطر مثل الراء والنون في لفظ الرحمن. وزادوا في تحوير أشكال بعض الحروف إلى صور قريبة مما نستخدمه لها الآن مثل شكل الهاء في بداية الكلمة ووسطها ونهايتها، وشكل الياء في أول الكلمة وفي آخرها ... إلخ. وكما استفاد الكتبة العرب من أسلوب الخط النبطي أثروا في زيادة صبغ النصوص النبطية بلهجتهم العربية على حساب اللهجة الآرامية منذ القرن الثالث والقرن الرابع الميلاديين كما يتضح في نقش النمارة ونقوش سيناء، ثم جعلوها عربية خالصة في القرنين الخامس والسادس اليلاديين، كما يتضح من نيقش زبد ونقش حران. واختلف المؤرخون المسلمون القدماء فى تحديد المنطقة التى تطور الخط النبطي فيها إلى صورته العربية التى عرف بها قبيل ظهور الإسلام. واتجه أغلبهم إلى نسبة هذا التطوير إلى الحيرة، وقالوا فيما قالوه إن أهل الحيرة أخذوه عن الأنبار وإن الأنبار أخذوه عن اليمن، وإن ثلاثة من قبيلة بولان في الأنبار اجتمعوا فوضعوا الحروف المقطعة والموصولة، والمنقوطة وغير المنقوطة. ويبدو أنه ساعدهم على القول بهذا الرأي ما تواتر إليهم عن رقي حضارة أهل الحيرة في عهود المناذرة، وما علموه من أن بعض عربها النصارى كانوا يكتبون الإنجيل ويقرءونه، ويدونون أخبارهم ويرسلون أبناءهم إلى الكتاتيب، وأن فريقيًا منهم كان يقرأ الفارسية واليونانية. واتجه الباحثون المحدثون وجهة أخرى، ومنهم خليل يحيى نامي الذي أصدر بحثًا عن أصل الخط العربي استبعد فيه الرأي السابق، على اعتبار أن المسيحيين من أهل الحيرة كانوا يكتبون بالخط السرياني، والخط السرياني وإن كان فرعًا من الكتابة الآرامية إلا أنه فرع بعيد عن أصول الكتابة العربية. وكان المؤرخ العربي هشام الكلبي أكثر توفيقًا من بقية المؤرخين المسلمين القدامى في تخمين منطقة تطوير الخط النبطي إلى صورته العربية، فنقل عنه ابن النديم أن العرب أخذوا خطهم عن أهل مدين. وأن المقاطع التى حفظ العرب بها أبجديتهم تعبر عن أسماء ملوك مدين. ورأ خليل نامي وغيره أنه لا بأس من

قبول الشطر الأول من هذا الرأي دون الشطر الأخير، وذلك على اعتبار أن الأنباط انشتروا في نفس المنطقة التى كان يسكنها قديمًا أهل مدين وكتبوا فيها بخطهم (في مثل مغاير شعيب والحوراء في شمال الحجاز). وعن هذا الخط الأنباطي أخذ عرب الحجاز ولكن ليس عن خط أهل مدين بالذات، ويسر ذلك لهم قربهم من المناطق الشمالية وتعاملهم معها في التجارة وما تتطلبه شئون التجارة من الكتابة. وكانت أهم مراكز الكتابة في مناطقهم هي مكة ويثرب. وقد ذكر البلاذري أنه لما ظهر الإسلام كان في قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتب. وكانت الشفاء بنت عبد الله العدوية تحسن الكتابة. ولما دخل الإسلام يثرب كان من الأوس والخزرج عدة يكتبون. تشابهت النصوص القديمة في شبه الجزيرة العربية مع نصوص الحضارات الأخرى في الشرق الأدنى وغيره في بعض أغراضها واختلفت عنها في بعض آخر. فتشابهت معها في اهتمامها بتسجيل أخبار الانتصارات الحربية، وإقامة المنشآت العامة والمشروعات العمرانية والدفاعية، وتسجيل الدعوات الدينية وألفاظ التعبد، والهبات المقدمة إلى المعابد، وتسجيل مراسيم الضرائب وبعض المعاملات الشخصية كالبيوع والمواريث، وتسجيل أسماء أصحاب المقابر ودعواتهم وتخصيصها لهم. ولكن هذه النصوص لا تزال تنقصها حتى الآن ما تضمنته نصوص الحضارات الكبيرة القديمة الأخرى من قصص وأساطير وعلوم وتعاليم مطولة، ولا تزال تنقصها كذلك المدونات التاريخية المنسقة التى تتحدث عن قصد عن أخبار الماضي وحوادثه وترتب أسماء حكامه وعهودهم تدوينًا مرتبًا متصلًا. وليس من اليسير أن نقرر ما إذا كان العرب التقدماء قد تجاوزوا عن الكتابة في هذه النواحي فعلًا، أم أنهم كتبوا عنها ولكن لازالت نصوصها خبيئة تنتظر كشف اللثام عنها، لا سيما وأن قلة قليلة من النصوص المطولة نسبيًا بدأت تلفت أنظار بعض الباحثين إلى احتمال صياغتها على هيئة السجع أو الرجز أو النشيد. ويقتضي هذا السياق أن نشير إلى حقيقة معروفة وهي أن نشأة الكتابة والنصوص المكتوبة لا ترتبط بنشأة اللغة المنطوقة أو بمدى النشاط الفكري عند أهلها. فليس من شك في أن كل الجماعات البشرية كانت لها لغاتها التى تتفاهم بها منذ أن بدأت تجمعاتها على سطح الأرض. وليس من شك كذلك في أن كل جماعة كانت تناقل عقائدها الدينية وأخبار أسلافها وأنسابها وآدابها وأساطيرها عن طرقيق الرواية قبل أن تعرف الكتابة بأزمان طويلة. ولعل في ثراء الشعر الجاهلي وثراء النثر معه ما يرجح دسامة الآداب العربية الشمالية القديمة التى لم تعرف طريقها إلى التدوين أو التى لم يعثر على مدوناتها الكبيرة حتى الآن.

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: بيستون، وريكمانز، والغول، ومولر: المعجم السبئي -من منشورات جماعة صنعاء -بيروت- 1982. خليل يحيى نامي: أصل الخط العربي وتطوره إلى ما قبل الإسلام -القاهرة 1934. Beeston, A.F.L.,A Descriptive Grammar of Epigraphic South Arabian, London 1962. Pirenne, J., Paleographie des Inscriptions Sud -Arbes, Brus -sel, 1956

الفصل الثالث: تمهيد في جنوب شبه الجزيرة العربية

الفصل الثالث: تمهيد في جنوب شبه الجزيرة العربية مدخل ... الفصل الثالث في جنوب شبه الجزيرة العربية تمهيد: قدمنا بما يحتمل من قيام نشاط عمراني داخلي قديم في بعض مناطق شبه الجزيرة العربية، وقيام نشاط اقتصادي مناسب للتعامل به في داخلها ومع ما في خارجها معًا، وذلك حتى عندما كان أهلها لا يزالون يتألفون من وحدات صغيرة وقبائل متفرقة، ومن قبل أن ينشئوا دولًا سياسية مستقرة بفترات طويلة، ويكفي هنا من القرائن التى تزكي هذا الاحتمال في إيجاز عثورنا على نص مصري قديم يسجل وصول وفد من بحار جنبتيين بمتاجرهم من اللادن والكندر والمر والبخور إلى مصر في العام 32 من عهد الفرعون تحوتمس الثالث (أي في حوالي عام 1458 ق. م.). وكان الجنبتيون أو الجبانيتاي كما ذكرهم بعض المؤرخين الإغريق والرومان فيما بعد، عشائر نشطة من العرب القتبانيين في جنوب شهبة الجزيرة العربية. وحدث قبل وصول هذا الوفد إلى مصر أن اعتزم رجال البحرية المصرية في عام 1482 ق. م. خلال عهد الملكة حاتشبسوت التى سبقت الفرعون تحوتمس الثالث في الحكم، أن يصلوا بأسطولهم التجاري إلى مدرجات الكندر في الجنوب العربي ليتعاملوا مع تجارها مباشرة ويوفروا بذلك تكاليف الوساطة والوسطاء بينهما. وقد اعتبروا هذه المدرجات من أرض الله التى وقفها على تزويد معابدهم بأطايب البخور، وأملوا خيرًا في أن يهديهم ربهم إلى طرق البحر والبر المؤدية إليها. ولكن وسطاء التجارة من سكان منطقة بوينة (أو بونت) على الشاطئ الأفريقي للبحر الأحمر قرب نواحي الصومال أو إريتريا الحاليتين، خشوا أن يفقدوا مكاسبهم فبالغ أميرهم أمام المندوبين المصريين حين وصلوا إلى أرضه في تصوير استحالة عبور مضيق باب المندب المؤدي إلى مدرجات الكندر (في الجنوب العربي) وصعوبة اختراق ما ورائه من طرق برية، وادعى أن أحدًا لم يجرء على ذلك منذ أيام رع. ثم أرضى المندوبين المصريين بأن استورد من أجلهم 31 شجيرة من أشجار الكندر العربي الثمين حتى يزرعوها في حدائق معبد آمون المدرجة في مدينة طيبة ما داموا حريصين على أن يعودوا

إلى بلدهم بهذا النوع الثمين من البخور، وسوف تغنيهم زراعته عن تكبد مشقة الوصول إلى مدرجاته. ورضي المندوبون المصريون بهذا، ولو أن هذه الشجيرات لم تنجح زراعتها في مصر نظرًا للاختلاف في التربة وفي المناخ عن بيئتها الأصلية. وليس من المستبعد أن هذه الوقائع بلغت أسماع الجنبتين في جنوب شبه الجزيرة العربية وكانت من عوامل لفت أنظارهم إلى إمكان التعامل مع مصر مباشرة مادامت هي راغبة في ذلك. وقد وجدوا في عهد تحوتمس الثالث الذي ساد مناطق واسعة من الهلال الخصيب امتدت من الشلال الرابع في السودان إلى غرب الفرات بين الشام وبين العراق، ووطد الأمن فيها، ما شجعهم على تنفيذ رغبتهم. وليس من المستبعد مرة أخرى أن بعضهم سلكوا الطريق البرية في سير طويل ومراحل متعددة حتى وصلوا إلى البلاط المصري في منف أو طيبة. وبعد هذا العهد ظلت المناظر المصرية القديمة تصور ضمن تجار الكندر واللادن والبخور والمر الواردين إليها عن طريق البحر الأحمر وشواطئه، والذين اعتبرتهم من وجهة نظرها أتباعًا يؤدون الجزية إلى مصر، رجالًا ذوي ملامح سامية، يصلون إلى العاصمة المصرية تارة، ويقفون عند سيناء تارة أخرى، وعند بعض الموانئ المطلة على البحر الأحمر تارة ثالثة. ويتبادلون المتاجر هنا وهناك مع المندوبين المصريين. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك ثلاثة فروض، وهي أنه ليس من المستبعد أن بعض هؤلاء التجار ذوي الملامح السامية كانوا من سكان السواحل العربية الشمالية الذين قاموا بدور الوساطة في نقل المتاجر من الجنوب العربي إلى مصر، وأن ما قام به الجنبتيون أسلاف القتبانيين من تعامل تجاري مع مصر في ذلك الزمن البعيد كانت تقوم بمثله طوائف عربية أخرى لم تعرف بعد أسماؤها القديمة، وأن ما كانوا يؤدونه من التبادل التجاري مع مصر كانوا يؤدون مثله مع الشام والعراق. وكانت سلعهم من البخور ومشتقاته تلقى الرواج الكبير هنا وهناك لكثرة استخدامها في المعابد وفي القصور، وفي المحافل والأعياد والمآثم والجنازات، وفي تركيب العقاقير، وإن زادت مصر فاستخدمتها كذلك بكثرة في عمليات التحنيط التى اشتهرت بها. وكانت الشعوب المستهلكة لهذه المنتجات الثمينة تنتج بعضها في أرضها أحيانًا، وتستورد بعضها من المناطق الأفريقية التى تنتجها، ولكن يبدو أن أفضل أنواعها هو ما كانت تسورده مباشرة أو عن طريق الوسطاء من مدرجات الجنوب العربي بالذات ولهذا عادت تجارته على أصحابه بأرباح وفيرة. وقد استشهدنا من قبل برأي ألبرايت وغيره من أن احتمال استخدام الإبل في عمليات النقل والتنقل منذ القرن الثاني عشر ق. م أو نحوه قد زاد من

الإمكانات الاقتصادية لعرب شبه الجزيرة العربية وزاد من إمكانات اتصالاتهم بالدول المحيطة بهم، وأن هذه الإمكانات وتلك قد هيأتهم لتكوين دول ودويلات غنية مستقرة تأخذ بأسباب الحضارة الراقية. وأغلب الظن أن التحول من الأوضاع القبلية إلى تنظيمات الدول المستقرة لم يتم بسهولة أو في وقت قصير. ولعله بدأ في بعض صوره على الأقل بنوع من التحالف على قدم المساواة بين القبائل ذات المصالح المشتركة والمناطق المتقاربة، والمترابطة بروابط الدم والنسب، ثم عملت الظروف عملها في تغليب كفة فريق منهم على فريق في إطار هذا التحالف، ووصول أكبر زعمائه إلى الرياسة التى أصبحت وراثية في أعقابه، سواء تحت راية الدين أم بتأثير القوة والثراء ونبالة الأصل. ويبدو أن أقدم الجماعات التى نهجت مثل هذا النهج المحتمل هي الجماعات السبئية التي أشارت الكتب السماوية إلى أهميتها منذ أيام سليمان عليه السلام، أي منذ القرن العاشر ق. م على أقل تقدير. ولهذا سوف نبدأ فيما يلي بدراسة المراحل الأولي من تاريخ دولتها دولة سبأ، دون أن ينفي هذا أن دولًا أخرى من الدول التي سوف نبحث تاريخها بعدها كانت تعاصرها فعلًا في بعض عهودها الأولى.

مشكلة نشأ دولة سبأ في عصورها المبكرة

مشكلة نشأ دولة سبأ في عصورها المبكرة ... دولة سبأ في عصورها المبكرة: توافرت لدولة سبأ بين المؤرخين القدماء والمحدثين شهرة لم تتوافر لما عداها من بقية الدول العربية الجنوبية القديمة. وترجع عوامل هذه الشهرة إلى عدة أسباب، أهمها: ذكر سبأ في أكثر من قصة من قصص العهد القديم، وفي أكثر من آية من آيات القرآن الكريم، وذكر أسماء بعض حكامها صراحة في النصوص المسمارية العراقية منذ القرن الثامن قبل الميلاد، واستمرار كيانها السياسي المتطور إلى ما قبل ظهور الإسلام بقليل، وارتباطها بعدة حوادث دينية وسياسية تأثر بها العرب الشماليون والجنوبيون قبيل ظهور الإسلام بقليل أيضًا، ثم بقاء بعض معابدها ومنشأتها الكبرى ظاهرة فوق سطح الأرض خلال العصور الإسلامية نفسها وحتى الآن. مشكلة النشأة: تناول بعض المستشرقين نشأة السبأيين (أو السبئيين كما يكتب اللفظ أحيانًا) من أكثر من زاوية واحدة، ويمكن إيجاز آرائهم فيها في نظريتين رئيسيتين، وهما: أولًا: نظرية زكاها عدد من الباحثين (مثل شرادر وكيبرت وهارتمان ودلتش وفريتز هومل)، ورأوا فيها أن السبأيين عاشوا أصلًا في شمال شبه الجزيرة العربية قرب منطقة الجوف الشمالي واستمروا فيها على البداوة زمنًا طويلًا، ثم دفعتهم دوافع معينة إلى الاتجاه نحو جنوب شبه الجزيرة قبيل بداية القرن الثامن ق. م بقليل حيث استقروا فيه. واعتمدت هذه النظرية على عدة قرائن سوف نناقشها واحدة بعد الأخرى بعد قليل. ثانيًا: نظرية ألمح إليها باحثون آخرون (ومنهم مولر وجلاسر وفنكلر ومايرثم ألوا موزيل). ويرون فيها أن السبأيين عاشوا منذ بداية أمرهم في الجنوب العربي، ولكن جالية منهم اتجهت خلال القرن الثامن ق. م أو قبله بقليل إلى الشمال وأقامت قرب واحة تيماء ومنطقة الجوف الشمالي لترعى المصالح التجارية لقومها في شمال شبه الجزيرة وعلى طرق القوافل المتجهة منها إلى الهلال الخصيب. ومع منطقية كل من هاتين النظريتين، يبدو أن النظرية الثانية منهما هي الأقرب إلى الصواب ولاسيما فيما يختص بأحوال السبأيين في عصورهم التاريخية.

أما النظرية الأولى فثمة شواهد تدعونا إلى الاكتفاء بالخروج منها بما يحتمل من أن السبأيين عاشوا قبل تكوين دولتهم السياسية المستقرة فى منطقتها الخصبة بجنوب شبه الجزيرة العربية، على ما عاش عليه أغلب أهل القبائل القديمة لا يعترفون بحدود إقليمية مفروضة وتتفرق بطونهم بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب وفقًا لظروفها الخاصة ومصالحها الطارئة وعلاقاتها بجيرانها. ولم يكن هذا هو شأن القبائل القديمة في الشمال والوسط فقط من شبه الجزيرة العربية، بل كان شأنها أحيانًا أيضًا في الجنوب الخصيب نفسه. ولتوضيح ذلك نعاود عرض ومناقشة قرائن هذه النظرية الأولى التى افترضت بداية حياة السبأيين في شمال شبه الجزيرة، وهي قرائن أوردها أصحابها ممن أسلفنا ذكرهم من الباحثين متفرقة في سياق مؤلفاتهم فخرجت واضحة حينًا وغماضة حينًا آخر. وهي في مجملها قرائن لا تخلو من منطقية وإن كانت في الوقت نفسه لاتخلو من شك. ويمكن أن نجملها من ناحيتنا في ثمان قرائن نعرضها فيما يلي واحدة بعد أخرى، وتعقب على كل منها بما يزكيها أو ما يضعفها. أولًا: ذكرت التوراة كما ذكر القرآن الكريم أن حاكمة سبأية زارت سليمان عليه السلام في عاصمته أورشليم (خلال منتصف القرن العاشر ق. م)، وهي حاكمة لم تعرف حقيقة اسمها ولم يذكره لها القرآن الكريم. ولكن بعض الروايات العربية والعبرية والحبشية القديمة أطلقت عليها أسماء يلمقه وماقدة وبلقمة وبلقيس، على خلاف فيها بينها. وكلها فيما يرى أغلب اللغويين الحديثين قد تكون أسماء محرفة عن اسم إلمقه المعبود الأكبر لدولة سبأ (وذلك مع وجود احتمالات أخرى لتفسير بعض الأسماء المفترضة آنفًا لهذه الحاكمة بمعنى الزهرة في اللغة العربية القديمة، ومعنى الجارية أو المحظية في اللغة العبرية). ولا بأس من أن نشير ابتداءً إلى أن الجدل في اسم ومكان حاكمة سبأ هذه لا يتعارض مع الكتاب السماوية في شئ، فكما أن هذه الكتب لم تذكر اسمها صراحة، فهي أيضًا لم تحدد مكان دولتها بالشمال أو الجنوب. وعلى هذا الأساس من حرية البحث نستعرض ما ارتآه فيرتزهومل وأصحابه من أن هذه الحاكمة كانت تحكم منطقة قريبة من مملكة سليمان الفلسطينية وتقديم في منطقة ما من شمال شبه الجزيرة، وذلك بحجة أنه كان من المستبعد أن تسافر بحاشيتها من أقصى جنوب شبه الجزيرة إلى مقر سليمان في أورشليم، وأنه ما من نص عربي جنوبي قد أشار إلى إمرأة حكمت سبأ الجنوبية أو وليت حكم دولة أخرى من دول الجنوب، على حين ذكرت النصوص الآشورية نحو ست ملكات عربيات حكمن

في منطقة شمالية من شبه الجزيرة العربية. ومع منطقية هذا الفرض، نلاحظ أن هناك أربعة شواهد أخرى تدعو إلى إعادة النظر فيه، وهي: أ) جاء في القرآن الكريم عن حديث الهدهد مع سليمان {فَمَكَثَ غَيْرَ، بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} وإذا عنت جملة {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قصر المدة الزمنية على الرغم من طول المسافة المكانية، وهو المرجح للدلالة على إعجاز الحدث، فإن سياق بقية معجزة الهدهد يدل على أن أرض سبأ كانت بعيدة عن مملكة سليمان بحيث لم يحط علمًا بها، ولهذا لم يقم بينهما من قبل اتصال مباشر، أو على أقل تقدير لم تكن إحداهما تحيط بأحوال الأخرى إحاطة كاملة. ب) وجاء عن حديث الهدهد أيضًا: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ... } ومثل هذا الثراء الذى يتوافر فيه كل شيئ أقرب إلى أن يناسب المناطق العربية الجنوبية التى كانت لها في عصورها القديمة مواردها الطبيعية والاقتصادية ذات الوفرة النسبة. ولو كانت من المناطق العربية الشمالية فعلًا لصح التساؤل عن ثلاث ظواهر وهي: لم تظر آثار دولتها الثرية هذه في الشمال حتى الآن؟ وهل لقلة البحوث الأثرية هناك دخل في ذلك؟ ولم أهمل الرواة والمؤرخون العرب الشماليون ذكرها ولم يتفاخروا بها؟ وهل كان لبعدها الزمني الكبير عنهم دخل في ذلك؟ وأخيرًا إذا كان السبأيون قد بلغوا مبلغًا عظيمًا من الثراء في الشمال في عهد سليمان أي في القرن العاشر قبل الميلاد، فما الذي دعاهم بعد ذلك إلى النزوح إلى الجنوب؟ وهل كان لتقلبات الظروف المناخية دخل في ذلك؟ أم أنهم كانوا يقومون في عهده بدور الوساطة في نقل المتاجر الجنوبية إلى الشمال ثم طمعوا بعد ذلك في أن يسيطروا على مصادرها بأنفسهم ويقيموا عليها؟ هذه كلها تساؤلات تصعب الإجابة عنها بردود شافية للأسف فى حدود المعلومات التاريخية والأثرية المعروفة لنا حتى الآن على الرغم مما عقبنا به عليها من احتمالات شتى. ج) ذكر القرآن الكريم جنتي سبأ وسيل العرم، وكل منهما لا شك في قيامه في جنوب شبه الجزيرة العربية دون شمالها، بعد ذكر قصة سليمان ودولته، وذلك مما يمكن أن يدل على ترتيب مقصود للتنبيه إلى الرابطة القديمة بين الدولتين، دولة سليمان ودولة سبأ، وإلى العاقبة التى انتهت إليها أمور هاتين الدولتين.

د) ردت الأساطير الحبشية نسب أسرتها المليكة القديمة إلى سليمان وماقدة ملكة سبأ أو بلقيس ملكة سبأ. وربما تواتر خبر هذه النسبة المزعومة إلى الأحباش عن طريق أسلافهم القدامى، أو عن طريق جيرانهم السبأيين الجنوبيين، أو عن طريق رواة العبرانيين الذين اتصلوا بهم منذ أواخر القرن الرابع ق. م. وهي على أي وجه من هذه الوجوه تشير إلى أن دولة الجدة ما قدة التى انتسب ملوكهم إليها، إن حقًا وإن ادعاء، كانت في أغلب الظن قريبة من بلدهم أي في جنوب شبه الجزيرة العربية. وعلى أية حال فإنه يبدو أنه إلى جانب الكسب الديني الذي اكتسبه سليمان بتحويل حاكمة سبأ من عبادة الشمس إلى عقيدة التوحيد كما ذكر القرآن الكريم، كان هناك كسب اقتصادي آخر، إذ يسرت الصلة بينه وبين سبأ الانتفاع بطريق قوافل الإبل السبأية الجديدة التى تحمل منتجات البخور الجنوبية إلى دولته، وهو طريق يعتبر أقل نفقة وأخطارًا من طريق نقل المتاجر بأسطول سليمان عبر البحر الأحمر إلى أوفير التى ذكرتها التوراة، كما أنه أقل تكلفة قطعًا من طريق الوساطة عبر الخليج العربي والعراق إلى فلسطين. وقد روت التوراة أن ملكة سبأ حين قصدت سليمان أتت إليه بحاشية كبيرة وجمال تحمل الطيوب وذهبًا كثيرًا وأحجارًا كريمة وقالت كذلك، ولما سمعت ملكة سبأ عن اهتمام سليمان باسم الرب أتت تمتحنه بأسئلة صعبة. وأشار القرآن الكريم إلى هدايا حاكمة سبأ إلى سليمان ورفضه قبولها وتفضيله دعوتها إلى ديانة التوحيد. وبقي أخيرًا أنه إذا اعتبرت الحجة الأولى لنظرية هومل وأصحابه باستبعاد سفر الحاكمة السبأية من الجنوب العربي إلى فلسطين حجة غير ذات موضوع نظرًا لترجيح استخدام الإبل في السفر في عصرها، فإن الحجة الثانية لها لا تزال بغير رد شاف حتى الآن، وهي: لماذا لم تتضمن النصوص السبأية القديمة المعروفة اسم ملكة وليت عرش قومها في الجنوب؟ ولعل ما يمكن أن يرد به حتى الآن على هذا التساؤل هو أن الأمر قد يرجع إلى محض المصادفة، بمعنى أن أرض سبأ الجنوبية لا تزال تتضمن نصوصًا قديمة لم تكتشف بعد، هذا إذا كانت الكتابة قد عرفت فعلًا في عهد تلك السيدة التى قرئت رسالة سليمان في حضرتها أو تلت هي مضمونها وطلبت التشاور فيها. ثانيًا: ذكرت النصوص الآشورية السبأيين وحاكمين لهم في ثلاث مناسبات ترجع إلى أعوام 738 و 714 و 685 ق. م. فذكر نص للملك الآشوري تيجلات بيليسر الثالث في عام 738ق. م. أنه تلقى جزى السبأيين من الذهب والإبل والتوابل. وأكد نص للملك سرجون الثاني ملك آشور في عام 724ق. م.

أنه تلقى من إتي أمر السبأي (أو السبئي) جزى من الذهب والأحجار الكريمة والأعشاب والخيول. ثم ذكر نص لولده الملك الآشوري سيناخريب في عام 685 ق. م. أنه حين احتفل بوضع حجر أساس بيت أكيثو (وقد يكون معبدًا أو حصنًا أو قصرًا). استقبل منودبًا عن الحاكم السبأي كريبي إيلو حمل إليه جزاه (أو هداياه) من المعادن الثمينة والأحجارة الكريمة والطيوب، ووضع جانبًا منها بأمر مولاه في أساس المبنى الجديد. ولم يجد الباحثون المحدثون بأسًا في اعتبار اسمي الحاكمين السبأيين اللذين ذكرتهما النصوص الآشورية. محرفين عن بيع أمر وكرب إيل، وهما من حكام سبأ الأوائل. ثم أضافت النظرية الأولى أن السبأيين الذين صورتهم هذه النصوص يدينون بالولاء لدولة آشور لابد وأنهم كانوا يحسون بسطوتها ويخشون بأسها، وبمعنى آخر كانوا قريبين منها في شمال شبه الجزيزة وليسوا بعيدين عنها فى مناطق الجنوب. ولكن هذا الاستنتاج يضعفه من ناحية أخرى أن هومل وغيره (مثل سان جون فلبي) أرخوا بداية الكيان السياسي لحكام سبأ الجنوبية بعام 800 أو820 ق. م. وإذا صح هذا فلابد أنه حدث بعد فترة طويلة تكفي لاستقرارهم وبسط سيطرتهم على الأراضي التى نزلوها جنوبًا. وهو أمر يتعارض بداهة مع سابق الظن بوجود دولتهم في الشمال وتأثرها المباشر بسطوة الآشوريين حتى عهد سينا خريب في أوائل القرن السابع ق. م. ولا يكفي في هذا القول بأن الضغط الآشوري على طرق التجارة في شمال شبه الجزيرة هو الذي اضطر السبأيين إلى النزوح إلى الجنوب. فالمصادر الآشورية لم تصور السبأيين كأعداء تعمل جيوشها على طردهم وحرمانهم من التجارة، وإنما صورتهم مهادنين لملوكها تتوافر فيها علامات الود والطاعة، وإن أدوا الجزى إليهم أو أرسلوا هداياهم إلى بلاطهم. وهكذا يبدو أقرب إلى الاحتمال أن السبأيين الشماليين المتصلين بدولة آشور كانوا مجرد جالية تجارية أقامت قرب تيماء ومنطقة الجوف الشمالي كما رأت النظرية الثانية، لترعى المصالح التجارية لدولتها على طرق القوافل، وكانت تحس بسطوة الآشوريين فعلًا لقربها منهم وترى من مصلحتها أن تنتفع من الإتجار معهم والاحتماء بهم، ولم تجد بأسًا من أن تقدم إلى ملوكهم هداياها بأسماء ملوك دولتها الجنوبية، كما أن الآشوريين لم يجدوا بأسًا من ناحيتهم في أن يروا طاعتها لهم تعبيرًا عن طاعة دولتها الجنوبية لسلطانهم.

ثالثًا: ذكرت عبارة في الإصحاح الأول من سفر أيوب في التوراة أن لصوصًا سبأيين فتكوا برعاة أيوب، وقال قائل: البقر كانت تحرث، والأتن ترعى بجانبها، فسقط عليها السبئيون وأخذوها، وضربوا الغلمان بحد السيف، ونجوت أنا وحدي لأخبرك. ولما كان أيوب فيما يحتمل من أهل الشمال أكثر من أهل الجنوب، فإن ذلك قد عنى في رأي هومل وأصحابه أن السبأيين كانوا يعيشون في عهد أيوب قريبًا من دياره في شمال شبه الجزيرة وليس في جنوبها، وهو استنتاج طريف لولا أنه أقرب إلى أن ينطبق على بعض رجال الجالية السبأية الصغيرة التي أشرنا إليها، دون دولة سبأ الغنية الكبيرة. رابعًا: ذكرت عبارة أخرى من عبارات العهد القديم اسم سبأ إلى جانب اسم ددان. وكانت ددان هذه دولة شمالية قامت حول واحة العلا في شمال الحجاز. وقد عنى ذلك عند هومل وأصحابه أن سبأ كانت بدورها قريبة منها في الشمال وليست بعيدة عنها. وذلك استنتاج منطقي هو الآخر، ولكن يمكن أن يرد عليه بما انتهينا إليه في القرينة السابقة من حيث أنه أقرب إلى أن ينطبق على الجالية السبأية التى سكبت حول واحة تيماء إلى الشمال الشرقي من واحة العلا أو ددان. وقبل أن ندع قرائن التوراة لا بأس من أن نشير إلى أنه لما كانت أسفار التوراة قد أقرت في بعض قصصها الأخرى بالأمر الواقع من استقرار السبأيين في الجنوب في دولة سياسية كبيرة، اتجه بعض الباحثين إلى القول بأن هذه القصص عندما تذكر شبا تعني بها سبأ اليمن، وعندما تذكر سبأ تعني بها السبأيين القاطنين في الشمال، وإن كان كتبة التوراة قد خلطوا بين التسميتين في صحفهم ولم يراعوا هذه التفرقة كثيرًا. خامسًا: سجل كبيران من حكام ددان أيضًا في نص مشترك أنهما توجها بالشكر إلى أرباب معين (وكانت معين دولة جنوبية ارتبطت بها دولتهما بالولاء) على نجاة قافلة تجارية اضطرت إلى المرور في مناطق شملتها الحروب. وتعرضت خلال سيرها لهجوم سبأ (وخولاني) عليها. ورأى هومل أن الأخطار التى تعرضت لها هذه القافلة كانت في شمال شبه الجزيرة العربية، كما أضاف فلبي أنه ليس من المعقول أن يعمل السبئيون على نهب قافلة تجارية في عهود نضجهم السياسي وإنما الأرجح في رأيه أنهم كانوا لا يزالون يعيشون حينذاك على حالة من البداوة. ومرة أخرى يمكن التعقيب على هذا الاستنتاج بأنه إذا صح أن السبئيين الذين تعرضوا للقافلة المعينية كانوا من أهل الشمال فعلًا فإنه ليس هناك ما يحول دون اعتبارهم من أفراد الجالية السبأية الشمالية الصغيرة لاسيما وأن فشل

هجومهم عليها يدل على قلتهم وبساطة شأنهم. ويمكن أن نتجاوز هنا عن أن قبائل خولان التى ذكرت مع المهاجمين السبئيين قد عاشت هي الأخرى على أطراف الجنوب، وأن تاريخ نجاة القافلة متأخر عن تاريخ إنشاء دولة سبأ الجنوبية بأجيال كثيرة. سادسًا: جمعت بعض النصوص السبئية بين اسم سبأ واسم يقرأه هومل يهبليح ويراه مرادفًا لاسم دقلة وأنه يدل على منطقة الجوف في شمال شبه الجزيرة كما جمعت بينه وبين اسم يقرأه هومل أيضًا بيشان أو فيشان ويراه مرادفًا لاسم وادي الدواسر أحد أودية الشمال أو أودية الجنة على حد تعبيره. غير أنه يبدو أن هذا الاستنتاج لا يزال هو الآخر قرين الظن إن لم يكن قرين الافتعال، وكل ما يمكن قوله الآن هو أن اسم يهبليح قد استعمل كذلك للدلالة على قبيلة عاشت حول صرواح أقدم عواصم سبأ في الجنوب، وأن اسم بيشان إن دل على وادي الدواسر أو وادي بيشة فهو أقرب إلى حافة الربع الخالي، وإن دل على قبيلة عاشت حول صرواح أيضًا وانتسب إليها أوائل الحكم السبئيين. سابعًا: يرى هومل أن اسم مأرب (أو مريب) الذي اشتهرت به عاصمة سبأ الجنوبية (بعد صرواح) ذو صلة بلفظ أريبي الذي أطلقه الآشوريون على أعراب شمال شبه الجزيرة وبادية الشام، ولفظ يارب الذى أطلقته عليهم بعض نصوص التوراة، وذلك مما يعني في رأيه أن السبئيين كانوا من الأقوام الشماليين الذين عناهم الآشوريون والعبرانيون، فلما انتقلوا إلى الجنوب أطلقوه على عاصمتهم. ولكن يلاحظ على هذا الاستنتاج أن السبئيين في الجنوب لم يتخذوا مأرب عاصمة لهم منذ بداية أمرهم أي في الوقت الذي كانوا يستطيعون أن يتذكروا فيه أصلهم ويخلدوا ذكره، وإنما اتخذوا أولى عواصمهم في صرواح قبل أن ينتقلوا إلى مأرب بعشرات السنين. وهم لم يصفوا أنفسهم صراحة في نصوصهم المكتوبة بتسمية عرب أو أعراب المرادفة لتسمية أريبي الآشورية. بل ولم يستعملوها إلا في عهود متأخرة نسبيًا ليصفوا بها أعراب الجبال والوديان التابعين لدولتهم، وذلك في حدود ما هو معروف حتى الآن من نصوصهم. ثامنًا: نبه هومل وأصحابه إلى أن اللهجة السبأية هي أقرب اللهجات الجنوبية صلة بلغة القرآن العربية الشمالية. وفي ذلك قرينة لطيفة لا تنكر، لولا أن هذه الصلة يمكن أن تفسر من ناحية أخرى باستمرار النصوص السبأية الحميرية حتى عهد نزول القرآن الكريم أكثر مما عداها من بقية النصوص الجنوبية الأخرى، وأن عامل الزمن كان له أثره في التقريب بين لهجات عرب الجنوب

ولهجات عرب الشمال نتيجة لاستمرار الصلات التجارية والحضارية والتنقلات القبلية بين الفريقين، وذلك فضلًا عن وحدة الأصل البعيد بينهما. وعلى أية حال، فقد تعمدنا الإسهاب في مناقشة وجهات النظر المختلفة حول الأصول السبأية كنموذج لما يمكن أن تعالج به مشكلات التاريخ العربي القديم على أساس من أدب النقد، ومقارعة الحجة بالحجة، وعدم التسليم برأي ما إلا بدليل يزكيه، وعدم رفض رأي ما إلا بدليل يضعفه. من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: تكاتش، ج: سبأ -في دائرة المعارف الإسلامية- ج18 - ص168 وما بعدها. نيلسن وهمول ورودوكاناكيس وجروهمان: التاريخ العربي القديم -1927 - ترجمة فؤاد حسنين -القاهرة 1958، ص63 - 64. Abdel-Aziz Saleh, The Gnbtyw of Thutmosis III.htm's Annals and the south Arabian Gebbantae of the Classical Writers,BI FAO, 1972,245,-262. Eissfeldt.O.,in CAH.II, 1965,593 and referncs. Grohmann,A., Aragien, 1961. Musil, A., The Northern Hegaz, 1926.

الفصل الرابع: عهود المكربين في سبأ

الفصل الرابع: عهود المكربين في سبأ ... الفصل الرابع: عهود المكربين (أو المكارب) في سبأ اصطبغت سلطة أوائل حكام دولة سبأ بصبغة ثيوقراطية أودينية، فتلقب كل منهم بلقب مكرب وهو لقب لايزال غير محدد النطق والدلالة، وإن أمكن تفسيره احتمالًا بمعنى المقرب للمعبودات، أي من يشرف على توفير القرابين وتقديمها إلى معابدهم. أو بمعنى المقرب بين شعبه وبين معبوداته باعتباره وسيطًا مقدسًا بينهما، أو بمعنى المقرب إلى أربابه. وهو على أي وجه من هذه الوجوه يتولى رياسة الكهنوت في دولته ويضمن إحاطة حكمه بقداسة روحية تكفل احترام الناس له وتدعوهم إلى تأييده. وتوافرت لهذه الصبغة الثيوقراطية سوابقها في أمم شرقية قديمة، فتلقب أوائل الحكام السومريين في العراق، على سبيل المثال، بلقب إنسي أي النائب أو الوكيل، إشارة إلى وكالته عن معبود مدينته في حكم أهلها، وإشارة إلى القداسة بالوكالة التي يرتكز علهيا في ممارسة سلطاته الدينية والمدنية. وتكررت نفس الظاهرة في دول عربية جنوبية أخرى عاصرت السبئيين في بعض مراحل تاريخهم، وكان منها أن تلقب أوائل الحكام في دولة معين بلقب مزود، وهو ما سوف نتناول مدلوله في حينه. ولا زال الجدل التاريخي قائمًا في شأن تحديد البداية الزمنية لعهود المكربين السبئيين (أو المكارب السبئيين). فبينما يلتزم باحثون بوضع عهد حاكمة سبأ المعاصرة لسليمان موضع الاعتبار وبدء قيام دولتها بالتالي بالقرن الحادي عشر ق. م. أو نحوه، يكتفي بعض الباحثين الآخرين بالاقتصار على عهود الحكام الذين سجلت النصوص القديمة أسماءهم، ضاربين صفحًا عن عهود ما قبل معرفة الكتابة في سبأ، ولا يذهبون بتاريخ الدولة المؤكد بناء على ذلك إلى أبعد من عهد يثع أمر السبئي الذي ذكره نص سرجون الثاني ملك آشور في عام 715 أو عام 714ق. م.، وربما قبل ذلك بفترات قليلة. وقام جدل تاريخي مماثل حول أعداد المكربين الذين أتوا بعد يثع أمر وسبقوا عهود الملكية الصريحة في سبأ فتراوحت النظريات في تقدير عددهم بين 100، 130، 170، 270. ولكل نظرية مبرراتها بطبيعة الحال.

وترتب هذا الجدل وذاك على ما سبق أن أشرنا إليه من أن كتبة السبئيين وغيرهم من كتبة الدول الجنوبيةلم يسجلوا الأحداث بتاريخ ثابت إلا في عهود متأخرة، ولم يلتزموا بتسجيل سنوات عهود حكامهم إلا في عهود متأخرة أيضًا، وفي حالات قليلة. ولم يتركوا قوائم ترتب أسماء حكامهم ومدد حكمهم واحد بعد الآخر. وترتب على هذا كله عمل الآخر، أو إذا ورد اسم حاكم وأبيه. بل إن الاعتماد على هذين الأساسين لا يخلو من مخاطرة في بعض أحواله، فقد يكمل أحدهم عمل جده وليس عمل أبيه، وقد يحكم بعد عمه وليس بعد أبيه، وقد تتشابه أسماء الحكام وآبائهم في فترات متباعدة. كما قد يحكم ابن مع أبيه في وقت واحد، أو أخ مع أخيه في آن واحد. وهكذا لم يجد الباحثون بدًا من ترتيب أسماء الحكام التى أتت الآثار بها ترتيبًا اجتهاديًا. وتقدير عهودهم تقديرًا اصطلاحيًا، على أساس افتراض ما بين 15 أو 20 أو 25 عامًا لكل منهم، وعلى أفضل الفروض بالاستعانة بما ورد عن بعضهم عن طريق المصادفة في نصوص خارجية مؤرخة عاصرت عهودهم. على أنه مهما يكن من أمر بداية عهود المكريين وعددهم. فإن أهم ما ينسب إلى عهودهم هي آثار معابدهم الباقية، وبداية مشروع سد مأرب. وعملهم على التوسع الخارجي في المناطق الجنوبية المجاورة لهم. اتخذ المكربون عاصمتهم الأولى في مدينة توافرت لها بعض المقومات الضرورية للعواصم السياسية، وهي مدينة صرواح. فقد نشأت في واد خصيب شبه دائري كفل لها مطالبها الزراعية وبعض مواردها الاقتصادية، وأحاطت بها بعض المرتفعات فكفلت لها الحصانة الطبيعية. وتوسط موقع صرواح بين مدينتي مأرب وصنعاء الشهيرتين، وتقوم على أطلالها الآن كل من قرية القصر وقرية الخريبة، ويظهر على سطح الأرض من عمائرها القديمة أطلال قليلة، بينما بقيت أغلب آثارها تغطيها الأنقاض حتى الآن. ويبدو أن الصبغة الدينية التى استعان المكربون بها في تدعيم حكمهم جعلتهم يولون اهتمامًا كبيرًا لمعابد معبوداتهم. إظهارًا لتقواهم الشخصية. وتأكيدًا لصلتهم الروحية بهذه المعبودات. وعملًا على كسب ولاء رجال الكهنوت وبعض المدنيين أيضًا عن طريق تخصيص المرتبات العينية لهم من عائدات هذه المعابد. وينسب إلى عهود المكربين البدء في إقامة أو توسيع عدة معابد قديمة نتخير منها أربعة جرى الكشف عن بعض أجزائها، وهي: معبد في صرواح، وآخر في صرواح أرحب (أوحجر أرحب). وثالث في أوام، ورابع في المساجد. وكان

هناك دون شك ما هو أكثر منها لولا أنه لم يكشف عنه بعد. وحين نبحث أمر المعابد في سبأ أو في غيرها نبحثها على ثلاثة أسس، وهي: أ) أن المؤرخ يستمد تاريخ الحضارات القديمة ويستنتجه من كل ما تركه أهلها في عالم الفكرة وعالم المادة. ب) ما سبق أن ذكرناه من أن الآثار القائمة للأمم القديمة تعتبر من أصدق الدلالات على مدى إمكاناتها الاقتصادية والصناعية والفنية، فضلًا عن دلالتها على معتقدات قومها الدينية. ج) أن المعابد لا تزال أكثر ما بقي من آثار الأمم القديمة، نتيجة لبناء أغلبها من الأحجار الصلبة، ومحافظة القدماء عليها بالترميم والإضافة جيلًا بعد جيل، نظرًا لما كانوا يفترضونه فيها من الحرمة والقداسة. ومع هذه الأسس التي يجب تقديرها في الدراسات التالية لا بأس من الاكتفاء بالمعالم الرئيسية في دراسة المعابد وغيرها من الآثار المعمارية والفنية دون ضرورة للالتزام هنا بالتفاصيل الدقيقة فيها، ولا بأس كذلك من التعقيب على العناصر الدينية فيها بما تختلف به عن العقائد الإسلامية، كلما تطلب الأمر ذلك. أنشئ معبد العاصمة صرواح الكبير لمعبود دولتها الأكبر الذى أطلق عليه اسم إلمقه ربما بمعنى الإله المقتدر أو الآمر، أو الإله البهي أو الجميل. ودل لفظ إل أو إيل عند العرب الجنوبيين وعند شعوب سامية قديمة أخرى في العراق والشام على معنى الإله. كما استخدم بنفس المعنى في اللغة العربية الشمالية أيضًا في مثل أسماء: إسماعيل وجبرائيل وميكائيل وإسرائيل ... وهلم جرا. وتأكيدًا لقداسة أصلهم تلقب حكام سبأ بلقب ولد إلمقه أي: أبناؤه. وخص السبئيون معبودهم الأكبر هذا بربوبية القمر واعتبروه سيد وعول صرواح بما يعني تعدد المعبودات فيها إلى جانبه ورئاسته لهم. وقدسوا معه في معبد العاصمة ربة باسم حريمت ربما كزوجة له، وهي ترمز في أغلب الظن إلى روبوبية الشمس. وهكذا توافرت للقمر عندهم وعند بقية عرب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام منزلة أكبر من منزلة الشمس، على عكس شعوب الهلال الخصيب الزراعية، ربما لانتفاع أهل شبه الجزيرة بالقمر في مسرى القوافل وتوقيت الشهور، مع شدة هجير الشمس وقسوتها لاسيما في البيئات الصحراوية. وقد

تعددت ألقاب هذين المعبودين بتعدد الصفات التي نسبها الناس إليهما واختلاف الأماكن التى عبدوها فيها، وكان شأنهما في ذلك شأن بقية ما تخيله القدماء من معبودات نعقب على خصائصها كلما أدت مناسبة الحديث إلى ذكرها. وتألفت العناصر المعمارية الظاهرة في معبد إلمقه في صرواح من جزئين ضخمين. أحدهما مستطيل واسع، والآخر يتصل به ويبدو على هيئة البيضاوي الناقص، وتضمن أحد نصوص المعبد اسم المكرب يدع إيل ذريح (حرفيًا: يدع إلى ذرح) وذكر أنه سور معبد إلمقه وقدم ثلاث ذبائح لربته حريمت ويميل أصحاب التاريخ المختصر إلى توقيت عهد هذا المكرب بنحو 670ق. م. ويبدو أنه لم يشيد المعبد كله ولم يضع أساسه كله، وإنما بدأ بتوسيع معبد صغير قديم لمعبود قومه وعمل على تسويره كما أشار إلى ذلك نصه، وترك لخلفائه أن يزيدوه اتساعًا وارتفاعًا. ويدعو إلى الأخذ بهذا الرأي أمران، وهما أن بقية نقوش المعبد تضمنت أسماء عدة مكربين وملوك سبئيين آخرين، وأن مباني المعبد الحالية التي ترتفع بعض جدرانها الباقية نحو عشرة أمتار تدل على مهارة كبيرة في فن العمارة لم يكن من السهل على السبئيين أن يبلغوها في أوائل عهودهم بالاستقرار وإقامة العمائر الضخمة. ولازالت الأجزاء الداخلية من المعبد لم تكتشف كشفًا علميًا منظمًا حتى الآن، ويبدو أن جزءًا منه تحول إلى حصن في العصور الإسلامية وزادت فيه حينذاك بعض المداخل والمخارج، بل ولا زالت تقوم فوق جدرانه بعض المساكن الحالية التي غيرت إلى حد ما من خارطته الأصيلة. وأنشئ معبد معرب في قرية المساجد ببلاد مراد وعلى مبعدة 27 كيلو متر من مأرب الحالية، من أجل إلمقه أيضًا. وأتم نفس المكرب يدع إيل ذريح عمارته في مناسبتين تحدثت عنهما نصوصه، مناسبة قام فيها بتنظيمات اجتماعية، وأخرى أحرز فيها انتصارات حربية وذكر عن المناسبة الأولى أنه أسس كل الهيئات الخاصة بمعبوده، والخاصة به شخصيًا باعتباره حامي دولته، ثم الخاصة بتحقيق الاتحاد والتحالف بين طوائف شعبه. ومعنى ذلك أن دولته الناشئة كانت بسبيل إقرار تنظيمات مستقرة تجري عليها في شئونها الدينية والدنيوية. وتخليدًا لذكرى هذه الإنجازات أقيم الجزء الداخلي من المعبد وتألف من بهو أعمدة بقيت منها ثلاثة، ويعقبه إلى الداخل فناء كبير تقوم في وسطه مقصورة العبادة الرئيسية وتحمل سقفها أربعة أعمدة في صفين، بينما يتقدم المقصورة صفة ذات أعمدة. ويصل بين أعلى هذه الصفة وبين أعلى المقصورة سقف حجري منحدر. ولا تزال هذه المجموعة المعمارية للمعبد تحتفظ بروعتها على الرغم مما لحق بها من تهدم.

أما المناسبة الحربية فقد أدت إلى توسيع رقعة الدولة بعد أن استولى يدع إيل ذريح بجيشه على منطقة يشقر ومزارعها. ولما كان يعتقد أن هذا التوسع قد تم بتأييد إلمقه (وذات حميم وعثتر) عمل على توسيع مساحة المعبد أيضًا وإحاطته بسور مستطيل كبير بلغت أبعاده 104×37 مترًا وتقدمت واجهة هذا السور صفة أخرى فخمة ذات ستة أعمدة مستطيلة المقطع بلغ ارتفاعها بين 4.5 و5 أمتار، أقيمت فوق رصيف حجري ليضمن توازنها. وتألف كل عمود منها من حجر واحد. وأدت هذه الصفة الخارجية إلى المدخل الرئيسي للمعبد الذي حف به مدخلان جانبيان فتوفر له شكل مهيب. واتصل أعلى الصفة بأعلى المدخل بسقف حجري منحدر. ولا ندري هل كانت ظاهرة السقف المنحدر التى تكررت مرتين في عمارة المعبد. ظاهرة عفوية نتيجة لاختلاف الارتفاعات، أم كانت ظاهرة مقصودة لتصريف مياه الأمطار من فوقها بسهولة؟. وبني المعبد الثالث المكتشف من عهود المكربين في بلدة صرواح أرحب (أو حجر أرحب) من أجل عبادة عثتر الذي اعتبره العرب الجنوبيون ربًا لنجم الشعرى وولدًا لرب القمر وربة الشمس. وكان شأنهم في هذا التعدد هو شأن أغلب أصحاب الديانات الوضعية القديمة، ونعني بها الديانات التى وضعها البشر ولم تكن مما أوحى به من السماء إلى الرسل والأنبياء. وكانوا يتخيلون لكل ظاهرة طبيعية ربًا يختص بها، ويتخيلون لمعبوداتهم حياة تماثلها حياة البشر يتزاوجون فيها وينجبون. ويتآلفون فيها ويختصمون. وظل العرب القدماء هكذا حتى ظهر الإسلام فخلصهم من تعدد المعبودات ووجههم إلى ديانة التوحيد وعبادة رب العالمين دون سواه. وبني المعبد بتخطيط بسيط ولكنه لا يخلو من خصائص مميزة تمثلت في تعدد المشكاوات وإدخال عنصر الزخرف على أجزائه المعمارية ولا سيما الأعمدة. فقد أقيم سور المعبد على هيئة مستطيل ينحرف قليلًا عن الجهات الأصلية الأربعة. وقامت في مؤخرة فنائه الداخلي المقصورة الرئيسية للعبادة، وبني أمامها حوض مربع متسع، لعله كان يستخدم لماء التطهير. وظهرت عناصر التجديد في عمارة المعبد في أنه تصدرت واجهته الخارجية مشكاة عليا تطل على الطريق. وتصدرت جداره الخلفي مشكاة عليا أيضًا تطل على فنائه. كما تصدرت الجدار الداخلي لمقصورة العبادة مشكاة ثالثة كبيرة تطل على المتعبدين فيه. ويبدو أنه كان يوضع في كل مشكاة من هذه المشكاوات تمثال لصاحب المعبد. ثم تجديد زخرفي آخر، تمثل في إقامة تسعة أعمدة مثمنة الأضلاع على الجوانب الخارجية لحوض ماء التطهير الكبير، وإقامة تسعة أعمدة أخرى كل عمود منها ذو 16 ضلعًا داخل مقصورة العبادة الرئيسية.

وكان لكل عمود منها تاج زخرفي في أعلاه يضيق من أعلى إلى أسفل بما يشبه بعض العمائم اليمنية. وقد تهدمت الأعمدة ولم يتبق غير قواعدها وأجزاء من تيجانها. وتكرر اسم المكرب يدع إيل ذريح، الذي أولى اهتمامًا خاصًا للمعابد ضمن نصوص معبد ضخم آخر يقع إلى جنوب شرقي مأرب الحالية بنحو أربع كيلو مترات، وهو معبد أطلق السبئيون عليه اسم بيت أوام أي معبدها على اعتبار أنه يعتبر بيتًا مقدسًا للمعبود الأكبر في البلد الذي يعبد فيه، وخصصوه لإلمقه بعل أوام أي سيدها. وكانت منطقة أوام هذه ذات صلة بعشيرة مرثد السبأية التي انتسب إليها كثير من حكام سبأ. وأطلق المسلمون على المعبد تجاوزًا أو خطأ اسم محرم بلقيس تأثرًا بما نشرته القصص عن هذه السيدة. ويظهر السور الكبير للمعبد على هيئة بيضاوية تقريبًا، ولا يزال داخله لم يكتشف بعضه. بينما اكتشفت بعثة أمريكية آثارية أجزاءه القريبة من مدخله فأظهرت بضعة عناصر معمارية راقية بنيت في أغلب الظن بعد عهود المكربين ولهذا نؤجل الحديث عنها إلى حين نبحث منشآت عصور الملكية في سبأ. ويكفي هنا ما يستنتج من اتساع النشاط المعماري في عهود المكربين في أكثر من مكان، وإذا لم يكن لدينا حتى الآن ما نقدمه من صور هذا النشاط غير المعابد. فإن المعابدلم تكن تقام في مناطق مقفرة وإنما لا بد أنه صحب قيامها نشاط أكبر في توفير العمران السكاني والاقتصادي بقربها. وإذا كان مكرب واحد مثل يدع إيل ذريح قد أسعد الحظ ذكراه بأن أبقى على نصوصه في ثلاثة معابد على أقل تقدير لتكون شاهدًا على اهتماماته الدينية والعمرانية والتنظيمية والحربية كما أسلفنا، فالمرجح أن مكربين آخرين سبقوه وخلفوه كان لهم مثل نشاطه. وتحدثت بعض نصوصهم الباقية فعلًا عما عملوا على تشييده في عهودهم من معابد، وإن لم يعثر على آثار معظمها حتى الآن. وأخيرًا فقد كان اتجاه النشاط الإنشائي والديني إلى قرب مدينة مأرب مبشرًا بقرب انتقال الأهمية السياسية إليها واستغلال ما حولها، وقد أقيم فيها بالفعل أكبر مشروع بدأه السبئيون في عهود المكربين وهو: مشروع سد مأرب: قامت مأرب عند ملتقى طرق تجارة القوافل القديمة الواردة من بيحان وحضرموت ومواني البحر العربي والبحر الأحمر الجنوبية، فضمنت لنفسها موارد اقتصادية كبيرة من مكوس التجارة. وقامت في الوقت نفسه عند النهاية الشمالية

الشرقية لتل يمتد نحو نصف كيلو متر وبعرض يبلغ نحو 350 مترًا كفل لها بعض الحماية الطبيعية. كما أشرفت، وهذا هو الأهم، على وادي أذنه الكبير الذى عمل السبئيون على استغلاله في الزراعة على نطاق واسع. وغالبًا ما كانت الأمطار الغزيرة تسقط على مرتفعات اليمن في بعض مواسمها السنوية وتجري على هيئة السيول العنيفة في عدة وديان ينتهي بعضها إلى فتحة طبيعية كبيرة توسطت بين جانبي جبل بركاني مرتفع سمي جبل البلق، وهو جبل يفصل بين الصحراء وبين مرتفعات اليمن في منطقة مأرب ويسمى جانباه عند هذه الفتحة باسم، جبل البلق الأوسط، وجبل البلق الشمالي. ويبدو أن تسمية البلق كانت تعني الحجر كما تعني الفتحة أيضًا، وإن سميت هذه الفتحة الآن باسم الضيقة ويتراوح اتساعها في بعض أجزائها بين500 متر وبين 190 مترًا، بمتوسط للاتساع يبلغ 230 مترًا. وكانت السيول بعد أن تعبر هذه الفتحة تندفع إلى وادي أذنة (أو ذنة) الكبير فتتفرق فيه، ولا تلبث حتى يضيع أغلبها في التربة بغير فائدة. واستهدف السبأيون (أو السبئيون) من إنشاء السد ثلاثة أغراض، وهي أن يقللوا من اندفاع السيول إلى وادي أذنة وما يمكن أن يؤدي إليه من بوار الزرع وتدمير القرى في مواسم الأمطار العنيفة. وأن يحولوا دون ضياع أغلب مياه السويل في جوف الأرض حين تتجاوزه. وأن يرفعوا مستوى مياه الري عدة أمتار تسمح لها بأن تصل إلى المدرجات المرتفعة القابلة للزراعة على جانبي الوادي، ثم توزيعها عن طريق فتحات جانبية يسهل التحكم فيها. وهكذا يميل المهندس ريتشارد بوين من دراساته لمشروعات السدود الجنوبية إلى تعديل الفكرة القديمة عن الغرض من السد وهي فكرة تخزين المياه خلفه في بحيرة صناعية كبيرة أو نحوها وذلك لوجوده في بيئة يمكن أن تتشرب أرضها المياه بسهولة. وطبق بوين هذه الفكرة، والعهدة عليه فيها بحكم تخصصه، على سدود بيحان وغيرها من المناطق الجنوبية الأخرى. وكرر أن العرب الجنوبيين لم يعملوا قط على خزن المياه وراء السدود ولكنهم بنوها لكسر حدة السيول وتوزيعها على أكبر مساحة ممكنة. كما أشار إلى أن سدود الجنوب بنيت في وديان جافة وليست عبر أنهار، ومع عدم توافر الخبرة لبنائها تحت الماء. وأقدم من سجل اسمه من حكم سبأ على صخور سد مأرب مكرب يدعى سمهو عالي ينوف (حرفيًا: سمه على ينف). وهو مكرب يرد للبي عهده إلى منتصف القرن السابع ق. م. ويرده ألبرايت إلى القرن الخامس ق. م. ويعتقد فيسمان بوجود مكربين اثنين حملا نفس

الاسم وحكما في هذين التارخين). وتخير المسئولون عن بناء السد منطقة تلي فم وادي أذنة وبمعنى آخر تلي مدخل فتحة جبل البلق نظرًا لتحديدها النسبي. وإمكان التحكم فيها، وسهولة الاعتماد على جوانبها الحجرية البركانية الصلدة. وبدأوا بتشييد جسر ضخم من الرديم تختلف الآراء في تحديد امتداده الأصلي، وكسوا واجهته بالأحجار في مواجهة تيار الماء، ثم أعيد بناؤه كله بعد ذلك بأحجار جيدة في عهود تالية. وامتد هذا الجسر في الجانب الأيمن من اتساع الفتحة، وجعلوا له بوابة متسعة اعتمد أحد كتفيها عليه، أي: على الجسر أو الجدار من ناحية، واعتمد كتفها الآخر على الجبل نفسه من ناحية أخرى. ووجه المشرفون على المشروع المياه بعد هذه البوابة إلى مجرى واسع ينتهي إلى حوض ضخم حددوا جوانبه بالحجر للحيلولة دون سرعة تهدمها أو تسرب المياه منها. وتركوا في نهاية الجانب الأيمن منه فتحات مناسبة يسهل التحكم فيها لتصريف المقادير الضرورية من المياه لري الجانب الأيمن من وادي أذنة عن طريق ترع تختلف أطوالها واتساعاتها واتجاهاتها. وأطلقت النصوص القديمة على مشروع عهد سمهو عالي ينوف اسم رحب، أو رحاب، أو رحابوم، كما يقترح بعض اللغوين قراءته، وهو اسم قد يعني السد بمعناه الواسع. بينما أطلق اليمنيون المسلمون على بوابته اسم مربط الدم، أي: مربط القط تأثرًا بأسطورة عربية قديمة مستحيلة التصديق. وعدل مشروع السد وأكمل في عهد المكرب يثع أمر بين ابن حفيد سمهو عالي ينوف، الذي تسمى بمثل اسمه منذ حولي 460 ق. م. وعمل رجاله على توفير مياه الري للناحية اليسرى من وادي أذنة كما توفرت للناحية اليمن منه من قبل فمدوا الجسر أو جدار السد في عرض فتحة الجبل حتى نهايتها ناحية اليسار، وأطلقوا على مشروعهم الجديد اسم وادي حبابض، وتركوا في نهاية بوابة ضخمة أخرى ذات فتحتين، وأجروا خلفها مثل ما تم خلف بوابة الجانب الأيمن، فمدوا وراءها مجرى طويلًا دعمت جوانبه بالحجر، وانتهى إلى حوض واسع ذي فتحات تؤدي إلى عدة ترع للمياه تتوزع في الناحية اليسرى المتسعة من وادي ذنة. هذه صورة عامة لفكرة سد مأرب وبداية أجزائه -أما أبعاده الحالية فيفهم من وصف من اهتموا بدراسة مقاساته التفصيلية أن الارتفاع الحالي للجزء الباقي من جدار السد يبلغ 11 مترًا، ويبلغ امتداده العرضي 12.40 من الأمتار. ويبلغ عرض البوابة اليمنى 4.55 من الأمتار. وامتداد ضلع الحوض الواقع خلفها 78.80 من الأمتار.

أما في الناحية اليسرى وهي الأكبر فيمتد المجرى المائي الأساسي فيها نحو1160 مترًا، وتتفرع من الحوض الذي ينتهي إليه 14 ترعة يبلغ عرض الواحدة منه نحو ثلاثة أمتار. وقد فتحت في أعلى الجانب الأيسر لسد حبابض أربع فتحات تساعد على تصريف المياه الزائدة عن المنسوب المطلوب، وتؤدي إلى تخفيض ضغط المياه على جدار السد نفسه. وقد اتبعت فكرة الأهوسة في الفتحات أو البوابات خلال مراحل التقدم المعماري التالية. فشق في الكتفين الجانبيين لكل بوابة تجويفان رأسيان يمتدان بارتفاعها لتنزلق فيهما كتل الأخشاب الصلبة حين يراد قفل البوابة. وترفع فيهما إلى أعلى حين فتحها. ولا تقل طرق البناء المتمثلة فيما بقي سليمًا من السد دلالة على براعة المعماريين، فقد شيد في عصر اكتماله من أحجار ضخمة قطعت من جبل البلق وثبتت في مداميكها بمونة صلبة. وربط أحيانًا بين بعض أحجارها وبعض آخر في مداميكها بمونة صلبة. وربط أحيانًا بين بعض أحجارها وبعض آخر بقضبان من النحاس المنصهر والرصاص المنصهر رغبة في زيادة ترابطها وتماسكها. وقد يقارن لهذا استخدام ذي القرنين لمصهور الحديد والنحاس في بناء سد دفاعي كبير، انظر سورة الكهف آية96. والمرجح أن جانبي وادي أذنة اللذين انتفعا بمشروع سد مأرب هما اللذان عناهما القرآن الكريم بقوله: {لَقَد كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ، جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ * بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ... } ولا تزال آثار القرى التى انتفعت بالمجرى الأيمن لسد مأرب تدل على عمرانها القديم وإن تخربت الآن إلى حد كبير، ومنها مدينة النحاس وخرابة مروث ومحرم بلقيس والعمايد. وكانت مأرب أكثر انتفاعًا بالمجرى الأيسر، وقد أطلقت النصوص على منطقته اسم يسرن. والواقع أن روعة وضخامة سد مأرب بأجزائه كما سبق وصفها تدعوان إلى الشك فيما إذا كان قد بدأ هكذا منذ عهد منشئه سمهو عالي ينوف وعهد حفيده البعيد يثع أمر بين، أم أن شقي المشروع بدءا متواضعين في عهديهما ثم زاد اتساعهما وارتفاعهما وتقويتهما في عهود من تبعوهما من المكربي والملوك، ولعل هذا الرأي الأخير هو الأرجح. فقد أصلحت جدران السد أكثر من مرة بعد أن تعرضت للتهدم نتيجة لتراكم الإرساب خلفها حينًا، وبتأثير عامل الزمن في مبانيها حينًا، وشدة السيول حينًا آخر. وسجل عدد من الحكام السبئيين أخبار مرات الإصلاح التى تمت في عهودهم. وكان من ذلك على سبيل المثال أن أعيد بناء الهويس الشمالي في عهد الملكين ذمر عالي يهابر وتأران بعد القرن الميلادي الأول. واتخذت الفتحات الشمالية للسد صورتها النهائية في عهد الملك

شمريهرعش في حوالي عام 325م. ثم جدد المبنى كله أو دعم في عهد الملك شرحبيل يعفور في عام 449م. كما أعيد إصلاح صدع فيه في العام التالي أي عام 450م. وتمت آخر إصلاحات السد في عهد أبرهة ملك سبأ حوالي عام 543م وبذلت فيه حينذاك جهود ضخمة، بحيث ذكرت نصوص أبرهة أن رجاله قضوا في ترميم السد أحد عشر شهرا، واستهلكوا 50806 غرارة من الدقيق، و26000 حمل من التمر، و3000 بعير وثور، و207 رأس من الغنم، وعلى الرغم من قيام ثورة ضده حينذاك في منطقة مأرب وتفشي الوباء فيها، إلا أنه أقام حفلًا كبيرًا بمناسبة انتهاء العمل في إصلاح السد. حضره وفد من الحبشة، ووفد من فارس، ووفد من بيزنطة. ووفدان من الحيرة وغسان. وعلى أية حال فقد استطاع السبئيون على امتداد عصور اهتمامهم بسد مأرب أن يتموا مشروعًا كبيرًا حق لهم أن يفخروا به بين المشاريع المائية الأخرى في العالم القديم. وهي مشاريع كان من أقدم ما يمكن ترجيحه منها حتى الآن مشروع سد اللاهون في مصر الذى شيد في أوائل القرن الثامن عشر ق. م. لتوجيه جانب من فيضانات النيل إلى منخفض الفيوم لرفع مستوى الماء فيه حتى تنتفع به أكبر مساحة ممكنة من أراضي المدرجات الخصبة التى تحيط به. ثم الانتفاع ببعض مياهه لري الأراضي القريبة منها في غير أوقات الفيضان. وربما سبق مشروع هذا السد سد آخر في منطقة الجيزة بمصر أيضًا أقيم حوالي القرن السادس والعشرين ق. م. ولكن استخدامه لم يعمر. وظل سد مأرب يؤدي أغراضه حتى نهاية عهد أبرهة في عام 571م أي بعد عهد بداية إنشائه بأكثر من أحد عشر قرنًا. ثم انهار أغلبه عام 575م بما وصفه القرآن الكريم ووصف نتائجه في قوله: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سورة سبأ الآيات 15 - 18]. وأقام السبئيون سدودًا أخرى محلية في عهود متفرقة في المناطق التى تصلها مياه السيول بعيدًا عن منطقة مأرب. ومنها سد يعرف باسم مبنى الحشرج لتنظم مياه وادي السيلة، ويتكون من ثلاثة جدران ضخمة يقال إن كلًا منها يمتد ما بين150 - 180 مترًا، وتوجد فتحات كثيرة طويلة بينها، وعثر جلاسر على

عشر نقوش على صخورها. ولم تغن السدود السبأيين عن دعوات الاستسقاء وطلب رحمة السماء من حين إلى حين. وتخلف من نصوصهم القديمة التى وجههوها إلى معبوده عثتر ذبيان، وقال في نهايته: وسقى خرف ودثا سبأ وجوم شبعم، أي: وسقى الرب خريفًا وربيعًا سبأ وجومًا سقاية مشبعة. واختلف اللغوين في تفسير كلمة جوم في هذا النص، ففسرها بعضهم بمعنى الشعب أو بمعنى الحلف، وفسرها بعض آخر بمعنى النهر أو معنى السهل، وفسرها بعض ثالث بأنها تعني الأراضى المنخفضة من تهامة اليمن. التوسع الحربي: غالبًا ما تترتب على المشروعات الداخلية الكبيرة في الدول الفتية الناشئة مطالب ونتائج متنوعة يعبر الحكام عنها ويتولون رسم سياستها باسم شعبهم. فهي من ناحية تستدعي توفير الأمن لتنفيذها، وتستدعي العمل على تغظية نفقاتها سواء من موارد داخلية أو خارجية، كما تستدعي في الوقت نفسه العمل على حمايتها من الأخطار المتوقعة الداخلية منها أو الخارجية أيضًا. فإذا تم تنفيذ هذه المشروعات وآتت ثمارها وزاد الدخل القومي منها غالبًا ما يرتفع شأن أصحابها في نظر أنفسهم ونظر شعبهم، وهنا إما أن تشجعهم شهرتهم على أن يستزيدوا من الرفاهة لأنفسهم ويخلدوا إلى النعيم. وإما أن تشجعهم على أن يستزيدوا من قوتهم العسكرية والسياسية ليزيدوا لأنفسهم عن طريقها ما يعتقدون أنهم يستحقونه من المجد والشهرة. ومرت دولة سبأ بأمثال هذه الملابسات والظروف حين مهدت لمشروعات الري الكبرى فيها وحين أتمتها. فقبيل البدء في مشروع سد مأرب عملت دولة سبأ على الاستزادة من موارد اقتصادية جديدة ولو على حساب جيرانها، كما أخذت تؤمن نفسها منهم. وكان أقرب هؤلاء الجيران غليها: دولة معين في شمالها ودولة أوسان في جنوبها الغربي. وكانت الأولى تنافسها فيما تأتي به تجارة البر. وكانت الثانية تنافسها فيما تأتي به تجارة البحر، وبدأت دولة سبأ منذ عهد المكرب يدع إيل بيين الذي يؤرخ أصحاب التاريخ المختصر عهده ببداية القرن السادس ق. م. تقص أطراف دولة معين القريبة منها. ويفهم من نصوصه أنه عمل على تسوير مدن الحدود وتقوية أبراجها ليتخذها جيشه مراكز دفاعية أو هجومية في الوقت المناسب. ويحتمل من نفس النصوص أن مدنًا حدودية معينية

الأصل دخلت فعلًا في حوزة دولته مثل نشق ودابر (في جنوب منطقة الجوف). ثم أعاد رجاله تحصينها لنفس الأغراض الدفاعية والهجومية السابقة. وجرى خلفاء هذا المكرب على سياسته وعملوا على توسيع المدن الحدودية ومنها المدن المعينية التي دخلت في طاعة دولتهم. وأسكنوا فيها جماعات من السبأيين لينتفعوا بها. ويكونوا رقباء على أهلها. وسندًا لدولتهم فيها. وكان من ذلك أن زيد اتساع مدينة نشق 60 شوحطا في عهد المكرب كرب إيل بيين (في حوالي عام 560ق. م.) ثم زاد اتساعها مرة أخرى وأصلح ما حولها وأوقفت على مصلحة السبأيين في عهد ولده ذمر عالي وتر (منذ حوالي عام 535 ق. م.). وانتفعت الدولة بحالة الأمن والرخاء التى وفرتها هذه الإنجازات وأمثالها فمضت في تنفيذ مشروع سد مأرب الكبير. وما أن تم تنفيذ مراحله في عهد يثع أمر بيين حتى التفتت إلى توسيع الحدود وإرهاب الجيران مرة أخرى. فقد واصل هذا المكرب العمل على تسوير المدن وتجديد الحصون وروت نصوص عهده أنه هاجم (والأصح أن جيشه هاجم) مدن معين حتى منطقة نجران. ودمر بعضها وأحرق قراها وقتل منها الألوف وسبى الألوف. وروت نفس النصوص أنه (أو جيشه) اندار على دولة قتبان التي تجاور دولته من الجنوب وأنزل بمدنها دمارًا مماثلًا. ويلاحظ هنا أننا وإن سلمنا باتجاه النشاط الحربي لدولة سبأ إلى هذه الاتجاهات إلا أننا حرصنا على أن نقول وروت نصوص الملك السبأي كذا أو ادعت كذا للإشارة إلى أننا غير ملزمين بالضرورة بأن نسلم بحرفية ما ورد فيها عن ألوف القتلى وألوف الأسرى وتوالي الانتصارات دائمًا لصالح أصحابها. ذلك أن المبالغات في تقارير الحروب أمر مألوف في العصور القديمة بل والعصور الحديثة أيضًا. وهو ما سنضعه دائمًا في الحسبان في مناسبات أخرى تالية. وبعد جيلين أن نحوهما نشطت سبأ إلى حرب توسعية أخرى في عهد أخر مكربيها كرب إيل وتر (الثاني). وكان داهية في الحرب والسياسية. ويفهم من نصوص عهده أنه هادن دولة قتبان ودولة حضرموت ليتفرغ لحربه مع دولة معين. وضمن حيادهما مرة أخرى ليحمي ظهره في حربه مع دولة أو سان. وبدأ فاتجه بأطماعه إلى دولة معين ليستغل ما أنزلته الجيوش السبأية من قبل في نفوس أهل مدنها من الرعب وما صاروا إليه على أيامه من تفرق الكلمة وما لجأ إليه بعض أمرائهم من إعلان استقلالهم الذاتي عن جسم دولتهم، وهاجمها ببعض جيوشه. وعندما اتجه إلى دولة أوسان استمال إليه بعض حلفائها وأبتاعها ليضعفها ويحرمها من معونتهم. ثم انحط عليها بقواته. وهكذا أخذت الجيوش السبأية

تضرب هنا وهناك وتخرب وتحرق المدن والقرى بضراوة ثم اتجهت شمالًا لتكمل سيطرتها على منطقة الجوف ومنطقة نجران. وهنا ادعت نصوص كرب إيل وتر سيطرته على الألوف من الأسرى وقضائه على الألوف من الجنود مما سنعود إلى ذكره حين نعالج تاريخ كل من الدولتين معين وأوسان في تفصيل. وتكفي الإشارة هنا إلى ما عقبت به نصوص ذلك المكرب المنتصر من أنه أعاد توزيع الأقاليم التى خضعت له. فاحتجز بعضها لنفسه. وخصص بعضها لمعبوده الأكبر إلمقه. وأقطع بعضها للقبائل الموالية له ولاسيما قبيلته التي كانت تسمى فيشان أو بيشان، كما تنازل عن بعضها لدولتي قتبان وحضرموت مكافأة لهما على حيادهما خلال حروبه الطويلة مع خصومه، وتعويضًا لهما عن سبق اعتداء أوسان على حدودهما. وعندما اطمأن كرب إيل وتر إلى سلامة مركزه شجعته انتصاراته على أن يصيغ حكمه بالصيغة المدنية علانية إلى جانب قداسته الروحية. فأعلن نفسه ملكًا، وادعى في نصوصه أن ربه إلمقه هو الذى تخيره ملكًا أو صيره ملكًا وأيده في مشروعاته. وسجل أخبار انتصاراته (عن طريق كتبته) في نص كبير في المعبد الأكبر بالعاصمة القديمة صرواح، ومن تصاريف الأقدار أن نص النصر الكبير هذا قد آل مصيره إلى التلف والمهانة في بداية العصر الحاضر بعد أن أطل وجه الحجر الذي نقش عليه على حظيرة للماشية وأطل وجهه الآخر على طريق السابلة ليعبث الصغار فيه ماشاءت لهم رغبة العبث. وكما كان كرب إيل وتر خاتمة لعهود المكربين أصبح بداية لعهود جديدة في تاريخ دولته وهي عهود الملكية السبأية التي يبدؤها أصحاب التاريخ المختصر بحوالي عام 410ق. م. (بينما كان أصحاب التارخ المطول يبدأونها بحوالي عام 630ق. م.). وقبل أن ندع عهود الكربين نود الإشارة إلى نظرية جديدة خرج بها الباحث A.G.Loundine منذ عام 1956، ولم تستقر صحتها تمامًا حتى الآن. ومفادها أن السبأيين وإن لم يؤرخوا نصوصهم بسنوات حكم المكربين ولم يدرجوا أسماء أولئك المكربين في قوائم متصلة. مما أدى إلى الاختلاف الواسع في تاريخ عهودهم كما أسلفنا من قبل، إلا أن التنظيمات السبأية جعلت إلى جانب المكرب موظفًا كبيرًا بلقب رشو، ربما بمعنى الكاهن النائب، ليؤرخ الناس باسمه في فترة نيابته التى تسمى رشوة أو رشاوة، وكان يلي الكهانة لمعبود قومه عثتر بالوراثة ولدًا عن والد في أكبر عشيرة في الدولة بعد عشيرة الملك (وهي عشيرة حزفر من قبيل خليل) -ويشرف إلى جانب كهانته على مشروعات الري

والزراعة بخاصة. وربما لم تكن لنيابته فترة محدودة في عهود المكربين ولكنها أصبحت محددة بست أو سبع سنوات في عهود الملكية كما سنعود إلى ذلك فيما بعد، وقد يحمل مع لقبه الخاص لقب مود أي صديق إشارة إلى الصلة أو المودة بينه وبين مكرب دولته. من المؤلفات المختارة في دراسة الفصل: أحمد فخرى: دراسات في تاريخ المشرق القديم -القاهرة 1963، ص 159 - 185. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام -بيروت 1968 - ج2 - مادة سبأ، نيلسن، وهومل، ورودو كاناكيس، وجروهما: المرجع السابق -ص75 - 87، 289 - 292. Bowen, R.Jr., Albright, W.F. and Others, Archacological Discoveries in South Arabia, I, Baltimore, 1958, 70.htm''75. Philby, H.JB., The Background of Islam, Alexandria, 1947,32-41. phillips, W.,Qataban and Sheba, New York 1955. Shahid, I.Pre-Islamic Arabia. CHI, Cambridge. 1970.

الفصل الخامس: دولة قطبان

الفصل الخامس: دولة قطبان ... الفصل الخامس: دولة قتبان أ) التكوين السياسي: قامت دولة قتبان (ق ت ب ن) إلى الجنوب من دولة سبأ وتضمنت وادي بيحان ووادي حريب وما شغل جزءًا من اليمن وجزءًا من عدن الحاليين. وعاصر كيانها السياسي في بعض عهوده بقية الدولة العربية الجنوبية، سبأ وحضرموت ومعين وأوسان. وتراوحت آراء الباحثين في تعيين بداية هذا الكيان القتباني السياسي بما بين منتصف القرن التاسع ق. م. وبين القرن السابع ق. م. ولكن الوجود الاجتماعي والنشاط الاقتصادي لجماعات القتبانيين قد رجحنا (في ص37 - 39) إرجاعه إلى ما قبل ذلك بعدة قرون، حينما دللنا على قيام التبادل التجاري بين الجنبتين القتبانيين وبين مصر القديمة في عهد الملك تحوتمس الثالث خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ووجد هذا الدليل المصري القديم أدلة أخرى تقاربه في نتائج أبحاث بعثة أثرية أمريكية حديثًا في قتبان. فقد عثر الباحثان ألبرت جام وفرانك ألبرايت A.Jamme and F.P.Albright على مخربشات قتبانية (أي نصوص قصيرة غير متقنة) في هجر بن حميد ووادي فرع اتجهت بعض سطورها من اليسار إلى اليمين مما يعني في رأيهما قدم عهدها، كما تعرفا فيها على أشكال حروف هجائية أرجعا أسلوب كتابتها إلى حوالي القرن العاشر ق. م. واعتبارها من حيث الشكل بقية من مرحلة التحول من الخط الكنعاني القديم الذي يحتمل أن نقله بعض العرب عن جنوب الشام إلى خط آخر تميزت به النصوص الجنوبية وهو الخط المسند. وأضاف جام عن بدائية أشكال هذه الحروف أن رسمها لم يلتزم باتجاه ثابت، فبعضها يميل يمينًا وبعضها يميل يسارًا، وبعضها مقلوب وبعضها رسم على جانبه، وكان تعدد الاتجاهات في رسم الحروف من مظاهر المرحلة الأولية في الأبجدية الكنعانية في الشام حتى القرن الثاني عشر ق. م. وزكى فان بيك وآخرون هذا الوجود القتباني القديم من ناحية أخرى بدراسة تتابع الفخار في مستويات العمران في هجر بن حميد، حيث أرجعوا أنواع الفخار

في أقدم مستويات هذه البلدة إلى ما يدور حول القرن الحادي عشر والقرن العاشر ق. م. وزاد وندل فيليبس على هذا فافترض من ملاحظة مستويات أطلال المباني في المدن القتبانية احتمال بناء بعضها في أواسط الألف الثاني ق. م. ومع هذا القدم النسبي للكيان القتباني، ونعني بالنسبية هنا ما يتعلق بالجنوب العربي، وهو أحدث بطبيعة الحال في تكويناته السياسية كثيرًا عن دول الهلال الخصيب الكبيرة القديمة، فقد لاحظ بعض اللغويين أن اللهجة القتبانية وإن بدت أقرب إلى لهجات حضرموت ومعين منها إلى اللهجة السبأية، إلا أن أسلوب الكتابة القتبانية الرسمية وأسلوب تركيب أسماء وألقاب الحكام الكبار فيها ظلا أقرب إلى أمثالهما في دولة سبأ. ومن التفسيرات المحتملة. لهاتين الظاهرتين أن أقوامًا من الحضارمة والمعينيين كانوا يشاركون القتبانيين أصلهم القبلي. أو كانوا يشاركونهم أرضهم في عصور قديمة. ولكن هذه الأرض خضعت في فترة ما لنفوذ سبأي سياسي وانتقل إليها ما كان شائعًا في سبأ من أسلوب الكتابة الرسمية وطريقة تركيب أسماء (أو ألقاب) الحكام. وإذا صح الشطر الأول من هذا التفسير كان فيه ما يزكي ما سبقت الإشارة إليه من أن الجماعات العربية القديمة في الجنوب وفي الشمال كذلك ظلت لفترات قديمة طويلة لاتلتزم بحدود إقليمية أو قومية قاطعة فيما بينها. من قبل أن تقوم فيها الدول السياسية واضحة المعالم والحدود. وبدأ الحكم في دولة قتبان بنفس الصبغة الثيوقراطية أو الدينية التى بدأ بها في بقية الدول العربية الجنوبية. فتلقب أوائل حكامها الكبار منذ القرن السابع ق. م. (في عرف أصحاب التاريخ المختصر) بلقب مكرب وهو لقب تناولنا مدلولات مثيله من قبل في سياق الحديث من حكام سبأ. ومنذ نهاية القر الخامس ق. م. أو بداية القرن الرابع ق. م. فيما يرى ألبرايت غلب الحكام القتبانيون الصبغة المدنية والسياسية في حكمهم وتلقبوا بألقاب الملوك. وليس من المستبعد أن ذلك التحول قد ارتبط في حينه بنصر سياسي أو حربي رفع من شأن الحكام القتباني في نظر نفسه ونظر شعبه وجعله يعتبر نفسه لا يقل مكانة عن ملوك سبأ الذين سبقوا في التحول إلى نظام الملكية، لا سيما بعد أن خف الضغط الذي فرضته هذه الدولة على جيرانها في عهد ملكها الداهية كرب إيل وتر. ويبدو أن قتبان قد استفادت من وضع كانت قد سمحت لها به دولة سبأ المعتزة بقوتها. ثم استغلته هي لمصلحتها. فقد مر بنا أن كرب إيل وتر منشئ نظام الملكية في سبأ أقطع قتبان بعض الأراضي التى استولت جيوشه عليها من دولة أوسان مكافأة لها على التزامها بموقف الحياد خلال حروبه، وهو مطمئن إلى

بقائها موالية له. وكانت هذه الأراضي الأوسانية الأصل تطل على ساحل البحر الأحمر وتنتفع من موارده التجارية، ولهذا عملت قتبان على تدعيم سلطانها عليها وتوسيع رقعتها لمصلحتها. ومع منطقية هذين السببين السياسي منهما والتوسعي للتحول إلى الملكية في قتبان، لا بأس من تقدير عوامل أخرى داخلية غالبًا ما تتماثل نتائجها في نظم الحكم الثيوقراطية الأصل. ذلك أن تجارب التاريخ أوضحت أن الصبغة الثيوقراطية في الحكم أشبه بسلاح ذي حدين. فهي وإن ضمنت القداسة للحاكم الأعلى وكفلت له الولاء لروحي من شعبه. إلا أنها كانت تخلق أمامه على مر الزمن منافسين من كبار رجال الكهنوت الذين يشاركونه السلطة باسم الدين، وحينذاك يرى من مصلحته أن يرتفع عن مستوى رياسة الكهنوت إلى مستوى الملكية ذات السلطات الشاملة. وعلى أية حال. فإن التحول نحو الملكية في قتبان لم يمنع بعض ملوكها من العودة إلى التلقيب بلقب المكرب بين حين وآخر تأكيدًا لصفتهم الدينية ولا سيما في أوقات الأزمات، وقد تلقب به الملك يدع أب ذبيان في القرن الثاني ق. م. وكذا الملك شهر يجل يهرجب، ولم يقلل من استمساكهم بالألقاب التي أكدت صلتهم المباشرة بمعبوداتهم والتي كان منها ما يعتبر الملك ولد المعبود عم، والابن البكر لكل من أنباي وحوكم. واستمر الحكم الأعلى وراثيًا في الأسرة المالكة في قتبان يتولى العرش فيه الابن بعد أبيه، أو الأخ بعد أخيه إن لم يكن له ولد يخلفه. وربما اشترك ولي العهد مع الملك الحاكم بعد أن تتقدم به السن كي يأخذ عنه خبرته ويمارسها بصورة عملية، ويؤيد حقه الوراثي عن طريق هذا الاشتراك ويضمن عدم منافسة إخوته له فيه بعد موت أبيه، وحينذاك تصدر المراسيم باسم الحاكمين الشريكين معًا. ولم يكن الوطن القتباني أقل منزلة عند أهله من مقدساتهم الدينية، فإلى جانب القسم الرسمي بأسماء المعبودات لاسيما عم وأنباي، وباسم الملك الحاكم، كان يقسم كذلك باسم قتبان. وفي ظل الملكية قام في قتبان مجلس للأعيان من شويخ القبائل وكبار الموظفين أطلق عليه اسم (م س د) أو مسود، ووجد له شبيه بنفس الاسم في دولة معين، ولا ندري أيهما سبق الآخر. وجرت العادة على أن يجتمع هذا المجلس في العاصمة تمنع بدعوة من الملك، ربما لمرتين على الأقل في كل عام، للنظر فيما يعرض عليه من شئون الضرائب والمنشآت العامة، وللمداولة في أمور لحرب والسلم. وإصدار العفو الكلي أو العفو الجزئي في القضايا الكبيرة.

ويتعرف الملك على نتائج قرارات المجلس فإن أقرها صيغت على هيئة مراسيم وأعلنها باسمه، أو وقعه معه رئيس مجلس المسود. وربما وقعها كذلك في بعض الأحوال كبار رجال المجلس بأسمائهم مشفوعة بأسماء عشائرهم أو قبائلهم. وهكذا توافرت لمجلس المسود القتباني صفات متعددة: فهو مجلس ملكي يجتمع بأمر الملك وينفض بأمره، وهو مجلس استشاري يحق للملك أن يقبل اقتراحاته أو يرفضها، ثم هو في الوقت نفسه مجلس للدولة يضم كبار أعيان قبائلها وأقليمها ويبحث في مصالحها. كما أنه مجلس تشريعي يصوغ القوانين بعد موافقة الملك عليها ثم يوقع رئيسه عليها وربما وقع أعضاؤه الكبار عليها كذلك بعد توقيع الملك عليها. وعلى الرغم من صدور المراسيم باسم الملك القتباني الحاكم إلا أنها لم تكن تؤرخ بسنوات حكمه، وإنما تؤرخ بعام رياسة رئيس مجلس المسود. ويبدو أن هذه كانت رياسة دورية يتعاقب عليها كبار أعضاء المجلس لفترات محدودة قد تقتصر على عام أو عامين لكل منهم، وقد تزيد عن العامين في أحوال استثنائية يتجدد فيها اخيتار الرئيس أكثر من مرة لسبب أو لآخر. وكانت الأوامر أو المراسيم الملكية تنقش على مدخل العاصمة تمنع أحيانًا، وتنقش على نصب تقام في السوق الرئيسية وفي المعابد. وتخدم بذلك أغراضًا شتى منها توفير العلنية للمراسيم، وتخليدها لذكرى الملك الحاكم الذي صدرت باسمه، ولتظل مرجعًا لما يعقبها من عهود وقوانين. ويضاف إلى هذه الأغراض فيما يختص بنقشها على نصب المعابد أن من المعابد ماكان لها موضعها المتوسط داخل المدن، ويتردد عليها كثير ممن يعرفون القراءة، فضلًا عما توحي به من وضع الأوامر الملكية تحت رعاية أربابها، وإشعار الناس أن هؤلاء الأرباب شركاء فيها، لاسيما إذا تناولت حقوقًا مفروضة للمعابد ومنشآتها وكهنتها. وليس ما يمنع بعد هذا من افتراض وجود منادين يعلنون مضمون هذه الأوامر والمراسيم شفاهة في الأحياء والأقاليم والقبائل باسم الملك الحاكم. ومن أهم ما تضمنته نقوش البوابة الجنوبية للعاصمة تمنع، والتى يحتمل تسميتها بوابة ذو سدان بقايا نص لتشريع صدر في عهد الملك يدع أب ذبيان بن شهر في بداية القرن الثاني ق. م. وفيه ما يقضي على القاتل القتباني بالحرمان (من الحقوق المدنية أو الدينية) بحكم خروجه على القانون، فإن تجاهل مقتضيات هذا الحكم وأصر على البقاء في قتبان أباح الملك دمه، دون أن تترتب على قاتله عقوبة أو ملامة.

ب) في الحياة الاقتصادية: اعتمدت اقتصاديات قتبان وسلطة حكامها على ما اعتمدت عليه أغلب الدول العربية الجنوبية. من التجارة الداخلية والتجارة الخارجية، وتنمية الثروة الزراعية والصناعية. وربما الثروة الرعوية أيضًا. ثم الاستفادة في الوقت نفسه من تحصيل المكوس والضرائب على هذه وتلك. ووجدت مسلة حجرية صغيرة داخل العاصمة تمنع نقشت عليها بعض تنظيمات التجارة الداخلية والضرائب في عهد الملك شهر هلال بن يدع أب، وهدفت إلى ضمان حقوق الدولة في ضرائب التجارة، وحماية مصالح المواطنين التجار والمستهلكين. وتركيز تجارة العاصمة في سوق شمر، وإلزام التجار الأغراب بتبليغ الدولة عن شئون تجارتهم سواء للإذن بممارستها أو لتقدير الضرائب عليها. وجاء في هذا المرسوم على سبيل المثال أنه إما تاجر في تمنع أو في برم، مهما كانت تجارته، يجب أن يدفع ضريبة في تمنع ليكون له دكانه في سوق شمر. وهذا حق وواجب لكل تاجر أياما كانت قبيلته. فإذا أسس دكانه أصبح له الحق في أن يتاجر وحده أو يشارك غيره. دون اعتراض من مدير شمر. وإذا سمح مدير شمر للتجار القتبانيين بأن يتجولوا بين القبائل للتجارة وأعلن ذلك أصبح حقًا لهم. فإذا أخطروه بأن أجنبيًا نافسهم في هذه التجارة أو خدع أحدهم، غرم هذا الأجنبي خمسين وزنة ذهبية. ومن أدي ضريبة سوق تمنع ليتاجر فيها. فتاجر مع قبيلة أخرى، فقد حقه في ممارسة هذه التجارة، وذلك حفاظًا على حق القتبانيين الذي خصصه الملك. وإذا أجر مواطن داره أو مختنًا لتاجر أصبح ملزمًا بأداء ضريبة السوق في تمنع إلى الملك. من تجارة المستأجر وما تغله، فإن لم تكف دفعها مما يملكه ومن كسبه الخاص. وإذا باع شخص تجارة جملة. وكان ينبغي أن تباع في سوق شمر، وجب أن يجري بيعها بالتجزئة عن طريق وسطاء قتبانيين. وإذا دخل تاجر سوق شمر بتجارة يود أن يبيعها ليلًا، وجب على الناس أن ينفضوا من حوله حتى يطلع النهار. وانتهى المرسوم بالنص على أن للملك حق السيادة على كل معاملة وكل تجارة تجري في منطقته وهذا أمر ينبغي على كل ملك تال أن يؤيده.

ويبدو أن ما يستخرج حتى الآن من كميات الملح من نهاية وادي بيحان، وعلى أعماق مختلفة فيه، ثم يصدر بعضه إلى مناطق أخرى من الجنوب العربي. كان يمثل موردًا اقتصاديًا له اعتباره كذلك في العصور القديمة. ومن أجل خدمة وتشجيع قوافل التجارة الخارجية أو تجارة المرور (الترانسيت) لا سيما فيما يختص بالبخور بأنواعه ومشتقاته، ومن أجل إحكام الإشراف عليها في الوقت نفسه. مد القتبانيون الطرق البرية ومهدوها. ومن أهمها طريق ممر مبلقة (العقبة) الذي بذل فيه مجهود بارع بالنسبة لعصره وبيئته ليصل عبر الجبال بين وادي بيحان ووادي حريب. وتعبره القوافل المتجهة من عدن إلى نواحي مأرب في سبأ. عبر الأراضي القتبانية. وقد مهدت أرضيته بالأحجار باتساع يتراوح بين أربعة وخمسة أمتار. وامتد نحو ثلاثة أميال بين ارتفاع وانخفاض بانحناءات كثيرة في أجزاء شقتها الطبيعة وأجزاء أخرى مهدتها يد الإنسان على مدرجات جبلية تحمي جوانبها جدارن منحوتة أو مبنية، وأقيم على كل من طرفي هذا الطريق الطويل حوض للماء لخدمة القوافل وسقاية الإبل. ووردت ثلاثة نصوص من عهد الملك يدع أب ذبيان بن شهر تحدثت عن تعبيده في أيامه. ولوحظ أن هذا المجهود كان يمكن توفيره باستخدام طرق سهلي آخر يمتد من غرب العاصمة تمنع رأسًا إلى وادي حريب، لولا حرص القتبانيين على التحكم في التجارة التي تمر في منطقتهم ورغبتهم في إطالة مسالكها داخل أرضهم ليحصلوا أكبر نسبة من المكوس عليها. ونظرًا للأهمية الاقتصادية لهذا الطريق نشأت بعض البلدان حوله. ومنها ذو غيلان (حصن الحضيري) عند مدخله. وبجوارها هجر بن حميد على جانبه الشرقي. وحنو الزرير على جانبه الغربي. ولعلها قامت في بداية أمرها كمحطات للقوافل ومراكز لتحصيل المكوس ثم اتسع عمرانها. ومهد القتبانيون طريقًا آخر في ممر نجد مرقد على الحافة الصحراوية بين وادي بيحان ووادي حريب أيضًا. ورصفوه. وتمر القوافل خلاله بين جدارين يبلغ سمك الواحد منهما نحو المتر، وقام فيه مركز لتحصيل المكوس من قوافل التجارة المتجهة إلى حريب التي تبعد عنه بنحو خمسة أميال. أو الخارجة منها فى اتجاهها إلى بيحان والعاصمة تمنع. وتوفر للاستثمار الزراعي دور كبير آخر في اقتصاديات قتبان، ولا سيما في سهل بيحان وحريب. وبدأت مشروعات الري في وادي بيحان منذ القرن الخامس ق. م. وهو واد كبير ينحدر من المرتفعات الجنوبية ناحية الشمال التقريبي ويبلغ متوسط اتساعه بين ثلاثة وأربعة كيلو مترات، وإن زاد عن ذلك كثيرًا أو قل

عنه في بعض أجزائه. وفي انحداره تتعاقب على جانبيه تكوينات بركانية من الشست والكوارتز. ثم لا تلبث هذه التكوينات حتى تختفي تحت رملة السبعتين الصحراوية الضخمة. وقامت على البداية الشمالية للوادي مدينة تمنع عاصمة قتبان. كما قامت على بدايته الجنوبية حاضرة أخرى تعرف الآن باسم بيحان القصاب ولازالت أغلب آثارها لم تكتشف بعد. وعادة ما كانت مياه الأمطار الموسمية تصل إلى وادي بيحان على هيئة السيول فتملأ مجراه الذي يمتد نحو 65 كيلو متر بعد أن يترك الجبال. وباتساع يتراوح بين مائة ومائتي متر عرضًا. وقد تنقطع هذه السيول لعدة سنوات، وتتشرب الأرض الرملية جانبًا منها -ولكن مواسمها وسيولها القديمة أرسبت على مدرجات الوادي مع توالي الأزمنة طبقات كثيفة من الطمي تراوح عمقها في بعض مواضعها بين 15 وبين 18مترًا. ولا ندري هل استفاد القتبانيون خبرة ما من نتائج مشروعات الري في أراضي جارتهم سبأ وقلدوها أم لا؟ ولكن الدلائل تشير إلى أنهم أحسنوا استغلال أوضاع واديهم فأنشأوا فيه شبكة مائية ضخمة. يفهم من وصف المتخصصين لها أن مجاري المياه الرئيسية منها، والتي تتلقى معينها من سيول الأمطار الموسمية، امتدت كيلو مترات طويلة وبلغ اتساع بعضها نحو 40 مترًا وارتفعت عن مستوى الأرض الزراعية بنحو أربعة أمتار ولهذا بنيت فيها أهوسة ساعدت على نقل مياه الري من المجاري المرتفعة إلى أهوسة أخرى فرعية منخفضة في مستوى الحقوق. حيث تتوزع منها على قنوات كثيرة صغيرة. وكانت سرعة توزيع المياه على هذه الفروع الصغيرة مما يضمن الاستفادة بها. وعادة ما كسيت منحنيات الترع بمداميك حجرية تتراجع مع جوانب المجرى إلى الخلف لتمنع تآكلها. وقامت منشآت ري أخرى وشقت ترع في وادي حريب الذي يقع إلى الغرب من وادي بيحان ويصل بينهما وادي مبلقة عبر الجبال. ووادي حريب أعرض من وادي بيحان ولكنه أقصر. وامتدت الترع والمنشآت المائية إلى وديان فرعية تتصل به (مثل وادي العين ووادي مقبل ووادي مبلقة ووادي وهبة). ولاتزال بعض أطلال مباني هذه المشروعات المائية ظاهرة بينما غطت الأكوام على بعضها الآخر، وتآكلت بقيتها نتيجة لارتفاع المجاري المائية عن الحقوق المنزرعة كما أسلفنا مما جعل عوامل التعرية تعمل عملها فيها. ولاتزال تتناثر في الوديان نتيجة لهذه المشروعات بعض حفر وجذور ما كان ينمو فيها من نخيل التمر والدوم وأشجار المر الذي أشار الرحالة استرابون في القرن الأول ق. م. إلى شهرة قتبان بالاتجار فيه وإنتاج بعض أنواعه.

ومارس القتبانيون إنشاء السدود ضمن مشروعات الري. على نطاق ضيق. ومنها سد فرعي في منطقة الحضرة يحتمل إرجاعه إلى القرن الرابع ق. م. لصد مياه وادي حماد. وشيد بأسلوب بسيط بني بأكوام من الرديم والطين الجاف دعمت واجهتها المواجهة لتيار الماء بالأحجار كما دعمت أعاليها بالأحجار أيضًا. وثمة بقايا سد آخر بجوار بيحان القصب. ومن المشروعات المائية القتبانية أيضًا حر الصهاريج. ولا تزال تتوزع على قمة جبل ريدان وسفوحه آثار صهاريج قتبانية كان البعض منها يتسع لآلاف الجالونات. ويبدو أنها وزعت على مستويات مختلفة بحيث إذا فاض الماء في أحدها نزل الفائض منها إلى ما يليه. وحفرت هذه الصهاريج في الأرض وكسيت من الداخل بلياسة من أسفلها حتى الارتفاع المحتمل لما تختزنه من الماء. واختلف الرأي في توقيت إنشائها بين ما يعاصر العصر الفارسي في القرن الخامس ق. م. وبين القرن الميلادي الأول. ولم تغن كل هذه المشروعات القتبانية عن حفر الآبار العادية في المناطق التي تحتاجها، ويحتمل أنه كانت تتسرب إليها المياه الزائدة في المزارع فتختزن طبيعيًا فيها حتى يحين وقت الحاجة إليها ويتيسر رفعها. وحول نبع طبيعي في وادي فرع في بيحان ظاهرة طريفة، حيث مهد الطريق إليها بمررات ضيقة مرصوفة، وليتيسر وصول الرعاة ورجال القوافل إليه حفرت علامات على الصخور قبل الوصول إليه بنحو كيلو متر، ومنها ما يمثل شخصًا يشير بإصبعه إلى مكان الماء. ولهذه العلامات ما يماثلها في مناطق متفرقة من صخور بيحان وفي مناطق قريبة من الربع الخالي حيث تشتد الحاجة إلى معرفة أماكن المياه. ومع هذه التيسيرات لتوفي مياه الري والشر. لوحظ في آثار المدن والقرى (في هجر بن حميد والحرجة وجبل الحضرة والنقب) أنه كان يوضع أمام كل دار حوض قليل العمق مليس من الداخل. لملئه بالماء. وظلت مشروعات المياه تؤدي أغراضها حتى القرن الثالث الميلادي. لاسيما في وادي بيحان. غير أن استمرار الاستفادة منها كان يتطلب استرمار العناية بها. فقد كان ارتفاع المجاري الرئيسية عن مستوى الأراضي المزروعة يعرضها لعوامل التعرية كما ذكرنا، كما أن ارتفاع الإرساب نتيجة لنظام الصرف المستعمل وتوزيع المياه في الحقول. كان يتطلب الارتفاع بالقنوات الفرعية والارتفاع بمداخلها إلى مستوى الحقول.

واستفادت الدولة من ضرائب الزراعة كما استفادت من ضرائب التجارة ويفهم من دراسات البحث رودو كاناكيس Rhodokanakis للنظم القتبانية أن الضرائب في قتبان وفي غيرها من الدول العربية الجنوبية كانت تعادل العشر أو ما يقرب منه، وتؤدي عينية عادة أي من نفس محصول الأرض والمصانع والمتاجر. ويتولى الإشراف على تحصيلها ولاة الأقاليم وشيوخ القبائل أحيانًا. كما كانت الدولة تأخذ بنظام الالتزام في تحصيل ضرائبها أحيانًا أخرى، فتسمح لبعض كبار أهل القرى والأقاليم والمعابد بأن يتولوا جباية ضرائب معينة وتخصص لهم جعلًا منها. وامتد تحصيل الضرائب إلى ما هو أكثر من هذا، فورد في أمر أصدره ملك قتباني إلى كبير إحدى القبائل بأن يؤدي إلى خزائنه من ضرائب قبيلته ما ترجمه رودوكاناكيس: عشر كل ربح صاف وكل ربح يرد عن طريق الالتزام وكل ربح يجبى من بيع ومن إرث. وقد تدل العبارة الأخيرة على تحصيل رسوم على عقود البيع وعقود التوريث على نحو ما تجري عليه قوانين الضرائب في أغلب المجتمعات المعاصرة. ح) من آثار العمران والفنون: قدر الاتساع القديم لمدينة تمنع (هجر كحلان الحالية) عاصمة قتبان بنحو 52 فدانًا -وخلد الرحالة بليني أهميتها حينما روى أنها كانت تتضمن65 معبدًا. ومع ما في رواية بليني من مبالغة واضحة فإن الآثار الباقية في تمنع تشهد بروعتها النسبية القديمة فعلًا رغم عوامل التخريب التي لحقت بها قديمًا وحديثًا. وقد أنشئت هذه العاصمة فوق ربوة مرتفعة بعض الشيء عند النهاية الشمالية لوادي بيحان، وكان يحيطها سور يحميها وإن تداخلت بعض المساكن في أجزائه نتيجة لازدياد العمران. وتضمن السور أربع بوابات كشف عن اثنتين منها في ناحيتي الجنوب الغربي والجنوب الشرقي للمدينة. وكانت أولى البوابتين وتعرف عادة باسم البوابة الجنوبية، هي الأقدم، وترتب على بنائها بأحجار صلبة كبيرة أن بقي للآن جزء من بنيانها يرتفع أكثر من ثلاثة أمتار، وأجزاء من الصرحين أو البرجين اللذين كانا يحيطان بها. ويبدو أنه كان لمدخلها باب خشبي ضخم ينزل من أعلى إلى أسفل حين غلقه ويدعمه من الخلف عارض خشبي أفقي متين. واحتفظت جدران البوابة، وهذا هو الأهم، بنصوص عديدة سجلت بأسماء بعض ملوك قتبان، وكان من أقدمهم يدع أب ذبيان -كما تضمن أحدهم تشريعًا للدولة أشرنا من قبل إلى فقرة منه.

وقام في داخل المدينة مبنى متسع فخم، اعتبره فإن بيك معبدًا رئيسيًا، واعتبره جام قصرًا ملكيًا للاحتفالات العامة. وقد شيدت الأجزاء الأقدم منه على مرحلتين خلال عهود المكربين بين القرن السابع والقرن السادس ق. م. ثم جددت أجزاؤه وأضيفت إليها إضافات مرتين أيضًا على الأقل في عصور الملكية في أواخر القرن الرابع ق. م. ثم في القرن الأول ق. م. وتشابهت بعض هذه الإضافات مع أساليب العمارة الشائعة في الحضارات الخارجية التى اتصل القتبانيون بها، فشيدت جدران المبنى خلال مرحلة البناء الثانية بمشكاوات رأسية (أو دخلات رأسية) متسعة تعاقبت على مسافات متساوية، وكان هذا الأسلوب المعماري شائعًا من قبل في أقطار شرقية قديمة مثل نواحي العراق ومصر وفارس وغيرها. وعندما تمت المرحلة الأخيرة لتجديد المبنى في عهد الملك شهر يجل يهرجب في بداية القرن الأول ق. م. أخذت عناصره ببعض خصائص فن العمارة الهيلنستية الشائعة في عصره. وقد بدأ في صورته العامة عند اكتماله تؤدي إلى بابه درجات متسعة يحف بها جداران جانبيان. ويؤدي مدخله إلى فناء كبير مرصوف كانت تحيط به من ثلاثة جوانب أعمدة مربعة، بينما يتوسط ضلعه الشرقي (المقابل للمدخل) خمس درجات حجرية متسعة أخرى يزيد عرضها عن ستة أمتار، وتؤدي إلى بهو كبير مرتفع تحتمل تكسية أرضيته وأسافل جدرانه الداخلية ببلاطات من الألباستر القرمزي رقمت بحروف تساعد على وضع كل صف منها في موضعه المناسب. وتوسط هذا البهو ممر للمواكب قامت على جانبيه أربعة صفوف من المباني الصغيرة لم يتضح الغرض منها حتى الآن. ولعل الارتفاع التدريجي من باب الدخول إلى الفناء ومن الفناء إلى البهو كان مقصودًا لذاته. وكشفت البعثة الأمريكية للآثار التي أظهرت تفاصيل هذا المبنى الفخم منذ عام 1950 - 1951 عن مساحة واسعة أيضًا حول البوابة الجنوبية لمدينة تمنع تضمنت مزيدًا من الجدران المتصلة بها ومدخل فنائها وشارعين وعدة مبان. كما كشف الأهلون بعد ذلك بطريق المصادفة عن مبان أخرى. وتعددت الفروض بشأن الأغراض التي خدمتها هذه العناصر المكتشفة وكانت منها دور تضمنتت نصوصًا تحدد أسماءها وأسماء أصحابها أحيانًا (مثل: دار يفش، ودار يافع، ودار هدث، ودار شعبان، ودار عثمان .. إلخ). وظهرت مبان أخرى افترض مكتشفوها أنها خدمت أغراضًا عامة. ففي داخل بوابة المدينة وجدت على سبيل المثال ساحة رصفت بالحجر وقامت على جانبيها دكات حجرية مما احتمل معه أنها كانت ساحة سوق أو ساحة اجتماعات (بما يشبه ساحة أو دار للندوة) ومبنى آخر شيد على دكة مرتفعة ويؤدي إليه

درجان (أحدهما من ناحية الجنوب والآخر من ناحية الشرق)، وتضمن في مدخله صفوفًا من المناضد الحجرية، مما دفع بمكتشفه إلى أن يفترض أنه كان يمثل دار محكمة مركزًا للشرطة أو نحوه. ومن أهم الدور الخاصة التي أشرنا إلى الكشف عنها قرب بوابة المدينة مبنيان متصلان سمي أقدمهما بيت يفش، وسمي الآخر بيت يافع أو يفعم، واتصل به بطريق يؤدي إلى فناء، وكنموذج للمباني الثرية في تمنع لا بأس من تقديم وصف مفصل لبيت يفش. فقد تألف من طابقين: طابق أرضي ذي صفات أو بواكي مسقوفة، وعدة غرف تقوم بدور مصانع خاصة صغيرة، ثم طابق علوي تضمن شرفات ومقصورة مباخر ومخزنين للبخور. ويستنتج من ستة نصوص تعلقت به أنه شيد في أواخر القرن الثاني ق. م. (كما يعتقد ألبرايت) ثم اشتراه وجدده رجل من أثرياء العاصمة يدعى هوفعم بن ثونب في بداية القرن الأول ق. م. ووقفه باسمه (وربما باسمه مع اثنين من أسرته مرة أخرى؟) على كبار معبودات قتبان: أنباي، وإيل تعلاي، وعثتر، وعم، وذات سنتم، وذات ظهران، وورفو. وبقيت بين أطلال هذا المبنى ثلاث غرف في حالة طيبة بحيث عثر في داخلها على صناديق للبخور ومرايا برونزية وما شابهها. وأمتع ما عثر عليه بجوار جداره الجنوبي المواجه لبوابة العاصمة تمثالان من البرونز (ارتفاع كل منهما61 سم وطوله 70سم) ولا يعرف إن كان في الأصل متجاورين أو متقابلين. ويمثل كل منهما لبؤة بكفل أسد ترفع إحدى ساقيها الأماميتين، ويعتليها غلام عار يمسك قوسًا بيمناه ويقبض بيسراه على حلقة لسلسلة كانت تنتهي بطوق يحيط بعنق اللبؤة، ولعله كان يسمك أيضًا بسوط أو نحوه. والغلامان توأمان مع اختلاف يسير بينهما في الملامح، ويعتبر التمثالان من أروع القطع الفنية التى احتفظت بها مناطق الجنوب العربي حتى الآن والتى تزكي ما رواه استرابون في القرن الأول ق. م. عن مهارة العرب الجنوبيين في الصناعات المعدنية. وسجل على قاعدة أحد التمثالين اسما الفنانين ثويب وولده عقرب (حرفيًا: ثويبم وعقربم) اللذين قاما بزخرفة الدار وقلدا بالتمثالين نموذجًا من الفن الهيلينستي السكندري فنجحا في عملية التقليد إلى حد ملحوظ وإن ظل تشكيلهما أقل إتقانًا من الأصول الهيلينستية المماثلة لهما والتي وجد بعضها في منف في مصر. وإلى جانب الهدف الزخرفي في هذه المجموعة الفنية افترض بعض الباحثين أنها رمزت إلى معنى ميثولوجي (أي ديني أسطوري). وفي تحديد هذا المعنى آراء شتى، ومنها ما يرى أن اللبؤتين ترمزان إلى شمس الشتاء وشمس الصيف، وأن راكباهما التوأمين يمثلان عثتر نجم الشعرى ابن القمر، كما

يقومان بدور سدنة عم المعبود الأكبر لدولة قتبان وقد أخضعا له الشمس وروضاها. وليس ما يمنع من افتراض أن المجموعة كلها كانت تخدم كذلك غرض الحماية الرمزية لبيت يفشان، أو غرض الحماية الرمزية لما يدخل من بوابة المدينة المجاورة له من قوافل التجارة. ولكل من هذه الفروض والآراء ما يبرره من عقائد العرب الجنوبيين ومن العقائد الهيلينستية المنقولة لا سيما من مدينة الأسكندرية التي روى بعض المؤرخين الكلاسيكيين أن وفودًا من التجار العرب الجنوبيين كانوا يشتركون في مواكبها وأسواقها ويتبادلون الأفكار مع أهلها، فضلًا عمن كان يقصد بلاد العرب نفسها من رحالة العصر الهيلنستي، وما يصلها عن طريق التجارة من القطع الفنية ذات الدلالات أو الأغراض العقائدية والتى تغري الفنانين بتقليدها. ولم تخل دار من الدور الباقية الأخرى من آثار تدل على ثراء أهلها وتدل على أهمية ما يمكن أن يظهر من آثار بقية المدينة حين يتم الكشف عنها، وهو ما ندع التفصيل فيه الآن. وكانت لقتبان فنونها المحلية في النحت والنقش وصناعة الحلي وقطع الزينة وهذه نتجاوز عنها أيضًا مؤقتًا مراعاة للإيجاز. ومن نماذج النحت في الحجر التى تأثرت بالفن الهيلينستي ولت على اتساع صلات قتبان بالخارج، رأس مرمرية توضع في مستوى تمثالي اللبؤتين والغلامين البرونزيين، وهي لأنثى أطلق عمال الحفائر الأثرية عليها اسم مريم أو مريام فاشتهرت به. وعثر عليها فى إحدى مقابر حايد بن عقيل جبانة العاصمة، ويحتمل إرجاع صناعتها إلى ما بين القرن الأول وبين القرن الثاني ق. م. وقد انعقدت خصل شعرها خلف رأسها من نفس مادة الحجر بما يشبه الطريقة المصرية القديمة، واحتفظ محجرا عينيها بآثار التطعيم باللازورد على عادة كثير من تماثيل الجنوب وعادة التماثيل المصرية أيضًا. وعنقها طويل كانت تحيط به قلادة، وأذناها مثقوبتان ليتدلى منهما قرطان. ومع ما أخذت به هذه الرأس من الأسلوب الهيلينستي، حز فنانها على صدغيها تقليدًا لوشم أو شريط قد يعبر عن عادة محلية أو قبلية، إن لم يكن تقليدًا لأثر حجامة أجريت لصاحبة الرأس ابتغاء الشفاء من مرض ما. د) علاقات قتبان بجيرانها: شهدت دولة قتبان أطوارًا مختلفة من التوسع ومن الانكماش في تاريخها الطويل. وكيفت سياستها نحو جيرانها الأقربين، صداقة أو عداء أو حيادًا. بما يتمشى مع قدراتها وإمكاناتهم. فقد مر بنا في تتبع العلاقة بينها وبين جارتها القوية سبأ، كيف أنها لزمت الحياد والشماتة أيام حروب كرب إيل وتر السبأي ضد

معين وأوسان (قبل عام 430 ق. م.) وكيف أمنت بهذا على أرضها من أطماعه بل وحصلت منه على بعض أراضي أوسان القريبة من البحر الأحمر مكافأة لها على مسلكها إزاءه. غير أن تلاصق الحدود بين الدولتين الطموحتين سبأ وقتبان كان من شأنه أن يهيئ استمرار فرص التنافس والاحتكاك ثم الاشتعال بينهما. وقد ورد في نصين ذكر حربين بينهما صعب توقيتهما إن كانتا سابقين على أيام الحياد في عهد كرب إيل وترى السبأي أم تاليتين لها. وصعب كذلك ترتيب أسبقية إحداهما على الأخرى. وعن إحدى هاتين الحربين تحدث قائد سبأي يدعى تبع كرب عن حرب بين الدولتين استمرت خمسة أعوام. وكانت قتبان فيما يبدو هي البادئة بها، وانتهت إلى ما يشبه الصلح أو الهدنة، الأمر الذي دعاه إلى أن يخصص أوقافًا كثيرة لمعابد أرباب سبأ الكبار، وذلك مما يعني من ناحية أنه اعتبر الصلح كسبًا ينبغي شكر أربابه عليه، ويعني من ناحية أخرى أن الحرب بين الدولتين لم تنته إلى نتيجة فاصلة وأن أيًا منهما لم تستطع القضاء على الأخرى. وتحدث قائد قتباني يدعى يذمر ملك عن الحرب الأخرى وروى عن مرحلة منها أنه هزم عدة قبائل وعشائر واستولى على مدنها ونخيلها وأرضها، ثم أعلن تقديمها إلى المعبود عم وإلى أنباي وإلى ملكه يدع أب يجل بن ذمر عالي ملك قتبان. وذلك مما يعني أنه مع فخره بمجهوده في الحرب قد رد الفضل في النصر والحق في تملك الأرض المكتسبة ونتائج النصر إلى معبودي دولته الكبيرين وإلى ملكه الذي كان يعتبر نفسه ولدًا لهما وممثلًا لهما على وجه الأرض. وزاد ذلك القائد عبارة في نصه تحدث فيها عن مرحلة حرب واسعة شنتها سبأ وإمارة رعنان وقبائلها التي ساءها أن تملك القتبانيون جزءًا من أرضها، ضد قتبان. ولكي يضخم القائد القتباني من كثرة الأعداء وضراوة الحرب ألمح إلى أنه تجمع فيها حقد عهود المركبين وعهود الملوك السبأيين ضد ملكه يدع أب يجل بن ذمر عالي ملك قتبان وضد قتبان نفسها وضد أولاد عم جميعًا. وبعد هذه الحرب التي لا يعرف شيء مؤكد عن نتائجها، والتي يفترض ألبرايت أن الملك القتباني الذى ذكر في سياق نصها وهو يدع أب يجل قد حكم في منتصف القرن الرابع ق. م -شقت قتبان طريقها وظلت تسيطر على أجزاء من المناطق الساحلية التى كانت تشغلها من قبل دولة أوسان والتي عاشت في بعض أجزائها قبائل حمير ذات الصلة والقرابة بالقبائل السبأية. وقد تلونت هذه القبائل الحميرية حينذاك بالولاء القتباني واعتبرت نفسها من ولد المعبود عم معبود القتبانين. وأطلقت على حصنها الرئيسي اسم ريدان، وهو اسم يراه الباحث فون فيسمان قتباني الأصل كان يطلق من قبل على حصن رئيسي للعاصمة.

القتبانية تمنع وقام على ملتقى الوديان إلى الجنوب منها. وقد ذكر في نص إنشائه (قبيل بداية القرن الرابع ق. م) أنه في اتجاه حدن، ولا زال حصن حدن (أو حادي) هذا قائمًا أسفل الجبل حيث توجد أطلال ريدان. على أنه لم يكن من المنتظر أن تسير الأمور في مصلحة قتبان دائمًا. فبعد عام 285ق. م استطاعت جيوش الملك السبأي يثع أمر بيين أن تسترد بعض الأراضي التي اكتسبتها قتبان من أسلافه خلال القرن الرابع ق. م، وذكر نصه من المدن التى استردتها جيوشه حينذاك مدن نعمان وصنعاء وذبحان ذو حمرور. وشهدت قتبان فترة ازدهار أخيرة في عصر أسرة حاكمة ثالثة أو رابعة بلغت شأوها في عهد شهر يجل يهرجب الذي يؤرخ ألبرايت وفون فيسمان عهده ببداية القرن الأول ق. م. وقد تطلعت قتبان في عهده إلى دولة معين الواقعة إلى الشمال منها فاجتزأت جانبًا من أرضها وعقدت معها حلفًا احتفظت لنفسها فيه بالمكانة الأسمى، ولعلها استهدفت من وراء هذا الحلف أن تضيق به على دولة سبأ فتضغط هي عليها من الجنوب وتضغط حليفتها معين عليها من الشمال. ويرجع إلى أيام هذا التحالف نص من عهد ملك معين وقه إيل يثع أرخه كاتبه المعيني باسم ملكه واسم ولي عهده وشريكه في الحكم إيل يفيع يشور الثاني، كما أرخه في الوقت نفسه باسم الملك القتباني شهر يجل يهرجب، وذلك مما يدل على اعترافه الضمني بنفوذ قتبان على بلده. وعندما انفرد ولي العهد المعينى إيل يفع يشور بالحكم بعد أبيه حضر حفل توليته في عاصمته كاهنان قتبانيان نيابة عن ملكهما. ولعل هذه الفترة من الازدهار القتباني هي التي روى عنها الرحالة الروماني بليني أن إنتاج الكندر كان يأخذ طريقه من حضرموت وعاصمتها شبوة إلى حيث تتسلمه قتبان وعاصمتها تمنع على طريق البخور الممتد حتى ساحل الحبر المتوسط، وروى عنها كذلك ما سبق أن استشهدنا به من أن الجبانيتاي (أو القتبانيين) لهم مدن كثيرة أكبرها نجاو وتمنع، وأنها كان في هذه الأخيرة 65 معبدًا مما يشير إلي ثرائها. ولكن يبدو أن بلوغ القمة قد يعقبه الانحدار أحيانًا، فقبيل عهد شهر يجل يهرجب اهتز أحد الموارد الاقتصادية للدولة بعد نجاح السفن المصرية في عصر البطالمة في اجتياز مضيق باب المندب حوالي عام 120 أو 117 ق. م للاتجاه إلى الهند والاتجار معها رأسًا دون وساطة عرب السواحل الجنوبية ومنهم القتبانيون. وليس من المستبعد أن هذا الوضع كان من أسباب تحول أطماع قتبان إلى دولة معين لكي تعوض من مكاسب تجارتها البرية ما أوشكت أن تخسره من مكاسب تجارة الساحل.

ولكن ترتب على تخفيف قبضة قتبان الاضطراري على المناطق الساحلية للبحر الأحمر أن تألبت عليها قبائل حمير المنتشرة فيها، ويبدو أنها كانت قد نجحت في تجميع كلمتها من قبل بداية القرن الأول ق. م. وبيتت النية على الاستقلال عن قتبان. وليس ما يعرف حتى الآن عن تفاصيل هذه المحاولة إلا أنها حققت هدفها في النصف الأخير من القرن الأول ق. م. فقاتلت قتبان وأخذت منها ما كان باقيًا لها من سواحلها. وتوفرت بهذا فرصة ذهبية لسبأ التى سكتت على الازدهار القتباني المجاور لها على مضض، وعانت من تضييق قتبان عليها من الجنوب وتضييق حليفتها أو تابعتها معين عليها من الشمال. فاستغلت فرصتها وبدأت بأضعف الفريقين وهي معين فهاجمت عاصمتها واستولت على مناطق واسعة من أراضيها قبل الربع الثالث من القرن الأول ق. م. وانكمشت قتبان على خارطة الجنوب بعد أن خسرت أرض حمير وخسرت حليفتها معين، ولكنها جاهدت في سبيل البقاء وساعدها على الاستمرار أن غريمتها دولة سبأ كانت تعاني هي الأخرى من مشاكل متعددة نتعرض لها في حينها، فلم تستطع أحداهما أن تقضي على الأخرى، وإن اتصلت المناوشات بينهما. وفي هذه المرحلة المضطربة من تاريخ قتبان توالي ملوك لا يذكر لعهودهم من الأعمال الإنشائية إلا أن أول عملة ذهبية قتبانية سكت في عهد أحدهم وهو ورواو إيل غيلان في الحصن الملكي القتباني حريب. وكانوا في مجموعهم ضعاف الحيلة إزاء اضطراب موازين القوى في الجنوب، وكان ازياد ضعفهم مشجعًا أو مترتبًا على هجوم جديد غير متوقع من جارتهم الشرقية دولة حضرموت التي بسطت نفوذها على الأجزاء الشرقية من قتبان، بحيث عثر على ثلاثة نقوش في وادي بيحان القتباني تمجد ثلاثة ملوك حضرميين. وقد روى أحدهما أن ملكه الحضرمي عمل على تسوير مدينة غيلان بعد أن تغلب أبوه على قتبان (أو على جزء منها) وروى آخر أنه تم في عهد ملك حضرمي مشروع للري في منطقة وعلان (القتبانية). وكان في العاصمة تمنع ملك قتباني لا يزال يحسن الظن بسلطته وهو شهر هلال بن ذر أكرب. إذ وجد له نص مرسوم يطلب فيه إلى كبير العاصمة (أي المدير المحافظ أو من يؤرخ باسمه) بتحصيل الضرائب ممن يسكنون ويزرعون الأراضي في سد (قرب العاصمة) وأمر المزارعين بأن يلتزموا بمرسومه ابتداء من أول ذي فرعم إلى السادس من ذي فقحو يومًا بيوم وشهرًا بشهر. واستنتج

الباحث رودوكاناكيس من العبارة الأخيرة أن ذا فرعم يمثل أو شهور السنة الزراعية عند القتبانيين ,أن ذا فقحو يمثل آخرها. ولو أنه ما من بأس فيما يبدو أن يكون ذو فرعم أول الحصاد، وذو فقحو آخره، فمواسم الحصاد هي التى يستيطع المزارعون أن يوفوا فيها بالتزاماتهم تجاه الدولة، وليست مواسم الزراعة كلها. وربما دل اللفظان في سبأ على العشرتين الأوليين من الشهر. وفي عهد الملك شهر هلال أيضا حوالي عام 100 أو 106 م دمرت تمنغ عامصة قتبان تدميرًا عنيفًا لازالت آثاره باقية في معالمها القديمة التي اكتسى بعضها بطبقة كثيفة من الرماد دلت على حريق متعمد، لا تعرف حتى الآن حقيقة المتسببين فيه. وعلى الرغم مما لحق بها، جاهدت قتبان في سبيل البقاء لفترة أربعين عامًا أخرى أو نحوها، فاكتفت بمناطقها الغربية، ونقلت عاصمتها إلى حريب التي أشرنا إلى سك أول عملة ذهبية قتبانية فيها، ووجدت بها بالفعل عملات أخرى ضربت بها، ونقشت على بعضها صورة البومة وتحتها خنجر. وكانت صورة البومة من رموز بعض العملات الإغريقية السكندرية. ويبدو أن قتبان قد اضطرت نتيجة لضعف حيلتها أن تنضم إلى حضرموت في مشاكلها ضد دولة سبأ بعد أن أصبحت هاتان الدولتان هما مركز الثقل في الجنوب العربي فحاربت في صف حضرموت، ثم تهاوت حوالي عام 140م (أو146م) بعد أن استهلكت قوتها، وانحسر كيانها السياسي، وهجرت مناطقها الزراعية بعد أن قلت رعاية مشاريع المياه فيها، وغطت الرمال عليها. وآلت أرضها فيما بعد إلى حوزة دولة سبأ وذوريدان منذ أوائل القرن الرابع الميلادي. ملحوظة: أسهمنا بعض الشيء في الفصول السابقة فى مناقشة تاريخ دولة سبأ وتاريخ دولة قتبان، من حيث مشكلات النشأة، وتطور الحياة السياسية، ومشاريع العمران وفروع الفنون، وتأثير العوامل الداخلية والخارجية في كيان كل دولة منهما لكي نجعل من هذه المناقشات نموذجًا للتوسع فيما يعالج به تارخ بقية الدول العربية القديمة الأخرى التى سنحاول الاكتفاء بخطوطها الرئيسية فيما يلي، مراعاة للتخفيف مؤقتًا. وندع التفصيل فيها للجزء الثاني من كتابنا في الشرق الأدنى القديم حين يصدر في وقت لاحق قريب بإذن الله.

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: جواد علي: المرجع السابق -ج2 - مادة قتبان. نيلسن وآخرون: المرجع السابق -ص132 - 136، 279 - 289. Abdel-Aziz Saleh, op.cit. Bowen, R. Jr,. Albright, W.F., and others, op., cit.,43-68 155-163. Philby, op,cit., 59-63. Phillips, op.cit.,51f. Pirenne,J., Le Royaume Sud-Arabe des Qataban et sa Datation, Louvain 1961. Rhodokanakis, N.,Katabanische Texte zur Bodenwirtschaft, I-II, Vienne 1919,1922.

الفصل السادس: دولة معين

الفصل السادس: دولة معين كانت دولة معين أقرب الدول الجنوبية اتصالًا بالمناطق الشمالية في شبه الجزيرة العربية. ونشأت في الجوف الجنوبي فيما يمتد بين حدود حضرموت وبين المنطقة الحدودية الحالية الفاصلة بين المملكة العربية السعودية وبين جمهورية اليمن الشمالية، عند نجران. وانتفعت معين بسهل متسع يغذيه بالخصوبة ومياه الري نهر خارد وفروعه. واختلفت تقديرات المستشرقين في تعيين البداية السياسية لدولة معين فيما بين القرن الثالث عشر ق. م. والقرن الحادي عشر ق. م. وبداية القرن السادس ق. م. وبداية القرن الرابع ق. م. ويبدو أن أكثر هذه التقديرات احتمالًا هو بداية القرن السادس ق. م. واتخذت الدولة عاصمتها في مدينة قرنا وفي شرق الجوف الجنوبي. وبنيت مستطيلة في مساحة صغيرة نسبيًا تبلغ نحو مائة ألف متر مربع، وسورت بسور ضخم ذي مدخلين تحميهما الأبراج الحجرية، وبقي جزء من البرجين اللذين يحفان بمدخلها الشرقي. وقام إلى جانب العاصمة معبد كبير رددت النصوص المعينية اسمه وهو معبد رصف ولازالت بقية من أعمدته ونقوشه وزخارفه قائمة تشهد بكفاية أصحابها وإن تجاوزنا عن وصفه مراعاة للإيجاز واكتفاء بما وصفنا به أمثاله في سبأ وقتبان. وتناولت البحوث الأثرية من مواطن العمران الأخرى في معين مدن: يثل (خربة براقش) وكمنهو (خربة كمنة) ونشان (خربة السودا) ونشق (خربة البيضا) ورجمة (في أخدود نجران) .... وغيرها. تعاقبت على حكم معين خمس أسرات حاكمة لم تحتفظ النصوص الباقية بألقاب حكامها الأوائل، ولكن يرجح أن سلطتهم بدأت بنفس الصبغة الدينية التي ظهرت عند جيرانهم. فتلقب كل منهم بلقب مزود ربما بمعنى من يزود

المعبودات أو المعابر بقرابينها، أو من يزود دولته بخيراتها. واعتمد هذا الترجيح على بقاء هذا اللقب مزود ضمن ألقاب حكام معين المتأخرين حتى بلغوا أن تلقبوا بألقاب الملوك. وعملت معين على استثمار أراضيها الصالحة للزراعة بإقامة بعض مشروعات الري الصغيرة للاستفادة من الأمطار والسيول ومياه نهر خارد وفروعه، وذلك مما جعل الرحالة الروماني بلينى يصف أراضيهم بأنها أرض خصبة تكثر فيها الأشجار والنخيل والأعناب ولهم فيها قطعان كثيرة. غير أن معين اعتمدت في حياتها الاقتصادية أكثر ما اعتمدت على الاشتراك بنصيب كبير في تصدير منتجات الجنوب إلى أسواق التجارة الخارجية، ولاسيما منتجات اللادن والكندر والمر، التي كانت ترحب بها معابد الهلال الخصيب ودول البحر المتوسط ترحيبًا كبيرًا، وذلك مما جعل نفس الرحالة بلينى يعقب بقوله: والمعينيون منطقتهم يمر فيها ترانسيت الكندر عبر طريق ضيق. وهم الذين بدأوا التجارة وأهم من مارسوها. واتخذ نوع من البخور اسمه من اسمهم وهو البخور المعينى Minaean. ويبدو أن مكاسب هذه التجارة التي سبقت عهد بليني بقرون طويلة هي التي حركت أطماع دولة سبأ منذ عهود المكربين ضد دولة معين. وقد مر بنا كيف تكررت الحروب بينهما في عهود المكربين الأواخر، وكيف أسرفت جيوش كرب إيل وتر (الثاني) السبأي في تدمير مدن معين وتشريد أهلها حتى ما يمتد إلى نجران. وإذا كنا قد تشككنا في صحة الأعداد الضخمة التي ذكرتها نصوصه عن قتلى المعينيين وأسراهم (راجع الفصل الخامس). فإن نفس هذه الأعداد تعبر ضمنًا عن اتساع عمران معين القديمة. وعندما استردت معين كيانها بدأت بها عصور الملكية في أوائل القر الرابع ق. م. واعتاد ملوكها على أن يتلقبوا بكنيات شخصية معبرة حاول هومل وغيره تفسيرها، مثل: صدق بمعنى الصادق أو العادل، ويشور بمعنى المستقيم، وريام بمعنى المتعالي ... إلخ. وعلى الرغم من غلبة نظام الحكم الملكي في معين ظل لمشايخ القبائل وأعيان العاصمة مجلس مسود بنفس الاسم الذي عرف به مثيله في قتبان ويراجع له الفصل السادس. وقد وصف بأنه مسد منعن أي المجلس المنيع أو شيء من هذا القبيل. وكانوا يجتمعون فيه بدعوة من الملك للبحث في أمور الضرائب والمنشآت العامة والمداولة في أمور الحرب إن وجدت، والتصديق على

العقود التي تبرمها الدولة مع كبار الأفراد وتعهد إليهم بمقتضاها بتنفيذ بعض مشروعاتها الدينية أو المدنية وتتفق معهم فيها على الموارد التي ينفقون منها على هذه المشروعات. ويغلب على الظن أنه قامت إلى جانب هذا المجلس الرئيسى في العاصمة مجالس أخرى فرعية في المدن الكبيرة والأقاليم كانت تشكيلاتها واختصاصاتها تشبه المجالس البلدية أو القروية الحالية. وتولى رياسة حكم الأقاليم والمدن الكبيرة في معين موظفون تلقب كل منهم بلقب كبر أي كبير، أو وال، وتولى كل منهم رعاية شئون إقليمه باسم ملكه في شئون القضاء وفي جباية الضرائب وفي إقامة المشروعات الإقليمية. غير أن الكبراء أو الولاة لم يكونوا المشرفين وحدهم على جباية الضرائب وإنما أخذت دولتهم في نفس الوقت بنظام الالتزام في تحصيل بعض ضرائبها، وهو نظام سبق أن أشرنا إلى تطبيق مثله في قتبان وغيرها (في الفصل السادس). وكان معدل الضرائب يدور حول العشر أو ما يقرب منه ويؤدى عينيًا عادة. وبحكم موقعها الشمالي ظلت معين أكثر اتصالًا بطرق التجارة الشمالية الرئيسية التي تخرج من عاصمتها قرناو ومن تابعتها نجران، إلى نجد وما ورائها وإلى الحجاز وما ورائه. ولرعاية قوافل المتاجر التى تسلك الطريق التجاري البري الكبير على طول الحجاز والممتد إلى العقبة وما يتفرع منها إلى سيناء المصرية، وإلى غزة ومعان في جنوب الشام، زودت معين هذا الطريق بحاميات وجاليات معينية كان استقرارها في مدن الحجاز من عوامل التزاوج والاختلاط السلمي بين عرب الشمال وبين عرب الجنوب كما كان من أسباب ما تناقله النسابون عن تناثر بطون جنوبية أو قحطانية بين العرب الشماليين (في مثل مدينة يثرب في عصور تالية). وأقامت أكبر الجاليات أو الحاميات المعينية في واحة العلا شمالي يثرب وكانت في بعض عصورها مقرًا لدولة ددان ودولة لحيان مما سنتناوله فيما بعد بتفصيل. وعندما زاد النفوذ الاقتصادي لهذه الجالية زاد بالتالي نفوذه السياسي حتى غدت منطقتها حليفة لدولة معين يتولاها كبير أو كبيران على صلة بالملك المعيني الجنوبي. وربما حدث هذا التطور في أواخر القرن الثالث ق. م. وأصبحت المنطقة تذكر معه في النصوص إلى جانب أسمائها القديمة باسم ... الجنوبية أي معن أو معين، مع تخصيصها بكلمة مصرن. وتعامل تجار معين ووسطاؤها من معن مع العواصم المصرية واستقر

بعضهم فيها. ومنهم رجل يدعى زيد إيل بن زيد دفن في مصر ووجد له تابوت في منطقة منف كتب عليه بحروف المسند ما يفهم منه أنه عمل في خدمة معبد مصري لعله سيرابيوم منف، وتولى توريد بعض المنتجات العربية إليه مثل المر والذريرة (قصب الطيب) وغيرهما على سفينة بحرية في مقابل ما كان يصدره إلى بلده من المنسوجات المصرية. ويعبر زيد إيل بن زيد عن استغراقه في الحياة المصرية تلقب بلقب وعب وهو لقب ديني مصري قديم يعني الكاهن المطهر. وأرخ هذا النص بالعام 22 للملك توليما يوث برتولمايوس وقد يقابل عام 263 ق. م. خلال عهد بطلميوس الثاني، أو بعده. ووصل تجار معينيون بتجارتهم إلى جزيرة ديلوس في بحر إيجة في النصف الأخير من القرن الثاني ق. م. حيث وجدت فيها آثار صغيرة نقشت بنصوص عربية تدعو لأصحابها آلهة معين (وآلهة سبأ). واستمرت معين في سبيلها السياسي وسبيلها الاقتصادي حتى دب الوهن في نظامها الحاكم واشتد بأس جيرانها، وتجرأت عليها دولة قتبان ودولة سبأ. وبدأت قتبان فاقتطعت جانبًا من أراضها، وأجبرتها (كما مر بنا في الفصل السادس) على عقد حلف معها احتفظت لنفسها فيه بالمكانة العليا لا سيما في أيام ملكي معين وقه إيل يثع وولده إيل يثع يشور الثاني. وحاولت قتبان أن تستغل معين في التضييق على دولة سبأ من الشمال، ولكن هذا زاد من حقد سبأ عليها فما لبثت هذه الأخيرة حتى استغلت انشغال قتبان بمشكلاتها الداخلية مع قبائل حمير وانفردت بمعين فدمرت عاصمتها قرناو واستولت على أجزاء متسعة من أراضيها قبيل الربع الثالث من القرن الأول ق. م. بحيث لم يذكرها استرابون في عام 24 ق. م. حينما صحب حملة القائد الروماني آيليوس جاللوس ضد الدولة العربية الجنوبية، مما يعني أنها كانت قد فقدت استقلالها على أيامه. ولكن الانكماش السياسي لم يؤد إلى وقف نشاط المعينيين في مجالات التجارة فظلوا يقومون بدورهم فيها ويجنون مكاسبها تحت طاعة دولة سبأ القوية، وبهذه الصورة كتب عنهم بليني في القرن الميلادي الأول ما نقلناه عنه من قبل، كما كتب عنهم الرحالة الجغرافي بطلميوس في القرن الميلادي الثاني.

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: جواد علي: المرجع السابق، ج2 - مادة معين. خليل نامي: نقوش خربة معين -القاهرة 1952، نقوش خربة براقش- القاهرة 1957. محمد توفيق: آثار معين في جوف اليمن -القاهرة 1951 نقوش خربة معين - الفاهرة 1952. نيلسن وآخرون: المرجع السابق -ص64 - 75، 267 - 273. Philby, op.cit., 42-58. Ryckmans, J,. Institution monarchique en Arabie Meridionale avant I.htm'Islam (Maein et Saba) , Louvain 1951 Winnett, F.V., The Place of the Minaeans in the History of Pre-islamic Arabia, BASOR, 73,1939,-39

الفصل السابع: دولة حضر موت

الفصل السابع: دولة حضرموت شغلت حضرموت منطقة واسعة من جنوب شبه الجزيرة العربية، وجمعت في أرضها الواسعة بين الجبال العالية وبين الوديان العميقة. ويبدو أن واديها الكبير وادي حضرموت كان مجرى مائيًا ضخمًا خلال الدهور المطيرة القديمة، ويمتد جزؤه الخصب نحو 60 ميلًا وتجري فيه بضعه أنهار صغيرة منها نهر ميفع وهو نهر يحتمل أن يكون لاسمه صلة قديمة باسم مدينة ميفعة التي كانت من أقدم العواصم المعروفة لحضرموت. وانتفعت حضرموت بساحل طويل على بحر العرب أو المحيط الهندي قامت عليه ميناء رئيسية أسمتها النصوص القديمة قنأ، وأطلق العبرانيون القدماء عليها اسم كنية، بينما أطلق الإغريق عليها اسم كاني Cane وتقوم على أطلالها بير علي الحالية. ولا يزال المعروف من تاريخ المراحل الأولى لحضرموت قليلًا -ولازال الخلاف بين تقديرات الباحثين لبداية تكوينها السياسي واسعًا، فبينما أخذ فلبي برأي هومل ببداية عصور الملكية فيها بأواخر القرن الحادي عشر ق. م. أرخها ألبرايت بأواخر القرن الخامس ق. م. على أساس أنه بعد أن اختفت شخصية كرب إيل وتر السبأي القوية من الجنوب قامت الملكية في حضرموت وربما بدأت بما يشبه التبعية لدولة معين بحيث حكمهما معًا ملك واحد يدعى صدق إيل. وإذا صح هذا فقد يعني ترابط الجارتين معين وحضرموت في مجالات التجارة وتخالفهما للوقوف في وجه دولة سبأ ذات المطامع الواسعة. وبعد جيلين أو ثلاثة انفرد بحكم حضرموت أمير من أصل معيني يدعى معدكرب أسس بها أسرة حكم مستقلة، مع بقاء العلاقات الودية بين البيتين الحاكمين قائمة بحيث كان الكتبة في كل منهما يسجلون أحيانًا اسم ملك الدولة الثانية إلى جانب اسم ملكهم في النصوص التي تتناول ذكر المنشآت الجديدة والاحتفالات الكبيرة. وامتد هذا الوضع الذي لازال الشك يحيط بتفاصيل فترة صعب تحديد أمدها، ثم غابت

أسماء ملوك حضرموت. وعلل بعض المؤرخين هذه الظاهرة باحتمال خضوع حضرموت مرة أخرى خضوعًا مباشرًا لدولة معين، بينما عللها بعضهم الآخر بخضوعها لدولة أخرى من الدول الجنوبية مثل سبأ، وكان الملك السبئي شعر أوتر قد زوج أخته ملك حلك من الملك الحضرمي العزيلط ثم خاصمه وهاجر عاصمته. وبعد هذه الفجوة ازدهرت الملكية الحضرمية من جديد وبدأها ملك يسمى يدع إيل بيين. ومرة أخرى ليس ما يعرف يقينًا عن الظروف التي بدأ بها ملك ولكن تخلفت بضعة قرائن يمكن الاستفادة منها في تصور هذه الظروف. ومنها أن يدع إيل بيين هذا ذكر في نصوصه أن أباه رب شمس كان من أحرار يهبأر، وذلك مما قد يعني أنه لم يكن من بيت مالك قديم وأنه بلغ العرش بمسعاه الشخصي. وقد يزكي هذا الاستنتاج أن عددًا من رعاياه تفاخروا في نصوصهم بأنهم ساعدوه، دون أن يبينوا نوع هذه المساعدة. وليس من المستبعد أنها كانت مساعدته على بلوغ العرش. وقد بدت العلاقات بين مملكته الجديدة وبين دولة سبأ التي أصبحت أكبر الدول الجنوبية في ذلك الحين علاقات طيبة. وذلك مما يحتمل معه أن سبأ عاونته على إعلان ملكه أو أنها على الأقل رضيت بما قام به في سبيل إعلان ملكه. وزادت منذ عهد يدع إيل بيين شهرة العاصمة الحضرمية شبوة التي ذكرت نصوصه أنه عمرها بعد خرابها وأعاد تشييد حصن ومعبد رئيسي فيها. وتناقل المؤرخون والرحالة الكلاسيكيون اسم هذه العاصمة بمترادفات متقاربة تحرفت بعض الشيء عن اسمها الحقيقي، ومن هذه المترادفات: Sobatha, SabatA. Sabbatha. وتعاقب بعد عهد يدع إيل بييين عدد من ملوك حضرموت، استطاعت دولتهم في فترة ما من القرن الأول الميلادي أن تسيطر على الأجزاء الشرقية من دولة قتبان بعد أن ضعف شأن هذه الدولة الأخيرة. فسيطرت على جزء من وادي بيحان وعثر فيه على ثلاثة نصوص تمجد أسماء ثلاثة ملوك حضرميين كما أسلفنا من قبل (في سياق الفصل السادس). غير أن تدخل حضرموت في شئون الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة جر عليها مشكلات كثيرة من القبائل الحميرية حتى أصبحت الحدود بينهما بين مد وجذر لإحديهما على حساب مصلحة الأخرى. وجرى عليه مشكلات أخرى مع دولة سبأ نتحدث عنها خلال العصر الملكي السبأي. ثم أعقبت ذلك عهود سلام ظهر فيها الملك الحضرمي إيل عزيليط أو إلعزيلط الثاني وأثبت في نص من نصوصه أنه إيل عزيليط ملك حضرموت ابن عم ذخر، وأنه سار إلى حصن أنود ليتلقب (بلقب الملك). وأشار

عدد من أتباعه إلى أنهم صاحبوه في هذه المرحلة. كما سجل رجلان من أشراف حمير أن ملك سبأ وذوريدان ثأران يعوب أوفدهما لحضور حفله. وتنم هذه المصادر مجتمعة عن أن حصن أنود هذا الذي لا زالت بعض أطلاله باقية تشرف على واد ينتهي إلى العاصمة شبوة قد توفرت له ذكريات خاصة في عهود الملكية الحضرمية، وأن حفل التولية كان حفلًا ضخمًا يلائم المناسبة التي أقيم من أجلها وأن العلاقات بين حضرموت وبين دولة سبأ التي دخلت في طور جديد من أطوار الملكية جمعت فيه بين سبأ وحمير، أو سبأ وريدان، قد غدت علاقات طيبة. وورد في نص ملك حضرمي آخر أنه حين احتفل بيوم توليته العرش في حصن أنود ضحى بقرابين كثيرة تضمنت 35 ثورًا و82 كبشًا و25 غزالًا وثمانية فهود؟. ويذهب الظن إلى أن إيل عزيليط الثاني ابن عم ذخر هو الملك الذي ورد ذكره باسم إليازوس Eleazus في مصدرين إغريقيين، عرف أحدهما باسم كتاب الطواف حول البحر الإريتيري، ومن الآراء الحديثة في شأنه ما يحتمل تأليفه في حوال الربع الأول من القرن الثالث الميلادي، وقد وصف فيه إليازوس بأنه ملك بلاد البخور والطيب وأنه أقام في عاصمته Sabatha وامتد سطانه إلى قنأ. وذكر عن هذه الميناء قنأ أنها كانت سوقًا لكل اللادن الذي ينمو في البلاد ويؤتى به إليها على ظهور الجمال وفي الأرماث المحلية المصنوعة من الجلد، وفي القوارب، ولها تجارة أخرى مع مدن الساحل البعيد، ومع بيريجازا وسكيثيا (في وادي السند) وعمانة وفارس المجاورة لها. وفي هذ الوصف ما يشير إلى ثراء حضرموت من تجارتها البرية والبحرية في أيامه. وعبر الحضرميون عن معبودهم الأكبر الذي تخيلوه يهيمن على القمر باسم سين وهو الذي عبر عنه جيرانهم من الجنوبيين بأسماء عم وود، وإلمقه. وإذا كان هناك ما يضاف إلى هذه المقارنة فهو أن اسم سين سبق أن أطلقه الأكديون والبابليون كذلك في العراق على معبودهم الذي تخيلوه معنيًا بالقمر أيضًا، مما يعني أنه كان اسمًا ساميًا قديمًا واسع الانتشار، وربما كانت له صلته أيضًا بتسمية سيناء المصرية وإن وجدت آراء أخرى لتفسير هذه التسمية. وانتشرت معابد سين هذا في العاصمة شبوة وفي الحواضر الحضرمية الكبيرة وعرفت في كل منها بصفة مميزة. وكان منها معبد كشفت عن آثاره بعثة جرترود كيتون طومسون في بلدة حضرمية عرفت قديمًا باسم مذاب وتعرف الآن باسم الحريضة. وكشفت هذه البعثة حول المعبد عن عدد من المقابر القديمة تضمنت إلى جانب جثث أصحابها أعدادًا كثيرة من أدوات الحياة اليومية

كالأواني من الفخار والخزف، والقلائد وما إليها، مما يعنى أن المعبد كان محورًا لعمران واسع من حوله ضم مساكن الأحياء وقبور الموتى. وإذا كانت حضرموت قد أقامت أغلب بنيانها الاقتصادي على امتاد نشاطها إلى منطقة ظفار المنطقة الرئيسية لإنتاج أفضل أنواع اللادن والكندر، ثم تصديرها شرقا وغربا، فهى قد اهتمت كذلك بتنمية ثروتها الزراعية التى كشفت البحوث الحديثة عن عدد من مشروعات الري التى خدمتها، والتى نتجاوز عن التصيل فيها مؤقتا اكتفاء بما ذكرناه عن أمثالها في سبأ وقتبان. واستمرت حضرموت في سبيلها الاقتصادي والسياسي حتى اشتدت المنافسة بينهما وبين صديقتها القديمة سبأ وذوريدان، وتطورت هذه المنافسة إلى حروب عنيفة عملت حضرموت معها على زيادة حصونها وأسوارها لمقاومة السبأيين. وبقيت من هذه الأسوار أطلال سور كبير كان يحمي منطقة ميفعة ولكن الحروب انتهت بانتصار السبأيين في عهد ملكهم شمر يهر عش الثالث في أواخر القرن الثالث الميلادي، وبلغ من أهمية انتصاره عليها أن شجعه على أن يبدأ عهدًا جديدًا للملكية السبأية تلقب فيه هو ومن تلاه من الملوك بلقب ملك سبأ وذوريدان وحضرموت ويمنت. ويذهب رأي حديث إلى اعتبار يمنت هذه أو يمانة تمثل الجزء الجنوبي من حضرموت والمطل على ساحل البحر العربي (أو المحيط الهندي). وربما حاولت حضرموت النهوض بعد ذلك بقليل ولكن الحملات السبأية الحميرية تكررت عليها وأخضعتها لنفوذها المباشر منذ أواسط القرن الميلادي الرابع.

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: Bowen, Albright. and Others, op.cit., 77-81,139-142. Brown, W.L., and Beeston, A.F.L., JRAS, 1954,43-62. Caton Thompson, G.The Tombs and Moon Temple of Hureidha (Hadhramaut) . Oxford, 1944. Philby, op. cit., 77-18. Phillips, op.cit., 431. Pirenne, J., Premiere mission archeologique francaise au Hadramout, C.R. de AIEL, 1975; Deuxieme mission.. ibid, 1976. Stark, R.F., in gJ, 93, 1939, 1-17; JRAs,1939,480-498. Van der Muelen and Wissmann, H, Von, Hadrmaut, Some of its Musteries unveiled, Leiden 1932. جواد علي: المرجع السابق، ج2 - مادة حضرموت. نيلسن وآخرون: المرجع السابق، ص 274 - 279.

الفصل الثامن: دولة أوسان

الفصل الثامن: دولة أوسان ... الفصل الثالث: دولة أوسان شهد جنوب شبه الجزيرة العربية من دولة الصغرى الثرية قصيرة الأجل دولة سميت باسم أوسن أو أوسان، نشأت إلى الجنوب من قتبان وامتدت في عصور مجدها حتى حدود حضرموت. وبقي اسمها حيًا في ألقاب بعض مواطنيها إلى ما بعد ظهور الإسلام. ويبدو أن أوسان لم تكن في بداية أمرها غير منطقة رئيسية من دولة قتبان قرب مدخل البحر الأحمر وأشرفت على جزء من الساحل العربي الجنوبي، ثم انفصلت عنها في ظروف غير معروفة بعد أن جمعت الأحلاف حولها من أقاليم وقبائل مسورا ويافع ولحج ودثينة وأبيان، ووفرت لنفسها وحلفائها كيانًا مستقلًا جنبًا إلى جنب مع قتبان وسبأ. ومضت أوسان تشق طريقها الحضاري مستعينة فيه بنشاطها التجاري الذي انتفعت فيه بخليج عدن، حتى اتسع طموح السبأيين في أواخر عهود المكربين وتحولت أطماعهم إليها، وحينذاك تداولت المناوشات بينهم وبينها، وحالفهم النصر عليها أحيانًا وحالفها النصر عليهم أحيانًا أخرى وذلك مما سمح للملوك الأوسانيين أن يسجلوا أخبار انتصاراتهم في معابد أربابهم، وسمح لهم كذلك بأن يأسروا جماعات من السبأيين ويحتفظوا بهم رهائن في أرضهم. ومالت كفة النصر إلى جانب السبأيين في عهد المكرب الأخير كرب إيل وتر الثاني الذى دلت الشواهد على أنه تمتع إلى جانب مهارته في إرادة دقة الحرب بمهارة أخرى في شئون السياسة، فاستطاع أن يضمن حياد قتبان وحضرموت في حربه ضد أوسان كما ضمن حيادهما في حربه ضد معين على نحو ما سبق ذكره من قبل. وإذا صح أن أوسان كانت قبل استقلالها جزءًا من قتبان كان في ذلك تفسير لرضى هذه الأخيرة بمهاجمة السبأيين لها. وعدم دفاعها عنها، وزاد كرب إيل وتر على ذلك فاستمال حلفاء أوسان وأتباعها للتخلي عنها والانضمام إليه فاستجاب له بعضهم، ومن هؤلاء أمير كان يتولى أمر إقليم

دهس وقبائل يافع، وهو واحد من أكبر أقاليم أوسان وحلفائها. وانحط كرب إيل وتر بجيوشه على أوسان في عهد ملكها مرتوم (أومرتو أو مرتاوا) وادعى فيما روت نصوص انتصاراته التي سجلت بأمره في معبد عاصمته صرواح أنه (أي جيشه) قتل من الأوسانيين آلافًا كثيرة دل على مبالغته بشأنها أن تراوح عددهم في سياق عباراته بين 16 ألفًا وبين ما هو أكثر من العشرين ألفًا، وأنه أسر منهم آلافًا كثيرة تراوح عددهم أيضًا في سياق عباراته بين 40 ألفًا وبين 56 ألفًا، وافتخر بأنه حرر الأسرى السبأيين الذين احتجزهم الأوسانيون من انتصاراتهم القديمة، واستعبد عوضًا عنهم أعضاء مجلس المسود الأوساني أنفسهم وجعلهم رقيقًا للمعبودة السبأية سمهت إمعانًا في إذلالهم. وأمر بمحو وتهشيم النصوص التي كان ملوك أوسان قد تفاخروا فيها بانتصاراتهم القديمة على نصب معابدهم. في عامل حلفاء أوسان بنفس القسوة فدمر جيشه مدنهم وأحرقها. واستعبد هو مدنًا أخرى لصالحه الخاص على نحو ما ذكر في نص له أنه اقتنى كل إقليم كحد بأحراره وعبيده، وتعمد أن يقتطع أجزاء أخرى من جسم الدولة المهزومة ورد بعضها إلى قتبان، كما كافأ حضرموت ببعضها الآخر، جزاء لهما على جيادها في حروبه مع أعدائه، وربما تعويضًا لهما عن سبق اعتداء أوسان على أراضيهما. وانطوت أوسان في ظل الخضوع والنسيان لفترة طويلة. ثم استردت كيانها السياسي في ظروف غير معروفة، واعتلى عرشها من جديد ملوك وطنيون في أواخر القرن الثالث ق. م. فيما يظن فلبي. وباعتبارهم محررين توافرت لهم قداسة واسعة بين رعاياهم دعتهم إلى التقريب إليهم بالهدايا والقرابين ربما ليحتفظوا بها في قصورهم ثم في قبورهم، أو ليضعوها بأسمائهم في معابد دولتهم. وأشهر من احتفظت الآثار بذكراه من هؤلاء الملوك ملك يدعى يصدق إيل فرعم شرح عت. وقد سجل أحد رعاياه على أثر له ما يفيد أنه الفاضل مصدان الذي قدم (الأثر) إلى سيده يصدق إيل فرعم شرح عت ملك أوسان ابن ود. وكان ود فيما أسلفنا اسمًا أو صفة لمعبود تخيله المعينيون من قبل يهيمن على القمر وامتد تقديسه إلى بعض قبائل وإمارات العرب الشماليين أيضًا. وكان في انتساب ملوك أوسان إليه واعتبارهم ولدًا له، كما كان القتبانيون يعتبرون أفسهم ولد عم ضمانًا لإحاطة حكم بالقداسة الدينية بين رعاياهم. ولعلهم تعمدوا اتخاذ ود اسمًا لإلههم مخالفة لتسمية قتبان لإلهها الأكبر باسم عم. وازدهرت وأسان في عصر هذه الملكية الأخيرة وامتد نفوذها من باب المندب على الساحل إلى الأحور، كما امتد في الداخل إلى حدود قتبان.

واشتهرتت من مناطقها الأثرية مسورة ومرخا وتعمان وخلة والسقية وأم ناب، فضلًا عن خليج عدن Arabia Eudaimon. وكان في امتدادها الساحلي الطويل ما سمح له بتجارة واسعة مع شاطئ شرق أفريقيا المواجه لها حتى زنزبار بحيث سمي جزء من هذا الشاطئ حينًا باسم الساحل الأوساني. وانعكست موارد هذه التجارة على ثراء مقابر ملوك أوسان وآثارهم التي نقل بعضها إلى متحف عدن. ومن أهمها بضعة تماثيل من الألباستر مثلت عددًا منهم في هيئاتهم العربية وملابسهم القومية، على الرغم من أن فنانيها قلدوا في نحتها أسلوبًا فنيًا يشبه أسلوب الفن الهيلينستي الذي انتشر في الشرق منذ القرن الثالث ق. م .. وكانت الأسكندرية من مراكزه الرئيسية. وأظهرت بعض هذه التماثيل أصحابها يمدون أيديهم إلى الأمام كما لو كانوا يقدمون بها قرابين وهدايا إلى معبوداتهم. ونوعت بين هيئاتهم فأظهرت بعضهم بشعور قصيرة. وبعضًا آخر بشعور طويلة تنسدل إلى ما تحت الأذنين أو تسترسل على هيئة الجدائل على الكتفين. ومثلتهم حليقي اللحى، وجعلت لبعضهم شوارب خفيفة. وبينما أظهرت بعضهم بثياب طويلة كاسية تزخرفها أيحانًا زركشة لطيفة في وسطها وعند أطرافها وعند دمالج الزراعين، أظهرت بعضًا آخر بنقبة (أو فوطة) طويلة. ولا تبرأ هذه التماثيل من قلة التناسق بين أعضائها. حيث تبدو قاماتها قصيرة أحيانًا إلى حد ملحوظ. وسيقانها غليظة. وأكفها عريضة بالنسبة إلى بقية جسومها. ولكنها على الرغم من ذلك بلغت صناعتها مستوى لابأس به بالنسبة لإمكانات بيئتها. كما أصبحت بتنوع هيئاتها مصدرًا مهمًا للتعرف على سمات أهلها وأزبائهم. وكجزء من مشكلات التاريخ في دول الجنوب العربي. افترض فلبي أن النهاية السياسية لدولة أوسان حدثت في أواخر القرن الثاني ق. م. بينما افترضت جاكلين بيرن بقاءها إلى قبيل ميلاد المسيح. والمرجح على أية حال هو أن أراضيها انطوت بعد ذلك تحت سيطرة حمير ثم دولة سبأ وذوريدان. ودخلت معها تحت إشراف هذه الدولة الأخيرة المناطق التي امتدت تجارتها أو ولايتها إليها على الساحل الأفريقي المواجه لها.

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: Conti Rossini, C., Dalle Rovine di Ausan, Dedalo, 1927 727-754. Hamilton, R., GJ, 101,1943. Philby, op cit.,82-86. جواد علي: المرجع السابق -ج2 - مادة أوسان. نيلسن وآخرون: المرجع السابق -ص82 - 84، 91، 298 - 299.

الفصل التاسع: عودة إلى دولة سبأ في عصر الملكية السبأية

الفصل التاسع: عودة إلى دولة سبأ في عصر الملكية السبأية ... الفصل التاسع: عودة إلى دولة سبأ في عصر المملكة السبأية بدأت عهود الملكية في سبأ باتخاذ كرب إيل وتر الثاني لقب الملك عوضًا عن لقب المكرب، أو إلى جانبه، في حوالي عام 410 ق. م. كما يعتقد أصحاب التاريخ المختصر (ومنهم ألبرايت وفون فيسمان) بعد أن أحرز لدولته توسعًا كبيرًا على حساب جيرانها. ويبدو أن الرجل قد انصرف بعد انتصاراته إلى توطيد الأمن في أرجاء دولته الجديدة الواسعة عن طريق إعادة تعمير المدن المعينية والأوسانية الخاضعة له وإسكان جماعات من السبأيين فيها، وإعادة تحصينها بعد أن اطمأن إلى موالاتها له. ثم عن طريق مواصلة سياسية أسلافه العمرانية والاقتصادية في الاهتمام بمشروعات الري وما إليها. ولما كان الرجل قد ادعى أو اقتنع بأن مبعود دولته الأكبر إلمقه هو الذي أيده في مشروعاته وتخيره ملكًا أو صيره ملكًا كما أسلفنا من قبل، فقد ترتب على هذا أن ازداد شأن إلمقه بازدياد شأن ممثله على الأرض كرب إيل وتر، وزادت معابده في حواضر الدولة كما انتشرت عبادته في البلاد التابعة لها. وزادت الأوقاف المرصودة عليها من أهلها وأتباعها على حد سواء، ومعها ضمنيًا بقية معبودات سبأ الأخرى. وتوسعت سبأ في عصرها الملكي فيما كانت قد بدأت به من نظم في عهود المكربيين كما تقبلت بعض عناصر الحضارة وبعض التسميات التي أخذت بها الدول الجنوبية الأخرى، الصديقة منها والمنافسة والخاضعة في آن واحد. أشرنا في نهاية الفصل الخامس إلى نظرية جديدة تفترض أن بعض النصوص السبأية أخذت تؤرخ أحداثها منذ عهود أواخر المكربين بنيابة عظيم ذي صفة دينية يتلقب بلقب رشو ويجمع إلى كهانته للمعبود عثتر شيئًا من الإشراف على شئون الري والزراعة. ويرى صاحب هذه النظرية أن النيابة قد انتظم أمرها في عهود الملكية وأصبحت تحتسب لكبار أفراد ثلاث أسر كبيرة وهي أسرة حزفر

كبير خليل. وأسرة حذمة. وأسرة فضحم. وكان هؤلاء يتعاقبون ولدًا عن والد بعد كل دورة ثلاثية من الأسر الثلاث. وتستمر نيابة كل منهم ست سنوات أو سبعًا، باستثناء مرة واحدة استمرت لتسع سنوات. وتلقب الولاة بلقب كبر (وهو لقب كان له ما يشبهه في معين وقتبان). وتسمى مجلسهم باسم مشد (وهو مسد أو مسود في معين وقتبان أيضًا). وتلقب ولاة سبأيون آخرون بلقب قين وإذا زادت منزلة أحدهم لقب بلقب أكبر أقيم أو أكبر أقين بمعنى أكبر الأقيان أو الأقيال. وإلى جانب لقب مود بمعنى صديق أو نديم (للملك في البلاط السبأي - ظهر أيضًا لقب حرج ويبدو أنه كان يخص المشرف على المنشآت الحكومية. ويمكن أن يرد إلى العصر الملكي في سبأ إنشاء بعض العناصر المعمارية الراقية في معبد أوام إلى الجنوب الشرقي من مأرب والذي أشرنا من قبل إلى بداية إنشائه في عهود المكربين. وهو معبد ذو محيط بيضاوي امتد قطره الطويل نحو مائة متر وامتد قطره القصير ما بين 71 إلى 75متر. وبلغ الارتفاع الحالي. لبعض جدرانه الباقية نحو تسعة أمتار. وبلغ سمك بعض أجزاء جداره الخلفي نحو أربعة أمتار وإن امتلأ داخله بالرديم وكسر الأحجار. ولم يتميز هذا البناء بضخامته فقط وإنما تميز كذلك بفخامته، ولهذا فما من بأس في استعراض بعض أجزائه كنموذج لفن العمارة السبأية في أيامه. تقدمت هذا المعبد صفة أو سقيفة يحمل سقفها صف من ثمانية أعمدة حجرية، كل منها حجر واحد قائم يبلغ ارتفاعه نحو 7.65. ويتلوها مدخل ذو صرحين مرتفعين يؤدي إلى بهو ضخم حفت بصفاته الداخلية وحملت سقوفها أعمدة حجرية كبيرة بقيت بعض أجزائها، وكانت تبلغ 32 عمودًا. وشكلت في الجدران الداخلية لهذا البهو 64 نافذة حجرية وهمية متتابعة قلد بناؤها في أحجارها هيئة النوافذ الخشبية الشبكية في إتقان بارع. ويفترض مكتشفوا المعبد أن واجهة المدخل المؤدي إلى هذا البهو وأخشاب بابه بل وأرضيته ودرجات سلمه الرئيسي كانت مكسوة في بعض مواضعها بصفائح عريضة من البرونز تعبيرًا عن الثراء. ويعتقد أحدهم (جام) أن الدرج المؤدي إليه كانت تتوسطه نافورة تصب ماءها في حوض برونزي كبير يواجه المدخل. بينما يفترض غيره (ألبرايت) وجود خزان ماء فوق صرحي المدخل كان يملأ من بئر في داخل المعبد، ثم تجري مياهه في مجار تمر خلال أرضية المعبد لتصب في الحوض البرونزي الكبير ثم يعاد توزيعها مرة أخرى في

الأغراض التي خصصت من أجلها. وعثر في المعبد وعلى جوانب مدخل البهو خاصة على عدد كبير من النصب الحجرية المنقوشة وعدد كبير آخر من التماثيل البرونزية الصغيرة والكبيرة مثلت أصحابها الأثرياء. ونقشت على هذه وتلك عبارات التعبد والإهداء إلى إلمقه صاحب معبد أوام. وقلدت بعض النماذج الطبية منها أساليب الفن الفينيقي والفن الهيلينستي. وما من شك في أن الصورة الإجمالية التي صورها مكتشفو مدخل هذا المعبد. والتي قدمنا جزءًا منها. تدل على ما كانت عليه بقيته التي لم تكتشف حتى الآن من روعة وفخامة. وتدل بالتالي على ثراء العهود التي بني فيها وهي عهود أسلفنا أن أقدمها يرجع إلى عهود المكربين وأن أوسطها يرجع إلى العصر الملكي السبأي منذ بداية القرن الرابع ق. م. بينما يرجع أحدثها إلى القرن الأول الميلادي. وتخرب المعبد في أواخر العصور السبأية وقام مصنع في صفته الغربية. كما استخدم سورًا لمنطقته حين قل سكانها بعد أن تخرب سد مأرب. وتناثرت حوله المقابر والمساكن، ثم تحول إلى حصن في العصور الإسلامية. وتوفر لبقية معابد سبأ ما توفر في غيرها من طقوس وثروات وممتلكات بما يتناسب مع قدرات منشئها ومدى أهمية المناطق التي نشأت فيها. وانتفع أغلبها باعتقاد أتباعها في التنبؤات (وهي رجم بالغيب) عن طريق وسطاء من الكهنة. وهو ما كانوا يسمونه باسم مسأل وإلى جانب ما تتلقاه هذه المعابد من النذور والقرابين والأضاحي من الدولة. كان بعض أثرياء مريديها يسجلون على أنفسهم حججًا أو أوقافًا مع الكهنة يلتزمون فيها بأداء قرابين معينة ويتوقعون. أو يتوقع لهم الكهنة بمعنى أصح، سوء المصير أن هم تخلفوا عن أدائها. وتقبلت سبأ من عقائد جيرانها في عصرها الملكي تسمية ذسموي أو ذوسماوي بمعنى سيد السماء. وقد ورد اسمه أصلًا ضمن نصوص عشيرة معينية قديمة خضعت للسبأيين وهي عشيرة الحنكانيين الذين نسبت إليهم مدينة حنان. وعلى الرغم من أنهم أدخلوا ذسموي هذا ضمن عقائد التعدد الفاشية بينهم إلا أن من الباحثين من يرى فيه تطورًا في تفكيرهم. وذلك على اعتبار أنه إلى جانب اعتقادهم بوجود معبود لكل كوكب كبير في السماء. جعلوا من ذسموي هذا معبودًا للسماء كلها كوحدة واحدة. وإذا كانت هذه بعض نواحي الازدهار العمراني والإداري في سبأ في عصرها الملكي. فقد مرت في أواخر هذا العصر بمشكلات خارجية وداخلية عدة

كان عليها أن تواجهها بما يناسبها. وترتبت أهم المشكلات الخارجية على رغبة قادة الإغريق وتجارهم في مشاركة العرب في الانتفاع بتجارة البخور والتوابل عن طريق البحر الأحمر وما يتصل به من تجارة المحيط الهندي أو احتكارها وحرمانهم منها. وأطلت هذه الرغبة برأسها منذ عهد الاسكندر الأكبر المقدوني الذى تطلع بعد أن دانت له دولة بابل حتى الخليج العربي. إلى السيطرة على تجارة تجار العرب واحتكار تجارة الهند. فأرسل في عامه الأخير ثلاثة بعثات بحرية كبيرة تجوب البحار وتتعرف على مواطن العضف ومواطن الاستغلال في السواحل التى تحيط بشبه الجزيرة العربية. وبدأت هذه البعثات الملاحية رحلتها من الخليج العربي, ولكنها لم تتقدم كثيرًا إذ بلغت أكثرها نجاحًا (بقيادة Hieron) رأس الخيمة Maket. وقيل: إن الأسكندر أمر كذلك بخروج بعثة بحرية من مصر عن طريق البحر الأحمر. ولكنها تعثرت هي الأخرى وربما بلغت باب المندب أو لم تبلغه. وعندما تقاسم قادة الاسكندر المقدوني حكم أقطار الشرق القديم بعد وفاته، وحينما استقر البطالمة في مصر في أواخر القرن الرابع ق. م. كان من سياستهم أن يستغلوا السواحل الطويلة المطلة على البحر الأحمر إلى أقصى الحدود. وأن يحققوا آمال الاسكندر لمصلحتهم بخطوات متئدة عملية لم يكن تأثر عرب الجنوب بنتائجها محسوسًا على درجة واحدة دائمًا. ويمكن إيجاز مراحلها الأولى فيما يلي: أ) أرسل أحد البطالمة الأوائل ولعله بطلميوس الأول أو الثاني قائدًا من قادة البحر يدعى Ariston في بعثة بحرية استطلاعية ليتعرف على سواحل بلاد العرب وطبيعة الملاحة في بحارها. فطاف بجزء كبير منها. ولما عاد إلى الأسكندرية قدم إلى دولته تقريرًا مفصلًا عما شاهده ولاحظه في رحلته من الموانئ الشمالية والجنوبية. ب) جددت في عصر البطالمة بعض الموانئ المصرية المطلة على البحر الأحمر وأنشئ بعض آخر. حتى تستعد لاستقبال المزيد من متاجر هذا البحر وتصديرها. (ومنها ميناء أرسينوى في نهاية خليج السويس، وميناء ميوس هرميس قرب ميناء القصير الحالية، وميناء برينيكي إلى الشرق من أسوان). ج) العمل على تأمين السيطرة على خليج العقبة باعتباره مخرج تجارة البحر الأحمر المتجهة (برًا) إلى جنوب بلاد الشام. د) زيادة الأساطيل البطلمية المقاتلة في البحر الأحمر لتأمين السفن والمصالح

التجارية فيه. وتشجيع الوسطاء على التعامل معها. وصرفهم عن الاعتماد على نقل المتاجر بالطرق البرية التي أشرف عليها العرب الشماليون والجنوبيون في شبه الجزيرة. هـ) تشجيع الجاليات الإغريقية التجارية على استيطان موانئ البحر الأحمر وجزره .. وقد تحدث عنها وعن بعض المواطن التي نزلت بها على الشاطئ العربي الرحالة Agatharchides في منتصف القرن الثاني ق. م. ووصلت بعض هذه الجاليات حتى جزيرة سوقطرى في البحر العربي، وشاركوا العرب والهنود في سكناها. كما شاركوهم في نقل تجارة الهند وسواحل شرق أفريقيا. وأدت هذه الخطوات المتتابعة إلى نتيجتين مختلفتين على المدى البعيد بالنسبة لدول شبه الجزيرة العربية. فانتفع بها أهل السواحل وازدهرت تجارة موانيهم الجنوبية والجنوبية الغربية. مثل ميناء قنأ في حضر موت. وميناء عدن. وميناء موزا، في المنطقة التي تقاسمتها كل من قتبان وأوسان وحمير (ثم ورثتها سبأ). بينما تأثرت بعض الشيء اقتصاديات الدول العربية الداخلية التى اعتمدت على استغلال قوافل الطرق البرية ولاسيما الطريق الرئيسي الممتد من جنوب شبه الجزيرة عبر الحجاز حتى العقبة وما ورائها في سيناء أو في جنوب الشام. وإن ظل تأثرها حتى المرحلة التي وقفنا عندها. محدودًا. وكان من أكثر المستغلين لنتائج هذه التطورات قبائل حمير التي أطلت على سواحل البحر الأحمر الجنوبية الغربية. واستفادت من نشاط التجارة البحرية في موانيها لاسيما عدن وموزا (موشج) وميناء أخرى ذكرها رحالة الإغريق باسم أوكيليس. ويبدو أن حمير كانت تمثل الفئة الحاكمة لحلف قبلي تداخل مع بعضه بدوافع المصلحة المشتركة ورابطة الدم والموقع. وقد صورتها المصادر العربية تنقسم إلى قبائل صغيرة تعيش حول لحج بناحية ظفار ورداع (أي تجاور أوسان) وتمتد شرقًا في سرو ونجد حمير. قد أسلفنا أن هذه القبائل اعترفت بسيادة دولة قتبان منذ القران الرابع ق. م بحيث أطلقت بعض النصوص على أهلها لقب "ولد عم" مثل القتبانيين، وبحيث أصبح حصنهم الرئيسي يسمى "ريدان" تقليدًا لاسم حصن ريدان القتباني. ولكن الأمور تطورت إلى مصلحة حمير بعد ازدياد النشاط البحري على سواحلها، فأخذت تعمل لصالحها. ونشأت ظاهرة جديرة بالاعتبار ربط بعض الباحثين بينها وبين نهضة

حمير. وهي أن المصادر العربية القديمة لم تنسب أحداثها إلى تاريخ ثابت (كالتاريخ الميلادي أو التاريخ الهجري الحاليين) إلا في نحو سبعة نصوص متباعدة عرفت حتى الآن. وأدت الدراسات المقارنة إلى تعيين عام البداية للتاريخ الثابت الذي ردت هذه النصوص السبعة أحداثها إليه بعام 115 ق. م (أو عام 109 ق. م). ولكن تعددت النظريات في تعيين المناسبة الهامة التي ارتبطت بها هذه البداية، ومالت أحدث هذه النظريات إلى ربطها باتحاد حمير في كيان واحد، وحلت بذلك محل نظرية أخرى سبقتها كانت تربط بينها وبين نشأة مملكة سبأ وذوريدان، الأمر الذي دعا إلى إعادة ترتيب أحداث الجنوب على أساس جديد وهو ما سوف نأخذ به فيما يلي. وقد مر بنا كيف اتجهت حمير بقبائلها المتحدة إلى الانقلاب على دولة قتبان واستقلت عنها في القرن الأول ق. م وكانت سببًا في إضعافها، وكيف دخلت في بعض الحروب ضد دولة حضر موت، ثم أخذت تتحين الفرص لإثبات كيانها إزاء جارتها العجوز مملكة سبأ. وكانت سبأ تشق طريقها في جهد، وعانت بعض الوقت من تضييق جارتيها قتبان ومعين، ولكنها قاومت وبدأت بمعين فقضت على استقلالها كما أسلفنا، وأسكنت مجموعات من السبأيين في بعض مدنها، ولكنها لم تنتفع طويلًا بنصرها، إذ هددها خطر خارجي ربما لم تكن تحسب حسابه. ونعود إلى العوامل الخارجية أو المنافسات الخارجية لنجد أن خطوتها الفاصلة بدأت منذ امتد اهتمام البطالمة الأواخر من رغبة الإشراف على البحر الأحمر وتجارته إلى رغبة الإشراف على تجارة المحيط الهندي الذي كانوا يعلمون أن كثيرًا مما يأتيهم به التجار العرب من متاجر إنما يأتي عن طريقهم من الهند، فودوا أن يوجهوا سفنهم إليها دون وساطة. وسجل المؤرخون خبر واحدة من أولى الرحلات التي نجحت في تحقيق هذه الرغبة، وقد ترأسها ملاح يدعى بودوكسوس الكيزيكي Eudoxus of Cyzicus وبلغ بها الهند حوالي عام 117ق. م. وتعددت بعدها رحلات بحارة الإغريق والبطالمة وساعد على نجاحها اهتداء اليوناني هيبالوس Hipalus إلى إمكان استخدام الرياح الموسمية الجنوبية الغربية خلال الصيف (من يونيو إلى أكتوبر) في تقصير أمد الرحلة من البحر الأحمر إلى سواحل الهند في عرض المحيط مباشرة دون ضرورة إلى التزام خطوط سواحله الطويلة. وأعقب البطالمة منافس أشد خطرًا منهم وتمثل في النفوذ الروماني في عهد الإمبراطور أوجسطوس (أو كتافيوس) الذي أصبح يسيطر على أغلب مناطق العالم

القديم دون منازع منذ أواخر القرن الأول ق. م ولم يكتف أوجسطوس بالنشاط العادي الذي يقوم به أعوانه من الإغريق والرومان في تجارة الهند والبحر الأحمر. وأراد أن يقصي العرب عن هذه التجارة جملة أو يجعلهم يعملون لصالحه فيها. أو يسيطر على أرضهم بجيوشه. وكانت الصورة البراقة المسرفة التي أشاعها الرحالة والمؤرخون الإغريق والرومان في عالمهم الغربي عن ثراء بلاد العرب مما شجع على هذه الرغبة فقد كتب الرحالة الجغرافي استرابون ما يقول إن السبأيين والجرهائيين في عصره كانوا من أكثر القبائل ثراء نتيجة لتجارتهم في المواد العطرية، ولهذا توفرت لديهم كميات كبيرة من مصنوعات الذهب والفضة كالأسرة والموائد الصغيرة والأواني والكئوس. فضلًا عن قصورهم الرائعة التي كانت أبوابها وجدرانها وسقوفها مختلفة الألوان. يرصعون بعضها بالعاج والفضة والأحجار الكريمة ... إلخ. وليس من ضرورة بطبيعة الحال إلى تصديق هذا التصوير بحذافيره، ولكنه كان كافيًا لإثارة أطماع ساسة الرومان الطموحين إلى السيطرة والاستغلال. ولم يعدم أولئك الساسة والتجار تقديم المبررات لأطماعهم، وصور استرابون بعضها فادعى أن أهل العربية السعيدة كانوا يحصلون على أرباح باهظة من تجارتهم مع الأعراب والرومان فلا يتركون لهم ولا للبلاد التي ينقلون تجارتهم إليها مجالًا للكسب أو الثراء. وهكذا صدر أمر الإمبراطور أوجسطوس إلى نائبه الروماني على مصر آيليوس جاللوس ( Aelrus Gallus) بمهمة إرهاب العرب أو احتلال أرضهم. فترأس جيشًا كثيفًا وانضم إليه عدد كبير من اليهود ومن الأنباط حلفاء الرومان. وخرج الجيش في عام 24 ق. م على متن أسطول كبير (قيل إنه تألف من 130 سفينة) من خليج السويس واتجه في البحر الأحمر حتى Leuke Kome ولعلها هي ميناء الحوراء أو أملج الحالية التي استغلها قوم مدين في عصورهم القديمة ثم خضعت لنفوذ الأنباط. وسلكت جيوش جاللوس بعدها سبيل البر خلال ساحل الحجاز وتهامة اليمن وخربت في طريقها مدنًا كبيرة. وعندما وصلت إلى الجنوب بدأتب بتخريب مدن دولة معين القديمة التي أصبحت سبأ مسئولة عنها، وروى استرابون أن ملك نجران فر حين اقتراب قوات الرومان، وفتحت يثل أبوابها ودمر الغزاة مدن نشق ونشان وكمنة ولية وحريب وحاصروا مأرب. ولكن حملتهم باءت في نهاية أمرها بالفشل ولم تتعد مأرب، وفقدت كثيرًا من سفنها ومن رجالها. وكان قد صحبها رجلان اهتم التاريخ بهما، استرابون الجغرافي الرحالة الذي روى

أحداثها (من وجهة نظره) وكان صديقًا شخصيًا للقائد جاللوس، ثم رجل آخر اختلف الحكم عليه، وهو رجل من الأنباط ترأس قومه الذين رافقوا الحملة واعتبره الرومان دليلًا لهم على أساس خبرته بالطرق البرية في شبه الجزيرة وخبرته بطرق العرب في القتال، وقد ذكره استرابون باسم سلياؤوس وهو اسم قد يكون محرفًا عن اسم صالح أو سلي أو سلاء (يراجع عنه بعده). ورجعت أسباب فشل حملة جاللوس إلى عدة عوامل ذكر استرابون بعضها، ومنها عدم كفاية جاللوس في قيادة البحر وتنظيم الأسطول بحيث فقد كثيرًا من سفنه قبل أن يصل بها إلى ميناء الحوراء، وإنفاقه أغلب جهده في إعداد سفن مقاتلةلم تكن لها ضرورة ملحة في حملته لأنه لم يكن من المنتظر أن يقاتله العرب في البحر. ولعله عدل لهذا إلى طريق البر وسار بجيشه في طرق صحراوية وجبلية طويلة وعرة تمتد نحو 1200 ميل من الحوراء أو أملج إلى داخل اليمن، وكان يستطيع أن يتابع طريقه في البحر ما دام قد بدأه حتى ساحل اليمن، وقلة الماء خلال حصار مأرب، وتفشى الجوع والأوبئة حولها، فضلًا عن عدم إخلاص الدليل النبطي في النصيحة للرومان. وإذا زدنا شيئًا على تحليل استرابون فهو وضع مقاومة العرب لجيوش الرومان موضع الاعتبار في عدة معارك كانت إحداها عند نهر ذكره استرابون وقد يكون هو غيل خارد، وشدة تحصن السبأيين في عاصمتهم مأرب ومقاومتهم للحصار الروماني. وأخيرًا تفسير عدم إخلاص الدليل النبطي للرومان برغبته في الوفاء لبني عمومته العرب مما خيب آمال السادة الرومان. ويبدو أن تجار الرومان قد وجدوا سبيلهم بعد ذلك إلى موانئ بلاد العرب الجنوبية عن طرق أخرى غير طرق الحرب، فتحالفوا كما يفهم من بعض الروايات المتأخرة مع أمير ظفار الحميري على أن يقدم لهم بعض الامتيازات الإقليمية، وربما نجحوا في أن يتركوا بميناء عدن جالية أو حامية رومانية تساعد سفنهم ضد أخطار القرصنة في البحر وتشرف على مصالحهم التجارية. واستردت دولة سبأ كيانها بعد فشل الحملة الرومانية، وانفسح السبيل أمامها في الداخل بعد أن انكمش نشاط دولة قتبان وخسرت كيانها السياسي شيئًا فشيئًا تحت تأثير ضربات السبأيين والحضرميين والحميريين خلال القرن الأول الميلادي وبعده بقليل، كما مر بنا من قبل. ولكن سبأ لم تنتفع بهدوئها طويلًا، وأخذت المشكلات الحدودية والداخلية تعمل عملها السيئ فيها، الأمر الذي قلل من هيبتها أمام القوتين الباقيتين في

ميدان المنافسة أمامها في جنوب شبه الجزيرة وهما قوة حمير وقوة حضر موت، ثم مهد لعصر جديد من عصورها المتميزة وهو عصر ملوك سبأ وذوريدان موضوع البحث التالي. * * * * * من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: Bowen, Albright and Others, op. cit Jamme, A., Sabcan lnscriptions from Mahram Biliqis Baltimore, 1961 philby,op. cit., 64-76 Phillips, op. cit., 279f Ryckmans, j., op. cit جواد علي: المرجع السابق، مادة ملكية سبأ. نيلسن وآخرون: المرجع السابق، ص 87 - 88، 291 - 293.

الفصل العاشر: دولة سبأ وذوربدان-وسيطرة حمير

الفصل العاشر: دولة سبأ وذوربدان-وسيطرة حمير ... الفصل العاشر: دولة سبأ وذو ريدان وسيطرة حمير اختلفت نشأة هذه الدولة عن نشأة غيرها من الدول في أنهالم تبدأ ببداية زاهرة، وإنما قامت خلال ظروف مضطربة استمرت أكثر من قرن ونصف القرن بين عام 90م وعام 265م، وهي ظروف لازالت تفاصيلها خافية ونصوصها متضاربة. وكانت قد ظهرت بين القبائل العربية الجنوبية والوسطى خلال القرن الأول الميلادي روح من التنافس الشديد ورغبة الانتشار وأطماع الرياسة والسيادة، لأسباب غير محددة، قد تكون منها تلك المحنة التي هزت كيان دولة سبأ خلال الحملة الرومانية عليها، ورؤية دول الجنوب تنهار واحدة بعد واحدة لسبب أو لآخر، وزيادة ثراء بعض المناطق مع افتقار مناطق أخرى نتيجة للمنافسة بين التجارة البحرية والتجارة البرية. وقد يكون منها كذلك ما جد من انتشار الخيول والقوات الراكبة بين رجال القبائل وما أدى إليه هذا من سرعة الحركة والكر والفر والشعور بالزهو، وهلم جرا. وكانت أكثر القبائل السبأية شهرة خارج مأرب هي قبائل مرئد وجرت التي ارتبطت بأسرة ملوك سبأ بروابط الأصل والنسب. ولهذا ظلت صلات المودة غالبة بينها وبينهم، ولكن هذا لم يمنع بعض حكامها الكبار الذين كانوا يتلقبون من قبل بألقاب الأقيان أو الأقيال من أن يتلقبوا بلقب "ملك" بين حين وآخر، بل ولقب ملك سبأ أيضًا، الأمر الذي تقبله الملك السبأي الشرعي في مأرب، في بعض الحالات، على مضض حتى يبقوا مساندين له. وفي الوقت نفسه ظلت أكثر القبائل القريبة من مأرب، عددًا وبأسًا، هي قبائل سمعي التي ضمت أثلاث: سخيم، وبتع، وهمدان (والأخيرة هي التي انتسب إليها فيما بعد الرحالة أبو محمد الحسن الهمداني أشهر من كتب في العصور الإسلامية عن جغرافية شبه الجزيرة العربية وتاريخها).

وكيفت هذه القبائل مسلكها إزاء سبأ بما يتفق مع مصالحها والظروف التي عاشت فيها. فظل موالية للدولة في عهود قوتها، واستمرت كذلك حتى رأت الأطماع تحيط بها، فبدأت تتحين الفرصة لإثبات كيانها الذاتي تحت زعامة بيت حكم كبير فيها انتسب إلى جد أكبر يدعى" أعين". وجد أصغر يدعى أوسلات رفشان. وفي حمأة هذه الأطماع والملابسات الداخلية التي مهددت لتمزق الكيان السبأي، كانت قبائل حمير قد شقت طريقها حتى حدود سبأ، واتخذت عاصمتها في مدينة ظفار التي نشأت في منطقة خصبة قرب مدينة يريم الحالية، وحمتها عدة حصون قامت على التلال التي تحيط بها، وكان حصن ريدان أكبرها، فأصبح حصنها الملكي، وانتسب إليه ملوكها في لقبهم الذي اشتهروا به وهو ذوريدان. وفجأة ظهر في نصوص هذا العصر المضطرب ما يدل على أنه قامت في كل من مأرب وظفار أسرة حاكمة ادعى ملوكها لأنفسهم لقب ملك سبأ وذوريدان كل على حدة. وفي تفسير هذه الظاهرة افترض الباحث فون فيسمان أن مأرب عاصمة سبأ تعرضت لهجوم من قبل ملك ريدان الحميرى في نهاية القرن الميلادى الأول، وحينما انتصر عليها أضاف اسمها إلى لقبه، ولكن تقديره لمكانة سبأ التاريخية والدينية جعله يقدم اسمها في مقدمة هذا اللقب، وإن لم يطل حكمه. وعز على القبائل المحيطة بمأرب ما صارت إليه فعملوا على إجلاء الملك الحميري عنها وأعادوا إليها الملك السبأي المنهزم أو رجلًا من أسرته اتخذ هو الآخر لقب ملك سبأ وذوريدان في الوقت الذي لم يتنازل فيه الملك الحميري في ظفار عن لقبه المزدوج. ومع التجاوز عن الأسماء العديدة التي أتت النصوص بها، مراعاة للتخفيف مؤقتًا، تكفي الإشارة إلى أنه كان من أصحاب الفضل في إعادة الملكية الشرعية إلى مأرب زعيم قبائل بتع، وزعيمان لقبيلتي مرئد وجرت، وقد عمل كل منهم من ناحيته، ولم يكن عمله بغير ثمن، فقد تلقب كل من الثلاثة بمثل لقب ملك مأرب العائد، أي ملك سبأ. وعمل الهمدانيون على أن يكون لهم بدورهم نصيب في ألقاب العصر وزعامته. وكان قد ترأسهم بعد أوسلات رفشان ولداه يرم أيمن وبارج يهرحب، وقد مثلا ملك سبأ في عقد صلح أنهى حروبًا متقطعة قامت بينه وبين دولة حضر موت والحميريين والقتبانيين (الذين كانت دولتهم تلفظ أنفاسها الأخيرة). وكان الجزاء على عقد الصلح أن تلقب أكبر الأخوين يرم أيمن بلقب

ملك وأورثه لولده. وهكذا شهد العصر (في منتصف القرن الثاني الميلادي) أربع أسر إقليمية أو قبلية ادعى كل رئيس فيها لقب ملك سبأ. وذلك إلى جانب ملك مأرب الشرعي صاحب لقب ملك سبأ وذوريدان في دولة كانت تسيطر عليها من قبل مملكة واحدة. وإلى جانب هؤلاء الملوك الخمسة كانت هناك ملكية حمير التي تمسكت هي الأخرى بلقب ملك سبأ وذوريدان وحاولت أن تحققه على حساب هذه الأطراف جميعًا. وهنا تصدى زعيم همدان علهان نهفان الذي شارك أباه يرم أيمن في رئاسة قومه وفي لقب الملك، لمواجهة الأزمة، وتلمس الحلفاء حوله، ووجد بعضهم في خصوم الأمس، فتحالف مع دولة حضرموت، ومع جماعات حبشية ذكرتها النصوص تحت زعامة جدرت ملك حبشت أو جدورة ملك الحبشة أو الحبش. واختلفت آراء الباحثين في تحديد أصل هذه الجماعات. فذهب رأي إلى اعتبارهم فرعًا من سكان جنوب اليمن أو تهامة الأصيلين نزح بعضهم إلى الساحل الأفريقي المواجه لهم وكان لهم أثر في تكوين جماعات الجعزيين الأحرار الذين نشروا اللغة السامية في الحبشة، وقد عرفوا عند العرب حينذاك بتسمية الحبش على جانبي البحر الأحمر. وذهب رأي ثان إلى اعتبارهم مولدين من مهاجرين أحباش إلى سواحل تهامة تكاثروا عليها ثم عملوا لمصلحتهم في فترات التمزق الداخلي بالانحياز إلى فريق ضد فريق. وذهب رأي ثالث إلى اعتبارهم غزاة من الحبشة استغلوا فترات التفكك التي عمت المناطق اليمنية فاحتلوا مناطق ساحلية واسعة من شمال جيزان وعسير وجزء من ساحل الحجاز، ردًا على التوغل الاقتصادي والبشري العربي على الساحل الأفريقي، وللسيطرة الكاملة على التجارة الأفريقية المنقولة بالوساطة إلى الساحل العربي بعد أن فشلت الحملة الرومانية في السيطرة عليها. وأيا ما كان من هذه التفسيرات فإنها لا تخفى حقيقة واقعة وهي أن تمزق أهل الدولة الواحدة وتضارب مطامع زعمائها وتغليب المصالح القبلية أو الإقليمية فيها على حساب الصالح العام، كل ذلك كان سبيلًا إلى تدخل الأغراب في أمورها. وجدير بالذكر أن النصوص الجنوبية أخذت تشير في هذه الفترة إلى دور الأعراب أهل البادية باسم أعرب وإلى انضمامهم إلى هذا الفريق أو ذاك. ويبدو أنه أصح لهم دور كبير في فرق الخيالة أو الفرق الراكبة في الحروب.

ولم يتحقق أمل علهان نهفان في إعادة هيبة دولة سبأ وريدان. إلا في عهد ولده شعر أو تر الذي أضاف إلى هذا الأمل هدفًا آخر وهو تحرير الأراضي التي سيطر الحبش عليها ولو استدعى الأمر أن يقاتل معهم من كانوا يحالفونهم من القبائل العربية الأصلية. وقد نجح في تنفيذ أغلب هدفيه وبسط سلطانه على أغلب اليمن وشماله، في أواخر القرن الثاني الميلادي. ولكن نجاح شعر أوتر كان رهينًا بشخصه، وبعد وفاته عادت الحروب بين السبأيين وبين الحميريين لسنوات طويلة. وتحالف الحميريون فيها مع الأحباش أو الأكسوميين الأفريقيين في عهد ملكهم عذبه أو عذابًا. ويبدو أن هؤلاء الأحباش خططوا للعمل لمصالحهم الخاصة ووجدوا عونًا أو تحريضًا من الرومان الذين تلاقت مصالحهم معهم في استغلال تجارة البحر الأحمر وتقليل نصيب العرب منها. ولم ينفذ الجنوب منهم إلا وفاة عذبه الأكسومي أو الحبشي وقيام الاضطرابات في بلده بعد وفاته. تلك كانت مجرد نماذج من فترات التشتت والصراع والمد والجذر التي شهدتها دولة سبأ وجيرانها، وقد تكررت أمثالها وتغيرت مواقع الأطراف فيها بين تحالف وتخاصم عدة مرات خلال القرون الثلاثة الميلادية الأولى. والغريب أنه على الرغم من ذلك كله، وعلى الرغم من منافسة ظفار الحميرية لمأرب السبأية في شئون التجارة والسياسة، ومنافسة ذمار (قرب صنعاء) لمأرب أيضًا في شئون العمران-ظلت أوجه النشاط الإنتاجي والتجاري قائمة إلى حد ما. وظلت تثير اهتمام المؤرخين والرحالة الكلاسيكيين المعاصرين لها. ففي أوائل هذا العصر المضطرب تمت إعادة بناء الهويس الشمالي من سد مأرب (في الفترة بين عامي 100 - 120) بعد انهياره الأول المعروف. وإلى هذه الفترة نسب الأخباريون العرب تشييد قصر عمدان الذي أسرفوا في وصفه وتمجيد صاحبه إيل شرح يحضب ملك مرئد- وقد احترق القصر، ثم تم تدميره في بداية العصور الإسلامية وأصبح تلًا خربًا. ونسب إلى عهد هذا الملك في نهاية القرن الميلادي الثاني إرسال بعثة إلى ملوك غسان والإزدونزار ومذحج وهي من أقدم المرات التي ذكرت فيها أسماء هذه القبائل. وفي أوائل هذا العصر أيضًا، خلال القرن الأول الميلادي، ذكر الرحالة بليني في كتابه عن التاريخ الطبيعي أمرين متقابلين، ذكر في أولهما أن السفن التابعة للرومان كانت تخرج من برينيكي (قرب أسوان في مصر على البحر الأحمر) إلى ميناء أوكيليس على مضيق باب المندب، أو إلى قنأ في منطقة الكندر

دون توقف، ومن هناك إلى الهند رأسًا ودون وساطة العرب، ولكنه أصناف إلى ذلك أمرًا آخر وهو أن العرب ظلوا من أغنى الأمم لتدفق الثروة من روما وبارثيا إليهم وتكدسها بين أيديهم. فهم يبيعون ما يحصلون عليه من (تجارة) البحر ومن (إنتاج) غاباتهم ولا يشترون شيئًا في مقابله. وذكر أن السبأيين كانوا أعظم القبائل ثراء بما تنتجه غاباتهم من البخور، وما يملكونه من مناجم الذهب، وما يوجد عندهم من الأراضي الزراعية. وما ينتجونه من الحبوب والكروم والعسل .... إلخ. وفي تصويره لمدى استهلاك العالم الخارجي لمنتجات جنوب شبه الجزيرة، روى بليني أن جنازة poppaea في روما قد استنفذت ما يساوي الإنتاج السنوي للعربية السعيدة. وروى أنه ترتب على ازدياد استهلاك البخور والصموغ في أيامه، أن أصبح الصمغ يجمع مرتين في العام دون أن يترك التجار الوقت الكافي لسيقانه لكي تنضج. وهكذا يبدو أن تجار الإغريق والرومان وإن سيطروا على أغلب تجارة الهند في المحيط الهندي والبحر الأحمر. فقد ظل العرب ينتفعون ببيعها ويقومون بنقل منتجاتهم الخاصة من البخور والصموغ ومشتقاتها بقوافل الإبل ويعملون على تصريفها ويجنون أرباحها. وهو أمرلم ينتفع به الجنوبيون وحدهم، وإنما انتفع به العرب الشماليون أيضًا لفترات طويلة مما سنعود إلى ذكره فيما بعد. بل إن السفن الإغريقية والرومانية وإن عرفت الطريق البحري القصير المباشر إلى الهند، إلا أنها ظلت تلجأ إلى الموانئ العربية من حين إلى آخر للإتجار معها مباشرة، أو للراحة فيها والتزود منها بالماء والزاد خلال رحلاتها الطويلة إلى سواحل الهند وعودتها منها. بل وظلت تسمح لبعض السفن العربية بالاشتراك معها في التجارة، وذلك مما يعني أنها لو تقاطعها جملة ولم تحرمها من التجارة جملة. وقد كان للحميريين على ساحل البحر الأحمر وساحل البحر العربي أسطول تجاري ضخم لا يمكن تجاهله. وأدت هذه الأوضاع إلى أن ورد في كتاب الطواف حول البحر الإريتري Periplus Maris Erythrael من حديثه عن جنوب شبه الجزيرة في حوالي عام 220م، ما سبق أن استشهدنا به منه عن ازدهار ميناء قنأ الحضرمية، وتجارتها الواسعة من عمان وبارثيا والهند. وقد ذكر نفس الأمر عن ميناء موزا (موشج أو المخا) فقال إنها ميناء عامرة دائمًا بأصحاب السفن والملاحين العرب وفي شغل شاغل بشئون التجارة، ويتعامل أهلها مع الساحل البعيد (الأفريقي؟) ومع بريجازا (في حوض السند) ويرسلون سفنهم إليهما.

وهكذا احتفظ العرب بنشاطهم على الساحل الأفريقي، لاسيما في منطقته المعروفة باسم رأس التوابل، وفي منطقة الصومال، وعلى ساحل الحبشة، وامتد نشاطهم إلى ميناء رهابتا (وقد تكون ربطة العربية) بجوار زنزبار، وذكر مؤلف كتاب الطواف أن رهابتا هذه ظلت تعترف بالسيادة لأمير معافر الحميري بحكم امتياز قديم أخضع ساحلها لنفوذ دولة قديمة في بلاد العرب (وهي دولة أوسان) وأن طائفة من تجار ميناء موزا الحميرية كانوا يعملون باسم أميرهم فيها ويسيطرون على تجارتها ويتزاوجون مع أهلها. وظل للعرب نشاطهم في جزر البحر العربي (أو المحيط الهندي) القريبة منهم مثل جزيرة سوقطرى (دفيبا سخترا=ديوس كوريديس= الجزيرة السعيدة).وذكر مؤلف الكتاب السابق أنها كانت تابعة لملك اللبان يعني بذلك ملك حضر موت، وأنه كان يسكن على ساحلها الشمالي تجار من العرب والهنود والإغريق. وليس من شك في أنه لو توافر للمناطق العربية الجنوبية سلامها القديم عوضًا عن الاضطرابات التي مزقت شملها في هذه الفترة لاستطاعت أن تحقق أضعاف ما استشهدنا به من روايات المؤرخين والرحالة عنها- ولكن هذا الذي استشهدنا به كاف للدلالة على أنه كان لا يزال بها من الإمكانات ما تستطيع أن تستعيد به أمجادها القديمة أو بعضها على أقل تقدير. وإذا كانت مأرب قد استنفذت جزءًا كبيرًا من طاقتها بعد كفاحها الطويل في سبيل البقاء، فقد بقي على ظفار أن تقوم بدورها، وقد مالت موازين القوى النسبية إليها بالفعل منذ النصف الثاني للقرن الثالث الميلادي. وبجوارها قام حصن ريدان الملكي الذي نافس حصن سلحين السبأي المجاور لمأرب. وقد اعتبر الإخباريون العرب الحصنين قصرين وأشادوا بما فيهما من فخامة وروعة ما وسعتهم الإشادة. وضموا إلي ذكر قصر ريدان قصرًا فخيمًا آخر ذكروه باسم شوحطان. نهضة حمير وملكية سبأ وذوريدان وحضرموت ويمنة: مهدت الفترة السابقة لسيادة أسرة حميرية ريدانية تنسب إلى إيل عز نوفان يهصدق. أو إلى ولده الأوسع شهرة منه ياسر يهنعم الثاني الذي حرف بعض الإخباريين اسمه إلى ناشر النعم اليعفرى. وذكر عبيد بن شرية أنه سمي كذلك واشتهر به لأنه استرجع ملك الحميريين وجمع الأمر لهم. ولما كان رأس أسرة جديدة أسرفت روايات هؤلاء الإخباريين (لاسيما ذوي الأصل اليمني) في ذكر

مناقبه وفتوحه فروت أنه ضرب في الشرق والغرب والبر والبحر. بتفاصيل نتجاوز عن ذكرها لعدم ثبوت شيء منها. وشاركه في الحكم قبيل عام270م ولده شمر يهرعش (الثالث) ثم انفرد بالحكم في حوالي 291 - 316، وتوافرت له شهرة أوسع من شهرة أبيه، واحتفظت له بعض الأساطير العربية بسمعة عريضة، فاعتبرته أعقل من حكم، وأطلقت عليه لقب تبع الأكبر، واعتبرته فاتحًا عظيمًا امتد حكمه في زعمها إلى أرض بابل وفارس وسمرقند وأرمينيا والصين والتبت ... إلخ. وعلى الرغم من وضوح عنصر التهويل فيما ادعته هذه الأساطير، فإنه يبدو أنها اعتمدت على نصيب متواضع من الواقع وضخمته باسم القومية في عصر نشطت فيه قوى خارجية من الفرس والروم والحبشة لتوجيه مصائر الأمة العربية. فقد حاول شمر يهرعش الثالث أن يحقق الوحدة السياسية لجنوب شبه الجزيرة وأن يزيد من إمكاناته ويوسع من حدوده واتصالاته. فاستولت جيوشه على أجزاء متسعة من دولة حضرموت وتوابعها وإن لم يقض تمامًا عليها وبقيت تجاهد في سبيل البقاء لفترة قصيرة. وتغلبت جيوشه على أقاليم من تهامة واتسعت في وسط شبه الجزيرة وشمالًا في أرض سهرة وعك. وربما غزت سواحل الحبشة أو على الأقل ضيقت على مصالح الأحباش في تجارة البحر الأحمر، وبلغت اتصالاته الدبلوماسية إلى قطوسف وكوك ويحتمل وجودهما قرب المدائن بين العراق وفارس. وفي نفس العهد الذي حقق فيه عرب الجنوب نهضتهم على يدي شمر يهرعش الثالث، كان لعرب الشمال نهضة أخرى لا تقل قيمة عنها على يدي امرئ القيس بن عمرز التنوخي المتوفى عام 328م، وسوف نتناول تفاصيل نص امرئ القيس المشهور هذا فيما بعد، وتكفي الإشارة هنا إلى ما ذكره من أنه أحرز نجاحًا في حصار نجران مدينة شمر (يهرعش) أي الخاضعة له. وأنه شتت قبائل مذحج. وكان شمر يهرعش قد احتضن قبائل مذحج هذه، ومنها كندة، واستعان بها في مهاجمة مناطق التنوخيين قوم منافسه امرئ القيس أو أنصاره على الخليج العربي، كما وجه نشاطه من صعدة إلى أرض مالك بن كعب ملك أزد السراة. وشجعت هذه الانتصارات المتوالية شمر يهرعش الثالث على أن يزيد في ألقاب ملكيته ألقابًا أخرى، فاتخذ لقب ملك سبأ وذوريدان وحضر موت ويمنة حول أواخر القرن الثالث الميلادي، وكانت يمنة (أو يمانة) فيما يحتمل وأشرنا من قبل هي الجزء الجنوبي من دولة حضرموت. وكان الرجل مصلحًا إلى جانب

كونه محاربًا، فبقي من أيامه نص ينظم بيع الرقيق والماشية. ويحدد المدة التي يكون البائع مسئولًا فيها عن الحيوان الذي باعه إذا هلك بسبعة أيام. ويبدو أن هذا النص كان جزءًا من تشريع متكامل صدر في أيامه. ومرة أخرى ارتبطت هذه النهضة الحميرية الكبيرة بشخصية شمريهرعش الثالث ومن قبله بشخصية أبيه قبل أي شيء آخر، بحيث أن بعض أقاليم دولته في حضر موت وفي تهامة، حاولت الانسلاخ عنها في أواخر أيامه أي عندما شاخ عهده. وربما ردها إلى طاعته ولكن إلى حين. وتجددت المشكلات في عهود خلفائه الأقربين ولم ينجحوا في غير إخضاع حضرموت التي استنفذت قواها، أما الأطراف الغربية لدولتهم فاكتنف الغموض مصيرها. فقد ورد في ألقاب ملك الحبشة عيزانا الذي يرى بعض الباحثين أنه عاصر خلفاء شمريهرعش المباشرين منذ حوالي عام 325م- أنه ملك أكسوم وحمير وريدان وحبشة وسبأ وسلحين وصيامو وبجه وكاسو ملك الملوك. ويبدو أن سيطرته على حمير وسبأ اللتين أوردهما لقبه بعد عاصمته أكسوم. كانت سيطرة مفتعلة أراد أن يمهد بذكرها لمرحلة مقبلة بعد أن أصبحت دولة سبأ وذوريدان في نظره لقمة سائغة طحنتها مشكلاتها الداخلية. ولا يستغرب مثل هذا الأمل المفتعل إذا ما قورن بما حدث بعد كثير من القرون حين أمر الإمبراطور نابليون بسك نوط تذكاري باسمه تمجيدًا لفتحه الجزر البريطانية، وهو أمر لم يتم وبقي النوط تذكارًا لأمل لم يتحقق. ولم يقتصر هدف عيزانا من هذا اللقب على مجرد الأمل في السيطرة على بلاد الجنوب العربي وما يصل إليها من متاجر، بل كانت وراءه ملابسات أخرى، فقد سمح الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأكبر بانتشار المسيحية في دولته ابتداء من عام 311م، ثم أصبحت دينًا رسميًا للإمبراطورية في عام 375م، واتجهت بعثات بيزنظة في عهده إلى الحبشة وما يجاورها للتبشير بالمسيحية واتخاذ الدين مدخلًا إلى عقد المحالفات السياسية والاتفاقيات الاقتصادية. ونجحت هذه البعثات من ناحيتها الدينية في إطلاق حرية العبادة للمسيحيين من التجار الأغراب ومن تنصروا من رجال البلاط وأهل البلاد التي دخلتها المسيحية. ويبدو أن عيزانا ملك الحبشة قد سايرها على الرغم من أن اليهودية كانت قد سبقت المسيحية إلى بلاده منذ قرون ولكنها ظلت محصورة في نطاقها الضيق وسط الديانة الوضعية الشائعة. ولعله في مشايعته للمسيحية وفي لقبه الذي ادعى فيه سيطرته على سبأ وحمير كان يعمل على أن تكون له الصدارة

في تمثيل البلاد الواقعة على جانبي السواحل الجنوبية للبحر الأحمر أمام حليفته الدولة البيزنطية القوية حامية المسيحية في الشرق ووريثة الرومان في السيطرة على سياسته وتجارته. على أن الجدير بالذكر هو أنه إذا كان ملك الحبشة هذا أو خلفاؤه قد ودوا أن تكون لهم اليد العليا على المناطق العربية الجنوبية، فقد أسلفنا من قبل أن هجرات عربية جنوبية قديمة كانت قد أثبتت وجودها وتأثيراتها في الحبشة، عن طريق استخدام اللغة العربية الجنوبية في نصوصها إلى جانب اللغة الأفريقية، أو مختلطة بها، وكتابة هذه النصوص بحروف المسند العربية. وعن طريق النشاط الاقتصادي الذي جعل لطوائفهم التي عرفت باسم الجعزيين أي الأحرار منزلة مرموقة ومكانة سياسية كبيرة في الحبشة، مع امتداد نفوذهم على أجزاء متفرقة من الساحل الأفريقي. وعلى أية حال فما لبثت دولة أكسوم أن اضطربت أحوالها في أرضها الأفريقية فانشغلت بنفسها. وبقيت ملكية سبأ وذوريدان وحضر موت ويمنة العربية قائمة تجاهد في سبيل الاستمرار، ومن أعمال ملوكها إصلاح سد مأرب ثلاث مرات، وفي أولاها أصلح الجزء الأوسط منه عند تهدمه للمرة الثانية المعروفة بعد عام 360م. وتميز من ملوك العصر أب كرب أسعد الذي مارس الحكم نحو ستين عامًا منذ أن اشترك مع أبيه طفلًا. وعندما استقل بالحكم اشرك معه ولده حسان يهنعم في حوالي عام 400م. وأثرت له جهود لتوطيد الأمن في دولته والسيطرة على طرق القوافل المتجهة إلى الشمال. فكانت له حروب في منطقة معد، ولعلها امتدت أيضًا في نواحي الحجاز من ناحية، وحتى الربع الخالي في أواسط شبه الجزيرة من ناحية أخرى, وكانت قبيلة كندة من أعوانه. وشجعه نجاحه على أن يزيد في ألقابه الملكية عبارة أكد فيها سلطانه على بدو المرتفعات والبراري، فأصبح ملك سبأ وذوريدان وحضرموت ويمنت وأعرب طودم وتهمت. أي وأعراب الجبل وتهامة (أو النجد والسهل) ... ولا تساع أعماله العامة نسبيًا أشاد الإخباريون بذكراه وذكروه باسم أسعد تبع ونسبوا إليه فتوحات واسعة كما أشادوا بقصوره أو حصونه فيما بين ظفار وبين صنعاء. وأصلح سد مأرب ثانية في عام 449م في عهد الملك شرحبيل يعفور، وزيدت قنواته ودعمت جسوره، ولكن انهار جانب من سد رحب ثانية بعد عملية إصلاحه بعام واحد وأدى ذلك إلى هلع السكان وفرارهم إلى الجبال خوفًا من

طغيان السيول، فأصلح مرة أخرى في عام 451م وقيل إنه اشترك في إصلاحه نحو 20 ألف رجل. وارتبطت أهم أحداث العصر في الجنوب العربي الذي سوف نعبر عنه فيما يلي باسم اليمن وهو الاسم الشائع في المصادر العربية، بالتطورات الدينية وما ترتب عليها من نتائج حضارية وسياسية. فقد سلكت اليهودية سبيلها إلى اليمن في عهود غير معروفة ود بعض الكتاب ومن اليهود بخاصة أن يرجعوا بها إلى زمن بعيد فربطوا بينها وبين عهد تخريب الرومان لبيت المقدس في عهد فسباسيانوس وتيتوس في عام 70م، وتشتيتهم لمن بقي فيها من اليهود الذين هرب بعضهم إلى الصحراء وانزووا في جاليات صغيرة على الطريق التجاري المتجه إلى الجنوب حتى اليمن. والواقع أنه ليس من سند لإرجاع هجراتهم إلى بلاد العرب إلى مثل هذا الزمن البعيد الذي رددته بعض الكتب التاريخية دون تمحيص حيث لم يظهر لعقيدتهم أثر في النقوش العربية الجنوبية أو الشمالية إلا منذ القرن الرابع أو الخامس الميلاديين. وليس من المستبعد أن بعضهم تسلل إلى اليمن عن طريق فارس التي احتضنتهم نكاية في البيزنطيين المسيحيين الذين كانوا يكرهونهم. ولأمر ما ربط بعض الإخباريين ومن ذوي الأصل العبري أيضًا بين الملك أب كرب أسعد وبين يهود يثرب، مرة بدخولهم إليها في عهده، ومرة برحلته إليها وتهوده، ومرة بامتداد نفوذه إليها وتعيين أحد أولاده عليها حيث قتل بعد رحيله عنها ... إلخ. وسلكت المسيحية سبيلها إلى اليمن عن أكثر من طريق، فسلكته أولًا عن طريق البعثات التبشيرية. ويبدو أن الدولة البيزنطية حينما وجدت الحبشة قد انشغلت بمشاكلها الداخلية عما أملته فيها من نشر المسيحية وما يستتبعها من أهداف سياسية، تعاملت مع الدولة الحميرية رأسًا. وكان من رسلها المبشرين الأوائل ثيوفيلوس الهندي في منتصف القرن الرابع الميلادي ويروي التاريخ الكنسي أنه نجح في تنصير الملك الحميري المعاصر له. ولم يكن تنصير الملك، إن صح، هو بيت القصيد. وإنما يبدو أن بيزنطة أرادت أن تضمن لها أنصارًا باسم الدين للوقوف في وجه انطلاق نفوذ الفرس المحتمل في شبه الجزيرة العربية وما يتصل بها عبر الخليج العربي وعمان. وهكذا اتجهت البعثات التبشيرية البيزنطية إلى جزيرة سوقطرى وميناء هرمز أيضًا. وسلكت المسيحية طريقها إلى الجنوب العربي كذلك عن طريق تجار الشام المسيحيين الذين تعاملوا مع أهله، وربما سلكته كذلك عن طريق تجار الحبشة المسيحيين، وبعض أهل الحيرة أيضًا على الرغم من اختلاف مذهبهم المسيحي

عن المذهب الذي أخذ به نصارى اليمن. على أنه مهما كان من أمر المسيحية واليهودية في اليمن. فقد ظل أتباعهما قلة قليلة. وظلت غالبية أهل الجنوب العربي على عقائدهم الوضعية القديمة وإن حاولوا أن يوسعوا آفاقهم الدينية من تلقاء أنفسهم تارة ونتيجة لاتصالهم بأصحاب الديانتين اليهودية والمسيحية تارة أخرى. وهكذا ورد في نص الملك شرحبيل يعفور عن إصلاح سد مأرب عبارة تقول ما يمكن ترجمته إلى بنصر وعون الإله سيد السماء والأرض وذلك مما يعني تقديس معبود أكبر يشمل سلطانه السماء والأرض ولا يقتصر سلطانه على إقليم بعينه أو مظهر معين. ووردت في نص عبد كلال عبارة تقول بردا رحمنن أي: بعون الرحمن، مما يعني الإيمان برحمة الرب الدائمة وفضله الواسع، وروى أحد مؤرخي التاريخ الكنسي أنه كان بين الحميريين إبراهيميون عارضوا ثيوفيلوس المبشر المسيحي، غير أن أمثال هذه الفلتات القليلةلم تقض على عقائد التعدد القديمة فظلت هي الغالبة. وتنافست الديانات الثلاث، وكان الأكثر تنافسًا أنصار الديانتين الجديدتين أي اليهودية والنصرانية. وفي خلال هذا التنافس اشتد أحد الملوك الحميريين الأواخر وهو يوسف أسأر يثأر الملقب ذو نواس في معاملة التجار المسيحيين والأشاعرة حلفاء الأحباش لسبب ما يرده البعض إلى تهوده، ويرده البعض إلى صداقته لليهود وتأثره بتحريضهم، ويرده البعض الآخر إلى ربطه بين انتشار المسيحيين في بلده وبين احتمال انتشار النفوذ الحبشي المسيحي عن طريقهم لاسيما وأن منهم من كانوا على صلة ببلاط الحبشة فعلًا. وترتب على هذه الشدة أن قل تعامل التجار البيزنطيين مع الموانئ العربية والموانئ الأفريقية القريبة منها. واستنصر المسيحيون بعضهم بعضًا، وناشدوا إمبراطور بيزنطة أن يتدخل لمعاونتهم، ولكن الشقة بين بيزنطة وبين اليمن كانت بعيدة، فوقع عبء معاونتهم على ملك الحبشة كاليب أل أصبحا حليف البيزنطيين ووجدت دعوة الاصتنصار هذه هوى في نفسه لتحقيق أمل أسلافه ولزيادة نفوذه السياسي والتجاري، لاسيما وأن بلاده قد تأثرت إلى حد ما من اضطراب أمور التجارة البيزنطية في جنوب البحر الأحمر. وقيل: إن كاليب كان على رأس الحملة على اليمن أو أشرف على الأقل على إعدادها في ميناء عدولى الذي أبحرت منه عبر باب المندب في فترة ما تقع بين520م و 523م. ونجحت الحملة في غرضها، وفر ذو نواس إلى منطقة جبلية ببعض أعوانه. وأعلن الملك الحبشي سيادته على ظفار وعين عليها واليًا حبشيًا، وعندما توفي هذا الوالي استغل ذو نواس فرصته فأعاد تجميع أنصاره واستعاد

ظفار وانتقم ممن فيها من الأحباش وأجلى بقيتهم عن بلاده ثم رد الصاع صاعين، فترك اليهود يفتكون بمن شاءوا من منافسيهم المسيحيين. ووجه انتقامه إلى نجران أكبر مراكز تجمع المسيحيين فراسل زعيمها الحارث؟ ليتصل به، ولكن الرجل تخوف غدره فتحصن بمدينته. وشدد نواس حصار نجران وقيل: إنه وعد أهلها الأمان إن استسلموا له. فلما طال المطال عليهم فتحوا له أبواب مدينتهم فكان انتقامه هو وأعوانه منهم على نحو ما ذكر القرآن الكريم في سورة البروج (4 - 9) إذ يقول: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. وأراد ذو نواس أن يتخذ له سندًا لو تأزمت الأمور ضده فكتب إلى ملك الحيرة المنذر الثالث يود أن يحالفه أو يجعل له سبيلًا إلى محالفة الفرس وتصادف أن كان في مجلس المنذر وقتئذ وفد من قساوسة الروم فأشاعوا أن ذا نواس دعا المنذر في رسالته إلى أن يفتك بمسيحي الحيرة كما فتك هو بمسيحي نجران. وثارت ثائرة العالم المسيحي، وأراد الملك الحبشي أن ينتقم لما أصاب رجاله فعاود الحملة على اليمن بجيش كثيف، وانتصر جيشه بعد جهد جهيد. وقتل ذو نواس أو فر وغرق كما روت بعض المصادر العربية. وصحب الاحتلال الحبشي الأخير لليمن في عام 525م ما يصحب كل احتلال أجنبي من ضروب القتل والتدمير والنهب والأسر التي أفاضت المصادر الإسلامية في تصوير بشاعتها. ويبدو أن مقاومة الحميريين للغزاة قد استمرت لبعض الوقت. إذ يذكر حمزة الأصفهاني (في تاريخ سنى ملوك الأرض والأنبياء) أنه أعقب ذا نواس ولده ذو جدن ولكنه لقي نفس مصيره. ولعله من جراء هذه المقاومة أن عمل نجاشي الحبشة على أن يوطد احتلاله لبلاد اليمن بما يخدر أهلها فعين على حكمهم تحت طاعته رجلًا من سادتهم يدعى سميفع أشوع كان من كبار أعوان ذي نواس، وبعد مقتله تحصن هو بأولاده في حصنه وجمع حوله بعض حلفائه، ثم تبين عقم المقاومة أو استجاب لدعوة الأحباش فهادنهم وربما تنصر حينذاك واتخذ اسمه المسيحي الصيغة الذي سبق ذكره. وقد نسب إليه نص عربي تلقب فيه بلقب ملك سبأ وذكر إيمانه بالمسيح الذي أورد اسمه بصيغة لاتينية محرفة، مع إثبات تبعيته لنجاشي أكسوم. وازدادت أعداد الكنائس الكبيرة في اليمن منذ ذلك الحين، وكانت كبراها كنيسة في نجران سماها أتباعها كعبة نجران وكعبة اليمن وكان لها سرادق من أدم. وأخرى في ظفار أقام فيها كبار قساوسة اليمن، وكنيسة ثالثة في عدن ... إلخ.

والتفت الدولتان الكبيرتان دولة الروم ودولة الفرس إلى هذا المجال لصالحهما، وكانت كل منهما قد فرغت من مشكلاتها التي شغلتها في أغلب القرن الخامس الميلادي حين تدفقت هجرات الهون على أملاك فارس، وتدفقت هجرات الجرمان على أملاك بيزنطة. وبدأ الإمبراطور البيزنطي بمحاولة استغلال رؤساء مسيحي الحبشة واليمن. وقيل: إنه طلب من نجاشي الحبشة ومن والي اليمن أن يجعلا قضية المسيحيين قضية واحدة وأن يتعاونا مع دولته في التضييق على الفرس. وأوصى الحاكم اليمني على شيخ عربي قصد بلاطه يدعى قيس أويلي زعامة قبيلة قيس وأن يجعله رئيسًا على قبائل معد وأن يتعاون معه على مهاجنة مصالح الفرس، ولكن يبدو أن أحدًا من هؤلالم يستجب له. وسواء مات الوالي سميفع ميتة طبيعية أم قتل، فقد عمل الأحباش على أن يحكموا بلاد اليمن بعده حكمًا مباشرًا بعد أن رضخ أهلها لحكم الواقع. فعينوا عليها حاكمًا حبشيًا لعله كان القائد الأعلى لجيش الاحتلال، ولكن قائدًا من أعوانه مالبث حتى انقلب عليه واغتصب مكانه في ولاية اليمن، وهو الوالي الذي ذكرته المصادر العربية باسم أبرهة أو إل إبرهة. وحاول النجاشي إقصاءه ففشل، وعندما خلفه نجاشي آخر أرضاه أبرهة فأقره على ولاية ملك سبأ العريض تحت طاعته. وهنا انتحل أبرهة فأقره على ولاية ملك سبأ العريض تحت طاعته. وهنا انتحل أبرهة اللقب السبأي الضخم ملك سبأ وذوريدان وحضرموت وأعرابها في الجبل وتهامة، مع اعترافه بنيابته أو تبعته لسيدة ملك الجعزيين رمحس زبيمان ويبدو أن رمحس أو رماحس هذه تعني الشجاع. كما كان زبيمن لقبًا من ألقاب الحكام في الحبشة. واتخذ أبرهة صنعاء عاصمة. وشيدت فيها خلال عهده كنيسة ضخمة ذكرها الإخباريون باسم القليس تحريفًا عن كلمة Eccleststic بمعنى المجمع الكنسي. وشيدت كنيسة ضخمة أخرى في مأرب. وروت المصادر العربية أن نفائس المعابد القديمة ومجهودات اليمنيين قد سخرت من أجل إخراج هاتين الكنيستين في فخامة كبيرة. ويبدو أن عرب الجنوب لم يسلموا بحكم أبرهة بسهولة، إذ تحدثت بعض نصوصه عن انقلاب والي كندة يزيد بن كبشة ضده وتعاونه مع أبناء سميفع أشوع الوالي السابق وعدد من بقايا الأسر النبيلة القديمة وبعض قبائلهم ومنها قبيلة يزن التي انتسب إليها فيما بعد سيف بن ذي يزن. وهزم أبرهة بجيشه هؤلاء الأحلاف بعد جهد جهيد. ثم سنحت له فرصته لكي يظهر بمظهر الحاكم المصلح. فقد زاد تصدع سد مأرب بعد فترات الإهمال والاضطراب المتعاقبة. فعمل على

إصلاحه في عامي 542و543م. وقد أسلفنا في الفصل الرابع ذكر بعض الجهود الضخمة التي أنفقت فيه حينذاك، وأنه حضر حفل إعادة افتتاحه مندوبون من دول الحبشة والروم والفرس والغساسنة والمناذرة، مما يعني أن أبرهة استطاع أن يوفر لنفسه شهرة كبيرة تعدت حدود اليمن. ولعل هذه الشهرة كانت من العوامل التي خدعته عن نفسه وحقيقة قوته ودفعته إلى غزو مكة ومحاولة هدم الكعبة، سواء باسم التعصب الديني للمسيحية، أم لاستعادة السيطرة على الطريق التجاري الرئيسي الذي كانت مكة قد حققت لنفسها مكانة كبيرة فيه، أم استجابة لدعوة الروم القديمة بإحكام الخناق على المصالح التجارية الفارسية عن طريق ربط الدولة المسيحية الجديدة في اليمن بالدولة الغسانية المسيحية في جنوب الشام وكلتاهما من أولياء بيزنطة. وقد أثبت القرآن الكريم في سورة الفيل نتيجة هذه المحاولة الفاشلة. وكان من تفسير الزمخشري والطبري: أنه ترتب على ما رمته الطير الأبابيل على جيوش أبرهة أن تفشى بينهم وباء لعله الجدري الذي روى ابن هشام وابن سعد وابن منبه أنه عرف أول ما عرف بأرض العرب في عام الفيل. وعوضًا عما كان أبرهة يأمل فيه من إضعاف مكة، أصبحت هزيمته بها من عوامل ازدياد شهرتها. وربما عاد هو إلى بلده بقلة قليلة بقيت من جنوده. وعندما هلك خلفه ولداه، ولد من أم حبشية كان قد ولاه من قبل على قبائل معافر. وذكره الأخباريون باسم يكسوم، وولد من أم عربية ذكروه باسم مسروق وكان أبوه قد ولاه من قبل أيضًا على قبائل شناتر. وكان كل منهما شرًا من أخيه فضاق الناس بهما وتمنوا تحرير أرضهم من حكمهما. وتزعم حركة تحرير اليمن سيف بن ذي يزن الذي خلدت الروايات والأساطير الشعبية ذكره، ولكنه لم يستطع بأعوانه أن يناهضوا الغزاة الأغراب أو المهجنين بدون عون خارجي. ربما لأن هؤلاء الغزاة كانوا قد حرموا المواطنين من السلاح أو أشاعوا الفرقة بينهم. ولعل ماروته الأساطير من اضطرار ذي يزن إلى الاستعانة بالسحر والجن. وابتلائه بأم انضمت إلى من اغتصب عرش أبيه، وكثرة مالاقاه من مصاعب وعقبات في تنقله وترحاله- كل ذلك كان يرمز إلى المشكلات التي واجهتها دعوته التحريرية في مجتمعه وخارج بلده. وقد روت المصادر العربية أن سيفًا قصد بلاد الروم واستنجد بالإمبراطور جوستين الثاني ولكنه لم يجد لديه استعدادًا لمعاونته ضد دولة مسيحية حليفة. فتركه إلى ملك الحيرة العربية ليتوسط له لدى ملك الفرس أعداء الروم وأعداء المسيحية. فاستجاب له بعد لأي عسى أن يجد سبيلًا عن طريقه إلى السيطرة على بلاد اليمن

وحرمان بيزنطة من امتيازاتها السياسية والاقتصادية فيها. ولكنه لم يكن مطمئنًا كثيرًا إلى إمكان نجاح المحاولة حيث روت المصادر العربية أنه أعانه بفرق قليلة تألف أغلبها من الأفاقين المجرمين تحت رئاسة قائد فارسي يدعى وهرز. وخرجت الحملة في ثمان سفن غرفت اثنتان منها ووصلت الست الباقية إلى عدن أو إلى ميناء قنأ في حضرموت وهناك ضم سيف أنصاره إليهم وانتصر بهم على جيوش ابن أبرهة ولعله المسمى مسروق، في حوالى عام 575م. وكالعادة، لم يكن العون العسكري الأجنبي بغير ثمن يقابله، فقد حكم سيف بن ذي يزن اليمن تحت طاعة الفرس. كما حكمها من قبل سميفع أشوع تحت طاعة الحبشة. وأضافت الروايات العربية أنه لقي مصرعه بعد ذلك على أيدي جماعة من الأحباش، سواء بدافع من كراهيتهم الشخصية له. أو بدافع من تحريض دولتهم، أو بدافع من تحريض الفرس أنفسهم. وقد كان عهد ولده معد يكرب الذي خلفه تحت طاعة الفرس. فيما يذكر المسعودي، عهدًا قصيرًا. وحكم الفرس اليمن بعد ذلك حكمًا مباشرًا، كما فعل الأحباش من قبل، بعد أن أطمأنوا إلى تسليم السكان بالأمر الواقع. فولوا حاكمًا فارسيًا في ظفار، وإن تركوا المخاليف في أيدي الأمراء الوطنيين. وهنا توفر للفرس ما لم يكونوا يحلموا به من السيطرة على مخارج التجارة البرية والبحرية من بلاد اليمن وإليها عن طريق البحر الأحمر والمحيط العربي -الهندي- وعلى الطرق البرية المؤدية إلى الخليج والعراق من ناحية وإلى الشام ومصر من ناحية أخرى، إلى جانب ما كانوا يسيطرون عليه من تجارة الخليج العربي. وتتابع على حكم اليمن ثلاثة أو أربعة من ولاة الفرس كان آخرهم باذان الذي أسلم في عهد الرسول عليه السلام ودخلت بلاد اليمن بعده في الإسلام في عام 628م. وانتهى دور المناطق الجنوبية أو العربية السعيدة Arabia Felix في عصور ما قبل الإسلام عند هذا الحد. بينما كانت المناطق الشمالية في شبه الجزيرة تعاصرها في المسيرة، وهو ما سوف نتتبعه في فصول تالية.

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: Beeston, A.F.L., Qahtan, Studies in Old South Arabian Epig- raphy 1976 philby, op. cit., 87-121 pirenne, j., Recueil des inscriptions et antiquites sud-asabes, 1977 Ryckmans,G, in Museon 1942,bsoas1952 Shahid, l., The Martyrs of Najran 1971 Wissmann, H.V., Zur Geschichte und Landeskunde von alt- Sudarabien, 1964 Wissmann, H.V. und Hofiners, M., Beitrage Zur Historisschen Geographie des Vorislamischen Sudarrabien, 1953 بافقيه، وبيبستون، وروبان، والغول: مختارات من النقوش اليمنية القديمة -تونس 1985. جواد علي: المرجع السابق، جـ2. مظهر علي الأرياني: في تاريخ اليمن- القاهرة 1972. مجلة العرب، السنة الخامسة- يناير 1971 - ص 401 - 424.

الفصل الحادي عشر: مناطق الأطراف العربية

الفصل الحادي عشر: مناطق الأطراف العربية اولاً: المصادر المسمارية ... الفصل الحادي عشر: مناطق الأطراف العربية أولًا: في المصادر المسمارية توزعت مناطق التجمع والتحضر القديمة في الأجزاء الوسطى والشمالية من شبه الجزيرة العربية بشرقها وغربها. على نحو ما توزعت به في الجنوب تحت تأثير عدد من العوامل الاقتصادية والعوامل الجغرافية. فانتشر أغلبها حول الطرق التجارية الرئيسية الواصلة بين أجزاء شبه الجزيرة والمؤدية منها إلى البلاد المجاورة، كما انتشر بعضها على مناطق الحواف بين أطراف الصحراء وبين حدود دول الهلال الخصيب القريبة منها، فضلًا عن انتشارها الداخلي في الواحات والنجوع والقرى حول العيون والآبار والنهيرات الصغيرة وفي مناطق الحرات. وانصرفت تسمية عرب، التي تداولتها نصوص التاريخ القديم على العرب الشماليين أكثر منها على العرب الجنوبيين، كما انصرفت للدلالة على أعراب البادية أكثر منها على أهل الحواضر. وذلك على الرغم مما تناقلته أغلب مؤلفات الأخباريين من تسمية أهل الجنوب باسم العرب العاربة وتسمية أهل الشمال باسم العرب المستعربة. أ) في العصر الأشوري: اتسع المجال العربى في عصوره القديمة لما كان يتعدى شبه الجزيرة إلى قرب بوادي الشام والعراق وسيناء أيضًا. وبهذا المعنى الواسع ورد أقدم لفظ مكتوب مؤكد لتسمية العرب في النصوص المسمارية الآشورية خلال القرن التاسع قبل الميلاد على نحو ما سلف ذكره في مقدمة هذا الكتاب. ولا يعني وروده في هذا القرن بداية ظهوره أو بداية ظهور العرب بحال من الأحوال. فهناك قرائن عدة تناولنا بعضها في فصول سابقة ونتناول بعضها الآخر في مناسبات تالية، تدل على قدم وجود العرب بخصائصهم وخصائص لغتهم منذ عهود سبقته بآمال طويلة. ومن الباحثين من يحتمل ورود تعبير قريب من تعبير العرب في نص مسماري من عهد نارام سين الملك السامي الآكدي خلال القرن الثالث والعشرين

ق. م وإن كانت قراءته لا تزال موضعًا للجدل. وكان التوسع الآشوري قد امتد في القرن التاسع ق. م إلى بوادي الشام وضغط على ما في جنوبها من مناطق التجمعات العربية. وحاولت دويلات المنطقة أن تقف في وجه تقدمه بتكوين حلف كبير بزعامة إمارة دمشق وما حولها. وهنا ذكرت نصوص شلما نصر الثالث الملك الآشوري في عام 853 ق. م. أنه انضم إلى هذا الحلف فيمن انضموا إليه ألف راكب جمل من رجال جنديبو أريبي (أو الأريبي). ويعتبر لفظ جنيديبو تحريفًا لاسم جندب أو جندبة. كما يعتبر لفظ أريبي تحريفًا لصفة العربي. وقد لقب جنديبو هذا بلقب الملك، ويبدو أنه كان يعيش بقبيلته العربية أو يتردد بها على البادية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من دمشق. وإذا صح أنه اشترك في الحرب ضد الآشوريين بألف راكب جمل فعلًا لدل ذلك على سعة نفوذه وكثرة رجاله قياسًا على إمكانات عصره. وتعددت إشارات النصوص الآشورية بعد ذلك إلى الجماعات العربية القريبة من دولتها والواقعة على طرق التجارة الواصلة إليها. ورددت القول بانتصارات ملوكها العراقيين وجيوشهم على هذه الجماعات وتلقي الجزى منها. وهي أخبار تحتمل الصدق كما تحتمل الشك. فيحتمل صدق بعضها على أساس عدم تعادل كفتي الفريقين من حيث العدد والعدة ومن حيث وفرة الموارد. ولكن يتعين الشك في بعضها الآخر على أساس أنها أخبار تواترت من جانب واحد وهو الجانب الآشوري الذي سجل انتصارات أصحابه دون هزائمهم. وجلي أنه لو كان خصومه من العرب الشماليين قد استخدموا الكتابة حينئذاك وسجلوا بها أخبارهم، لأمكن مقارنة أخبار الجانبيين ببعضهما البعض والخروج منهما بما هو أقرب إلى الصحة. وعلى أية حال فإن ما ذكرته النصوص الآشورية نفسها عن تعدد حروب الجانبين يدل ضمنًا على استمرار مقاومة القبائل العربية التي اعتمدت على مهارتها في الكر والفر وقتال الصحراء، ووعورة مناطقها، وعملها على مضايقة خصومها عن طريق تهديد قوافل تجارتهم. واستطاعت على الرغم من قلتها النسبية أن تسجل صفحات مجيدة في الدفاع عن أرضها واستقلالها. ذكرت النصوص المسمارية الآشورية أسماء ممالك وقبائل عدة مثل سبأ وقيدرى وتيماء ومصوري وتمودي وخايابا ومساء ... إلخ. وكان أهم ما تضمنته فيما نكتفي به مؤقتًا وفيما يفيد التاريخ العربي العام هو أنها ذكرت أسماء خمس ملكات عربيات على أقل تقدير حكمن في جهة ما من شمال شبه الجزيرة العربية فيما بين أواسط القرن الثامن ق. م، وبين أواسط القرن السابع ق. م. ولم تحدد مكان دولتهن صراحة، ولكنها ذكرت خلال الحديث عنهن أحيانًا اسم أداوماتو

وذلك مما دفع إلى احتمال حكمهن في دومة الجندل أو بقربها في منطقة الجوف الشمالي، كما نسبت إلى إحداهن كهانة معبودتها الكبرى دلبات، وذلك مما قد يعني بدوره أن حكمهن اعتمد على تقاليد دينية جعلت رياسة الكهنوت لكبريات نساء الأسرة المالكة وسمحت لهن بوراثة الحكم واحدة بعد أخرى أو بنتًا بعد أمها. وهكذا أشارت النصوص المسمارية في القرن الثامن ق. م إلى ملكتين عربيتين أطلقت على كل منهما لقب ملكة أريبي. وذكرت أقدمهما باسم زبيبي تحريفًا عن زبيبة، وأضافت أنها اعترفت بالطاعة لدولة آشور وأدت الجزية إلى ملكها. وذكرت الثانية باسم سمسى (تحريفًا عن شمس) في مناسبتين: مناسبة أدت الجزية فيها إلى الملك الآشوري كسابقتها، ومناسبة أخرى خلعت فيها هذه الطاعة وساعدت البدو الآراميين أعداء الآشوريين. وتركت رجالها يهددون القوافل الآشورية، فحاربتها القوات الآشورية وخربت بلدتين في أرضها وأجبرتها على الطاعة، ثم عين الملك الآشوري مندوبًا له في عاصمتها يتلقب بلقب قيبو أي قيم كي يشرف على سياستها ويكتب إليه عن أمرها. ولم يكتف الآشوريون بأن يسجلوا نصرهم على قوم شمس كتابة فقط، وإنما أسرفوا في تصويره بما أشبع كبرياءهم، وبقي منه ما يصور فارسين آشوريين على جوادين يلاحقان برمحيهما محاربًا عربيًا يجري مسرعًا ببعيره ويلتفت إليهما في ضراعة بعد أن أصيب بعيره بسهم في جنبه كاد يرديه. وصوروا عددًا من قتلى جيش الملكة وقتلى حلفائها ممدين على الثرى تحت سنابك الجوادين. وزادوا فصوروا امرأة بثوب كاس تسير باكية تلطم وجهها بكفها أو تستره خجلًا بكفها وتمسك باليد الأخرى جرة كبيرة ويعقبها عدد من نياقها. وليس من المستبعد أنهم أرادوا أن يرمزوا بها إلى الملكة شمس نفسها وإلى عجزها واستسلامها وعودتها إلى رعاية الإبل. وأشارت النصوص الآشورية في القرن السابع ق. م إلى ملكتين عربيتين أخرتين: يتيئة وتلخونو، تحريفًا فيما يبدو عن اسمي يطيعة وتلهونة، وذكرت عن يطيعة أنها ناصبت الآشوريين العداء وربما تحالفت مع كبير الآراميين في العراق مردوك أيبا ليدينا الثاني ضد الملك الآشوري. وأسندت قيادة جيشها إلى أخيها بسقانو تحريفًا فيما يبدو عن الباشق. ولكن الجيوش الآشورية هزمت جيشها وأسرت أخاها. وسلكت الملكة تلهونة (أو تلخونو) مسلكها الخاص في سبيل الدفاع عن أرضها ومصالحها، فتحالفت مع من ذكرته النصوص الآشورية باسم خزا إيلي أو حزائيل، ملك قبائل قيدار المجاورة لأرضها في منطقة الجوف. وعهدت إليه

بقيادة جيشهما المشترك ضد الآشوريين، ولكن حلفهما فشل في أداء مهمته، على الأقل في حدود ماروته المصادر الآشورية، وفرت الملكة إلى أداوماتو (دومة؟) فلحقت بها القوات الآشورية على الرغم من وعورة الطريق وضيقت الحصار عليها حتى أسرتها هي أو الملكة أبكالاتو كما أسرت ابنتها تبؤة، واستولت على تماثيل معبوداتها، ويبدو أنه فت في عضد الملكة أنه نشب خلاف بينها وبين حليفها حزائيل عقب هزيمتها الأولى أو خلال حصار أداوماتو، فخرج إلى قلب البادية ونجا نفسه مؤقتًا وعز على الجند الآشوريين أن يتعقبوه وإن كانوا قد دمروا بلده، واستولوا على تماثيل بعض معبوداته. ولعله كان من جراء طول المقاومة والرغبة في إعادة السلام إلى الطرق التجارية أن اتبع البلاط الآشوري سياسة المهادنة، فتعهد الأميرة العربية الصغيرة تبؤة بالتربية والرعاية رغبة في أن تشب وفية مخلصة للملكية الآشورية وعندما بلغت سنًا مناسبة اعترف بها ملكة على قومها. وربطت النصوص الآشورية بين ملكة عربية أخرى وبين إيا إيلو بن حزائيل ملك قيدار كحليفة له ضمن ملوك صغار آخرين، وذكرت هذه الملكة باسم بائيلو ملكة أخيلو. واعتبر اللغوي إذوارد جلازر اسم بائيلو تحريفًا عن الاسم العربي باهلة، كما قرب اسم أخيلو إلى اسم ديار أخلة أو أجلة في منطقة الخرج في نجد. وبرر رأيه بما روته المصادر المتأخرة عن سكنى قبيلة باهلة التي يشبه اسمها اسم الملكة القديمة في هذه الديار، ولكن لازال رأيه هذا في مرحلة الفروض. ب) في العصر البابلي الأخير: عندما ورثت الدولة البابلية الكلدانية مناطق النفوذ الآشوري في الشرق الأدنى كان من الطبيعي أن تتجدد العلاقات الاقتصادية السلمية أو المناوشات الحربية بينها وبين الإمارات العربية التي تحف بهذه المناطق، لولا أن النصوص البابليةلم تسجل شيئًا كثيرًا عن هذه العلاقات حربًا كانت أم سلمًا، إلى جانب الحقيقة الأخرى المتوقعة وهي أن العرب بدورهم لم يعثر لهم على نصوص تتحدث عن أحوالهم معها. وظل الحال على هذا الغموض حتى اشتد التنافس بين دولة بابل وبين دولة الفرس. ومالت أحوال بابل إلى التدهور، فحاول آخر ملوكها نابونهيد أن يجرب حظه مع المناطق العربية عله يسترجع بها بعض مجده الذاهب فغزا جنوب الشام حتى إدوم وغزة، ثم أناب عنه على عرش بابل ولي عهده، ولأمر ما اتجه إلى واحة تيماء، ربما ليحيي أهميتها الاقتصادية على الطريق التجاري الرئيسي بين

شمال غرب شبه الجزيرة العربية وبين العراق من ناحية وبين البحر المتوسط من ناحية أخرى. ثم ينتفع بمواردها، أو على أمل أن يستعين بها وبوسطها البدوي على تطعيم جيشه بقوات فتية يستعد بها لمعركة قريبة بينه وبين الفرس، أو على أسوأ تقدير ليهيئ بها ملجأ يبعده عن طائلة الفرس حين الضرورة. وعلى الرغم من هذه الأغراض الملحةلم يكن نابونهيد موفقًا في سياسته، فاشتد على تيماء التي أراد أن يتخذها قاعدة جديدة لحكمه وفتك برؤسائها وأخضع سكانها وقتل ملكها، ثم أعاد تسويرها وأقام بها بضع سنوات في قصر جديد محصن على مثال قصره البابلي. ومد نفوذه منها جنوبًا على ساحل الحجاز وربما وصل حتى يثرب. وأخيرًا أدرك عقم محاولته فعاد إلى بابل حيث لم يلبث حتى خسر دولته كلها أمام الفرس فى عام 538 ق. م ولازالت أغلب آثار هذا العصر البابلي في تيماء مطمورة تحت أنقاض العصور التي تلته. جـ) في العصر الفارسي: أدى مشروع نابو نهيا الفاشل في تيماء إلى عكس ما أراده منها، إذ كان من نتيجته أن وجه أطماع الفرس إليها وإلى ما حولها من المناطق العربية بعد أن مدوا نفوذهم على الهلال الخصيب كله. وأحس أمراء بادية فلسطين وما في جنوبها بعنفوان الفرس وشدتهم فآثروا السلامة معهم بحيث روى المؤرخ هيرودوت أن قمبيز ملك الفرس وهو في طريقه إلى فتح مصر في عام 525 ق. م. حالف ملكًا من ملوك البادية كان يعبد هو وقومه اللات قرب خليج العقبة. أو بمعنى آخر أجبره. على أن يزوده بالإبل والماء ويرشد جيشه إلى مسالك الصحراء المؤدية إلى مصر, فعالج البدوي مشكلة الماء بملء بطون الجمال إلى حين الحاجة إليه، وعمل على إعداد ما يشبه الخراطيم الطويلة من جلود الماشية لتجري بالماء من نهير في بلده إلى ثلاث قنوات تصب في ثلاثة صهاريج ضخمة بالصحراء. وأيا ما كان في رواية هيرودوت هذه من الصحة أو من الخيال. فقد رددت نصوص الملك الفارسي دارا أن قبائل أربايا، أي القبائل العربية التي انتشرت في بادية جنوب الشام وعلى أطرافها كانت تؤدي إلى دولته كميات هائلة من البخور والطيوب وما إليها على هيئة الجزى والهدايا. وكان هذا أمرًا طبيعيًا في عصر أصبح الفرس فيه أقوى دولة في الشرق الأوسط من غير منازع بعد أن شاخت بقية دوله الأخرى وتهاوت إلى حين. وامتد النفوذ الفارسي إلى واحة تيماء نظرًا لما لها من أهمية تجارية. ويبدو أنه كان نفوذًا غير مباشر لم يحس أهل الواحة بشدة وطأته. بحيث أن أغلب ما

وجد بها من الآثار يرجع إلي أيامه وماتلاه. وتقع أطلال تيماء القديمة هذه في جنوب الواحة الحالية. وكان يحيط بها سور يتراوح سمكه بين175 وبين320 من الأمتار ويبلغ ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار. أما امتداده فقد قدره دوتي بنحو ثلاثة أميال، بينما قدره سافينياك وجوسن بثلاثة كيلو مترات فقط. مما يعني أن المنطقة لا تزال تتطلب دراسة واسعة للكشف عن حقائق ماضيها، لاسيما وأنه كشف فيها بالفعل وعن طريق المصادفات ثم البحوث المحدودة بقايا قليلة من معابدها ومقابرها ونصبها الدينية. وهذه يحمل أقدمها تأثيرات عراقية ومصرية وفارسية، ويحمل أحدثها تأثيرات نبطية ورومانية نظرًا لكثرة اتصالاتها الخارجية القديمة وبحكم موقعها التجاري المتوسط. وذلك إلى جانب الخصائص المحلية التي ظهرت في أسماء معبوداتها القديمة. د) الأطراف الشرقية: توافر للأطراف الشرقية من شبه الجزيرة العربية نصيب قليل مما أتت به المصادر المسمارية ولكنه على قلته لا يعدم ما يؤيده من الكشوف الأثرية الحديثة التي سنتناول نتائجها في صفحات تالية. وعرفت أهم هذه الأطراف في النصوص المسمارية بأسماء دلمون وماجان وملوخا. ولأمر ما اعتبرت الأساطير السومرية دلمون جنة استقر السومريون زمنًا بها قبل أن يدخلوا أرض العراق. وذهب الترجيح إلى أنها، أي: دلمون، تمثلت في جزيرة البحرين. ثم تواتر ذكرها تاريخيًا وشمل اسمها فيما يعتقد بعض الباحثين المحدثين جزءًا من ساحل الأحساء المواجه لها. وذكرت نصوص الملك سرجون الآكدي في القرن الرابع والعشرين ق. م. أن إشراف دولته امتد على دلمون وماجان وملوخا وأن سفنها سارت على مياه آكد، وذلك مما دعا إلى اعتبار هذه الأقطار الثلاثة أقطارًا بحرية وساحلية ذات خبرة بالملاحة وصناعة السفن، ويعمل أهلها بالنقل البحري والتجارة البحرية. ولهذا سارت سفنهم في مياه الفرات طاعة لدولة آكد. وهكذا يتجه بعض الرأي إلى اعتبار ماجان تشغل ما تشغله عمان الحالية. وأضافت نصوص مسمارية أخرى أنه كان يستورد منها للعراق الخشب والنحاس والأحجار الصلبة. أما ملوخا التي ذكرت النصوص المسمارية أنه كان يستورد منها الذهب والخشب الثمين، فلم يتيسر تحديد موضعها الفعلي حتى الآن، وإن لم يستبعد أنها وقعت بين المنطقتين الأخريين دلمون وماجان أو البحرين وعمان. وذهبت آراء أخرى إلى المضي باتساع المناطق السابقة أو بعضها حتى وادي السند. وتعاقبت نصوص مسمارية أخرى بابلية وآشورية بعد عهد سرجون تكرر المعنى الذي أراده بامتداد النفوذ العراقي على هذه الأجزاء الشرقية. ولكن يبدو أنه

كان نفوذًا تجاريًا فقط. قام على أساس استيراد المواد الأولية التي ذكرناها وبعض منتجات بخور منطقة ظفار. وما يتجمع من منتجات الهند وجزر المحيط الهندي على سواحل الخليج العربي لتصريفه في أسواق العراق. وزادت النصوص الآشورية فأشارت في القرن الثامن ق. م إلى أريبيي مطلع الشمس وعنت بهم أعراب الشروق قرب الخليج العربي. وأخذت بعض الجاليات الفينيقية تتوافد على هذه المناطق الساحلية خلال العصر الفارسي، ومارست نشاطها التجاري فيها وفي البحار القريبة منها. ونقلت إليها بعض عناصر حضارتها. ثم ازدادت أعداد التجار الفينيقيين وتأثيراتهم واختلاطهم بالسكان المحليين في العصر الهيلينستي وهو ما يخرج عن دائرة المصادر المسمارية. وقد شهدت به تسمية جبيل لإحدى مدن المنطقة الشرقية.

ثانيا: من نتائج الكشوف الأثرية الحديثة

ثانيًا: من نتائج الكشوف الأثرية الحديثة: ارتبطت أغلب الاكتشافات الأثرية في سواحل الخليج العربي وجزره مؤخرًا بجهود بعثة دانمركية لآثار ما قبل التاريخ، وما تبعها من بعثات أخرى. أ) في البحرين: استهلت هذه البعثة عملها في عام 1953 في مناطق الظران وأدوات ما قبل التاريخ الحجرية على جبل الدخان والمنطقة الصحراوية في البحرين وامتدت منها إلى غيرها من مواطن الدهور الحجرية بها. ثم اتسعت مجالات بحثها فالتفتت إلى رجم المقابر التي بلغ من كثرتها أن بدت في هيئة الغرود الطبيعية في الصحراء. وقد قدر عددها بنحو مائة ألف وتنوعت بين كبيرة وصغيرة، ومخروطية ومستطيلة. وتفاوت متوسط ارتفاعات المقابر ذات القواعد الدائرية بين المتر وبين الستة أمتار، بل وارتفع أكبرها إلى 12 مترًا وبلغ قطر قاعدته 17 مترًا. وأحاط ببعضها سور دائري. وذلك إلى جانب مقابر أخرى صغيرة دفن أصحابها في جرار من الفخار. وتنقلت أعمال الكشف الأثري إلى حيث تتبعت شواهد العمران القديم في العواصم الأولى التي نسبت إلى عهود متفاوتة يحتمل أن أقدمها عاصر الحضارة السومرية، وعاصر بعضها العصر الآشوري الحديث والعصر البابلي الأخير، كما عاصر أحدثها الحضارة السليوكية الهيلنستية والحضارة البارثية، مع انقطاع عمرانها في فترات أخرى بعوامل مختلفة. وتمثلت أهم مكتشفات البعثة في أطلال معابد باربار بمستوياتها الثلاث المتعاقبة وبعض عناصرها الباقية الأمر الذي شجع على تسمية أهم الفترات الحضارية بجزيرة البحرين باسم حضارة باربار.

وتنوعت حصيلة ما بقي من مناطق السكن والعبادة والدفن، من أنواع الآثار المنقولة. فشملت كمية كبيرة نسبيًا من أواني الفخار والأواني الحجرية، ومجموعات من الأختام الدلمونية المستديرة ذات القمة المدببة والمسطحة. والتي نقش بعضها بمناظر محلية، ونقش بعضها الآخر بمناظر تشبه مناظر الأختام القديمة في العراق وفي وادي السند، وذلك مما يدل على العلاقات الحضارية أو التجارية بين هذه الأقطار الثلاثة، وذلك فضلًا على مجموعات من الأواني والتماثيل المعدنية والمرمرية الصغيرة، وقطع نحاسية وأخرى من العقيق واللازورد. وأوزان محلية ومنقولة ... إلخ. وأيدت هذه الآثار المنوعة الأهمية النسبية لجزيرة البحرين في العصور القديمة كمركز لمنطقة دلمون التي رددت المصادر المسمارية ذكرها، ومركزًا لحضارة خاصة بها وهي حضارة باربار، فضلًا على كونها جزءًا من حضارة الخليج العربي في مجمله. ب) في الكويت: تركزت أغلب أعمال البعثة الدانمركية منذ عام 1958 في دولة الكويت في جزيرة فيلكا أو جزيرة أكاروس كما سميت بالإغريقية في عهد الإسكندر الأكبر. وقد ذكرتها المصادر الكلاسيكية كمحطة تجارية نظرًا لموقعها الاستراتيجي المناسب عند مدخل الخليج، ولما هيأته من المرفأ الآمن والمياه العذبة لسفن التجارة. وبقيت البعثة فيها على مستويات متعاقبة عادت بأقدم مظاهر سكانها إلى أواسط وأواخر الدهر الحجري القديم وإلى العصر الخالكولتى: النحاس الحجري. وقيل: إن بعضها عاصر الحضارة السومرية في العراق خلال النصف الأول من الألف الثالث ق. م، وحضارة كولى في السند، وما يمتد من العصر الآكدي حتى عهد إسين-لارسا في العراق (من أوائل القرن 33 ق. م إلى أواخر القرن 18 ق. م.) حيث قلت مظاهر العمران لفترات طويلة حتى عاد نشاطها مع عهد الإسكندر والعصر السليوكي الذي مثلت فيلكا فيه مركزًا تجاريًا وحضاريًا جمع إلى صبغته المحلية والخليجية عناصر أخرى إغريقية وهيلينستية وفدت مع نشاط الملاحة والتجارة في هذا العصر وماتلاه. وظلت اتصالات الجزيرة بشبه الجزيرة العربية قائمة وعثر في أرضها على نصوص عربية قديمة. وتعددت الآثار الثابتة في مواقع التنقيب في جزيرة فيلكا وتمثلت في أطلال محلات سكنية وأفران ومواقد وأسوار وحصون، ومعابد محلية مثل معبد إنزاك ومواقع عبادة آلهة الينابيع ومصادر المياه. وأخرى هيلنستية مثل معبد

أرتيميس. وتباينت أطلال هذه الآثار في أحجامها وفي مدى أهميتها. كما تباينت وتداخلت في أزمنتها، لاسيما بالنسبة لمناطق السكن ومراكز العبادة التي أعيد استخدام بعضها جزئيًا أو كليًا في فترات متعاقبة، بحيث قد يضم الموقع الواحد أحيانًا بين آثار من عصور ما قبل التاريخ وبين آثار من العصر الهيلينستى متقاربة من بعضها أو مختلطة مع بعضها وقد لوحظت كثرة استخدام الأحجار في المباني القديمة على عادة بعض أهل جنوب شبه الجزيرة العربية، مع قلة البناء باللبن الذي اعتاده أهل العراق القريبين منهم. وكالعادة احتوت هذه الأطلال على آثار صغيرة منقولة تضمنت أعدادًا من أواني الفخار والأواني الحجرية والأسلحة الصغيرة والأحجار المنقوشة والتماثيل البشرية والحيوانية الصغيرة وقطع من العملات المحلية والهيليستية والعربية القديمة، وعدة آلاف من أختام صغيرة تنوعت بأشكالها وموضوعاتها بين أختام إقليمية مستديرة أنتجتها حضارة الخليج، وأختام أسطوانية قلدت أختام العراق، وأختام رباعية قلدت أختام وادي السند، بل وشكل أحد الأختام على هيئة الأختام المصرية القديمة. ونقشت على هذه الأختام أشكال مختصرة لكائنات بشرية وحيوانية وأشياء طبيعية وزخارف تخطيطية عبرت عن بعض عقائد أصحابها وأخيلتهم وأساطيرهم ومستوى فنونهم. جـ) في قطر: باشرت البعثة الدانمركية أعمالها في الساحل الغربي من قطر. وعثرت على كميات كبيرة من أدوات حجرية صنفتها في أربع حضارات بدائية ترجع إلى فترات من الدهر الحجري المتوسط والدهر الحجري الحديث والعصر النحاسي الحجري. وغلبت على حياة الدهور والعصور حرفة الصيد وحرفة الرعي ثم القليل من الزراعة. ووجدت البعثة رسومًا مختصرة على جوانب الصخور صورت مناظر زخرفية وملاحية وعقائدية. كما وجدت بقايا بلدة يرجع عمرانها إلى أواسط الألف الأول ق. م. د) في دولة الإمارات العربية: ركزت البعثة أغلب أعمالها في أبو ظبي في جزيرة أم النار التي قيل: إنها اكتبست اسمها من كثرة ما وجد بها من أحجار كانت تستخدم محطات لإيقاد النار. ثم اتسع البحث إلى منطقة العين وقرية هيلي. وظهرت شواهد أربع مراحل للعمران في محلات قديمة ذات مساكن منوعة. كما وجدت أعداد كثيرة من رجم المقابر المستديرة الفردية والأسرية، وأرجع أقدمها إلى فترات من الألف الثالث ق. م. وبني أكبرها بالحجر، وصورت على مداخلها مناظر إبل وماشية وحيات. واحتفظت بعض المقابر ببعض مازود الموتى به من أوان وخناجر وأدوات

للزينة، ويحتمل أن أهل جزيرة أم النار القدامى أخذوا في بعض عصورهم بتضحية الأتباع حين دفن سادتهم. هـ) في الساحل الشرقي للملكة السعودية: توزعت الأكوام الأثرية الصغيرة على طول الساحل الشرقي للملكة السعودية في مثل تاج والقطيف وتاروت والعقير والظهران وجبيل. وكان لكل هذه المواضع نشاطها الاقتصادي كمراكز بحرية وبرية لتجارة المرور، فضلًا على تجارتها المحلية. مما دلت عليه كتابات الرحالة والمؤرخين الكلاسيكيين وبعض المصادر العربية القديمة. وعثر فيما عثر عليه على أعداد من التماثيل الطينية الصغيرة لإناث وحيوانات. وقامت البعثة الدانمركية بتجميع أعداد كبيرة من كسر الفخار الخشن والرقيق، والأواني الفخارية والحجرية، ومباخر مربعة - ويبدو أنها كانت من آثار عمران لبلدة عاصرت الحضارة السليوكية أو الهيلينستية. كما عثر على نقش بكتابة عربية جنوبية قديمة في ثاج. وفي شبه جزيرة تاروت على امتداد القطيف تعددت رجم المقابر ذات الشكل المخروطي. ووجدت البعثة الدانمركية آثار عمران متقطع متفاوت قد يبدأ معاصرًا لحضارة العبيد في أقدم طبقاته، ويمتد به الزمن حتى عهد حضارة باربار في البحرين. ويضم مخلفات من الأدوات الحجرية الصغيرة لدهور ما قبل التاريخ، ومخلفات من كسر الفخار. وامتدت البحوث إلى جرها القديمة وهي الجرعاء العربية والعقير الحالية، على أساس ما شهد به الرحالة الكلاسيكيون من ثرائها ونشاطها الواسع في تجارة المرور، الترانزيت، خلال العصر السليوكي. وقد تعددت بالفعل أكوام أثرية كثيرة فيما بين العقير وبين الظهران، واستغلت البعثة الدانمركية ما وجد على سطوحها من كسر الفخار والأواني الحجرية لتصنيفها وتوقيت صناعتها. وفي الوقت ذاته كان لقرب مناطق النفط من الظهران أثر في توجيه الأنظار إلى ما كشف في أرضها مصادفة من الآثار خلال مد الطرق وتعبيدها وحفر الآبار. ونبه بيتر بروس كورنوول إلى أهمية موقعها وضخامة جبانتها القديمة، ونسبها إلى كبار منطقة دلمون الذين شمل نفوذهم البحرين والأحساء. وتفاوتت مقابر هذه الجبانة فيما بينها في سعتها وأهميتها ومحتوياتها. واحتوى أكبرها على توابيت حجرية وجدران مبنية.

و) من كشوف البعوث العربية: حاولت بعض البعثات الوطنية والعربية أن تدلي بدلوها في الكشف عن جوانب من تراث الخليج القديم. فأولت وزارة التربية في البحرين اهتمامها لموقعي الحجر والشاخورة منذ عام 1970، وجرى الكشف عن مقابر يحتمل إرجاعها إلى ما يعاصر العصر الكاسي في العراق. وما يعاصر العصر السليوكي. وهي مقابر مستديرة صغيرة تنتمي لطوائف اجتماعية مختلفة. وغالبًا ما كسيت جوانبها الداخلية بملاط وعلتها قطع حجرية، وأدت إلى مدخلها درجة حجرية أو أكثر من درجة. وأولت دولة الإمارات العربية اهتمامًا بالكشف في أنحائها عن المزيد من المدافن القديمة. ووجدت على بعض أحجار المقابر رسوم هيئات بشرية وحيوانية ومناظر صيد. وتضمنت الآثار المنقولة التي عثر عليها من أوان وكسر الفخار أعدادًا مزخرفة بأشكال حيوانية وتخطيطية على الطريقة المحلية أحيانًا. وبما يقلد بعض زخارف الفخار الخارجية في مثل بامبور وكلى، أحيانًا أخرى. وانصب كثير من الاهتمام في نجد بالمملكة العربية السعودية على منطقة الفاو. وكانت مستوطنة قديمة على الطريق التجاري بين نجران وبين أطراف العراق عبر وادي الدواسر. وكشف فيها عن آثار عمرانها القديم وما تخلف عنه من الأواني الحجرية والفخارية فضلًا عن نقوش نصب المقابر ومخربشات الصخور مما اختلط فيه الأسلوب العربي الجنوبي بالأسلوب العربي الشمالي ويحتمل ربطه إلى حد ما بنشاط مملكة كندة قبل ظهور الإسلام.

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: Bawden, Edens and Miller, Prelominary archaeologcal inves- tigation at Tayma, ATLAL, A 1980 Dayton J.E"The city of tayma and the Land of Edom, 1970- 73 Dougherty R.P, "Tayma.htm's place in the Egypto-Balylonian World of the 6th Century B.C. "Mizraim, 1, 1930 Hamid, J.. Abu- Duruk. Introduction to the ASrchaeologyof Tayma, Riy adh, 1986 Milik, I, Priere de Nabonidus, RB, 63, 1966. 407-15 Oppenheim, L., in ANET, 283-284M308f Winnett and Reed, Ancient Records from North Arabia To- ronto 1970 من المؤلفات المختارة في دراسات ما قبل التاريخ: Bilby, G., Looking for Dil;mum 1970 Arabian Gulf Archaeol- ogy in Kuml 1954, 1964-66 Glob P.V., Archaeological Investigation in Four Arab States, 1959, in Kuml,1954, 100 f., 112f., 1958, 144f Marty, A.H., Prehistory in Northeastern Arabia, Florida. 1974 سليمان سعدون البدر: منطقة الخليج العربي خلال الألفين الرابع والثالث قبل الميلاد- الكويت1974. عبد العزيز صالح: الرحلات الأثرية للعصر الحديث في شبه الجزيرة العربية -دراسات الخليج والجزيرة العربية-الكويت1981، إصدار 4 - ص63 - 72، 77 - 80.

الفصل الثاني عشر: الجماعات العربية القديمة ذات الصلة برسالات الأنبياء

الفصل الثاني عشر: الجماعات العربية القديمة ذات الصلة برسالات الأنبياء أولًا: مدين أبقى على ذكر مدين ما ذكره القرآن الكريم وذكرته التوراة عن ارتباطها بالنبيين موسى وشعيب عليهما السلام. فقد لجأ موسى عليه السلام إلى أرضها هربًا من مصر بعد أن قتل فيها أحد خصومه. وصاهر في مدين رجلًا صالحًا ذكرته التوراة باسم رعوئيل وأطلقت عليه لقب يثرون بمعنى الكاهن. كما ذكرت ابنته التي تزوجها موسى باسم صفورة. وتدل معاصرة مدين لعهد موسى عليه السلام على قدم وجودها وإمكان نسبتها إلى ما قبل القرن الثالث عشر ق. م على أقل تقدير. وكان قومها يتألفون من قبائل متعددة انتشرت في إقليم حسمى وما يمتد منه إلى الشرق والجنوب الشرقي من خليج العقبة. وربما وصلت إبان ازدهارها حتى حدود واحة العلا الحالية في شمال الحجاز. أما النبي شعيب عليه السلام الذي ذكر القرآن الكريم قيامه بدعوة أهل مدين إلى عبادة الله وحده، فمن المحتمل توقيت عهده بأوائل فترات ازدهار تاريخها القديم. وإذا كانت قصة النبي موسى قد دلت على اعتماد بعض قبائل مدين على حرفة الرعي، فإن دعوة النبي شعيب لهم بالتزام الأمانة في الكيل والميزان تعني أن بعض قبائلهم الأخرى اعتمدت على معاملات التجارة في حياتها الاقتصادية. وكان موقع أرضهم يسمح لهم فعلًا بالانتفاع بثلاثة طرق تجارية رئيسية: طريق يتجه نحو شبه جزيرة سيناء وجنوب فلسطين. وطريق يتجه ناحية الجنوب بشعبتين في اتجاه يثرب ومكة. وطريق ثالث شرقًا نحو تبوك وتيماء. وإلى جانب الرعي والتجارة كان في اتساع المنطقة التي انتشرت فيها قبائل

مدين ما جعلها تنتفع كذلك بعدد من الواحات الخصبة في شئون الزراعة، وربما انتفعت أيضًا بساحلها المطل على البحر الأحمر في النشاط البحري. وكانت أكبر واحات المنطقة هي واحة البدع وتركزت حولها أهم جماعات مدين. وأدت كثرة مياهها وكثرة ما ينمو فيها وفيما يمتد منها إلى ساحل البحر من الأشجار ونخيل التمر والدوم، إلى اتجاه بعض المؤرخين المسلمين إلى ربطها باسم الأيكة بمعنى الغيضة أو الشجر الكثيف الملتف، واعتبروها على هذا الأساس هي الأيكة التي ذكر القرآن الكريم أن أصحابها كذبوا المرسلين. ووافق بعض الباحثين الغربيين على فكرة الربط بين أرض مدين وبين الأيكة فعلًا ولكنهم فسروا اسم الأيكة بطريقة أخرى، فاعتبروه النطق العربي لكلمة Leuke التي أطلقها بعض الإغريق على الميناء البحرية الواقعة في أرض مدين حين سموها Leuke Kome بمعني القرية البيضاء، وهو المعنى الذي يشبه اسم ميناء الحوراء أو أملج الحالية الواقعة إلى الجنوب الغربي من واحة البدع. ولا يزال التفسير الأول أي: تفسير المؤرخين المسلمين لكلمة الأيكة هو الأكثر شيوعًا. ويفهم من قصص التوراة أن عداء أهل مدين للعبرانيين بدأ منذ عهد موسى عليه السلام، وذلك ما يمكن تفسيره بما أسلفناه من أنهم تألفوا من قبائل عدة. ربما صادقت إحداها موسى بعد أن تزوج منها، بينما جاهرت القبائل الأخرى قومه اليهود بالعداء بعد أن خشيت منهم على أرضها وتجارتها. وزاد عداء مدين للأسرائيليين حينما زادت أطماع هؤلاء الأخيرين في فلسطين وما يليها جنوبًا على عهد ملكهم شاؤول في نهاية القرن الحادي عشر ق. م. وقد قاومهم المديانيون مقاومة شديدة بحيث ذكرت إحدى الروايات أنهم تمكنوا من بني إسرائيل سبع سنين. وبعد قرون دخلت مدين في طي النسيان، ثم سيطر الأنباط على أرضها بعد أن مدوا نفوذهم التجاري والسياسي من شرق الأردن إلى شمال الحجاز. وعملوا خلال القرن الأول ق. م على توسيع ميناء الحوراء وتحصينها. ولا تزال المقابر التي نحتت في الصخر بجوارها خلال عصرهم تعرف باسم مغاير شعيب وتشبهها بعض مقابر واحة البدع، كما تشبه بقية مقابر الأنباط في بترا وفي مدائن صالح لولا أنها تهدمت إلى حد كبير.

ثانيا: قوم عاد

ثانيًا: قوم عاد اعتاد الرواة والأخباريون الأوائل أن يضربوا المثل في القدم بعاد، واعتادوا على أن ينسبوا إليها كل ما استعظموا شأنه وجهلوا أصله من أطلال القصور والآبار وبقايا الصخور والأشجار القديمة أيضًا. واعتمد أولئك الرواة والأخباريون في بعض ما ذكروه عن قوم عاد على ما جاء عنهم في القرآن الكريم، كما اعتمدوا على تفسير كتبة التوراة ومن تأثروا بهم. ويفيد ما ذكره القرآن الكريم عن قوم عاد أنهم عاشوا في منطقة تعرف بالأحقاف {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ}. وأنهم تميزوا بإرم ذات العماد {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}، وأنهم كذبوا نبيهم هودًا {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. وأنهم كانوا أولي بأس وقدرة {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}. وربما كانوا قريبي الصلة بالثموديين {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}. وأنهم عوقبوا جزاء كفرهم بريح عنيفة أطاحت بكل ما كانوا فيه {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}. ولم يعين القرآن الكريم موضع الأحقاف، ولهذا تعددت آراء المفسرين والمؤرخين المسلمين بشأنها. وذهب بعضهم إلى تعيين أحقاف عاد بمنطقة الأحقاف في حضر موت وزكوا رأيهم بما يعتقده بعض أهل حضرموت من وجود قبر هود في أرضهم ووجود بئر تسمى بئر برهوت رووا أنه كانت تصدر عنها أصواتًا هائلة في العصور القديمة وتخيلوا أن هذه الأصوات قوم هود المعذبين ولكن أضعف هذا الرأي القديم عدة قرائن نذكرها في ص 138 - 4. ومنها أن الروايات الشعبية يصعب التسليم بها دائمًا أو كاملًا دون دليل. فكما قال بعض أهل حضرموت بوجود قبر هود عليه السلام في أرضهم. قال بعض أهل شبه جزيرة سيناء: إن قبره في أرضهم. وإلى جانب رأي من قالوا بوجود الأحقاف في حضرموت، قال رأي آخر: إنها رمال مستطيلة بشحر عمان. وقال ثالث: إنها حشاف من حسمى، والحشاف هي الحجارة في الموضع السهل. وقال رابع بأنها: اسم جبل في الشام. وقال خامس: إنها اسم عام يطلق على أي منطقة إذا عظم رملها واستدار ويقال له: حقف.

وفي اختلاف هذه الآراء ما يدعو إلى عدم التقيد برأي منها ما إلا بعد تمحيصه ووجود أدلة تؤيده. وربط القرآن الكريم بين قوم عاد وبين إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد. فاعتبر بعض المفسرين والمؤرخين إرم هذه مدينة عظيمة وعينوها بالإسكندرية تارة ودمشق تارة أخرى, واعتبرها بعض آخر قبيلة قوية، وكان من هذا البعض الأخير المؤرخ بن خلدون الذي وجه إلى أصحاب الرأي الأول نقدًا لاذعًا. وجعل ياقوت إرم جبلًا عظيمًا في ديار جذام قرب العقبة تنمو عليه الكروم وأشجار تشبه أشجار الصنوبر. وذكر الرحالة القزويني أن قوم عاد عاشوا على هذا الجبل الذي أصبح من منازل طي، وكانت توجد عنده بقايا تماثيل كثيرة ومنازل عديدة. وأدت الكشوف الأثرية الحديثة إلى الكشف عن بقايا عمران متسع فوق وحول جبل إرم هذا بالفعل شرقي العقبة، ومنها معبد أقيم فوق الجبل ترجع بعض نصوصه إلى القرنين الأول والثاني الميلاديين، وأعداد من التماثيل ومن النصب التي تذكر اللات والعزى. وقد لا تتيسر نسبة هذه الآثار إلى قوم عاد بصورة مؤكدة. لولا أن هناك أدلة أخرى تزكي نسبة هؤلاء القوم، قوم عاد إلى شمال شبه الجزيرة العربية أكثر من جنوبها، ومنها أن القرآن الكريم جمع بين عاد وثمود، وثمود شمالية فيما هو شائع، وجعل مواقع عاد قريبة من أهل الحجاز حين نزول القرآن فقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} وقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ}. وربط بعض الشعراء المبكرين بين عاد وثمود، وأطلقوا على ثمود اسم عاد الثانية أخذًا بقول القرآن الكريم: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} - ولم يعترض عليهم معترض. هذا وقد ذكر الجغرافي بطلميوس السكندري في القرن الثاني الميلادي اسمين في شمال الحجاز يمكن الربط بينهما وبين قوم عاد، وهما اسم شعب Oaditae الذي يتشابه مع اسم عاد، واسم Aramaua الذي يتشابه مع إرم ورم وأرام وكلها أسماء تعاقبت لمسمى واحد. ومال بعض المؤرخين المحدثين إلى تفسير ما تواتر لدى أهل حضر موت عن وجود قبر هود عليه السلام عندهم بأنهم وغيرهم من العرب الجنوبيين كان يعز عليهم أن ظهر الأنبياء بين العرب الشماليين دونهم، فاعتمدوا على وجود اسم

الأحقاف في أرضهم ونسبوه إلى عاد، واعتبروا سكانها القدامى قوم هود، حتى لا تكون للعرب الشماليين ميزة عليهم حتى ولو كان قوم هود هؤلاء قد عوقبوا جزاء تكذيبهم له. ولا يبعد مع هذا أن بئر برهوت التي دارت حولها أساطير قوم هود المعذبين كانت فوهة بركان صغير ثائر، خمدت ثورته مع مرور الزمن.

ثالثا: الثموديون

ثالثًا: الثموديون توافر للثموديين حظ كبير من الشهرة بين المؤرخين المسلمين نظرًا لما ذكره القرآن الكريم عنهم. ولمعرفتهم بجزء من أرضهم، وبقاء بعض آثارهم حتى بداية العصور الإسلامية (وما بعدها). وكما سلك القرآن الكريم ثمودًا مع عاد. سلكه كذلك مع قوم لوط وأصحاب الأيكة وسماهم الأحزاب. ووصف الثموديين بأنهم الذين جابوا الصخر بالواد ربما بمعني الذين قطعوا صخر الجبال ونحتوا فيه مقابرهم أو بنوا به بيوتهم. وذكر القرآن الكريم العذاب الذي نزل بهم جزاء كفرهم بدعوة نبيبهم صالح عليه السلام في قوله: {فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}. وأشارت النصوص الآشورية إلى قدامى الثموديين باسم ثمودي منذ أواخر القرن الثامن ق. م واعتبرتهم من أهل البرية، وذكرت أنهم وجيرانهم من الأعراب لم يألفوا الخضوع للملوك ولا للحكام. وليس ما يمنع من أن يكون أوائل جماعات الثموديين قد ظهروا قبل القرن الثامن ق. م. بكثير ولكنهم كانوا يزالون على حال متواضعة من البداوة، بحيث تجاهلهم فيما بعد كتبة قصص التوراة وتجاوزوا عن ذكرهم بينما ذكروا بعض أسماء القبائل التي جاورتهم في البادية مثل قبيلة خايابا وقبيلة عيفة اللتين ذكرتهما النصوص الآشورية مع الثموديين. واتفق المؤرخون المسلمون على أن أهم ديار ثمود كانت بوادي القرى فيما بين الحجاز وبين الشام، ورووا أن النبي عليه السلام مر بجيشه على خرائب ديارهم في الحجر ونهى عن دخولها ربما لتأكيد كره الكافرين أو لأنه توجس أن تكون آبارها وعيونها قد سمت بفعل فاعل للإيقاع بالمسلمين الذين كانوا قد عانوا من شدة حرارة الصحراء في طريقهم إليها. كما تناقلوا القصص عن ناقة النبي صالح عليه السلام ومكان خروجه ومكان محلها ... إلخ. ولسنا على بينة من العهود التي تزايد الثموديون خلالها في شمال الحجاز أو العهد الذي بعث إليهم فيه النبي صالح عليه السلام. ولكن يمكم إيجاز ما عرف

عنهم تاريخيًا في أنهم تألفوا من قبائل وعشائر متعددة وأنهم لم يكونوا دولة مستقرة واضحة المعالم، وأنهم حين انتشروا في شمال الحجاز وسيطروا على بعض أجزائه في وادى القرى بخاصة كانت مدينة الحجر من أهم الحواضر التي عاشوا فيها، وهي مدينة ظنها بعض المؤرخين القدامى مدائن صالح الحالية نظرًا لكثرة آثارها المنحوتة في الجبال، ووضوح التدمير الذي لحق بها، وارتباط اسمها باسم النبي صالح. ولكن كثرة من الباحثين المحدثين حددوها ببلدة الخريبة التي تبعد عن مدائن صالح بنحو عشرة أميال وقد أصاب آثارها هي الأخرى خراب كبير. وبنوا رأيهم على غلبة النصوص الثمودية التي عثر عليها فيها، بينما رجحوا اعتبار مدائن صالح من مناطق الأنباط على أساس غلبة الآثار والنصوص النبطية فيها وإن تضمنت إلى جانبها نصوصًا ثمودية قليلة. وساعد الثموديين على الاستمرار الحضاري أنهم اتصلوا في شمال الحجاز بطوائف متحضرة قديمة فانتفعوا بحضارتها ومنها طوائف ددان ولحيان التي أحاطت ببلدة الخريبة، وعندما امتدوا إلى الشمال أكثر انتفعوا ببعض حضارات جنوب فلسطين كما جاوروا امتداد الحضارة المصرية في شبه جزيرة سيناء. وعندما امتد نشاطهم إلى الجنوب اتصلوا ببعض الجماعات المتحضرة في انحاء اليمن. وكان من أهم ما استفادوا به حضاريًا من هذه الاتصالات المتعددة، هو الكتابة بخط متميز اشتقوه أساسًا من الخط المسند الجنوبي الذي يحتمل أنهم تعلموه عن أهل منطقة ددان ولحيان إن لم يكن عن كتبة الجنوب العربي الذين اتصلوا بهم اتصالًا مباشرًا في شئون التجارة، ثم طعموا هذا الخط ببعض خصائص الخط السينيائي المصري في سيناء. وأصبحت نصوص الثموديين هي الشاهد الحي على مدى انتشارهم، وهي نصوص قصيرة سريعة، ولكنها كثيرة تدل على كثرة من كانوا يعرفون الكتابة بينهم لأغراض التجارة. وقد وجدت نماذجها خارج وادي القرى في تبوك والطائف وفي قلب نجد وشمالها وفي شبه جزيرة سيناء، وفي مناطق متفرقة من شرق الأردن، وفي شرقي دمشق، وفي أطراف اليمن أيضًا، وكل ذلك مما يدل على سعة انتشار قوافلهم وكثرة اتصالاتهم التجارية ولاسيما في العهود المتأخرة في الزمن نسبيًا فيما قبل الميلاد بقليل وفيما بعده بقليل أيضًا. وشاعت بين الثموديين أسماء عربية خالصة مثل: سعد وقيس ومالك ووائل وزيد وأوس وعاصم وعمر وعقرب وواسط وكعب وحارثة، وسعدة ومسكة وسهرة وهانئة ... إلخ.

كما وجدت بينهم أسماء قل استعمالها قبيل الإسلام ويبدو أنهم تأثروا فيها بأسماء من كانوا يخالطونهم من الآراميين وغيرهم ومنها ثريت، وهمل، وببي ... إلخ. وأخذ الثموديون بتعدد المعبودات كغيرهم من الجماعات القديمة ذات الديانات الوضعية، فقدسوا الشمس وودا وكاها وبعلة ومناة ... إلخ. ومن أجل إصلاح هذه العقائد أرسل فيهم نبيهم صالح، ولكنهم خالفوه. وظل لبقايا الثموديين كيانهم حتى غلب الأنباط على وادي القرى، فتفرقوا ولكنهم ظلوا معروفين خلال القرون الأولى بعد الميلاد، فأشار إليهم مؤلف كتاب الطواف حول البحر الإريتري في بادية القرن الثالث الميلادي وذكر أنهم انتشروا في أيامه على ساحل صخري طويل لا توجد به خلجان صالحة تحتمي بها السفن. ويبدو أن جيوش الروم ظلت تتقبل أعدادًا منهم في قواتها المساعدة حتى القرن الخامس الميلادي. وأخيرًا ربط بعض النسابين بين أواخر الثموديين أو نسلهم وبين قبائل ثقيف العربية. ولكن الثقفيين أبوا هذه النسبة واستنكروها. من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: Branden, A. van den Histoire de Thamoud, Les Inscriptions Thamoudeenes de Philby. 1950, Essai de Solution de Probleme Thamoudeens, in BR, 1958 7-12, Studia Islamica, 1957,5-27 Hardings, L., Some Thamudic Inscriptions ... 1952 Iamme, A., Thamudic Studies, 1967 Jaussen et Savignac, op. cit Littmann, E., Thamud and Safa, 1940 Musil. A., The Norethern Hegaz, 1926 Philby, J, The Land of Midian, 1957 Ryckmans, R., in Studia lslamica, 1956, 8 f., Museon. 1959. 177-189 winnett. F.V.. op. cit جواد علي: المرجع السابق. دائرة المعارف الإسلامية-واد ومدين وعاد وثمود.

الفصل الثالث عشر: من الممالك العربية المسقرة

الفصل الثالث عشر: من الممالك العربية المسقرة اولاً: دولة ددان ولحيان ... الفصل الثالث عشر: من الممالك العربية المستقرة أولًا: دولة ددان ولحيان قامت حاضرة هذة الدولة في واحة العلا قرب وادي القرى إلى الشمال الغربي من المدينة المنورة بنحو 328كم، وامتدت منها في عهود ازدهارها إلى ما حولها حتى قرب تيماء. واعتمدت اقتصادياتها القديمة على الزراعة لوفرة المياة الباطنية في واحة العلا وخصوبة أرضها، وعلى التجارة نظرًا لموقعها على طريق القوافل التجاري الرئيسي القديم الممتد في غرب شبه الجزيرة بين معين على أطراف منطقة الجوف الجنوبي وبين أطراف الهلال الخصيب في الشمال. وأطلق اسم ددان في بداية الأمر على الأرض والدولة والشعب، وذكرته قصص من التوراة يرجع أقدمها إلى ما بين القرن التاسع ق. م. وبين القرن السادس ق. م.، كما تضمنته نصوص من الواحة نفسها قد يرجع أقدمها كذلك إلى القرن السادس ق. م. وبعد عهود يصعب تقديرها وربما في القرن الخامس ق. م. عرفت الواحة ودولتها وقبيلتها الحاكمة باسم لحيان، وهو اسم احتفظ به بطن من بطون العرب حتى ظهور الإسلام ثم انصهر في قبيلة هذيل. وتوثقت علاقة لحيان بدولة معين الجنوبية على أساس الاشتراك في المصالح التجارية، ونزلتها جالية من معين كما أسلفنا في الفصل السادس، وانتفعت الواحة من هذه العلاقة بمعرفة خط المسند الجنوبي الذي تطور بعد تحويره إلى الخط اللحياني وكان من أوائل الخطوط المعروفة التي كتبت بها نصوص العرب الشماليين. واتسعت علاقات لحيان بجيرانها في الشام عن طريق البر، وفي مصر عن طريق البر والبحر، بحيث وجدت في لحيان بضعة تماثيل عثرنا على بعضها منذ عدة سنوات في الخريبة المجاورة للعلا، أخذت بالأسلوب الفني المصري القديم ويرجع تاريخها إلى ما بعد القرن الخامس ق. م ويبدو أن أصحابها من حكام لحيان أو أثريائها قد أعجبوا بأمثالها في مصر فانتدبوا فنانين مصريين قاموا بنحتها من الصخر المحلي في

منطقة الخريبة. وجمعوا فيها بين تقاليد الفن المصري في جسم التمثال وبين الملامح وأغطية الرأس اللحيانية في الرأس والوجه. وتوثقت هذه العلاقة بين لحيان وبين مصر في عصر البطالمة، ويبدو أنه قامت مفاوضة بينهما في عهد بطلميوس الثاني في أوائل القرن الثالث ق. م. لخروج المتاجر الواصلة إلى لحيان برًا وبحرًا بطريق مباشر من ساحلها إلى إحدى المواني المصرية المقابلة لها على الساحل الغربيب للبحر الأحمر، وبهذا يقل وصول هذه المتاجر إلى خصوم الطرفين الأنباط والسليكويين في جنوب بلاد الشام. وقد شاركت لحيان في تجارة البحر فعلًا ربما عن طريق ميناء الوجه الموجودة في منطقتها، وكان من أثر نشاطها البحري أن ذكر الرحالة بليني جزءًا من خليج العقبة باسم الخليج اللحياني. وشاعت بين اللحيانيين أسماء عربية خالصة مثل: حمد وعاصم وعنزة وأوس وعمر وحجر ومسلمة. وأسماء نسبوها إلى معبوداتهم القديمة مثل: زيد غوث وبركة غوث وعبد ود وعبد مناة وظهر من أسماء ملوكهم أسماء: هناس بن شهر. وشامت جشم بن لوذان، ومنعى لوذان .. ويبدو أن ازدهار لحيان في القرن الثالث ق. م, أطمع فيها حليفتها دولة معين الجنوبية التي كانت قد بلغت بدورها مرحلة مزدهرة في تاريخها، فمدت نفوذها إليها خلال القرن نفسه، وأصبح للجالية المعينية فيها مكان الصدارة الاقتصادية. وبعد أن كان يرأس الدولة ملوك من أهلها. تولاها ولاة يتلقبون بلقب كبر وقد يشترك اثنان منهم في الحكم فى آن واحد ربما ليكون أحدهما رئيسًا للحيانيين، ويمثل الآخر مصالح المعينيين وملك معين الجنوبي، وأصبحت المنطقة أو واحتها تعرف أحيانًا باسم معن مصرن، وهو اسم أشرنا في الفصل السادس إلى أنه قد يقلد اسم الدولة الحليفة وهي معين من ناحية. ويخصصها بلفظ مصرن من ناحية أخرى ربما بمعنى المصرية على أساس قربها من مصر أو تعاملها الواسع معها. أو بمعنى الحدودية. وغالبًا ما يرجع إلى هذا العهد نص زيد إيل بن زيد ذلك التاجر المعينى الذي ذكرنا في الفصل نفسه أنه أقام في مصر حتى دفن فيها، وكان يتولى توريد البخور وملحقاته إلي معبد السبرابيوم في منف، ويصدر في مقابلة أصنافًا من المنسوجات المصرية إلى بلده، وكما أكرمه المعبد المصري بلقب الكاهن المطهر يبدو أنه منحه قرضًا ليسدد به ديونه، على أن يعتبره مقدمًا لتجارة يستوردها

إليه. وتعهد زيد إيل بالوفاء في موعد معلوم كما وعد برصد جانب من ثروته لبعض المعابد المصرية. وأخذ اللحيانيون في عقائدهم بتعدد المعبودات مثل غوث واللات وبعل سمين وذي غابة وسلمان وكاتب أو سافر. ومن نصوصهم الطريفة نص ذكر أن معبودهم بعل سمين، أي: بعل السماء أو سيدها، حرم أن ترتقي النساء صخرة عالية قام عليها معبده أو قام بجوارها. وإن كانوا في الوقت نفسه قد سمحوا بوجود الكاهنات أفكلت في بعض المعابد، إلى جانب الكهنة أفكل الرجال. وكان لهم معبد حجري واسع توسط منطقة الخريبة المجاورة لواحة العلا ولازالت أطلاله باقية. واستمر اللحيانيون في طريقهم الحضاري حتى امتد نفوذ الأنباط إلى أرضهم وسيطروا عليها بعد أن ضعف شأن اللحيانيين وحلفائهم المعينيين في حمايتها، خلال القرن الأول قبل الميلاد.

ثانيا: دولة الأنباط

ثانيًا: دولة الأنباط كانت دولة الأنباط أكثر اتصالًا ببادية جنوب الشام منها بشبه الجزيرة العربية، حيث قامت كبرى عواصمهم في بترا أو البتراء في شرق الأردن، شأنهم في ذلك شأن الإدوميين الذين سبقوهم في هذه العاصمة نفسها. ولكننا نتناول طرفًا من تاريخ الأنباط هنا، مع تاريخ شبه الجزيرة العربية بناء على ثلاثة اعتبارات، وهي: غلبة الأسماء العربية بينهم، وامتداد نفوذهم التجاري والسياسي والحضاري في شمال الحجاز. ثم ضخامة الآثار التي تركوها في مدائن صالح. ومغاير شعيب. كان الأنباط كما قدمنا قبائل عربية الأصل غلبت عليها في مراحل نشأتها حياة البداوة وحرفة الرعي، وانتشرت بطونها بين جنوب بادية الشام وبين شمال غرب شبه الجزيرة العربية. ووصف المؤرخ ديودور الصقلي حال الأنباط الأوائل في هذه المرحلة فيما قرأه أو سمعه عمن سبقوه بأنهم كانوا بدوًا رعاة لا يعرفون الزراعة ولا يشربون الخمر، وأرضهم أغلبها صخرية وعرة توجد بها بحيرة ملحة تصدر عنها أبخرة حارة وتصعب الإقامة بجوارها، ولكن توجد معها أراض أخرى كثيرة الأشجار والنخيل. وشجع انتشار الأنباط حول طرق التجارة البرية الرئيسية على أن يتطلعوا

إلى مكاسبها، فعمل بعضهم في الإغارة على قوافلها، وعمل بعضهم في حراستها، وعمل بعضهم في المشاركة فيها ثم الانفراد بها. وأدى احتكاكهم بدولة إدوم في جنوب الأردن إلى أن يعتادوا على الاستقرار شيئًا فشيئًا، وأن يمارس بعضهم الزراعة، وأن يستفيدوا بعض الشيء من الحضارة الآرامية إلى أخذ الإدوميون بها. ثم استغل الأنباط ضعف هذه الدولة أمام اعتداءات العبرانيين عليها وسيطروا على أرضها خلال القرن الخامس قبل الميلاد وحلوا محل أمرائها في حكم عاصمتهم التي عرفت باسم رقيم، واسم سلع الذي يعني الصخرة، التي تفصل بين واديين، وقد ترجم الإغريق عن هذا المعنى الأخير باسم بترا فاشتهرت به ولا تزال تعرف بمرادفه البتراء حتى الآن. وهكذا عمل الأنباط بعد استقرارهم في الزراعة كما عملوا في تجارة البر، وربما تطلعوا إلى السيطرة على ما يقربهم من تجارة أيضًا. ولكن جر عليهم نشاطهم في تجارة البر منافسة خلفاء الإسكندر في الشام وآسيا الصغرى منذ أواخر القرن الرابع ق. م. كما جرت عليهن قرصنة البحر وتجارته منافسة البطالمة حكام مصر في العهد نفسه. وعن هذه المرحلة يذكر ديودور الصقلي أن جيش أنتيجونوس أحد كبار القادة من خلفاء الإسكندر في الشرق أراد إرهاب الأنباط وصرفهم عن محالفة البطالمة فأغار على عاصمتهم بترا ونهبها خلال غياب رجالها عنها للغزو أو للتجارة أو للاحتفال بعيد ديني. ولكن الأنباط لاقوا هذا الجيش في عودته وأبادوا أغلب مؤخرته. وأعاد جيش أنتيجونوس الكرة عليهم بقيادة ولده لينتقم منهم فتحصنوا بمدينتهم التي تحيط المرتفعات بها ولا يتيسر دخولها إلا عن طريق ممر جبلي ضيق يمكن أن تحميه القلة من الرجال. وطال حصاره لهم حتى صالحوه على بعض الهدايا فرجع عنهم. وكان أقدم من ذكرتهم قصص التوراة من ملوك الأنباط الملك حارثة الأول، ووصفته بأنه زعيم العرب وقصدت بذلك العرب المقيمين في بادية الأردن، وذكرت له شأنًا في منازعات رؤساء العبرانيين بعضهم مع بعض. غير أنه لم يعثر حتى الآن على نصوص نبطية صريحة إلا من قبيل القرن الثاني ق. م. ثم وضحت أطماع ملوك الأنباط للتوسع قبيل بداية القرن الأول قبل الميلاد. وتعددت معاركهم مع الجيوش السليوكية، وهاجم ملكهم حارثة الثالث دمشق واستولى بجيشه عليها، وسكت فيها عمله رسمية باسمه حوالي عام 85 ق. م. ولكن لم تطل إقامة الأنباط فيها حيث استردها الرومان منهم في حوالي عام 65 ق. م. بعد أن سيطروا على أغلب بلاد الشام. وأدت فترات التوسع الأنباطي إلى أن استزاد أهله من حضارة الآراميين

التي عرفوها في إدوم، وكانت دمشق من أكبر مراكزها، كما ساعدهم على أن يتذوقوا نعيم أهل الحضر. وكان خير ما تعلموه من حضارة جيرانهم هو حروف الكتابة الآرامية التي أسلفنا مراحل تطويرها على أيدي كتبة الأنباط وتميزهم بها، في الفصل الثاني من هذا الكتاب، وكيف أصبحت أساسًا فيما بعد الكتابة العربية. وعلى نحو ما انتفع الأنباط بحضارة الآراميين انتفعوا كذلك بالحضارة الهيلينستية التي تعهدها السليوكيون في سوريا. وعرف الأنباط منها سك العملة، ثم تطوروا بعملتهم واعتادوا على أن ينقشوا عليها صور رءوس ملوكهم. وربما صوروا معها رءوس الملكات أيضًا. أو صوروا مع رأس الملك رأس أمه إذا كان صغيرًا وكانت وصية عليه. وامتد الأنباط مع مسالك التجارة على ساحل الحجاز واستغلوا قوتهم مع ضعف بقايا أهل مدين واللحيانيين فسيطروا على أراضي هؤلاء وهؤلاء خلال القرن الأول قبل الميلاد، وتركزت جالياتهم في محاط القوافل الرئيسية بهذه الأراضي، وقد ذكرنا منها من قبل واحة البدع والحوراء في أرض مدين، والحجر ومدائن صالح وواحة العلا في أرض اللحيانيين. وعندما استتب أمر حكم الرومان في بلاد الشام أيقن الأنباط أن لا سبيل لهم إلى مقاومتهم، وربما تقربوا إلى القائد الروماني أوكنافيوس بإحراق جزء من أسطول خصيمته كليوباتره. ورأى الرومان أن يستفيدوا منهم فاستعانوا بفرقة حربية منهم لمعاونة يوليوس قيصر على التخلص من حصار المصريين له في الإسكندرية، في عهد الملك النبطي مالك الثاني، كما استعانوا بجماعة منهم في حملة آيليوس جاللوس القائد الروماني على بلاد اليمن، وصحبهم فيها الدليل صالح، أوسلي أوسلاء Syllaeus كما تقدم القول بذلك وقد عرف أحد معاوني الملك النبطي عبادة الثاني في العهد نفسه باسم صالح فعلًا، كما نزلت حامية رومانية في ميناء الحوراء التي كانت قد خضعت من قبل للأنباط. وظلت العلاقات بين الرومان وبين الأنباط في جنوب الشام بين مد وجذر، فطورًا يقتطع الرومان أرضًا من الأنباط ويهبونها لليهود، وطورًا يجاملون الأنباط ويزيدون في أملاكهم. وعلى أية حال فقد ازداد اتصال الأنباط بالحضارات الخارجية نتيجة لاتصالهم بالرومان وعملهم في جيوشهم، إلى جانب ما كانوا قد اقتبسوه من الحضارات السابقة عليهم. وسجل الرحالة استرابون للأنباط مأثرة تذكر لهم، فروى عن فيلسوف إغريقي كان يرتبط به برابطة الصداقة، أنه نشأ بين الأنباط ورأى كثيرًا من

الأجانب يعيشون في عاصمتهم ولاحظ كثيرًا من المنازعات تدور بين أولئك الأجانب على حين لاحظ قلة المنازعات بين السكان الأصليين وميلهم إلى حياة السلام ربما لصالح نشاطهم الاقتصادي. وعبر الأنباط عما استطاعوا استيعابه من فنون الحضارات المتنوعة التي اتصلوا بها فيما تركوه من آثار معمارية حفلت بها مدينة بترا في الأردن، ومنطقة مغاير شعيب وواحة البدع في أرض مدين، ثم مدائن صالح إلى الشمال من واحة العلا. ونكتفي هنا بآثار هذه المنطقة الأخيرة أي مدائن صالح. وترجع أهم آثارهم فيها إلى ما بين القرن الأول قبل الميلاد وبين القرن الأول بعد الميلاد. وتتمثل هذه الآثار في نحو مائة مقبرة نحتت وشكلت واجهاتها في السفوح الجبلية بالمنطقة، وتفاوتت فيما بينها في أحجامها وفي مدى فخامتها، وامتازت مجموعة منها تمثل مقابركبار الأثرياء بالضخامة والروعة والارتفاع حتى شابهت واجهات القصور، وإن لم يوجد في بيئتها من آثار بقايا القصور الدنيوية شيء ما يرقى إلى مستواها. وقد جمع طرازها المعماري وزخارفها بين الأسلوب المحلي وبين أساليب مصرية وهيلينستية ورومانية. ولا زال أهل المنطقة يصرون على تسمية أمثال هذه المقابر الفخمة القديمة باسم القصور، وذهب خيالهم في تصور أصحابها كل مذهب، فهذا في زعمهم قصر البنت، وذلك قصر أبي البنت، وثالث قصر الصانع، ورابع أطلقوا عليه اسم المجلس، وهلم جرا، أما النصوص النبطية التي نقشت على واجهات هذه المباني فهي لا تترك مجالًا للشك في كونها مقابر، ولكنها مقابر تدل على ما بلغه أهلها من تنعم وثراء وما بلغه عصرها من تحضر ورخاء. ويوجد في نفس المنطقة معبد استغل الأنباط له مغارة طبيعية في جوف صخرة ذات قمة تشبه القبة، وشكلوها على هيئة بهو كبير (12×10×8 أمتار) يطلق الأهالي عليه اسم الديوان. وأخذ الأنباط بما أخذ به أغلب العرب قبل الإسلام من تقديس هبل والعزى واللات وذي الشرى وشيع القوم ... إلخ. وبعد هذا التاريخ الحافل، الذي تضمنت بترا في الأردن أضغاف ما تضمنته مدائن صالح من آثاره. قضى الرومان على اسقلال الأنباط حوالى عام 106 بعد الميلاد وسيطروا على عاصمتهم بترا في عهد الإمبراطور الروماني تراجان. وتحولت أرضهم بعد ذلك إلى مجرد ولاية خضعت للنفوذ الروماني واندمجت فيما سمي باسم الولاية العربية Provinca Arabia وإن خصوها بعد ذلك هي والأراضي التي تقع إلى جنوبها باسم منطقة بترا العربية أو المنطقة العربية الصخرية Arabia Petraea، وبعد أن كان الأنباط يؤرخون نصوصهم في عهود

استقلالهم بأسماء ملوكهم وسنوات حكمهم، أصبحوا يؤرخونها ببداية تبعية دولتهم لإمبراطورية الرومان. وعلى أية حال فقد انتشرت النصوص النبطية القصيرة في عهود استقلال أهلها ثم في عهود حكم الرومان لأرضهم أيضًا، في مناطق كثيرة متباعدة دلت على سعة انتشار أصحابها مع مسالك التجارة، فوجدت في أماكن متعددة من شمال شبه الجزيرة العربية ووسطها وجنوبها، وفي جنوب الشام، وفي سيناء، وفي صعيد مصر، بل ووجدت نصوص قليلة في نابولي وروما في إيطاليا، وهذه الأخيرة نصوص ربما تركها أصحابها تذكارًا لزيارتهم لعواصم الإمبراطورية الرومانية أو خلال فترات تجنيدهم في جيوشها. وقد فعلوا نفس الشيء لبعض الوقت في ظل الإمبراطورية البيزنطية الشرقية التي ورثت الرومان في حكم الشرق. وظل كيان الأنباط واضحًا حتى القرن الرابع الميلادي ثم اندمجوا بعد ذلك فيمن خالطوهم من السكان في المناطق العربية وغير العربية. من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: Abdel- Aziz Saleh. Some Monuments of North- Western Arabia in Ancient Egyptian Style, Bull, of the Faculty of Arts Caro Univ., 28, 1970,1-31 Albright, W.F., Dedan, 1953 Branden, A. van den. Les Inscriotions Thamoudeennes. 1950 Histoire de Thamoud, Essai de solution de Probleme Thamoudeens BR, 1958, 7-12 Cantineau, j., Le Nabatenn, Paris 1931 f Cakel.W., Lihyan und Lihyanisch, 1953 Hammond Ph. C., The Nabataeans., 1973 Kennedy, A.B. Petra, its History and Monuments, London 1925 Krammer, A., Perta et la Nabatene, Paris 1929 Jaussen et Savignac, Mission Archeologique en Arabie, 4 vols, Paris, 1904-1920 Philby, The Land of Midian, 1955 Riddle, J. M.,Politcal History of the Nabatans.., 1961 Starcky, J., The Nabataens, 1955 Winnett. F.V., A Study of the Lihyanite and Thamudic Inscriptions. Toronto, 1937

الفصل الرابع عشر: من ممالك الأطراف العربية

الفصل الرابع عشر: من ممالك الأطراف العربية أولًا: مملكة الحيرة نسبت هذه المملكة العربية إلى تنوخ تارة، وإلى لخم تارة ثانية، وسمي ملوكها باسم بنى نصر تارة واسم المناذرة تارة أخرى, وكان لكل تسمية من هذه التسميات ما يبررها في مرحلة ما من مراحل تاريخ دولتها. وكان لقبائل تنوخ دورها في قلب شبه الجزيرة العربية، كما انتشرت بطونها إلى ما بين بادية العراق وبادية الشام منذ القرون الميلادية الأولى. وتعين عليها خلال هذا الانتشار أن تحسب حساب دولة تدمر القوية التي أشرفت على طرق التجارة في الباديتين وحققت لنفسها شهرة كبيرة تجاوزنا عن دراستها هذا حيث هي أقرب إلى الدراسة مع تاريخ بلاد الشام لصلتها الوثيقة بأحداثها وثقافتها الأرامية التي جمعت بينها وبين أصولها العربية. ويبدو أن الأمور لم تسر هيئة دائمًا بين الفريقين، التدمريين والتنوخيين، مما انعكس صداه على ما صورته الروايات العربية من تنافس ومكائد بين ملكة تدمر التي أطلقت عليها تجاوزًا اسم الزباء وبين ملك تنوخ جذيمة الأبرش. وأحاط الغموض بالتفاصيل الفعلية لهذا التنافس لا سيما وأن الروايات العربية قد اختلفت في تصويره وخلعت عليه ثوب الأساطير. ولكن التاريخ قد سجل إلي جانب هذا أن دولة تدمر أتت خاتمتها على أيدي الجيوش الرومانية في عام 273م. مما كان من شأنه أن يفسح السبيل أمام التنوخيين ليحاولوا القيام بدور التدمريين وأن بجربوا حظهم مع الدولتين المتسيطرتين على شئون الشرق حينذاك وهما دولة الفرس الساسانيين ودولة الرومان. ودل على الحالة الأولى للتنوخيين. أي حالة انتشارهم في بادية الشام وبادية العراق مصدران. فذكر الجغرافي بطلميوس السكندري في القرن الثاني الميلادي اسم شعيب يشبه اسم التنوخيين وهو Tanuetiare or Thanuitae بين إمارات أو شعوب شمال غرب شبه الجزيرة العربية. كما عثر في قرية أم الجمال

بشرق الأردن على نصب أقيم على قبر رجل يدعى فهر بن سلى تلقب بلقب مربي جذيمة ملك تنوخ. وكان الملك جذيمة هذا الذي أشار النص إليه من أوائل ملوك تنوخ الذين احتفظ المؤرخون المسلمون بذكراهم، وجعلوا من قبله على رئاسة تنوخ مالكًا بن فهم الذي يحتمل أن يكون تلاه عمر بن فهم، أو تلاه جذيمة نفسه. ولقبوا جذيمة بالأبرش والوضاح ونسبوا إليه فتوحات واسعة، ووصفوه جذيمة نفسه. ولقبوا جذيمة بالأبرش والوضاح ونسبوا إليه فتوحات واسعة، ووصفوه بأنه كان ثاقب الرأي، بعيد المغار، شديد النكاية، ظاهر الحزم، وأول من غزا بالجيوش، فشن الغارات على قبائل العزب. ولو أن بعض الأوصاف قد خلعت أيضًا على غيره من كبار الملوك، أي أنه ليس من ضرورة إلى التسليم بحرفيتها. ثم جعلوا نهايته في مكيدة دبرتها له ملكة تدمر واحتفظ الأدب العربي بذكراها. وإذا صح ما رواه بعض المورخين المسلمين من أن ملك جذيمة قد امتد فيما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتها وعين التمر وأطراف البر إلى الغمر والقطقطانة وخفية وما والاها، لدل ذلك على أن قومه قد بدأوا محاولتهم مع الفرس في عهده أو من قبيل عهده ليسمحوا لهم بأن يقيموا على أطراف العراق. وأضاف المؤرخون المسلمون ما يعني أن هذه الإقامة لم تتم بسهولة حيث ضاق الفرس بكثرة من أتت تنوخ بهم من العرب، فضيقوا عليهم حتى كره بعضهم الإقامة، ومنهم قضاعة، فنزحوا، وبقي بعض آخر عملوا على أن يثبتوا أقدامهم فيما نزلوا عليه، وكان منهم لخم وترأسهم حينذاك ملوك بني نصر الذين جعل المؤرخون أولهم عمرا بن عدي، واعتبروه من أقرباء جذيمة وقد يكون بن أخته. ومع هذه الرغبة في الاستقرار أخذ عمران الأنبار والحيرة في الاتساع، وكانت كل منهما مدينة حدودية دل اسمها على ما أنشلت في الأصل من أجله فنشأت الأنبار بمعنى المستودع كمركز حدودي لإمداد الحاميات العسكرية بالمؤن، منذ القرن الميلادي الأول، ثم اتسعت ودعمت أسوارها. وقامت الحيرة بدور مشابه ففسر اسمها الآرامي حيرته بنفس ما فسر به اسمها العربي الحيرة بمعاني المخيم والمعسكر والحصن وموضع الإقامة ... إلخ ويبدو أنها كانت أقدم عهدًا من الأنبار، كما قدر لها أن تصبح أكثر شهرة منها. وصور انطلاقة هؤلاء القوم في مرحلتهم الثانية لكي يتزعموا من حولهم من العرب والأعراب ولكي يشغلوا في باديتي العراق والشام ما كانت تشغله من قبل دولة تدمر، ويستفيدوا من كل من الفرس والرومان ثم الروم، نص لملكهم

امرئ القيس بن عمرو المتوفى في عام 328م، وجد منقوشًا بالخط الأنباطي المتطور على نصب أقين فوق قبره في منطقة النمارة إلى الجنوب الشرقي من دمشق، وقيل فيبه عن صاحبه: إنه كان ملكًا على العرب كلهم وأنه أحرز التاج وحكم الأسديين والنزاريين والمعديين، وشتت قبائل مذحج، وحاصر نجران مدينة شمر، وولى أولاده على القبائل واستعان بهم الفرس والروم أو جعلهم فرسانًا للروم. وقد أسلفنا في الفصل العاشر. أن امرأ القيس هذا قد عاصر أواخر أيام ملك عربى جنوبي لا يقل عنه اقتدارًا وطموحًا وهو شمر يهرعش الثالث ملك سبأ وذوريدان، وكانت جيوش شمر قد انطلقت من نجران إحدى قواعده العسكرية فتحالفت مع قبائل مذحج في منطقة الأفلاج في وسط شبه الجزيرة العربية وعملت على التوسع في المنطقة الشرقية على الخليج العربي وأطراف العراق. وعندما ظهرت قوة امرئ القيس شن هجومه المضاد فشتت قبائل مذحج حلفاء شمر يهرعش وحاصر نجران التابعة له. ولعله وجد العون أو وجد الخضوع من قبائل عربية متفرقة مما سمح له بأن يدعى في نصه حكم قبائل أسد ونزار معد. وشيئًا فشيئًا اكتفى اللخميون بالولاء للفرس دون الرومان، وتقبل الفرس استقرارهم في الحيرة وفي الأنبار وما حولهما ليعدلوا الكفة في مقابل ملوك الطوائف في العراق، ويقوموا بدور الدولة الحاجزة لحماية الحدود وقوافل التجارة من شغب أبناء عمومتهم من بدو الصحاري. ونجح ملوك الحيرة في القيام بدورهم، وثبت أقدامهم ما يروى من أن يزدجرد ملك فارس قد ائتمن النعمان الأول ملك الحيرة 388 - 418م على تربية ولده بهرام جور في ظاهر الحيرة، فرباه مع ولده المنذر، وقيل: إنه أدبه بآداب العرب، وكانت فرصة ذهبية لتقارب البيتين الحاكمين. وازدادت من جرائها سلطة النعمان وزاد جيشه واتسع ثراؤه ونسب إليه إنشاء قصر الخورنق. وزاد في الوقت نفسه ولاؤه للفرس وشن الغارات باسمهم على حدود أملاك الروم في بلاد الشام. وإن روى بعض المؤرخين أنه زهد في نهاية حياته وتنسك وترك لولده المنذر ملكًا مكينًا. وعندما توفي يزدجرد في عام 421م أراد عظماء الفرس أن يقصوا أولاده عن عرشه، فاستغل المنذر الفرصة وانتصر لبهرام جور وعاونه بفرقته العربية الضارية دوسر أو بفرقتين، على بلوغ عرشه، وحمد بهرام جور له هذه المبادرة وردها إليه مضاعفة وخلع عليه لقبين تشريفيين لابد أنهما اعتبرا مكرمة منه تزيد من سمعة المنذر بين الفرس والعرب وهما: رام أفزود يزدجرد بمعنى الذي أزاد سرور يزدجرد، ومهشت بمعنى أعظم الخول.

وأظهر عرب الحيرة كفايتهم في قتال جيوش الروم وحلفائهم، وحدهم تارة وفي صفوف الفرس تارة أخرى. وكان أشد ملوكهم ضرابًا ونجاحًا المنذر الثالث 512 - 554م الذي نسبه المؤرخون المسلمون إلى أمه ولقبوه بلقب ابن ماء السماء، ورأى بعض الباحثين أن اسم ماء السماء هذا محرف عن اسم ماوية أو مارية، كما أطلقوا عليه لقب ذي القرنين ربما لأنه كان يرسل ضفيرتين على جانبي رأسه، أو لرغبتهم في تشبيهه بذي القرنين نظرًا لاتساع فتوحه مثله. وتتابعت حروب المنذر على فترات منقطعة منذ عام 519 حتى عام 554م، أي خلال 35 عامًا، ونستطيع أن نتجاوز عن تفاصيلها لنذكر ما يروى من أنه استطاع في أوائلها أن يكتسح بادية الشام من حدود العراق إلى أنطاكية، الأمر الذي جعل قيصر الروم يوفد إليه رسله من القساوسة ليفاوضوه في إطلاق بعض من أسرهم من قادته الكبار أو يقنعوه بقبول الهدنة أو يغروه بالانقلاب على الفرس والانضمام إلى صفوفهم. واتصلت أسباب المودة بين المنذر وبين ذي نواس الحميري كما أسلفنا في الفصل العاشر، وابتغى هذا الأخير أن يحالفه، ولكن تصادف أن وصلت رسالته في حضور قساوسة الروم عند المنذر ففسروها بأنها تحريض منه ضد نصارى الحيرة، وألبوا العالم المسيحي عليه. وعندما احتفل أبرهة الحبشى بانتهاء العمل في إصلاح سد مأرب أوفد المنذر إليه مندوبًا عنه لحضور حفله في عام 543م. وهكذا خرج عرب الحيرة بشهرتهم عن نطاق الإقليمية والتبعية. والواقع أنه لم يفسد على دولة الحيرة أمرها في عهد المنذر الثالث إلا عداؤها لفريقين من العرب وهم الغساسنة وبنو كندة. فقد كان كل منهم أدرى بحرب الآخر، وكل منهم يعرف عن أسرار الصحراء ودروبها ما يعرفه الآخر. وكان على رأس بني غسان فيما يعاصر عهد المنذر، الحارث بن جبلة، ولم يكن أقل جرأة واقتدارًا منه، فاتصلت الحروب بينهما للأسف أكثر مما اتصلت بين الروم وبين الفرس، وعقد الروم والفرس أكثر من هدنة وصلح، ولكن المنذر والحارث لم يعترفا بهدنة أو صلح، وكما غزا المنذر أرض الشام غزا الحارث أرض الجزيرة في العراق، وهكذا أعمت المطامع بصيرة هذين الزعيمين. وانتهى الأمر بقتل المنذر حوالي عام 554م في موقعة حليمة أو موقعة الحيار قرب قنسرين كما سيرد تفصيله بعد قليل. أما قبائل كندة فقد غدوا حينذاك قوة يخشى بأسها في قلب شبه الجزيرة العربية كما سنتناول ذلك بعد صفحات، فاستغل الفرس طموحهم لإضغاف شوكة ملك الحيرة بعد أن ارتفع شأنه، وتوقعوا أن يؤدي به طموحه إلى الإضرار

بمصالح دولتهم أو الخروج عن طاعتها، فتركوه يستنفذ قواه ضد الحارث بن عمرو ملك كندة ثم عزلوه، وولى قباذ ملك فارس الحارث الكندي على الحيرة في حوالي عام 524م-ولجأ المنذر إلى بعض القبائل العربية التي بقيت على الولاء له وخرجت عن نفوذ كندة. ثم استرجع حكم دولته بعد أربع سنوات، وظل العداء قائمًا بينه وبين كندة بعد فشل الحركة المزدكية. وتعاقب على حكم الحيرة عدة ملوك اشتهر منهم عمرو بن هند 554 - 574م الذي ألمح الأعشى في شعره إلى أن نفوذه امتد ما بين عمان وبين ملج في أرض اليمامة من بلاد بنى جعدة. وكان قد استغل ضعف كندة فوسع نفوذه على حسابها وتحاربت قواته مع تميم وطيء وتغلب وغيرها. واشتهر كذلك النعمان بن المنذر 583 - 605م الملقب بلقب أبي قابوس، واشتهر أمره عند المؤرخين العرب بأقاصيص كثيرة ووصفوه بفصاحة اللسان على الرغم من دمامة خلقته، وكان بلاطه مجمعًا للشعراء فمدحه المقربون إليه منهم وأهمم النابغة الذبياني وهجاه المبعدون عنه. وحاول أن يمد نفوذه من البحرين شرقًا إلى جبل طيء غربًا. غير أن الحروب التي شنها لم يكتب له التوفيق في أغلبها سواء ضد الغساسنة، أم ضد القبائل العربية الأخرى. فذكرت الروايات أن جيوشه انهزمت أمام بني يريوع مرة، وأمام بني عامر مرة، وأمام تغلب مرة أخرى. وكذلك كان حظه سيئًا مع كسرى ملك الفرس بعد أن أوقع خصومه بينه وبينه، فتمكن كسرى منه وسجنه، وتغرق أنصاره عنه، ومات في سجنه. كان النعمان الثاني هو آخر الملوك العظام في الحيرة، وقد اختلف أولاده على الحكم بعد موته، واستغل كسرى ملك الفرس اختلافهم فولى على الحيرة ملكًا من غير أسرتهم وهو إياس بن قبيصة الطائي وكان من كبار عرب العراق الذين أقطعهم الفرس إقطاعيات واسعة، ووثق به كسرى كما وثق به النعمان نفسه وجعله نائبه، فلما ولي الحيرة في عام 605م عاون جيوش الفرس ضد جيوش الروم ليثبت أنه ليس أقل كفاية من المناذرة في نصرتهم، ولكن التوفيق جانبه في علاقاته بأهل الحيرة وجيرانها بحيث قيل: إنه أمضى أغلب عهده القصير الذي لم يزد عن تسع سنوات حتى 614م خارجها، وتجرأت القبائل العربية على حدود العراق في عهده سواء بتحريض أنصار المناذرة أو لاضطراب الأمور في فارس نفسها. وحدث أن نشبت حينذاك موقعة خالدة بيبن عرب شبه الجزيرة العربية وبين أعوان الفرس، وكان إياس هو مندوب كسرى في قيادة أعوانه من الفرس والعرب الخاضعين له، فانهزم هو وجنوده، وكانت هزيمتهم بمثابة ضربة لسمعة

فارس نفسها، ولعلها كانت من الآيات المبشرة للعرب بأن الاستبسال يمكن أن يعوض قلة العدد في مقاومة إحدى الدولتين الكبيرتين اللتين حكمتا الشرقين الأدنى والأوسط في ذلك الحين وهي دولة الفرس. اشتهرت واقعة هذه الحرب باسم واقعة ذي قار، وقص المؤرخون المسلمون من أخبارها أن النعمان الثاني حينما تخوف من غدر كسرى به ترك بعض ودائعه من الأموال والأسلحة عند هانئ بن مسعود الشيباني، أو هو هانئ بن قبيصه بن مسعود في رواية الطبري، أحد رجالات ربيعة وبكر بن وائل، فلما مات النعمان في سجن الفرس كلف كسرى إياسًا بن قبيصة عامله على الحيرة بأن يستردها من هانئ فرفض هذا الأخير أن يفرط فيما اؤتمن عليه. فأمر كسرى بإعداد جيش من الولايات الفارسية والعربية الحدودية وأمر عليه إياسًا بن قبيصة كما ذكرنا. وتلاقى هذا الجيش مع قبائل بكر وحلفائها في منطقة ذي قار على مبعدة قليلة من الحيرة. واستظهر الفرس وأعوانهم على العرب في يومهم الأول نظرًا لكثرة أعدادهم وما استعانوا به من الفيلة، ولتهيب بعض العرب منهم، ولكنهم ما لبثوا حتى جزعوا من شدة الهجير واحتمال تعرضهم للعطش فتقهقروا وكانت بداية النصر للعرب فتبعوهم وشاركت النساء الرجال في شحذ العزائم، بل وصحت ضمائر بعض القبائل العربية المظاهرة للفرس فاستعدت للتخلي عنهم حين يجد الجد، وفي بطحاء ذي قار توالت أيام قليلة وجليلة تحطمت فيها عزائم جيوش الفرس وأتباعهم من شدة هجمات العرب وشدة العطش حتى هزموا هزيمة منكرة في عام تفاوتت آراء المؤرخين في تحديده بين 609م و 611م. وعن هذه الموقعة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذا أول يوم انتصفت العرب فيه من العجم وبي نصروا". وليس ما يعرف عن مصير إياس بن قبيصة بعد هذه الموقعة إن كان قد استمر على حكم الحيرة لفترة بعدها أم عزله كسرى بعد أن خاب أمله في إخلاص العرب لحكمه. وعلى أية حال فقد حكمت الحيرة17 عامًا أو نحوها 614 - 631م بحكم فارسي مباشر. ووليها فارسي يدعى آزادبة عجز عن أن يبسط نفوذه على ما في خارجها، كما نافسه في عامه الأخير شاب من نسل المناذرة يدعى المنذر ويلقب بالمغرور، ثم أتت نهايتهما معًا بالفتح الإسلامي في عام 632م أو 633م. تلك كانت الخطوط العامة للاتجاهات السياسية والحربية لدولة الحيرة. أما حياتها الاجتماعية، فأهم ما يذكر لها أنها جمعت بين تقاليد العرب وبين رفاهة الفرس، فتتوج ملوكها بالتيجان على عادة الأكاسرة، وأمروا بالحجاب بينهم وبين الناس مثلهم، واتحذوا الروادف أشبه الوزراء أو النواب، وفتحوا بلاطهم للأدباء

والشعراء. أما عاصمتهم فاتسعت هي وما حولها لطوائف شتى، من اللخميين أهل الطبقة العليا، والأحلاف الذين لحقوا بهم، والعباد من النصارى، وجماعات من أهل العراق الأصليين، وجاليات وموظفين كبار من الفرس، فضلًا على أعراب الضاحية أصحاب المظال ومضارب الشعر والوبر والأخبية الذين لم يسكنوا بيوت المدر في الحيرة وانتشروا حولها. وتعددت الحرف بتعدد هذه الطوائف بين الزراعة والرعي والتجارة والصناعة ومنها صناعات النسيج المتنوعة، وكان أفخرها يطرز بالقصب وسلوك الذهب، وصناعات الحلي والأسلحة وما عداها. وتعددت المذاهب الدينية بين الوثنية والمجوسية والزرادشتية الفارسية واليهودية والمسيحية. ووجدت المسيحية مجالًا رحبًا بين هذه الديانات وأخذت بالمذهب النسطوري أكثر من المذهب اليعقوبي، وأقيمت من أجلها أديرة عدة، وعرف أتباعها باسم العباد أو العباديين ربما نسبة إلى لفظ عبد الذي يربط بين الإنسان وبين ربه أو نسبة إلى كلمة عابد. وكان لموقع الحيرة واتصالاتها التجارية والظروف التي أدت إلى احتكاك أهلها بغيرهم من الإمارات والجماعات سلمًا وحربًا، أثر في انتفاعها بالثقافات العراقية والآرامية السريانية والفارسية والبيزنطية فضلًا على العربية، وكان فيها كتبه كثيرون يكتبون بالخط الشرقي، وكتاتيب تعلم الصبية ويلحق بعضها بالأديرة. ونسب المؤرخون المسلمون إلى ملوك الحيرة كثيرًا من القصور، فنسبوا إلى أحد النعمانين النعمان الأول أو الثاني بناء قصر الخورنق بظاهر الحيرة كما تقدم، بينما رد بعض الباحثين المحدثين تشييده إلى عصر أقدم من عصر استقرار اللخميين في الحيرة، ثم زاد عليه ملوكهم، وقيل: إن بعض أجزائه وقبابه ظلت قائمة لفترة طويلة في العصور الإسلامية بعد أن جددت أكثر من مرة, ونسبوا إليهم قصر السدير ويمثل بقبابه الثلاثة المتجاورة نموذجًا لفن البناء الحيري، ويتألف مجلسه الرئيسي من إيوان يحف به كمان أو قاعتان، ونسبوا إليهم قصورًا كثيرة أخرى تتفق مع ما علموه عن ثرائهم وتحضرهم، ولم يتركوا قصرًا منها دون قصة أو أسطورة دارت حوله وميزته عن غيره. ونسبوا إلى أحد النعمانين قصة سنمار البناء وجزائه المشلوم، وقصة يوم السعد ويوم البؤس، وتحدثوا عن مقتل عبيد بن الأبرص في يوم البؤس، ونجاة حنظلة الطائي في اليوم نفسه، وما إلى ذلك مما زخرت به كتب الأدب العربي وعبرت فيه بالشعر والنثر عن كثير من النواحي الطيبة والنواحي السيئة في الحياة العربية قبل الإسلام. ورووا أن

النعمان الأول تنسك وساح في الأرض. وأن المنذر بن ماء السماء تنصر، وأن النعمان الثاني ولد من أم ذات أصل يهودي. وعلى الجملة ظلت أيام ملوك الحيرة مجالًا خصبًا لرواة العرب يمزجون فيها بين الواقع وبين الخيال، نظرًا لما تواتر إليهم عن ثرائهم ورفاهيتهم وقوة جيوشهم وقوافلهم، واتصالاتهم بالدولتين الكبيرتين دولة الفرس بالتبعية ودولة الروم بالعداء، وهي صفات لم يكن ينافسهم فيها من ملوك العرب الشماليين أكثر من ملوك بني غسان.

ثانيا: دولة الغساسنة

ثانيًا: دولة الغساسنة قام الغساسنة على أطراف جنوب الشام وما يمتد حتى منطقة الجولان جنوبي دمشق، بمثل الدور الذي قام به اللخميون المناذرة على أطراف العراق. أي: بتكوين دولة حاجزة ووسيطة على أطراف بادية الشام تدين بالولاء لدولة الروم البيزنطية وتنتفع منها وتعمل باسمها، وكانوا أحدث عهدًا من المناذرة بنحو قرنين من الزمان. كما كان أتباعهم أقل استقرارًا في حواضرهم من أهل الحيرة. وربما كانوا أقل ثراء وبذخًا أيضًا من المناذرة، وأخذ المسيحيون منهم بالمذهب المونوفيستي اليعقوبي دون المذهب النسطوري الذي أخذ به أغلب مسيحيي الحيرة. أطلق المؤرخون المسلمون على القبائل التي انتسب الملوك الغساسنة إليها اسم آل جفنة وآل ثعلبة فضلًا عن آل غسان. وذكروا أن غسان كان اسم ماء نزلوا عليه فسموا باسمه. وأضافوا أنهم نزلوا في جنوب الشام بجوار قبائل عربية قوية تدعى قبائل الضجاعمة، وهي من قضاعة، استخدمها الروم البيزنطيون في حماية حدود أملاكهم الصحراوية، فخضع الغساسنة لها حينًا وتألبوا عليها حينًا حتى أجلوها عن مواضعها فتفرقت وورثوها في أرضها وفي شهرتها، وحينذاك أقرهم الروم على مكانتهم التي حصلوا عليها بسيوفهم، ليعملوا باسمهم على مناطق الحواف وفي قوافل التجارة. وكانوا يخصصون لهم بعض موارد الشام المالية ليستعينوا بها في تقوية إمارتهم ونفقات جيشهم. وذكر المؤرخون عددًا كبيرًا من الحكام الغساسنة تراوح بين الأحد عشر وبين الاثنين والثلاثين، وخلعوا عليهم ألقاب الملوك. ولكن يذهب الترجيح إلى أن عددًا من حكامهم الأوائل لم يكونوا أكثر من مشايخ قبائل كيسار خلع البيزنطيون عليهم لقب Phylarchos بمعنى وال، ولقب Patrieius بمعنى أب أو بطريق

وهكذا كان شأن أواخرهم الذين لم يزد أمرهم عن كونهم امراء أو شيوخًا وإن أطلق عليهم الرواة ألقاب الملوك. ولم يتضح شأن الحكام الغساسنة في المحيط السياسي قبل أوائل القرن السادس الميلادي، وكان أشهر من احتفظت الروايات البيزنطية والعربية بأعماله منهم الحارث الثاني ابن جبلة، وولده المنذر. طال حكم الحارث الثاني بن جبلة واحدًا وأربعين عامًا 528 - 569م. عاصر فيها الإمبراطور يوستينيانوس، أو جستنيان، في بيزنطة، والمنذر الثالث ملك الحيرة، وكان كفئًا لهذا الأخير طموحًا مثله بدأ حروبه معه منذ العام الأول من حكمه 528م، ليس فقط كممثلين للدولتين الكبيرتين المتنافستين دولة الروم ودولة الفرس. ولكن للتنافس بينهما كذلك على السيطرة على المناطق التي أطلقت المصادر البيزنطية عليها اسم Strata وتمتد فيما يرى نولدكه على جانبي الطريق الحربي من دمشق حتى سرجيوس إلى الشمال من تدمر. وتعاقبت الانتصارات والهزائم بين الجانبين وكانت ضاربة عنيفة كما أسلفنا في الحديث عن تاريخ المناذرة، وبحيث قيل: إن المنذر أسر ولدًا للحارث في عام 544م وذبحه قربانًا للعزى، وأسر الحارث ولدين للمنذر في موقعة أخرى في العام نفسه، واستمر الحال هكذا حتى قتل المنذر قرب قنسرين عام 554م، وقتل في نفس الموقعة ولد آخر للحارث، ومع ما كان في هذا التنافس من دمار مؤسف للقوتين العربيتين، ازداد سلطان الحارث مؤقتًا في أرضه وامتد نفوذه من جنوب الأردن حتى الرصافة في شمال بادية الشام، واشتهرت من مدن دولته البلقاء والصفا وحران. ولقب نفسه بلقب ملك وقيل: إنه تتوج بتاج عوضًا عن الإكليل الذي سمح الروم به لأسلافه، حتى لا تكون لخصومه المناذرة ميزة عليه، وربما أقره الإمبراطور البيزنطي على لقبه وتاجه حين زاره في القسطنطينية عام 563م ليستأذنه في تعيين خليفته المنذر، ونعلق هذا على الاحتمال لاختلاف المؤرخين بشأنه. على أن الواقع أن العلاقات بين الروم وبين الحارث الغساني لم تكن خالية من الشوائب دائمًا، فهو وإن أخذ وقومه بالمسيحية مثلهم إلا أنه كان يأخذ بالمذهب المونوفيستي اليعقوبي ويناصره كما أسلفنا دون المذهب الذي يناصره الروم، وكان في هذا ما أثار حفيظة بعض قساوسة الروم ضده وشكهم في ولائه لهم. وقد اتهموه بالخيانة خلال اشتراكه مع جيش بليزاريوس في حرب الفرس في عام 541م حين تراجع عن صفوف الحملة بعد أن عبر معها نهر دجلة، إما عن أنفة من التبعية له في الجيش أو نتيجة لخصومة شخصية بين القائدين. وأعقب الحارث ولده المنذر 569 - 581م الذي لا ندري كيف سماه باسم

خصمه فتوالت حروبه مع النعمان ملك الحيرة وتعاقبت الانتصارات والهزائم بينهما كما حدث في عهد أبويهما. فانتصر على الخميين في موقعة عين أباغ قرب الفرات في عام 570م. ولكنه لم يستمتع بنصره طويلًا حيث غدر به الإمبراطور بوستينوس جوستين الثاني، ولم يكن يطمئن إليه فحرض عليه والي سوريا البيزنطي ليعمل على قتله، ولم يكن هذا الوالي أقل حقدًا منه عليه، ولكن المنذر استطاع النزوح بجزء من جيشه إلى البادية ورد للروم الصاع صاعين فأقلق حدودهم بإغاراته السريعة. وتشجع المناذرة بغيابه عن الميدان فأغاروا على سوريا، الأمر الذي جعل الروم يتسامحون مع المنذر في أواخر عهد يوستينيوس الثاني. وعندما ولي الإمبراطور تيبيريوس الثاني 578م582م وزاره المنذر الغساني في عاصمته أقره الإمبراطور على لقب الملك وسمح له بالتتوج مثل أبيه في عام 580م. وظل سوء الظن قائمًا بين الطرفين يطل برأسه من حين إلى آخر. فحدث أن اشترك المنذر مع وإلى سوريا في حملة فاشلة على العراق فرد الروم فشلها إليه، ولكي يثبت براءته مما نسب إليه أغار مع أعوانه العرب وحدهم على الحيرة وألهب فيها الحريق. وإذا كان المنذر قد فعل هذا ليرضي سادته على حساب بني عمومته، فقد اعتبروا نجاحه في هذه الغارة تحديًا لهم ولفشلهم، ونجح أعوان الإمبراطور في هذه المرة في القبض على المنذر ونفيه إلى صقلية، وقطع المعونة التي كانت بيزنطة تقدمها إلى دولته. وحاول أولاد المنذر الغساني أن يثأروا له فشبت المنازعات بينهم وبين البيزانطيين. وكان على رأسهم أخوهم الأكبر النعمان، الذي سماه أبوه باسم خصمه أيضًا، ولكن محاولاتهم لم تجد وتشتت شمل أسرتهم الحاكمة منذ عام 583 أو 584م ففقدت ملكها الواسع وهبط زعماؤها الكبار إلى مرتبة الإمارة وترأسوا مناطق متفرقة من ملكهم القديم - وقيل: إن بعضهم مال إلى جانب الفرس نكاية في الروم. وأضعف من آمال الغساسنة في استرجاع مجدهم استيلاء جيوش الفرس على بلاد الشام في عام 613م. ولم يكن من المنتظر أن يطمئنوا إليهم بعد عدائهم القديم ولحلفائهم. ثم سنحت الفرصة للغساسنة من جديد بعد نجاح جيوش هرقل قيصر الروم في إجلاء جيوش الفرس عن الشام في عام 629م. ويبدو أن ساسة الروم أدركوا أن لا أمان للأطراف الصحراوية وقوافل التجارة البرية إلا إذا عادت الزعامة إلى أهلها من الغساسنة، ومن هنا ظهرت أسماء أمراء جدد عاصروا ظهور الإسلام ومنهم الحارث بن أبي شمر الغساني أمير مؤتة الذي أرسل

الرسول عليه السلام إليه مع شجاع بن وهب في العام السادس للهجرة بكتاب يقول فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر. سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق. وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له. يبقى لك ملكك". وأبى الحارث الإسلام، فسير الرسول عليه السلام حملة ضده بقيادة زيد بن حارثة الكلبي. ثم جبلة بن الأيهم آخر الأمراء الكبار من الغساسنة، وقد عاصر الفتح الإسلامي للشام. وقيل: إنه أسلم في عهد عمر بن الخطاب ثم ارتد عن الإسلام لأسباب اختلفت روايات المؤرخين بشأنها. تنقل الغساسنة في أيام ازدهار دولتهم بين أكثر من عاصمة، وذكر المؤرخون المسلمون من عواصمهم جلق التي قد تكون جلين الحالية أو الكسوة على بعد عشرة أميال جنوبي دمشق، والجابية في منطقة الجولان ولازالت البوابة الغربية لدمشق القديمة تسمى باسمها. وبعد أن تحضرت جماعات بني غسان في بلاد الشام، أولت اهتمامها لمشروعات الري والزراعة واستفادت منها لاسيما في إقليم حوران، بحيث ذكر لها نحو ثلاثين قرية. غير أن أمور الحرب وحماية القوافل وتجارة الوساطة ظلت هي الغالبة على أوجه نشاطها. واشتهرت من مدن التجارة الخارجية ومراكز القوافل في أيامهم مدينة بصرى عاصمة إقليم حوران، وقيل: إن الرسول عليه السلام قصدها للتجارة مرتين في شبابه وقابل فيها بحيرا الراهب. وكانت من مراكز الحضارات الهيلينستية والرومانية القديمة. ثم مدينة الرصافة شمال تدمر. وقد جدد الغساسنة كنائسها وأديرتها واشتهرت بقديسها المسيحي مارسرجيوس الذي خلع اسمه عليها فسميت Sargio- Plors وكان نصارى الشام يتيمنون به وبصورته ويعمدون أبناءهم في كنيسته. ولازالت أطلال بوابات الرصافة القديمة وصهاريج مياهها قائمة. على الرغم من تخريب جيوش الحيرة لها أكثر من مرة، وفعل توالي الأزمان عليها. وانتفعت حضارة الغساسنة بالحضارات الشامية المحلية والبيزنطية والساسانية فضلًا على ميولها العربية. وكان شأنها في ذلك شأن الحضارة الأموية فيما بعد حينما استكملت عناصرها المتعددة في دمشق وما حولها. وترتب على ذلك أن نسب المؤرخون المسلمون آثار كل من الغساسنة والأمويين إلى الآخر. ومن أشهر هذه الآثار قصران: القصر الأبيض بجوار منطقة النمارة. وقصر

المشتى وكان يقوم في الناحية الشرقية من نهر الأردن حتى نقلت أحجاره إلى متحف برلين وأعيد تركيبها فيه في أوائل القرن الحالي. ويذهب بعض المستشرقين إلى إرجاع المراحل الأولى في بناء القصرين إلى ما قبل استقرار الغساسنة في الشام. وأبقى على ذكر الأمراء الغساسنة في التاريخ المسيحي ما أسلفناه من أنهم كانوا من أكبر أنصار مذهب الطبيعة الواحدة، أي: المذهب المونوفيستي أو المذهب اليعقوبي، وكانوا ينيبون عنهم قساوستهم في حضور المجامع الدينية الكبيرة التي حاولت أن توفق بين المذاهب المسيحية المتنافرة. وخلد ذكر أمراء الغساسنة في الأدب العربي، شاعران، النابغة الذبياني الذي قصدهم بعد أن تخاصم مع ملوك الحيرة، فكان من لطيف وصفه لهم قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ثم حسان بن ثابت الذي يرجع نسبه إليهم، وقد نزل بلاطهم قبل الإسلام وحظي بإنعاماتهم، ووصف نعيمهم وترفهم، حتى بعد أن خبا نجمهم، وذكر أن نفوذهم كان لايزال يمتد في أيامه بين حوران وبين خليج العقبة. من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: خالد العسل: الحيرة وعلاقتها بالجزيرة العربية - مجلة العرب - يونيو 1973 - ص 857 - 874، يوليو 1973 - ص 924 - 935. ديسو رنيه: العرب في سوريا قبل الإسلام-ترجمة عبد الحميد الدواخلي-القاهرة 1959. صالح العلي: منطقة الحيرة - مجلة كلية الآداب بجامعة بغداد، 1962. فيليب حتى: تاريخ العرب - ترجمه بيروت 1965. نولدكه تيودور: أمراء غسان من آل جفنة- ترجمة بيروت 1933. يوسف رزق الله غنيمة: الحيرة-بغداد 1936.

الفصل الخامس عشر: مملكة كندة في نجد وماحولها

الفصل الخامس عشر: مملكة كندة في نجد وما حولها لقبائل كندة تاريخ قديم قد لا تتأخر نشأته عن نشأة تاريخ تنوخ. وقد امتدت أيامها حتى نافست المناذرة والغساسنة في عنفوان مجدهم. ولكن أحاط الغموض بتاريخ كندة أكثر مما أحاط بتاريخ هؤلاء وهؤلاء. ويرجع هذا الغموض إلى عدة أسباب، أهمها أنه لم تكتشف لجماعات كندة آثار قائمة مهمة أو نصوص وفيرة، وأن وجودهم في أغلب عهودهم في قلب البادية أقصاهم إلى حد ما عن معرفة المؤرخين الكلاسيكيين والبيزنطيين فيما خلا إشارات مختصرة ذكرها عنهم كل من بليني وبطلميوس وننوسوس وبروكوبيوس، ومالالاس، وثيوفانيس، ويوشع. وهي في مجملها إشارات تحتمل كثيرًا من الجدل. ثم إن أوائل المؤرخين والأدباء المسلمين الذين كتبوا عن كندة وملوكها تأثروا إلى حد ما بميولهم القبلية، ونقلوا قصصها من مصادر متضاربة فخرجت أخبارهم عنها متباينة مختلطة. واستفادت أغلب روايات المؤرخين والأدباء المسلمين القدامى من مؤلفات هشام بن محمد الكلبي المفقودة الآن للأسف وأخصها كتاب ملوك كندة وكتاب الكلاب الأول، وكتاب الكلاب الثاني ... إلخ. كما استفادت أغلب الدراسات الحديثة عن كندة مما حققه المستشرق جونار أو لندر عن ملوك كندة أو أسرة آكل المرار في مؤلفه المنشور في عام 1927. ثم نشرت في الأعوام الأخيرة بضعة نصوص سبأية وحميرية ألقت ضوءًا جديدًا على نشأة كندة وأرجعتها إلى عهود أقدم مما تخيله المؤرخون المسلمون عنها. وسوف نبدأ بما أتت به المصادر الإسلامية القديمة ونستعين بما حققه أو لندر منها. ثم نعقب أخيرًا بما أضافته حديثاً قراءة النصوص الأثرية القديمة إلى المعروف عن تاريخ كندة. رد أغلب المؤرخين المسلمين كندة إلى أصل قحطاني، ورووا أنها أقامت في بداية أمرها في شرقي اليمن وغربي حضرموت، ثم احتدمت المنازعات بينها

وبين الحضارمة إلى أن تركت موطنها ونزحت إلى الشمال. وتعاقب على كندة رؤساء لقبهم المؤرخون المسلمون بألقاب ونسبوهم إلى جد أعلى يدعى ثور. واختلفوا في حقيقة عددهم وفي مدد حكمهم. وبعد أمد ما تحالفت كندة مع الحميرين لتكون لهم مثل اللخميين بالنسبة للفرس. في عهد الملك الحميري أب كرب أسعد الملقب بلقب تبع الأكبر، أو ولده حسان بن تبع. فولي أحدهما كبيرها حجرًا بن عمرو الملقب بآكل المرار على أرض معد فنزل ببطن عاقل بنجد. وأغار ببكر فانتزع ما كان بأيدي اللخميين من أرض بكر. وكان أب كرب أسعد قد بلغ في هذه النواحي وادي مأسل الجمح جنوب شرق الدوادمي. وسجل اسمه على صخرة فيه. وانتشرت كندة في أرض نجد وما في شمالها وتصادمت مع الضجاعمة وحلفائهم الغساسنة على أطراف الشام، كما تصادمت مع المناذرة على أطراف العراق. وولي بعد آكل المرار ولده عمرو بن حجر الذي لقب المقصور ربما لهبوط همته ولأن الظروف قصرت حكمه على جزء من ملك أبيه دون ملكه كله. فاكتفى بمناطق ربيعة ومعد في نجد وتخلى عن اليمامة لأخيه، وعوض هذا القصور بصداقاته وولائه لجيرانه الحميريين واللخميين، ومحاولته الإغارة على أملاك الغساسنة. وخلفه ولده الحارث بن عمرو الكندي في نهاية القرن الخامس الميلادي كما يعتقد أولندر، وكان أشد صلابة منه. وامتد حكمه على قبائل بكر بن وائل التي رغبت في الاحتماء بسلطانه حين نزحت هي وقبائل تغلب من أرض اليمامة نحو الشمال بعد أن مزقتها حرب البسوس، تريدان النزول في البحرين والعراق. وسنحت الفرص لعلو شأن الحارث الكندي نتيجة لأمرين، وهما انتقال صيته إلى فارس بعد أن أغار اتباعه البدو على حدود العراق وحوافه الزراعية وفشلت جيوش الحيرة في إخضاعهم. ثم رغبة الملك الفارسي قباذ في إيجاد منافس قوي أمام المنذر الثالث ملك الحيرة حتى لا تزيد أطماعه بعد انتصاراته الأولية على الغساسنة. وبعد أن وصل إليه رسل قيصر الروم يفاوضونه في فك أسراهم أو يغرونه بالانضمام إلى صفوفهم أو مهادنة أنصارهم، كما سلف القول من قبل، وربما كتغيير يناسب الحركة المزدكية في فارس. وذكر المؤرخون المسلمون أن قباذًا ملك الفرس أقر الحارث الكندى على ما استولى رجاله عليه من أطراف العراق، وأضافوا أنه استقبله بنفسه عند قنطرة

الفيوم قرب هيت في العراق. وبعد أن اطمأن قباذ إليه عزل المنذر الثالث وولى الحارث الكندي على أطراف فحكمها من الحيرة أو من الأنبار، وكان له أولاد كثيرون ولاهم رؤساء على القبائل العربية منذ أن ذاع صيته في البادية وخلال حكمه لمملكة الحيرة بوجه خاص، وأسند إلى أكبرهم حجر رياسة قبائل أسد وكنانة أو بني أسد بن خزيمة وغطفان، وكانت أسد قبيلة كبيرة تركزت في جنوب جبلي طيء على جانبي وادي الرمة وتوزعت بطونها فيما قيل بين المدينة وبين الفرات. فقبلت رياسته على مضض بحيث قيل: إنه لم يكن يقيم فيها وإنما كان يقيم في تهامة ويبعثث رسله ليجمعوا الإتاوة منها. ثم تشجع بما صارت إليه رئاسته فشن هجمات خاطفة على حدود الغساسنة، وتجرأ أخوه معد يكرب بمثل جرأته وكان يلي قيس عيلان فأغار على حدود فلسطين وأوغل فيها حتى أوفد قيصر الروم أناستاسيوس وفدًا إلى أبيه الحارث ليوقف شره. وهكذا زاد شأن الحارث الكندي واستمر على حكم الحيرة وما حولها، ولكن لفترة قليلة تتراوح بين ثلاث وأربع سنوات 525م-528م ثم مالبثت الآية أن انقلبت عليه حين توفي ملك الفرس الذي ولاه وعضده. وكان المنذر الثالث قد لجأ بعد عزله إلى بعض حلفائه من القبائل واستجمع قواه بينهم ثم عاد ليسترجع ملكه. ووجد التأييد من ملك فارس الجديد كسرى أنو شروان الذي سمح له باستعادة ملك الحيرة، وعزل الكندي ففر وتبعته جيوش المنذر، واختلفت الروايات العربية فيما إذا كان أفلت منها أم قتلته. وأدت هزيمة الحارث أو قتله إلى أن انقلبت القبائل الخاضعة له ضد آله وبنيه بحيث قيل: إن تغلب سلمت ثمانية وأربعين فردًا من أسرته إلى المنذر فأمر بضرب رقابهم جميعًا. ونعاهم امرؤ القيس كثيرًا في شعره. وكان شر البلية أن تناحر أبناء الحارث بعضهم مع بعض حتى ذهبت ريحهم فقيل على سبيل المثال: إن ولدًا للحارث يدعى شرحبيل كان يحكم قبائل بكر بن وائل وما والاها من قبائل المنطقة الشرقية اختلف مع أخر أصغر، له يدعى مسلمة كان يحكم قبائل تغلب والنمر بن قاسط. وزكى المنذر ملك الحيرة الفرقة بين الأخين، فتقاتلا وأضعف كل منهما هيبة الآخر، فتنمر لهما أتباعهما وحلفاؤهما إلى أن قتل الأول فيما يسمى يوم الكلاب وهو ماء بين البصرة والكوفة، وفر الثاني، فكر المنذر ملك الحيرة عليه بجيشه وقتل من اتباعه خلقًا كثيرًا. أما أسد فقد زاد حقدها على ولده حجر، ولما اشتد وعماله عليها تمكنت من قتله والفتك بأهله في ظروف اختلف الرواة في تصويرها. وهكذا تشتت أفراد أسرة آكل المرار وفت في عضدهم أن ضعف شأن

حليفتهم حمير واحتل الأحباش المسيحيون اليمن في عام 525م، فلم يبق لهم نصير خارجي لا من الفرس ولا من اليمن ولا من الروم ولا من أنفسهم بعد أن فرقت المطامع صفوفهم. وكان لحجر عدة أبناء أصغرهم هو امرؤ القيس الشاعر وكان ميالًا للهو مع شهرته في الشعر. وكان أبوه فيما ذكرته الروايات العربية قد تبرأ منه في حياته حتى يقلع عن لهوه وشعره ففارقه وظل على سفره ولهوه حتى أتاه نعيه وهو يشرب ويسمر في دمون من أرض حضر موت فقال جملته المأثورة: ضيعني صغيرًا وحلمني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم ولا سكر غدًا، اليوم خمر وغدًا أمر، واستنصر امرؤ القيس قبائل بكر وتغلب على بني أسد قاتلي أبيه. فاستعصم بنو أسد ببني كنانة ثم تركوهم. وتعقبهم امرؤ القيس بحلفائه والتحم معهم في معركة ضارية ولكنهم هربوا منه بليل. واكتفت بكر وتغلب بما حدث وتفرقت عنه. وأبى امرؤ القيس إلا المضي في الانتقام لأبيه، فمضى يستنصر عرب العراق تارة وعرب اليمن تارة أخرى، ثم قاتل بني أسد مرة أخرى وظفر ببعض بطونهم وقيل: إنه مثل بها تمثيلًا شديدًا، ثم أحل الخمر لنفسه. ولو أن شاعر بني أسد عبيد بن الأبرص نفى في شعره تمكن امرئ القيس من قومه، وأخذ بروايته بعض المؤرخين. وكان رؤساء الحيرة لا يزالون يكنون البغضاء لكندة، فتعقبوا امرؤ القيس وشردوه ..... ، وتشجعت عليه قبائل أسد ومعد، وتفرق عنه أتباعه. ففر بأهله وأسلحته وماله وظل يتنقل بهم والمكائد تلازمه بين بني يربوع، وإياد. وطيء، وفزارة، ثم ارتحل إلى تيماء ويبدو أنها كانت تحت رئاسة قريب له من كندة يدعى قيس، وإن كانت بعض الروايات قد اكتفت من قصته فيها بأنه أودع أهله ودروعه عند السموأل بن عاديا صاحب الحصن الأبلق ورجاه أن يوصي به الحارث بن أبي شمر الغساني، ثم قصد بلاد الشام ونم شعره عن أنه مر فيها بحوران وبعلبك وحمص وحماة ... ومن هناك أوفده الحارث الغساني بتزكية منه إلى قيصر الروم في القسطنطينية، حيث مات فيها مريضًا أو مسمومًا، أو مات أثناء رجوعه منها في فترة ما بين 530و540م من قبل أن يحقق هدفه، وأضافت الروايات نفسها أن بعض أعدائه أو بعض أنصاره عندما تحققوا من وفاته طالبوا السموأل بودائعه فأبى، فحاصروا حصنه وقتلوا ولده، ولكنها اختلفت فيمن طالب السموأل وحاصره، إن كان الحارث بن أبي شمر الغساني، أو الأبرد ابن عمه، أو الحارث بن ظالم حليف المنذر ملك الحيرة. ونظر بعض المؤرخين المحدثين ومنهم فنكلر ومارجوليوت إلى المشكلة من وجهة نظر أخرى، فقد

لاحظوا أن شاع القصة وأشاد بوفاء السموأل مصدر يهودي يتمثل في دارم بن عقال الذي قيل: إنه كان من نسل السموأل، وسعية بن عريس، وغيرهما من رواة اليهود، ثم الأعشى الشاعر الجاهلي، ورأى فنكلر علامات الشك محتملة فرجح أن تكون قصة السموأل قصة موضوعة استوحاها رواة اليهود هؤلاء من بعض قصص التوراة وأشاعوها تمجيدًا لقومهم، ثم رددها بعض الإخباريين بعدهم وأعجبوا بها لما اصطبغت به من روح الوفاء والإباء المحببة إلى العرب. واعتاد الباحثون في تاريخ كندة أن يقفوا قليلًا عند قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية ومصيره فيها. حيث لم تذكر المصادر البيزنطية شيئًا عن امرئ القيس هذا ولا عن زيارته لعاصمتها من طرف صريح، وإن أشارت في مناسبات أخرى متفرقة إلى أن أعوان القيصر كانوا يقربون بين مشايخ العرب وملوكهم الصغار وبين قيصرهم ويشجعونهم على زيارة بلاطه أو يسعون عنده في أن يسمح لهم بزيارته في عاصمته. ويفهم من بعض هذه المصادر على سبيل المثال أن شيخًا من شيوخ العرب الكبار يسمى امرأ القيس ارتحل من نواحي العراق إلى دومة الجندل واتخذها مركزًا لغزو جنوب فلسطين وساحل البحر الأحمر أو ساحل العقبة واستولى على جزيرة فيه. ثم اتصلت الأسباب بينه وبين الأسقف العربي بطرس فأقنعه بمهادنة الروم والسعي إليهم. وسعى له هو عند القيصر ليو حتى دعاه إلى القسطنطينية حوالي عام 473م فزاره وتنصر، وأقره على أرضه ولقبه بلقب فيلارخوس. وليس لامرئ القيس هذا صلة بامرئ القيس الشاعر وهو يسبق عهده بأكثر من نصف قرن. واتصلت الأسباب بين شيخ عربي آخر دعته المصادر البيزنطية أبا كرب وبين القيصر يوستينيانوس (جوستين) وكان أبو كرب يتزعم قبيلته في جنوب فلسطين، وله واحة هناك كثيرة النخيل تقرب بها إلى القيصر فقبلها منه ولقبه هو الآخر بلقب فيلارخوس، وجاور أرضه أعراب من معد كانوا يدينون بالولاء للحميريين، مما يحتمل معه أنهم كانوا من كندة. وأراد أن يستعين بالقيصر ضدهم. وذكرت رواية أخرى أن الإمبراطور يوستنيانوس أرسل رسولًا إلى سميفع إشوع المسيحي عامل الأحباش على اليمن، يدعوه إلى أن يصفح عن رئيس عربي يدعى قيس ويعاونه على رياسة معد ويتعاون معه على غزو أملاك فارس-وكانت هذه السفارة قبل عام 531م ولم تحقق غرضها - إما للخوف من فارس أو لأن سميفع لم تكن له سيادة فعلية على معد بحيث يولي قيسًا عليها.

وذكر الكاتب البيزنطي نونوسوس ما أسلفناه من قبل من أن القيصر أناستاسيوس أرسل وفدًا برئاسة جده إلى الحارث ملك كندة ومعد بعد أن تعددت إغارات ولده معد يكرب على حدود فلسطين. كما أرسل القيصر يوستينيايوس وفدًا برئاسة أبيه أبراهام ليقابل قيسًا حفيد الحارث، ولعله بن معد يكرب، ليعقد حلفًا معه، فقابله وأخذ منه ولده معاوية إلى القسطنطينية كرهينة على وفاته. ثم كلف القيصر نونوسوس نفسه بأن يدعو قيسًا الكندي إلى القسطنطينية فاصطحبه معه إليها ثم أرجعه إلى بلده بعد أن أقره على ولاية جزء من فلسطين. وليس قيس هذا بطبيعة الحال هو امرؤ القيس الشاعر الذي ذكر المؤرخون وفاته بحسرته قبل أن تتحقق أمنيته بالعودة إلى بلده معززًا مكرمًا. وإن افترض بعض الباحثين احتمال صحبته لقيس هذا وهو من أبناء عمومته في رحلته وعودته معه وإن اهتم الرواة المسلمون بقصته هو وتناسوا ابن عمه. أسلفنا أن ثمة ضوءًا جديدًا ألقته النصوص السبأية الحميرية المكتشفة حديثًا على بداية تاريخ كندة، وأن ما أضافته هو الرجوع بهذا التاريخ إلى أبعد مما ذهب به المؤرخون المسلمون وإلى ما حول ميلاد المسيح عليه السلام، وأن كندة ارتبطت في نشأتها بالعرب الشماليين أكثر مما ارتبطت بالعرب الجنوبيين على عكس ما رواه أغلب المؤرخين المسلمين، وأن الجنوبيين كانوا ينطقون اسمها كدة بدال مشددة مما قد يعني أن اسمها لم يكن من أسمائهم فحرفوه. ويرجع أقدم هذه النصوص إلى عهد شعر أوتر ملك سبأ وذوريدان في أواخر القرن الميلادي الثاني، وهو ملك عمل أن يجمع شمل المناطق العربية الجنوبية وأن يقضي شبهة النفوذ الحبشي عن ساحل تهامة كما ذكرنا في سياق الفصل العاشر. فتعددت معارك جيوشه في حضرموت وفي ردمان وعلى ساحل تهامة الجنوبي وفي نجران. ومن نجران اتجهت قواته إلى قرية ذات كاهل ولعلها كانت قريبة من الفاو الحالية ونسبت إلى معبودها كاهل، وحاربت ربيعة ذو آل ثور مالك كدة وقحطان وهو ملك قد ينتمي إليه معاوية بن ربيعة ملك قحطان ومذحج الذى ذكره نص من قرية الفاو أيضًا. وكان الرحالة بليني قد ذكر في أوائل القرن الأول الميلادي منطقة آل ثور هذه مع ملاحظة أن المؤرخين المسلمين قد ردوا نسب ملوك كندة إلى ثور فعلًا واعتبروه رجلًا، وقد يكون معبودًا قديمًا عبدوه.

وذكر الجغرافي بطلميوس السكندري اسم العاصمة ماؤوكسموس كعاصمة لكندة في القرن الثاني الميلادي. وبالاستفادة من هذه المصادر مجتمعة وبخريطة بطلميوس الجغرافي السكندري التي أثبتها في كتابه، يذهب الرأي الحديث إلى الاتجاه بديار كندة الأولى إلى ما في شمال نجران في منطقة الأفلاج والعارض وجبل طويق في قلب نجد. وإذا صحت قراءة قحطان التي تضمنها نص شعر أوتر وذكر ارتباطها بكندة وخضوعهما معًا لملك واحد يدعى ربيعة ومن بعده لولده؟ معاوية، فإنها قد تعني منطقة ما من أرض قحطان الواسعة في خولان الشمالية التي تمتد بين شمال شرق جيزان وبين شمال نجران. وبعد جيل أو نحوه في أوائل القرن الثالث الميلادي، روي نص من عهد إيلشرح يخضب وأخيه يأزل بين ملكي سبأ وذوريدان خبر حرب شنتها قوات هذين الملكين ضد مالك ملك كندة وشعب كندة كدة لمؤازرته لامرئ القيس بن عوف ملك خصاصة، وأسرت هذه القوات قادة كندة واحتجزتهم في مأرب حتى سلموا الغلام امرأ القيس لملكي سبأ وذوريدان وتركوا أبناءهم رهائن لديهما، وأدوا الجزية والفدية من الخيول والإبل والمتاجر. وربما قامت خصاصة هذه حليفة كندة قريبة من منازلها في شمال نجران، إلى القرب من بيشة وإلى الجنوب الغربي منها. وبعد قرن تقريبًا وفي أوائل القرن الرابع الميلادي تحدثت نصوص شمريهرعش الثالث ملك سبأ وذوريدان عن كندة ومذحج كأحلاف له ثم كأتباع له. وكانوا في الحالة الأولى لا يزالون في منطقة الأفلاج في قلب نجد، ومثلت كندة القبيلة الرئيسية في مذحج, وتعاونوا جميعًا مع قواته على مهاجمة أرض تنوخ في المنطقة الشرقية على الخليج العربي وما يمتد منها إلى جنوب العراق. ولكن ضربة مضادة وجهت إليه وإليهم في أواخر عهده على يد ملك تنوخ امرئ القيس بن عمرو الذي استشهدنا بملخص نصه العربي المتأثر قليلًا باللغة الآرامية واللهجة النبطية في الفصل الرابع عشر، وبما ذكره فيه من أنه حاصر نجران مدينة شمريهرعش, وشتت -حلفاءه- قبائل مذجح عن أرضها. وهاجرت هذه القبائل حينذاك ومعها كندة إلى دولة حليفها شمريهرعش في الجنوب، وأصبح رجالها من فرق الأعراب في جيوشه. وأقطعهم منطقة أوسان ومضحاي القديمة فأصبحوا سادتها تحت حكمه. واستمر وضع مذحج وكندة هكذا في عهود خلفاء شمريهرعش، فظهر رجالهما بين الأعراب في جيوش ياسر يهنعم الثالث وذرأ أمر أيمن ملكي سبأ

وذوريدان في حوالي عام 330م، كما ظهروا بعد نحو قرن من الزمان بين الأعراب في جيوش أب كرب أسعد وولده حسان يهأمن في حملتها على أرض معد في وادي مأسل حمح، وفي بداية القرن الخامس الميلادي. ومر بنا في الفصل العاشر كذلك أن النصوص الحميرية القديمة والروايات العربية معًا قد نسبت إلى أب كرب أسعد وولده حسان في فترة اشتراكهما في الحكم مجهودًا حربيًا في منطقة أحلاف معد، وفي بعض نواحي الحجاز من ناحية، وحتى الربع الخالي في أواسط شبه الجزيرة العربية من ناحية أخرى، وأنه كان من بين قواته الراكبة رجال مذحج وكندة. وبالربط بين هذا العهد وبين ما كان يجري خارج حدود اليمن يتضح أنه كان يعاصر نهضة اللخميين على حدود العراق, ووثيق صلتهم بفارس في عهد النعمان الأول. وهكذا يبدو أنه كان من أهداف حملة أب كرب أسعد التي اصطحب معه فيها كندة ومذحج إعادة كيان إمارة كندة في الشمال تحت طاعة دولة سبأ وذوريدان أو حمير أو في حلفها، لكي ترأس قبائل معد العدنانية سبأ وذوريدان أو حمير أو في حلفها، لكي ترأس قبائل معد العدنانية وتقف في وجه التوسع اللخمي المنتظر من ناحية، وتؤمن الطرق التجارية المتجهة إلى نجد والحجاز وما ورائهما من ناحية أخرى. ومن هنا تلاقت النصوص السبأية القديمة مع الروايات العربية التي روت أن تبعًا أب كرب أسعد وهو في طريقه إلى أرض العراق نزل بأرض معد فجعل حجرًا بن عمرو الكندي ملكًا هناك. وإذا كانت قد خلطت بين أب كرب وبين ابنه حسان في هذا الأمر فذلك يرجع إلى اشتراكهما في الحكم معًا لفترة طويلة. وقامت كندة بدورها حتى الربع الأول من القرن السادس م، وفيه احتدم التنافس بين القوى الثلاث الكبيرة في شبه الجزيرة العربية وعلى أطرافها، وكل منها نجد خلفها من يؤيدها، نعني بذلك مملكة الحيرة في عهد المنذر الثالث 512 - 554م وتؤيدها دولة الفرس، ومملكة الغساسنة في عهد الحارث بن جبلة 528 - 569م وتؤيدها دولة الروم، ومملكة كندة في عهد الحارث بن عمرو بن حجر 528 - 540م وتؤيدها دولة حمير سبأ وذوريدان, وعن مرحلة من مراحل هذا التنافس تحدث نص سبأي قديم عن خروج قوات معد يكرب ملك سبأ وذوريدان مع مذحج وكندة في عام يقع بين 516 و 522م لإعادة الاستقرار إلى منطقة بني ثعلبة ومضر بعد مشاكلهم مع المنذر ملك الحيرة. وهكذا يتضح إلى أي مدى أفادت النصوص القديمة الأصلية في توضيح التاريخ العربي القديم وتحقيق قضاياه، وكلما زاد المكتشف منها وتمت دراسته كلما أثري هذا التاريخ وزادت حصيلته.

من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: أولندر (جونار): ملوك كندة من أسرة آكل المرار -1927 - ترجمة بغداد -1353هـ. جواد علي: المرجع السابق -مادة كندة- جـ3، 6، 10. عبد الرحمن الأنصاري: أضواء جديدة على دولة كندة من خلال آثار قرية الفاو ونقوشها -في مصادر تاريخ الجزيرة العربية- الرياض 1979 - جـ1، ص3 - 11. يوسف محمد عبد الله: أوراق في تاريخ اليمن وآثاره جـ2 - ص89 - 121. Jamme. A., Sabaean Inscriptions from Mahram Bilqis, Sabaean Rock Inscriptions form Qaryat al -Faw, Washington 1973

الفصل السادس عشر: انتقال مركز الثقل إلى مكة ويثرب

الفصل السادس عشر: انتقال مركز الثقل إلى مكة ويثرب ... الفصل السادس عشر: تحول مركز الثقل إلى أواسط الحجاز في مكة ويثرب من معاني الحجاز فيما ذكرته المعاجم العربية معنى الحاجز بين الغور وتهامة وهو هابط. وبين نجد وهو ظاهر. أي بين السهل الساحلي الموازي للبحر الأحمر فيما يمتد من اليمن جنوبًا إلى خليج العقبة شمالًا، وبين مرتفعات هضبة نجد. وتعتبر سلسلة جبال السراة هي العمود الفقري لهذا السهل, وقد تخللت حافتها الداخلية عدة وديان من أهمها وادي القرى الذى تميزت من مدنه الرئيسية كل من مكة ويثرب، بعد أن ورثت كل منهما نصيبًا مما كانت تنعم به المدن القديمة الواقعة إلى شمالهما مثل: مدين ولحيان وحجر ثمود وحجر الأنباط، ثم مارست كل منهم نهضتها الخاصة فيما بين القرن الخامس وبداية القرن السابع للميلاد. وتقع مكة في واد شحيح الماء والزراعة أشبه بحوض جبلي تحوطه مرتفعات السراة الجرداء، وتشتد حرارته صيفًا كما يشتد جفافه فيقلل أخطار أوبلة المناطق الحارة على أهله. وبديهي ألا يكون للتنقيب الأثري دور هام في تتبع ماضي هاتين المدينتين، نظرا لما يحيط بهما من قداسة خاصة وحرمة دينية، الأمر الذي يكاد يقصر مصادر تاريخهما حتى الآن على بعض المأثورات الدينية، والروايات العربية. وبعض الملابسات الخارجية. وقد خص القرآن الكريم مكة بماض تاريخي بعيد تبعًا لقيام البيت الحرام فيها، والذي قال فيه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}. ويبدو أن قدم هذا البيت لم يبدأ بالضرورة بعهد إبراهيم عليه السلام في حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد كما افترض بعض المؤرخين ولم يبدأ بالضرورة أيضاً منذ عهد آدم كما ذهبت إليه أقوال بعض المفسرين. وإنما قد يكفي فيه ما ينم عنه ظاهر قول إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [سورة إبراهيم: 37] وفي هذا ما قد يعني قيام البيت الحرام فعلًا في صورة أولية من قبل عهد إبراهيم, وأن إبراهيم توخى حمايته وحرمته فأودع زوجته هاجر المصرية وولده إسماعيل في رحابه. وذاك احتمال يزيد منطقية عما قيل من احتمال دعاء إبراهيم بالدعاء السابق عقب بنائه البيبت لأول مرة. وهو أمر لم يتم بطبيعة الحال إلا بعد أن انقضت على إسكانه أهله عنده سنوات طوال امتدت حتى شب إسماعيل عن طوقه وعاون أباه في البناء (انظر سورة البقرة: 127). ولعل البيت المحرم أو بناء الكعبة في صورته الأولية تلك كان هو المعني بتسمية البيت العتيق التي ذكرتها له آيتان من سورة الحج 29، 33، إذا أخذت لفظة العتيق هنا بمعنى شدة القدم وهو الشائع إلى جانب معاني العتق والكرم والجمال، كما تذكر قواميس اللغة. وإن كانت هذه التسمية قد انصرفت بعد ذلك إلى بقية صفات البيت الشريف واقترنت بها. ولعل الحجر الأسود أو الأسعد هو كل ما بقي من بنيان ذلك البيت العتيق، أو هو ما أمكن الاحتفاظ به منه، ونتيجة لقيمته وندرته اكتسب شيئًا من علو المكانة وإعزاز الرسول له، والعرب ثم المسلمين بكافة، باعتباره أثرًا جليلًا فريدًا من ماض كريم بعيد. وقد لا يكون من بأس بعد هذا الفرض المقترح من النظر كذلك بعين الاعتبار الروحي إلى بعض روايات المفسرين الإسلاميين عن ماضي الحرم والحجر وارتباطهما بمعجزات سماوية لا تتطرق إليها الدراسات التاريخية عادة في مناقشاتها الحديثة، ولكن لا بأس معها في الوقت ذاته من تذكر مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذا الحجر بما معناه والله إني لأعلم أنك حجر لا يضر ولا ينفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، متأدبًا في ذلك بأدب الإسلام وأدب الرسول. وظل الحجر الأسود على طول الأمد علامة مميزة لبداية الطواف بالكعبة المشرفة. ويبدو أن عندما تقادم البيت العتيق وطال العهد به، وهجر ما حوله وطمست بئر زمزم المجاورة له، وانقطع بهذا رواده المؤمنون به أو كادوا، تطلب الأمر الإلهي إقامة قواعده من جديد، وإعادة تعميره وإحياء شعائره. وتكفل إبراهيم بهذا وعاونه فيه ولده إسماعيل بعد أن شب عن طوقه, في مثل قول الذكر الحكيم: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وغني عن الذكر أن بناء الكعبة قد جدد أو رمم بعد ذلك أكثر من مرة،

وشارك الرسول عليه السلام في إحدى هذه المرات قبيل بداية بعثته الشريفة بقليل. وربما أوحى بنفس القدم البعيد للبيت قول القرآن الكريم: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [في سورة الحج: 26 - 28] وذلك بما يعني إلهامه أو إرشاده إلى موضع البيت الذي قام فيه، أكثر منه إلى المكان الذي سوف يقيمه هو فيه، ثم الإذن له بأن يعمل وولده على تطهير ساحته ربما مما كان قد وجد عليها من أصنام ومحرمات. وكان من دعاء إبراهيم وإسماعيل قولهما: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. وهو ما قد يعني بداية تشريع هذه المناسك، أو على الأرجح هدايتهما إلى ما غاب عنهما منها والمسامحة حين النسيان والخطأ في أدائها. أما عن نشأة البيت العتيق قبل أيام إبراهيم، وصورة بنائه، والقائمين ببنائه، فكلها أمور يصعب البت فيها برأي شاف في ضوء المعارف المتيسرة عنها حتى الآن. وحسبها إمكان تفسير أولوية هذا البيت على ما عداه بأنه أول بيت وضع للناس على الأرض لعبادة الله بخاصة. وهي أفضلية تمايز بها عن المعابد أو بيوت العبادة في الديانات الوضعية القديمة والتي كان منها ما سمي باسم البيت فعلًا، مع اختلاف لفظه باختلاف لغة أهله, ونسبته إلى موضعه أو إلى معبوده الرئيسي في كل من الحضارات المصرية والآشورية والكنعانية والآرامية والعربية القديمة أيضًا. ومن المسلم به أن إبراهيم عليه السلام لم يكن أقدم الرسل والأنبياء الذين دعوا إلى تقديس الله وحده في بيوت العبادة، وإنما سبقه إلى مثلها، أو كلف بمثلها، أنبياء آخرون. وإذا كان قد اعتبر أبا الأنبياء فإنما يعني هذا أبوته الشريفة البعيدة لأنبياء الإسلام والتوراة أو العرب واليهود. ولعل مثل هذه الفكرة بقدم كيان البيت عن عهد إبراهيم كانت من وراء قول بعض المفسرين القدامى, ومنهم البخاري بأن إبراهيم جاء بهاجر وإسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، ولما فارقهما ووصل الثنية استقبل بوجهه البيت ودعا بدعائه: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. وعلى أيه حال فإذا كان سياق البحث قد تطلب التطرق هنا إلى مسائل دينية أمكن التجاوز عن الخوض في أمثالها في بقية فصول هذا الكتاب، فإن اختلاف التفاسير أمر مسموح به فيما لا يمس الفرائض وجوهر العقيدة. ولن نعيد هنا ما قامت به بعض كتب التفاسير والتاريخ من تأكيد صلة

إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بمكة والحرم، وقصة الذبيح، دون إسحاق وبرية فاران التي قال بها يهود العهد القديم، إلا إذا كانت تسمية فاران هذه تسمية عبرية تطلق على مواضع منها مكة كما أخذ بذلك بن منظور في لسان العرب، وهو ما تزكيه كذلك تسمية التوراة للعرب بالإسماعيليين نسبة إلى أبيهم إسماعيل حيثما امتد نشاط قبائلهم من شبه الجزيرة إلى جنوب الشام، ثم قول سفر التكوين من التوراة 16: 11 في صلة هاجر بإسماعيل: وقال لها -أي: لهاجر-: ملك الرب ها أنت حبلى فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إشماعيل لأن الرب قد استمع إلى مذلتك، وحينما أمر إبراهيم بالتضحية، بابنه كان من المفروض أن يضحي ببكر أولاده وهو إسماعيل. ونضيف هنا أنه كان بعض غلاة اليهود قد حاولوا التشكيك في قدم اسم إسماعيل الأب الروحي للعرب، ومدى شيوعه في العالم القديم، فثمة ما يلقمهم حجرًا في وجود اسم يشمع إل بمعنى يسمع الله أو إسماعيل في نص آكدي عراقي يرجع إلى أكثر من أربعة آلاف عام، ثم وجوده بعد ذلك في نصوص نبطية وصفوية تسبق العصر الجاهلي والعصور الإسلامية. تعددت الآراء قديمًا وحديثًا في تفسير تسمية مكة. على نحو ما تعددت أمثالها في تفسير ما عداها من مسميات المواضع القديمة. وظهر من آراء اللغويين المسلمين ما عقد الصلة بينها وبين ألفاظ عربية معينة تشبهها في الشكل والنطق أو في دلالة التقديس. ومنها: المتك وهو امتصاص الماء حين قلته. وامتصاص الفصيل للضرع، وربما امتصاص الناس إلى مكان ما، والمتك وهو القدرة على إضعاف الجبارين, والمكوك وهو المكان الهابط بين مرتفعين. وربما المك أيضًا أو المكاء وهو طواف بعض الجاهلين بالصفير أو التصفيق. ولمالم يكن في كل هذه المشتقات ما يشفي الغليل، اتجهت آراء حديثة إلى عقد المقارنات بين اسم مكة وبين بضعة ألفاظ من لغات أو لهجات أخرى قريبة الصلة باللغة العربية الشمالية. ومنها لفظ مكربة أو مكارابو في اللغة العربية الجنوبية بمعنى التقديس والتقريب وهيكل القربان. وقد شابه هذا اللفظ الأخير ما أشار إليه الرحالة بطلميوس السكندري من وجود مدينة عربية تسمى ماكورابا Macoraba. سبق إنشاؤها بطبيعة الحال العهد الذي عاش فيه وهو منتصف القرن الثاني للميلاد. واقترح رأي آخر تقارب اسم مكة مع لفظ مك البابلي بمعني البيت بحيث إذا أضيفت كلمة رب ليكون مكرب كان معناه بيت الرب، على سبيل

الاحتمال. وإذا جاز عقد مثل هذه الصلة مع لغة أخرى من خارج شبه الجزيرة العربية فلا بأس من أن تضاف إليها مقارنة ثانية، وهي وجود لفظ مكة في اللغة المصرية القديمة ذات الصلة بمجموعة اللغات السامية، واستخدامه بما يعني الحماية وسلامة الوضع. وكما لم تكن اللغة البابلية غريبة تمامًا على إبراهيم عليه السلام مع ما قيل عن هجرته الأولى من جنوب العراق إلى جنوب الشام، فإن اللغة المصرية القديمة لم تكن غريبة كذلك عن إسماعيل عليه السلام مع بنوته للسيدة هاجر المصرية التي اصطحبته إلى مكة في رفقة إبراهيم، وما قيل كذلك في سفر التكوين من أن زوجته الثانية كانت مصرية أيضًا. وعلى أية حال فإن الاستشهاد باللفظين البابلي والمصري هنا لا يعني بالضرورة أنهما يمثلان مع لفظ مكة العربي مسمى واحدًا، ولا يعني أن أحد هذه الألفاظ الثلاثة قد اشتق من الآخر بالضرورة وإنما يكفي افتراض اشتقاقهما جميعًا من مصدر سامي قديم يصعب الآن تحديده. ورادف القرآن الكريم بين اسم مكة وبين اسم بكة في الآية التي بدأنا الاستشهاد بنصها آنفًا. وقال المؤرخون القدامى بأنهما يكونان اسمًا واحدًا بعد قلب الميم باء على عادة بعض اللهجات العربية القديمة ومنها لهجة هوازن. أو يتكاملان بحيث تعبر بكة عن الكعبة والمسجد، وتكون مكة هي ما حوله فيما سوى ذلك من بطن الوادي. أما من حيث الاشتقاق اللفظي فقد قيل باشتقاق بكة من بك الأقدام حين التزاحم، كما قيل مؤخرًا صلتها بلفظ بك في اللغة الآرامية بمعنى البيت. وتعددت أوصاف مكة بعد ذلك في المصادر العربية ومن أهمها فيما هو مشهور: أم القرى والبلد الأمين والقادس والمقدسة والعرش وأم الرحم ... إلخ. ولم يجد الإخباريون والمؤرخون القدامى ما يقال عن سكان مكة الأوائل من قبل عهد إسماعيل إلا احتمال نسبتهم إلى العماليق وهم الأقوام شبه الأسطوريين، الذين ردتهم أنساب التوراة إلى عملاق بن أرفخشذ بن سام بن نوح، على حد قولها. ويبدو كما روى المفسرون أن انكشاف بئر زمزم بعد اختفائها وتفجرها بالماء كرامة لهاجر وإسماعيل قد أغريا بعض الجماعات العربية التي كانت تمر بها على النزول عندها بعد أن كانت تتجاوزها من قبل لشدة جدب أرضها وشح مائها. وكانت جرهم القحطانية أو بطن منها من أولى هذه القبائل، وقيل: إن إسماعيل أخذ عنها لغتها أو لهجتها العربية الجنوبية إلى جانب لغة أبيه الأمورية أو الآرامية ولغة أمه المصرية، وربما زوجته المصرية أيضًا، وتناسل له إثنا عشر

ولدًا ظلوا يلون أمر قومهم وخدمة البيت الحرام حتى نافسهم فيها أبناء خؤولتهم من جرهم بعد أن تلاحقت بطونهم إلى مكة، وأزاحوهم فتفرقوا حولها وأسفلها. ولم يلبث الجرهميون بدورهم أن فاجأتهم هجرة للأزد من اليمن وعلى رأسها خزاعة فأزاحتهم إلى ظاهر مكة كما أزاحواهم أبناء إسماعيل وبطون كنانة من قبل، وتفرقوا حولها وفي تهامة. وولي عمرو بن لحي كبير خزاعة الحكم وشئون البيت. ولأمر أو آخر نسبت الروايات العربية إليه، أو إلى عمرو بن ربيعة المعروف بعمر بن يحيى، أنه بدل دين إبراهيم وأدخل عبادة الأصنام واستقدم بعضها من جنوب الشام. وعمل على إقامتها حول الكعبة، ربما ليغري أتباعها بزيارتها والائتناس بها كلما رحلوا إلى الحجاز، مع تقريب ما بينهم وبين شعائرها بعد أن قل وفودهم إليها اتقاء لبغي جرهم وما قيل عن تعديها على قوافل التجارة المارة بها وقوافل الحج القاصدة إليها. وظل أمر خزاعة في يدها حتى نجح قصي الجد القديم للرسول عليه السلام، في فترة ما من القرن الخامس الميلادي، في تزعم قريش، وقريش بطن من كنانة، وكنانة من مضر، أو هي من قبائل تهامة، كما يقول النَّسابون. ويبدو أنها عاشت قبل عهده متفرقة حول مكة في تهامة أو عاشت لفترة قبل ذلك في شمال غرب الحجاز حيث اختلطت هناك ببقايا دويلاته القديمة من اللحيانيين والأنباط ومن عايشهم في أرضهم من جاليات المعينيين والحميريين الجنوبيين، واكتسبت منهم بعض عناصر حضارتهم. كما مهرت في ممارسة التجارة حتى لقد قيل: إنها سميت قريشًا لاحترافها التجارة، والتقرش هو التجمع والاكتساب والتجارة. وثمة نص للملك الحضرمي إيلعز يليط من حوالي القرن الثالث الميلادي تحتمل دلالته على أن موكب الملك إلى الحصن الملكي أنود قد تضمن عشر نساء قرشيات. ولو صحت هذه القراءة لزكَّت قدم قريش واتصال بعض بطونها بجنوب شبه الجزيرة العربية أيضًا. وسلك قصي زعيم قريش سبيل السياسة أولًا، فأصهر إلى زعيم خزاعة حتى إذا ما ارتفع شأنه وبان ضعفها انقلب عليها، وربما استعان عليها ببطن من قضاعة قد يكون من الغساسنة أو ممن والاهم. وأجلى خزاعة عن مكة هم ومن والاهم من بكر فارتحلوا إلى بطن مر في وادي فاطمة حيث انضمت إليهم فيما بعد بطون من كنانة وخزيمة بن مدركة وحالفوهم، وأطلق عليهم مع مر الزمن اسم الأحابيش بمعنى الموالي أو شيء من هذا القبيل، وربما عاش في مجتمعهم جماعات من أصول أفريقية ضمت رقيق التجارة والحروب ومن إليهم. وضمت قريش حضرًا وبدوًا. وعاش حضرها في داخل مكة واقتسموها

أرباعًا، وسمح لهم قصي بالبناء حول الكعبة بعد أن كان الجرهميون والخزاعيون يقيمون على مسافة منها، وهؤلاء هم قريش الأبطح -وهو واد بمكة- أو قريش البطاح -أي: المناطق المنخفضة- وكان منهم أغلب التجار وأهل الثراء. وانتشترت بطون أخرى من قريش خارج مكة وتوزعت في الشعاب والمرتفعات، وهؤلاء هم قريش الظواهر، وكان منهم أهل سطو وإغارة. وجمع قصي بين رئاسة الحكم في مكة وبين شعائر الحرم، وولي أمر السقاية والحجابة والرفادة واللواء. وعمل على تجديد بناء الكعبة وتسقيفها. ولكنه مع ما اجتمع له من رئاسة أمور الدنيا والدين في بلده، قد حافظ على التقاليد القبلية في نظام حكمه، وأقام دارًا للحكومة والمشورة عرفت، أو عرفت مثيلتها فيما بعد، بدار الندوة لتكون منتدى للملإ من قومه ورؤساء العشائر المشهود لهم بالكفاية والفضل ممن تخطوا سن الأربعين، وكانوا يتشاورون فيها في المعاملات الكبيرة وأمور الحرب وإقرار السلم وعقد ألوية البعوث. وربما عقدوا فيها عقود زواج أشرافهم أيضًا. ولعلها أشبهت حينذاك مجلس المسود السبأي أو القتباني والمعيني القديم. وقد بلغ من شهرتها أن رأى فيها بعض المستشرقين والكتاب الحديثين صورة من صور التنظيم الجمهوري الذي يجمع بين خصائص الارستقراطية وخصائص الديمقراطية، بل وشبيهًا بإكليزيا أثينا القديمة. وما لبث أبناء قصي وخلفاؤه أن اقتسموا مختلف صلاحياته الدينية والدنيوية عن تراض حينًا وبالتنافس حينًا آخر. وعوضت قريش قلة إنتاجها الزراعي والصناعي بالتوسع في التجارة المحلية والعربية وكان من سلعها التي تتاجر بها بين العرب: الأدم والزبيب والصموغ والتبر والحرير والبرد اليمانية والثياب العدنية والأسلحة. وانتفعت في ذلك بالأسواق الكبرى التي كانت تعقد بالقرب منها في مواقيت متعاقبة من الأشهر الحرم لضمان أمنها. ومنها أسواق عكاظ ومجنة وحباشة وذو المجاز وغيرها. ومنذ أوائل القرن السادس الميلادي سنحت الفرص أمام قريش وأهل الحجاز للعمل باسم العرب على نطاق واسع، وهم بمنأى عما تدخلت به وأدت إليه أطماع الحبشة والبيزنطين والفرس في شئون اليمن والحيرة وغسان. وقامت مكة بالدور الأكبر في هذا السبيل، وانتفعت فيه بتوسط موقعها في قلب الحجاز وبعدها النسبي وحصانتها الطبيعية، وحرمتها الدينية ومنزلتها الروحية بين عرب الشمال وعرب الجنوب، فضلًا على سابق خبرتها بالتجارة والوساطة التجارية بين ممالك اليمن والشام.

ومن أجل تنشيط هذا الدور والخروج به من دائرته الإقليمية اتجهت بعوث رؤساء مكة إلى العالم الخارجي لعقد المعاهدات التجارية مع الدول الكبرى في أيامهم. وهكذا نسب إلى هاشم بن عبد مناف أنه آلف ملك الشام، أي حصل على إيلاف أو عهد من قيصر الروم أو ملك غسان الممثل له في جنوب الشام لتنشيط التعامل مع قريش وتأمين تجارتها في ممتلكاته، كما اكتسب مودة أحياء العرب وأمراء الشام المحليين لا سيما في أيلة وغزة والقدس حتى بصرى في حوران إلى الجنوب الشرقي من دمشق. وقيل: إن إخوة هاشم فعلوا بالمثل، فعقد نوفل والمطلب إيلافًا مع دولة الحيرة ودولة الفرس ودولة سبأ وحمير وذي ريدان. وركز عبد شمس على إيلاف الحبشة وشرق أفريقية. وبهذا اجتمع لقريش إيلاف رحلة الشتاء والصيف، رحلة الشتاء إلى اليمن والحبشة، أو العراق، ورحلة الصيف إلى الشام. وقيل: إن من قوافلها ما كان يضم ألف بعير, ومنها ما يضم ما يزيد عن الألفين. وأخذت هذه القوافل بنظام المشاركة بحيث يسهم فيها القادرون من الأسر والأفراد، وقد يكون لهم فيه وكيل أو شريك أو أجير، تحت رئاسة شخصية كبيرة تقود القافلة وتعمل على حمايتها. ولم تقتصر مكة على بطونها القرشية الكبيرة وحدها وإنما تضمنت معها أعدادًا ممن كانوا يقيمون فيها لفترات مؤقتة أو دائمة من تجار الحبشة والفرس والروم، أو من أملاكهم. وكانت تفرض المكوس والعشور عليهم وما يقابل أمنهم وخفارة متاجرهم. ولتشجيع نزلائها من حلفاء وموال وحجاج وتجار، أقام سادة مكة فيما بينهم حلف الفضول على ألا يظلم في رحابها قريب أو غريب، ولا حر أو عبد، إلا وكانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم. وقد امتدح الرسول عليه السلام فكرة هذا الحلف وأثنى عليها. ومع توالي الاتفاقات التجارية مع أقيال اليمن وأمراء اليمامة وملوك غسان والحيرة توسعت قريش في التجارة المباشرة ومتاجر الوساطة. وهكذا تحدثت الروايات العربية عن خفارة قريش للطائم ملوك الحيرة إلى عكاظ وكانت تتضمن المسك والمنسوجات وكثيرًا من المصنوعات. كما تحدثت عن تصديرها بضائع اليمن وما يصلها من الهند من العطور والجلود والمنسوجات والسيوف إلى بلاد الشام حيث تستورد عوضًا عنها أنواع الحبوب والزيوت والخمور والجواري. وكما انتفعت مكة بتجارة البر انتفعت كذلك وإلى حد ما بتجارة البحر الأحمر وما يحمله من متاجر شرق أفريقية والمحيط الهندي، عن طريق مينائها الشعبية التي بقيت حتى عهد عثمان حيث سأله أهل مكة أن ينقل الساحل من

الشعبية إلى جدة لقربها منهم فأمر به، وكانت تقع في جون من البحر ويصلها التجار والوسطاء البحريون من مصر والحبشة والصومال، فينقلون المتاجر منها وإليها، كما كانت تمير منها سفن الروم، وأغنت هذه الميناء مكة عن أداء المكوس لمواني اليمن وغيرها من المواني الخارجية. ومضت الأمور سراعًا في مصلحة مكة وحلفائها لسد الفراغ التجاري الناشئ من تعاقب الاضطرابات السياسية والدينية في بلاد اليمن منذ حوالي عام 520م خلال الصراع بين أنصار الديانتين اليهودية والمسيحية والتدخل الحبشي فيها، ثم فشل الحبشة وحلفائها في تعويض تناقص سفن الروم في تجارة البحر على نطاق واسع، مع تخلخل أمن الطرق التجارية في الهلال الخصيب بين العراق والشام خلال الحروب البيزنطية الفارسية. ولم ينج ازدياد نشاطات مكة وحلفائها من العرب الشماليين من إجراءات مضادة ضمنية ومباشرة، لوأدها قبل استفحالها، من قبل اليمن والحبشة وبيزنطة. وتمثلت الإجراءات الضمنية في تزكية حملات التبشير بالمسيحية في أرجاء اليمن وتأييد الحبشة وبيزنطة لها. وبطبيعة الحال لم يكن في انتشارها من بأس لولا أن رأت مكة في هذا الانتشار ما يهدد مكانتها الدينية بين العرب الجنوبيين. وقد سلفت الإشارة إلى تسمية كبرى كنائس نجران وصنعاء حينذاك بتسمية الكعبة اجتذابًا لمشاعر العرب وصرف ولائهم عن حرم مكة إليها. ولم تنجح هذه الخطوة كثيرًا في صرف العرب الجنوبيين عن البيت الحرام ومقام إبراهيم، أو صرفهم عن عباداتهم الوضعية القديمة. وأما الإجراءات العسكرية المباشرة فأشهرها هو ما روته بعض المصادر العربية عن حملة ضد مكة قادها من يدعى حسان بن عبد كلال من أقيال اليمن. وقد أسر وباءت حملته بالفشل. وكانت حملة أبرهة الحبشي ملك سبأ وحمير ضد مكة وحرمها المقدس في عهد عبد المطلب بن هاشم حوالي عام 570م هي الأكثر إعدادًا وأشد وقعًا. وقد أسلفنا في الفصل العاشر أنها قد تفسر بطموح أبرهة إلى مد سلطانه إلى غرب شبه الجزيرة ووسطها وشمالها، ورغبته في استعادة سيطرة اليمن على شريان التجارة الرئيسي الذي أوشكت مكة، ويثرب، على احتكار مكاسبه، أو تفسر بالتعصب الديني ورغبته في المشاركة بصورة ما في الحرب البيزنطية الرابعة عشرة 571 - 580م والاستجابة فيها لدعوة الروم إلى التضييق على المصالح التجارية لأعدائهم الفرس عن طريق ربط مصالح الدولة المسيحية الجديدة في اليمن بالدولة الغسانية المسيحية في جنوب الشام، باعتبارهما جميعًا من حلفاء بيزنطة، وفشلت

حملة أبرهة بما سبق التعقيب به في الفصل نفسه، وعوضًا عما طمع فيه من إضعاف مكة وهدم كعبتها، أصبح فشله فيها من عوامل ازدياد شهرتها. وعندما انقضى عهد والديه القصير، ونجح سيف بن ذي يزن في إجلاء الأحباش عن اليمن بمعونة الفرس. ترأس عبد المطلب شيخ قريش وفدها لتهنئته. وقرن زيارته بتجديد اتفاقيات مكة التجارية مع كبار أقيال اليمن وأمراء اليمامة. كما جدد من ناحية أخرى اتفاقياتها مع ملوك غسان والحيرة. وأضافت بعض المصادر العربية نبأ محاولة دبلوماسية استهدف البيزنطيون منها ضمان ولاء مكة أو تبعيتها السياسية لهم، حيث أيدوا أحد سادة قريش وهو عثمان بن الحويرث, وكان قد عدل عن الوثنية وتنصر. فيكون ملكًا على مكة من قبلهم. وروي أنه جمع كبار قومه ولوح لهم بقوة قيصر الروم وثرائه، وسيطرته على مجالات التجارة في أملاكه، ولكنهم رفضوا وعده ووعيده، ورفضوه هو أيضًا. وكان في بعدهم عن تناول الروم وحاجة الشام إلى وساطتهم التجارية ما أنجاهم من أي رد فعل خارجي مباشر. ومع هذه التجارب ظلت قريش تؤثر الحياد بين القوى الكبرى والمتنازعة في عصرها، كي تضمن أمن تجارتها وأمن حجيجها، ولكي يزداد المتعاملون معها. ووقفت في منتصف الطريق ما استطاعت بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وبين الحيرة وغسان، وبين الفرس والروم. وليس كثيرًا ما ارتآه البعض من أن اتساع الأهمية الدينية والتجارية لمكة قد جعل منها ملتقى لقوى العرب المتفرقة وبداية لجمعهم في إطار واحد ذي تقاليد قومية مشتركة. وبحكم طابعها الحضاري ونشاطها وأسفارها الخارجية، اتسعت مكة لأخلاط كثيرة من العقائد الوضعية والعقائد الكتابية والحنيفية، وأخلاط أخرى من طوائف العرب والأجانب أحرارًا وموالي وأرقاء وجواري، مما أثرى لغتها وثقافتها، وأشاع فيها عملات وأوزانًا وصناعات فارسية وبيزنطية ويمنية. ومن طريف ما يروى أن نجارًا أو بناء قبطيًّا، أي: مصريًّا أو روميًّا بالتبعية، يدعى باخوم اشترك في إعادة بناء الكعبة المشرفة بعد أن تطلب بنيانها إصلاحه قبيل عهد البعثة النبوية، فصنع لها سقفًا مسطحًا يرتكز فيما روى الأزرقي على دعائم وعمد. وكانت قريش قد استخدمت لها أخشاب سفينة حبشية أو رومية دفعها الريح إلى ساحل الشعبية حيث عطبت فركب إليها جماعات من قريش وأخذوا خشبها. ولم يكن سلام مكة سلامًا مطلقًا أو دائمًا، ولم تكن تستطيع أن تنأى بنفسها

عما يحيط بها من نزعات قبلية وروح جاهلية. فتعرضت لحروب متقطعة أرخت المصادر العربية بأيامها تذكرة بسوء ما حدث فيها، ومنها حرب الفجار وعام الغدر، وقد انتهكت فيهما الشهر الحرم ذاتها. ولم يكن ثراء المكيين وتنوع طوائفهم المحلية والطارئة بغير أثر سيئ تمثل في اتساع الهوة بين مختلف طبقاتهم، وفي تجبر بعض رؤسائهم وشيوع المفاسد بين مترفيهم. فضلًا على تباعدهم شيئًا فشيئًا عن الدين القويم وأخلاقياته، وهو ما تصدت الدعوة الإسلامية له فيما بعد بالإصلاح والتقويم والتغيير، ونشر التوحيد، وهو ما يخرج بحثه عن نطاق دراسات العصور القديمة. مدينة يثرب لمدينة يثرب كيان قديم كفله لها تعدد أوديتها وعيونها وآبارها، وخصوبة تربتها، وبالتالي وفرة أرباضها ومزارعها، مع كثرة إنتاجها وسكانها كثرة نسبية، وأهمية أسواقها المحلية والموسمية، فضلًا على موقعها قرب شرايين التجارة الرئيسية البرية والبحرية, وتعاملها بالتالي مع متاجر اليمن ومصر والشام. وتقع يثرب في مهاد من الأرض ذات لابات أو حرار سبخة، أهمها حرة واقم وحرة الوبرة وحرة قباء. وهي مفتوحة الحدود، وأقرب الجبال إليها جبال أحد وعير، وسلع وسليع، وهي ذات ارتفاعات متباينة. وانتفعت يثرب بميناء الجار في عمليات التصدير والاستيراد المناسبة لعصرها القديم، وكانت تصل إليها وتخرج منها بعض متاجر عدن وشرق أفريقية والهند ومصر, وبلغ من شهرتها القديمة أن سمي الساحل الممتد منها إلى خليج أيلة بساحل الجار لفترة من الزمن -ولعلها هى البريكة الحالية التى عمرت لفترة طويلة من العصر الإسلامي- وجاورتها جزيرة صغيرة كانت ترسو عليها سفن الحبشة بخاصة. وظلت الجار كذلك حتى حلت محلها في الأهمية ميناء ينبع. وعثر في جبل المكتب خارج المدينة على نصوص قديمة لم يتم بحثها بعد، كما عثر في جبل الصويدرة على مبعدة منها على نصوص ثمودية وصور حيوانات منقورة. وعثر في داخل المدينة نفسها عن طريق المصادفة وخلال حفر أساسات بعض المباني بالمناخة وغيرها على بقايا عمران سابق لم يتيسر تحديد عهده. واحتفظ الإخباريون المسلمون لمدينة يثرب بأسماء كثيرة تراوحت عدتها

في مؤلفاتهم بين العشرة، والأحد عشر، والتسعة والعشرين، بل والأربعة والتسعين، وكانت في أغلبها صفات قد يسهل تفسير القليل منها وتعليله، بينما تصعب معرفة مدلول الكثير منها أو تحليله. وكان اسم يثرب من أقدمها، أو هو أثرب، وقد يكونان لهجتين لمسمى واحد كان يشغل جزءًا من المدينة غرب مشهد حمزة الحالي، ثم عم عليها. ومن الأهمية بمكان أن ذكر نص للملك نابونهيد آخر ملوك بابل الكلدانية في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، اسم أتربيو في نهاية توسعه بجيوشه في أرض الحجاز، وخلال محاولته السيطرة على عواصم الطريق التجاري الكبير بين غرب شبه الجزيرة وبلاد الشام. وحدث هذا التسجيل بطبيعة الحال بعد نشأة يثرب فيما قبل القرن السادس ق. م بعهود طويلة. وتضمنت بعض النصوص المعينية القديمة اسم يثرب أيضًا، كما ذكره الرحالة بطلميوس السكندري في منتصف القرن الثاني للميلاد، بصيغتي Iathrip- Pa or Jathrippe، وأشار إليه اسطفانوس البيزنطي باسم Iathrippa Polis أي مدينة يثرب، وذلك بما يدل على أنها كانت قد استكملت الطابع المدني وتميزت به عما حولها من أراضي الزراعة ومضارب البدو. وتأيد هذا في تسميتها العربية المدينة التي قد تعبر عن هذا التحول، وتكون عربية الأصل، إن لم تكن مشتقة من لفظ آرامي قديم عبر العبرانيون عنه بصيغة مدينتو أو مدينتا بنفس معناه العربي أو بمعنى الحمى. وعندما دخل الإسلام يثرب استحب الرسول لها اسم المدينة وصفة طيبة أو طابة دون اسم يثرب الذي قيل: إنه قد يعني معنى الفساد أو التثريب أي المؤاخذة بالذنب. وشاعت للمدينة صفات أخرى من أهمها: أم القرى المدينة، والجارة والمجيرة والمجبورة. والبحرة والبحيرة .. إلخ. أدي خصب يثرب وثراؤها النسبي إلى كثرة عمرانها، وأدى موقعها والظروف التي مرت بها إلى تعدد طوائف سكانها. وهي طوائف يصعب تحديد مسمياتها الأولى، ولم يجد النسابون لديهم إلا أن يجعلوا من أقدمها طائفة العماليق ذات الصيغة شبه الأسطورية، كما أشاروا إلى بطون متأخرة من جذام وبلى وسليم ومن قيس عيلان وغيرها ظلت بقاياها خارج المدينة حتى العصر الجاهلي، وربماكانت في الأصل بداخلها حتى غلبها غيرها على أمرها وأخرجها منها. وفازت بالشهرة أكثر منها قبائل ذات أصول قحطانية اختطلت بالعدنانية، وبقيت منها في العصر الجاهليطوائف الأوس والخزرج ببطونها الكثيرة. وجاورتها طوائف عبرية بقي منها في العصر الجاهلي أيضاً بنو النضير وقينقاع وقريظة، وبطون غيرها صغيرة. ولعل ما يقال عن تداخل الجماعات ذات الأصول القحطانية والعدنانية في يثرب يشبه ما كانت الحال عليه قديمًا في لحيان وتيماء وغيرها من حيث نزول جاليات تجارية عربية جنوبية معينية وسبأية في أرضها لكي ترعى

المصالح التجارية لدولها الجنوبية، ولما طال المقام بها اختلطت وتصاهرت مع السكان الأصليين من العرب الشماليين ولكن النسابين ظلوا يردونها إلى أصولها القحطانية أو الجنوبية الأولى من حين إلى آخر. وكان من الطبيعي أن تهتم طوائف المدينة بحماية حدودها وأرباضها ومزارعها بتحصينات صناعية تمثل أكبرها في الآطام جمع أطم، وعرفت صغارها باسم الصياصي. وبني بعضها من اللبن وبني بعضها الآخر بأحجار صغيرة أو كبيرة، وزودت بأبراج كما احتوت على آبار ومخازن بحيث يحتمي بها أهلها حين الغارة، ويتحصن بها الشيوخ والنساء والصغار حين خروج رجالها إلى الحرب. وكما كانت ليثرب حصونها العامة كانت لكل طائفة من سكانها حصونها الخاصة نتيجة فيما يبدو لعدم خلوص نوايا بعضهم للبعض الآخر. واهتم رواة اليهود وكتابهم بتاريخ طوائفهم في يثرب اهتمامًا كبيرًا لا يخلو من الغرض, وتخيلوا لها ماضيًا بعيدًا تباروا في القول ببدايته منذ أيام موسى وهارون في القرن 13 ق. م، أو بعد انتصار داود على معارضيه في القرنالعاشر ق. م، أو بعد سقوط مدينة السامرة الإسرائيلية أمام الغزو الآشوري في عام 721 ق. م، أو بعد تدمير البابليين لأورشليم وهيكل سليمان في عام 586 ق. م, أو بعد قضاء القائد الروماني تيتوس على ثورة اليهود الأولى وتخريب معبدهم في عام 70م، أو بعد القضاء على ثورتهم الثانية في عهد الإمبراطور هادريان بين 132 - 135م، أو هم قد جمعوا بين أشتات من كل هؤلاء. ومع وضوح الشك في هذا الخليط الكثير من الآراء وجد آذانًا صاغية ممن أخذوا عن الإسرائيليات وصدقوا رواتها باعتبارهم من أهل الكتاب والكتابة لا سيما وأنه لم تظهر للأسف لعرب يثرب القدامى كتابات أصيلة تتحدث باسمهم حتى الآن. وافترض بعض المؤرخين من القدامى والمحدثين رأيًا وسطًا. احتملوا فيه أن يكون يهود يثرب أو أغلبهم من العرب المحليين الذين قد يرتد نسبهم إلى الجنوب، وأنهم تهودوا في يثرب حينما بلغتها الديانة اليهودية بطريقة ما, شأنهم في ذلك شأن من تهود من عرب تيماء وتبوك ووادي القرى وعرب اليمن أيضًا. وزكوا هذا الفرض بما قيل من أن هؤلاء اليهود المحليين لم يكونوا يعترفون بالتلمود كله، وأن معارفهم الدينية كانت محدودة بحيث أنكر عليهم بعض يهود الشام في القرن الثالث الميلادي صدق يهوديتهم. وربما انضمت إليهم أشتات صغيرة مهاجرة من الإدوميين مثلا بعد أن زالت دولتهم؛ حيث وجد رأي ينسب بني قينقاع إليهم. ولم يكن هؤلاء وهؤلاء كثرة كبيرة، وإنما قدر عدد رجالهم في إحدى المناسبات بما لا يزيد عن الألفين.

وكانوا يتحدثون بعربية تداخلت فيها ألفاظ ومسميات عبرية اكتسبوها من التوراة أو ممن معهم من اليهود الطارئين، وقام لهم بيت يسمى بيت المدارس, كان من المفروض أن يتدارسوا فيه أمور دينهم ويفصلوا فيه في قضاياهم. ومع عربيتهم أو استعرابهم عاشوا في أحياء محدودة ومجتمع مقفل عليهم. وقد أسلفنا في الفصل العاشر كيف ربط بعض الإخباريين بين الملك أب كرب أسعد ملك سبأ وذي ريدان وبين يهود يثرب مرة بدخولهم إليها في عهده في بداية القرن الخامس الميلادي، ومرة بامتداد نفوذه إليها حينما توسع في نواحي معد والحجاز، ومرة برحلته إليها وتهوده، ومرة بتعيينه أحد أولاده عليها حيث قتل بعد رحيله عنها ... إلخ. واعتبرت الروايات العربية الأوس والخزرج أخوين من الأزد وقضاعة هاجروا إلى يثرب بعد سيل العرم وخراب سد مأرب باليمن، وهو توقيت غير محدد بزمن صريح حيث تخرب سد مأرب في أكثر من عهد، وأصلح أكثر من مرة كما سبق التنويه بذلك في الفصل الرابع. ولهذا تباينت آراؤهم في توقيت هذه الهجرة بالقرن الثالث أو أواخر القرن الرابع، أو في القرن الخامس للميلاد. ومرة أخرى أشاعت الروايات العبرية وما تأثر بها أو وافقها من الروايات العربية أن الأوس والخزرج اكتفوا في بداية الأمر بحياة متواضعة في يثرب في مقابل كثرة استغلال يهودها للتجارة والصناعة. وعمل بعضهم في الزراعة وتعاقدوا في حلف مع اليهود ليؤمن بعضهم بعضًا. ووجد اليهود في هذا الحلف ما يزكي وجودهم ويكفل لهم معونة الأوس والخرزج في الدفاع عن يثرب, والقيام بدور الوساطة بينهم وبين من حولهم من عرب وأعراب. وشيئا فشيئًا أثري الأوس والخزرج وتحسنت أوضاعهم. ورأى بنو قريظة والنضير الحيلولة دون استفحال أمرهم فأهدروا حلفهم معهم واستبدوا بهم. وانكمش الأوس والخزرج زمنًا حتى استنفر هممهم زعيم الخزرج مالك بن العجلان -أو عمرو بن النعمان- وسعى معهم إلى إحراز السيادة. ويبدو أنه حالف بطونًا من قضاعة في غسان أو في غيرها من جنوب الشام، وربما حالف بعض الحميريين أيضًا، ثم فاجأ بقومه وحلفائه اليهود قبل أن يعتصموا بصياصيهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وساد هو وقومه يثرب في ختام القرن الخامس الميلادي أو بعده بقليل. ورأى بعض المؤرخين ومنهم إلفنسون أن هزيمة اليهود حينذاك في يثرب كانت انعكاسًا لهزيمتهم في اليمن، وأنها تمت في الحالين بناءً على تحريض مسيحي الحبشة في اليمن، وبناءً على تحريض مسيحي غسان في يثرب. ورأى آخرون العكس. ويلاحظ هنا أن هزيمتهم في يثرب سبقت هزيمتهم

في اليمن. واستبعد مؤرخون آخرون أثر التحريض الديني في يثرب وقصر أسباب النزاع بين العرب واليهود حينذاك على تضارب المصالح الاقتصادية والرغبة في الاستئثار بالسلطة. وبعد النصر زاد الأوس والخزرج من عمران يثرب وسمعتها، وزادوا من آطامها وحصونها. وانتشر الخزرج في بقاع خصيبة من العوالي في جنوب وشرق يثرب, بينما انتشر الخزرج في بقاع أقل ثراء في الأجزاء الوسطى والشمالية منها. وعاش عرب يثرب في بداية الأمر متحدي الصفوف، ثم ساءت العلاقات فيما بين قبائلهم الرئيسية، وفرق التنافس الاقتصادي والسياسي وحدتهم، حيث أخذ الأوس على الخزرج استئثارهم بالسيادة السياسية، بينما أخذ الخزرج على الأوس استئثارهم بأهم النواحي الاقتصادية. وعمل اليهود من حين إلى آخر على تأجيج نار الفتنة بين الفريقين وتأليب فريق منهما على فريق. وهكذا تكررت أيام الحروب بين الأوس والخزرج, وظل أغلب النصر فيها للخزرج حتى هزموا في حرب بعاث التي سبقت هجرة الرسول إلى يثرب بنحو خمس سنين. وقبيل وصوله إليها كان الأوس قد جمعوا كلمتهم برئاسة أبي عامر بن النعمان، بينما أعاد الخزرج تنظيم صفوفهم برئاسة عبد الله بن أبي سلول وأعدوه ليكون ملكًا على يثرب كلها. وكما تنافس الأوس والخزرج واليهود خفية وعلانية في يثرب، تنافست مكة ويثرب في شئون التجارة والاقتصاد وزعامة عرب الحجاز. وكانت أولاهما -كما سبق القول عنها- تغلب فيها العدنانية، وجدب التربة، وثراء التجارة الخارجية، وحرمة البيت، بينما غلبت في يثرب الأصول القحطانية الخليطة وخصب التربة وكثرة الإنتاج من النصيب الأقل من التجارة الخارجية, من المؤلفات المختارة في دراسات الفصل: أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول - القاهرة 1965. سعد زغلول: في تاريخ العرب قبل الإسلام- بيروت 1975. عبد القدوس الأنصاري: آثار المدينة المنورة -1973. علي حسني الخربوطلي: الكعبة على مر العصور - القاهرة 1967. نور الدين السمهودي: خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى - المدينة المنورة 1972.

§1/1