تاريخ الفلسفة الحديثة

يوسف مكرم

مقدمة

مقدمة: خصائص العصر الحديث 1 - تطور عميق: أ- إذا كان المؤرخون يعتبرون فتح الترك للقسطنطينية سنة 1453، وما تبعه من انهيار الإمبراطورية البيزنطية وهجرة علمائها إلى إيطاليا، نقطة التحول من العصر الوسيط إلى العصر الحديث، فما ذلك إلا لظهور هذه الأحداث وآثارها في جملة الأحداث التي كونت نسيج التطور الجديد. إن التدرج قانون التحول الاجتماعي؛ تعمل على هذا التحول أسباب لطيفة عملًا متصلًا، حتى يجيء يوم وإذا به قد تم وبرز للعيان. وقد بينا في "تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط" أن الانتقاض على القديم بدأ بابتداء القرن الرابع عشر، فما كاد ينصرم ذلك القرن حتى كانت الفلسفة الاسمية قد نضجت في إنجلترا وفرنسا، وقضت في بعض الأذهان على جهود المدرسين في سبيل إقامة فلسفة تتفق مع الدين، وحطمت العلم الطبيعي الأرسطوطالي في جامعة باريس، وظاهرت الأمراء في تمردهم على السلطة البابوية. وكانت بين إيطاليا وبيزنطة علاقات ثقافية ترجع إلى القرن الثالث عشر، إذ كانت إيطاليا منقسمة إلى جمهوريات وكان أمراؤها يستقدمون الأدباء والعلماء من البيزنطيين. وتوثقت هذه العلاقات في القرن التالي من جراء نشاط التجارة بين البلدين ومحاولات التقريب بين الكنيسة اللاتينية والكنيسة اليونانية. فنشط تعلم اليونانية والنقل منها إلى اللاتينية, وتكاثر في إيطاليا عدد الأدباء والعلماء البيزنطيين بعد ضياع ملكهم، حتى صار الشغف بالأدب القديم عامًّا في القرن الخامس عشر، وكان الإيطاليون كأنهم يعودون إلى أدبهم السالف، الأدب اللاتيني الملقح باليونانية. ومن إيطاليا انتشر الأدبان إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا وهولندا، وأسرع انتشارهما بفضل اختراع الطباعة في منتصف القرن. فكانت "نهضة" حقيقتها أنها عودة إلى الثقافة القديمة، وثورة على ما استحدث العصر

الوسيط من أدب وفلسفة وفن وعلم ودين، وأسباب الحياة السياسية والاقتصادية. ب- هذه الثقافة القديمة تنضح بالوثنية من كل جانب، فانتشرت الوثنية في الأفكار والأخلاق. رأى فيها فريق كبير من الغربيين صورة إنسان الفطرة والطبيعة, واعتبروا دراسة القدماء كفيلة وحدها بتكوين الإنسان بمعنى الكلمة، فسميت هذه النزعة بالإنسانية أي: المذهب الإنساني، وسميت الآداب القديمة بالإنسانيات. وجاءت كشوف كولومبوس وفاسكو دي جاما وماجلان ودريك في أواخر القرن, بمعلومات كثيرة عن شعوب كانت بمعزل عن المسيحية, وكان لها أديان وأخلاق, فظهرت فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية. وهكذا تكونت في الغرب المسيحي نظرية جديدة في الإنسان تقنع بما يسمى بالطبيعة وتستغني عما فوق الطبيعة، كأنها تقول لله: نشكرك اللهم على نعمتك، ولكنا بغير حاجة إليها! ولسنا نرى إلا أن هذه النظرية تعتمد على إحدى وجهتين للثقافة القديمة، وتغفل عن الوجهة الأخرى؛ فقد كانت المدنية اليونانية والرومانية تقوم على علاقة وثيقة بين المواطنين والآلهة، وكانت العقول مشغولة بالقدر والغيب، وبقيت "الأسرار" ناشطة طول عهد الفلسفة، وتأثر بها أعاظم الفلاسفة، حتى تحسر أفلاطون على أن وحيًا إلهيًّا لم ينزل بخلود النفس فيقطع التردد والقلق، وحتى رأى رجال الأفلاطونية الجديدة أن كمال الفلسفة في كمال الدين والتصوف، ويقال مثل هذا في جميع الشعوب القديمة: كان الدين أظهر مظاهر حياتهم، يتناولها في جميع نواحيها وينظمها أدق تنظيم. وإذن فقد أخطأ الإنسانيون إدراك روح اليونان والرومان وغيرهم من الأمم, وخدعهم عن هذه الروح بعض الشعراء الماجنين والفلاسفة الماديين, ولكن هكذا كان، فنجمت نتائج خطيرة. ج- كان من آثار المذهب الإنساني العمل على سلخ الفلسفة عن الدين، أو بعبارة أدق: العمل على إقامة الفلسفة خصيمة للدين، والحملة على الفلسفة المدرسية بالتهكم على لغتها وبحوثها وطريقة استدلالها؛ بل الحملة على العصر الوسيط بجميع مظاهره، ورميه بالجهل والغباوة والبربرية. وكان ما هو أخطر من هذا: كان أن تسرب المذهب الإنساني إلى المسيحية نفسها، وأخذ يعمل على تقويضها من الداخل. فما كانت البروتستانتية في البدء إلا "احتجاجًا على الغفرانات" ودعوى إصلاح في الإدارة الكنسية والعبادة، ثم زعمت أن الدين يقوم على "الفحص

الحر" أي: الفهم الخاص للكتاب المقدس، وعلى التجربة الشخصية، بغير حاجة إلى سلطة تحدد معاني الكتاب، ثم تناولت العقائد بالفحص الحر فذهبت فيها كل مذهب، وبددت علم اللاهوت غير محتفظة إلا بعاطفة دينية عاطلة من كل موضوع. قام لوثير " 1483 - 1546 " وزفنجل " 1484 - 1531 " وكلفان " 1509 - 1564 " يزعزعون العقيدة السلفية, وينشئون الكنائس المستقلة وقام هنري الثامن " 1509 - 1547 " يقهر الإنجليز على إنكار الكثلكة، وقام غيره من الملوك والأمراء يناصرون المبتدعة قضاء لمآربهم الخاصة، فكان القرن السادس عشر من أشد القرون اضطرابًا وفوضًى، انحلت فيه الروابط الدينية والعائلية والاجتماعية، وعنفت الأهواء القومية، فنشبت الحروب من أجل الدين والسياسة جميعًا، واستُبيح فيها كل محرم بحجة سلامة الأمير أو الدولة. د- وكان الأمراء الإيطاليون يطلبون أسباب القوة والترف, فشجعوا الفنون والصناعات، فاندفع الأهلون إلى الابتكار والإتقان، وتنافست المدن في هذا المضمار، حتى غالت في الاستئثار بالمخترعات والآلات الجديدة. وكان من استخدام القوى الطبيعية أن زاد في معرفة أفاعيلها، وحفز الهمم إلى البحث عن قوانينها، فخرج العلم الآلي من ازدهار الصناعات، ونبغ علماء وفنانون من الطراز الأول، ومن المعلوم أن العمل الساذج يسبق النظر، أو أن الفن يسبق العلم، ثم يخرج من النظر عمل جديد، ومن العلم فن جديد أغنى وأكثر إحكامًا. وكان العلم بأرشميدس في القرن السادس عشر، ذلك العالم الذي طبق النظر على العمل خير معوان على إقامة ميكانيكا جديدة أرضية وسماوية. فازداد سلطان الإنسان على الأرض، واتسعت السماء أمام ناظريه بفضل اختراع التلسكوب، فأحس من الكبرياء والطموح ما لم يحسه من قبل، والتقى هذا الإحساس في نفسه بما أوحى به المذهب الإنساني في الأدب والدين، وبما نفخ فيه النضال السياسي من إحساس قوي بالاستقلال، فشعر كأنه رب نفسه ليس فوقه رب. هـ- تلك خصائص عصر النهضة، وهي هي خصائص العصر الحديث إلى أيامنا, نستطيع أن نردها إلى اثنتين: الفردية العنيفة في الأدب والدين والسياسة, والعناية البالغة بالعلم الآلي وتطبيقاته العلمية الرامية إلى توسيع سلطان الإنسان على الطبيعة والزيادة في رخائه. وسيكون لكل هذا صدى قوي في الفلسفة: ستستقل

الفلسفة عن الدين، فتكون هناك فلسفة إلحادية، وتكون فلسفة تتحدث عن الروحانية والمسيحية ولا تعني سوى مجرد عاطفة دينية، وتكون فلسفة تشيد بالعلم الآلي وتحصر مجالها على قدر مجاله؛ أو تجتمع هذه الوجهات المختلفة في بعض المذاهب مع تفاوت بينها؛ وتظل الأجيال إلى الآن حائرة مترددة، تعتنق المذاهب وتخلعها الواحد بعد الآخر، وتستبدل نظامًا من الحياة بنظام. 2 - أدوار الفلسفة الحديثة: هذه المذاهب من الكثرة والتشعُّب بحيث يتعذر التمهيد لها والإشارة إليها بشيء من الدقة في مقدمة عامة. فنقتصر هنا على تعريف مجمل بأبواب الكتاب وهي ستة, يدور الباب الأول على عصر النهضة، أي: القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو عصر جديد، ولكن فيه شيئًا غير قليل من القديم: فيه أتباع لأفلاطون يستمدون منه أسباب دين طبيعي؛ وفيه رشديون يذيعون الإلحاد تحت ستار دراسة أرسطو وابن رشد؛ وفيه علماء يحاولون استكناه أسرار الطبيعة بالسحر والتنجيم؛ وآخرون يضعون أسس العلم الحديث في الرياضيات والفلك والطبيعيات؛ وفيه نقاد يتشككون في أصول الأخلاق ومبادئ المعرفة؛ وفيه فلاسفة تضطرب في عقولهم جميع هاته الميول، فيخرجون مذاهب غامضة مختلطة. ولكن ما إن يجيء القرن السابع عشر، وهو موضوع الباب الثاني، حتى تهدأ الثورة، ويبدو ميل إلى الإنشاء بعد الهدم، فتزدهر نهضة دينية، وبخاصة في فرنسا، وتظهر أمهات المذاهب الحديثة، في مقدمتها مذهب ديكارت الذي يزعم إقامة فلسفة مسيحية ويستمد عناصرها من القديس أوغسطين والقديس أنسلم ودونس سكوت، ولكنه يبث فيها روحًا مغايرة للدين؛ ويتفلسف على أثره مالبرانش وبسكال وسبينوزا وليبنتز, فيبين كل منهم على وجهة ستتكرر في الأجيال التالية، بينما يضع هوبس وفرنسيس بيكون ولوك فلسفة واقعية تنكر الميتافيزيقا وتستمسك بالتجربة. فيكون لهذه الفلسفة الإنجليزية تأثير كبير على القرن الثامن عشر، موضوع الباب الثالث، يلح فيها الإنجليز، وأشهرهم هيوم؛ ويصطنعها الفرنسيون، فيرد كوندياك المعرفة بأسرها إلى الإحساس، وينقد فولتير وروسو وأضراب لهما كثيرون أصول الدين والاجتماع ويبددون

فلسفة ديكارت؛ ويجمع كانت بين المذهبين الحسي والعقلي في محاولة قوية لتفسير العلم والوجود تجعل منه فيلسوف ألمانيا الأكبر، وتسيطر على العقول إلى أيامنا. وبينا يبدو القرن الثامن عشر عصر تحليل دقيق ونقد عنيف، إذا بالنصف الأول من القرن التاسع عشر، موضوع الباب الرابع، يعمل على التركيب والبناء في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا على السواء: تظهر في ألمانيا فلسفات ضخمة صاخبة تحمل أسماء فختي وشلنج وهجل وشوبنهور، ويتعمق الفرنسيون في دراسة الحياة النفسية وشرائطها بحيث يترتب على هذه الدراسة حلول في سائر النواحي، كما فعل مين دي بيران، أو يستوعب أوجست كونت جميع النواحي في مذهب واحد يصدر عن الواقعية؛ ويحاول نفر من الإنجليز، أبرزهم هاملتون تصحيح المذهب الحسي بالفلسفة الألمانية. ثم ينقلب الحال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، موضوع الباب الخامس، فينشب صراع بين المادية وقد وجدت أسلحة جديدة في نظرية تطور الأحياء، وأنصارًا عديدين في ألمانيا وإنجلترا، أشهرهم دروين وسبنسر، وبين الروحية يؤيدها فلاسفة فرنسيون. ويستمر هذا الصراع في النصف الأول من القرن العشرين, موضوع الباب السادس والأخير، ويمكن القول: إنه لن ينتهي, ولكن الروحية العصرية عرجاء ناقصة، فإن الفلسفة الحديثة في جملتها لا تؤمن بالعقل ومعانيه ومبادئه، ولا تؤمن بجواهر ثابتة حتى تقول بنفس خالدة, وإله شخصي مفارق للطبيعة. فالروحانية مفتقرة في الواقع إلى فلسفة وجودية موضوعية كفلسفة أرسطو، ولا ندري ما إذا كانت العقول العصرية تأخذ أنفسها بمثل هذه الفلسفة، أو تمضي في محاولاتها العقيمة.

الباب الأول: بين القديم والجديد القرن الخامس عشر والسادس عشر

الباب الأول: بين القديم والجديد القرن الخامس عشر والسادس عشر الفصل الأول: أفلاطونيون ... الباب الأول: بين القديم والجديد القرنان الخامس عشر والسادس عشر الفصل الأول: أفلاطونيون 3 - نقولا دي كوسا " 1401 - 1464 ": أ- أديب كما يهواه الإنسانيون، ورياضي وفيلسوف وصوفي. ولد بمدينة كوسا من أعمال ألمانيا، ونشأ عند "إخوان العيشة المشتركة" وكانوا متأثرين للغاية بالتصوف الألماني في العصر الوسيط، فانطبع هو بهذا الطابع. وفي الخامسة عشرة أخذ يدرس الفلسفة بجامعة هيدلبرج، وكان أساتذتها أوكاميين، فحفظ شيئًا من تعليمهم. وفي السنة التالية انتقل إلى جامعة بادوفا بإيطاليا، وكانت معقل الرشديين، فدرس فيها القانون والرياضيات والفلسفة، دون أن يأخذ بشيء من الرشدية. ثم اشتغل بالمحاماة، ولكنه عدل عنها إلى الكهنوت, فترقى في مراتبه, فصار أسقفا فكردينالا, وكان موضع إعجاب وإجلال في مختلف المناصب التي تولاها؛ لما كان متحليًا به من التقوى والعلم وحسن تصريف الأمور، حتى مع البروتستانت، إذ أظهر نحوهم الشيء الكثير من التؤدة والتسامح. ب- كان "موسوعة" حية, له رسائل فلكية ورياضية يبدو فيها ممهدًا لكوبرنك ولإصلاح التقويم. وله كتاب فلسفي اسمه "الجهل الحكيم" " 1440 " وهذا لفظ وارد عن القديس بونا فنتورا، وسنوضح المقصود منه فيما بعد. والكتاب مقسم إلى ثلاث مقالات: في الله، في العالم والإنسان، في العودة إلى الله بالفداء؛ ومذهبه فيه يرجع إلى ديونيسيوس وأبروقلوس وجون سكوت أريجنا ومن لفّ لفهم من فلاسفة العصر الوسيط. ذلك أن الأفلاطونية بانت له الوسيلة الوحيدة لتخليص الميتافيزيقا من الدمار الذي انتهت إليه على أيدي الاسميين، ولم تكن الأرسطوطالية في عهده توفر له هذا الغرض، ولكنها كانت رشدية ملحدة، فعارضها وبعث

الصرخة التي لن تلبث أن تدوي في أرجاء أوروبا: "لتسقط شيعة الأرسطوطاليين! ". ج- يصل الكردينال دي كوسا إلى الله والتصوف بتحليل المعرفة على طريقة الأفلاطونيين, المعرفة بالإجمال ورد الكثرة إلى الوحدة، أو هي تركيب وتوحيد. ففي المعرفة الحسية، التوحيد في غاية النقص، إذ إن الحواس تقبل الإحساس متفرقة، وتدرك الأجسام إدراكًا غامضًا. ثم يزيد التوحيد بتكوين معاني الأنواع والأجناس، أي: بردّ الجزئيات إلى ماهيات، ونظمها في قضايا وفقًا لمبدأ عدم التناقض, وهذا عمل العقل الاستدلالي، يعطينا علمًا محدودًا نسبيًّا مؤلفًا من احتمالات؛ لأنه ليس في العالم شيئان متشابهان تمام التشابه، وإنما هناك جزئيات منفصلة مستقلة لا يقاس بعضها على بعض. وهذه هي الاسمية التي أخذها عن أساتذة هيدلبرج، ثم يبلغ التوحيد أقصاه في الحدس، فتبطل عنده قيمة مبدأ عدم التناقض، وتدرك النفس توافق الأضداد التي يعرضها العقل الاستدلالي منفصلة متقابلة. وليس هذا الحدس معرفة، إذ إن المعرفة لا تحصل بغير كثرة واختلاف, فكمال التفكير في وقوف التفكير. فالجهل الحكيم معرفة الفكر لحدوده، واعتقاده بالوحدة المطلقة وراء هذه الحدود، وبأن ليس مبدأ عدم التناقض المبدأ الأعلى، وليس الجدل العلم الأعلى الذي يخضع له العقل والإيمان، على ما يريد الاسميون. إن النقائض والأضداد ملازمة لعلمنا بالمتناهي، ولكنها تمحى في اللانهاية؛ فالخط المنحني إذا صححنا انحناءه إلى ما لانهاية، جعلناه كالخط المستقيم، وإذا فرجنا الزاوية القائمة في المثلث إلى ما لانهاية، اختلط وترها بالضلعين الآخرين؛ ومتى اعتبرنا الحركة كأنها سكونات متتالية، اتفقت مع السكون؛ وهكذا في جميع الأضداد. د- فالله الموجود الأعظم اللامتناهي الحاوي كل وجود، حتى النقائض: "هو الأشياء جميعًا في حال الوحدة أو الانطواء، والعالم الأشياء جميعًا في حال الكثرة أو الانتشار. الله الموجود المطلق الذي بلغت فيه كل قوة إلى الفعل, والعالم الموجود المتشخص المركب المنتقل من القوة إلى الفعل". وجود العالم لا وجود بالقياس إلى الوجود الإلهي؛ لذا يجب أن ننفي عن الله كل تعيين، فلا يبقى لنا شيء نسميه؛ لأن كل اسم فهو ناشئ عن تفريق وتمييز, وهذا هو اللاهوت السالب كما صادفناه عند ديونيسيوس وسكوت أريجنا؛ وإذا أطلقنا على الله أسماء

فإنما ندل فقط على أنه نموذج الموجودات ومصدرها, وهذا هو اللاهوت الموجب؛ أما العالم فيرجع كله إلى الله، إذ إن كل موجود فهو يرمي إلى استكمال ماهيته, ويرجع الإنسان إلى الله بالمعرفة، فإن طبيعته العقلية تسمح له باتحاد بالله أوثق, وكل هذا نعرفه عن الفلاسفة الذين ذكرناهم. وقد اتهم الكردينال دي كوسا بوحدة الوجود، فأنكر التهمة, وهو يفسر معنى توافق الأضداد والانطواء الإلهي بما لا يدع مجالًا للشك في مقاصده، فيقول: إن الله أوجد العالم "عن قصد" لا ضرورة، وهذا ينفي كل اشتراك في الوجود بين الخالق والمخلوق. 4 - مرسيليو فتشينو " 1433 - 1499 ": أ- في هذا الوقت الذي نؤرخه، لم يكن جميع الأفلاطونيين مؤمنين بالوحي المسيحي مثل الكردينال دي كوسا، بل كانوا في معظمهم أصحاب دين طبيعي قائم على الله والنفس والخلود والحرية، يستمدون الأدلة المؤيدة له من كتب أفلاطون، ويقنعون بهذه الأركان الأربعة لكي يصفوا الفلسفة بأنها مسيحية، معارضين رشديي بادوفا الذين كانوا يعتقدون بالمنافاة بين الطرفين. وأول من افتتح النزاع بين الأفلاطونيين والأرسطوطاليين، العالم اليوناني بليثون plethon، فقد أسس بفلورنسا أكاديمية أفلاطونية كسبت عددًا كبيرًا من الإيطاليين إلى جانب أفلاطون، ونشر سنة 1440 رسالة ضد أرسطو، وخلفه على المدرسة مواطنه الكردينال بساريون. ب- وأشهر أتباعهما مرسيليو فتشينو, نقل إلى اللاتينية تساعيات أفلوطين " 1492 " وشرح أفلاطون في كتاب أسماه "الإلهيات الأفلاطونية في خلود النفس" وقال في مقدمته: إن الحاجة ماسة إلى دين فلسفي يستمع إليه الفلاسفة بقبول، وقد يقتنعون به. على أن أهمية فتشينو قائمة في تعريف الغربيين بكتب أفلاطون وأفلوطين، وقد طبعت كتبه مرارًا بباريس خلال القرن السادس عشر، وكانت مصدر العلم بالفيلسوفين. 5 - جان بيك دي لاميراندول " 1463 - 1494 ": أ- وتلاقت في تلك البيئة المضطربة، الأفلاطونية والفيثاغورية والكابال اليهودية والمذاهب السرية 1 , فنشأت مذاهب غريبة تشترك في الاعتقاد

_ 1 لفظ الكابال يعني التقليد "الموروث أو المقبول" من فعل: قبل يقبل، والكابال جملة شروح رجال الدين من اليهود على التوراة، وهي شروح من الغرابة والبعد عن الأصل بمكان.

بالروحانيات وفي معالجة العلم الطبيعي، فتتّخذ من الناحية الأولى وجه الدين، ولكنه دين غامض مريب، ومن الناحية الثانية وجه الفلسفة، ولكنها فلسفة مشوبة بالسحر والتنجيم والطلسمات، فقد كان أصحابها يزعمون معرفة الطبيعة بمذهب سري، وإخضاعها بفن سري، تبعًا لما جاء عند أفلوطين من أن العالم جملة قوى مترتبة, وأن من الممكن التأثير فيما تحت فلك القمر بوساطة القوى العليا. ب- إلى هذه النزعة ينتمي جان بيك دي لاميراندول, كان متضلعًا من اليونانية والعبرية، وكان يعتقد أن في الكابال حكمة لا تقل شأنًا عن حكمة أفلاطون وحكمة التوراة. وهو أحد الأفلاطونيين الذين حاولوا التوفيق بين أفلاطون وأرسطو، فصنف في ذلك كتابًا تركه غير تام. وقد شرح سفر التكوين شرحًا رمزيًّا بعد كثيرين سبقوه، فاستخرج منه بالتأويل الفلسفة الباهرة المعقدة الموجودة في الكابال. 6 - براسلس " 1493 - 1541 ": هو تيوفانت هوهنهيم المعروف ببراسلس. عالم وطبيب ألماني, كتب بالألمانية. يرجع إلى النزعة المتقدمة، فيؤمن بنور باطن أعلى من "العقل الحيواني" ويحب الكابال ويمزج بينها وبين المسيحية، فيذهب إلى أن النفس الكلية والأرواح التي تليها صدرت عن المسيح، وأن من يطيع الإرادة الإلهية طاعة مطلقة يتحد بالمسيح وبالعقول المفارقة. ويزعم أنه خير الأطباء، الحاصل على الدواء الكلي أو حجر الفلاسفة. ويعارض العلم الطبيعي الأرسطوطالي في عدة نقط، وبالأخص نظرية العناصر الأربعة، وقسمة العالم إلى منطقة عليا وأخرى سفلى، فيقول: إن الموجودات الطبيعية جميعًا مركبة من عين المواد، خاضعة لعين القوانين. والعلم الطبيعي عنده قائم على أن كل شيء في العالم فهو رمز، وأن كل شيء فهو في كل شيء، وأن العلم تعيين درجات الصلة والألفة بين الأشياء، وأننا بمعرفة هذه الدرجات نعرف كيف تتفاعل الأشياء، وكيف نؤثر فيها. وكتبه كلها عبارة عن تعيين مقابلات من هذا القبيل, وقد كان لها تأثير كبير في الجمعيات الصوفية الألمانية, ولكن العلم الحديث اتخذ طريقًا بعيدًا كل البعد عن هذا الخيال.

الفصل الثاني: رشديون

الفصل الثاني: رشديون 7 - بونبوناتزي " 1462 - 1525 ": أ- هو أشهر أساتذة بادوفا في ذلك العصر. وكانت جامعتها أرسطوطالية رشدية تتشبث بتأويل ابن رشد لأرسطو، ليس فقط في العقليات، بل أيضًا في الطبيعيات، فتعارض الميكانيكا الجديدة التي بدأت في جامعة باريس في القرن الرابع عشر، بنظرية أرسطو في حركة المقذوفات، وتصر على قسمة العالم إلى الرشديين اللاتين في قولهم: إن القضية الواحدة قد تكون صادقة عند اللاهوتي دون أن تكون كذلك عند الفيلسوف، وإن باستطاعتنا أن نؤمن بالإرادة بما لا نجد له مبررًا في العقل، فنخضع للدين مع علمنا ببطلان عقائده. ونشر كتابًا في "خلود النفس" أنكر فيه الخلود، ثم أعلن خضوعه لتعليم الدين بالخلود كحل نهائي للمسألة، ولكن محكمة التفتيش أمرت بإحراق الكتاب، ونجا هو من الأذى بفضل حماية أحد الكرادلة. ب- في كتاب "خلود النفس" " 1516 " يذهب إلى أن الخلود ليس لازمًا من مبادئ أرسطو، فكأنه يرد على القديس توما الإكويني الذي قال بعكس ذلك، بل كأنه يقيم الحجة على الكنيسة بالفيلسوف الذي أعلنته حجتها. وفي معالجته للمسألة ينحرف عن قول ابن رشد وأتباعه: إن العقل المنفعل مفارق كالعقل الفعال، وإن للنفس الإنسانية بما هي مشاركة في المعرفة العقلية خلودًا لاشخصيًّا، ويتابع إسكندر الأفروديسي في أن العقل المنفعل في النفس، وأنه "هيولاني" أي: إنه مجرد استعداد جسماني لقبول تأثير العقل الفعال المفارق، وإن النفس الإنسانية فانية كالجسم. وكان هذا الموقف الثاني يعد أكثر خطرًا من الأول، وكانت هناك مناقشات بين أتباع إسكندر وأتباع ابن رشد، فلا نعجب أن يشجع البابا أحد الرشديين "واسمه نيفو Nifo" على معارضة بونبوناتزي، فيدون كتابًا "في الخلوط" لهذا الغرض " 1518 " وبعض الشر أهون من

بعض! ثم يرد بونبوناتزي على الحجة التي تستنتج ضرورة الثواب والعقاب, فيقول: إنها قائمة على تصور خاطئ، أو على الأقل ناقص، للفضيلة والرذيلة والثواب والعقاب. إن الفضيلة التي تصنع بغية ثواب مغاير لها، ليست فضيلة، يشهد بذلك أننا جميعًا نعتبر الفعل النزيه أجمل من الفعل النفعي, والثواب الحق هو الفضيلة نفسها وما يلحقها من اغتباط؛ أما الأجر المغاير للفضيلة، فثواب عرضي لا يمتّ إلى الفضيلة بسبب. وكذلك الحال في الرذيلة، فإنها تنطوي على عقابها، حتى ولو لم يلحقها ألم خارجي. إن الغاية الطبيعية للإنسان هي طبيعته الإنسانية، وإن في كرامة الفضيلة وعار الرذيلة لسببًا كافيًا لمحبة الأولى والترفع عن الثانية, فليس يسوغ للإنسان، سواء أكان فانيًا أم خالدًا، أن يحيد عن طريق الخبر. أما أن الشعب يصنع الخير ابتغاء ثواب أخروي، ويجتنب الشر خشية جهنم، فهذا يدل على أن أفكاره الأخلاقية ما تزال في الطفولة، وأنه بحاجة إلى الوعد والوعيد حيث يصدر الفيلسوف عن المبادئ ليس غير. المشرعون هم الذين ابتكروا الاعتقاد بالخلود، لا عناية منهم بالحقيقة، بل حرصًا على الخير العام. وبونبوناتزي على حق فيما يثبت من أن الطبيعة الإنسانية مقياس الخير والشر، وأنه يجب إتيان الفضيلة لذات الفضيلة، واجتناب الرذيلة لذات الرذيلة, ولكنه على باطل فيما يريد أن ينفي, فليست الفضيلة غاية في ذاتها, وإنما غاية الإنسان وسعادته نظرية، والمسيحية تعلم أن مثل هذه السعادة تتحقق بمعاينة الله، وأن عقاب الرذيلة الحرمان من الله، فإذا كان الثواب والعقاب الأخرويان مغايرين للفضيلة والرذيلة بما هما كذلك، فإن الثواب الأخروي ذاتي للإنسان الفاضل الذي يتوجه إلى الفضيلة لكونه إنسانًا ويتخذ منها وسيلة لتغليب الإنسانية على البهيمية، والعقاب الأخروي ذاتي للإنسان الرذيل الذي يتحول عن إنسانيته. وبونبوناتزي بعد لا يستطيع أن يعين أساسًا للواجب ومبدأ ملزمًا به, فيدعه لمحض مشيئة الشخص. وتعد محاولته هذه نموذجًا للأخلاق الطبيعية المستقلة عن الفلسفة والدين. ج- وله كتاب "في القدر والحرية وانتخاب الله للمخلوقات" " 1525 " يذهب فيه إلى أن الحرية الإنسانية ثابتة بالتجربة، وأن العناية الإلهية ترجع إلى الإيمان، ولا يمكن التوفيق بينهما؛ لأن في وضع الواحدة رفعًا للأخرى. ويعرض لمسألة الشر، فيبرره بأنه داخل في نظام العالم، وأنه شرط الخير، كما يفعل

أفلاطون والرواقيون وأفلوطين. وبعد وفاته نُشر له كتاب "في علل الظواهر الطبيعية العجيبة أو كتاب التعازيم" " 1556 " يقول فيه: إن المعجزات أحداث استثنائية تصاحب نشوء الأديان، وهي مع ذلك أحداث طبيعية، إلا أن تفسيرها يتطلب تعمقًا في معرفة الطبيعة لا يبلغ إليه الإنسان عادة؛ فهو يتطلب مثلًا معرفة ما للأعشاب والأحجار والمعادن من قوى خفية، وما بين الإنسان وسائر أجزاء العالم، ومنها النجوم بنوع خاص، من علاقات مختلفة، وما للمخيلة من قوة قد تحدث الشفاء بالإيحاء، وأمورًا أخرى من هذا القبيل. وكان أفلوطين قد قال بمثل ذلك "في الرسالة الرابعة من التساعية الرابعة، ف 36 - 42 " فهؤلاء الرشديون أو الأرسطوطاليون يستمدون أسلحتهم من كل موضع. 8 - جيرولامو كردانو " 1501 - 1576 ": خريج جامعة بادوفا أيضًا، اشتهر بالطب، وله اسم مذكور في الرياضيات بوضعه قاعدة لحل معادلات الدرجة الثالثة في كتاب نشر سنة 1543. وهو صنو براسلس، ذهب إلى مزيج غريب من السحر والتنجيم، ومن الآراء الحرة. نظر في قيام الأديان وانحطاطها، وفي توزعها في مناطق الأرض، فأرجعها إلى تأثير اقتران النجوم، واستخرج طالع المسيح المولود في اقتران المشتري والشمس، وأضاف الشريعة اليهودية إلى تأثير زحل!! وللعالم عنده نفس واحدة آلتها الحرارة، فجميع الموجودات الطبيعية حية ولو لم تظهر الحياة فيها جميعًا. ويروى أنه بعد استكشاف أقمار المشتري أبى أن ينظر في التلسكوب وأصر على إبائه لمخالفة هذا الكشف لمذهب أرسطو! 9 - تشيزاري كريمونيني " 1550 - 1631 ": من أساتذة بادوفا وآخر ممثلي مدرستها في الوقت الذي كان العالم من حولها قد تحول أيما تحول. له كتاب "في السماء" يردد فيه الآراء المميزة لمدرسة قدم العالم وضرورته: إنكار الخلق، اتحاد وثيق بين النفس والجسم يقضي على الروحانية، إنكار الخلود، إنكار العناية الإلهية، واعتبار الله علة غائية فحسب.

الفصل الثالث: علماء

الفصل الثالث: علماء 10 - ليوناردو دافنتشي " 1452 - 1519 ": ثمرة من خير ثمار عصر النهضة. اشتغل بالتصوير والنحت والموسيقى فكان فنانًا عظيمًا، وتبحر في التشريع والمعمار والميكانيكا فكان عالمًا مبرزًا، واستخلص من أبحاثه أصول المنهج العلمي، ومن مشاهداته للناس عوامل سيرتهم فكان فيلسوفًا مذكورًا. تناول علم الميكانيكا حيث تركه أرشميدس، ونهج فيه نهجه، فوصل إلى نتائج تختلف عما كان وصل إليه الإسميون الباريسيون في القرن السابق. وكان مقتنعًا بأن العلم ابن التجربة، وأن النظريات التي لا تلقى تأييدًا من التجربة نظريات باطلة, فكان يرمي الكيميائيين والمنجمين بأنهم دجالون أو مجانين. وليست التجربة عنده مجرد الإدراك الحسي، بل البحث عن العلاقات الضرورية بين الأشياء، ووضع هذه العلاقات في صيغ رياضية تخلع على نتائج التجربة يقينًا كاملًا، وتسمح باستنتاج الظواهر المستقبلة من الظواهر الراهنة. 11 - نقولا كوبرنك " 1473 - 1543 ": أ- ولد بمدينة ثورن Thorn من أعمال بروسيا، ولكن البولنديين يدعونه, والمرجح أنه من أسرة ألمانية استوطنت بولندا. درس الآداب والرياضيات والفلك بجامعة كراكوفيا, وقضى عشر سنين بإيطاليا "بمدن بولونيا وروما وبادوفا" ويلوح أن أستاذه ببولونيا كان يشك في الفلك القديم. وتكونت عنده هو أصول مذهبه فيما بين الثالثة والثلاثين والسادسة والثلاثين، وقضى زمنًا طويلًا يعالجه وينقحه، ثم وضع كتابه "في الحركات السماوية" ولكنه لم ير نشره إلا في آخر حياته، فجاءته نسخة مطبوعة منه, وهو على فراش الموت فاقد الوعي. ب- أراد أن يتصور السماء على نحو أبسط من تصور أرسطو وبطليموس، ورائده أن دأب الطبيعة إدراك غاياتها بأبسط الوسائل، فرأى أن بقاء أكبر الأجرام ثابتًا على حين تتحرك من حوله الأجرام الصغرى، أكثر تحقيقًا لهذا المبدأ من

دوران الأجرام جميعًا حول الأرض. وأضاف إلى مبدأ البساطة مبدأ النسبية حيث قال: إن الإدراك الحسي لا ينبئنا بداهة، حين تحدث حركة في الفضاء، إن كان المتحرك هو الشيء المحسوس، أو الشخص الحاس، أو إن الاثنين يتحركان بسرعة مختلفة، أو في اتجاه مختلف؛ فإذا افترضنا الأرض متحركة، وهي المكان الذي نشاهد منه الحركات السماوية، حصلنا على صورة للعالم أبسط من الصورة المبنية على افتراض الأجرام السماوية هي المتحركة. وينحصر جهد كوبرنك في التدليل الرياضي على أن الفرض الأول يدع الظواهر كما تبدو للإدراك الحسي. فالنظرية الجديدة معروضة هنا كمجرد فرض، وقد عني الناشر بالتنبيه على ذلك في المقدمة، فلم يثر الكتاب اعتراضًا. وهذه النظرية قال بها أرسطرخس الفيثاغوري، وذكرها شيشرون في أحد كتبه، وقرأها كوبرنك، فعمل على تأييدها، أو بعبارة أصح، على بيان إمكانها. 12 - لويس فيفيس " 1492 - 1540 ": ولد في بلنسية من أعمال أسبانيا. درس في باريس, وقضى باقي حياته في بلجيكا. كان من القائلين بوجوب اتخاذ التجربة أساسًا للمعرفة, وقد طبق هذا القول في كتاب له "في النفس والحياة" " 1538 " جمع فيه مواد كثيرة مستمدة من القدماء، وملاحظات شخصية كثيرة، وتحليلات دقيقة للظواهر النفسية. فهو يصرح بأن صعوبات جمة تعترض الفحص عن ماهية النفس، وأن العلم بما ليست النفس أيسر من العلم بما هي، وأن لا فائدة من معرفة ماهيتها، بل الفائدة في معرفة وظائفها, فعلم النفس عنده فسيولوجي وصفي. وهو يتصور النفس مبدأ للحياة بجميع مظاهرها، وليس فقط للحياة الفكرية, ويجعل من الدماغ مركز المعرفة؛ خلافًا للأرسطوطاليين الذين كانوا يضعونها في القلب. على أنه يضع في القلب القوة الحيوية، بحجة أن القلب موضع أول مظهر وآخر مظهر للحياة، وموضع الانفعالات. وهو مع ذلك روحي، يقول: إن النفس الإنسانية مخلوقة من الله مباشرة، وإن النفسين النامية والحاسة متولدتان بقوة المادة. ودليله على روحية نفس الإنسان أنها لا تقنع بالمحسوس المتناهي، ولكنها تواقة إلى اللانهاية. وقد كان له أثر قوي للغاية على النظريات النفسية في القرنين

السادس عشر والسابع عشر؛ وديكارت يدين له بالشيء الكثير، ويذكره في غيرما موضع, وله آراء قيمة في التربية والتعليم. 13 - كبلر " 1571 - 1630 ": ولد في إحدى مدن ورتمبرج. درس الآداب والفلسفة واللاهوت والرياضيات والفلك في المدرسة الأكليريكية بتوبنجن. ثم انصرف عن اللاهوت إلى تدريس الرياضيات, وكان يرى فيها أكمل العلوم، ويرى وجوب اتباع منهجها في كل علم؛ لأن الروح الإلهي يتجلى بالنظام والقانون، ولأن العقل الإنساني يدرك النسب الكمية بأوضح مما يدرك أي شيء آخر، ولا يصل إلى اليقين التام إلا باعتبار الوجهة الكمية. وكان أول اتجاه كبلر إلى وضع نظرية جديدة توفق بين نظرية كوبرنك ونظرية العقول المحركة للكواكب، ولكنه عاد فآثر أن يفترض عللا "طبيعية" واستعاض بالقوة عن العقل المحرك. وبعد بحوث طويلة استعاض بالإهليلج عن الدائرة التي كانت معتبرة أكمل الأشكال, وأيد نظرية كوبرنك بأن اكتشف مدارات السيارات وقانون حركتها. وفي أول كتاب له خصص فصلًا للتوفيق بين نظرية كوبرنك والتوراة؛ وكان بروتستانتيًّا، فلما راجع المخطوط أساتذة اللاهوت بجامعة توبنجن البروتستانتية، حذفوا منه ذلك الفصل، فلم يظهر في الكتاب المطبوع " 1596 ". وفي سنة 1608 أراد أن ينشر في ليبزيك تقريرًا مفصلًا عن النجم المذنب الذي ظهر في السنة السابقة، فأصرّ لاهوتيو المدينة البروتستانت على أن يمتنع من النشر. 14 - جليليو " 1564 - 1642 ": أ- ولد بمدينة بيزا من أعمال إيطاليا. وفي السابعة عشرة دخل جامعتها لدراسة الطب نزولًا على رغبة والده، ولكنه كان يتلقى في الوقت نفسه الفلسفة والرياضيات والفلك، مع شغف كبير باليونانية واللاتينية والشعر والموسيقى والرسم، وإيثار لأفلاطون وأرشميدس على أرسطو. وبعد ثماني سنين صار أستاذًا بالجامعة فمكث بها ثلاث سنين " 1589 - 1592 " ثم انتقل إلى جامعة بادوفا، فقضى بها سبع عشرة سنة " 1593 - 1610 " وكان يعرض الفلك القديم مع اعتقاده

بنظرية كوبرنك، شأن غير واحد من أساتذة العصر، وفي سنة 1609 صنع التلسكوب، فرأى جبال القمر ووديانه، وأقمار المشتري الأربعة, وعين قانون حركتها. وفي مارس من السنة نفسها نشر كتابًا بعنوان "رسول من النجوم" عرض فيه كشوفه، وأعلن انحيازه لنظرية كوبرنك؛ فلقي هذا الكتاب نجاحًا عظيمًا, وغادر جليليو بادوفا إلى فلورنسا إجابة لدعوة الغراندوق. وفي أواخر السنة اكتشف كلف الشمس، فاستنتج من حركة الكلف على قرص الشمس دوران الشمس نفسها، وفساد الرأي القديم الذي يقسم العالم إلى منطقة سفلية هي محل الكون والفساد، وأخرى علوية بريئة منهما. ودعا أتباع أرسطو إلى النظر بالتلسكوب، ويذكر أن ملانكتون، الزعيم البروتستانتي، وكريمونيني، أستاذ بادوفا، رفضا هذه الدعوة غيرة منهما على مذهب أرسطو، وفي سنة 1611 ذهب جليليو إلى روما، فأحسن البابا بولس الخامس وفادته، واحتفى به فلكيو المعهد الروماني؛ ثم عاد إلى فلورنسا. ب- وما كاد يستقر فيها حتى صدر كتاب لأحد علمائها "في الفلك والبصريات والطبيعيات" " 1611 " يتهمه بمخالفة التأويل السلفي للكتب المقدسة, فرد عليه جليليو في 21 ديسمبر 1612 برسالة موجهة إلى الراهب البندكتي كاستلي، أستاذ الرياضيات بجامعة بيزا الذي كان يقول بدوران الأرض، ودفع التهمة بتأويل النصوص الكتابية المعترض عليها طبقًا لنظريته, ثم عاد فأسهب في هذا الموضوع في رسائل أخرى. وفي 5 فبراير 1615 أحال أحد الرهبان الدومنيكان إلى ديوان الفهرست، وهو الديوان المكلف بمراقبة الكتب ووضع الخطر منها في ثبت الكتب المحرفة، ورسالة جليليو إلى كاستل. فقام الديوان بالتحقيق مع جليليو، ونصحه الكرادلة دلمونتي، الذي كان رشحه للأستاذية بجامعة بيزا، وبلارمينو، من كبار رجال الكنيسة، وباربريني، الذي صار فيما بعد البابا أوربان الثامن، بأن يقتصر على التدليل العلمي، ويعرض نظريته على أنها فرض أبسط من النظرية القديمة، ويدع تفسير الآيات الكتابية إلى اللاهوتيين ولكنه لم يستمع إلى هذه النصيحة. ونشر تفسيرًا جديدًا لبعض الآيات, فأعلن إليه ديوان التفتيش في 25 فبراير 1616 أن يمتنع من الجهر برأيه، فوعد بالامتناع. وفي 5 مارس قرر ديوان الفهرست تحريم كتاب كوبرنك "ما لم يصحح" وأغفل

ذكر كتاب جليليو مراعاة له. ومعنى قول الديوان: "ما لم يصحح" أنه يأذن بطبع الكتاب نظرًا لفائدته بشرط تصحيح المواضع التي يتحدث فيها المؤلف عن حركة الأرض ومكانها من العالم "لا كمجرد فرض بل كحقيقة" كما جاء في تفسيره لقراره بتاريخ 15 مايو 1620. ج- وفي 1618 ظهر نجم مذنب، فنشر جليليو "أو أحد تلاميذه فيما يقال" "مقالًا في المذنبات". فرد عليه أحد اليسوعيين من أساتذة المعهد الروماني فصنف جليليو كتابًا في شكل رسالة موجهة إلى أحد رجال الدين المعروفين، أسماه "المحاول" " 1623 " أي: محاولة في المنهج التجريبي، وحمل فيه حملة عنيفة على الفلك القديم, فأخلف وعده مرتين. على أن البابا "أوربان الثامن" استقبله بروما في السنة التالية ست مرات، وشمله بعطف كثير. وبعد ثماني سنين " 1632 " أذاع جليليو كتابه المشهور "حوار يناقش فيه أربعة أيام متوالية أهم نظريتين في العالم" يقتصر فيه ظاهرًا على سرد الحجج في جانب كل نظرية، وينم أسلوبه عن الجانب الذي يميل إليه. فعهد البابا إلى لجنة بفحص الكتاب، وأعلن ديوان التفتيش إلى جليليو بالمثول أمامه، فاعتذر باعتلال صحته، وبعد خمسة أشهر " 13 فبراير 1633 " وصل إلى روما، فلم يحبس كما كان مألوفًا. ولما سئل أجاب أنه ما زال منذ قرار ديوان الفهرست يعتبر رأي بطليموس حقًّا لا يتطرق إليه الشك، وكرر هذا الجواب، فكان كاذبًا مرتين. فطلب إليه التوقيع على جوابه وصرف, وفي اليوم التالي قرئ عليه الحكم، فإذا بالحكم يعلن أن شبهة قوية قائمة على جليليو بالخروج على الدين لقوله بمذهب كاذب منافٍ للكتاب المقدس، ويطلب إليه أن ينكره، وأن يقسم بأن لا يقول أو يكتب شيئًا يمكن أن يستنتج منه هذا المذهب. فأنكر وأقسم وهو راكع على ركبتيه، ثم وقع بإمضائه على صيغة الإنكار والقسم. ويروى أنه بعد التوقيع ضرب الأرض برجله وقال: "ومع ذلك فهي تدور" ولكن هذه الرواية لم تذكر لأول مرة إلا سنة 1761، وهي إن صحت كانت شاهدًا ناطقًا بريائه أو كذبه مرة ثالثة. د- وكان الحكم يقضي عليه بالحبس، ولكن البابا عين إقامته في قصر سفير توسكانا صديق جليليو. وبعد بضعة أيام تركه يذهب إلى مدينة سيين حيث نزل عند أحد الكرادلة من أصدقائه أيضًا. وبعد خمسة أشهر طلب الإذن

بالذهاب إلى فلورنسا، فأجابه البابا إلى طلبه. فعاش هناك "سجينًا بالشرف" فكان يواصل بحوثه الرياضية، ويستقبل من يقصد إليه من العلماء والكبراء. وفي سنة 1638 نشر كتابًا بعنوان "مقالات في علمين جديدين" يحوي أصول العلم الحديث في الميكانيكا والطبيعة، ولكنه طبع في هولندا هربًا من المراقبة قبل الطبع. وفي أوائل تلك السنة فقد جليليو بصره, وكانت وفاته بالحمى؛ وفي أثناء مرضه أبدى عواطف تقوى حارة، وأرسل إليه البابا بركته. هـ- والحق أن "المجمع المقدس" أخطأ في الحكم بأن مذهب كوبرنك باطل منافٍ للكتب المقدسة. ولكن هذا لا ينال من الكنيسة بالقدر الذي يزعم الكثيرون؛ ذلك بأن الكنيسة تعلم أن عصمتها في العقائد والأخلاق قائمة في المجمع الكنسي العام، أي: الممثل للكثلكة جمعاء، متحدًا مع البابا وفي البابا نفسه, ناطقًا باسم الكنيسة وفارضًا نطقه صراحة على جميع المؤمنين. والحكم هنا صادر عن هيئة خاصة؛ وهذه الهيئة إن كانت أنكرت النظرية الجديدة، فهي لم تمانع في إذاعتها كمجرد فرض علمي. فلم يكن رائدها التعصب ضد العلم، بل صيانة الكتب المقدسة لصيانة الدين والأخلاق، وكل ما يمكن أن يقال هو أن غيرة رجالها على الدين أربت على فطنتهم, ولكن يجب أن نذكر أن النظرية القديمة كان يؤيدها البروتستانت أيضًا، وقد مر بنا موقف لاهوتييهم من كبلر؛ كما كان يؤيدها جميع الأرسطوطاليين من مؤمنين وملحدين. ثم إن أدلة جليليو لم تكن برهانية، وهذه نقطة جديرة بالتنويه، فكان خصوم نظريته يناقشونها وينقدونها، وقد قال الكردينال بلارمينو، في رسالة ترجع إلى سنة 1615 موجهة إلى أحد الرهبان المناصرين لمذهب كوبرنك: "لو كان هناك برهان حق على دوران الأرض وثبات الشمس، إذن لتعين الحذر الشديد في تفسير آيات الكتاب المقدس، ولكان أحرى بنا أن نقول: إننا لا ندرك معناها، من أن نكذب ما قام عليه البرهان، ولكني لن أعتقد بقيام هذا البرهان قبل أن يبين لي". وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، إذ لم تعد الكنيسة تحرم الاعتقاد بمذهب كوبرنك، بل صارت تحمل الآيات على محمل التعبير بالظاهر، كما نقول نحن الآن: طلعت الشمس وغربت, وماذا يقول الشانئون لمن يذهب من علمائنا المعاصرين إلى أن نظرية كوبرنك مجرد فرض، وأن ميزتها على النظرية الأخرى تنحصر في

بساطتها ليس غير؟ فيصرح أحدهم، هنري بوانكاري، بأن هاتين القضيتين: "الأرض تدور" و"افترض دوران الأرض أكثر نفعًا في العلم" هما معنى واحد بعينه، وليس يوجد في إحداهما أكثر مما يوجد في الأخرى 1. ووبعد, فأهمية جليليو في تاريخ الفلسفة ترجع إلى نقطتين: إحداهما المنهج العلمي، والأخرى بناء النظرية الآلية. فمن الناحية الأولى نجده يقول عن المنطق الصوري: إنه مفيد في تنظيم التفكير وتصحيحه، ولكنه قاصر عن استكشاف حقائق جديدة وليس يحصل الاستكشاف باستقراء جميع الحالات الممكنة، فإن مثل هذا الاستقراء مستحيل، وإنما يحصل الاستكشاف باستخلاص فرض من تجارب معدودة "وهذه مرحلة تحليلية" ومحاولة تركيب قياس يبين أن ذلك الفرض مطابق لتجارب أخرى "وهذه مرحلة تركيبية" بحيث يتكامل التحليل والتركيب ويتساندان. وهذا يعني أن المنهج العلمي هو الاستقراء الناقص مؤيدًا بالقياس, والاستقراء ممكن حتى ولو لم نستطع أن نجد أو نوجد في الطبيعة الفرض الذي نستخلصه. مثال ذلك، نفترض أن الأجسام تسقط في الخلاء بنفس السرعة، ولكننا لا نستطيع تحقيق الخلاء المطلق، فنستعيض عنه بالنظر إلى ما يحدث في أوساط يتفاوت هواؤها كثافة، فإذا رأينا السرعات تتقارب كلما تخلخل الهواء، حكمنا بأن الدليل قد قام على صحة الفرض. ز- ومن ناحية النظرية الآلية, يقول جليليو: إن هذه النظرية أقرب إلى مبدأ البساطة الذي قال به كوبرنك. فالعلم مادة وحركة, أما الحركة فخاضعة لقانون القصور الذاتي، وكان كبلر قال: إن الجسم لا ينتقل بذاته من السكون إلى الحركة، وقال جليليو: إن الجسم لا يغير اتجاه حركته بذاته، أو ينتقل بذاته من الحركة إلى السكون, وبين بالتجربة أن الحركة تستمر بنفس السرعة كلما أزلنا العوائق الخارجية، فمتى وجدت الحركة استمرت دون افتقار إلى علة. وأما المادة فمجرد امتداد، ويقول جليليو: إنه لم يستطع قط أن يفهم إمكان تحول الجواهر بعضها إلى بعض، أو طروء كيفيات عليها، كما يذهب إليه أرسطو؛ ويرتئي أن كل تحول فهو نتيجة تغير في ترتيب أجزاء الجسم بعضها بالنسبة إلى بعض، وهكذا لا يخلق شيء ولا يندثر شيء، فالتغيرات الكيفية عبارة عن تغيرات كمية

_ 1 Henri poincare, La science et pnypo hese,p." 4 ".

أو حركات. وينقلب العلم الطبيعي علمًا رياضيًّا ينزل من المبادئ إلى النتائج, ويسمح بتوقع الظواهر المستقبلة؛ لذا كان مبدؤه قياس ما يقبل القياس، ومعالجة ما لا يقبله مباشرة حتى يصير قابلًا له بصفة غير مباشرة. ويصرح جليليو أن الأعراض التي يصح إضافتها للأجسام هي: الشكل والمقدار والحركة والسكون ليس غير، ويسميها لذلك بالأعراض الأولية أو العينية الملازمة للأجسام بالضرورة؛ أما الضوء واللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة والبرودة، فما هي إلا انفعالاتنا بتأثير الأجسام الخارجية، وهي كيفيات ثانوية. وهذا يعني أن ما لا يقاس "كما هو حال الإحساسات بالكيفيات الثانوية" فهو غير عيني أو موضوعي، وكان المنطق يقضي على جليليو بأن يقتصر على القول بأن ما لا يقاس فهو خارج عن العلم الطبيعي الرياضي، لا أن يقول: إنه غير موجود. وقد كان هذا الاعتقاد بذاتية الكيفيات المحسوسة مدعاة للشك في المعرفة، ومزلقة إلى التصورية التي تدعي أننا لا ندرك سوى تصوراتنا. وبكلمة واحدة: إن جليليو يبعث مذهب ديموقريطس، ويظنه صورة للوجود، وسيمضي في إثره العلماء المحدثون.

الفصل الرابع: نقاد

الفصل الرابع: نقاد 15 - نقولا ماكيافلي " 1469 - 1527 ": أ- أشهر أشياع الوثنية في عصره. ولد بفلورنسا في أسرة شريفة, وفي سن مبكرة انتظم في السلك السياسي, وكانت الجمهوريات الإيطالية متنابذة أشد التنابذ، تستبيح في حروبها كل صنوف الدسيسة والغدر والقسوة. فشهد كل ذلك، وقرأ مثله في كتب التاريخ، فاعتقد أن هذه هي الطبيعة الإنسانية، وانتهى إلى "سياسة واقعية" قوامها أن الحذر والقوة هما الخصلتان الضروريتان للحاكم، كما قال سوفسطائيو اليونان. وعرض مذهبه في كتب، أشهرها كتاب "الأمير" " 1513 " و"مقالات على المقالات العشر الأولى في تاريخ تيتو ليفيو" 1513 - 1521 " وهي خير ما كتب. ب- في كتبه جميعًا يقارن بين الأخلاق القديمة والأخلاق المسيحية؛ فيرى أن القدماء كانوا يحبون الجاه والصحة والقوة البدنية، وكانت ديانتهم تخلع هيبة إلهية على القواد والأبطال والمشرعين. أما المسيحية فإنها على العكس ترجئ غاية الإنسان إلى الآخرة، وتحث على الإعراض عن الجاه الدنيوي، وتمجد التواضع والنزاهة، وتضع الحياة النظرية الباطنة فوق الحياة العملية الظاهرة. فأوهنت عزيمة الإنسان، وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف. فهي نافعة وضرورية للجمهور, فقط المطلوب منه الطاعة، ويجب على الحاكم أن يحميها ويؤيدها حتى ولو اعتقد بطلانها. ج- غاية الأمير القوة والأمن في الداخل، وبسطه السلطان في الخارج. فإذا أراد صيانة سلطانه وجب عليه المران على عدم التقيد بالفضيلة، وعلى استخدام الخير والشر تبعًا للحاجة. أما الذي يريد أن يسير سيرة فاضلة في كل ظرف، فعليه أن يحيا حياة خاصة ولا يعرض للحكم، وإلا هلك حتمًا وسط كثرة الأشرار. وليس الأمير مشرعًا ولكنه حربي، والحرب صناعته الأولى؛ لذا هو لا يبالي أن يُرمى بالقسوة حين يريد الرعية على طاعته, أليست الرحمة الحقة في

إعطاء بعض الأمثلة الصارمة الرادعة، بدل ترك الاضطراب يتفاقم ويقلب المجتمع؟ وهكذا كان مكيافلي نصير الاستبداد، وبقي اسمه عنوانًا على سياسة الختل والغدر, وحسب المسيحية منه هذا الانتقام! 16 - بيير دي لارامي " 1515 - 1572 ": أ- هذا اسمه الفرنسي، ويعرف أيضًا باسمه اللاتيني "بتروس راموس". هو من أوائل الذين حملوا على منطق أرسطو، وقالوا بالاكتفاء بالمنطق الفطري، فعملوا على زعزعة الفلسفة المدرسية. كان أول أمره خادمًا عند طالب موسر بباريس، وكان يحس رغبة شديدة في العلم، فكان يدرس ليلًا. مال أولًا إلى المنطق المدرسي، ولكنه ما لبث أن رغب عنه، وأقبل بشغف على محاورات أفلاطون. وفي الحادية والعشرين حصل على درجة الماجستير في الفنون برسالة لاتينية عنوانها "في أن كل ما قاله أرسطو فهو وهم" " 1536 ". وبعد سبع سنين نشر كتابًا باللاتينية "في الأخطاء الأرسطوطالية" وهو نقد مفصل للمنطق القديم فطلبت الجامعة إلى البرلمان إعدام الكتابين، متهمة المؤلف بأنه عدو الدين والأمن العام، وأنه يبث بين الشباب شغفًا خطرًا بالجديد. وعرض الأمر على الملك فرنسوا الأول، فأصدر مرسومًا بتحريم الكتابين، وكفه عن التعليم والنشر؛ لأنه "إذ ينقد أرسطو يعلن عن جهله هو". على أن هنري الثاني ألغى المرسوم سنة 1551 , فعلم راموس عشر سنين في الكوليج دي فرانس، وهو معهد أنشأه فرنسوا الأول للعلماء الإخصائيين. علم المجموعتين الثلاثية والرباعية على منهج العصر الوسيط, فصادف إقبالًا هائلًا لم يعرف له نظير منذ تدريس أبيلار، إذ كان يحتشد لاستماعه نحو ألفي شخص. وفي هذه الأثناء نشر بالفرنسية كتابًا في الجدل " 1555 " وآخر بعنوان "تنبيهات مقدمة إلى الملك على إصلاح جامعة باريس" " 1562 " وفي تلك السنة اعتنق البروتستانتية على مذهب كلفان. ولما نشبت الحرب الأهلية غادر باريس وفرنسا، فلقي استقبالا شائقا في ألمانيا وسويسرا حيث علم من 1568 إلى 1570 , ثم عاد إلى باريس. وفي 26 أغسطس 1572 قتل فيمن قتلوا من البروتستانت. ب- فكرته الأساسية أن المنطق فن عملي يزاول بالطبع، وأن القواعد عقيمة

مرهقة للعقل. وهذه فكرة قديمة ترجع إلى نفر من الرواقيين والأفلاطونيين، احتجاجًا منهم على الإغراق في التمرينات المنطقية، وقد عرضها أفلوطين في الرسالة الثالثة من التساعية الأولى، حيث يعارض المنطق بالجدل الأفلاطوني. ويستشهد راموس بمن سبق المنطق الصناعي من فلاسفة وسياسيين وخطباء وشعراء ورياضيين. هؤلاء جميعًا استخدموا العقل دون قصد، وطبقوا القواعد دون شعور بها. فالمهارة في الجدل تكتسب، لا بترديد القواعد النظرية، بل بمخالطة "الشعراء والخطباء والفلاسفة، وبالجملة خيار الناس" مخالطة متصلة. وكان هو يستعين بقدماء الكتاب في دراسة المنطق وتدريسه، فيجد عندهم غذاء لذوقه الأدبي. وهو يقسم المنطق إلى قسمين: أحدهما في اختراع الحجج، والآخر في تركيبها، أما اختراع الحجج فهو عبارة عن كتاب أرسطو في الجدل؛ وأما تركيبها فقد اشتغل به راموس بنوع خاص وفصل نظرية الاستدلال، والأمر الغريب أنه في الواقع لم يحد عن منطق أرسطو؛ وقد هاجم أرسطو من ناحية أخرى، فاتهمه بإنكار العناية والخلق، وبوضع أخلاق مستقلة عن الدين. فانبرى له "المفكرون والأحرار" يردّون عليه, وانتشرت آراؤه في ألمانيا وأسكتلندا وسويسرا، فكان له في هذه البلدان أشياع وخصوم. وهو وإن لم ينل من أرسطو ولم يأت في المنطق بشيء جديد، فقد كان في طليعة الحاملين على المعلم الأول، الشانئين للمنطق الصوري, وسيردد مثل أقواله جميع فلاسفة القرن السابع عشر. 17 - ميشيل دي مونتني " 1532 - 1592 ": أ- من بين المذاهب القديمة كان الشك معروفًا من كتب شيشرون وسكستوسن أمبير يقوس. وقد وجد له أنصارًا طوال القرن السادس عشر, اصطنعه بعضهم للإلحاد والاستهتار، وبعض آخر لكي يخلصوا إلى أن الدين وحده يوفر لنا اليقين، ويرشدنا إلى طريق السعادة. أشهرهم إطلاقًا ميشيل دي مونتني، شريف من أشراف فرنسا, تفقه في الأدب القديم وبخاصة الأدب اللاتيني, فعرف الشيء الكثير عن الإنسان وأحواله؛ ثم نظر إلى الناس في بلده وفي ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، فزاد معرفة بالإنسان؛ وأخيرًا آوى إلى أملاكه، بعيدًا عن الخصومات السياسية والدينية، متوفرًا على الدرس والتأليف وتعرف الإنسان في

نفسه هو, دوّن "محاولات" Essais أي: مقالات في شتى الموضوعات، ونشرها فيما بين سنتي 1580 و 1588 وهو يكثر فيها من الحديث عن نفسه -وهذه إحدى خصائص المحدثين- فيذكر أخباره وعاداته وأذواقه ودراساته، ويقول: "أدرس نفسي أكثر من أي شيء آخر، وهذا عندي ما بعد الطبيعة والطبيعة". ب- نقل من اللاتينية إلى الفرنسية كتابًا في "اللاهوت الطبيعي" لأحد أساتذة جامعة تولوز في الثلث الأول من القرن الخامس عشر، يدعى ريمون دي سبوند، توخى فيه التدليل على العقائد بقوة العقل فحسب، بما لا يخرج عن مذهب القديس توما الأكويني. فأثار نقدًا من جانب الملحدين, فأخذ القلم وكتب مقالًا في "الدفاع عن ريمون دي سبوند" عرض فيه مذهب الشك, يقول لهم: تزعمون أن سبوند لم يثبت ما قصد إلى إثباته, أجل ليست أدلته حاسمة ولكن هاتوا أنتم دليلًا حاسمًا له أو عليه، برهنوا أنتم على آرائكم؛ لا تتهموه بالعجز بل اتهموا بالعجز العقل الإنساني نفسه. ألا إن الإنسان متكبر مغرور بالطبع، إنه أكبر المتكبرين، مع أنه أضعف المخلوقات. يتعالى على الحيوان، ويلقب نفسه ملك الخليقة، وليست المسافة بينه وبين الحيوان على ما يظن. إنه لا يمتاز بالحس، فإن الحيوان يحس؛ ولا بالعقل, فإن الحيوان يستدل على قدر حاجاته استدلالًا معقدًا صائبًا؛ ولا بالاجتماع، فإن من الحيوان ما يجتمع ويتعاون؛ ولا بالكلام، فإن الحيوان يتفاهم. وما من فضيلة من الفضائل التي يفخر بها الإنسان، وما من رذيلة, إلا ولها مقابل في الحيوان: الحلم والعدالة والإحسان والحب والصداقة والغيرة والمكر والادخار والشجاعة والأمانة وعرفان الجميل. وهنا يروي مونتني, عن ذكاء الحيوان في أفعاله ومصنوعاته، حكايات لطيفة ملفقة، أخذ معظمها من أفلوطرخس، ولم يكن يصدقها من غير شك. ثم يقول: إنما يمتاز الإنسان بأنه حيوان مرن غير محدود، بينما سائر الحيوان محدود في نطاق طبيعته، مقصور على حاجاته البدنية. ج- هل يقال: إن هناك شيئًا جوهريًّا يرفعنا فوق الحيوان، هو العلم؟ ولكن ما هذا العلم؟ إذا استثنينا المعارف النازلة بالوحي، لم نجد أنفسنا نعرف شيئًا. ماذا نعرف عن الله؟ لكل فيلسوف جواب، والأجوبة بعضها أغرب من بعض. حين نقول: إن العصور الماضية والمستقبلة ما هي إلا بمثابة اللحظة بالإضافة إلى الله

وإن خيرية الله وعلمه وقدرته غير ماهيته، نقوله باللسان ولا يتعقله العقل. وماذا نعرف عن النفس؟ إن النفس أقرب الأشياء إلينا، ومع ذلك نجد آراء الفلاسفة فيها أكثر تضاربًا وغرابة. وماذا نعرف عن جسمنا؟ ما أعضاؤه وما أجزاؤها؟ وكيف تتصل وتتلاءم فيما بينها؟ وكيف ولم تفعل أفعالها؟ وما المرض؟ ولم ينجع بعض الأدوية دون بعض؟ لا جواب إلا جواب لفظي لا أكثر. وماذا نعرف عن الطبيعة؟ وهل نعرف حقيقة الأجرام السماوية، وحقيقة حركاتها؟ يعارض كوبرنك بطليموس، ولكن "من يدري؟ لعل رأيًا ثالثًا يظهر في مدى ألف عام فيقلب الرأيين". وإن جغرافيي العصر لمخطئون في توكيدهم أن كل شيء قد اكتشف. سقط العلم القديم، فلِمَ لا يسقط العلم الجديد بدوره؟ نحن نتوهم أننا نعلم حين نستخرج نتائج من مبادئ, ولكن ما قيمة المبادئ؟ إن كل قضية نؤيد بها رأيًا، مفتقرة هي أيضًا إلى تأييد، ويتسلسل الأمر إلى غير نهاية, فتبقى المبادئ غير مثبتة. كثير أن نقول: "لا أدري" وأحرى بنا أن نقول: "ما أدراني" فنعين بذلك مبلغ العلم الإنساني. وإن أكثر الناس علمًا ليعلمون أننا لا نعلم شيئًا. فإذا كان الجهل المطبق بداية العلم، كان جهل العالم نهايته. لقد حدث للعلماء الحقيقيين بهذا الاسم مثل ما يحدث لسنابل القمح التي تصعد في الفضاء رافعة الرأس ما دامت خاوية، حتى إذا ما امتلأت حبًّا أخذت تتضع وتدلي القرون. د- ولكن قد يقال: إذا كان علمنا على مثل هذا النقص، أفليس لنا أن نأمل علمًا أضبط في المستقبل؟ كلا، فإن آلات العلم عاجزة عن توفير اليقين, وسنظل كذلك. كيف نطمئن إلى شهادة الحواس بوجود أشياء، ونحن نعتقد في المنام بوجود ما يتراءى لنا؟ من يدرينا لعل اليقظة ضرب من المنام؟ وكيف نطمئن إلى الحواس في شهادتها بكيفيات الأشياء وعلاقاتها، وهي إنما تدرك انفعالاتها، لا الأشياء نفسها؟ ثم إن حواس الحيوان مختلفة عن حواسنا، فالحيوان لا يدرك الأشياء كما ندركها نحن. ويقال مثل ذلك عن أفراد الناس, بل إن الفرد منا يتغير باستمرار وتتغير إحساساته. ثم إن من الحيوان ما يحيا حياة كاملة وهو عاطل من البصر أو من السمع, فمن يدرينا لعلنا عاطلون من حاسة أو اثنتين أو ثلاث أو أكثر؟ أما العقل فليس يوثق به كذلك. إن

صاحب الرأي الخاطئ يعتقده صوابًا, فمن يضمن لنا أننا لسنا على خطأ حين نعتقد أننا على صواب؟ ولو كان للعقل ما يزعم له من حكم صائب لما اختلفت العقول. ولا سبيل إلى علامة لتمييز الحق من الباطل "لكي نحكم على الظواهر الواردة من الأشياء، يلزمنا أداة للحكم، ولكي نتحقق من هذه الأداة، يلزمنا برهان؛ ولكي نتحقق من هذا البرهان، يلزمنا أداة؛ ويدور الدولاب". بل نحن لا نستطيع أن نثبت أن قضية ما أرجح من أخرى؛ فإن مثل هذا الإثبات يستلزم أولًا معرفة الحق الذي يقترب منه الرجحان. هـ- ولما كانت القوانين من صنع الناس، فقد جاءت ناقصة متباينة بتباين البلدان، مختلفة في البلد الواحد باختلاف الأزمان. يقول البعض: إن الضمير يعلن إلينا "قوانين غير مكتوبة" أزلية ثابتة. كلا، فإن الضمير وليد البيئة والعادة لا وليد الطبيعة؛ لذا نراه يختلف باختلاف البلدان والأزمان. فالملحدون الذين يتمردون على الله، والبروتستانت الذين ينازعون الكنيسة سلطاتها, والثائرون الذين يريدون إبدال النظام القائم بنظام أصلح في رأيهم, كل أولئك يصدرون عن الكبرياء والغرور. إن الحكمة تقضي بأن نحكم على الأشياء، لا بحقيقتها وليس لنا إلى الحقيقة من سبيل، بل بفائدتها للحياة، وفي هذا نجد اتفاقًا عامًّا بين الجماعات الإنسانية. فلنستمسك بالعادات والتقاليد. فمونتني يجدد حجج قدماء الشكاك بأسلوبه الحي الملون، ولا يزيد عليها شيئًا؛ ويصل إلى عين النتيجة التي وقفوا عندها, وهي الاستسلام للطبيعة والعادة كأن ليست لنا عقول. ولكنه كان عاملًا قويًّا في إذاعة الشك، وقد أثر تأثيرًا كبيرًا في ديكارت وبسكال.

فلاسفة مستقلون

الفصل الخامس: فلاسفة مستقلون 18 - برنردينو تليزيو " 1508 - 1588 ": أ- ثلاثة فلاسفة إيطاليين من أهل الجنوب يظنون أنفسهم رجال العلم الحديث والفلسفة الحديثة، فيؤلفون فريقًا على حدة، ويختلفون عن فلاسفة شمال إيطاليا الذين كانوا أفلاطونيين أو أرسطوطاليين رشديين. وفيلسوف ألماني يحاول أن يحل مسألة صدور الكثير عن الواحد، فيضع مذهبًا من الغرابة بمكان. ب- أول الفلاسفة الإيطاليين برنردينو تليزيو. ولد بالقرب من نابولي, وتلقى العلم في ميلانو، ثم قصد إلى روما فإلى بادوفا. وبعد أن أقام مدة في بلاط البابا بولس الرابع، الذي كان يقدره تقديرًا كبيرًا حتى أراد أن يعينه رئيس أساقفة، عاد إلى نابولي، وعلم فيها، وأسس أكاديمية لتقدم العلوم الطبيعية عرفت باسمه "أكاديميا تليزيانا". وفي سنة 1565 ظهر القسم الأول من كتابه "في طبيعة الأشياء" وبعد اثنتين وعشرين سنة " 1587 " ظهر القسم الخاص بالإنسان من الوجهتين النفسية والخلقية. ج- كان من أشد معارضي العلم الطبيعي الأرسطوطالي، ولكن علمه هو كان ساذجًا, بعث النظرية الرواقية فذهب إلى أن العالم حي، وأنه عبارة عن مبدأين جسميين خلقهما الله: مادة منفعلة فيها مبدأ فاعل, والمبدأ الفاعل مزدوج: قوة تخلخل أو حرارة، وقوة تكاثف أو برودة. فيقسم العالم إلى مركز حرارة هو السماء، ومركز برودة هو الأرض، دونما اختلاف بين المادة السماوية والمادة الأرضية. والسماء تتحرك حركة دائرية بالطبع، لا بمبادئ مغايرة لها كالعقول المحركة عند أفلاطون وأرسطو؛ وذلك لأنها مركز الحرارة وأن الحرارة تحدث الحركة, والأرض ساكنة لأن طبيعتها باردة مظلمة. "ولكن تليزيو يقول: "إن الأرض تحدث حرارة بتأثير الشمس، فلِمَ لا تتحرك هي أيضًا؟ "". د- الحرارة والبرودة تؤثران في المادة، فتتشكل أشكالًا وتتكيف كيفيات مختلفة تبعًا لنسبة التخلخل أو التكاثف، أو أن الأشياء الطبيعية تولد من تماس

الحرارة السماوية وسطح الأرض البارد. والموجودات جميعًا حاسة؛ لأن كل موجود فهو حاصل على الميل لاستبقاء كيانه، فيتعين أن يحس اقتراب ضده منه لكي يقاومه، وإلا لم يستطع البقاء؛ فالغائية التي يجعلها أرسطو طبيعية في الموجودات غير العارفة، ومعلومة مرادة في الموجودات العارفة، يجعلها تليزيو كلها معلومة، فينتج له أن العالم حي عارف، وهذه القضية تقضي من جهتها بأن تكون الغائية معلومة مرادة. ونفس الحي جزء من المبدأ الفاعل، فهي جسمية مثله، لا صورة جوهرية للجسم كما يقول الأرسطوطاليون، وإلا لما أمكن للمادة أن تؤثر فيها، ولما أدركت هي التكاثف والتخلخل، من حيث إن هذا الإدراك يستلزم أن تتكاثف وتتخلخل. فالنفس نفس حار منتشر في الأعصاب وتجاويف الدماغ، وهذا سيدعى فيما بعد بالأرواح الحيوانية. على أن تليزيو يقول: إن الله يضع في الإنسان، إلى جانب النفس المادية، نفسًا روحية خالدة هي التي لا تقنع بالحياة الأرضية وتدرك الله, وقد يكون تليزيو أراد بهذا القول مجاراة الدين. هـ- الإحساس إدراك التأثيرات الخارجية والتغييرات الداخلية، بل هو إدراك التغييرات الداخلية؛ لأننا إنما نعلم التأثيرات الخارجية بوساطتها, وكل معرفة فهي إحساس, والإحساس حركة مخية, ومتى تكررت في غيبة المحسوس، كانت تخيلًا وتذكرًا. أما المعرفة العقلية، فإدراك علاقات التشابه والتباين بين الإحساسات. وأما الأفعال الخلقية، فترجع إلى غريزة حب البقاء، فيتضح مما تقدم أنه يمكن اعتبار تليزيو ممثلًا للفلسفة القائمة على التجربة قبل تأسيس العلم الطبيعي الحديث. وما هي إلا الفلسفة المادية في جميع العصور، لا يغير فيها تقدم العلم إلا الاصطلاحات والتطبيقات. 19 - جوردانو برونو " 1548 - 1600 ": أ- هو أبرز ممثلي روح "النهضة" في الفلسفة، روح التمرد وروح النشوة بالكون الجديد المتسع إلى غير حد. وُلد بالقرب من نابولي, وفي السادسة عشرة دخل ديرًا للدومنيكان بالمدينة, ولكنه كان حاد المزاج قوي الشهوة، كثير التقلب حتى بدرت منه آراء أثارت الريبة في عقيدته، ففر إلى روما، فكان فيها موضع ريبة أيضًا، فخلع ثوب الرهبنة في الثامنة والعشرين " 1576 " وشرع يطوف في

شمال إيطاليا يعطي دروسًا في الفلك لبعض الشبان الموسرين. ثم قصد إلى جنيف " 1579 " وانتسب إلى جامعتها، ولم يكن الانتساب إليها مباحًا لغير البروتستانت إذ كانت المدينة بروتستانتية، فظن أنه من أتباع الكنيسة الجديدة. وما لبث أن أعلن رأيًا عدته السلطة الدينية منافيًا للمسيحية وأوقعت عليه جرمًا، فعمل على رفع الجرم عنه وأظهر الندم على ما فرط منه. ثم رحل إلى جنوب فرنسا، فعلم سنتين بجامعة تولوز ولقي إقبالًا شديدًا؛ علم الفلك وفلسفة أرسطو، وكانت له مشادات مع العلماء. وفي ذلك الوقت أراد أن يعود إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية فاشترط عليه قبل كل شيء العودة إلى ديره، فأبى. وشبت في المدينة حرب أهلية، فرحل إلى باريس " 1581 " وعلم بها, فصادف من الإقبال مثل ما صادف في تولوز. وبعد سنتين ذهب إلى إنجلترا، فكتب إلى جامعة أوكسفورد يخبرها بمقدمه، ويعلمها بأنه أستاذ الحكمة الخالصة، وفيلسوف مشهور في جامعات أوروبا، لا يجهله إلا البرابرة والأجلاف, إلى غير ذلك من الدعاوى. ففتحت له الجامعة بابها، فعرض فيها آراءه الفلسفية والفلكية، فأثار مناقشات عنيفة، واضطر إلى وقف دروسه، ورجع إلى باريس بعد غيبة سنتين، وهناك أعاد الكرة على الكنيسة الكاثوليكية، فكان ما كان في المرة الأولى من اشتراط فإباء. وفي مناقشة علنية بالجامعة هاجم مذهب أرسطو ودافع عن الفلك الجديد وعن حرية الفكر، وكان دائم الحملة على أرسطو "الشتام الطماع، الذي أراد أن ينتقص آراء جميع الفلاسفة". وبعد فترة قصيرة غادر باريس إلى ألمانيا، فأبت عليه جامعة ماربورج التعليم بها، وأجازته له جامعة فتنبرج, فمكث بها سنتين هادئتين. وفي خطاب الوداع أشاد بالعلم الألماني يمثله نقولا دي كوسا وبراسلس وكوبرنك، وأكبر لوثير لمناهضته الكنيسة الكاثوليكية. فذهب إلى براج, فإلى فرانكفورت حيث قضى سنة، وقد يكون طرد منها, فقصد إلى زوريخ، ثم إلى البندقية " 1591 ". ب- وفيما هو بهذه المدينة شكاه أحد تلاميذه إلى مجلس التفتيش، فأمر باعتقاله " 1592 " فأنكر برونو بعض ما نسب إليه من أقوال، وصرح بأنه كان دائمًا حريصًا على العقيدة الكاثوليكية في أعماق نفسه، وركع وطلب العفو عما بدر منه من أضاليل. ونمى خبر هذه المحاكمة إلى ديوان التفتيش بروما، فطلبه

من حكومة البندقية، فبعثت به, فظل معتقلًا ست سنين ونيفًا، وكان من عادة مجالس التفتيش مطاولة المتهمين علهم يرعوون عن غيهم. أخذ عليه الديوان ثماني قضايا، منها التهكم على تجسد المسيح وعلى القربان الأقدس, فأصدر البابا أمره بأن يطلب منه إنكار القضايا المخالفة للعقائد المقررة، دون القضايا المتعلقة بمذهب كوبرنك. فكان هذا التمييز من جانب البابا دليلًا على استعداد الكنيسة لقبول العلم الجديد، قبل تحريم كتاب كوبرنك وإنذار جليليو بثماني عشرة سنة، وقبل الحكم الأخير على جليليو بخمس وثلاثين سنة. ولكن برونو رفض الطلب وقال: إنه لم يخالف الإيمان، وإن رجال الديوان يؤولون أقواله, فحكم عليه بالجرم, وبتسليمه إلى السلطة المدنية "كي يعاقب برفق ودون سفك دم". فأعدم حرقًا بعد أسبوع " 17 فبراير 1600 " وكان إلى النفس الأخير رابط الجأش مصرًّا على عناده، حتى إن كاهنًا مد إليه صليبًا فرده. ومهما يكن من أمر إحراقه -وكان منهاج العصر يحتمل هذا الضرب من الإعدام- فلا شك في أنه خرج على الدين خروجًا خطيرًا، كما أشرنا إليه وكما سيتضح من بيان مذهبه أنه كان راهبًا معيبًا وفيلسوفًا مفتونًا، جواب آفاق، مشاكسًا مهاترًا. ج- وقد جاءت كتبه كثيرة بالرغم من شدة قلقه وكثرة ترحاله, وجاءت صورة لشخصيته الكدرة الغامضة، أي: قليلة الوضوح, عديمة المنهج، طنانة رنانة, أهمها: كتاب "في العلة والمبدأ الواحد" " 1584 " وهو خيرها جميعًا؛ وكتاب "في العالم اللامتناهي وفي العوالم" " 1574 "؛ وكتاب "في المونادا والعدد والشكل" " 1591 "؛ وكتاب "في الكون اللامتناهي وفي العوالم" " 1591 "، وكتاب "في طرد البهيمة الظافرة" في الفلسفة الخلقية. ومن هذه العناوين نعلم أن مذهبه وحدة الوجود على الطريقة الرواقية. د- كانت مرحلته الأولى إلى هذا المذهب الأفلاطونية الجديدة بأقانيمها الأربعة: الله، والعقل الكلي، والنفس الكلية، والمادة؛ وبقولها: إن الله فوق متناول فكرنا الذي يعمل بالتمييز والاستدلال؛ ثم قال: ولكن الله يصير موضوع تعقل أو فلسفة من جهة كونه باديًا في الطبيعة أو نفسًا كلية تربط بين أجزاء العالم ربطًا محكمًا؛ ولما كان الله لامتناهيًا، كان العالم لامتناهيًا كذلك؛ لأن العلة اللامتناهية تحدث معلولًا لامتناهيًا؛ ولما كان من الممتنع أن يوجد لامتناهيان،

كان الله والعالم موجودًا واحدًا. فلانهائية العالم تلزم إذن من اعتبار الله؛ فإن الله مبدأ الخير، فهو يمنح كل ما في قدرته أن يمنح، دون حسد ولا بخل؛ فالكمال اللامتناهي يتجلى بالضرورة في عدد لامتناهٍ من الموجودات، إذ إن التقابل بين القدرة والوجود لا يصح إلا بالإضافة إلى الموجود المتناهي، لا بالإضافة إلى اللامتناهي حيث تتفق القدرة والإيجاد. هـ- وتلزم لانهائية العالم أيضًا من اعتبار العالم نفسه؛ فنحن نلاحظ أن الأفق ينتقل بانتقالنا في المكان، فالإدراك الحسي لا يدل على مركز مطلق للعالم أو على حد مطلق كما اعتقد القدماء، بل العكس يدل على إمكان اعتبار أي مكان نوجد فيه بالفعل أو بالخيال مركزًا للعالم، وعلى إمكان تكبير حدود العالم إلى ما لانهاية. ويتفق مع شهادة الحس هذه ما لخيالنا وعقلنا من قوة إضافة العدد إلى العدد والمقدار إلى المقدار، دون وقوف عند حد؛ كما يتفق معها شعورنا بعدم الرضا كلما بلغنا إلى غاية توخيناها. فمن غير المعقول أن لا يكون الوجود بحيث يطابق مقدرة خيالنا وعقلنا وإرادتنا على مجاوزة كل حدّ. وويلزم مما تقدم نسبية المكان والحركة والزمان. أما نسبية المكان، فتتضح من كون الأفق يستدير دائمًا حول النقطة التي نوجد فيها، فيصبح تعيين المكان نسبيًّا، ويختلف شكل العالم في نظرنا باختلاف النقطة التي نتمثله منها، فيبدو من القمر غيره من الأرض، ويبدو من الزهرة أو من الشمس غيره كذلك وتصير نقطة واحدة بعينها مركزًا أو قطبًا أو سمتًا. لذا كانت ألفاظ "فوق وتحت ويمين ويسار" لا تدل في الحقيقة على شيء مطلق. وأما نسبية الحركة، فتتضح من أن ليس في العالم نقطة ثابتة كما تقدم، فالحركة الواحدة بعينها تتخذ شكلًا خاصًّا حسبما تصورتها من الأرض أو من الشمس؛ وأي نقطة أفترض نفسي موجودًا فيها تبدو دائمًا غير متحركة؛ فليس يمكن الحصول على يقين مطلق بالفرق بين الساكن والمتحرك، والمذهب القديم يفترض ما يلزم التدليل عليه، أعني أن الأرض هي النقطة الثابتة التي تقاس إليها كل حركة. وأخيرًا من نسبية الحركة تلزم نسبية الزمان، ذلك بأنه لما كان الزمان مقياس الحركة، وكانت الحركة تبدو مختلفة باختلاف الكواكب التي ننظر منها إليها، كان في العالم من الأزمنة بقدر ما فيه من كواكب. والنتيجة أن العالم لامتناهٍ، يشتمل على نظم

شمسية لا تحصى، شبيهة بنظامنا الشمسي، أي: إن النجوم شموس تحيط بها سيارات لها أقمار. فيجاوز برونو موقف كوبرنك الذي كان يتابع القدماء في تصور العالم محدودًا. ز- إذا كان الوجود واحدًا لزم أن تتفق فيه جميع الأشياء, وهذا ما يذهب إليه برونو ببيان أن الأشياء مرتبطة أوثق ارتباط، وأن الأضداد التي تبدو للفكر المنطقي منفصلة متعارضة، هي في الحقيقة ملتصقة متدرجة بعضها إلى بعض تدرجًا غير محسوس، فتنم عن مبدأ مشترك تتحد فيه، غير أنه يميز في هذا الواحد بين العلة والمعلول: العلة هي الله أو الطبيعة الطابعة أو نفس العالم، هي المبدأ الذي يترجم عن نفسه في مختلف الموجودات دون أن يبلغ إلى كمال تحققه في صورة جزئية معينة؛ والمعلول هو العالم أو الطبيعة المطبوعة. وليس التوحيد بين الله والعالم إنكارًا لله، ولكنه تمجيد له، إذ إنه يوسع فكرة الله إلى أبعد من الحدود التي يحصرها فيها الذين يجعلون من الله موجودًا قائمًا "بجانب" الموجودات، أي: موجودا متناهيا، إن الله موجود كله في كل شيء، بل هو أكثر حضورًا في الأشياء منها في أنفسها؛ وكل شيء في الطبيعة حي، وما الموت إلا تحول الحياة. إن فساد شيء كون شيء آخر، والعكس بالعكس. فكل موجود نفس وجسم معًا؛ النفس "مونادا" حية "من اللفظ اليوناني "موناس" أي: الوحدة، وكان برونو أول من اصطنع هذا الاصطلاح، فأخذه عنه ليبنتز". وكل موجود صورة جزئية لله المونادا العظمى، أو مونادا المونادات، أو العنصر أو الحد الأدنى لأن كل شيء منتشر عنه، أو الحد الأقصى لأن كل شيء قائم فيه. والجسم أثر ما للمونادا من حركة انتشار, والفكر عودة المونادا إلى ذاتها. في هاتين الحركتين تقوم الحياة، فتدوم ما دامتا، وتنطفئ بسكونهما، لتظهر في صورة جديدة, ونفس الإنسان أعلى مظاهر الحركة الكونية. غير أن برونو عاد فأخذ بنظرية الجوهر الفرد في تفسير كون الموجودات وفسادها، فكانت هذه مرحلة ثالثة وأخيرة، لا تمحو نظرية وحدة الوجود بل تدخل فيها. فهو لم يأت بشيء جديد، اللهم إلا تلك المطابقة بين لانهائية الله ولانهائية العالم، ولو أنه رجع إلى أرسطو يتعلم منه بدل أن يتهجم عليه، وحكم العقل بدل أن ينقاد إلى الخيال، لعلم أن المادة لا يمكن أن توجد بالفعل إلى غير حد.

20 - تومازو كمبانيلا " 1568 - 1639 ": أ- راهب آخر من الدومنيكان أثار الريبة ضده لانتقاضه على أرسطو بحجة استحالة التوفيق بين فلسفته وبين المسيحية واعتناقه آراء تليزيو الطبيعية، وميله إلى العلوم الخفية. وسئل في ذلك أمام مجلس التفتيش، فاستطاع الخروج بسلام من هذا الامتحان, غير أن فتنًا نشبت في كلابريا "مسقط رأسه" ضد الحكم الإسباني، وكان هو قد لفت إليه الأنظار بأفكاره الاشتراكية وإعلانه أنه استدل بالتنجيم على أن ثورات ستقع سنة 1600، فاتهم بالائتمار بالدولة والمروق من الدين، وعذب عذابًا شديدًا، وظل سجينا بنابولي سبعًا وعشرين سنة, ولكنه كان في سجنه يقرأ ويكتب نثرًا وشعرًا، وكان نفر من أصدقائه يزورونه فيه, فيأخذون ما يكتب ويقدمونه للطبع. ثم أفرج عنه وأرسل إلى روما، فأخذه البابا تحت حمايته، ويسر له سبيل الفرار إلى فرنسا، فقضى فيها سنيه الأخيرة وحكومتها تجري عليه معاشًا. ب- عرض آراء تليزيو في كتاب أسماه "دلالة الأشياء والسحر" دوّن سنة 1604 ونشر سنة 1620. يعرف فيه السحر بأنه فن استخدام قوى النجوم وتأثير الإرادة الإنسانية في الطبيعة، فهو من هذه الناحية بعيد كل البعد من العلم الحديث الذي كان يمثله معاصراه ديكارت وجليليو. وفي سنة 1622 طبع له بفرانكفورت "دفاع عن جليليو" دعا فيه الكنيسة إلى ترك الحرية للبحث القائم على التجربة؛ لأن كتاب الطبيعة إذا درس درسًا عميقًا بان متفقًا مع الكتاب المقدس، وكان اعتقاده أن الكنيسة ترحب بالعلم الجديد، وأن برونو لم يحرق بسبب آرائه العلمية, ولكنه هو لم يكن يتصور التجربة مثل تصور جليليو. ولما صدر الحكم على جليليو أذعن له نزولًا على إيمانه, على أن أهم كتبه اثنان: الواحد "في الفلسفة العامة أو الميتافيزيقا" حرر القسم الأكبر منه في سجنه، ونشره سنة 1638، وفيه يلتقي مع ديكارت في المنهج إلى حد غريب، ويقيم آراءه "أو آراء تليزيو" الطبيعية على أساس عقلي؛ والكتاب الآخر "مدينة الشمس" يعرض فيه أفكاره الاجتماعية ناحيًا منحى أفلاطون في "الجمهورية" وتوماس مور في "يوتوبيا". ج- في الفلسفة العامة يعنى أولًا بمسألة المعرفة، ثم ينتقل إلى مسائل

الوجود. تنقسم معارفنا إلى حسية وعقلية، فلمعرفتنا مصدران هما التجربة والاستدلال. وقد ارتاب معظم القدماء في صدق إدراك الحواس، وقال الشكاك: إن الموضوع المدرك بالحس ما هو إلا انفعال الحس، فكيف يسوغ إضافته إلى شيء خارجي، وقد تكون الذات المفكرة علة له وهي لا تدري؟ الجواب: أن الحس الباطن يظهرني على وجودي بصفة مباشرة لا تحتمل الشك. وهنا يستشهد كمبانيلا بالقديس أوغسطين، وكانت فكرة إقامة العلم على الشعور المباشر موجودة عند نقولا دي كوسا ومونتني وغيرهما من رجال عصر النهضة، وأعلن عنها ديكارت في كتابه "مقال في المنهج" المنشور سنة 1637. والحس الباطن يظهرني على نفسي أني قادر عارف مريد، وأني محدود المعرفة والقدرة، فأستنتج أن هناك وجودًا يحدني أي: عالمًا مغايرًا لذاتي، ويصح عندي هكذا بالاستدلال ما يصدر عني طبعًا قبل أي تفكير, أعني الاعتقاد بعالم خارجي هو علة إدراكي الحسي. والمطابقة بين الإدراك الحسي وذات الشيء لازمة من كونهما صادرين "وكون الأشياء جميعًا صادرة" عن أصل واحد. د- تلك الأمور الثلاثة التي يظهرني عليها الشعور، وهي القدرة والعلم والإرادة، هي المبادئ الكلية أو الشروط الأولية للوجود، ويستدل عليها بالعقل فإنه لكي يحصل الموجود على الوجود، يلزم أن يكون ممكن الوجود أو أن تكون له القدرة على أن يوجد، وأن يكون هناك مثال يتحقق الموجود بحسبه من حيث إنه بغير العلم لا يفعل فاعل، وأن يكون هناك إرادة تحققه. فالنظر في الموجود المدرك يؤدي بنا إلى موجد هو الموجود الأعظم أو الله، حاصل على غاية القدرة والعلم والإرادة، بينما سائر الموجودات، الملائكة والنفس الكلية والنفوس الإنسانية والأجسام، تشارك فيها على حسب مكانها من كمال الله؛ لأنها جميعًا فاعلة، بحيث يلزم أن الوجود كله حي، أي: إن في كل موجود قدرة أولية هي القدرة على تحريك الذات أو الحياة، وهذه القدرة مفروضة في القدرة على تحريك أي شيء, ويلزم أن في كل موجود علمًا أوليًّا هو علمه بذاته؛ ولكن هذا العلم كامن متفاوت؛ ونحن مشغولون عنه بالمؤثرات الخارجية التي ترد علينا باستمرار والتي لا محيص لنا عن الالتفات إليها لصيانة حياتنا. فليس هذا العلم الأولي شعورًا بالفعل، وإنما هو إمكان شعور؛ لذا كنا لا ندرك أنفسنا إدراكًا مباشرًا، وإنما

ندركها خلال أفعالنا, على أن هذا العلم الأولي شرط العلم بالأشياء، فإن إدراكي الحرارة معناه أني أشعر بنفسي حارًّا, فكل معرفة عبارة عن تغير وتعيين لشعوري فهي تفترض الشعور قبلها. ثم يلزم أن في كل موجود إرادة أولية تظهر في حبه للبقاء؛ بل إن النبات والحيوان يرمي بالتوليد إلى بقاء أبعد من بقاء الفرد؛ بل إن ما في الضوء والحرارة من حاجة إلى الانتشار والفيض، يترجم عن ذلك الميل الأزلي أو المحبة الأزلية الفعالة. وكما أن العلم بالذات مفروض في كل علم، فكذلك محبة الذات مفروضة في محبة أي شيء، فإن الغرض من كل محبة حفظ الوجود وفيه سعادة الموجود. وأعلى مظهر لحفظ الوجود المشاركة الأبدية في الوجود الإلهي فإن كل موجود، كما أنه صادر عن الله، ينزع إلى أن يرجع إلى الله وأن يشارك في الحياة اللامتناهية. فالموجودات جميعًا متدينة؛ لأنها جميعًا تنفر من العدم، ولما كانت تحمل في أنفسها العدم إلى جانب الوجود، كانت تحب الله أكثر مما تحب أنفسها. وهكذا نصل إلى الأخلاق والدين من طريق محبة الذات التي تبدو في حقيقتها أنها محبة الله فعالة في كل موجود. ففي الإنسان دين كامل متحد بالعلم الكامن والميل الكامن؛ وهذا الدين الأولي مفروض قبل الأديان الوضعية, وإنما لزم الوحي لاختلاف الأديان الوضعية وأضاليلها, واللاهوت أعلى من الفلسفة بقدر علو الله على الإنسان. وهكذا يؤلف كمبانيلا مذهبًا شاملًا قائمًا على معانٍ ثلاثة, وتعد محاولته هذه أولى المحاولات الحديثة التي ترتب الفلسفة كلها تبعًا لوجهة واحدة تعتبر بمثابة نقطة المركز. هـ- أما السياسة فيجب أن تخضع للأخلاق والدين وتصدر عنهما. فهي ليست علمًا أو فنًّا مستقلًّا كما يريد ماكيافلي "ممثل مبدأ الشر" بمذهبه السمج, السياسة قائمة على محبة الإنسان لنفسه بالمعنى المتقدم، ومحبته للمجتمع الذي هو شرط وجوده. ويا حبذا لو ألفت الإنسانية جمعاء إمبراطورية كبرى يديرها مجلس الملوك بإرشاد البابا, بل يا حبذا "كما جاء في "مدينة الشمس"" لو ينظم المجتمع وفقًا لأصول العلم، أي: العلم الطبيعي والفلسفة، فيتولى فيه الحكم خير الذين مهروا في العلم النظري والعلم العملي معًا؛ وتزول سلطة الإكليروس والأشراف؛ وتحظر الملكية الخاصة والمعيشة المنعزلة في دائرة الأسرة؛ لأن الاختصاص والانعزال ينميان الأثرة ويوهنان الوطنية؛ وتنظم العلاقات الجنسية بناء على الاعتبارات

الفسيولوجية لكي تحصل الدولة على مواطنين أصحاء موهوبين؛ ويكلف كل مواطن بما يناسب استعداده من عمل، وترد إلى العمل حقوقه وكرامته فلا يعتبر مهينًا؛ ويعطى المواطن من نتاج العمل على قدر حاجته وفضله، فينتفي الظلم والفقر؛ ومتى كان العمل مفروضًا على كل مواطن وموزعًا تبعًا للكفاية، فيكاد المواطن لا يعمل أربع ساعات في اليوم، فينفق باقي وقته في تحصيل المعارف والحديث والرياضة, يا حبذا! 21 - جاكوب بوهمي " 1575 - 1624 ": أ- إسكاف لم يختلف إلى المدارس، ولكنه كان تقيًّا كثير التفكير، قرأ الكتب المقدسة وكتبًا في الفلسفة والطبيعيات والفلك الجديد والتصوف، وعاشر جماعة من الأشراف المثقفين ومن الأطباء الآخذين بمذهب براسلس. وشغلته مسألة وجود الشر في العالم وفي الإنسان، وكيف يتفق وجود الشر مع وجود الله. وشرع يفكر وعدته تلك المصادر من الكتب وآراء أهل العلم، وكان يكثر من الصلاة يستمد العون الإلهي، حتى إذا ما لاح له حل المسألة اعتقد أن الله كشف له عنه على ثلاث مرات متواليات. وكان حينذاك في الخامسة والعشرين, فواظب على التفكير والتدوين "بالألمانية" اثنتي عشرة سنة، ثم نشر كتابه الأول "الفجر" " 1612 " وبعد سبع سنين نشر كتابًا آخر اسمه "وصف المبادئ الثلاثة للماهية الإلهية" ثم توالت كتبه. ب- يعرض أفكاره في أسلوب ميتولوجي رمزي "بسبب قلة فهم القارئ" فيأخذ أشياء من الكتب المقدسة ومن الكيمياء والفلسفة، ويؤلف مزيجًا غريبًا تلتقي فيه أقانيم الثالوث الأقدس والملائكة وأرواح مختلفة وكيفيات مشخصة. وما يرجع إلى الفلسفة من هذا المزيج بضعة أقوال تذكر بمذهب أنبا دوقليس في محاولته تفسير خروج الكثرة بالكراهية من الكرة الأصلية، وتعتبر لب الفلسفة الألمانية من ديكارت إلى شلنج وهجل وشوبنهور، تلك الفلسفة التي تتصور الوجود حياة متطورة، وتؤثر الحدس على الاستدلال، أو تستخدم الاستدلال في الإبانة عن الحدس.

ج- يقول بوهمي: حيث لا يوجد شيء لا يولد شيء؛ فلا بد أن يكون لكل شيء حتى للشر، أصل أزلي في الله خالق الأشياء، وأن يكون الله منطويًا على كثرة هي الينبوع الخفي للحياة الكلية، إذ كيف يمكن تفسير الكثرة بالوحدة المطلقة، وليس في الوحدة المطلقة شيء تريده ما دامت وحدة. فالله "نعم ولا، نور وظلمة" أي محبة هي أصل الخير والنعيم، وغضب هو أصل الشر والجحيم. هذا الازدواج شرط كل حياة لكي تتطور ويتميز أحد الضدين بالآخر، وفي جميع الموجودات بلا استثناء صراع بين مبدأين متضادين, والله في ذاته آب وابن وروح قدس: الآب إرادة وقدرة، والابن موضوع قدرة الآب؛ فالآب بدون الابن إرادة بدون موضوع، هاوية وموت ولا وجود. فالله الابن هو الإرادة الإلهية ولها موضوع سرمدي لامتناهٍ، هو النور الذي ينير الوجود الإلهي. وأخيرًا الإشعاع المتصل للنور، وتعبير الإرادة عن الحكمة، ذلك هو الروح القدس. د- والإرادة الإلهية، إذ تتأمل كمالها، تحس شوقًا شديدًا إليه، فينشأ التقابل بين الإرادة والكمال، بين النور والظلمة، بين الخير والشر، أي: الإرادة والشوق منفصلين عن الحكمة والمحبة. ثم تنقسم كل من هاتين الوجهتين من الله، ويتولد عن هذا الانقسام سبع ماهيات هي الأصل المشترك للكون، وتجري المادة في الفضاء، ويتكون العالم على ما نشاهده، ويوجد فيه الصراع والقلق فما الطبيعة إلا مظهر الله، أو ما الله بالإضافة إلى الطبيعة إلا بمثابة النفس بالإضافة إلى الجسم. ماهية الله وقدرته تبدوان في كل شيء وفينا نحن, إنا نحيا في الله ويحيا الله فينا، ومتى كنا أطهارًا كنا الله, وبين الطبيعة المنظورة والله، طبيعة غير منظورة صادرة عن الله مباشرة، وحاوية جميع الماهيات والكيفيات الأساسية، هي الابن موضوع قدرة الآب، وعنها تصدر الطبيعة المنظورة، فتصير الماهيات والمثل موجودات وظواهر. هـ- وإذن فقد كان الشر قبل الإنسان، وانحدر إلى طبيعته، ولكن لله قلبًا يعمل باتصال على دفع الشر، وما علينا إلا أن نشق طريقنا "ونخترق الغضب" لنبلغ إلى المحبة، فإن الشر فينا إرادة الانفصال من تناسق الكل، وإرادة أن نصير كلا ونحن في الحقيقة جزء، وهكذا تحل المشكلة بالكشف عن

أصل الوجود وبيان إمكان التغلب على الشر والاتحاد بالله. وفي هذا الحل يستخدم بوهمي الاستدلال العقلي من ناحية، والتجربة الباطنة من ناحية أخرى، تلك التجربة التي تظهرنا على أن الشعور لا يصير ممكنًا بغير التنوع والتضاد، وأنه تطور الفوارق أو نموها نموًّا تدريجيًّا. وكثيرًا ما سيتخذ الفلاسفة من التجربة الباطنة أصلًا وأساسًا، ثم يتصورون العالم كأنه نفس كبرى ويعممون ملاحظاتهم.

الباب الثاني: أمهات المذاهب الحديثة القرن السابع عشر

الباب الثاني: أمهات المذاهب الحديثة القرن السابع عشر مدخل ... الباب الثاني: أمهات المذاهب الحديثة "القرن السابع عشر" 22 - تمهيد: بينما الجامعات والمعاهد الدينية تستمر على مدرسة تراث العصر الوسيط, تشتد من حولها الحركة العلمية والفكرية التي بدأت في عصر النهضة، فنرى رجالًا مستقلين يعملون على تنمية العلم الجديد، الرياضي منه والطبيعي، فيؤلفون الجمعيات أو الأكاديميات، وينشئون المجلات لإذاعة بحوثهم والمناقشة فيها؛ ونرى رجالًا آخرين يستحدثون مذاهب فلسفية كانت الأصول التي نسج عليها الفكر الحديث. ففي إنجلترا يتوطد المذهب الحسي بفضل فرنسيس بيكون وتوماس هوبس وجون لوك. وفي فرنسا يبرز ديكارت بفلسفة عقلية روحية نستطيع أن ننعتها بالجديدة، ولو أن عناصرها ترجع إلى المدرسين، فينتشر أثرها إلى جميع المفكرين، يصطنعها فريق منهم، ويعارضها فريق آخر، ويعدل فيها فريق ثالث, وأشهرهم جميعًا بسكال ومالبرانش وسبينوزا وليبنتز, وستظل الفلسفة إلى أيامنا تابعة لهؤلاء.

الفصل الأول: فرنسيس بيكون " 1561 - 1626 "

الفصل الأول: فرنسيس بيكون " 1561 - 1626 " 23 - حياته ومصنفاته: أ- ولد بلندن، وكان أبوه السر نقولا بيكون حامل الخاتم الأكبر في خدمة الملكة إليزابث. دخل جامعة كمبردج في الثالثة عشرة " 1573 " وخرج منها بعد ثلاث سنين دون أن يحصل على إجازة علمية، وفي نفسه ازدراء لما كان يدرس فيها من علوم على مذهب أرسطو والمدرسيين. رحل إلى فرنسا واشتغل مدة في السفارة الإنجليزية بباريس, وتوفي أبوه سنة 1579 فعاد إلى وطنه. ولما لم يكن هو الابن الأكبر لم يرث إلا شيئًا ضئيلًا، وأقبل على دراسة القانون، وانتظم في سلك المحاماة سنة 1582. وبعد سنتين انتخب عضوًا بمجلس النواب، فكانت خطبه فيه موضع إعجاب عام, وبعد خمس سنين أخذ يعلم بمدرسة الحقوق. ثم عينته الملكة مستشارًا فوق العادة للتاج، فتفانى في مرضاتها حتى لقد غدر غدرًا دنيئًا برجل أحسن إليه ووهبه أرضًا، هو الكونت إسكس، إذ تغيرت عليه الملكة واتهم بالتآمر عليها، فترافع بيكون ضده طالبًا توقيع الحكم الصارم عليه، ولما آل العرش إلى جاك الأول، اصطنع بيكون الملق والدسيسة، ومالأ الملك في استبداده وقضاء مصالحه ومصالح الأسرة المالكة، فبلغ إلى أرقى المناصب القضائية، حتى صار الوزير الأول سنة 1618، وبارون أوف فيرولام، وفيكونت أوف سانت ألبان سنة 1621. وفي تلك السنة اتهمه مجلس النواب بالرشوة واختلاس مال الدولة، فاعترف للحال بما عُزي إليه، فحكم عليه مجلس اللوردة بغرامة قدرها أربعون ألف جنيه، وبحرمانه من ولاية الوظائف العامة، ومن عضوية البرلمان، ومن الإقامة بالقرب من البلاط. وبفضل رعاية الملك لم يقض في السجن سوى بضعة أيام, ولم يؤد الغرامة، ولكنه حاول عبثًا استرداد الاعتبار. ب- إلى جانب شواغله الدنيوية كان يعالج فكرة عرضت له في الخامسة

والعشرين، هي إصلاح العلوم أو إحياؤها بالتعويل على الطريقة الاستقرائية دون الطريقة القياسية. والغريب في أمره أنه كان يتصور العلوم على ما رأى بالجامعة, وظل طوال حياته قليل الإلمام بمكتشفات القرن الرابع عشر وعصر النهضة، جاهلا بالرياضيات وبما اتخذت من شأن في تكوين العلم الطبيعي، بل إنه رمى كوبرنك بالدجل، ولم يدرك أهمية قوانين كبلر وبحوث جليليو. فهو لم يشتغل بالعلم؛ وإن كان أجرى بعض التجارب فهي لا تذكر، وقد وثق بأمور وجاء بتعليلات غاية في الغرابة، فاعتقد بالسحر الطبيعي، وبالكيمياء القديمة، وبالتنجيم, فلم يكن أكثر تقدما من سميه روجر بيكون في القرن الثالث عشر، وإنما كانت أفكاره في جملتها أفكار العصر الوسيط المنقولة عن الرواقية والأفلاطونية الجديدة؛ لذا نراه يرمي علم عصره بالجمود والغرور، ويتنبأ له بالاضمحلال، ويعتبر نفسه داعية لعلم جديد يزيد في سلطان الإنسان على الطبيعة. والحق أنه نفذ إلى ماهية العلم الاستقرائي، وفطن إلى أغراضه ووسائله، ثم حاول أن يرسم بناءه، فوضع تصنيفًا للعلوم، وفصل القول في الطرق التجريبية حتى لم يدع مزيدًا لمستزيد. ج- صنع ذلك أولًا في رسالة بالإنجليزية نشرها سنة 1605 بعنوان "في تقدم العلم" ثم وضع باللاتينية كتابًا أسماه "الأورغانون الجديد أو العلامات الصادقة لتأويل الطبيعة" نشره سنة 1620؛ ثم عاد إلى الرسالة الأولى فنقلها إلى اللاتينية وفصلها بعنوان "في كرامة العلوم ونموها" ونشر الكتاب سنة 1623، وهو موسوعة علمية تحتوي على طائفة كبيرة من الملاحظات القيمة. ووضع كتابًا في السياسة دعاه "أتلنتس الجديدة" وجعله على نسق "يوتوبيا" و"مدينة الشمس" " 20 ب". وله كتب أخرى في هذه الأغراض فقدت كل أهمية بتقدم العلوم؛ وكتب أدبية وتاريخية وقانونية، ومن هذه الأخيرة كتاب "أحكام القانون" Maxims of the law وضعه سنة 1599 تمهيدًا لتنظيم القوانين الإنجليزية. 24 - تصنيف العلوم: أ- الغرض منه ترتيب العلوم القائمة، وبالأخص الدلالة على العلوم التي لم توجد بعد. وهو يرتبها بحسب قوانا الداركة، ويحصر هذه القوى في ثلاث: الذاكرة وموضوعها التاريخ، والمخيلة وموضوعها الشعر، والعقل وموضوعه الفلسفة.

ب- التاريخ قسمان: تاريخ مدني أي: خاص بالإنسان، وتاريخ طبيعي أي: خاص بالطبيعة. فالتاريخ المدني ينقسم إلى قسمين: تاريخ كنسي، وتاريخ مدني بمعنى الكلمة ينقسم بحسب الوثائق التي نستخدمها، من مذكرات وعاديات وتراجم وتواريخ سياسية وأدبية وعلمية وفنية. والتاريخ الطبيعي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وصف الظواهر السماوية والأرضية؛ ووصف المسوخ فإنها تكشف عن القوى الخفية في الحالات العادية؛ ووصف الفنون فإنها وسائل الإنسان لتغيير مجرى الطبيعة، وهي تستخدم القوى الطبيعية, ويقول بيكون: إن القسمين الثاني والثالث لم يوجدا بعد. ج- أما الشعر فقصصي ووصفي وتمثيلي ورمزي؛ فإنه عبارة عن تأويل القصص والأساطير، واستخلاص ما تنطوي عليه صورها ورموزها من معانٍ علمية؛ ومثل هذا التأويل قديم، وكان شائعًا في عصر النهضة. د- وأما الفلسفة فتتناول ثلاثة موضوعات: الطبيعة والإنسان والله. وتنقسم الفلسفة الطبيعية إلى ما بعد الطبيعة أو علم العلل الصورية والغائية؛ وإلى الطبيعة أو علم العلل الفاعلية والمادية، وهي تنقسم إلى الميكانيكا والسحر. وتنقسم الفلسفة الخاصة بالإنسان إلى ما يتناول الجسم، وما يتناول النفس؛ علم العقل أو المنطق وعلم الإرادة أو الأخلاق؛ وما يتناول العلاقات الاجتماعية والسياسية. وأخيرًا الفلسفة الإلهية أو اللاهوت الطبيعي، يمهد له بعلم الفلسفة الأولى أو علم المبادئ الأولية، مثل أن الكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات غير متساوية نتجت كميات غير متساوية، وأن الحدين المتفقين مع حد ثالث فهما متفقان، وأن كل شيء يتغير ولكن لا شيء يفنى. وما إلى ذلك؛ وهذا العلم هو الجذع المشترك بين علوم العقل. هـ- والتاريخ والشعر والفلسفة ثلاث مراحل متتالية يجتازها العقل في تكوين العلوم. التاريخ تجميع المواد، والشعر تنظيم أول للمواد، أو هو تنظيم خيالي وقف عنده القدماء، والفلسفة تركيب عقلي. وفالمبدأ العام لهذا التصنيف ذاتي أي: مأخوذ من تعدد قوانا المدركة، فإن بيكون يظن الواحدة من قوى المعرفة تكفي لعلم واحد، على حين أن العلم الواحد تتضافر في إقامته القوى جميعًا مع تفاوت؛ ثم إنه يضع القوى في مرتبة

واحدة، على حين أن العقل أرقى من الاثنتين الأخريين, وأنه يستخدمهما كآلتين وهو يجمع في طائفة واحدة بين التاريخ الطبيعي والتاريخ المدني، وليس بينهما اشتراك إلا في اسم التاريخ، وأصل تسمية التاريخ الطبيعي نقل حرفي لكلمة "إستوريا" اليونانية, ومعناها "مجموعة مشاهدات" في عنوان كتاب أرسطو "تاريخ الحيوان". على أن بيكون عرف التصنيف الموضوعي، فإن القسم الثالث من تصنيفه يميز بين العلوم بحسب موضوعاتها. 25 - نقد العقل: أ- لأجل تكوين العقل الجديد لا بد من منطق جديد يضع أصول الاستكشاف, فقد كانت الكشوف العلمية وليدة الاتفاق، وكان المعول على النظر العقلي؛ فلم يتقدم العلم. إن العقل أداة تجريد وتصنيف ومساواة ومماثلة، إذا ترك يجري على سليقته انقاد لأوهام طبيعية فيه، ومضى في جدل عقيم يقوم في تمييزات لا طائل تحتها. ويتعين حصر هذه الأوهام الطبيعية للاحتراز منها؛ ويسميها بيكون "أصنام العقل" idola mentis وهي أربعة أنواع: ب- النوع الأول: "أوهام القبيلة" itrlbus وهي ناشئة من طبيعة الإنسان؛ لذا كانت مشتركة بين جميع أفراده. فنحن ميالون بالطبع إلى تعميم بعض الحالات دون التفات إلى الحالات المعارضة لها، وإلى تحويل المماثلة إلى تشابه وتواطؤ، وإلى أن نفرض في الطبيعة من النظام والاطراد أكثر مما هو متحقق فيها، وإلى أن نتصور فعل الطبيعة على مثال الفعل الإنساني، فنتوهم لها غايات وعللًا غائية. ج- النوع الثاني: "أوهام الكهف" sbecus وهي ناشئة من الطبيعة الفردية لكل منا، فإن الفردية بمثابة الكهف الأفلاطوني، منه ننظر إلى العالم, وعليه ينعكس نور الطبيعة فيتخذ لونًا خاصًّا. هذه الأوهام صادرة إذن عن الاستعدادات الأصلية وعن التربية والعلاقات الاجتماعية والمطالعات, فمثلًا: من الناس من هم أكثر ميلًا إلى الانتباه إلى ما بين الأشياء من تنوع، بينما آخرون أكثر ميلًا إلى البحث عن وجوه الشبه، إلى غير ذلك من الاتجاهات. د- النوع الثالث: "أوهام السوق" fori وهي الناشئة من الألفاظ، فإن

الألفاظ تتكون طبقًا للحاجات العملية والتصورات العامية، فتسيطر على تصورنا للأشياء، فتوضع ألفاظ لأشياء غير موجودة، أو الأشياء غامضة أو متناقضة. وهذا أصل كثير من المناقشات، تدور كلها على مجرد ألفاظ. هـ- النوع الرابع "أوهام المسرح" theatri وهي الآتية مما تتخذه النظريات المتوارثة من مقام ونفوذ. وهنا يحمل بيكون على أرسطو وأفلاطون وغيرهما من الذين يفسرون الأشياء بألفاظ مجردة كما يقول، ولكن يصعب تمييز هذه الطائفة الرابعة من الطائفة الثالثة، فإن بيكون يذكر من بين أسبابها تكوين الطبيعة الفردية والمطالعة والعرف والسلطة. وفليست "الأصنام" أغاليط استدلالية كالتي يذكرها أرسطو، ولكنها عيوب في تركيب العقل تجعلنا نخطئ فهم الحقيقة، ويجب التحرر منها لكي يعود العقل "لوحًا مصقولًا" تنطبع عليه الأشياء دون تشويه من جانبنا. وهذه محاولة ضعيفة من بيكون في نقد العقل والتمييز بين ما له وما للأشياء؛ وهي تمهيد سلبي للمنطق الفطري الذي يصبح في غنى عن المنطق الصناعي ما دامت أسباب الخطأ قد استبعدت. وهكذا سيصنع ديكارت ومالبرانش وسبينوزا للاستغناء عن المنطق القديم. 26 - المنهج الاستقرائي: أ- هذا المنهج هو القسم الإيجابي من المنطق الجديد، والحاجة إليه ماسة لأن تصور العلم قد تغير. كان العلم القديم يرمي إلى ترتيب الموجودات في أنواع وأجناس، فكان نظريًّا بحتًا؛ أما العلم الجديد فيرمي إلى أن يتبين في الظواهر المعقدة عناصرها البسيطة وقوانين تركيبها؛ بغية أن يوجدها بالإرادة، أي: أن يؤلف فنونًا عملية. وكان العلم القديم يحاول استكناه "الصورة" أي: ماهية الموجود مثل صورة الأسد أو السنديان أو الذهب أو الماء أو الهواء، فكان مجهوده ضائعًا؛ أما العلم الجديد فيبحث عن "صورة" الكيفية أو ماهيتها، أي: عن صور الطبائع المدلول عليها بهذه الألفاظ: كثيف، مخلخل، حار، بارد، ثقيل، خفيف, وما أشبهها من حالات الموجود، سواء أكانت تغيرات في المادة أم حركات. فبيكون يحتفظ بلفظ الصورة الوارد عند أرسطو، ولكنه يعني به شرط وجود

كيفية ما, أو هو يعدل عن الصورة الجوهرية إلى شروط وجود الصور العرضية، وكان ذلك شأن قدماء الكيميائيين إذ كانوا يعتقدون إمكان تحويل المعادن بالتأثير في كيفياتها. وبالفعل كان بيكون يأمل أن يتسع نطاق سلطاننا على الطبيعة باستكشاف صور الكيفيات، إذ إننا حينئذ نستطيع أن نولد كيفية أو أكثر في جسم غير حاصل عليها, فنحوله من الحرارة مثلًا إلى البرودة أو بالعكس, وأن نركب الكيفيات بعضها مع بعض، فنوجد الأشياء أنفسها: نوجد الذهب مثلًا أو أي معدن آخر, فلا يعد بيكون مبتكرًا لهذا العلم الذي ينعته بالجديد. ب- ولا سبيل إلى استكشاف الصور سوى التجربة، أي: التوجه إلى الطبيعة نفسها، إذ ليس يتسنى التحكم في الطبيعة واستخدامها في منافعنا إلا بالخضوع لها أولًا. إن الملاحظة تعرض علينا الكيفية التي نبحث عن صورتها مختلطة بكيفيات أخرى؛ فمهمة الاستقراء استخلاصها باستبعاد أو إسقاط كل ما عداها. وآفة الاستقراء ما ذكر بين "أوهام القبيلة" من الاكتفاء بالحالات التي تلاحظ فيها ظاهرة ما، والاعتقاد بأنها تكفي للعلم بطبيعتها, هذا النوع من الاستقراء يسمى استقراء بمجرد التعداد. ونتفادى هذه الآفة، ونصل إلى العلم بالصور، إذا اتبعنا الطرق الآتية: ج- 1 - تنويع التجربة بتغيير المواد وكمياتها وخصائصها، وتغيير العلل الفاعلية. 2 - "تكرار التجربة" مثل تقطير الكحول الناتج من تقطير أول. 3 - "مد التجربة" أي: إجراء تجربة على مثال تجربة أخرى مع تعديل في المواد. 4 - "نقل التجربة" من الطبيعة إلى الفن، كإيجاد قوس قزح في مسقط ماء؛ أو من فن إلى آخر، أو من جزء فن إلى جزء آخر. 5 - "قلب التجربة" مثل الفحص عما إذا كانت البرودة تنتشر من أعلى إلى أسفل بعد أن نكون عرفنا أن الحرارة تنتشر من أسفل إلى أعلى. 6 - "إلغاء التجربة" أي: طرد الكيفية المراد دراستها؛ مثال ذلك وقد لاحظنا أن المغناطيس يجذب الحديد خلال أوساط معينة، أن ننوع هذه الأوساط إلى أن نقع على وسط أو أوساط تلغي الجاذبية. 7 - "تطبيق التجربة" أي: استخدام التجارب لاستكشاف خاصية نافعة، مثل تعيين مبلغ نقاء الهواء وسلامته في أمكنة مختلفة أو فصول مختلفة بتفاوت سرعة التنفس. 8 - "جمع التجارب" أي: الزيادة في فاعلية مادة

ما بالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى، مثل خفض درجة تجميد الماء بالجمع بين الثلج والنطرون "ملح البارود". 9 - "صدف التجربة" أي: أن تجرى التجربة لا لتحقيق فكرة معينة، بل لكونها لم تجر بعد، ثم ينظر في النتيجة ماذا تكون؟ مثل أن نحدث في إناء مغلق الاحتراق الذي يحدث عادة في الهواء. د- وبعد إجراء التجارب يجب توزيعها في جداول ثلاثة: جدول الحضور, وجدول الغياب، وجدول الدرجات. 1 - ففي جدول الحضور تسجل التجارب التي تبدو فيها الكيفية المطلوبة، فتستبعد الظواهر التي لا توجد في تجارب هذا الجدول. 2 - وفي جدول الغياب تسجل التجارب التي لا تبدو فيها الكيفية، والتي تكون أشبه ما يمكن بتجارب جدول الحضور، فتستبعد الظواهر الماثلة في هذا الجدول. 3 - وفي جدول الدرجات أو المقارنة تسجل التجارب التي تتغير فيها الكيفية، فتستبعد الظواهر غير المتغيرة، فتكون الصورة المنشودة في الباقي. هـ- هذا الوصف المفصل للمنهج الاستقرائي كان تقدمًا حقيقيًّا بالنسبة للعصر. ولكن بيكون لم يفهم الاستقراء الفهم الحديث، أي: على أنه منهج "القانون الطبيعي" أو تعلق ظاهرة بأخرى، بل على أنه منهج يبين "صور" الكيفيات، فيفترق أيضًا عن أفلاطون وأرسطو والمدرسيين، ويقف في مرحلة انتقال بين الفلسفة القديمة والفلسفة الجديدة.

الفصل الثاني: توماس هوبس " 1588 - 1679 "

الفصل الثاني: توماس هوبس " 1588 - 1679 " 27 - حياته ومصنفاته: أ- هو أول الماديين المحدثين، وأكبر أنصار الحكم المطلق قبيل تقويضه. دخل جامعة أكسفورد في الخامسة عشرة ومكث بها خمس سنين يتلقى المنطق المدرسي والطبيعيات دون كبير اهتمام. ثم جعل يطالع الآداب القديمة, وخاصة المؤرخين والشعراء. وعمل في خدمة بيكون كاتبًا لسره ومعاونًا له في نقل مؤلفاته إلى اللاتينية. وفي سنة 1629 نشر ترجمة لتاريخ توكيديد "حيث تبدو الديمقراطية سخيفة أشد السخف" على حد قوله, فإلى سن الأربعين لم يكن كتب شيئًا في الفلسفة. ب- وحدث أنه سافر إلى فرنسا وأقام بها سنتين " 1629 - 1631 " فعرف فيها "مبادئ أقليدس" ولم يكن درس الرياضيات من قبل، وأعجب بالمنهج القياسي، وعول على اصطناعه. وعاد إلى القارة سنة 1634، فقُوبل في الأوساط العلمية الباريسية باعتباره فيلسوفًا مذكورًا، وكان واحدًا من الذين عرضت عليهم "تأملات ديكارت" " 31 ج" فكتب عليها اعتراضات تتبين منها فلسفته قبل أن يعرضها عرضًا مرتبًا. وقد رد ديكارت على هذه الاعتراضات، وقال: إنه لو أسهب في رده لأعطاها أكثر مما تستحق من قيمة. ج- وجاءت الصورة الأولى لفلسفته في كتاب "مبادئ القانون الطبيعي والسياسي" دوّنه سنة 1640 وقسمه إلى ثلاثة أقسام: الأول "في الطبيعة الإنسانية أو المبادئ الأساسية للسياسة" والثاني "في الهيئة الاجتماعية" والثالث "في المواطن". وبعد عشر سنين نشر كتاب "لاوياثان أو في المجتمع الكنسي والمدني مادة وصورة وسلطة "ولاوياثان هو التنين الهائل المذكور في سفر أيوب "فصل 3 آية 8، وفصل 40 آية 20 " ويقصد به هوبس الحكم المطلق. ثم نشر كتابه "في الجسم" " 1655 " وهو يحتوي على المنطق، والمبادئ الأساسية أو الفلسفة

الأولى، ونظرية الحركات والمقادير، ونظرية الظواهر الطبيعية؛ وقد وردت في الكتاب أخطاء رياضية أخذها عليه الرياضي واليس Walls. وأخيرًا نشر كتابه "في الإنسان" " 1658 " القسم الأكبر منه في البصريات لتوضيح طبيعة حاسة البصر، والباقي بيان موجز في اللغة من الوجهة النفسية وفي الانفعالات, فتم بهذا الكتاب مذهبه. 28 - العلم ومنهجه: أ- العلم معرفة العلة، أو هو معرفة المعلولات بعللها، والعلل بمعلولاتها. والعلم قياسي لأن القياس برهان النتيجة, وموضوع العلم الأجسام لأن كل موجود فهو جسمي. ولما كان الجسم إما طبيعيًّا أو صناعيًّا أي: اجتماعيًّا، انقسم العلم إلى طبيعي يشتمل على المنطق والمبادئ الأولى والرياضيات والطبيعيات؛ وإلى مدني يشتمل على الأخلاق والسياسة, وكلاهما علم تجريبي موضوعه أجسام، أو أن الموضوع الإحساس الظاهر والباطن, وللظواهر جميعًا علة واحدة هي الحركة. هذا مبدأ عام لا يحتاج إلى برهان؛ فالهندسة تفحص عن القوانين الرياضية للحركة، وتفحص الميكانيكا عن مفاعيل حركة جسم في آخر، ويفحص علم الطبيعة عن مفاعيل الحركات الحادثة في ذرات الأجسام، ويفحص علم الإنسان والسياسة عن الحركات الحادثة في نفوس الناس, والباعثة على أفعالهم. ب- غير أن هوبس يعترف بأن الصلة القياسية منقطعة في نقطتين: الأولى نقطة الانتقال من الميكانيكا إلى علم الطبيعة حيث نضطر إلى وقف القياس؛ لنرى أي الظواهر هي الواقعة بالفعل من بين الظواهر الممكنة، فنكون مبادئ علم الطبيعة بتحليل تلك الظواهر، والنقطة الثانية نقطة الانتقال من علم الطبيعة إلى علم الإنسان والسياسة، فإن المبادئ ههنا هي الميول والانفعالات، وهي لا تستنبط مما سبق، بل تدرك في النفس وتوضع كمقدمات جديدة للقياس. وبالفعل كتب هوبس في الإنسان والسياسة قبل أن يكتب في القسمين الأولين من فلسفته كما ذكرنا، ونبه على أن لا بأس في ذلك؛ لأن القسم الثالث يقوم على مبادئه الخاصة فلا يحتاج إلى القسمين الآخرين. وهذا يعني في الحقيقة استحالة معالجة الظواهر جميعًا بمنهج واحد يتقدم من البسيط إلى المركب، أي: استحالة رد الظواهر جميعًا إلى الحركة وقوانينها, وفي هذا نقض مبدئي للمذهب المادي.

29 - الإنسان: أ- ولكن هوبس لا يعدل عن المادية، فما أن يتخذ الإحساس مبدأ حتى يحاول أن يرجع إليه أفعالنا العقلية, يقول: إن كل علم فهو آتٍ من الإحساس، ويعرف الإحساس بأنه حركة في ذرات الجسم الحاسّ صادرة عن حركة في الجسم المحسوس, تنتقل الحركة الخارجية إلى الدماغ ومنه إلى القلب بوساطة أعضاء الحواسّ والأعضاء، فتصادف مقاومة وصدى لأن الأعضاء الباطنة هي أيضًا في حركة متصلة. هذا الصدى بمثابة ميل إلى الخارج يجعلنا نقذف بموضوع الإحساس إلى الخارج. فهوبس يتابع العلم القديم في اعتبار القلب مركز الإحساس، وكذلك الوجدان أو الروح حركة؛ فاللذة مثلًا ما هي إلا حركة في القلب. ولكن ما تعليل الظاهرة الشعورية الناشئة مع الحركة الجسمية؟ إنها لمعجزة بالقياس إليها، وإن المذهب المادي لعاجز عن تعليلها، وهوبس يذهب إلى أن للأجسام خاصتين ليس غير، هما الامتداد والحركة، وإن سائر الكيفيات المحسوسة ذاتية، حتى الزمان والمكان فإنهما صورتان من نوع الصور التي يحدثها فينا الامتداد والحركة، وباستطاعتنا الاحتفاظ بهما مع افتراض زوال الأجسام جميعًا؛ وذاتية الكيفيات المحسوسة قضية لازمة من قوله: إن ما يحدث في العالم هو حركة فحسب، فكل ما يبدو في الشعور مغايرًا للحركة, يكون ذاتيًّا؛ ويؤيد هوبس هذه القضية بما هو معروف من خداع الحواس والأحلام واختلاف الإحساس باللون باختلاف الأشخاص والإحساس بالضوء عند ضرب العين أو إثارة العصب البصري, فكيف نفسر هذه الذاتية إذا لم تكن النفس جوهرًا مغايرًا للجسم، ولم يكن فعلها مغايرًا للحركة الجسمية؟ ب- وحركات الدماغ مرتبط بعضها ببعض بحيث إذا تكررت حركة لحقتها أخرى؛ لذا تتعاقب الصور بنفس ترتيب الإحساسات لتعاقب حركات الدماغ بهذا الترتيب. بيد أن هوبس يلاحظ أن مجرى الأفكار تابع ليس فقط لقانون اقتران الإحساسات في المكان والزمان، بل أيضًا لقانون الاهتمام أي: لتأثير الميل والعاطفة. وهذا هو السبب في أن ترتيب الصور يتعدل في الأحلام وفي خواطر اليقظة وفي الأفعال المروية، فإن إرادة الغاية تولد فكرة الوسيلة الكفيلة

بتحقيقها أي: التي رأيناها في الماضي تحقق معلولًا شبيهًا بالذي ننشده. والعلاقات التي تسيطر على الترابط ههنا هي علاقات التشابه والعلة والمعلول والمبدأ والنتيجة والغاية والوسيلة والدالّ والمدلول, فلا يستطيع هوبس أن يفسر الحياة الفكرية تفسيرًا آليًّا. ج- على أننا نجد عنده تفسيرًا آليًّا للإرادة. ذلك أنه يقول: إن الحركة الدماغية التي هي التصور إذا ما بلغت إلى القلب نشطت الحركة الحيوية أو عاقتها، ففي حال التنشيط تكوّن اللذة وتسمى خيرًا، وتكون محبة الشيء اللاذ؛ وفي حال العوق يكوّن الألم ويسمى شرًّا، وتكون كراهية الشيء المؤلم. وحركة اللذة تدفع إلى اشتهاء الشيء، وحركة الألم تدفع إلى خوفه؛ فالاشتهاء والخوف هما الباعثان على جميع أفعالنا؛ وما الرواية أو المشورة إلا تردد هذين الباعثين إلى أن يحدث الفعل أو نمتنع منه. فالاشتهاء الأخير والخوف الأخير يسميان إرادة, والأوامر والنواهي إنما تؤثر بالترغيب والترهيب. د- ولما كان المذهب المادي يستتبع الاسمية، فقد أنكر هوبس المعاني المجردة وقال: إن كل ما هنالك أسماء تقوم مقام الصور الجزئية. وفسر الحكم بأنه تركيب ألفاظ بحيث تعني القضية الموجبة أن الموضوع والمحمول اسمان لشيء واحد، وتعني القضية السالبة أن الاسمين يختلفان في الدلالة؛ وفسر الاستدلال بأنه تركيب قضايا، وقال: إن نتائجه ليست منصبّة على الأشياء بل على أسمائها، أي: إننا بالاستدلال نرى إن كنا نحسن أو نسيء تركيب أسماء الأشياء طبقًا للعرف الموضوع في تسميتها. وفي هذا يقول ديكارت في ردوده: "من ذا يشك في أن الفرنسي والألماني يتصوران نفس المعاني أو الاستدلالات بصدد نفس الأشياء مع تصورهما ألفاظًا مختلفة كل الاختلاف؟ إذا كان هذا الفيلسوف يسلم بأن الألفاظ تدل على شيء، فلِمَ لا يريد أن تكون ألفاظنا واستدلالاتنا متجهة إلى الشيء المدلول عليه, لا إلى الكلام نفسه؟ ". هـ- ومتى كان الإحساس المصدر الوحيد للمعرفة، كانت معرفتنا مقصورة على ما تتناوله بالفعل من الماديات المحدودة، فامتنع علينا العلم بالعالم في جملته، مقداره ومدته وأصله، وامتنع علينا من باب أولى العلم باللامتناهي. وهوبس ينكر إمكان التدليل على وجود الله بالوقوف عند حد في سلسلة العلل، ويزعم أن كل علة فهي متحركة بالضرورة؛ لأن شيئًا لا يتحرك بفعل شيء لا يكون هو نفسه

متحركًا، وهكذا نتداعى إلى غير نهاية. وهو لا يرى أنه بهذا القول يسقط مبدأ العلة الذي يستند إليه، إذ إنه يجعل من جميع العلل معلولات فلا يصل إلى علة بمعنى الكلمة، ويخلط بين سلسلة العلل المتعاقبة بالعرض، وفيها يمكن التداعي إلى غير نهاية، وبين سلسلة العلل المترتبة بالذات، وفيها يجب الوقوف عند حد. وهو يقول ضد ديكارت: إن اللامتناهي يجب أن يؤخذ بمعنى معدول، أي: بمعنى ما لا نبلغ إلى نهايته، وإن لفظ اللامتناهي لا يدل من ثمة على موجود حقيقي أو خاصية محصلة لموجود ما، بل على قصور عقولنا وانحصار طبيعتنا، فيخلط بين الموجود في نفسه وبين طريقة تخيلنا إياه. على أنه يصرح في مؤلفاته السياسية بأننا إذا ارتقينا في سلسلة العلل انتهينا إلى علة سرمدية لا علة لها؛ وذلك لأنه يعترف بالدين لأسباب عملية لا نظرية كما سنرى, ويقرر أنه لا يجوز أن نطلق على الله الألفاظ المقولة علينا وعلى الموجودات المتناهية، كالألم والاحتياج والعقل والإرادة، وأن الألفاظ المعدولة وأسماء التفضيل مقبولة وحدها في حق الله؛ لأنها تدل على إعجابنا وخضوعنا لا على ماهية الله؛ بل إن لفظ اللاجسمي إذ نطلقه على الله ما هو إلا صفة تشريفية ليس غير؛ لأن كل موجود فهو جسمي. 30 - الأخلاق والسياسة: أ- إذا كان الإنسان على ما قلنا، كانت سيرته كلها قائمة على غريزة حب البقاء، وكانت هذه الغريزة بالإضافة إلى الحياة الإنسانية كالحركة بالإضافة إلى الطبيعة, فمن الخطأ الاعتقاد بغريزة اجتماعية تحمل الإنسان على الاجتماع والتعاون، وإنما الأصل أو "حال الطبيعة" أن الإنسان ذئب للإنسان، وأن الكل في حرب ضد الكل، وأن الحاجة واستشعار القوة يحملان الفرد على الاستئثار بأكثر ما يستطيع الظفر به من خيرات الأرض، وإن أعوزته القوة لجأ إلى الحيلة. يشهد بذلك ما نعلمه عن أجدادنا البرابرة وعن المتوحشين، وما نتخذه جميعًا من تدابير الحيطة وأساليب العدوان، وما نراه في علاقات الدول بعضها ببعض؛ وغاية ما تصنعه الحضارة أن تحجب العدوان بستار "الأدب" وأن تستبدل بالعنف المادي النميمة والافتراء والانتقام في حدود القانون. ب- بيد أن الطبيعة الإنسانية تشتمل على العقل إلى جانب الهوى؛ والعقل

المستقيم يحمل الناس على التماس وسائل لحفظ بقائهم أفعل من التي يتوسل بها الفرد يجاهد وحده. هم يستكشفون أن البلية عامة، وأنه يمكن ملافاتها بوسائل عامة، فتنبت أول وأهم قاعدة خلقية، وهي يجب طلب السلم، فإن لم نفلح في تحقيقه وجب التوسل للحرب. وشرط السلم أن ينزل كل فرد عن حقه المطلق في حال الطبيعة، فينزل الأفراد عنه صراحة أو ضمنًا إلى سلطة مركزية، قد تكون فردًا وقد تكون هيئة تجمع بين يديها جميع الحقوق، وتعمل لخير الشعب، فتحل الحياة السياسية محل حال الطبيعة. ج- من هذا التعاقد يلزم وجوب الصدق والأمانة وعرفان الجميل والتسامح والإنصاف، والشركة فيما يتعذر اقتسامه، وفض الخلافات بالتحكيم؛ وبالجملة تلزم قواعد تلخص في العبارة المأثورة: "لا تصنع بالغير ما لا تريد أن يصنع الغير بك" لذا كان القانون الخلقي الطبيعي إرادة الله الذي وهبنا العقل المستقيم. وليس يكفي طاعة القواعد ظاهرًا, بل يجب أيضًا طاعتها لذاتها والتشبع بها، فإن القانون الخلقي يقيد الإنسان أمام ضميره. وكل هذا معقول، ولكن هوبس لا يصل إليه إلا بالعدول عن الطبيعة الحسية إلى العقل المستقيم، وليس العقل مما يعترف به المذهب المادي كقوة خاصة لها قيمة خاصة. د- ويجب أن تكون السلطة العامة مطلقة قوية إلى أبعد حد، بحيث لا يعود الفرد بإزائها شيئًا مذكورًا، ويكون واجبه الخضوع المطلق، وإلا عدنا إلى التخاصم والتنابذ. وفي الواقع يمتنع حد السلطة السياسية فإن مثل هذا الحد يعني الاعتراف بالسلطة المطلقة للفرد أو الأفراد المخول إليهم حق مؤاخذة الحكومة أو خلعها. والملكية خير أشكال الحكومة؛ من مزاياها أن واحدًا فقط قد يجاوز العدل ويسيء الحكم، وأنها تغني عن المنازعات الحزبية، وتصون أسرار الدولة, أما الديمقراطية فما هي إلا أرستقراطية خطباء. ويذهب حق السلطة إلى حد تقرير المعتقدات الدينية والقواعد الأخلاقية، وحسم الخلافات فيها لإقرار النظام. فالدين مخافة القوات غير المنظورة التي تعترف بها الدولة؛ والخرافة مخافة القوات غير المنظورة التي لا تعترف بها الدولة. ودين الدولة واجب محتوم على كل مواطن، والدين بالإجمال ظاهرة طبيعية أصلها الشعور بالضعف, وليس الدين فلسفة ولكنه شريعة، لا تتحمل المناقشة بل تقتضي الطاعة، إلى هذا الحد من

الاستبداد يذهب هوبس، وكأنه أراد أن يدعم الحكم المطلق بأن يجعل منه حكم القانون الطبيعي، وهو لم يفعل إلا أنه أحال ما كان واقعًا في بلاده نظرية فلسفية. ولكن الإنجليز لن يتابعوه، ومن إنجلترا ستعبر الديمقراطية البحر إلى القارة الأوروبية. أما فلسفته فما هي إلا المادية بكل سذاجتها كما عرفناها من عهد ديمقريطس وأبيقور.

الفصل الثالث: رنى ديكارت " 1596 - 1650 "

الفصل الثالث: رني ديكارت 1 " 1596 - 1650 " 31 - حياته ومصنفاته: أ- ولد بلاهي من أعمال مقاطعة تورين بفرنسا. ولما بلغ الثامنة أدخل مدرسة "لافليش" للآباء اليسوعيين، وكانت من أشهر المدارس في أوروبا، فمكث بها ثماني سنين حتى أتم برنامج الدراسة فيها. وكانت الفلسفة تحتل في هذا البرنامج مكانًا فسيحًا، فتمتد على الثلاث السنوات الأخيرة، وكان تدريسها عبارة عن شرح كتب أرسطو موزعة إلى مجموعات ثلاث, لكل سنة مجموعة: كتب المنطق، فكتب الطبيعيات "وإلى جانبها الرياضيات"، فكتاب النفس وكتاب ما بعد الطبيعة. وأعجب ديكارت بوضوح الرياضيات ودقتها وإحكام براهينها؛ أما الفلسفة فتركت في نفسه أثرًا سيئًا لكثرة ما فيها من أخذ ورد، واعتقد أن اختلاف الفلاسفة مدعاة للشك في الفلسفة وفي باقي العلوم التي إنما تقوم على الفلسفة وتستمد منها مبادئها. هذا ما نقرأ في "المقال في المنهج" ولعل ديكارت يضيف إلى عهد الصبا حكمًا نضج عنده فيما بعد. على أن من المحقق أنه تعلق بالرياضيات وانصرف عن الفلسفة إلى زمن، ولم يكن يخصص لها سوى "ساعات في العام". ب- غادر إذن المدرسة في السادسة عشرة. وبعد أربع سنين " 1616 " تقدم لامتحان القانون في بواتيني ونال الإجازة. وبعد سنتين تطوع للخدمة في جيش الأمير موريس دي ناسو بهولندا، وكانت حينذاك حليفة فرنسا على أسبانيا، وعرف هناك طبيبًا شابًّا يدعى إسحاق بكمان "أيقظه من سباته" على حد قوله، إذ عرض عليه عددًا وفيرًا من المسائل الرياضية والطبيعية وكانا يعالجانها معًا؛

_ 1 نشر هذا الفصل أولًا في مجلة المقتطف " 1937 " بمناسبة احتفال فرنسا، واحتفال المعاهد العلمية في أنحاء العالم بانقضاء ثلاثة قرون على نشر ديكارت كتابه الشهير "مقال في المنهج" وأثبتناه هنا مع بعض تنقيح وزيادة.

وهذه مرحلة مهمة في حياة ديكارت، فإن فكره تكون في الوقت الذي كان العلم الطبيعي الحديث يتكون فيه بتطبيق المنهج التجريبي, والاستدلال الرياضي على الظواهر الطبيعية. ج- وفي السنة التالية " 1619 " ترك جيش الأمير إلى جيش آخر فآخر من جيوش الأمراء الألمان. وحل الشتاء، وخلا ديكارت إلى نفسه في حجرة دافئة في قرية مجاورة لمدينة أولم، وإذا بنشوة علمية غريبة تغمره وتبلغ أقصاها في العاشر من نوفمبر، وإذا به يستكشف في حلم "أسس علم عجيب" بل ثلاثة أحلام تتابعت في تلك الليلة حتى اعتقد أنها آتية من عل, هذا الحلم يدلنا على شدة استغراق ديكارت في تفكيره. أما العلم العجيب فقد تضاربت فيه الآراء، وأغلب الظن أن المقصود به "منهج كلي" يرد العلوم جميعًا إلى الوحدة، ذلك المنهج الذي سيعلنه في "المقال". د- وعدل ديكارت عن المهنة العسكرية، وراح يطوف في أنحاء أوروبا تسع سنين حتى هبط باريس سنة 1628. تسع سنين لم ينقطع في أثنائها عن معالجة المسائل الطبيعية بالطريقة الرياضية، أي: بتجريدها من المبادئ الفلسفية التي كانت لاصقة بها عند أرسطو والمدرسيين، وردها إلى مسائل رياضية. وإلى هذا الدور يرجع استكشافه للهندسة التحليلية، أي: تطبيق الجبر على الهندسة. أجل كان نفر من العلماء القدماء والمعاصرين قد سبقوه في هذا المضمار فعرضوا أمثلة على تطبيق هذا المنهج؛ بيد أن هذه الأمثلة كانت عندهم مجرد طرائق عملية لا يجمعها تصور كلي، فرأى ديكارت "السبب" الذي من أجله تفلح هذه الطرائق الجزئية، وهذا السبب أدى به إلى منهج كلي يطبق على جميع الحالات بغض النظر عن طبائعها الخاصة، إذ إنه نظر إلى العلم بعين الفيلسوف، فبلغ إلى كلياته، ووسع مدى تطبيقه, ولعل الهندسة التحليلية ذلك العلم العجيب. كانت الهندسة مقصورة على النظر في الأشكال، وكان الجبر كثير الصيغ معقدها، ولم يكن بين العلمين اتصال. فبدا لديكارت أن الهندسة والحساب يقومان في الترتيب والقياس, وأن المطلوب من الجبر التعبير عن أعم قوانين الترتيب والقياس، وأنه من الممكن وضع علم تكون صيغه أبسط من صيغ الحساب وأكثر تجريدًا من أشكال الهندسة، فتطبق على الأعداد والأشكال جميعًا، أي: على

كل ما هو مرتب وقابل للقياس. فرمز بأحرف لخطوط الشكل الهندسي وعلاقات الخطوط، ومثل الشكل بمعادلة جبرية تعبر عن خصائصه الأساسية، حتى إذا ما وضعت هذه المعادلة كان استخراج نتائجها بالجبر كافيًا لاستكشاف جميع الخصائص. وإلى هذا الدور أيضًا يرجع كتابه "قواعد تدبير العقل" وهو بمثابة منطق جديد مستمد من مناهج الرياضيين, ولكن ديكارت لم يتمه، فبقي مطويًّا إلى أن طُبع بعد وفاته بنصف قرن " 1701 ". هـ- انقضت التسع السنين ولَمَّا يشرع ديكارت في البحث عن أسس فلسفة أوكد من الفلسفة الدارجة كما يقول. على أنه كان قد حصل من الآراء الجزئية قدرًا يذكر، حتى جرؤ على عرضها في نوفمبر 1628 في مجلس خاص كان أهم أعضائه الكردينال دي بيريل. عرض هذه الآراء على أنها تؤلف فلسفة مسيحية منافية لفلسفة أرسطو "والقديس توما الأكويني بالطبع"؛ فأعجب به الكردينال وكان أوغسطينيًّا، وشجعه تشجيعًا حارًّا على مواصلة بحثه وإتمام فلسفته، خدمة للدين وصدًّا لهجمات الزنادقة. وهذه واقعة لها خطرها، ندرك منها أن العلم الطبيعي الرياضي أو الآلي صرفه عن أرسطو إلى أفلاطون، وأنه تأثر "ولو بالواسطة" بالأفلاطونيين المسيحيين. فلن نعجب إذا وجدنا عنده شيئًا من القديس أوغسطين وشيئًا من القديس أنسلم، وشيئًا من دونس سكوت، وشيئًا من أوكام وغيره من الإسميين. ولم ترقه الحياة في باريس، وأراد أن يفرغ لوضع فلسفته، فقصد إلى هولندا في أواخر تلك السنة. وهناك دون رسالة قصيرة في "وجود الله ووجود النفس" يرمي بها إلى إقامة أسس علمه الطبيعي. ثم عاد إلى الاشتغال بالطبيعيات وشرع في تحرير كتابه "العالم" وواصل العمل فيه إلى سنة 1633، وإذا بالمجمع المقدس يدين جليليو لقوله بدوران الأرض، وكان ديكارت قد اصطنع من جهته هذا القول، فعدل عن مشروعه وطوى كتابه "وكان شديد الحرص على هدوئه, وعلى احترام الكنيسة" فلم تنشر أجزاء الكتاب إلا بعد وفاته بسبع وعشرين سنة " 1677 " على أن ديكارت سيلخصه في القسم الخامس من "المقال" وفي "مبادئ الفلسفة"؛ وقد كان صديقه الأب مرسين أجرأ منه, إذ نشر سنة 1635 مؤلفات جليليو ودافع عنه.

ز- ورأى ديكارت أن يمهد الطريق لمذهبه ويجسّ النبض حوله، فأذاع سنة 1637 شيئًا من علمه الطبيعي في ثلاث رسائل قدم لها برسالة يقص فيها تطور فكره، ويجمل مذهبه في الفلسفة والعلم. وكان العنوان الأصلي للكتاب برمته "مشروع علم كلي يرفع طبيعتنا إلى أعلى كمالها، يليه البصريات والآثار العلوية والهندسة، حيث يفسر المؤلف أغرب ما استطاع اختياره من موضوعات تفسيرًا يسهل فهمه حتى على الذين لم يتعلموا". فاستبدل به هذا العنوان "مقال في المنهج لإجادة قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم، يليه البصريات والآثار العلوية والهندسة، وهي التطبيقات لهذا المنهج". ويبين لنا من هذا أن الوحدة قد تمت في فكر ديكارت بين الفلسفة والعلم الطبيعي الرياضي والغاية المرجوة منه, وهي "رفع طبيعتنا إلى أعلى كمالها". ج- وأراد أن يعرض مذهبه على اللاهوتيين باللاتينية بعد أن عرضه على عامة المثقفين بالفرنسية "آملًا أن الذين لا يستخدمون سوى عقلهم الطبيعي خالصًا يقدرون آراءه خيرًا من الذين لا يؤمنون إلا بالكتب القديمة". فعاد إلى ما في "المقال" من آراء فلسفية؛ فتوسع في شرحها وتأييدها، فكان له من ذلك كتاب أسماه "تأملات في الفلسفة الأولى، وفيها البرهان على وجود الله وخلود النفس". وقبل تقديمها للطبع استطلع فيها رأي نفر من الفلاسفة واللاهوتيين ليستدرك ما قد يأخذونه عليه، فيهيئ للكتاب قبولًا حسنًا وينال رضا لاهوتيي السوربون فدونوا اعتراضات كثيرة ألحقها بالتأملات وعقب عليها بردوده، ونشر الكل سنة 1641. وفي الطبعة الثانية " 1642 " قال في العنوان "تمايز النفس من الجسم" بدل "خلود النفس" على اعتبار أن النفس متى كانت متمايزة من الجسم كانت خالدة. ونشرت للكتاب ترجمة فرنسية سنة 1647 بقلم الدوق دي لوين. ط- وخطر لديكارت أن أنجع وسيلة لإذاعة فلسفته وعلمه الطبيعي ربما كانت تلخيصهما في كتاب مدرسي سهل التناول. فنشر سنة 1644 باللاتينية "وكانت لغة العلم والتعليم في أوروبا" كتاب "مبادئ الفلسفة" مع إهداء إلى السوربون، وحاول أن يحمل معلميه السابقين على تقريره في مدارسهم فيحل هو محل أرسطو، فلم يجيبوه إلى رغبته. ونشرت للكتاب ترجمة فرنسية سنة 1647 مع

إهداء إلى الأميرة إليزابث، ورسالة إلى المترجم عرض فيها فلسفته عرضًا عامًّا، وبَيَّن ما بينها وبين الفلسفة القديمة من تعارض. ي- ومن ذلك الحين مال إلى الأخلاق، وكتب فيها رسائل إلى الأميرة إليزابث ابنة فردريك ملك بوهيميا المخلوع واللاجئ إلى هولندا, هذه الرسائل يظهر فيها تأثير الرواقيين وبخاصة سنيكا. ثم وضع "رسالة في انفعالات النفس" وهي آخر مؤلفاته، نشرت سنة 1649 , وتخللت إقامته الطويلة في هولندا ثلاث رحلات قصيرة إلى فرنسا " 1644، 1647، 1648 " ومناقشات حادة بينه وبين بعض العلماء واللاهوتيين، ونزاع عنيف بين أنصاره وخصومه. وفي سنة 1649 قصد إلى أستكهولم تلبية لدعوة كريستين ملكة السويد، فتأثر بالبرد وساءت صحته, وقضي في 11 فبراير 1650. 32 - الفلسفة ومنهجها: أ- يعرف ديكارت الفلسفة بقوله: "إن كلمة فلسفة تعني دراسة الحكمة ولسنا نقصد بالحكمة مجرد الفطنة في الأعمال، بل معرفة كاملة بكل ما في وسع الإنسان معرفته بالإضافة إلى تدبير حياته وصيانة صحته واستكشاف الفنون. ولكي تكون هذه المعرفة كما وصفنا، فمن الضروري أن تكون مستنبطة من العلل الأولى". ثم يقول في تقسيمها: "إن قسمها الأول الميتافيزيقا، وهي تشتمل على مبادئ المعرفة التي منها تفسير أهم صفات الله وروحانية نفوسنا وجميع المعاني الواضحة المتميزة الموجودة فينا. والقسم الثاني العلم الطبيعي، وفيه -بعد أن نكون وجدنا المبادئ الحقة للماديات- نفحص عن تركيب العالم على العموم، ثم على الخصوص عن طبيعة هذه الأرض وجميع الأجسام, وبالأخص عن طبيعة الإنسان، حتى يتسنى لنا استكشاف سائر العلوم النافعة له. وعلى ذلك فالفلسفة كلها بمثابة شجرة, جذورها الميتافيزيقا، وجذعها العلم الطبيعي، وأغصانها باقي العلوم، وهذه ترجع إلى ثلاثة كبرى، أعني: الطب والميكانيكا والأخلاق، أي: أعلى وأكمل الأخلاق التي تفترض معرفة تامة بالعلوم الأخرى، والتي هي آخر درجات الحكمة. كما أنه لا يجنى الثمر من جذور الأشجار ولا من الجذع بل من أطراف الأغصان، فكذلك تتعلق المنفعة الرئيسية للفلسفة

بمنافع أقسامها التي لا تتعلم إلا أخيرًا" "مقدمة "مبادئ الفلسفة"". في نظر ديكارت إذن الفلسفة هي العلم الكلي كما كانت عند القدماء، وهي كذلك لأنها علم المبادئ أي: أعلى ما في العلوم من حقائق، وهي نظرية وعملية كما كانت عند القدماء، والنظر فيها يوفر للعمل مبادئه؛ غير أن العمل عند ديكارت هو المقصد الأسمى، ولو أن العقل أهم جزء في الإنسان، والحكمة خيره الأعظم. والغرض من العمل ضمان رفاهية الإنسان وسعادته في هذه الحياة الدنيا بمد سلطانه على الطبيعة, واستخدام قواها في صالحه. ب- ومنهج الفلسفة حدس المبادئ البسيطة، واستنباط قضايا جديدة من المبادئ لكي تكون الفلسفة جملة واحدة. أما الاستقراء المعروف فلا يصل إلا إلى معارف متفرقة إن جمعت بعضها إلى بعض ألفت علمًا مهلهلًا ملفقًا لا ندري من أين نلتمس له اليقين، وعلامة اليقين وضوح المعاني وتسلسلها على ما نرى في الرياضيات التي تمضي من البسيط الواضح إلى المركب الغامض بنظام محكم. فهذا المنهج هو المنهج الوحيد المشروع؛ لأن العقل واحد، ويسير على نحو واحد في جميع الموضوعات، ويؤلف علمًا واحدًا هو العلم الكلي، فليست تتمايز العلوم فيما بينها بموضوعاتها ومناهجها، ولكنها وجهات مختلفة لعقل واحد يطبق منهجًا واحدًا وليس الاستنباط القياس الأرسطوطالي, فلا خير يرجى من هذا القياس "وديكارت يردد بهذا الصدد الانتقادات المتداولة"؛ ولكنه سلسلة من الحدوس تتقدم من حد إلى حد بحركة متصلة، فيربط العقل بين حدود لم تكن علاقاتها واضحة أول الأمر، حتى إذا ما انتهى في الاستنباط إلى غايته، رد المجهول إلى المعلوم، أو المركب إلى البسيط، أو الغامض إلى الواضح، والحركة العقلية هنا ثانوية، فإن مبدأها حدس ومنتهاها حدس "كتاب "قواعد تدبير العقل"". ج- وللمنهج أربع قواعد عملية، والقاعدة الأولى "أن لا أسلم شيئًا إلا أن أعلم أنه حق". ولهذه القاعدة معنى خبيء غير المعنى الظاهر الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، فإن ديكارت يريدنا على ألا نسلم شيئًا إلا أن نعلم أنه حق بالعلم الذي يعنيه، وهو الإدراك بالحدس المباشر وبالحدس غير المباشر أو الاستنباط، وهذا يقضي بأن نقصى من دائرة العلم، ليس فقط جميع الوقائع

التاريخية، بل أيضًا كل معنى يستلزمه تفسير الظواهر الطبيعية ولا نتمثله أو نتخيله، كمعنى القوة التي ندرك ضرورتها لتفسير التغير والحركة. وقد استبعد ديكارت بالفعل معنى القوة، فنتجت له نتائج سنذكرها فيما بعد. وقد تذرع الكثيرون بهذه القاعدة لنبذ الدين لما يعول عليه من أحداث تاريخية تتعلق بنزول الوحي، وما يتضمن من عقائد تفوق إدراك العقل، وقالوا: إن هذه القاعدة عبارة عن إعلان حرية الفكر وإسقاط كل سلطة. د- القاعدة الثانية "أن أقسم كل مشكلة تصادفني ما وسعني التقسيم, وما لزم لحلها على خير وجه". ذلك بأننا لما كنا نطلب الوضوح فيجب علينا أن نذهب من المركب إلى بسائطه، ومن الكل إلى أجزائه، أي: مما هو تابع لغيره ومعقول بهذا الغير إلى ما هو مستقل بنفسه ومعقول بذاته. وهذا هو التحليل؛ والغرض منه الحدس الذي هو المعرفة الحقة. هـ- القاعدة الثالثة "أن أسير بأفكاري بنظام، فأبدأ بأبسط الموضوعات وأسهلها معرفة، وأرتقي بالتدريج إلى معرفة أكثر الموضوعات تركيبًا، فارضًا النظام حتى بين الموضوعات التي لا تتتالى بالطبع". وهذه قاعدة التركيب بعد قاعدة التحليل، ولها فرعان: الأول التدرج من المبادئ إلى النتائج، وذلك بأن ننظر أولًا في حد من حدود المسألة، ثم في حد آخر، ثم في النسبة بينهما، ثم في حد ثالث، وهكذا حتى نأتي على جميع الحدود ونسبها؛ والفرع الثاني هو افتراض النظام حين لا يتبين نظام الحدود، ثم استخراج النتائج بالطريقة التركيبية المذكورة، والمقصود بالنظام "نظام الأسباب" الذي بموجبه تلزم معرفة حد من معرفة حد سابق لزومًا ضروريًّا؛ وإذا لم ينتج النظام المفروض افترضنا نظامًا آخر، إلى أن نصل إلى النظام الملائم, فهنا يتدخل العقل إذ لا يقوم العلم إلا بالنظام. والقاعدة الرابعة "أن أقوم في كل مسألة بإحصاءات شاملة، سواء في الفحص على الحدود الوسطى أو في استعراض عناصر المسألة، بحيث أتحقق أني لم أغفل شيئًا". هذه القاعدة تمكن من تحقيق القاعدة السابقة؛ فإنها ترمي إلى استيعاب كل ما يتصل بمسألة معينة، وترتيب العناصر التي يتوصل إليها. وهي تفيد في التحقق من صدق النتائج التي لا تستنبط رأسًا من المبادئ البينية بذاتها،

أو ما يبعد عن هذه المبادئ بعدًا كبيرًا يصعب علينا معه أن نتذكر الطريق الذي سلكناه؛ فإذا رتبنا الحدود وانتقلنا بنظام من حد إلى آخر، قام هذا الانتقال مقام حدس العلاقة بين نتيجة ومبدئها؛ وتقترب من هذا الحدس بمحاولة تذكر الحدود بأسرع ما يمكن. ويختلف هذا الإحصاء، أو الاستقراء كما يسميه أيضًا ديكارت، عن الاستقراء الأرسطوطالي، في أن الغرض منه ليس الوصول إلى نتيجة كلية من أجل ما شُوهد في الجزئيات، بل الوصول إلى حدود تتصل بذاتها بعضها ببعض. وأحيانًا يمكن الاكتفاء بعدد محدود من الحدود، مثلما إذا أردت أن أبين أن النفس الناطقة ليست جسمية، فإني أكتفي بأن أجمع الأجسام في بضع طوائف، وأدلل على أن النفس الناطقة لا يمكن أن ترجع إلى واحدة منها، بعكس ما إذا أردت أن أبين عدد الموجودات الجسمية, أو كيف تقع هذه الموجودات تحت الحواس، فيجب أن يكون الإحصاء تامًّا. ز- فالمنهج عند ديكارت يبين القواعد العملية التي يجب اتباعها لإقامة العلم, ولا يحلل أفعال العقل ولا يدل على صدقها ومواطن الخطأ فيها كما يبين المنطق، فإن هذا التحليل عديم الفائدة في رأي ديكارت وبيكون وأضرابهما, وإن المنطق الطبيعي يغني عن المنطق الصناعي. وبينما المنطق علم وفن معًا، نجد المنهج عند هؤلاء الفلاسفة فنًّا فحسب، وإن يكن منطويًا على نظرية في العقل والعلم كما سنرى في عرض فلسفة ديكارت، فإن هذه النظرية متمشية على هذا المنهج ومؤسسة له. والعلم إذن عند ديكارت استنباطي يضع المبادئ البسيطة الواضحة ويتدرج منها إلى النتائج؛ أو هذا ما يدعيه ديكارت؛ ومع أنه كان يجمع المعلومات ويجري التجارب بهمة لا تني، فقد كانت أهمية التجربة مقصورة في منهجه ومذهبه على إثارة الفكر وتعريفنا أي نتائج الاستنباط هي المحققة بالفعل من بين النتائج المختلفة التي يستطيع العقل أن يستنبطها من المبادئ. 33 - الشك واليقين: أ- بعد المنهج المذهب، وهو تطبيق قواعد المنهج. لكل علم مبدأ، فأين نلتمس المبدأ الذي نقيم عليه العلم؟ إن عقلنا مشحون بأحكام ألفناها في عهد الطفولة أو قبلناها من المعلمين قبل تمام النضج والرشد. وإذا نظرنا في العلوم

ألفيناها تكونت وتضخمت شيئًا فشيئًا بتعاون رجال مختلفين، فجاءت كالثوب الملفق أو البناء المرمم. فإذا أردنا أن نقرر شيئًا محققًا في العلوم، كان من الضروري أن نشرع في العمل من جديد، فنطرح كل ما دخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، مثلنا مثل البناء يرفع الأنقاض ويحفر الأرض حتى يصل إلى الصخر الذي يقيم عليه بناءه، والأساس الذي نريد الوصول إليه هو العقل مجردًا خالصًا، فإن العقل واحد في جميع الناس، إذ إنه الشيء الوحيد الذي يجعلنا أناسيّ ويميزنا من العجماوات، فهو متحقق بتمامه في كل إنسان. وما منشأ تباين الآراء سوى تباين الطرق في استخدام العقل. ولسنا بحاجة إلى التدليل على كذب آرائنا السابقة ليسوغ لنا اطّراحها على هذا النحو، بل يكفي أن نجد فيها أي سبب للشك، إذ ليس الشك مقصودًا هنا لنفسه، بل لامتحان معارفنا وقوانا العارفة. ولسنا بحاجة كذلك إلى استعراض تلك الآراء رأيًا رأيًا، بل يكفي أن نستعرص المبادئ، فإن هدم الأساس يجر وراءه كل البناء. ب- إذن فأنا أشك في الحواس؛ لأنها خدعتني أحيانًا، ولعلها تخدعني دائمًا، وليس من الحكمة الاطمئنان إلى من خدعنا ولو مرة واحدة. وأنا أشك في استدلال العقل؛ لأن الناس يخطئون في استدلالاتهم، ومنهم من يخطئ في أبسط موضوعات الهندسة. فلعلي أخطئ دائمًا في الاستدلال، ومن دواعي الشك أيضًا أن نفس الأفكار تخطر لي في النوم واليقظة على السواء، ولست أجد علامة محققة للتمييز بين الحالتين، فلعل حياتي حلم متصل، أي: لعل اليقظة حلم منسق. ومما يزيد في ميلي إلى الشك أني أجد في نفسي فكرة إله قدير يقال: إنه كلي الجودة, وهو مع ذلك يسمح أن أخطئ أحيانًا، فإذا كان سماحه هذا لا يتعارض مع جودته، فقد لا يتعارض معها أن أخطئ دائمًا، ولكن ما لي ولله، فقد يكون هناك روح خبيث قدير يبذل قدرته ومهارته في خداعي، فأخطئ في كل شيء، حتى في أبسط الأمور وأبينها، مثل أن أضلاع المربع أربعة، وأن اثنين وثلاثة تساوي خمسة. ح- ولكني في هذه الحالة من الشك المطلق أجد شيئًا يقاوم الشك، ذلك أني أشك، فأنا أستطيع الشك في كل شيء ما خلا شكي، ولما كان الشك

تفكيرًا فأنا أفكر، ولما كان التفكير وجودًا فأنا موجود: "أنا أفكر وإذن فأنا موجود". تلك حقيقة مؤكدة واضحة متميزة خرجت لي من ذات الفكر. لها ميزة نادرة هي أني أدرك فيها الوجود والفكر متحدين اتحادًا لا ينفصم. ومهما يفعل الروح الخبيث فلن يستطيع أن يخدعني فيها؛ لأنه لا يستطيع أن يخدعني إلا أن يدعني أفكر, وإذن فأنا أتخذ هذه الحقيقة مبدأ أول للفلسفة. الفكر مبدأ لأنه وجود معلوم قبل كل وجود، وعلمه أوضح من علم كل وجود. هو معلوم بداهة، ومهما نعلم فنحن بفكرنا أعلم، فمثلًا لو اعتقدت أن هناك أرضًا بسبب أني ألمسها وأبصرها، فيجب أن أعتقد من باب أولى أن فكري موجود، إذ قد أفكر أني ألمس الأرض دون أن يكون هناك أرض، ولكن ليس من الممكن ألا أكون في الوقت الذي أفكر فيه. ثم أنا أتخذ هذه الحقيقة الأولى معيارًا لكل حقيقة؛ فكل فكرة تعرض لي بمثل هذا الوضوح أعتبرها صادقة. وتعريف الفكر بالإجمال أنه "كل ما يحدث فينا بحيث ندركه حالًا بأنفسنا" فحين أقول: إني شيء مفكر، أقصد "أني شيء يشك ويثبت وينفي، ويعلم قليلًا من الأشياء ويجهل الكثير، ويحب ويبغض، ويريد ويأبى، ويتخيل أيضًا ويحس"، والفكر صادر عن النفس أو هو النفس أو الروح, خالص ثابت عندي مهما أشك في وجود جسمي وسائر الأجسام. د- على أن اطمئناني إلى الوضوح ما يزال مفتقرًا إلى التثبيت، فقد يكون خالقي صنعني بحيث أخطئ في كل ما يبدو لي بينًا، أو قد يكون سمح للروح الخبيث أن يخدعني على الدوام. الحق أنه بدون معرفة وجود الله وصدقه، فلست أرى أن باستطاعتي التحقق من شيء البتة. أعود إذن إلى فكرة الله التي كانت سببًا من أسباب الشك، فأجد أنها فكرة موجود كامل، والكامل صادق لا يخدع إذ إن الخداع نقص لا يتفق مع الكمال. وعلى ذلك فأنا واثق بأن الله صنع عقلي كفئًا لإدراك الحق، وما عليَّ إلا أن أتبين الأفكار الواضحة, وصدق الله ضامن لوضوحها. هـ- سنعرض بعد هنيهة أدلة ديكارت على وجود الله، ونقدر قيمتها، أما الآن فنقف عند هذه المراحل الثلاث الأولى من مراحل المنهج، وهي الشك المطلق، فوضوح الفكر، فالضمان الإلهي، ونسأل: هل هذا المنهج سائغ؟ أما الشك فلسنا نوافق على أنه فرضي منهجي كما يقول ديكارت، إذ لكي يكون

الشك كذلك يجب أن يكون صوريًّا جزئيًّا، وديكارت يشك حقًّا في كل شيء، وهو يشك في كل شيء فيصبح شكه حقيقيا بالضرورة. إنه يصرح بأن "ليس هناك شيء إلا ويستطيع أن يشك فيه على نحو ما" فإذا ما أحس أن مثل هذا الشك الكلي معارض لطبيعة العقل، استعان بالإرادة وقال: "أريد أن أعتبر كل ما في فكري وهمًا وكذبًا" وافترض الروح الخادع وألح على فكره إلحاحًا عنيفًا لكي يحقق في نفسه حالة الشك الصحيح. فلو أنه قصر الشك على الأمور غير البينية المفتقرة إلى برهان، واستثنى المبادئ الأولية البينة بذاتها، لأمكنه الاستناد على هذه المبادئ للخروج إلى اليقين. ولكنه يشك في العقل ذاته، فشكه كلي حقيقي يمتنع الخروج منه. يذهب بعض المؤلفين إلى أن الشك الديكارتي ليس كليا مثل شك الشكاك، وذلك لسببين: الأول أن الفيلسوف يقصد إلى تبرير اليقين بعد المضي في الشك إلى أقصى حدوده، والثاني أنه يستثني بالفعل العقائد الدينية والقواعد الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية. ولكن إرادة تبرير اليقين ترجع إلى نية الفيلسوف, وليست النية بمغيرة شيئًا من الموضوع. واستثناء العقائد والأخلاق والتقاليد لا يعني أن الفيلسوف موقن بها ذلك اليقين الذي ينشده، فإن العقائد أسرار تفوق العقل، والأخلاق والتقاليد من الضروري التزامها قبل الشك وأثناءه "لأن أفعال الحياة غالبًا ما لا تحتمل الإرجاء" كما يقول ديكارت نفسه، وأن "ليس من الفطنة التردد في العمل بينما يضطرنا العقل إلى التردد في الأحكام" 1. كذلك يذكرون قوله: "إذا اعتبرنا المعاني في أنفسها دون نسبتها إلى شيء آخر، فلا يمكن أن تكون كاذبة" "التأمل الثالث". ولكن لسنا هنا بإزاء يقين مستثنى من الشك، بل بإزاء تعليق للتصديق من حيث إن الصدق والكذب يقومان في الحكم, لا في تصور المعاني. وأما مبدؤه "أنا أفكر وإذن فأنا موجود" فيثير مسألتين: إحداهما تاريخية، والأخرى فلسفية. مدار المسألة التاريخية على مبلغ أصالة ديكارت في هذه المرحلة من منهجه. فقد استخدم القديس أوغسطين الشعور بالفكر كشاهد من شواهد اليقين، ويوجد شبه قوي بين ألفاظه وألفاظ ديكارت، لحظه العارفون من أول الأمر ونبهوا عليه، فنفى ديكارت عن نفسه شبهة الأخذ عن أوغسطين،

_ 1 مقال في المنهج، القسم الثالث, مبادئ الفلسفة, القسم الأول، فقرة 3.

وقال: إنه ذهب إلى مكتبة "ليدن" في اليوم نفسه وقرأ النص فوجد أن أوغسطين يستخدم الفكر للتدليل على الوجود الذاتي، وعلى أن فينا صورة ما للثالوث من جهة أننا موجودون، ونعلم أننا موجودون، ونحب ما فينا من وجود وعلم، بينما هو يستخدمه ليدلل على أن الأنا المفكر جوهري لا مادي، وأن الغرضين مختلفان جد الاختلاف، وأن استنتاج الوجود الذاتي من الشك أمر من البساطة بحيث كان يمكن أن يهتدي إليه أي كان. نقول أولًا: إنه كان شديد الاعتداد بنفسه، قوي الإيمان بجدة مذهبه، حتى ادعى أنه لا يدين بشيء لأحد من المتقدمين، وأن الآراء المشتركة بينه وبينهم مؤسسة عنده على نحو مغاير بالمرة لما عندهم. وهو يذكر أفلاطون وأرسطو وأبيقور وتليزيو وكامبانيلا وبرونو، ويصرح بأنه يعرفهم ولكنه لم يتعلم منهم شيئًا من حيث إن مبادئه غير مبادئهم، اللهم إلا كبلر. ويصعب علينا تصديق دعوى ديكارت أنه لم يكن يعرف نصوص أوغسطين، ولعله أراد أنه لم يقرأها في كتبه، ولكنه عرفها بالواسطة بلا ريب، فإنها مشهورة وكانت كتب أوغسطين متداولة، وكان مذهبه شائعًا، وكان أول عرض قام به ديكارت لمذهبه بحضرة الكردينال دي بيريل الأوغسطيني. أما أن الغرضين يختلفان، فهذا ما لا يمكن ادعاؤه إطلاقًا، فإن أوغسطين هو أيضًا يستخدم وجود الفكر للتدليل على روحانية النفس، ولرفع الشك، ويمضي من الفكر إلى وجود الله كما يفعل ديكارت. فوجود الفكر مبدأ المذهبين، وقد غلط بسكال حين قال: إن أوغسطين كتب تلك الكلمة عفوًا دون أن يطيل التفكير فيها, ودون أن يتوسع فيها، على حين أن ديكارت أدرك في هذه الكلمة سلسلة بديعة من النتائج تبرهن على تمايز الطبيعتين المادية والروحية, وجعل منها مبدأ وطيدا مطردا لعلم طبيعي بأكمله 1. وكيف يكون أوغسطين قال هذه الكلمة عفوًا واتفاقًا، وهو يذكرها ست مرات؟ وكيف يقال: إنه لم يطل فيها التفكير ولم يتوسع فيها، وقد قصد بها إلى إدحاض الشك، والتدليل على وجود النفس وروحانيتها، وعلى وجود الله كما تقدم؟ بيد أنه يبقى أن وجود الفكر هو عند ديكارت حالة فذة يتجلى فيها اليقين، ومبدأ للفلسفة سيخرج منه كل يقين؛ وأنه عند أوغسطين حالة جزئية من حالات اليقين، ربما كانت

_ 1 انظر طبعة برنشفيج الصغرى، ص 292 , 293.

أوضحها عند مناقشة الشكاك، إلا أنها لا تخرج عن كونها واحدة منها، وهذا فرق في مصلحة أوغسطين؛ إذ إنه لا يستهدف للدور الذي وقع فيه ديكارت حين نظر إلى الفكر كأنه مجرد شعور فلم يستردّ اليقين بموضوعات الفكر إلا بالالتجاء إلى صدق الله، وفكرة الله نفسها أحد هذه الموضوعات. ز- ومدار المسألة الفلسفية على جواز اتخاذ الفكر الخالص مبدأ أول والذهاب منه إلى موضوعات مغايرة له. إن هذا لا يجوز، فقد نستوثق من فكرنا "وأي شاك شك في فكره؟ " ثم لا نستوثق من شيء آخر على الإطلاق. والأمر واضح عند ديكارت كل الوضوح، فإن الروح الخبيث ما يزال ظله محلقًا فوق أفكارنا مهما تكن جلية متميزة، وإن فاته خداعنا في وجود الفكر، بقي سلطانه كاملًا على موضوعات الفكر، فيمتنع التقدم خطوة واحدة. وليس صدق الله بمجدٍ شيئًا في طرد الروح الخبيث؛ لأن فرض هذا الروح سابق على معرفتنا بالله، فيجب الشك في هذه المعرفة ذاتها، وديكارت لا يخرج من شكه إلا بدور ظاهر. فمن جهة يجب للبرهنة على وجود الله الاعتماد على العقل والأفكار الواضحة كوسائل لا تخدع، ومن جهة أخرى لأجل التحقق من أن العقل والأفكار الواضحة لا تخدع, يجب العلم أولًا بوجود الله وصدقه. فالواقع أن المنطق كان يقضي على ديكارت أن يظل على شكه يردد طول حياته قوله: "أنا أفكر وأنا موجود" مثله مثل ذلك الشاك اليوناني الذي عدل عن الكلام مخافة الاضطرار إلى الإيجاب والسلب. ولكن ديكارت لم يكن ليرضى بهذا الموقف، وكما "أراد" الشك كليًّا، فقد "أراد" الوصول إلى اليقين وضمان العلم مهما يكن من أمر المنطق. 34 - التصور والوجود: أ- قبل أن نتابع ديكارت في سيره نحو اليقين والعلم، نريد أن نلفت النظر إلى أن شكه المطلق ينطوي على تصورية مطلقة هي روح المذهب ونقطته المركزية. التصور عند ديكارت تصور بحت لا إدراك شيء واقعي، والفكر عنده لا يدرك إدراكًا مباشرًا غير نفسه، وإلا لما أمكن الشك في موضوعاته.

فديكارت إذ يأبى في مرحلته الأولى أن يقبل شيئًا من دون الفكر، فيؤمن بتفكيره في السماء والأرض ويشك في وجودهما، يفصل بين ما لأفكارنا من وجه ذاتي وما لها من وجه موضوعي، ومن ثم يفصل فصلًا تامًّا بين الفكر والوجود، ليس فقط الوجود الخارجي، بل أيضًا وجود المفكر نفسه. وقد أنكر بعضهم على ديكارت اتخاذه عبارة "أنا أفكر وإذن فأنا موجود" مبدأ أول, وقال: إن هذه العبارة قياس إضماري حذفت منه المقدمة الكبرى وهي "ما يفكر فهو موجود" وإن الأولى وضع هذه المقدمة موضع المبدأ الأول. فرد ديكارت أن هذه العبارة ليست قياسًا، ولكنها حدس يدرك وجود المفكر في الفكر. ونحن نرى أنها كذلك إذا اعتبرنا الفكر قوة مدركة للوجود، أما إذا اعتبرناه إدراك أفكار أو ظواهر، تعين علينا أن ندلل على وجود المفكر؛ وسنرى لوك وهيوم وكانت ينازعون في صحة هذا التدليل. ب- أما الأشياء الخارجية، فإذا سألنا ديكارت عن علة الأفكار التي نمثلها، أجاب قائلًا: قد أكون أنا تلك العلة؛ إذ ليس من الضروري أن تصدر الأفكار عن أشياء شبيهة بها، بل قد تصدر عن علة حاصلة بالذات على الكمال الممثل فيها، أو عن علة حاصلة عليه على نحو أسمى، وأنا حاصل على الفكر بالذات، فأستطيع أن أؤلف فكرة الملاك، وأنا حاصل على حقائق الأجسام على نحو أسمى لأن الجسم دون الفكر، فأستطيع أن أؤلف أفكار الأجسام. ومع ذلك سيطلب ديكارت أصولًا خارجية لأفكار الأجسام يجعلها موضوع العلم الطبيعي، وسيتخذ سبيلًا إلى ذلك وجود الله وصدقه. فأمامنا إذن مسألتان، الواحدة هي: هل أفكارنا صادقة؟ والأخرى هي: هل لأفكارنا موضوعات في الخارج؟ وديكارت يقدم الأولى على الثانية كما يقتضي مبدؤه التصوري. يقول: "قبل أن أفحص عما إذا كان هناك أشياء خارجية، يجب أن أنظر في أفكاري من حيث هي كذلك، وأن أتبين أيها واضح وأيها غامض". فالفكرة الواضحة صادقة ويقابلها موضوع؛ أما الفكرة الغامضة فانفعال ذاتي. وهذا يعني أن العالم الخارجي لا يعلم إلا بعد أفكاري وعلى مثالها، وأن الحقيقة "أي الوضوح" سابقة في علمي على الوجود، وأنها عبارة عن جسر بين الفكر المعلوم أولًا والأشياء المعلومة بعده وتبعًا له. وهذا هو المذهب التصوري

"إيديالزم" 1 ابتدعه ديكارت وتابعه فيه الفلاسفة المحدثون، فوقعوا في إشكالات لا تحصى. وظن ديكارت أن صدق الله يحل المسألتين ويرد إلى المعرفة قيمتها والواقع أنه يهدمها هدمًا، إذ لو كان لدينا وسيلة طبيعية للمعرفة الحقة، لما افتقرنا إلى الضمان الإلهي، ولو كانت قوانا العارفة تؤدي وظيفتها كالواجب، وتمضي بالطبع إلى الحقيقة، لحملت في نفسها علامة صدقها، ولعلمنا ذلك قبل الالتجاء إلى الضمان الإلهي؛ أما افتقارنا إلى ضمان خارج عن العقل والحواس، فأدعى إلى التشكك في الله وحكمته وجودته. ح- وللتمييز بين الصادق والكاذب من الأفكار، تمهيدًا للخروج من التصور إلى الوجود، يرتب ديكارت الأفكار في طوائف ثلاث: الأولى أفكار حادثة أو اتفاقية، وهي التي يلوح لنا أنها آتية من خارج، أي: التي تقوم في الفكر بمناسبة حركات واردة على الحواس من الخارج، كاللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة، وهي غامضة مختلطة. الطائفة الثانية أفكار مصطنعة، وهي التي نركبها من أفكار الطائفة الأولى، كصورة فرس ذي جناحين، أو صورة حيوان نصفه إنسان ونصفه فرس، وما شاكل ذلك. والطائفة الثالثة أفكار غريزية أو فطرية، ليست مستفادة من الأشياء ولا مركبة بالإرادة، ولكن النفس تستنبطها من ذاتها؛ وتمتاز هذه الأفكار بأنها واضحة جلية بسيطة أولية، وهي التي تؤلف الحياة العقلية بمعناها الصحيح، كفكرة الله والنفس والامتداد وأشكاله والحركة وأنواعها والعدد والزمان وغيرها. وقد سئل ديكارت في هذه الأفكار، فقال: إنه يقصد بكونها غريزية أن فينا قوة تحدثها، وبكونها طبيعية أنها في النفس على نحو ما نقول: إن السخاء أو إن مرضًا ما طبيعي في بعض الأسر، وقال: إنها ليست مرتسمة في العقل كأبيات الشعر في الديوان، ولكنها فيه بالقوة كالأشكال في الشمع، وإنها في عقل الطفل على نحو ما هي في عقل الراشد حين لا يفكر فيها. ويعود إلى علة الأفكار، فيقول: إن أفكار الطائفة الأولى

_ 1 قيل: "مثالية" في ترجمة "إيديالزم". وقد رأينا أن نقصر لفظ "مثالية" على النسبة إلى نظرية أفلاطون في المثل والنسبة إلى المثل الأعلى، وأن نقول "تصورية" للدلالة على المذهب الذي عرفناه فوق. والإفرنج إذ يستعملون لفظًا واحدًا هو "إيديالزم" يضطرون إلى تعيينه بقولهم: idobjectif دلالة على النظرية الأفلاطونية و idsubjectif دلالة على المعنى الآخر.

والثانية لا تتطلب علة غير النفس، فإنها عبارة عن انفعال النفس بالمؤثرات الخارجية وتركيب الانفعالات بعضها مع بعض. أما الأفكار الفطرية فإنما تمثل "طبائع بسيطة وحقائق موضوعية" فمن الخطأ الظن أن العقل علتها الكافية. إن العقل علة كافية للفكرة من حيث هي فعل نفسي، لا من حيث موضوعها. وعلى ذلك يجب استعراض الأفكار الفطرية والنظر فيما إذا كانت تفسر بالفكر وحده أو تقتضي علة خارجية. ذلك سبيلنا للتخطي من التصور إلى الوجود. 35 - الله والحقيقة: أ- أجل؛ إذا عثرت على فكرة تفوق حقيقتها الموضوعية كل ما فيّ بحيث لا أكون علة هذه الفكرة، علمت أني لست وحيدًا في العالم. والواقع أني أجد بين أفكاري فكرة الله، أعني فكرة موجود كامل لامتناهٍ. وهذه الفكرة واضحة متميزة، فإنها تحوي كل ما أتصور من كمال. من أين جاءتني؟ هل أقول: إني استنبطتها من نفسي؟ ولكني موجود يشك ويتردد كما رأينا، والشك علامة النقص, إذ من البين أن العلم خير منه، فكيف أستطيع استحداث فكرة الكامل وأنا ناقص؟ هل أقول: إنها جاءت من الأشياء الخارجية؟ ولكنها لا تخطر لي أبدًا على غرة مثل أفكار المحسوسات، والعالم الخارجي ناقص مؤلف من أشياء كل منها محدود، ومهما أجمع أشياء أو أفكارًا ناقصة بعضها إلى بعض، فلن أبلغ إلى تأليف فكرة الكامل اللامتناهي. هذا إلى أن هذه الفكرة بسيطة لا مجال فيها لتأليف وتركيب، من حيث إنها تمثل موجودًا واحدًا حاصلًا على جميع الكمالات, وإني لا أستطيع أن أنقص منها أو أزيد فيها شيئًا. ولا يمكن أن يقال: إني لا أتصور الكامل اللامتناهي بفكرة محصلة، بل بإدخال السلب على فكرة النقص والتناهي التي أجدها في نفسي، إذ ليست فكرة الكامل اللامتناهي معدولة تمثل عدمًا وسلبًا، ولكنها محصلة تمثل موجودًا هو أكمل موجود، بل الواجب أن يقال على العكس: إني إنما أتصور النقص والتناهي بالحد من الكمال واللاتناهي، ولو لم تسبق لي فكرة موجود كامل لا نقص فيه، لما استطعت أن أعتبر نفسي ناقصًا. وإذن فليست هذه الفكرة حادثة ولا مصطنعة، ولا يبقى إلا أنها فطرية بسيطة أولية.

ب- إذا تقرر هذا قلت: إن كل ما أتصور بوضوح حصوله لماهية ما فهو حاصل لها، أو كل محمول متضمن في فكرة شيء فهو صادق على هذا الشيء؛ فمثلًا حين أتصور المثلث، أتصور ماهية ثابتة لم أخترعها وليست متعلقة بفكري, فلا أستطيع أن أعدل فيها زيادة أو نقصانًا، وأنا أتصور في ماهية المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين، وهذا صحيح عن المثلث, وهكذا في كل ماهية. فإذا عدت إلى فكرة الكامل وجدتها تتضمن الوجود بالضرورة؛ لأن الوجود كمال ولو كان الكامل غير موجود لكان ناقصًا مفتقرًا لموجد، وهذا خلف. فوجود الله لازم من ذات فكرة الله، أي: من مجرد تعريفه. وقد يبدو هذا القول مغالطة، ولكن ذلك وهم، سببه أننا نميز بين الوجود والماهية في سائر الأشياء، فتحملنا العادة على اعتقاد إمكان فصل الوجود عن ماهية الله. أما إذا تدبرنا الأمر، وجدنا ماهية الله تقوم في حصول جميع الكمالات، وأن فكرة الله هي الفكرة الوحيدة التي تتضمن الوجود كمحمول ذاتي، فلا يمكن فصله عن الماهية، كما لا يمكن فصل فكرة الوادي عن فكرة الجبل. وهذا دليل أول على وجود الله، وهو دليل القديس أنسلم, مهد له ديكارت ودعمه ببيان أصالة فكرة الله، ويعد هذا البيان نصيبه الخاص في إقامة الدليل. ح- إذا انتقلت من النظر في مفهوم فكرة الله إلى الفحص عن علتها، كان لي دليل ثانٍ على وجود الله. قد سبق القول أن لها من الحقيقة الموضوعية أو الكمال ما يفوقني إلى غير حد، فلا يمكن إلا أن تكون صدرت إلا عن علة كفء لها، أي: عن موجود حاصل بالفعل على الكمال الممثل فيها. ورب قائل يقول: لعلي أعظم مما أظن، ولعلي حاصل بالقوة على الكمالات التي أضيفها إلى الله، ولعل هذه القوة على اكتساب الكمالات بالتدريج كافية لتوليد تصور هذه الكمالات في نفسي. ولكن لا، فمن الجهة الواحدة الله موجود كله بالفعل، وفكرة موجود كامل بالفعل تفوق كل اكتساب الكمال بالتدريج, ومن جهة ثانية ليس يمكن تحقيق اللامتناهي بزيادات متتالية، إذ إن كل ما هو متناهٍ فهو قابل للزيادة دائمًا، فالظن بأن موجودًا متناهيًا يستطيع الوصول بالتدريج إلى اللامتناهي ظن متناقض، وأخيرًا العلة التي بالقوة ليست شيئًا وليست علة،

والحقيقة الموضوعية لفكرة ما تتطلب علة بالفعل. إذن فالله موجود، وهو نموذج فكرة الكامل اللامتناهي وعلتها. د- وإذا فحصت عن علة وجودي بصفتي حاصلًا على فكرة الكامل، كان لي دليل ثالث على وجود الله. ذلك بأنني لو كنت خالق نفسي، لكنت منحت نفسي الكمال الممثل لي في هذه الفكرة، من حيث إن الإرادة تتجه إلى الخير دائمًا، وما الكمال إلا صفة للموجود وحال له، فخلقه أيسر من خلق الوجود ذاته، فلو كنت أوجدت نفسي لكنت أردت لها كمال الوجود، ولكني ناقص، فذلك دليل على أني لست خالق نفسي. ولا يمكن القول: إني وجدت دائمًا على ما أنا الآن، فإن أجزاء الزمان منفصلة بعضها عن بعض بحيث لا يتعلق الزمان الحاضر بالزمان الذي سبقه، فالموجود لكي يدوم في كل آن مفتقر لنفس الفعل اللازم لخلقه، فلا أستطيع الدوام زمنًا ما إلا إذا كنت أخلق خلقًا جديدًا في كل آن، وليس لدي مثل هذه القوة لحفظ نفسي في الوجود, ولو كانت لي لعلمت ذلك علمًا يقينيًّا, فإن قوة ما لا توجد في بما أنا موجود مفكر دون أن أعلمها؛ وإذن فلست خالق نفسي. ثم لا يمكن أن يقال: إن وجودي مستمد من توالدي أو من علة أخرى دون الله كمالًا؛ لأنه مهما تكن تلك العلة فلا بد أن تكون حاصلة على فكرة الكمال، وحينئذ فإما أن تكون أوجدت نفسها، وأوجدت نفسها كاملة، فتكون الله، أو أن تكون صدرت عن علة أخرى، فتعود المسألة، ويمتنع التسلسل إلى غير نهاية؛ لأن المطلوب هنا ليس العلة التي أوجدتني في الماضي, بل التي تحفظ وجودي في الحاضر، فلا بد من الوقوف عند علة هي الله. وهكذا كما أدركت النفس دون أن أخرج من الفكر، فقد أدركت الله إدراكًا مباشرًا في علاقتي بفكري ووجودي، وبلغت إلى موجود محقق مع بقائي مستمسكًا بالفكر. إن فكرة الله محدثة في منذ خلقت، وهي طابع الله في خليقته. هـ- ونحن نتغاضى هنا عما في هذه الأدلة من مسائل فرعية تغنينا غرابتها عن الإسهاب في نقدها, مثل احتمال إحداث الموجود ذاته, وتصور الدوام خلقًا متكررًا لا ندري كيف يبقى معه الموجود هو هو، واعتقاد ديكارت أن المفكر يدرك كل ما في نفسه، مما يرجع إلى إنكار القوة واللاشعور, نتغاضى عن هذا

وعن غيره، ونحصر النظر في فكرة الله التي يبني عليها ديكارت أدلته الثلاثة. هل صحيح أنها محصلة جلية متميزة؟ الواقع أنها مكتسبة بالاستدلال، فالأصل فيها ضرورة تفسير الموجود المتغير بإسناده إلى علة، وضرورة الوقوف عند علة أولى في سلسلة العلل، وإلا بقي الموجود المتغير بدون تفسير، وضرورة إيجاب الوجود لهذه العلة الأولى، إلا لم تكن أولى. فديكارت يتناول هذه الفكرة كما كونها الفلاسفة واللاهوتيون المدرسيون ويعتبرها أولية، فيبدأ من حيث انتهوا، ويعتبرها محصلة، ولو كانت كذلك لاستوى فيها كل الناس، ولأظهرتنا على ماهية الله كما هي، والواقع يرد هاتين النتيجتين، وديكارت نفسه يقر بهذا الواقع فيقول "في التأمل الثالث": "أجل, إني لا أفهم اللامتناهي، وإني أجهل أمورًا كثيرة فيه، ولكني متى علمت أنه حاصل على جميع الكمالات التي أتصورها، وفهمت حق الفهم أن تمام الإحاطة باللامتناهي ممتنع على موجود متناهٍ مثلي، فقد حصلت على فكرة عنه جلية جدًّا ولو أنها ناقصة جدًّا". نقول: إذا كانت الفكرة ناقصة إلى هذا الحد، فليست صورة حقه للامتناهي تفيدنا معرفته كما هو, وإنما هي فكرتنا نحن عنه، أو بعبارة أدق هي جملة أحكامنا بأن الله موجود, وبأن له كذا وكذا من الصفات، أي: إن تلك الفكرة فعل عقل متناهٍ ناقص يتعقل الكامل اللامتناهي كما يستطيع. فديكارت إذ يقول: إنها محصلة، يخلط بينها وبين موضوعها، فإن هذا الموضوع الذي هو الله موجود حق، أما فكرتنا عنه فليست صورة أو معنى شبيهًا به، وإلا كانت تظهرنا على حقيقة اللامتناهي إظهارًا كليًّا كما قلنا، وهذا غير صحيح. ولكن ديكارت، وقد قطع الصلة بين الفكر والوجود، اضطر لوضع الأفكار موضع الموجودات واعتبارها أشياء قائمة بأنفسها. وهو بقوله: إن فكرة الله محصلة، وبفصله بينها وبين الاستدلال الذي ينتجها ويسوغها، يمهد السبيل لاعتبارها مجرد صورة فكرية أو وهمًا ضروريًّا كما يقول كانت، أو تشخيصًا للمجتمع كما يقول الاجتماعيون، أو ما إلى ذلك من أقاويل. ووما دامت هذه الفكرة دعامة الأدلة الثلاثة, فقد انهارت هذه الأدلة بانهيارها. ذلك بأن الوجود المتضمن في فكرة الله محمول من جنس الفكرة، أي: محمول متصور فحسب, وليست الفكرة صورة حقة لموضوعها, فقد زال عنها امتيازها وأضحت, فإذا بينها وبينه مثل ما بين سائر الأفكار وبين موضوعاتها من

مسافة، وتعين البحث فيما إذا كان يقابلها موضوع حقًّا، أو كانت مجرد تصور، فإذا ثبت لها موضوع، قيل حينئذ: إن الوجود محمول ذاتي له كما قدمنا. وبعبارة أخرى: إذا ثبت وجود الله، فقد ثبت أن الوجود واجب له؛ أما الانتقال من الوجود المتصور إلى الوجود الواقعي، فغلط أو مغالطة، وقد نبه على ذلك القديس توما الإكويني في رده على دليل القديس أنسلم. أما عن الدليل الثاني، فما دامت فكرتنا عن الله ناقصة ومكتسبة بالاستدلال، فليست تتطلب علة لامتناهية، وليس ما يمنع أن تصدر عن الموجود المتناهي الذي يتصورها، وهو إنما يتصورها بحكم ينفي الحد ويطلق الموجود من كل قيد. وأما عن الدليل الثالث، فلا مسوغ للانتقال من وجودي المتناهي إلى الموجود اللامتناهي، إذ إن هذا الانتقال لا يتم عند ديكارت بتطبيق مبدأ العلية على وجودي، بل بواسطة حصول فكرة اللامتناهي في فكر متناهٍ لو كان خلق نفسه لكان خلقها كاملة لامتناهية؛ فإذا كانت فكرتي عن اللامتناهي ليست لامتناهية، فقد بطل الاستدلال، ولم يبق منه إلا أني قد أكون خالق نفسي، أي: قد أكون، وأنا موجود متناهٍ حاصل على أفكار متناهية، خلقت نفسي متناهيًا! إلى مثل هذا التناقض يرجع دليل ديكارت متى أبطلنا الواسطة المبني عليها, أي: كون فكرة اللامتناهي محصلة بسيطة أولية. وقد استعاض ديكارت بفكرة انقسام الزمان إلى غير نهاية، عن فكرة الإمكان التي استخدمها السلف، أو أنه نقل الإمكان إلى اللحظة الآتية التي لا يستطيع فيها المخلوق استبقاء وجوده، فيجدد الله خلقه. فدليله لا يرمي إلى إثبات بداية للمخلوق، بل إلى تفسير دوامه وحفظه في الوجود, وهذا تصور غريب لدوام المخلوق ولحفظ الله له. ز- وغريب كذلك تصور ديكارت لماهية الله, فإن الله عنده حر قدير حتى ليعتبر "بالإضافة إلى ذاته بمثابة العلة الفاعلية بالإضافة إلى معلولها" بل حتى إنه "لو لم يكن إعدام الذات نقصًا، لأمكن إضافة تلك القوة إليه"، وتتناول حرية الله كل شيء، ليس فقط ما نراه ممكنًا، بل أيضًا "الحقائق الدائمة" رياضية وفلسفية، وماهيات المخلوقات. فإن الله صانع الأشياء جميعًا، وهذه الحقائق والماهيات أشياء، فهو إذن صانعها. أجل إنها تبدو لنا ضرورية، ولكن الله هو الذي أراد أن تكون كذلك، وفرضها على عقلنا. لقد كان الله حرًّا

في أن يجعل الخطوط الممتدة من المركز إلى المحيط متساوية، وزوايا المثلث الثلاث مساوية قائمتين، مثلما كان حرا في ألا يخلق العالم، فلما اختار، غدا اختياره حقًّا؛ ولما كان الله ثابتًا، فلا خوف أن يتغير الحق. والنصوص الواردة بهذا المعنى كثيرة صريحة، تدل على شدة تعلق ديكارت بنظريته هذه؛ وهي واردة في رسائله الخاصة منذ سنة 1629، وفي ردوده على الاعتراضات، دون الكتب التي أعلن فيها مذهبه كاملًا منظمًا، وقبل نشره للكتاب الأول من هذه الكتب "وهو "المقال"" بثماني سنين. وفي سنة 1630 ظهر كتاب يدور على هذه المسألة لقسيس صديق لديكارت من قساوسة "الأوراتوار" هو الأب Gibicof. والنظرية على كل حال قديمة، نجدها بارزة في القرن الرابع عشر عند دونس سكوت ونقولا دوتركور، ونجدها تولد الشك. وديكارت نفسه يدلنا على أثرها في المعرفة حيث يقول "في التأمل الثالث": "إذا كنت حكمت أن بالاستطاعة الشك في هذه الأشياء، فما كان ذلك لسبب غير أنه كان يخطر ببالي أن إلهًا قد يكون أعطاني طبيعة هي بحيث أخطئ حتى فيما يبدو لي أوضح ما يكون. وكلما عرض لفكري هذا الرأي المتصور آنفًا في إله كلي القدرة, رأيتني مرغمًا على الاعتراف بأن من الميسور له، إن شاء، أن يجعلني أخطئ حتى فيما أعتقد أني أدركه ببيان عظيم جدا؛ وعلى العكس كلما توجهت صوب الأشياء التي أعتقد أني أتصورها بغاية الوضوح، رأيتها تقنعني ... ". ح- وعلى ذلك نرى أن لهذه النظرية أثرًا كبيرًا في تركيب المذهب, إذا كانت الحقيقة خلقًا حرًّا، فلم يعد لها قيمة بالذات، وإنما قيمتها آتية من أمر الله، وقد كان في مقدور الله أن يقرر نقيضها كما يقول ديكارت ويكرر القول، وإذن فباستطاعتنا أن نشك فيها مهما بدت ضرورية؛ لأنها ضرورية بالإضافة إلينا، ولكنها ممكنة في نفسها وبالإضافة إلى الله. فالشك الكلي المؤيد بفرض الروح الخبيث يتناول ماهية الحقيقة وصدق الفكر، وليس يشك ديكارت في صدق الفكر إلا لأنه يشك في الحقيقة. فكان محتومًا عليه أن يستبعد كل حقيقة حتى يبلغ إلى الفكر الخالص، لكي يقف نفس موقف الله وهو يقرر الحقيقة. هذا من جهة, ومن جهة أخرى، إذا كانت الحقيقة وضعية، فليس يعتبر الوضوح علامة حاسمة لتصديقها، ولكنه شعور ذاتي يميل بنا إلى التصديق،

فقبل أن نميل معه يتعين علينا أن نتيقن أنه غير خادع، إذ كما أن الحقيقة محدثة فإن مصاحبة الوضوح لها محدثة كذلك، فالثقة بها تقتضي معرفة واضعها وكونه كاملًا صادقًا، وإلا امتنع لدينا كل سند للحقيقة. فصدق الله ضمان الوضوح، ومعنى الاثنين جميعًا أن بين العقل وبين الحقيقة مناسبة وملاءمة؛ لأنهما من صنع الله. 36 - العالم وقوانينه: أ- بعد أن يطمئن ديكارت إلى وجود الله وصدقه، ينتقل إلى وجود العالم ويسأل نفسه: هل الماديات موجودة؟ فيجيب بالإيجاب، ويقدم الأسباب. فأولا هذه الأشياء ممكنة، والله يستطيع إحداث الممكنات. ثم إن في قوة حاسة هي قوة انفعالية تتطلب قوة فعلية تثير فيها أفكار المحسوسات؛ وهذه القوة الفعلية ليست فيَّ، فإني جوهر مفكر، وليست هذه القوة مفكرة، وإذن فهي خارجة عني. على أنها قد تكون إما جسمًا حاصلًا بالذات على ما أتصوره في المحسوسات، أو تكون الله الحاصل عليه على نحو أسمى, فما هي؟ إني أحس في نفسي ميلا طبيعيا إلى الاعتقاد بأشياء جسمية، وما دام هذا الميل طبيعيا فهو صادر عن الله، والله صادق فلا بد أن يكون خلق أشياء مقابلة لأفكاري. إن طبيعتي تعلمني أن لي جسمًا، وأن أجسامًا أخرى تحيط بي، وأن هذه الأجسام مختلفة فيما بينها تحدث فيّ إدراكات مختلفة ولذات وآلامًا، فلن أكترث بعد الآن لأخطاء الحواس وخيالات الأحلام، فإن مراجعة الحواس بعضها ببعض، ومراجعتها بالذاكرة والعقل، تبدد الخوف من الخطأ في الإدراك الحسي. وكذلك تتميز اليقظة باتساق الإحساسات فيما بينها، ويتميز المنام باضطراب التصورات. هذه قرائن لا يمكن أن أخطئ فيها وقد علمت أن ليس الله خادعًا. ب- الماديات موجودة إذن, ولكن على أي نحو؟ هنا يجب أن أراجع أفكاري بكل حذر حتى يقتصر تصديقي على ما أراه واضحًا متميزًا، فإن أفكاري إنما تصدر عن الله من حيث ما فيها من وضوح، والله إنما يحدث من موضوعات الأفكار ما يتصور بوضوح ليس غير. وما أتصوره واضحًا في الأشياء يرجع إلى أنها امتداد فحسب، وباقي ما يبدو في الإحساس فهو صادر عن

فكري: الضوء واللون والصوت والرائحة والطعم والحرارة، كل هذه انفعالات ذاتية، أفكار غامضة أضيفها خطأ لذلك الميل الطبيعي، وأتخذها أساسًا لمعرفة ماهيات الأجسام، وليس في الأجسام شيء يشابهها، وليس لها من غاية سوى إرشادي إلى النافع والضار فأكيف مواقفي في الحياة تبعًا لذلك. فديكارت يستبعد "الكيفيات الثانوية" ويستبقي "الكيفيات الأولية" مع كونها جميعًا إحساسات وانفعالات، مستندًا إلى مفهوم فكرة المادة وإلى صدق الله. ج- هذه المادة الهندسية لامتناهية المقدار من حيث إنه يستحيل وضع حد للامتداد. وديكارت يعوِّل هنا على الامتداد المتخيل لا الامتداد المعقول، فإن المخيلة لا تقف عند حد في تخيلها إذ إنها لا تتخيل إلا المحسوس؛ أما العقل فيستطيع الحكم بوجوب الحد متى علم أن المادة الموجودة بالفعل متشكلة بالضرورة ومن ثمة محدودة بالضرورة. وهذه المادة الهندسية مقسمة إلى أجزاء غير متناهية، فليس هناك جواهر فردة أو أجزاء لا تتجزأ من حيث إن كل امتداد مهما صغر قابل للقسمة إلى جزأين وهكذا إلى غير نهاية. وهذه المادة الهندسية ملاء لا يتخلله خلاء؛ لأن الخلاء امتداد، والامتداد مادة "عند المخيلة كما تقدم" بحيث تفسر كل حركة بأن الجسم المتحرك يطرد الجسم المجاور له ليحل في مكانه، وهكذا إلى ما لا نهاية. فالحركة في العالم دائرية, والمادة متحركة حركة متصلة, حركها الله منذ الخلق، وشرع للحركة قوانين. هذه القوانين تستنبط من فكرة ثبات الله؛ وأولها "أن كل شيء يبقى على حاله طالما لم يعرض له ما يغيره"؛ ومن هذا القانون يلزم قانونان: أحدهما "أن مقدار الحركة "المحدثة عند الخلق" يبقى هو هو في العالم لا يزيد ولا ينقص"؛ والآخر "أن كل جسم متحرك فهو يميل إلى الاستمرار في حركته على خط مستقيم" وهذا قانون القصور الذاتي، وديكارت أول من وضعه عن بينة، وقد يكون وصل إليه بتأثير كبلر. هذه القوانين الثلاثة تنطوي على جميع قوانين الحركة, وكلها ثابتة بثبات الله 1. فهنا أيضًا يلجأ ديكارت إلى الله لكي يقيم أركان علمه الطبيعي؛ ولكن هل يمنع ثبات الله من حدوث التغير في الطبيعة؟ ومن يدرينا، لعل الله أراد بإرادة واحدة أن توجد قوانين معينة وقتًا ما، ثم أن تحل محلها قوانين أخرى؟

_ 1 "مبادئ الفلسفة" القسم الثاني، فقرت 21، 22، وما بعدها.

د- وكان من فعل الحركة في المادة على مقتضى القوانين أن تكونت السماء والأرض والسيارات والمذنبات والشمس والنجوم الثوابت والضوء والماء والهواء والجبال والمعادن والنباتات والحيوانات والأجسام الإنسانية. تكونت كلها بمحض فاعلية الحركة في الامتداد، دون أي شيء من تلك الكيفيات والقوى والصور الجوهرية التي أضافها أرسطو والمدرسيون إلى المادة، ودون علل غائية، فليس لهذه العلل محل في العلم الطبيعي، وأنى لنا أن نكشف عن غايات الله، والله على كل حال لم يتوخ غاية، وإنما رتب الأشياء بمحض إرادته الحرة. فالأجسام آلات ليس غير، بما فيها النبات والحيوان وجسم الإنسان. أما أن الحيوان عاطل من العقل، فدليله أنه لا يتكلم ونحن نشاهد أن الكلام لا يقتضي إلا قليلا من العقل. وإذا كان بعض الحيوان يفوق الإنسان مهارة في بعض الأفعال، فإنه لا يبدي شيئًا من تلك المهارة في أفعال أخرى كثيرة، فما يفوقنا فيه لا يدل على عقل وإلا لكان حظه منه أكبر من حظنا ولأجاد سائر الأفعال, ولكنه يدل على أن لا عقل لله وأن الطبيعة هي التي تعمل فيه. كذلك ليس للحيوان شعور وعاطفة؛ لأن العاطفة ضرب من الفكر. وقد ظن ديكارت أن رأيه هذا تأيد باكتشاف وليم هارفي للدورة الدموية سنة 1628، أي: حين بين هذا العالم أن الدم لا يجري في الجسم بقوة ذاتية، بل إن انقباض القلب هو الذي يدفعه، فاعتقد ديكارت أن قوانين الحركة تنطبق أيضًا على الجسم الحي، وأن في الأعصاب "أرواحًا حيوانية" هي أدق أجزاء الدم وأسرعها حركة، بحركاتها تفسر جميع الأفعال الحيوية الجسمية، ومثل هذه الأفعال مثل حركاتنا اللاإرادية، كمد اليدين إلى أمام في حركة السقوط، فإنها حادثة عن تحرك الأرواح الحيوانية بتأثيرات غير مشعور بها. فإذا كان الحَمَل يهرب عند رؤية الذئب؛ فذلك لأن الأشعة الضوئية الصادرة عن جسم الذئب إلى عين الحمل تحرك عضلاته بوساطة تيارات الأرواح الحيوانية؛ ويمكن تفسير عودة السنونو في الربيع كما نفسر دقّ الساعة في فترات راتبة. وإذن فجميع الأجسام آلات دقيقة الأجزاء كثيرة التعقيد عجيبة الصنع؛ ولكنها آلات على كل حال تعمل بالحركة فحسب. والعالم في مجموعه آلة كبرى أو علم الميكانيكا متحقق بالفعل، ولئن فاته بهاء الألوان ونغم الأصوات وشذا الروائح وكل ذلك الجمال الذي تتوهمه فيه الفلسفة الناسجة على

منوال أرسطو والذوق العام، فقد استعاض عنه معقولية طالما نشدتها تلك الفلسفة فأعياها البلوغ إليها، إذ قد أضحت الأجسام شبيهة بالأشكال الهندسية معقولة كلها دون غموض ولا خفاء 1 , ولكنها لم تصبح كذلك إلا بإرادة الفيلسوف الذي أفرغها مما فيها من قوة وحياة، وردها أشكالًا جوفاء. 37 - النفس والجسم: أ- بقي على ديكارت، وقد استعاد يقينه بوجود الأجسام بما فيها جسمه، أن يخطو خطوة أخيرة ويفحص على طبيعته هو، إنه مؤلف من نفس وجسم، أي: من جوهرين متمايزين متضادين: النفس روح بسيط مفكر، والجسم امتداد قابل للقسمة. ليس في مفهوم الجسم شيء مما يخص النفس، وليس في مفهوم النفس شيء مما يخص الجسم، وقد أشك في وجود جسمي وسائر الأجسام دون أن يتأثر بهذا الشك وجود فكري ونفسي. لذا لا يأتي العلم بالجسم إلا في هذا الموضع كما يقتضي المنهج، وإن كان النفس والجسم في واقع الأمر متضامنين يؤلفان موجودًا واحدًا، فإن المنهج يقضي بأن تتسلسل الأفكار بنظام "إلى حد أن نفترض نظامًا بين الموضوعات التي لا تتتالى بالطبع"؛ وإن المبدأ التصوري يقضي بأن نذهب من أفكارنا إلى موضوعاتها بحيث لا يمكن أن تختلف الموضوعات عن الأفكار ولا أن يوجد في الواقع نفس وجسم يختلفان عن تصورنا للنفس والجسم. ومن أين جاء ديكارت بتعريف النفس والجسم؟ إنه يضع التعريف من عند نفسه، لا من ملاحظة الكائنات الحية، ولا يريد أن يعلم أن الجسم، وإن كان عديم القدرة على التفكير، فقد يكون شرطًا للتفكير، ومن ثمة قد يكون متصلًا بالنفس ضربًا من الاتصال أوثق من الذي يرضى به الفيلسوف الأفلاطوني. وقد اعتقد ديكارت أنه بهذا الفصل التام بين النفس والجسم أسقط المادية وأقام الميتافيزيقا. ولكن هذا الفصل الذي ينكر النفس على الحيوان ويجعل من البيولوجيا فرعًا من الميكانيكا، قد يؤدي إلى إنكار النفس على الإنسان ورد التعقل إلى الإحساس المشاهد في الحيوان، فتسقط الروحانية، وتسقط الميتافيزيقا

_ 1 "مقال في المنهج" القسم الخامس؛ و"مبادئ الفلسفة".

من حيث إنها لا تقوم على الحس بل على العقل. وسنرى كثيرين من الفلاسفة يستخرجون هاتين النتيجتين، ويردون على ديكارت بنفس أقواله. ب- بيد أن ديكارت يستدرك فيقول: إن طبيعتي تعلمني أني لست حالا في جسمي حلول النوتي في السفينة، ولكني متحد به اتحادًا جوهريًّا يكون كلا واحدا، بحيث لو جرح جسمي فلست أقتصر على إدراك الجرح بالعقل؛ ولكني أنبه إليه بالألم. فالألم والجوع والعطش وسائر الانفعالات لا تنال النفس بما هي كذلك، وإنما هي ناشئة من اتحاد النفس والجسم واختلاطهما. ويقال مثل هذا عن المعرفة الحسية والحركات المنعكسة والأحلام والتخيل والتذكر 1. عجبًا! يستعير ديكارت ألفاظ أرسطو الذي ينكر على أفلاطون أن تكون النفس في الجسم "كالنوتي في السفينة" والذي يؤكد اتحاد النفس والجسم "اتحادًا جوهريًّا" فكيف يفسر ديكارت هذا الاتحاد؟ الواقع أنه يذعن هنا مكرهًا لشهادة الوجدان وأن مذهبه ثنائي لا يطيق الوحدة بحال. في مواضع كثيرة يتكلم عن النفس والجسم كأن النفس حالة في الجسم مجرد حلول، وهو يعين لها فيه مكانًا ممتازًا هو الغدة الصنوبرية "حيث تقوم النفس بوظائفها بنوع أخص منها في سائر الأجزاء، وتنتشر قوتها في الجسم كله". وإنما وضعها في هذا الجزء من الدماغ لأنه رأى فيه المكان الملائم لقبول الحركة وتوجيهها، أي: في وسط الدماغ وفوق القناة التي تمر منها الأرواح الحيوانية من تجاويف مقدم الدماغ إلى تجاويف مؤخره. فكلما أرادت النفس شيئًا "حركت الغدة المتحدة بها الحركة اللازمة لإحداث الفعل المتعلق بتلك الإرادة". أما الجسم فيؤثر في النفس بأن يبلغ إليها الحركات الواقعة عليه والحادثة فيه فتترجمها هي ألوانًا وأصواتًا وروائح وطعومًا ورغبات ولذات وآلامًا، ولا ندري كيف تتم هذه الترجمة، ولم تحس النفس الجوع والعطش وتحس ألمًا من جرح، بدل أن تدرك مجرد إدراك أن بالجسم جرحًا وأن به حاجة إلى الطعام والشراب، وماذا يصير بمبدأ القصور الذاتي. إن النفس روح فلا تنالها الحركة، وعلى ذلك فالحركة الجسمية حركة فانية؛ فإذا سلمنا أن النفس تحرك الغدة الصنوبرية، قلنا بحركة جديدة غير ناشئة من حركة سابقة، ومبدأ

_ 1 كتاب "انفعالات النفس" فقرات 12 - 13 - 24 - 27 - 42.

القصور الذاتي يحول دون تصور الحركة تفنى أو تخلق. وقد قال ديكارت ردًّا على اعتراض أو سؤال: إن النفس لا تخلق حركة، بل توجه الأرواح الحيوانية. ولكن التوجيه أو التغيير في الاتجاه يقتضي حركة، فيخالف مبدأ القصور الذاتي على أن ديكارت يقول: إنه هكذا رتبت الأمور لخير الإنسان وحفظ كيانه، أي: هكذا رتبها الله، فيعود ديكارت إلى الله مرة أخرى للخروج من مأزقه، كما كان التراجيديون اليونان يقحمون الآلهة في المواقف الحرجة. وتلك هي الكلمة الأخيرة في المشكلة، إذ يستحيل تصور اتحاد حقيقي بين جوهرين تامين، وتصور تفاعل حقيقي بين جوهرين متضادين. ج- ولديكارت كلمة أبلغ دلالة على هذه الاستحالة, ألحت عليه الأميرة إليزابث أن ينجدها بالتعليل الشافي. فأفاض في القول دون أن يأتي بشيء جديد، بل إن هذه الإفاضة تنم عن حيرة شديدة، وانتهى بالاعتراف بأن المسألة لا تحتمل حلا عقليا. قال: "تعلم النفس بالعقل، ويعلم الجسم بالعقل كذلك ولكنه يعلم أحسن بكثير بالعقل تعاونه المخيلة. أما اتحاد النفس والجسم، فلا يعلم إلا علمًا غامضًا بالعقل والمخيلة, ويعلم علمًا واضحًا بالحواس، وهو أمر محسوس لا يشك فيه عامة الناس، ويستطيع الفلاسفة أن يدركوه إذا هم كفوا عن التعقل والتحليل, وتركوا أنفسهم للحياة وللأحاديث الجارية". وأردف ذلك بقوله: "لا يلوح أن باستطاعة العقل الإنساني أن يتصور بجلاء, وفي نفس الوقت تمايز النفس والجسم واتحادهما، إذ إن ذلك يقتضي تصورهما شيئًا واحدًا وشيئين، وهذا تناقض". وهذا إقرار صريح بالعجز والفشل؛ لذلك نرى نظرية ديكارت في النفس والجسم خير نظرياته بيانًا لما يميز مذهبه من تركيب صناعي. إنها ضعيفة إلى حد التناقض بإقرار الفيلسوف نفسه، وعندها يتحطم المنهج الجديد في يد صاحبه. وإن في هذا الإخفاق لعبرة، فهو يدلنا على عاقبة قلب نظام المعرفة الإنسانية ومحاولة إخضاع الوجود لمنهج يفرض عليه فرضًا، بدل إخضاع الفكر للوجود. إن الوجود أصلب من أن يلين للنظريات، وهو لا يلبث أن يثأر لنفسه منها ويبين تهافتها. أليس غريبًا أن نسمع ديكارت "العقلي" المعتد بالعقل إلى غير حد، يدعونا إلى اطّراح العقل والاسترسال مع الحياة وأحاديث الناس في مسألة هي من الأهمية الفلسفية بأعظم مكان؟ وهل هناك ثأر أبلغ من هذا؟ وإذا

ذكرنا أن كبلر وجليليو ثم نيوتن من بعدهما اكتشفوا بالتجربة قوانين مضبوطة، فكانت تسمح لهم بتوقع الظواهر وتقودهم إلى مكتشفات جديدة، بينما القوانين "غير الصحيحة" التي فرضها ديكارت على الطبيعة لم تكن تفسر الأشياء إلا تفسيرًا إجماليًّا، ولا تسمح بأي توقع إذا ذكرنا ذلك كان لنا منه مثال آخر على ثأر الطبيعة من المتجبرين عليها وسخريتها منهم. 38 - تعقيب على المذهب: أ- نستطيع الآن أن نرى أن العلم الطبيعي الرياضي مفتاح المذهب، كما أن الشك في ضرورة الحقيقة مفتاح المنهج " 35 جـ". تقدم لنا الرياضيات المثل الأعلى للعلم، ذلك العلم "اللمي" الذي ينزل من المبادئ إلى النتائج, فيبين علة النتائج في مبادئها ويرضى العقل تمام الرضا. كان أفلاطون يصبو إلى هذه الغاية ويحاول تحقيقها؛ وكان أرسطو يعتبرها كذلك الغاية القصوى, ولكنه فطن إلى أن العلم الطبيعي نوع آخر من العلم، هو العلم "الأني" المكتسب بالاستقراء، يأتي في المرتبة الثانية لأنه يقتصر على القول بأن الشيء كذا دون بيان العلة في أكثر الأحيان، ولكنه العلم الملائم لطبيعة معرفتنا التي تبدأ بالمحسوس وتتأدى منه إلى المعقول. ولم يوفق ديكارت إلى مثل اتزان أرسطو وتواضعه، فقد غلا في طلبه المعقولية وأراد أن يكون علمنا كله لميًّا أو لا يكون أصلًا، فأحال العلم الطبيعي علمًا رياضيًّا بحتًا. وذهب في ذلك إلى حد افتراض قوانين كان يعلم عدم مطابقتها للواقع، ولكنه افترضها "لكي يمكن أن تقع الأشياء تحت الفحص الرياضي". والرياضيات لا تنظر في غير الأعداد والأشكال, فمتى رددنا العلم الطبيعي إلى الرياضي, رددنا الأجسام الطبيعية إلى أشكال هندسية، ورددنا أفعالها إلى حركات آلية تقاس ويعبر عنها بأعداد، سواء في ذلك الأفعال الحيوية والأفعال الجمادية على ما بين الطائفتين من تباين. فيلزم عن ذلك أن الإحساس ذاتي، وأن لا شبه بينه وبين علته الخارجية. ب- يضاف إلى ما تقدم أن تصور الأجسام الخارجية آلات، أي: مركبات صناعية خلوًا من كل طبيعة أو ماهية، يحملنا على استبعاد المنطق القديم القائم على أن الموجودات طبائع وماهيات لها خواص وأعراض، فلا يبقى هناك

مجال لتحليل الأشياء إلى أجناس وأنواع، وإنما تحل إلى أجزاء حقيقية كأجزاء الآلة، فلا نقول: "الإنسان حيوان ناطق" بل نقول: "الإنسان نفس وجسم". وديكارت يستبعد بالفعل الحكم الأرسطوطالي "وهو إسناد محمول إلى موضوع، أو وصف شيء بشيء" ويستعيض عنه بمعنى آخر للحكم هو أنه اعتقاد الإرادة بوجود خارجي لموضوع فكرة ما. وإن من ينعم النظر في "قواعد تدبير العقل" يرى في ديكارت واحدًا من الإسميين، أولئك الفلاسفة الحسيين الذين ظهروا في القرن الرابع عشر, وكانوا أول الخارجين على الفلسفة الأرسطوطالية، فإن ديكارت يعتبر المعاني الكلية أسماء جوفاء، ويستعيض عنه بما يسميه الطبائع البسيطة، ويستعيض عن منطق أرسطو بمنهج الرياضيين، ويلزم من ذلك "كما تنبه إليه الحسيون، القدماء منهم والمحدثون" أن ليس هناك حقائق ضرورية، فينشأ لدينا سبب آخر للشك في العقل شكا حقيقيا لا منهجيا. ويمكن أن نقول: إن الفلسفة الحديثة كلها اسمية مثل ديكارت. ج- بهذا المذهب أحدث ديكارت انقلابًا خطيرًا في عالم الفكر؛ فأولا قد غير نظر العقل لطبيعته. كان القدماء يعتقدون أن العقل يدرك الوجود، فأصبح العقل منعزلًا في نفسه, وأخذ الفلاسفة من بعده بهذه التصويرية، فأنكروا العالم الخارجي -ولم يكن ديكارت قد آمن به إلا بمخالفته للمبدأ التصوري, ولم يؤمن به إلا هزيلًا ضئيلًا على ما رأينا- وأنكروا العلية فاعلية وغائية، وأنكروا الجوهر والنفس والله. في الحق إذا كنا لا ندرك سوى تصوراتنا، فلا سبيل إلى تجاوزها وهذا الفصل بين الفكر والوجود استتبع الفصل بين العلم الواقعي والفلسفة، فعاد العلم لا يعرف له موضوعًا غير الامتداد والحركة، وحصرت الفلسفة دائرتها في الفكر فأصبحت تأليفًا ذاتيًّا أو نوعًا من الفن، وانقسم المفكرون طائفتين: واحدة تأخذ بالعلم فترد الفكر إلى حركة مادية، وأخرى تنحاز إلى الفلسفة فترد المادة والحركة إلى الفكر. وما تزال هذه الثنائية والمشكلات الناجمة عنها قائمة إلى اليوم. د- وغير ديكارت معنى الوضوح والمعقولية، فأصبح العقل المنعزل في ذاته القانون الأكبر والأوحد "لا يسلم شيئًا إلا أن يعلم أنه حق" أي: إلا أن يعقله هو، ويركبه بأفكار واضحة هي في الواقع أفكار سهلة، فإن استعصى عليه شيء أنكره. وقد رأينا ديكارت يذهب من الفكر إلى الوجود، ويتصور الأشياء على

مثال أفكاره، ويمحو منها القوة والحياة اكتفاء بالحركة الآلية. فكان ديكارت أول من حرر العقل من سلطان الوجود، وأعلن أن الفكر يكفي نفسه بنفسه ولا يخضع لشيء سواه، فقلب الوضع الطبيعي الذي يجعل العقل الإنساني تابعًا للوجود ومحتاجًا إلى التعلم من السلف، وأقام "الفردية" على أساس فلسفي بعد أن كانت مجرد عصيان وتمرد، تلك الفردية التي تحمل الشخص على أن يظن نفسه أهلًا للحكم على الأشياء بنفسه، كأن ليس هناك عقول غير عقله، فتورث الفوضى العقلية، وعلى أن يجعل من نفسه مركزًا تدور حوله الأسرة والمجتمع، فتورث الفوضى الخلقية والاجتماعية، وقد كان العصر يضطرب بهذه الفردية التي تنفر من كل سلطان في العلم والفلسفة والدين, وبالعلم الآلي الذي يرمي إلى السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لتحقيق سعادة الإنسان على وجه الأرض؛ وكان يلتمس طريقه إلى توضيح هاتين النزعتين وتسويغهما؛ فلما جاء ديكارت أحسهما إحساسًا عميقًا، وساهم في العلم مساهمة خصبة، ووضع فلسفة تؤيده وتحميه، وترفع الفردية من مستوى العاطفة والإرادة الغامضة إلى مستوى الحق والقانون، فوضع دستور الفكر الحديث، واستحق أن يدعى أبا الفلسفة الحديثة. 39 - ذيوع فلسفة ديكارت: أ- في حياة ديكارت انتشرت فلسفته في أوروبا بأسرها، وأضحت بعد مماته معينًا يستقي منه الأنصار وهدفًا يرميه الخصوم. ففي فرنسا كانت الصالونات تتندر ببعض نظرياتها وتعابيرها، حتى إن موليير تناولها على المسرح، بينما كان اللاهوتيون والأرسطوطاليون في الجامعة وخارجها ينددون بها ويحضون السلطة المدنية على تحريمها، وكان الأوغسطينيون يناصرونها ويحملون على أرسطو. وفي هولندا كان النزاع عنيفًا، وقام من بين الأساتذة البروتستانت نفر يعارضها ويرى فيها خطرًا على الدين. وفي ألمانيا وإيطاليا ظهرت كتب تعرضها وتحبذها. ب- من بين المذكورين من مخالفيها بيير جساندي " 1592 - 1655 " وهو قسيس فرنسي علم الفلسفة والرياضيات، واشتغل بالطبيعيات والفلك، وكان معجبًا بجليليو متأثرًا به. نشر في شبابه نقدًا شديدًا للفلسفة المدرسية، واصطنع مذهب أبيقور أخذًا عن لوكريس. وكان أحد الذين عرضت عليهم "تأملات"

ديكارت، فدون عليها الاعتراضات. لما كان حسيًّا في مسألة المعرفة، جريًا مع أبيقور، فقد عارض نظرية ديكارت في المعاني الفطرية، وبخاصة معنى الله، قائلًا: إن لله لا يعقله عقل مقصور على الصور الحسية. وعارض ديكارت في إنكاره الجوهر الفرد، فقال: إن القسمة إلى غير نهاية ممكنة من الوجهة الرياضية، غير ممكنة من الوجهة الطبيعية، فلقسمة المادة حد معين لا تتجاوزه، والجواهر يفصل بينها خلاء، وإلا استحالت الحركة. وعارض ديكارت في تفاصيل العلم الطبيعي، أي: في تفسيراته للظواهر، ولكنه لم يمض مع أبيقور إلى نتائجه الأخيرة بل أضاف إلى مذهبه المادي مذهبًا روحيًّا يقول بالله والنفس الناطقة، ويستثنيهما من المبدأ القائل: إن جميع العلل مادية. ذلك بأن نظام العالم يمنع من الاعتقاد بأنه وليد حركات اتفاقية، وأن الأخلاق والدين تقضي بأن يوجد في الإنسان نفس لاجسمية عاقلة حرة.

الفصل الرابع: بليز بسكال " 1623 - 1662 "

الفصل الرابع: بليز بسكال " 1623 - 1662 " 40 - حياته ومصنفاته: أ- عالم عبقري ومفكر عميق وكاتب مجيد. ولئن لم يكن فيلسوفًا بالمعنى الاصطلاحي فقد خلف أثرًا حقيقًا بالذكر ترامى فعله إلى أيامنا, وسيظل فعالًا بلا ريب. ولد في كليرمون "من أعمال فرنسا" وما إن أمكن التحدث إليه حتى بدت منه أمارات ذكاء خارق. وكان والده واسع الثقافة ضليعًا في الرياضيات، وأخذ على نفسه أن يكون معلمه الأوحد ولم يدخله مدرسة. وكان مبدؤه في تعليمه ألا يلقنه شيئًا إلا بعد أن يبين له فائدته، ثم أن يلقنه ما يفوق طاقته حتى يفحص بنفسه ويدرك بنفسه, فأعكفه على الفرنسية واللاتينية واليونانية. وتروي أخته المترجمة لحياته أنه فيما هما في ذلك، والصبي ما يزال في الثانية عشرة، وجد من تلقاء نفسه الأشكال الهندسية، ثم وجد المبادئ، ثم ركب الأدلة حتى بلغ القضية الثانية والثلاثين من الكتاب الأول لإقليدس؛ فذهل والده وبكى فرحًا وأعطاه كتاب إقليدس فقرأه وحده. وفي رواية أخرى أقرب إلى التصديق أنه قرأ إقليدس خفية في ساعات معدودات. على أن نبوغه كان قد ظهر واضحًا قبل ذلك بسنة، إذ لحظ ذات مرة أن طبقا من الخزف إذا ضرب بسكين خرج منه صوت عالٍ ينقطع بوضع اليد على الطبق، فما زال يكرر التجربة حتى وقف على السبب، ووضع رسالة في الأصوات كانت أول مؤلفاته. ب- وأخذ يحضر المجالس التي كان يعقدها حينذاك علماء باريس كل أسبوع قبل إنشاء أكاديمية العلوم، وكان يساهم في المناقشات ويعرض مسائل جديدة. وفي السادسة عشرة دون رسالة في المخروطات جاوز فيها ما كان قد وصل إليه أحدهم، فأعجبوا به، إلا ديكارت قد تصنع عدم المبالاة. وهو في الثامنة عشرة عُين والده جابيًا للضرائب، فرآه يعاني مشقة في حسابها، فنبتت لديه فكرة صنع آلة حاسبة تغني عن القلم وعن كل قاعدة حسابية. فشرع يبحث

ويجرب، وطالت تجاربه عشر سنين صنع خلالها خمسين نموذجًا أو يزيد، حتى سجل اختراعه سنة 1649 وبعد ثلاث سنين وضع النموذج الأخير، فأثار إعجابًا عامًّا. ج- وفي الثانية والعشرين اتجه صوب العلم الطبيعي, إذ علم أن توريتشلي ملأ أنبوبة زئبقًا وغمسها في حوض مليء بالزئبق فنزل عمود الزئبق في الأنبوبة وترك جزءها الأعلى خاليًا. فاهتم بهذه التجربة جد الاهتمام، وأعادها فنجحت، وبدت دليلا على وجود الخلاء. ولم يقنع بذلك وتخيل تجارب منوعة، فاستخدم سوائل مختلفة "الماء والزيت والنبيذ" وآلات مختلفة "المواسير والرشاشات والمنافخ والسيفونات" وميولا مختلفة على الأفق، وفي النهاية اعتقد أنه دلل على وجود الخلاء المطلق ضد أرسطو وديكارت. واعترض معترض، فرد عليه، وضمن رده أقوالًا صريحة قوية في شروط المعرفة العلمية وقواعد المنهج القويم. إنه يأبى أن يؤمن بغير التجربة؛ لذا هو يؤمن بالخلاء البادي للحواس، ويسخر من قول القائلين: إن الطبيعة تنفر من الخلاء، ويسخر من المادة اللطيفة التي يملئون بها الخلاء والتي لا تبصر ولا تلمس, وكان توريتشلي قد افترض أن ضغط الهواء على سطح الحوض هو الذي يستبقي الزئبق معلقًا في الأنبوبة؛ فأجرى بسكال التجارب سنة 1648 في سفح جبل وفي قمته، في برج كنيسة وفي منزل خاص، فكانت النتيجة أن الزئبق ينخفض بنسبة الارتفاع؛ لأن ضغط الهواء أخف في أعلى منه في أسفل. ثم ربط قوانين توازن السوائل بمبادئ الميكانيكا العامة, فمنهجه المضي من التجربة إلى النظرية بخلاف ديكارت. د- وحوالي ذلك الوقت اتجه اتجاهًا آخر, إذ اتصل بقساوسة علماء وقرأ كتبًا دينية، فأدرك إدراكًا قويًّا أن المسيحية تقتضينا أن نحيا لله وحده. أجل, إنه كان قد نشأ على التمسك بالفضيلة واحترام العقيدة. كان والده يقول: إن العقيدة موضوع إيمان فلا تبحث بالعقل، وكان هذا القول عاصمًا له من الشك، وفي نفس الوقت صارفًا عن علم اللاهوت. وهذا موقف سيكون له أثره في مذهبه. فوجه همه إلى بلوغ كمال الفضائل المسيحية، حتى أثر في والده نفسه، وفي إحدى أختيه فدخلت الدير, غير أن مجهوداته البالغة كانت قد نالت من صحته منذ الثامنة عشرة، وازدادت صحته سوءًا فيما بعد وانتابته أوجاع لازمته طول حياته

تشتد تارة وتخفّ أخرى, فأشار عليه الأطباء باللهو وترك التفكير. فأخذ يغشى المجالس، واتصل بنفر من المتعاملين الزنادقة، وقرأ أبكتاتوس، وقرأ مونتني، فكان لكل ذلك أثر في مذهبه. وفطنت أخته الراهبة إلى ما في هذه الحياة الجديدة من خطر على فضيلته ودينه، وأقنعته بالإقلاع عنها واعتزال العالم, وكان حينذاك في الثلاثين. وبعد سنين لجأ إلى دير "بور روايال" وعاش فيه إلى مماته يعاني آلام المرض بصبر وتسليم، ويستأنف العمل العلمي كلما استطاعه. وإلى ذلك العهد يرجع جمعه "لخواطره" في الدعوة إلى الدين، وهو أشهر كتبه، وهو كتاب خالد حقًّا. وإلى ذلك العهد ترجع أبدع مكتشفاته الرياضية، فقد أسس حساب النهايات: حساب التكامل وحساب الاحتمالات، ونظريات أخرى، أهمها نظرية "الروليت" وقد دعا العلماء إلى المسابقة فيها "باسم مستعار" وعين جائزة مالية للفائز، فتنافس كثيرون، ولكن أحدًا لم يوفق إلى الحلول المطلوبة, فأعلن هو حلوله، فكانت موضع الإعجاب العام. 41 - منهجه: أ- رأيناه يؤثر التجربة على الاستدلال, فيؤمن بالخلاء البادئ للحواس وينكر على أرسطو وديكارت استدلالهما على امتناعه. فهو إذن لا يرى أن تحل المسائل الطبيعية باستنباط نتائج من مبادئ، بل بالتجربة. فلا يعتقد، خلافًا لديكارت، بمنهج واحد يطبق على جميع الموضوعات، بل يذهب إلى أن لكل موضوع منهجًا ينبغي ابتكاره؛ وذلك لأنه مقتنع بتنوع الطبيعة إلى جانب خضوعها لقوانين عامة، فيسلم بوجوب "القول بالإجمال: إن الأشياء تعمل بالشكل والحركة لأن هذا حق؛ أما تعيين الأشكال والحركات، وتركيب آلة العالم فمضحك؛ لأنه عديم الجدوى وموضع ريب وعسير" "خاطرة 79 ". ب- وحين يقول: إن المبادئ حق، يعني أننا نحسها ونسلمها، لا أننا نتعقلها ونبرهن عليها. إنه يرى أن كمال الطريقة الهندسية يقوم بحد كل شيء والبرهنة على كل شيء، وأن هذا عمل لا ينتهي، فنقف عند أوليات لا تحد ولا تبرهن؛ ولكن هذه الأوليات ليست طبيعية، فإن الطبيعة تتغير باستمرار "وليس هناك من مبدأ، مهما يكن طبيعيًّا مألوفًا منذ الطفولة، إلا ويمكن القول:

إنه أثر خاطئ للتعليم أو للحواس" و"ما مبادئنا الطبيعية إلا مبادئ مألوفة بالعادة تختلف باختلافها". العادة طبيعة ثانية تمحو الأولى, وإني لأخشى ألا تكون الطبيعة نفسها إلا عادة أولى". هنا نرى قارئ مونتني قد تأثر به وأذعن له, غير أنه على كل حال يضيف المبادئ والمعارف التي من قبيلها إلى "القلب": القلب يحس أن للمكان أبعادًا ثلاثة، وأن الأعداد لامتناهية، وسائر المبادئ الهندسية؛ والقلب يحس الله، فيتغلب على الشك "خاطرة 278 ". أما العقل فهو قوة استدلالية تستنبط النتائج من المقدمات الآتية من القلب والإرادة؛ لذا كان العقل قابلًا لأن يميل إلى كل جانب، ونحن نرى الناس كثيرًا ما لا يؤمنون إلا بما يحبون، فالقلب والعقل متباينان: "عبثًا يحاول العقل زعزعة المبادئ بالاستدلال، فإنها خارجة عن دائرته ولا شأن له فيها. من المضحك أن يطلب العقل إلى القلب الأدلة على مبادئه، كما أن من المضحك أن يطلب القلب إلى العقل الشعور بالقضايا التي يستنبطها" "خاطرة 282 ". وهكذا يظن بسكال أنه يخرج من الشك, ولكننا نستطيع دائمًا أن نقول: إن شعور القلب وليد العادة، والعادة متغيرة، فنعود إلى الشك. بيد أن بسكال سيحاول التفريق بين مقدمات القلب السليم ومقدمات القلب الفاسد، كما سنرى. ج- يقابل التمييز بين العقل والقلب تمييز مشهور عن بسكال بين الروح الهندسي وروح الدقة. الروح الهندسي يتناول المبادئ محصورة محدودة يدركها كل عقل متنبه ويحس استخدامها بمجرد تطبيق قواعد الاستدلال. أما روح الدقة فمبادئه تكاد لا تحصى ولا توضع في صيغ محدودة، فإنها موضوع شعور أكثر منها موضوع علم، وتتطلب بصيرة ثاقبة, ولا نوفق إلى إشعار الغير بها إلا بعد عناء شديد. ويستخدم روح الدقة والاستدلال، ولكنه استدلال إضماري طبيعي لا صناعي؛ وأكثر ما يكون في الأمور الإنسانية والتجارب الطبيعية. "ويندر أن يكون الهندسيون دقيقين، وأن يكون الدقيقون هندسيين". 42 - الدعوة إلى الدين: أ- أخذ بسكال على نفسه، وهذا رأيه في المعرفة، أن يقنع الزنادقة المستهترين بضرورة اعتناق الدين. وهذا موضوع كتاب "الخواطر" وهو كتاب

ملفق من القصاصات التي دونها بسكال تمهيدًا لكتاب منظم، ثم لم يمهله الأجل للعودة إليها وتهذيبها وتأليفها؛ كتاب غريب ممتع بالرغم من شكله المهلهل؛ قد نقول بسبب هذا الشكل؛ وكل قطعة من قطعه آية من آيات النثر الفرنسي. ب- لا يبدأ بسكال، ورأيه في المعرفة على ما قدمنا، بالتدليل على وجود الله، بل يدع جانبًا "البراهين الميتافيزيقية على وجود الله" لأنها ليست من نوع البراهين الهندسية، وأنها "من البعد على استدلال الناس ومن التعقيد بحيث لا تؤثر إلا قليلًا، وإذا أقنعت بعضهم فليس يدوم اقتناعهم إلا اللحظة التي يرون فيها البرهان، وبعد ساعة يداخلهم الخوف أن يكونوا أخطئوا" "خاطرة 543 ". هذه العبارة تذكرنا ببعض أقوال ديكارت, ولكنه يفصل القول فيسأل: حين يقول الفلاسفة للملحدين: إنه ما عليهم إلا أن يعتبروا عجائب الطبيعة حتى يروا الله رؤية، هل يعتقدون أنهم يقنعونهم بمثل هذه الحجة الواهية؟ وحين يقولون مثلًا: إن للحقائق الرياضية أساسًا هو الحقيقة الأولى، هل يؤثرون في الناس؟ ليس إله المسيحيين مجرد صانع الحقائق الهندسية ونظام العناصر, ذلك نصيب الوثنيين والأبيقوريين. وليس هو مجرد إله معنيّ بحياة البشر وخيراتهم, ذلك نصيب اليهود. إله المسيحيين إله محبة وعزاء " 556 ". فالغرض الذي يرمي إليه بسكال الاستغناء عن الميتافيزيقا للرجوع إلى النفس والنظر في حالة الإنسان. "اعرف نفسك": ذلك هو المبدأ هنا كما عند سقراط. ويتألف منهجه من ثلاث مراحل: في المرحلة الأولى يبين أن المسيحية وحدها تفسر الإنسان وترضي جميع حاجات نفسه، وإذن فليست هي معارضة للعقل ولكنها مطابقة له؛ وفي المرحلة الثانية يحببها إلى النفس حتى تميل إليها بالفعل وتعتنقها، بحيث يحمل الإنسان على طلب الله بدل أن يفرض الله على الإنسان؛ وفي المرحلة الثالثة يبين حقيقتها، لا بالتدليل على العقائد، بل بما حفظه التاريخ من شواهد محسوسة هي النبوءات والمعجزات، وقد أضحت النفس مستعدة لقبولها. ج- ما الإنسان إذن؟ الإنسان سر أو لغز, إنه مزيج غريب من حقارة وعظمة. فمن الناحية الواحدة ما هو إلا قصبة وأضعف موجود في الطبيعة. حالما يحاول الإحاطة بالطبيعة يضل في لامتناهيين: اللامتناهي في الكبر واللامتناهي في الصغر, وهو نفسه لامتناهٍ في الصغر بجانب الفضاء اللامتناهي وسكوته المروع؛

ويخرج من هذه المحاولة بأن لا نسبة بينه وبين الطبيعة، وأن العلم ممتنع لامتناع الوقوف على جميع العلل والمعلولات كما يريد العقل الذي يطلب معرفة الأجزاء وانتظامها في الكل، معرفة البداية والنهاية، فلا يفوز إلا بشيء من الوسط. فإذا تحول عن الطبيعة ليتجه إلى نفسه، وجدها ألعوبة بين أيدي قوى خداعة: فالمخيلة تشوه الأشياء، تكبر الصغير وتصغر الكبير، وتملي عليه رغباتها، وتغره بسعادة زائفة زائلة تقود عقله خفية, بينما يتوهم العقل أنه هو الذي يقودها؛ والمنفعة تعميه؛ والعادة تكون شخصيته كما تشاء الظروف الخارجية, فماذا يبقى للإنسان إلا أن ينساق مع الاضطراب العام، فيتعامى عن نفسه وعن بطلان الحياة الدنيا؟ هذا موقف حقير، ولكنه أحكم موقف إذا كانت تلك حال الإنسان. بيد أن الإنسان، من الناحية الأخرى، إذا كان قصبة، فإنه قصبة مفكرة؛ وإذا كان العالم يحتويه ويبتلعه كالنقطة، فإنه بفكره يحتوي العالم " 348 ". أجل؛ ليس بالعالم من حاجة للتسلح كي يحطمه, يكفي لقتله شيء من البخار أو نقطة ماء، ولكنه أشرف مما يقتله؛ لأنه يعلم أنه يموت ويعلم ما للعالم من ميزة عليه، والعالم لا يدري من هذا شيئًا " 347 ". د- وليس يوجد التناقض في طبيعة الإنسان فحسب، ولكنه يوجد أيضًا في المواقف الفلسفية من اليقين. الاعتقاديون والشكاك في حرب متصلة، ولكل فريق موضع خطأ، فإننا عاجزون عن البرهنة عجزًا لا يقوى عليه المذهب الاعتقادي، ولدينا فكرة عن الحقيقة لا يقوى عليها مذهب الشك. ويوجد التناقض أيضًا في أفعال الإنسان ومحدثاته, نعتقد بوجوب سيادة العدالة في الدول وبقوانين طبيعية يجب أن تحتذيها القوانين المدنية " 309، 375 " ولكن العدالة التي وضعت بالفعل تختلف باختلاف الدول، تحرم في الواحدة ما تبيحه في الأخرى. "لسنا نرى عدلًا أو ظلمًا إلا ويختلف كيفًا باختلاف الإقليم: ثلاث درجات ارتفاع من القطب تقلب الفقه كله، ودرجة من درجات الطول تقرر الحق. إنها لعدالة مضحكة تلك التي يحدها نهر! الحق في هذه الجهة من البرانس، والباطل فيما وراءها". هـ- جميع النقائض ترجع إلى تناقض العظمة والحقارة. إن في الإنسان قوة طبيعية للخير والحق والسعادة؛ غير أن هذه القوة تنصرف إلى موضوعات

لا تلائمها. ولم يكن الإنسان ليحس نفسه شيئًا مهينًا لو لم يكن يعلم أنه موجود لغايات أسمى من التي تعرض له في هذه الحياة. وإذن فلن يصدق مذهب في تفسير الإنسان وتدبيره إلا أن يكون محتويًا على ضدين وعلى العلاقة بينهما. وكل مذهب يقتصر على وجهة واحدة، وكل مذهب يدرك تضادّ طبيعتنا ويدع الضدين متجاورين، ليس مذهب حق وحياة. لقد عرف أبكتاتوس أن الإنسان عظيم بالفكر، وعرف واجبات الإنسان إذ طلب إليه أن يعتبر الله خيره الأعظم، وأن يخضع للعناية الإلهية دون تذمر؛ ولكنه والرواقيين جميعًا أضافوا إليه القدرة على توجيه أفكاره بنفسه والحصول بذلك على جميع الفضائل، فجهلوا ضعف الإنسان وأعلنوا مبادئ كبرياء شيطاني، وجاء مذهبهم عقيمًا؛ لأنهم يخاطبون إنسانًا موهومًا يفترضون له السيطرة التامة على نفسه. وراح مونتني يفحص عما يستطيعه العقل دون نور الإيمان، فحكم على العقل بالشك، وجهل عظمة الإنسان، وبدا كأنه يحله من كل واجب 1. الأول عرف عظمة الإنسان وجهل عجزه، والثاني عرف ضعف الإنسان وجهل شعوره بالواجب. ووليس يعطينا الجمع بينهما مذهبًا كاملًا، مما قد يلوح. إن حكماء هذا العالم يضعون الأضداد في موضوع واحد بعينه هو الطبيعة الإنسانية، فيراها البعض عظيمة، ويراها البعض الآخر حقيرة، بينما يعلمنا الدين أن الحقارة راجعة إلى الطبيعة، وأن الفضيلة راجعة إلى النعمة الإلهية. لقد فات أبكتاتوس ومونتني جميعًا أن حال الإنسان الراهن يختلف عن حاله وقت الخلق، ولم يعتبرا عواقب سقطة آدم وضرورة المخلص لإصلاح الحال. وهكذا يحطم أحدهما الآخر ليهيئا محلا للإنجيل الذي يوفق بين الأضداد بفن إلهي لم يكن ليصدر إلا عن الله، فيعلن إلينا أن عظمة الإنسان آتية من أصله الإلهي، من أنه صنع الله، وأن شقاءه آتٍ من خطيئة آدم التي أفسدت الطبيعة. هاتان الحالتان المتعاقبتان، حالة الخلق وحالة الخطيئة، تفسران الوجهتين المتلازمتين اللتين كشف عنهما التحليل. ز- وليس يمكن أن يظل الكافر عديم المبالاة بمصيره؛ "إن خلود النفس

_ 1 إن بسكال يتجنى على مونتني ويزعم أنه انتهى إلى حال هي شر من اليأس، حال عدم المبالاة بالنجاة، حال خلو من الخوف ومن الندم "خاطرة 63 ". والحقيقة أن مونتني يوجهنا إلى الإيمان مثل بسكال "انظر ما قلناه: 17 هـ".

من الأهمية بحيث لا يظل عديم المبالاة بالإضافة إليه إلا من فقد كل شعور. إن أفعالنا وأفكارنا تتخذ سبلًا مختلفة حسبما كان هناك خيرات أبدية تُرجَى أو لم يكن. فالذين يمكن تسميتهم عقلاء طائفتان: طائفة يعبدون الله بكل قلبهم لأنهم يعرفونه، وطائفة يطلبونه من كل قلبهم لأنهم لا يعرفونه" "خاطرة 194 ". فإعراض الكافر عن التفكير في شقائه وحقارته لن يغير شيئا من حاله، فإن الإنسان مائت حتمًا. فإذا لفتنا نظره إلى الموت فإنما نلفت نظره إلى نفسه وإلى منفعته الكبرى. هذا ما ينبغي أن يفهمه قبل كل شيء، وهذا ما ينبغي أن نعاونه على فهمه لنوجهه من باطن نحو الدين. فيبدو له الدين حقًّا؛ لأن الدين يعرف شقاءه، ويبدو له مستحبًّا؛ لأنه يعده بالعلاج. فلنذكر الملحد بالموت وبالأبدية ماذا لديه من القول عنهما؟ هل يقول: إنه لا يبالي؟ أليس منتهى الحماقة، ونحن نعنى أكبر العناية بصغائر الأمور، ألا نثير المسألة الكبرى التي يتوقف عليها النعيم الأبدي أو الشقاء الأبدي؟ ج- هل يقول: إن العقل يثبت أن الدين غير مفهوم؟ فليكن, ولكن كيف نستنتج من هذا أن الدين ليس حقًّا؟ لنفرض الغموض متساويًا من جهة إثبات الدين ومن جهة نفيه، يبقى أن الاختيار بينهما واجب. ولنلاحظ أن عدم الاختيار هو في الحقيقة اختيار ضمني للنفي، من حيث إننا حينئذ نحيا كما لو لم يكن الله موجودًا ولم تكن النفس خالدة. وهو اختيار الجهة الأشد خطرًا، من حيث إنه استهداف للعذاب الأبدي. أما إذا راهنا على حقيقة الدين فإننا نلتزم بحدوده وتكاليفه، ونفقد الحق في العيش على ما نشتهي، ولكنا نربح حظ الحصول على النعيم الأبدي، فنضحي بالخيرات المتناهية في سبيل الخير اللامتناهي. وحتى لو افترضنا أن الحظ ضئيل جدا في جانب وجود الله، فإن الحظ في جانب صدق القول المعارض لا يمكن أن يكون إلا متناهيا. فالنتيجة واضحة: "حيثما يكن اللامتناهي ولا يكون هناك حظوظ لامتناهية للخسارة في مقابل حظ الربح، فليس من سبيل للتردد: يجب بذل كل شيء" " 233 ". وحتى لو قدرنا خيبة الأمل في الحياة الآجلة، فليس لنا أن نأسف على شيء -وهذا ما يعطي حجة الرهان قوتها الظافرة- فإن المسيحي أحسن حالًا من الكافر وأسعد في هذه الحياة العاجلة. إنه أمين صالح متواضع عارف للجميل محسن صديق وفي. فإذا رجعنا

إلى منفعتنا الحقة فحسب، وجب علينا أن نتمنى أن يكون الدين حقًّا " 233 ". فإذا كسبنا كسبنا كل شيء, وإذا خسرنا لم نخسر شيئًا. ط- ذلك هو المذهب, فيه شيء من منهج القديس أوغسطين, وبينه وبين منهج ديكارت شبه قوي؛ عند ديكارت نجد مونتني من جهة والعلم من جهة أخرى، فيمضي المنهج من الشك إلى اليقين؛ وعند بسكال نجد مونتني من جهة والدين من جهة أخرى، فيمضي المنهج من القلق إلى الإيمان. ويقول اللاهوتيون: إن دلائل الوحي هي الدلائل الوحيدة على العقائد الدينية الفائقة للطبيعة، وإن النعمة الإلهية هي الوسيلة الوحيدة للإيمان؛ فمد بسكال هذا القول إلى الحقائق العقلية الطبيعية، مثل وجود الله وخلود النفس، وأراد أن يكون التدليل في العلم الطبيعي, وفي مصير الإنسان على السواء, بالتجربة "الظاهرة والباطنة" لا بالاستدلال العقلي. فشق طريقًا سيلجه كثيرون من بعده, أشهرهم كانت الذي يقدم العقل العملي على العقل النظري، وأصحاب البراجماتزم على اختلافهم الذين يمتحنون القضايا الميتافيزيقية بفائدتها العملية. والسبب واحد عندهم جميعًا هو الشك في العقل، وإرادة تجاوز الحس مع ذلك. وقد أعطانا بسكال نظرة المسيحية إلى الوجود في هذه العبارة الجامعة التي تلخص مذهبه أحسن تلخيص, حيث قال: "جميع الأجسام، السماء والنجوم، الأرض وكمالها، لا تساوي أدنى الأرواح، إذ إنه يعلم كل هذا ويعلم ذاته، وليست تعلم الأجسام شيئًا. الأجسام جميعًا والأرواح جميعًا وجميع محدثاتها لا تساوي أدنى حركة من حركات المحبة، فإن هذا يرجع إلى مرتبة أعلى بما لا نهاية" " 793 ". تلك هي "المراتب الثلاث" التي أذاعتها عبارته هذه: الجسم والروح ومحبة الله. ولأجل إقناع الناس بهذه النظرة كتب "الخواطر", وبسبب اقتناعه بها زهد في الدنيا وتحمل الآلام المبرحة.

الفصل الخامس: نقولا مالبرانش " 1638 - 1715 "

الفصل الخامس: نقولا مالبرانش " 1638 - 1715 " 43 - حياته ومصنفاته: أ- قسيس من جمعية الأوراتوار لم يجد في فلسفة أرسطو شيئًا من المسيحية مما كان يقول كثيرون، ولم يتذوق اللاهوت المدرسي القائم على الأرسطوطالية، واتخذ من القديس أوغسطين أستاذه الأكبر، ثم وقع له كتاب "الإنسان" لديكارت وهو في السادسة والعشرين، فأُعجب إعجابًا شديدًا بمنهج الفيلسوف، وبمذهبه القائم على وجود الله وروحانية النفس وخلودها، وأفعم قلبه سرورًا لاهتدائه إلى فلسفة متفقة مع الدين مثل هذا الاتفاق، فشرع يعمل على إنشاء فلسفة مسيحية لا تدين للفلاسفة الوثنيين بشيء, وظل في ديره بباريس إلى وفاته يؤلف ويجادل. ب- كان أول كتبه "البحث عن الحقيقة" " 1674 , 1675 " وقد ظل أشهرها, وأعقبه "بالأحاديث المسيحية" وهو ملخص مذهبه. ثم نشر على التوالي: "تأملات قصيرة في التواضع والتوبة" " 1677 " و"كتاب الطبيعة والنعمة" " 1680 " أنكرته السلطة الكنسية؛ "وكتاب الأخلاق" " 1683 " و"التأملات المسيحية" " 1683 " و"أحاديث فيما بعد الطبيعة والدين" " 1688 " وقد يعد خير كتبه؛ و"كتاب محبة الله" " 1679 " و"حديث بين فيلسوف مسيحي وفيلسوف صيني في وجود الله" " 1707 " دوّنه "على أثر اتصاله بأسقف من المرسلين إلى الصين" وجميع هذه الكتب شروح مختلفة لبضع أفكار رئيسية في أسلوب واضح رشيق, كثير الإطناب. 44 - الله: أ- فلسفته كلها تتلخص في هذه القضية: "ما من شيء إذا تأملناه كما ينبغي إلا ردّنا إلى الله". فإذا تأملنا المعرفة لم نقل مع أرسطو والمدرسيين: إن الأشياء

تطبع صورها في النفس، فإن الأدنى لا يؤثر في الأعلى "وهذا مبدأ متواتر عند الأفلاطونيين، بما فيهم أفلوطين وأوغسطين". "إن الموضوع المباشر لذهننا حين يرى الشمس مثلًا, ليس الشمس، بل شيئًا متحدًا بنفسنا اتحادًا وثيقًا، وهذا ما أسميه فكرة 1 idee". وليس يمكن أن تتحد بالنفس أشياء بعيدة عنا مباينة لفكرنا. إن إدراكات الحواس انفعالات، ولا تنطوي على معرفة الأشياء الخارجية، بل تقتصر على تنبيهنا إلى ما بيننا وبين الأشياء من علاقات لأجل صيانة حياتنا. فمالبرانش يصطنع موقف ديكارت بكل دقة, ويسهب في بيانه، وبخاصة في كتاب البحث عن الحقيقة، فيتحدث عن أخطاء الحواس، وتعارضها فيما بينها، وتعارضها مع المعرفة العقلية؛ ويتحدث عن المخيلة فيقول: إنها ليست أكثر تعريفًا لنا بالأشياء، وإنها تربط بين الصور برباطات غير عقلية، فتسبب أخطاء كثيرة، وتقر في الذهن معتقدات باطلة يفيض في شرحها. وعلى هذا يكون وجود العالم وعدمه سواء ما دامت الأشياء غير مدركة في أنفسها، وما دامت الانفعالات التي تحملنا على الاعتقاد بها تغيرات ذاتية ليس غير، قد نحسها في غيبة الأشياء أو عدمها. ولا يمكن أن يقال: إن الأفكار غريزية في النفس، فإنها غير متناهية العدد والنفس متناهية. فلا يبقى إلا أن الله هو الذي يحدثها في النفس من حيث إن الأعلى هو الذي يؤثر في الأدنى؛ وإننا إنما نعتقد بوجود العالم لأن الوحي ينبئنا بأن الله خلق سماء وأرضا وغير ذلك؛ وفيما خلا الوحي فلا سبيل إلى الجزم بوجود العالم. ب- وبعبارة أدق نحن نرى أفكارنا في الله، أفكار الماديات والحقائق الكلية الضرورية, فإن الله "محل الأفكار جميعًا" و"هو وحده معلوم بذاته, وما من شيء نراه رؤية مباشرة إلا هو". ذلك بأن الله ليس مرئيا بفكرة تمثله كما ذهب إليه ديكارت. إن هذا شأن سائر الأشياء، أما الله الموجود اللامتناهي فليس يرى في شيء متناهٍ بل في ذاته دون واسطة؛ لأنه حاضر لجميع المخلوقات وحاضر لفكرنا، ونحن حاصلون دائمًا على فكرة اللامتناهي، ومتى كنا نفكر في الله وجب أن يكون الله موجودًا، فالدليل الوجودي كما يعرضه ديكارت دليل صحيح، ولكنّ له عيبًا هو أنه دليل. إنه يذهب من فكرة الله إلى وجود الله كأن

_ 1 "البحث عن الحقيقة" الكتاب الثالث، القسم الثاني، الفصل الأول.

وجود الله بالإضافة إلى الفكر مرحلة منفصلة عن فكرة الله. إن الفكرة بمعناها الدقيق تمثل موجودًا غير واجب الوجود، فهي تتضمن التمييز بين الماهية والوجود، أما الموجود اللامتناهي فليس هناك فكرة تمثله وتسمح بالتساؤل عما إذا كان موجودًا أو غير موجود. إن تصوره عبارة عن رؤيته, وعلى ذلك فلا حاجة إلى ضمان صدق الأفكار الجلية من حيث إننا نراها في الله ذاته، فمبدأ اليقين اتحاد العقل بالله، أو حضور الله للعقل. وبهذا الصدد يستشهد مالبرانش بأوغسطين، ويقول صراحة: إنه تعلم منه أن النفس متحدة مباشرة بالله الحاصل على القدرة التي تمنحنا الوجود، وعلى النور الذي ينير عقلنا، وعلى القانون الذي يدبر إرادتنا, ولكن مالبرانش يتجنى على أوغسطين. ولما أنكرت عليه هذه النظرية، فسر رؤية الله بأننا لا نرى الذات الإلهية في نفسها، بل فقط في نسبتها إلى المخلوقات, ومن جهة ما هي قابلة لمشاركة المخلوقات فيها 1. وهذا تفسير لا طائل تحته، ونحن لا نتمثل الله كما نتمثل شيئًا ماديًّا ندركه إدراكًا مباشرًا, بل نحكم بوجود علة أولى؛ ولا نتمثل اللانهاية، بل نحكم بأن العلة الأولى لامتناهية، ومثل هذا الحكم ميسور لنا. ج- الله موجود إذن. فما الله؟ يجب أن نضيف إلى الله جميع الصفات أو الكمالات القابلة لأن تطلق إلى اللانهاية، أي: التي لا تتضمن حدودًا جوهرية. هذه الكمالات إذا اعتبرناها في أنفسها، وجدناها معقولة أي: متصورة بما يكفي من الجلاء للحكم بأنها تخص الذات الإلهية؛ وإذا اعتبرناها مطلقة إلى اللانهاية، وجدناها تفوق التعقل. والحقيقة كمال من هذه الكمالات، فإن الله الحق بالذات، وما الحقائق السرمدية والقوانين الضرورية إلا ذات الله كما قال أوغسطين, وإذا لم يكن الحق حقا ولم يكن القانون ضروريا بالقضاء الإلهي، كما يقول ديكارت، فمن يضمن لنا دوام الحقائق والقوانين؟ والفاعلية كمال آخر من الكمالات الإلهية، فإن الله وحده هو الفعال, ينمي النبات بمناسبة حرارة الشمس، ويفعل كل شيء بمناسبة شيء آخر، وليست المخلوقات عللًا، ولكنها

_ 1 "البحث عن الحقيقة" الكتاب الثالث، القسم الثاني، ف 6 و 7؛ والكتاب الرابع، ف 11؛ والكتاب السادس ف 3 , و"أحاديث فيما بعد الطبيعة" الحديث الثاني, والحديث الأخير.

هي وأفعالها "فرص" أو "مناسبات" لوجود موجودات وأفعال أخرى بفعل الخالق. وإذا سلمنا مع أرسطو والمدرسيين أن في الأجسام والنفوس صورًا وقوى وكيفيات قادرة على إحداث معلولات بقوة طبيعتها، فقد سلمنا بألوهية ثانوية إلى جانب الله الكلي القدرة، واعتنقنا رأي الوثنيين ونحن لا ندري. إن هذه الصور والقوى والكيفيات من مخترعات المخيلة المتمردة على العقل، والعقل يقضي بأن العلة الحقة هي التي يدرك بينها وبين معلولها علاقة ضرورية، وهو لا يدرك مثل هذه العلاقة إلا بين العلة الأولى ومعلولاتها. أما التجربة فلا تظهرنا على علية الجسم الذي يقال: إنه يحرك جسمًا آخر، بل فقط على أن الجسم الآخر يتحرك؛ ولا تظهرنا على علية النفس عند حركة الجسم بالرغم من شعورنا بالجهد الباطن، إذ ما العلاقة بين إرادتي وحركة ذراعي، بين ذلك الفعل الروحي وحركة الأرواح الحيوانية التي تمر في أعصاب معينة من بين مليون من الأعصاب لا علم لي بها لأجل أن تحدث الحركة التي أرجوها بما لا عداد له من الحركات التي لا أرجوها، والعلة الحقَّة يجب أن تعلم ما تفعل وكيف تفعل. فالتعاقب المطرد بين إرادتي تحريك ذراعي وحركة ذراعي، وعلى العموم بين جميع الظواهر، قائم على أساس لا يتزعزع هو القضاء الإلهي. فقد ربط الله بين مخلوقاته وأخضعها بعضها لبعض بموجب قوانين كلية ثابتة دون أن يمنحها فاعلية ما. فوهمنا ناشئ من أننا نحكم بالعلية حيث لا يوجد سوى اقتران مطرد، وأننا لا ندرك بالحس أي شيء آخر يمكن أن يكون العلة 1. 45 - العالم والإنسان: أ- القوانين الكلية الثابتة تمثل أبسط الوسائل التي رآها الله ممكنة لتدبير العالم، إذ ليست حرية الله مطلقة مستقلة عن كل سبب كما يزعم ديكارت: إن حكمته تجعله يختار أكمل الممكنات. إن الله يعلم جميع الأنحاء التي يمكن أن يصنع عليها ما يصنع، فيختار النحو الذي يقتضي أقل عدد من الإرادات الجزئية

_ 1 "البحث عن الحقيقة" الكتاب السادس، القسم الثاني، ف 2 و 3؛ والكتاب الرابع، ف 10؛ والكتاب الثالث، القسم الثاني, ف 3 , و"أحاديث فيما بعد الطبيعة" الحديث السابع.

فمثلًا يستطيع الله أن يضيف جمالًا إلى جمال ما يصنع، ولكنه لا يضيف لأن الإضافة تضطره إلى مخالفة بساطة الوسائل، ويستطيع بإرادة جزئية أن يمنع سقوط المطر في البحر سدى، وأن يرفع من العالم كل نقص ونقيصة، ولكن الأليق به أن يكفي نفسه مئونة الإرادات الجزئية. فلا ينبغي الفصل بين الصفات الإلهية حين ننظر في أسباب الخلق ومقتضياته، وبذا نرى أن العالم، إن لم يكن الأكمل في نفسه، فإنه الأكمل بالوسائل البسيطة الكاملة التي يستخدمها الله فيه. بيد أن فعل الله لامتناهٍ والعالم متناهٍ, فكيف يكون العالم صنع الله؟ إن دخول المسيح في نظام الخليقة هو الذي يجعل من العالم صنعًا لائقًا بالله. فلم يخلق الله العالم إلا لتجسد الكلمة؛ وحتى لو لم يرتكب آدم خطيئته لكان ميلاد المسيح ضروريًّا بالإطلاق، وبذا تتصل الميتافيزيقا بالدين 1. ب- والعوامل امتداد فحسب. نرى في الله الامتداد المعقول، فيصير محسوسًا وجزئيًّا باللون، فما الألوان إلا إدراكات حسية تحصل في النفس حين يؤثر فيها الامتداد، أو "ما يسمى رؤية الأجسام, إن هو إلا حضور فكرة الامتداد في النفس تمسها وتغيرها بألوان مختلفة". وفكرة الامتداد الكلي أو اللامتناهي فكرة ضرورية ثابتة لا يمكن محوها من الذهن، كما لا يمكن أن نمحو منه فكرة الوجود. لذا كان العلم الطبيعي علما هندسيا قائما على فكرة الامتداد وأشكاله وقوانين الحركة. فجميع الأجسام آلات، الجماد والنبات والحيوان وجسم الإنسان؛ لا نفس لها ولا شعور، فالكلب الذي يعوي عند ضربه لا يشعر بالألم، ولكن مثله مثل الآلات التي يصنعها الإنسان ويرتب فيها حركات وأصواتًا على حركات أخرى. غير أن الآلية، إذا كانت نظام نمو الأحياء وفعلها، كما بين ديكارت، فليست نظام تكونها، ولكن الأحياء صادرة عن أصول بذرية، كما قال أوغسطين، إذ أن تكون الأحياء يدل على غائية، وتدل الغائية على حكمة الله 2. ج- أما النفس الإنسانية، فنحن نعلم وجودها بعلم أوضح من علمنا

_ 1 "الأحاديث المسيحية" الحديث الثالث، ف 4 و 5، و"أحاديث فيما بعد الطبيعة" الحديث التاسع، ف 5 - 8؛ والحديث الرابع عشر، ف 6 - 12. 2 "البحث عن الحقيقة".

بوجود جسمنا والأجسام المحيطة بنا؛ ولكننا لا ندركها في ذاتها، ولا نكون عنها فكرة أو معنى. "إن ما لديّ من شعور باطن ينبئني بأني موجود، وأني أفكر وأريد وأحس وآلم, ولكنه لا ينبئني بما أنا وبطبيعة فكري وإرادتي وعواطفي، ولا بما بين هذه الأشياء من علاقات". وهذا يعني أن الله حرمنا رؤية نفسنا فيه، وأن علم الأجسام أبين من علم النفس، خلافًا لما يقول ديكارت، أو أن علم النفس علم ناقص لأنه يستعصي على المنهج الرياضي، ولا يتناول إلا بالمنهج التجريبي 1. وفي هذا كان مالبرانش أكثر توفيقًا من ديكارت، فإن الحق أننا لا ندرك ذات النفس، وأننا لا نعلم ماهيتها إلا بالاستدلال. ولكن مالبرانش يتعثر في مسألة اتصال النفس والجسم؛ فإنه يقرر أنهما متباينان وأن أفعالهما متباينة كذلك، فلا يؤثر الجسم في النفس، ولا تؤثر النفس في الجسم، وأن "كل اتحادهما يقوم في تقابل طبيعي بين أفكار النفس وحركات الجسم" 2. مثلما نفكر في نفس الأشياء كلما قبل الدماغ نفس التأثيرات؛ ثم هو لا يخبرنا كيف يحدث هذا التقابل الطبيعي, هل يحدث تبعًا للوسائل البسيطة أو القوانين الكلية؟ إذن نقع في الآلية والجبرية؛ أو هل يحدث تبعًا لإرادات جزئية من لدن الله؟ إذن نخرج على بساطة الوسائل, ونخالف مقتضى الحكمة الإلهية. د- ويتعثر مالبرانش كذلك في مسألة الإرادة. فهو يعرفها بأنها محبة الخير على العموم، ويلاحظ أننا لا نحب شيئًا إلا أن يكون خيرًا حقًّا أو يبدو كذلك؛ ويقول: إن هذه المحبة يطبعها الله فينا، وإنها مبدأ محبة الأشياء بالخصوص، فالإرادة هي الأثر المتصل الصادر عن صانع الطبيعة والموجه للنفس نحو الخير على العموم. وإذا ما جاء إلى النظر في حرية الإرادة، أثبت الحرية بشهادة الوجدان، وبما قال من أن موضوع الإرادة الخير على العموم، إذ متى كان الحال هكذا كان في استطاعة الإنسان أن يمتنع من محبة أي خير جزئي لقصور الخيرات الجزئية عن استنفاد كفايته للمحبة, وإرضاء إرادته كل الرضا. ثم يضطر إلى القول بأن الاختيار فعل صوري فحسب أو فعل باطن عاطل من الفاعلية،

_ 1 "أحاديث فيما بعد الطبيعة" الحديث الثالث؛ وكتاب الأخلاق، القسم الأول ف 5 - 16 - 17. 2 "البحث عن الحقيقة" الكتاب الثاني، القسم الأول, ف 5.

من حيث إن الفاعلية لله وحده، والله هو الذي يحقق إرادات الإنسان، بل "إن الله هو الذي يصور لنا فكرة الخير الجزئي, ويدفعنا نحوه" فلا يبقى للنفس فعل، ومهما نقل: إن الاختيار فعل صوري، فالمذهب ينفي كل فعل عن المخلوق. وإذا سألنا: كيف نعزو الخطيئة إلى الله؟ أجاب مالبرانش بأن "الخاطئ لا يصنع شيئًا من حيث إن الشر عدم، وإنما هو يقف ويطمئن عند الخير الجزئي، ولا يتبع الله" أَوَلَيس وقف دفع الله وتوجيهه يستلزم بذل فعل؟ هـ- على أن مالبرانش يعتبر الاختيار فعلًا كافيًا نفسه بنفسه ومحققًا للخليقة والتبعة، ويضع مذهبًا في الأخلاق، وترجع مبادئ هذا المذهب إلى ما يأتي: إن قانون الإرادة العقل, وبالعقل نتصل بالله، وفي الله نوعان من النسب بين الأشياء: نسب مقدار ونسب كمال. الأولى تتعلق بالعلم النظري، والثانية تتعلق بالنظام؛ "فكما أننا نلاحظ فورا نسبة عدم التساوي بين مقدارين، نلاحظ أيضًا أن الحيوان أعظم قيمة من الحجر، وأقل قيمة من الإنسان" لتفاوت نسبة الكمال. و"نسب الكمال هي النظام الدائم الذي يرجع الله إليه حين يفعل، وهذا النظام يجب أن يكون قانون العقول في تقديرها للأشياء ومحبتها لها" ومن ثمة يكون قانون الإرادات دستور الأخلاق، فتتجه المحبة إلى الله أولا وفوق كل شيء لأنه الكمال المطلق، ثم إلى المخلوقات, كل بحسب نسبته لله أي: درجته من الكمال. فالفضيلة الوحيدة محبة النظام محبة متصلة، وكل ما نصنعه لغاية أخرى فليس فضيلة ولو كان مطابقا للنظام, مثل الإحسان الصادر عن طلب المجد الدنيوي أو عن مجرد الشفقة. فالعقل صوت الله فينا، من لا يصغي إليه يقع في الخطأ والخطيئة، ويحكم على الأشياء بعقله الخاص لا بالعقل الكلي الموجود فينا كجزء لاشخصي إلهي يستطيع استكشاف النظام بالرغم من اختلاف تكوين العقول بالتربية والعادة وظروف المكان والزمان. هذا الاختلاف هو السبب في اختلاف الاخلاق؛ أما إذا عاد الناس إلى العقل الخالص، فإنهم يهتدون إلى نفس القواعد الأخلاقية، وفي كل هذا يتابع مالبرانش القديس أوغسطين ويخالف ديكارت. ولكن المذهب في جملته عبارة عن استخلاص النتائج المنطوية في مذهب ديكارت. فصل ديكارت بين الفكر والوجود؛ فاستحال عليه تفسير

المعرفة وتفسير وجود الأشياء بغير الالتجاء إلى الله؛ وفصل بين النفس والجسم، فاستحال عليه تفسير التفاعل بينهما؛ وجرد الماديات من كل قوة ورّدها امتدادًا فحسب, تجري الحركة فيه من جزء إلى جزء، فمحا العلية من الطبيعة. فلما شرع مالبرانش يفكر على هذا الأساس، أرجع المعرفة إلى رؤية في الله فجعل من الله المعقول الأوحد؛ وأثار مسألة العلية صراحة فقصر العلية على الله وجعل من الله الفاعل الأوحد؛ وكاد أن يجعل من الله الموجود الأوحد بعد أن قال: إن الامتداد المحسوس جزء من الامتداد المعقول الذي هو فكرة في الله أو امتداد إلهي. وقد جرى قلمه بكثير من العبارات التي تشعر بوحدة الوجود، منها قوله: "الامتداد عين، وجميع الأعيان موجودة في اللامتناهي، فالله إذن ممتد كالأجسام من حيث إن الله حاصل على جميع الأعيان المطلقة أي جميع الكمالات؛ ولكن ليس الله ممتدًّا على نحو امتداد الأجسام لأنه بريء عن حدود مخلوقاته ونقائصها 1. فبالرغم من حملته على "الشقي سبينوزا" نراه يصل إلى نفس النتيجة، وقد اعتقد مثله أن الامتداد لامتناه كما يبدو للمخيلة، فظنه أحد الكمالات المطلقة التي تجب إضافتها إلى الله فلم يتردد في هذه الإضافة، ولطفها باستدراك أملاه عليه إيمانه المسيحي القاضي بالتفرقة بين الخالق والمخلوق، دون أن يوجد في المذهب ما يسوغ هذا الاستدراك.

_ 1 "أحاديث فيما بعد الطبيعة" الحديث الثامن, 7.

الفصل السادس: باروخ سبينوزا

الفصل السادس: باروخ سبينوزا " 1632 - 1677 " 46 - حياته ومصنفاته: أ- ولد بأمستردام من أسرة يهودية, وأراد والده على أن يصير حاخامًا، فتلقى اللغة العبرية والتوراة والتلمود والفلسفة اليهودية للعصر الوسيط وصناعة صقل زجاج النظارات لما كان مقررا من أن يتعلم الحاخام صناعة يدوية. ولكن داخله الشك في الدين، فعدل عن مشروعه، وتحول إلى العلوم الإنسانية، وأخذ يتردد على الأوساط البروتستانتية، فلقي فيها طبيبا تيوصوفيا من القائلين بوحدة الوجود لقنه الطبيعة والهندسة والفلسفة الديكارتية؛ ثم قرأ جيوردانو برونو وغيره من فلاسفة العصر بين محدثين ومدرسيين. فازداد ابتعادًا عن اليهودية؛ ورأى زعماؤها أن يستبقوه في حظيرتها وعرضوا عليه مرتبًا، فرفضه. واعتدى عليه رجل متعصب وجرحه بخنجر، فلم ينثن، فأعلن الزعماء فصله من الجماعة " 1656 " وحصلوا من السلطة المدنية على أمر بإقصائه عن المدينة إذ كان البروتستانت أيضًا يعدونه رجلًا خطرًا. فأقام عند صديق في إحدى الضواحي، ومكث هناكخمس سنين يكسب رزقه بصقل زجاج النظارات، فكان أصدقاؤه يأتون من المدينة فيحملون الزجاج ويبيعونه فيها. وفي تلك الفترة شرع يكتب, ثم أخذ يتنقل في هولندا، وكان أينما يحل يلقى أصدقاء معجبين به معتنقين مذهبه. ومن المعجبين به القائد الفرنسي كوندي conde عرض عليه أن يقيم بفرنسا ويتناول معاشًا فرفض؛ وأمير ألماني عرض عليه في نفس السنة منصبًا بجامعة هيدلبرج، فرفض كذلك مخافة ألا تتوفر له الحرية في التعليم, وكان مصدورًا بالوراثة، فكان مرضه من جهة، وكانت الفلسفة من جهة أخرى، يحملانه على المعيشة البسيطة الهادئة الوادعة، فلقب بالقديس المدني. وكانت وفاته بمدينة لاهاي. ب- اتخذ اللاتينية لسانًا يحرر به, وكان أول ما كتب " 1660 "

رسالة "في مبادئ فلسفة ديكارت مبرهنة على الطريقة الهندسية" كتمهيد ومدخل لفلسفته الخاصة، وهذا أمر جدير بالذكر. ثم عرض فلسفته في "الرسالة الموجزة في الله والإنسان وسعادته" " 1660 " كتبها لأصدقائه المسيحيين ولم تنشر، وقد ضاع الأصل وبقيت ترجمتان هولنديتان نشرتا سنة 1852. ثم وضع رسالة "في إصلاح العقل" هي بمثابة مقدمة في المنهج وفي قيمة المعرفة، أو هي من طراز "المنطق الجديد" لفرنسيس بيكون، و"قواعد تدبير العقل" و"المقال في المنهج" لديكارت، و"البحث عن الحقيقة" لمالبرانش، وكلها كتب تريد الاستغناء عن منطق أرسطو وإقامة المنهج العلمي؛ غير أن سبينوزا ترك الرسالة ناقصة، فنشرت كما هي بعد وفاته. وكان الجدل شديدًا حول مسائل الوحي والنبوءة والمعجزات وحرية الاعتقاد، فدون في ذلك "الرسالة اللاهوتية السياسية" نشرت سنة 1670 غفلًا من اسم المؤلف، فعدت خلاصة الكفر. وكان أثناء تلك السنين يعمل في كتابه الأكبر "الأخلاق" ويوالي تنقيحه وتفصيله، ويطلع أخصاءه على ما ينجز منه، فيتدارسونه ويكتبون إليه فيما يصادفون من مشكلات. وكان قد حظر عليهم إطلاع أي إنسان على ما لديهم منه قبل الاستيثاق من خلقه، ورفض الإذن لأحدهم بإطلاع ليبنتز ثم أطلعه هو على الكتاب بعد أن توثقت الصلة بينهما. وهَمَّ غير مرة بنشره، فكان يحجم خشية الفتنة، فلم ينشر الكتاب إلا بعد وفاته. وفي أواخر حياته " 1675 - 1677 " دون "الرسالة السياسية" ولم يتمها، فنشرت كما هي بعد وفاته كذلك. ج- يتم عرض مذهبه بتلخيص ثلاثة من كتبه وهي: إصلاح العقل؛ والأخلاق، والرسالة اللاهوتية السياسية. وأصحها كتاب الأخلاق، فإنه جامع يلخص الكتب السابقة ويكملها. وقد نهج فيه المنهج الهندسي، وهو المنهج اللائق بمذهب وحدة الوجود الذي ينزل من الواحد إلى الكثير. والكتاب مقسم إلى خمس مقالات: الأولى في الله؛ والثانية في النفس، طبيعتها وأصلها؛ والثالثة في الانفعالات أصلها وطبيعتها؛ والرابعة في عبودية الإنسان أو في قوة الانفعالات؛ والخامسة في قوة العقل أو في حرية الإنسان. فالأخلاق موضوع المقالتين الأخيرتين، ولكن سبينوزا أطلق هذا الاسم على الكتاب كله لأن غاية النظر عنده العمل، ولأن

اتجاهه الأساسي أخلاقي كما هو الحال عند الرواقيين والطريقة القياسية فيه مفتعلة, يتناول الفيلسوف الظواهر المعلومة بالملاحظة الظاهرة أو الباطنة، وهي كثيرة، فيحولها إلى نتائج أقيسة تحويلًا صناعيًّا، ويضع لذلك تعريفات هي أحرى بأن تكون مطالب تقتضي البرهان من أن تكون مقدمات مسلمة للبرهان؛ ومن المبادئ والتعريفات ما يعارض بعضه بعضًا، مثال ذلك: لكي يبرهن على أن الجوهرين المتغايرين لا يحدث أحدهما الآخر، يستند إلى مبدأ يقول: إن شيئين ليس بينهما شيء مشترك لا يكونان علة ومعلولا "المقالة الأولى، المطلب السادس" ولكي يبرهن على أن العقل الإلهي لا صلة له إطلاقًا بالعقل الإنساني، يستند إلى مبدأ يقول أنْ ليس بين العلة والمعلول شيء مشترك "المقالة الأولى، نتيجة المطلب 17 "؛ بل أحيانا يجيء البرهان على نقيض المطلوب، مثال ذلك: المطلب الخامس من المقالة الأولى معناه: "لا يمكن أن يوجد جوهران متشابهان" وبرهانه يذهب إلى أنه "لا يمكن أن يوجد جوهران متغايران"؛ وأحيانًا يبرهن على المبادئ كأنها مطالب، فيقطع تسلسل المطالب الرئيسية؛ وقلما يجيء البرهان برهانًا بمعنى الكلمة، أي: موضحًا للمطلب؛ ومنهجه المألوف أن يحيل القضية الموجبة سالبة ثم يبرهن على هذه بالخلف، كأنه يقصد قبل كل شيء إلى منع الرد عليه. هذه ملاحظات شكلية؛ أما الملاحظات الموضوعية فسنذكر بعضها فيما يلي. 47 - المنهج 1: أ- "قبل كل شيء يجب التفكير في وسيلة شفاء العقل وتطهيره لكي يجيد معرفة الأشياء". هذه الوسيلة هي التمييز بين ضروب المعرفة وتقدير قيمة كل منها لأجل الاهتداء إلى المعرفة الحقة. هناك معرفة سماعية تصل إلينا بالفعل، مثل معرفتي تاريخ ميلادي ووالدي وما أشبه ذلك، وهي معرفة غير علمية؛ فإذا صرفنا النظر عنها، انحصرت المعرفة في ثلاثة ضروب: الضرب الأول معرفة بالتجربة المجملة أو الاستقراء العامي، وهي إدراك الجزئيات بالحواس على ما يتفق بحيث تنشأ في الذهن أفكار عامة من تقارب الحالات المتشابهة مثل

_ 1 انظر كتاب إصلاح العقل، والمقالة الثانية من كتاب الأخلاق.

معرفتي أني سأموت لكوني رأيت أناسًا مثلي ماتوا، وأن الزيت وقود للنار، وأن الماء يطفئها. هذه المعرفة متفرقة مهلهلة؛ وأصل اعتقادنا بهذه الأفكار وأمثالها، أننا لم نصادف ظواهر معارضة لها، دون أن يكون لدينا ما يثبت لنا عدم وجود مثل هذه الظواهر. الضرب الثاني معرفة عقلية استدلالية تستنتج شيئًا من شيء، كاستنتاج العلة من المعلول دون إدراك النحو الذي تحدث عليه العلة المعلول، أو هي معرفة تطبق قاعدة كلية على حالة جزئية، كتطبيق معرفتي أن الشيء يبدو عن بعد أصغر منه عن قرب، على رؤيتي للشمس، فأعلم أن الشمس أعظم مما تبدو لي. هذه المعرفة يقينية، ولكنها هي أيضًا متفرقة لا رابطة بين أجزائها. الضرب الثالث معرفة عقلية حدسية تدرك الشيء بماهيته أو بعلته القريبة, مثل معرفتي أن النفس متحدة بالجسم لمعرفتي ماهية النفس أو مثل معرفتي خصائص شكل هندسي لمعرفتي تعريفه، وأن الخطين الموازيين لثالث متوازيان. هذه المعرفة الأخيرة هي الكاملة لأن موضوعاتها معانٍ واضحة متميزة بكونها العقل بذاته، ويؤلف ابتداء منها سلسلة مرتبة من الحقائق، فيخلق الرياضيات والعلم الطبيعي حيث تبدو الحقيقة الجزئية نتيجة لقانون كلي، ويبين العقل عن فاعليته وخصبه، واستقلاله عن الحواس والمخيلة. ب- يجب إذن الاستمساك بالمعاني البسيطة في بداية كل علم، فإن البساطة هي العلاقة التي يعرف بها المعنى الصادق؛ لاستحالة أن يكون المعنى البسيط معلومًا من جهة مجهولًا من أخرى. فالمعنى الصادق يقيني بذاته، لا يتعلق صدقه بعلامة خارجية، إذ إن الذهن الحاصل عليه يعلم بالضرورة أنه صادق، ولا يستطيع أن يشك فيه، ولا يطلب له ضمانًا. فالشك الديكارتي لا يتحقق إلا بالاعتقاد بإمكان وجود إله خادع. والمعنى الصادق مطابق لموضوعه؛ وليس يقال: إن المعنى صادق لكونه مطابقا لموضوعه، فإن الحقيقة تقوم في "صفة ذاتية" للمعنى نفسه، لا في المطابقة مع موضوع خارجي. ومن ثمة فالمعنى الصادق حقيقي موضوعي، فإن المطابقة تامة بين العقل الحاصل على معان واضحة متميزة وبين الوجود؛ فالمعاني المنفصلة يقابلها أشياء منفصلة، والمعاني المتصلة يقابلها أشياء متصلة "فسبينوزا يتابع ديكارت في اعتباره الفكر محصورًا في نفسه، ولكنه يرى أن الفكر صادق، وأنه موضوعي، كلما

تحقق فيه المعنى تحققًا كليًّا فأثبت نفسه بنفسه" أما التخيل فيعلم أنه كذلك من عدم تعين موضوعه، إذ نستطيع أن نتخيله موجودًا أو غير موجود، أو أن نضيف إليه كذا أو كذا من الصفات المتضادة، وكذلك الحال في الخطأ, فإنه يضيف إلى الموضوع محمولًا لا يلزم من طبيعته بسبب أن العقل يتصور تلك الطبيعة تصورًا غامضًا. وكل الفرق بين الخطأ والتخيل أن الخطأ مصحوب بتصديق وإنما يجيء هذا التصديق من عدم توفر المعرفة الحقة، مثال ذلك: حين ننظر إلى الشمس فنتخيل أنها تبعد عن الأرض حوالي مائتي قدم، فهنا لا يكون الخطأ في هذا التخيل معتبرًا في ذاته، بل في جهلنا عند هذا التخيل المسافة الحقيقية بيننا وبين الشمس والسبب في هذا التخيل. وعلى ذلك ليس الخطأ تصور ما لا وجود له، ولكنه عدم تصور الموجود كله. والواقع أننا حين نعلم فيما بعد أن الشمس بعيدة عنا بمقدار قطر الأرض ستمائة مرة أو تزيد، لا نملك أنفسنا من أن نتخيل أنها قريبة منا. فليس في المعاني شيء ثبوتي من أجله يقال: إنها كاذبة، وإنما المعاني الكاذبة هي معان غير مطابقة أو ناقصة تؤخذ على أنها مطابقة أو كاملة. ويتضح من هذا أن الخطأ يقع في معرفة الضربين الأول والثاني، وأن معرفة الضرب الثالث بريئة منه. ج- إذا كانت المطابقة تامة بين معاني العقل والموجودات، وكان المقصود العلم بالطبيعة، تعين على العقل أن يضع أولًا المعنى الذي يمثل منبع الطبيعة وأصلها، ثم يستنبط منه معانيه جميعا, بحيث يكون هذا المعنى هو أيضا منبع المعاني وأصلها, فنحصل بذلك على العلم الحق الذي شرطه أن يتأدى من العلة إلى معلولاتها, لكن لا المعلومات الجزئية في تعاقبها، فإنه لا يستنبط من المعاني الدائمة إلا معاني دائمة، والتعاقب لامتناه من جهة عدد الأشياء والأحداث وظروفها، والغرض استنباط الماهيات والقوانين، وترتيبها بعضها من بعض، فإن بموجبها تقع جميع الجزئيات وتترتب فيما بينها، والعقل لا يدرك الأشياء في الزمان كما تدركها المخيلة، بل في "صورة الأبدية". فلأجل استكشاف المعنى الأول الذي تلزم منه جميع المعاني، أو المبدأ الأول الذي تصدر عنه جميع الأشياء، يجب أن نلاحظ أن من خصائص العقل أنه يكون المعاني المحصلة قبل المعاني المعدولة. ومعنى المتناهي معدول في حقيقته إذ

"إننا نقول عن شيء: إنه متناهٍ في جنسه متى أمكن حده بشيء آخر من طبيعته، فمثلًا نقول عن جسم: إنه متناهٍ؛ لأننا نستطيع دائمًا أن نتصور جسمًا أعظم منه. وعلى العموم كل تعيين فهو حد أو عدول وسلب". وعلى ذلك فالمعنى المحصل بمعنى الكلمة هو معنى اللامتناهي أو الجوهر المطلق أو الله, وبه يجب الابتداء. 48 - الله أو الطبيعة 1: أ- تعريف الجوهر أنه "ما هو في ذاته ومتصور بذاته، أي: ما معناه غير مفتقر لمعنى شيء آخر يكون منه". وهكذا يريد سبينوزا لكي يخلص من التعريف إلى النتائج التي يقصدها, وأولاها أن الجوهر علة ذاته، أي: إن ماهيته تنطوي على وجودها، وإلا كان الجوهر موجودًا بغيره, فكان متصورًا بهذا الغير لا بذاته ولم يكن جوهرًا. "وهذا هو الدليل الوجودي, وإلى جانبه اصطنع سبينوزا حجة ديكارت القائلة: إنه كلما كانت طبيعة الشيء حاصلة على حقيقة أعظم، كان الشيء أقدر على الوجود، وللموجود اللامتناهي، أو الله، قدرة لامتناهية على الوجود، ومن ثمة فهو موجود بالضرورة". النتيجة الثانية أن الجوهر لامتناهٍ، إذ لو كان متناهيًا لكان متصلًا بجواهر أخرى تحده وكان تابعًا لها متصورًا بها لا بذاته. النتيجة الثالثة أن الجوهر واحد، إذ لو كان هناك جوهران أو أكثر لكان كل جوهر يحد الآخر, ولبطل أن يكون الجوهر جوهرًا أي: متصورًا بذاته. وعلى ذلك فالجوهر موجود بالضرورة أو واجب الوجود، سرمدي لا يكون ولا يفسد. فإذا وجد شيء عداه، لم يمكن أن يكون هذا الشيء إلا "صفة" للجوهر الأوحد أو "حالا" جزئيا يتجلى فيه الجوهر؛ وبعبارة أخرى: إن الجوهر هو "الطبيعة الطابعة" أي: الخالقة من حيث هو مصدر الصفات والأحوال, وهو "الطبيعة المطبوعة" أي: المخلوقة من حيث هو هذه الصفات والأحوال أنفسها. ولما كان هو الأوحد، كان مطلق الحرية بمعنى أنه هو الذي يعين ذاته؛ أما حريته فمرادفة للضرورة، والضرورة غير القسر، فإن الفعل الضروري فعل ذاتي منبعث من باطن. فالجوهر ضروري

_ 1 المقالة الأولى من كتاب الأخلاق.

والحقائق الأزلية ضرورية لم يفرضها بإرادته "كما يذهب إليه ديكارت". ولما كان اللامتناهي لم يكن شخصًا مثل إله الديانات، وإلا لكان معينًا، وقد سبق القول: إن كل تعيين فهو سلب, فليس له عقل ولا إرادة؛ إذ إنهما يفترضان الشخصية. وإذن فالجوهر لا يفعل لغاية، ولكنه يفعل كعلة ضرورية فجميع معلوماته ضرورية كذلك، وليس في الطبيعة شيء حادث أو ممكن إلا بالإضافة إلى نقص في معرفتنا، أي: إلى جهلنا ترتيب العلل، ولا يمكن أن يقال: إن الله كان يستطيع أن يريد غير ما أراد، إذ ليس يوجد في السرمدية متى وقبل وبعد حتى يقال: إن الله كان موجودًا قبل أن يريد, ومستطيعًا أن يريد غير ما أراد. ب- ونحن نعلم ماهية الجوهر بصفاته، والصفة هي "ما يدركه العقل من الجوهر على أنه مكون لماهيته" "كما قال ديكارت". والجوهر اللامتناهي حاصل على ما لا يتناهى من الصفات، كل صفة منها تدل على ماهية سرمدية لامتناهية في جنسها، غير أننا لا نعلم من الصفات سوى اثنتين، هما الفكر والامتداد، تجتمعان فيه مع تمايزهما وعدم إمكان رد إحداهما إلى الأخرى، فلا تبدو لنا ماهية الجوهر إلا في هاتين الصفتين أو الصورتين "اللتين ينقسم إليهما الوجود عند ديكارت". ج- وتبدو كل صفة في أحوال أو ظواهر. وتعريف الحال أنه "ما يتقوم بشيء آخر ويتصور بهذا الشيء". فالأجسام أحوال للامتداد نتصورها به ولا نتصوره بها كما تتوهم المخيلة، أي: ليس الامتداد معنًى كليًّا مكتسبًا بالتجريد من الأجسام, ولكن الأجسام أجزاء من الامتداد الحقيقي المعقول، أو هي حدود فيه، كما أن كل متناه فهو عدول اللامتناهي. فليس التمايز بين الأجسام تمايزا حقيقيا، إذ إنها جميعًا امتداد، ولكنه تمايز حالي عرضي ناشئ من أن الحركة تفصل في الامتداد أجزاء تكون منها أجسامًا. والحركة حال للامتداد، وهي ثابتة الكمية في الطبيعة، أي: إنها حال سرمدي كالصفة ذاتها؛ لأنها تدل على ما هو ثابت في الطبيعة تحت التغيرات المختلفة. أما الجسم الجزئي الذي يدوم فترة من الزمان، فليس فيه شيء يربطه بماهية الصفة السرمدية، وإنما علة وجوده أجسام أخرى متناهية مثله حركته وجعلته ما هو، وعلة هذه

الأجسام أجسام أخرى متناهية، وهكذا إلى غير نهاية، بحيث نصل إلى النظرية الآلية التي تنكر كل اختلاف بالماهية بين الأجسام، وترد الاختلافات إلى اختلاف الحركة والسكون. د- وكذلك القول في المعاني أو الأفكار, فإنها ترجع إلى صفة الفكر. وفي هذه الصفة حال يحوي النظام الشامل الثابت للطبيعة؛ هذا الحال هو العقل اللامتناهي أو "فكرة الله" التي هي معلول مباشر للقوة الفكرية الإلهية اللامتناهية، أي: القوة الروحية الباقية هي هي أبدًا في الطبيعة مع اختلاف الظواهر الروحية الجزئية، كما أن الحركة باقية هي هي أبدًا في الامتداد. وما يصدق على أحوال الامتداد يصدق على أحوال الفكر، فإن ترتيب المعاني في الفكر صورة من ترتيب الأعيان في الامتداد، وإذا كان من طبيعة الموجود المفكر أن يكون معاني مطابقة، فمن المحقق أن معانينا غير المطابقة آتية من كوننا جزءا من موجود مفكر, وأن عقلنا مكون من معاني ذلك الموجود بعضها كامل وبعضها ناقص. 49 - الإنسان 1: أ- الإنسان مركب من حال امتدادي هو جسمه، ومن حال فكري هو نفسه. الجسم آلة مؤلفة من آلات، والنفس فكرة الجسم أي: فكرة موضوعها الجسم الموجود بالفعل، فهي تبدأ وتنتهي مع الجسم، وعلتها خارجة عنها تلتمس في أحوال أخرى من الفكر مقابلة لأحول الامتداد التي هي علة الجسم. والإحساس ظاهرة جسمية؛ أما الإدراك فظاهرة فكرية تقوم في تصوير النفس للإحساس وقت انفعال الجسم به, من حيث إن النفس هي دائمًا ما الجسم إياه. أجل إن انفعال الجسم معلول لفعل أجسام أخرى، ولكن هذا الفعل يتكيف بطبيعة جسمنا، فيلزم من ذلك إذن الإدراك يقابل طبيعة جسمنا أولًا وبالذات مع مقابلته لطبيعة الأجسام الخارجية. والقوانين الطبيعية للفكر هي قوانين التداعي أو الترابط، تشبه قوانين الحركة في الامتداد وفكرة النفس عن ذاتها، وفكرتها عن جسمها, وفكرتها عن الجسم الخارجي، فكرات غير مطابقة؛ لأن النفس وجسمها والجسم الخارجي أحوال متناهية

_ 1 المقالة الثانية من كتاب الأخلاق وما بعدها.

عللها في غيرها من الأحوال المتناهية. فمن شأن طبيعة الإنسان المتناهية أن تدعه غير معقول عند نفسه؛ وهو إنما يعقل ذاته بردها إلى النظام الكلي السرمدي، واعتبارها جزءًا من الجوهر الأوحد. ب- وليس هناك ما يسمى بقوى النفس، فلا تمييز بين نفس وقوى. ومن ثمة لا تمييز بين إرادة وعقل، ولكن الإرادة ترجع إلى العقل من حيث إن كل فكرة فهي تتضمن إيجابًا, أي: إن الإرادة ميل العقل إلى قبول ما يروقه من المعاني واستبعاد ما لا يروقه. فما يسمى بالفعل الإرادي هو فكرة تثبت نفسها أو تنفي نفسها، وما يسمى بالتوقف عن الحكم هو حالة عدم إدراك الفكرة على نحو مطابق، ولما كانت الأشياء جميعًا معينة بما في الطبيعة الإلهية من ضرورة الوجود والفعل، لم يكن في الطبيعة ممكنات، ولم يكن في النفس إرادة حرة، ولكن النفس معينة إلى فعل كذا أو كذا بعلة هي أيضًا معينة بعلة، وهكذا إلى غير نهاية. ليس الإنسان مملكة في مملكة، فالشعور بالحرية خطأ ناشئ مما في غير المطابقة من نقص وغموض، وإنما يعتقد الناس أنهم أحرار؛ لأنهم يجهلون العلل التي تدفعهم إلى أفعالهم، كما يظن الطفل الخائف أنه حر في أن يهرب، ويظن السكران أنه يصدر عن حرية تامة فإذا ما ثاب إلى رشده عرف خطأه. ولو كان الحجر يفكر لاعتقد أنه إنما يسقط إلى الأرض بإرادة حرة. وعلى ذلك فالغضب من الأشرار سذاجة، إذ ليس الأحمق ملزمًا أن يحيا وفق قوانين العقل، كما أن الحر ليس ملزمًا أن يحيا وفق قوانين طبيعة الأسد 1. ج- حياتنا العملية إذن تابعة لحياتنا العقلية، وتختلف باختلافها. ففي معرفة الضرب الأول، القاصرة على الحواس والمخيلة أي: على أفكار غير مطابقة، نتصور ذاتنا شخصًا قائمًا بنفسه، والأشياء المحيطة بنا خيرات أو شرورًا في أنفسها، فنحس من جزاء ذلك شتى الانفعالات المضنية المرهقة تتوالى علينا كما يتفق حسب توارد الأحداث. في هذه المرحلة نطلب الأشياء ونهرب منها لمحض الاشتهاء والكراهية، لا لحكمنا بأنها خير أو شر؛ بل إننا ندعو الشيء خيرا أو شرا بسبب طلبنا إياه أو كراهيتنا له. فلا حياة خلقية في هذا الضرب من المعرفة، وإنما كل ما هنالك عبودية للشهوات.

_ 1 انظر أيضًا الرسالة اللاهوتية السياسية ف 16.

د- وفي معرفة الضرب الثاني نعلم أن الطبيعة خاضعة لقوانين كلية، وأننا جزء من هذه الطبيعة، فنهتدي بأفكارنا المطابقة ونصير فاعلين بعد أن كنا منفعلين؛ ذلك أننا حالما ندرك بالعقل أن أفراحنا وأحزاننا نتائج القوانين الطبيعية، نكف عن محبة الأشياء وبغضها، وعن استشعار الحزن والخوف والرجاء واليأس والغضب والسخرية؛ فلا نطلب شيئًا إلا لاتصاله بميلنا الأساسي الذي هو حب البقاء، وبالقدر الذي يكفل البقاء، مرجعين هذا الميل إلى ميل الطبيعة جمعاء, ومعتبرين شخصنا جزءًا من الطبيعة لا يتجزأ، فتصدر أفعالنا عن طبيعتنا ونكون علتها الكاملة. في هذه المرحلة نحصل على الفضيلة بمعنى الكلمة، أي: على قدرة العمل طبقًا للقوانين الكلية، وتكون النفس في سرور متصل يترجم عن كمالنا وقدرتنا الناتجين من العلم, أما أفعالنا الصادرة عن رجاء الجنة وخوف جهنم، فليست فاضلة. والفضيلة الأساسية القوة أو الشجاعة تجعل الإنسان حرا مستقلا، فإن الحرية الحقة تقوم في اتباع ضرورة طبيعتنا بما نحن جزء من الكل. وفي هذه الحالة تعود الأشياء الخارجية خيرات أو شرورًا، لا في أنفسها، بل بالإضافة إلينا حسب ما توافق حب البقاء أو تضاده فتزيد في كمالنا أو تنتقص منه. فمن الحكمة أن نستمتع بالحياة ما وسعنا الاستمتاع، فنصلح جسمنا بغذاء لذيذ، ونمتع حواسنا بأريج الزهر ورونقه، بل أن نزين ثيابنا، ونستمتع بالموسيقى والألعاب والمشاهد وكل ما لا يضر أحدًا من الملاهي. والموت آخر ما يفكر فيه الرجل الحر؛ إذ ليست الحكمة تأمل الموت بل تأمل الحياة. هـ- وبالمعرفة التي من الضرب الثالث ندرك ذاتنا، ليس فقط كجزء من الطبيعة، مما يدع مجالًا لضرب من التمييز والتضاد بين الإنسان والطبيعة، بل ندرك ذاتنا صادرة عن طبيعة الله، إذ إن الفرد في حقيقة الأمر فكرة مجردة، وليس الموجود الحق هو الفرد منفصلًا عن الكون، ولا القانون الذي يربط الفرد بالكون، بل الكون نفسه معتبرًا، لا كجملة أجزاء، بل كوحدة جوهرية حاصلة في ذاتها على علة وجودها. في هذه المرحلة نرد السرور الذي يملأ نفسنا إلى الله علة الحقيقة ومبدأ القوانين السرمدية. هذا السرور مصحوبا بفكرة الله هو محبة الله، والإنسان هو العلة الكاملة لهذه المحبة، وهي خالصة لا يقابلها محبة من جانب الله؛ لأن الله بريء من الانفعال. وتلك هي الحياة الأبدية

المستقلة عن الزمان، إذ ليست الحياة الأبدية بقاء النفس بعد فناء الجسم أو الخلود في عالم مفارق، فإن النفس فكرة الجسم ولا توجد إلا بوجود الجسم، وإنما الحياة الأبدية معرفتنا ذاتنا من وجهة الأبدية وتأمل النظام الكلي. وبعبارة أخرى: إن النفس سرمدية من حيث هي حاصلة على معرفة الحقائق السرمدية؛ وكلما ازدادت معرفتها ازداد حظها من الخلود، فإن الخير الوحيد الذي يدركه عقلنا والخير الخلقي ما أنمى العقل، والشر ما انتقصه وأفسده. وذلك هو الدين الحق الذي نجده في نفسنا. 50 - الدين والسياسة 1: أ- أما الدين الوضعي فقد مست الحاجة إليه لقصور جمهرة الناس عن مطالعة أوامر الله في نفوسهم. وإن الكتب المقدسة لتدلنا على أن الله أنزل وحيه على الأنبياء بألفاظ وصور محسوسة أو متخيلة, ما خلا المسيح، فإنه عرف الله دون ألفاظ ولا رؤى، واتصل بالله نفسًا لنفس، كما اتصل موسى بالله وجهًا لوجه. فالأنبياء لم يمنحوا عقلًا أكمل من عامة العقول، وإنما منحوا مخيلة أقوى، فقد كان منهم الأميون، وكان من الحكماء مثل سليمان من لم يوهبوا النبوة. واختلف الوحي عند كل نبي باختلاف مزاجه البدني ومخيلته وآرائه السابقة، فإن الله لاءم بين وحيه وبين أفهام الأنبياء وآرائهم. ولما كان التخيل لا ينطوي بطبيعته على اليقين، كما ينطوي عليه المعنى الجلي, لم يكن الأنبياء على يقين من وحي الله بالوحي نفسه بل بعلامة ما، وقد نبه موسى اليهود على أن يسألوا النبي علامة، لذا كانت النبوة أدنى من المعرفة العقلية الغنية عن كل علامة. ولما كان الله رحيمًا بالكل، كانت مهمة النبي تعليم الفضيلة الحقه لا الشرائع الخاصة بكل بلد بلد، فما من شك في أن جميع الأمم حصلت على أنبياء. وإذا كانت التوراة لا تذكر شيئًا من هذا القبيل؛ فلأنها تؤرخ لليهود فحسب. ذلك بأن جوهر الشريعة الإلهية الطبيعية معرفة الله ومحبته، وأن هذه الشريعة يدركها الإنسان في نفسه، فهي مشتركة بين جميع الناس، ولا تقتضي الإيمان بقصص تاريخية أيًّا كان موضوعها، وإن كان لنا في

_ 1 الرسالة اللاهوتية السياسية.

هذه القصص عبر عملية في تدبير حياتنا. إن مثل هذا الإيمان, حتى لو كان موضوعه صادقًا، لا يعطينا العلم بالله، ولا من ثمة محبة الله, يجب أن يستمد العلم بالله من معانٍ كلية يقينية. كذلك تقتضي الشريعة الإلهية الطبيعية شيئًا من الطقوس، إذ ليست الطقوس في ذاتها خيرا ولا شرا، وليست تزيد عقلنا كمالًا. والتقوى انفعال نافع للجمهور ضروري لهم، ولكنه عديم الجدوى للذي يستطيع أن يعمل بالعقل ما تحمل التقوى على عمله بالانفعال. ولا يمكن أن يكون الاتضاع فضيلة؛ لأنه يتضمن الحزن وشعور المهانة والعجز. كذلك ليس الندم فضيلة؛ لأنه نتيجة الجهل الذي يجعلنا نعتقد أنه كان بإمكاننا أن نفعل غير ما فعلنا. إن فضيلة العقل تقوم في أن يغتبط الإنسان بعقله ويطمئن في نفسه 1. على أن الإيمان بما يرويه الكتاب المقدس من أخبار ضروري جدًّا للجمهور العاجز عن إدراك الأمور بالعقل؛ لأنها تؤيد عنده التعاليم النظرية الواردة في الكتاب من أنه يوجد إله صانع للأشياء، ومدبرها وحافظها، ومعني بالناس يثيب الأخيار ويعاقب الأشرار. والطقوس أيضا لم ترتب إلا لتدبير حياة الناس في مختلف الظروف, وأضيفت للدين كي يؤديها الشعب طواعية أو كي تكون علامة خارجية عليه. ورجال الدين ضروريون للجمهور كي يلقنوه تعليمًا متناسبًا مع فهمه. أما المعجزات فهي عند الجمهور مصنوعات أو أحداث غير مألوفة مخالفة لما كوّن له من رأي في الطبيعة بالعادات المكتسبة, وهي عنده أوضح بيان لقدرة الله وعنايته. والحقيقة أن حدثًا مخالفًا للطبيعة لا يقع أبدًا؛ لأن نظامها سرمدي ثابت. وما من شك في أنه من اليسير أن نعين بالمبادئ الطبيعية المعروفة علة كثير من الوقائع المدعوة بالمعجزات. وفضلًا عن ذلك فإن إدراك وجود الله وماهيته وعنايته، يتم بإدراك النظام الثابت للطبيعة خيرًا مما يتم بمعرفة المعجزات، فهي لا تفيد في الغرض المرجوّ منها. ب- والقاعدة العامة في تأويل الكتاب المقدس ألا يضاف إليه من التعاليم إلا ما يدل البحث التاريخي على أنه علمه بالفعل، فإن العلم بالكتاب يجب أن يستمد كله من الكتاب وحده. هذا البحث التاريخي يجب أن يتناول أولًا طبيعة اللغة العبرية وخصائصها لكي يفهم المعنى المقصود تمام الفهم، بعد

_ 1 كتاب الأخلاق، نهاية م 4.

الفحص عن مختلف معاني النص الواحد, وثانيًا جمع العبارات في أقسام رئيسية وقيد العبارات المبهمة أو المتعارضة؛ فمثلًا قول موسى: إن الله نار، أو إن الله غيور، هو من العبارات الواضحة طالما اعتبرنا معاني الألفاظ فحسب، وإذن نضعها ضمن العبارات الواضحة ولو أنها جد غامضة بالإضافة إلى العقل والحقيقة، فإنه يجب استبقاء المعنى الحرفي ولو كان معارضًا للعقل ما دام لا يتعارض صراحة مع مبادئ الكتاب؛ وعلى العكس يجب تأويل العبارات التي يعارض معناها الحرفي مبادئ الكتاب تأويلًا مجازيًّا ولو كانت مطابقة للعقل؛ وثالثًا إحصاء جميع الظروف المتواترة، مثل سيرة النبي وأخلاقه وغرضه والمناسبة التي كتب لها وزمن الكتابة, ولمن كتب وتاريخ كتابه وكيف جمع في الأصل, وفي أي الأيدي وقع ومختلف الروايات لعباراته ... إلخ. ج- أما الاجتماع فالرأي فيه كما يلي: في الإنسان شهوة وعقل, وليس الناس معينين جميعًا من قبل الطبيعة لأن يسيروا طبقًا لقوانين العقل، فهم يولدون جهلاء ويقضون الشطر الأكبر من الحياة قبل أن يدركوا الفضيلة ويكتسبوها فما دمنا نعتبر الناس عائشين في حال الطبيعة فحسب، فلكل منهم مطلق الحق في اتباع الشهوة واصطناع القوة أو اتباع العقل، إذ إن كل ما يفعله الموجود تبعًا لقوانين الطبيعة فهو يفعله بحق مطلق، فالسمك معين بالطبيعة للسباحة، وكبيره معين بالطبيعة لالتهام صغيره. على أن من الحق أن الأنفع للناس أن يعيشوا طبقًا لقوانين العقل, وليس من إنسان إلا ويريد أن يعيش آمنًا من الخوف، وهذا مستحيل ما دام لكل أن يعمل ما يروقه, وإذا لم يتعاون الناس كانت حياتهم بائسة. لهذه الأسباب تاقوا للاتحاد، ونزل كل إلى الجماعة عما له من حق طبيعي على جميع الأشياء، فصار للسلطة العليا الحق المطلق في الأمر بكل ما تريد، وصارت الطاعة واجبة بحكم الميثاق المعقود وبحكم العقل الذي يرى في الطاعة أهون الضررين. وبذا تنشأ "العدالة" أي: علاقة خارجية بين السلطة والشعب يمثلها القانون الذي يأمر بأفعال معينة ويحظر أفعالا معينة. على أنه لا تجب الطاعة إلا للقانون النافع، إذ كان أساس الاتحاد المنفعة العامة, فللشعب أن يقدر الأوامر والنواهي، وأن ينقد السلطة، بل أن يثور عليها, وهذا فارق مهم بين سبينوزا وبين هوبس. وثمة فارق آخر هو أن هوبس يدعو

للحكم الاستبدادي، ويدعو سبينوزا للحكم الديمقراطي، ويقول: كلما اتسعت مشاركة الشعب في الحكم قوي التحابّ والاتحاد. غير أنه يعود إلى موقف هوبس في الدين فيذهب إلى أن السلطة هي الحاكمة في الدين وهي حاميته، وأن حقها في ذلك مطلق، وإلا تفرق الرأي بتفرق العقول والأهواء، واختل النظام العام. ولا يكتسب الدين قوة القانون إلا بإرادة السلطة، من حيث أن ليس للعقل من حق في حال الطبيعة أكثر مما للشهوة والقوة، وأن مظاهر العبادة يجب أن تعين تبعًا لأمن الدولة وفائدتها. والولاء للدولة أرفع صور التقوى، إذ لو زالت الدولة لما بقي خير ما، ونجاة الشعب القاعدة الكبرى لجميع القوانين المدنية والدينية. ولم يكن حق السلطة موضع نزاع قط عند العبرانيين، وكان ملوكهم يعلمونهم الدين, ولكن الحال اختلف عند المسيحيين فقد قام بتعليم الدين فيهم أفراد، واعتادوا زمنًا طويلًا الاجتماع في كنائسهم بالرغم من إرادة حكوماتهم؛ ولما أخذت المسيحية تدخل في الدولة ظل رجال الدين يعلمونها كما وضعوها، حتى للأباطرة، فكسبوا الاعتراف لأئمتها بصفة وكلاء الله. د- على أن نفس الإنسان لا يمكن أن تكون ملكًا خالصًا لآخر، وما من أحد يستطيع أن ينزل لآخر عن حقه الطبيعي في استخدام عقله والحكم على الأشياء. ومن الضار جدا للدولة أن تحاول استعباد العقول، كما أن من الضار جدا أن تترك للأفراد مطلق الحرية في الاعتقاد والعمل. ولكن الفرد لا ينزل إلا عن حق العمل بحكمه الخاص، وإلا استحال قيام الدولة؛ أما حق التفكير بحرية فخالص له تمامًا؛ ويجب أن يكفل له أيضًا حق الكلام بشرط ألا يجاوزه إلى العمل, وأن يدافع عن رأيه بالحجة لا بالحيلة أو العنف، ولا رغبة في تعديل نظام الدولة بسلطته الخاصة، بل يدع للسلطة حق الحكم، ويمتنع من كل فعل يعارض إرادتها، حتى لو اضطر للعمل بخلاف ما يعتقد. ولا خطر في ذلك على عدالته وتقواه، بل إن ذلك واجبه من حيث إن العدالة تتعلق بإرادة السلطة ليس غير.

51 - تعقيب: أ- ذلك هو المذهب, وقد نعتبر الاعتقاد بوحدة الوجود حدسًا شخصيًّا خطر لسبينوزا أو عرضه عليه ذلك الطبيب الذي علمه الفلسفة، فشرع هو يشيد هيكله بما وجد من مواد عند ديكارت والرواقيين. ولكن هذا الحدس تأيد عنده بالتفكير في صعوبات الفلسفة الديكارتية، وبأن في نظره علاجًا لها. هذه الصعوبات ترجع إلى فكرة العلية، فقد وزع ديكارت ظواهر الطبيعة إلى طائفتين، إحداهما مادية والأخرى فكرية، ثم عجز عن تفسير العلاقة بين النفس والجسم في الإنسان لتباين هذين الجوهرين، فاعتقد سبينوزا أن "العلة والمعلول يجب أن يكونا من نوع واحد" 1 بحجة أن ما يكون في المعلول دون أن يكون لذاته في العلة، يكون صادرًا عن العدم، مع أن ديكارت نفسه كان قد قال، أخذًا عن المدرسيين: إن ما في المعلول يجب أن يكون في العلة على صورته أو على نحو أسمى. فلزم عند سبينوزا أن الكل واحد ضروري، وأن الجوهر الأوحد علة باطنة لجميع الظواهر، هي في معلولاتها ومعلولاتها فيها، ومحا العلة المفارقة المتعدية إلى خارج، فمحا ثنائية الله والعالم، وثنائية النفس والجسم والتفاعل بينهما، تمايز العقل والإرادة، على ما يقتضي المذهب الأحادي من محو كل تمييزات، فانتهى بذلك إلى الآلية المطلقة وهي المثل الأعلى الذي يرمي إليه العلم الحديث، ومحا الغائية، وقصر معنى العلية على علية الدعوى أو الترابط المنطقي دون علية الوجود أو الفاعلية، وفاته أن يسوغ المبدأ الذي يقوم عليه مذهبه كله, وهو أن الوجود مطابق للمعاني وللعلاقات التي يكشفها العقل في نفسه. ب- ولكنه وقع في نفس الصعوبات وفي أخرى غيرها, فهو من الجهة الواحدة لم يوفق بين وحدة الجوهر وكثرة الصفات والأحوال، أي: لم يبين كيف يمكن أن يصدر عن الجوهر الواحد الثابت غير المعين، صفات وأحوال لا نهاية لها متغيرة إلى ما لا نهاية، تعينه بالضرورة ما دامت هي صفاته وأحواله، بعد أن قال: إن كل تعيين حد وسلب، ولم يبين بالقياس ضرورة كون الجوهر

_ 1 كتاب الأخلاق م 1 مبدأ 4 , 5.

مفكرًا وممتدًّا، لا سيما أنه بدأ بأن نفى عنه العقل وجعل منه علة ضرورية فحسب, فكيف يصدر العقل بعد ذلك عن لا عقل؟ كما أنه لم يبين أن في الجوهر أو في صفتي الفكر والامتداد ضرورة منطقية للتخصص في أحوال جزئية. لقد أخذ من التجربة ومن ديكارت الصفتين وأحوالهما ثم أضافهما للجوهر إضافة خارجية, فالمنهج القياسي عنده مجرد دعوى، لا سيما أن القضايا التي يطلب تسليمها دون برهان تربو على الأربعين، وتعريفات الجوهر والصفة والحال غير مترابطة تؤلف ثلاثة مبادئ منفصلة. ج- ومن جهة أخرى لم يتفادَ سبينوزا التفاعل كما أراد, فإنه يقول في الواقع بنوعين من علاقة العلية: علاقة داخلية بين الجوهر والصفات والأحوال, وعلاقة خارجية بين الأحوال بعضها وبعض؛ فكيف نفسر هذه، وكيف نوفق بينها وبين تلك؟ إذا ساغ قبول العلية الخارجية في الأحوال، فلم لا نقبلها في صدور الأحوال أنفسها عن الصفات، فنعود إلى العلية الفاعلية المتعدية إلى خارج؟ ولا سيما أن سبينوزا لم يبين إمكان استنباط الحركة من الامتداد، والحركة هي العامل في تكوين الأجسام الجزئية وتفاعلها. وكان أحد مراسيله كتب إليه أن هذه المشكلة محلولة عند ديكارت بقوله إلى الله خلق المادة متحركة، وسأله عن حلها عنده هو مع اعتقاده مثل ديكارت عدم تضمن فكرة الامتداد لفكرة القوة، فأجاب "في 15 يوليو 1676 " بأن تعريف المادة بأنها امتداد تعريف غير كافٍ وأنه يعتزم بحث المسألة بحثًا أدق وأعمق. ولكنه مرض ولم يعد إليها، ولو كان قد عاد لما كان اهتدى إلى حل, إلا أن يضع المطلوب نفسه وضعًا فيقول: إن المادة امتداد متحرك. د- ومن جهة ثالثة لما محا سبينوزا التمايز الجوهري بين الفكرة الصادقة والفكرة الكاذبة، وقال: إن الفكرة الكاذبة ليست كذلك بذاتها, ولكنها فكرة ناقصة تعتبر كاملة، وأن ليس هناك من ثمة سوى درجات في طلب الحقيقة، انساق إلى محور التمايز الجوهري بين الخير والشر، وإلى القول بأن الشر فكرة ناقصة تعتبر كاملة، وأن ليس هناك سوى درجات في طلب الخير، فأقام مذهبًا لاأخلاقيًّا بالرغم من دعواه، ليس فقط من هذه الوجهة، بل أيضًا من وجهات أخرى، إذ إنه أنكر الحرية والغائية والتمايز بين الممكن والضروري،

على حين أن مفهوم الأخلاق أنها نظام معقول يتعين تحقيقه بالإرادة، وأن تفضيل حياة الضربين الثاني والثالث من ضروب المعرفة يقتضي إرادة وشجاعة ولا يكفي فيه مجرد العلم. وما ذلك الخلود الذي هو معرفة مؤقتة لما هو خالد؟ وما محبة الله في هذا المذهب إلا أن تكون الاغتباط بالذات بمعرفة الكلي الدائم؟ وما الله في مذهب يؤله الطبيعة ولا يعترف بموجود شخصي مفارق لها؟ المذهب كله مليء بألفاظ توهم أن لها مدلولات وهي لا تدل على شيء. أما آراء سبينوزا في الدين فلنا عليها ردود ليس هذا مكانها، وهي تمثل أصدق تمثيل المذهب العقلي الحديث، ولم يزد عليها اللاحقون شيئًا جديدًا، وإن كانت هي في واقع الأمر صدى لآراء سابقة.

الفصل السابع: جوتفريد فيلهلم ليبنتز " 1646 - 1716 "

الفصل السابع: جوتفريد فيلهلم ليبنتز " 1646 - 1716 " 52 - حياته ومصنفاته: أ- ولد بليبزج لأب قانوني وأستاذ للأخلاق بجامعة المدينة, ومنذ حداثته أخذ يقرأ في مكتبة أبيه، فقرأ أولًا قصصًا وتواريخ، ثم كتبًا علمية وفلسفية. والتحق بالجامعة فدرس الفلسفة القديمة بنوع خاص على أستاذ أرسطوطالي هو "توماسيوس" ودرس الفلاسفة المدرسيين فوجد عندهم على حد قوله "تبرًا محبوءًا يأنف المحدثون أن ينقبوا عنه" وأعجب بالقديس توما الإكويني, وكانت رسالته للبكالوريا " 1663 " في المسألة المدرسية المشهور "مبدأ التشخيص". ثم قصد إلى جامعة يينا فدرس بها الرياضيات على رياضي فيلسوف هو "فيجل" فإلى جامعة أندورف حيث درس القانون وحصل على الدكتوراه برسالة موضوعها "مشكلات القانون" فإلى نورمبرج حيث انضم إلى جمعية "روزنكريتزر" نسبة إلى مؤسسها "روزنكريتز" " 1378 " وكانت معنية بالعلوم الخفية، فقرأ كتب الكيميائيين وعين كاتبًا للجمعية, وظل طول حياته شغوفًا بتجارب الكيمياء. ب- وقصد إلى ميانس، وكان قد أهدى إلى أميرها سنة 1667 رسالة يطبق فيها الفلسفة على القانون ليجعله علمًا مضبوطًا واضحًا، وكان قد وضع رسائل أخرى قانونية، فعينه الأمير سنة 1670 مستشارًا بالمجلس الأعلى رغم حداثة سنه. فاشتغل بمشروعات لإصلاح العلم القانوني ومجموعات القوانين، وبالفلسفة والعلم الطبيعي. وبدا له أن يقترح على ملك فرنسا لويس الرابع عشر فتح مصر وتدمير القوة التركية بحجة القضاء على أعداء الثقافة الحديثة، وهو يرمي إلى صرف ملك فرنسا عن ألمانيا التي كانت قد عانت الأهوال من بطش جيوشه. فأرسله الأمير إلى باريس لتلك الغاية " 1672 " ولكنه لم يوفق

إلى تحقيقها. فذهب إلى لندن ومكث بها الثلاثة الأشهر الأولى من سنة 1673 فتعرف إلى علمائها، ثم عاد إلى باريس فكان مقامه بها كثير الخصب, إذ درس الرياضيات على علمائها وفي مصنفات بسكال، ودرس الفلسفة الديكارتية، وقرأ الرسالة اللاهوتية السياسية لسبينوزا، وصنع آلة حاسبة حاكى بها بسكال وجاوزه بأن زاد على الجمع والطرح الضرب والقسمة، بل استخرج بعض الجذور، واستكشف حساب الفوارق " 1676 ". وكتب بهذا الكشف إلى أحد علماء لندن هو "أولدنبرج " فجاء الرد بأن نيوتن وصل إلى نظرية أعم، فعكف ليبنتز على توسيع نظريته حتى أبلغها إلى ما يعادل نظرية نيوتن، فقام بين المكتشفين نقاش حاد على السبق لأيهما كان. وقد كان لنيوتن إذ يرجع اكتشافه إلى سنة 1665؛ غير أن كلا منهما اتجه في اكتشافه وجهة خاصة واتخذ سيرًا خاصًّا، وكان اكتشاف ليبنتز أكثر خصبًا والاثنان مدينان لبحوث الرياضيين السابقين. ج- توفي أمير ميانس، وعرض على ليبنتز منصب أمين مكتبة دوق هانوفر " 1676 " فقبله وغادر باريس إلى لندن حيث أمضى أسبوعًا, وتعرف إلى الرياضي كولنز صديق نيوتن؛ ومنها قصد إلى أمستردام حيث لقي سبينوزا ودارت بينهما أحاديث فلسفية واطلع على كتاب "الأخلاق". وفي آخر ديسمبر انتهى إلى هانوفر، فأقام بها عظيم القدر متصلًا بجميع الأحداث الأوروبية الكبرى، مؤلفًا في تاريخ ألمانيا وفي الفلسفة، محاولًا التوحيد بين الكاثوليكية والبروتستانتية، ثم التوحيد بين الكنائس البروتستانتية المختلفة، مستأنفًا تحريضه على السلطنة العثمانية، ولكن عند بطرس الأكبر قيصر روسيا، وعارضًا عليه مشروعًا واسعًا لإصلاح بلاده, غير أن الحكم تغير في هانوفر، فتضاءل نفوذ ليبنتز رويدا رويدًا حتى انمحى، وانتابه المرض فألزمه مقعده. وكان الشعب، وكان بعض رجال البلاط، يعتبرونه زنديقًا، فإنه على تشبعه بالفكرة الدينية لم يكن يمارس العبادات، إلا فيما ندر؛ وتدلنا مساعيه للتوحيد بين الكنائس على أنه كان أكثر تعلقًا بالدين الطبيعي منه بالدين المنزل، فأنه كان يطلب إلى الكنائس النزول عن بعض العقائد أو تعديل بعضها الآخر كأنها عديمة القيمة في ذاتها. ولما حضرته الوفاة أبى أن يستدعي أحدًا من رجال الدين, فلم يمش وراء نعشه سوى كاتبه، ودفن "كقاطع طريق, لا كرجل كان زينة

وطنه". ولم تؤبنه جمعية العلوم ببرلين التي صارت أكاديمية برلين فيما بعد, وكان هو مؤسسها ورئيسها الأول " 1700 " ولم تؤبنه الجمعية الملكية بلندن، وكانت ناقمة عليه مناقشته نيوتن؛ وانفردت بتأبينه أكاديمية العلوم بباريس بلسان كاتبها الدائم فونتنل 1 في خطاب مشهور " 1717 ". د- لم يتم بعد إحصاء كتبه ورسائله إلى علماء عصره لوفرتها وتفرقها, والمطبوع منها لا يذكر إلى جانب المخطوط. ولكن يمكن أن يقال: إن الكتب المطبوعة هي الأهم لأنها المتأخرة التامة، وإن الكتب السابقة عبارة عن محاولات. وكان معظم كتابته بالفرنسية واللاتينية؛ لأن الألمانية لم تكن شائعة في أوروبا. وأهم ما يهم الفلسفة الكتب الآتية: "تأملات في المعرفة والحقيقة والمعاني" " 1684 "؛ و"مقال فيما بعد الطبيعة" " 1686 " عرض فيه مذهبه لأول مرة؛ و"مذهب جديد في الطبيعة واتصال الجواهر" " 1695 " هو عرض ثانٍ للمذهب. ولما ظهر كتاب جون لوك "محاولة في الفهم الإنساني" " 1690 " بعث إليه بملاحظات " 1696 " عاد إليها وألف كتابًا ضخمًا أسماه "محاولات جديدة في الفهم الإنساني" " 1701 - 1709 " وتعقب فيه بالنقد كتاب لوك فصلا فصلا؛ ولكن لوك كان قد توفي، فرأى ليبنتز أن يحتفظ بكتابه، فلم ينشر إلا بعد وفاته بنصف قرن " 1765 ". وكانت تلميذته ملكة بروسيا طلبت إليه أن يرد عل بيل 2 في العلاقة بين الشر والحرية من جهة وعدالة الله

_ 1 فونتنل " 1657 - 1757 " أشهر طائفة من المثقفين تجاهلوا ميتافيزيقا ديكارت وأخذوا بعلمه الآلي وقاعدته القائلة: "لا أسلم إلا لما يبدو لي جليا" واستخدموها أداة لنقد الدين، فمهدوا لفلسفة القرن الثامن عشر. له كتاب بعنوان "أحاديث في كثرة العوالم" " 1686 " يستدل بنظرية كوبرنك على غرور الإنسان القديم الذي وضع نفسه في مركز الكون، ويذهب إلى أن علمنا نسبي، وكتاب "تاريخ النبوءات" ينكرها جميعًا، ويبرز وجوه شبه بين المسيحية والوثنية تحمل على تطبيق انتقاداتنا للوثنية على المسيحية، ورسالة في "أصل الأساطير" تردها إلى جهل الإنسانية الأولى وتخيلها الخوارق، وترى في هذا التاريخ تاريخ أخطاء العقل الإنساني. 2 بيير بيل " 1647 - 1706 " أعجبه من ديكارت إعلانه الحق في التفكير بحرية دون الرجوع لغير المعاني الجلية. جمع معلومات كثيرة استخدمها لبيان بطلان دعوى التوفيق بالعقل بين الآراء الإنسانية، وقال بالشك، ونقد المذاهب، وتشكك في المعجزات وسائر العقائد، ولم ير علاقة ضرورية بين الأخلاق والدين، وأنكر حرية الاختيار، وأشاد بالتسامح الذي هو في الحقيقة عدم المبالاة بالدين، وحشد الاعتراضات المستمدة من وجود الشر في العالم, فأنكر العناية الإلهية. مؤلفه المشهور "المعجم التاريخي النقدي" " 1697 " يعد كنانة نقاد الدين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر.

وقدرته من جهة أخرى، فدوّن كتابًا آخر ضخمًا أسماه "محاولات في العدالة الإلهية" " 1710 " ودل على لفظ العدالة الإلهية بلفظ مركب من اليونانية هو Theodicee فبقي هذا اللفظ للدلالة على الإلهيات الطبيعية، وأخيرًا عرض مذهبه مرة ثالثة في رسالة قصيرة لأحد الأمراء بعنوان "المونادولوجيا" " 1714 ". وهذه الكتب هي التي يرجع إليها بنوع خاص لبيان فلسفته. 53 - منهجه: أ- عرف ليبنتز منهجه ومذهبه في عبارة مأثورة تدلنا على سعة ثقافته وعمق تفكيره، قال: "لقد تأثرت بمذهب جديد, ومنذ ذلك الحين أظنني أرى وجهًا جديدًا لباطن الأشياء. هذا المذهب يبدو جامعًا أفلاطون إلى ديمقريطس، وأرسطو إلى ديكارت، والمدرسيين إلى المحدثين، واللاهوت والأخلاق إلى العقل. ويلوح أنه يأخذ الأفضل من كل صوب، ثم يمضي إلى أبعد مما مضوا للآن. وإذا التفتنا إلى آثار الحقيقة هذه عند القدماء, استخرجنا التبر من التراب, والماس من المنجم، والنور من الظلمات، وأقمنا فلسفة دائمة". هذه الفلسفة تضم طرفًا من كل مذهب، وتوفق بين الأضداد توفيقًا مبتكرًا. والأضداد كثيرة: الكلي والجزئي، الممكن والموجود، المنطقي والميتافيزيقي، الرياضي والطبيعي، الآلية والغائية, المادة والروح، الحس والعقل، تضامن الأشياء وفاعلية كل منها، ترابط العلل والحرية الإنسانية، العناية الإلهية والشر، الفلسفة والدين. لقد بانت هذه الأضداد متنافرة متباعدة حتى لم ير من سبيل أمام الفكر سوى الاختيار بينها والميل إلى جانب دون آخر؛ غير أن "كثرة الفرق على حق في كثير مما تثبت، لا فيما تنفي"؛ ويدلنا التاريخ على تعاون متصل بين الأجيال، فقد حصل الشرقيون على أفكار جميلة جليلة في الإلهيات، واكتشف اليونان المنهج الاستدلالي وشكل العلم، ونبذ آباء الكنيسة ما كان رديئًا في الفلسفة اليونانية، وحاول المدرسيون أن يستخدموا لصالح المسيحية ما كان معقولًا في فلسفة الوثنيين، وجاءت فلسفة ديكارت بمثابة الرواق المؤدي إلى الحقيقة. ب- وقد برزت هذه النزعة عند ليبنتز مذ كان يدرس الرياضيات

بجامعة يينا إذ استوقفته التأليفات الرياضية، فخطر له أن يبحث عن قوانين تأليفات مماثلة لأجل الفلسفة، يعني أن يستخلص المعاني البسيطة الأولية ويرمز لها بإشارات تكون بمثابة ألف باء الفكر، ثم يعين جميع التأليفات الممكنة لهذه الأوليات ويرمز لها بإشارات، وذلك على مثال تعيين الأضرب الممكنة للقياس الاقتراني، وحينئذ يستطاع بالحساب وحده البرهنة على صدق أي قضية، بل الاهتداء إلى قضايا جديدة، وتكوين "لغة كلية" من الإشارات جميعًا أو "علم الخصائص الكلي" يكون في آن واحد منطقًا ودائرة معارف وأجرومية. وقد وضع ليبنتز في ذلك "رسالة في فن التأليف" " 1666 " تحتوي على أصول اختراعه حساب الفوارق. وشغل طول حياته بمشروع لغة فلسفية دون أن يصل إلى نتائج مفيدة. ج- على أنه سيظل يعتبر المعرفة الحقة البرهان اللمي كما هو بادٍ في الرياضيات, ولا يتيسر هذا البرهان إلا بتحليل المركب إلى العناصر البسيطة لاتخاذها مبادئ, فما هي مبادئ الفلسفة؟ لقد اقتصر سبينوزا على مبدأ عدم التناقض، ولكن هذا المبدأ يهيمن على الرياضيات والممكنات المعقولة، ولا يفيد في تفسير تحقيق ممكنات معينة دون غيرها؛ فلا بد من مبدأ آخر لتعليل الوجود الواقعي، هو مبدأ السبب الكافي، أي: إن ما يوجد فإنما يوجد عن سبب كافٍ، وهذا مبدأ خاص بالفلسفة "ولا بد أن يكون هذا الفرق بين الممكن والواجب هو الذي صرف ليبنتز عن وضع أصول اللغة الفلسفية الكلية". وإلى مبدأ السبب الكافي يرجع مبدآن آخران هما صيغتان جزئيتان له: أحدهما مبدأ الاتصال، ومؤداه أن الانتقال متصل في الطبيعة بلا طفرة، بحيث لا تنشأ الحركة من السكون مباشرة ولا تنتهي إليه مباشرة، بل تبدأ بحركة أدق، وتنتهي إلى حركة أدق، بحيث لا نفرغ من عبور أي خط قبل أن نعبر خطا أصغر، وهذا المبدأ مثال بارز لتأثير الرياضية في الفلسفة، فإنه ترجمة فلسفية للانهاية الرياضية، وله شأن كبير في مذهب ليبنتز كما سنرى، والمبدأ الجزئي الآخر يسمى مبدأ اللامتمايزات، ومؤداه أن شيئين جزئيين لا يمكن أن يتشابها تمام المشابهة وإلا لم يتمايزا، بل يجب أن يفترقا بفارق كيفي ذاتي مطلق فوق افتراقهما بالعدد.

د- ومن شأن مبدأ اللامتمايزات أن يجعلنا نفرق بين المعنى الواضح الذي يسمح بتمييز شيء من آخر، ويقابله المعنى الغامض، وبين المعنى المميز الذي هو معرفة تفاصيل الشيء، وإذا كان الشيء مركبًا، معرفة خصائص كل جزء من أجزائه، ويقابله المعنى المختلط. وعلى ذلك يمكن أن يكون المعنى واضحًا دون أن يكون متميزًا، فمعنى اللون مثلا واضح جدًّا، ولكني حين أتصوره لا أتبين عناصر اللون؛ والعلامات الجبرية واضحة، ولكني لا أتصور مدلولاتها فالمعنى المتميز دون سواه يعبر عن باطن الشيء, ويستحق اسم المعرفة الميتافيزيقية. وكان ديكارت قد جعل من "الوضوح" علامة الحقيقة، واعتبر التميز مصاحبًا له بالطبع، إن لم يعتبره مرادفًا له؛ ولكن يجب أن نضع بينهما الفرق الحاسم المتقدم، وأن نضع نوعين من المعرفة لم يميز بينهما ديكارت، وهما المعرفة الرمزية أو العمياء وهي واضحة ولكنها مختلطة، والمعرفة الحدسية وهي وحدها المتميزة إطلاقًا. وستتبين هذه المبادئ والقواعد بما في المذهب من تطبيقات لها. 54 - نقد المذهب الآلي: أ- يخبرنا ليبنتز أنه أخذ أول أمره بنظرية الصور الجوهرية كما قال بها أرسطو والمدرسيون، ثم بدا له أن هذه الصورة لا توجد إلا في العقل، ولا تصلح مبادئ لتفسير الأشياء، فانتقل إلى الآلية، فلما فحص عن أسسها وعن قوانين الحركة، وجد الآلية ناقصة، فعاد إلى الصور الجوهرية، ولكن على نحو خاص به. وهو يبين نقص المذهب الآلي بنقد صورتيه المعروفتين، وهما نظرية ديكارت ونظرية ديموقريطس. الأولى تعتبر المادة متصلة, ويمكن تسميتها بالآلية الهندسية، والأخرى تعتبر المادة منفصلة، ويمكن تسميتها بالآلية الحسابية. ب- يرى ديكارت أن الامتداد ماهية الجسم, ويجعل من الجسم شيئًا منفعلًا فحسب، ولكن هذا الرأي لا يفسر "قصور" الجسم أي: مقاومة المادة للحركة، فإن الجسم الكبير أصعب تحريكا من الصغير، والجسم المتحرك لا يحرك إذا حرك آخر ساكنًا إلا ويفقد بعض حركته من جراء مقاومة الآخر. ثم إن هذا الرأي لا يفسر بين الجسم المتحرك معتبرًا في نقطة من خط سيره وبين الجسم الساكن إذ لا يمكن إثبات اتصال الحركة إلا بوساطة فكرة القوة أو الميل،

ولولا هذه الفكرة لعادت الحركة عبارة عن سلسلة سكونات, وكيف يستطيع ديكارت أن يفترض بقاء كمية الحركة هي هي في الطبيعة مع قوله بانتقال من الحركة إلى السكون وبالعكس، فإن مثل هذا الانتقال عبارة عن تلاشي حركة وخلق أخرى. وعلى ذلك تقوم ماهية الجسم في القوة، وهي علة الحركة، وتظل باقية حتى ولو وقفت الحركة: "إنها ما في الحالة الراهنة يحمل تغيرًا مستقبلًا". وفكرة القوة فكرة ميتافيزيقية تجاوز نطاق العلم الطبيعي, ونطاق الآلية. ج- أما ديموقريطس فيقول بجواهر فردة يفصل بينها خلاء, ولكن الجوهر الفرد لا يمكن أن يكون وحدة بمعنى الكلمة أي: جوهرًا حقًّا، فإن كل جسم مهما افترضناه صغيرًا فهو ممتد، وكل امتداد فهو منقسم أي: إنه مجموع جواهر. وإذن فالمادة كثرة بحتة، وما الجواهر الفردة المادية إلا أثر لضعف مخيلتنا التي تحب أن تسكن وتتعجل الوصول إلى نهاية في التقسيم والتحليل. والكثرة كثرة وحدات بمعنى الكلمة؛ وليس من وحدة بمعنى الكلمة إلا وحدة الموجود اللامادي غير المنقسم. فيجب القول بأن الكثرة تقوم في وحدات لامادية، في "جواهر فردة صورية" أو "نقط ميتافيزيقية". وهي محكمة أي: غير منقسمة، ووجودية في نفس الوقت؛ فهي وسط بين الجوهر الفرد المادي الذي هو وجودي وغير محكم، وبين النقطة الرياضية التي هي محكمة وغير وجودية. وبذا نبلغ إلى الميتافيزيقا من هذه الناحية أيضًا, نبلغ إلى فكرة الوحدة الصورية فنحصل على فكرة متميزة عن وجود الجسم بعد أن بلغنا إلى فكرة القوة وحصلنا على فكرة متميزة عن ماهية الجسم. فنكون قد بلغنا بامتحان صورتي الآلية إلى نتيجة واحدة هي أن الموجود وحدة قوة. د- ولنا أن نقول: إن ليبنتز على صواب في نقده للمذهب الآلي وفي ثبات القوة والوحدة للجسم، وإنه على خطأ في نفي الامتداد. وإنما كانت مهمة نظرية الصورة الجوهرية عند أرسطو تفسير القوة والوحدة في الجسم مع بقاء الامتداد. ولكن ليبنتز اعتقد أن قبول الامتداد للقسمة إلى غير نهاية معناه أن الامتداد منقسم بالفعل إلى غير نهاية, وهذا غلط وقع فيه زينون الأيلي وانخدع به كثير من الفلاسفة من بعده. وعلى هذا الأساس بنى ليبنتز فلسفته, فلنمض معه إلى غايتها.

55 - الجوهر أو المونادا: أ- الجوهر الواحد بوحدة تامة خليق باسم مطابق له, وهذا ما حمل ليبنتز، بعد أن قال "الجوهر" على أن يقول "مونادا" " 1696 ". واللفظ يوناني الأصل معناه الوحدة، وقد أخذه عن جوردانو برونوا أو أحد الكيميائيين من معاصريه. وكان قد ظهر بلندن سنة 1672 كتاب لطبيب فيلسوف اسمه فرنسيس جليسون، فيه نظرية مماثلة لنظرية ليبنتز؛ فهل عرفه أثناء إقامته بلندن وتأثر به؟ لا ندري. ومهما يكن من هذه النقطة، فإن المونادا عنده قوة متجهة إلى الفعل بذاتها، حاصلة على التلقائية، فلا تفعل بتحريك محرك مغاير كما هو الحال في المادة, في رأي أرسطو والمدرسيين وديموقريطس وديكارت، فإن التأثير الخارجي اصطدام جزء بجزء وليس للمونادا أجزاء. وهذه القوة وسط بين القوة والفعل كما عرفهما أرسطو, مثلها مثل حبل مشدود إلى جسم ثقيل، أو قوس مشدودة؛ هي فعل كامن، وجهد مستمر يتجه إلى الفعل التام. فحالاتها كلها باطنة، يتولد بعضها من بعض بحيث يكون حاضرها حافظًا لماضيها, مثقلًا بمستقبلها. ويلزم من ذلك أنها حياة ونزوع -وبذا تقوم قوتها- وأنها حاصلة على ضرب من الإدراك -وبذا تقوم وحدتها- وأنه يجب من ثمة تصورها على مثال النفس، والنفس هي القوة الوحيدة التي ندركها في ذاتها كما يجب القول بأن كل مونادا فهي حاصلة على خصائص ذاتية تتشخص بها تبعًا لمبدأ اللامتمايزات، وإلا لم تتمايز فيما بينها. وهكذا نتصور من باطن، أي: بالانعكاس على نفسنا، ما قادنا إليه تحليل الظواهر الخارجية، ونعلم أن الآلية والميتافيزيقا على حق, كل في دائرة. الآلية هي الظاهر والسطح، والمونادا هي الباطن والصميم. فكل ما يحدث يحدث آليا وميتافيزيقيا معًا، وليس في الطبيعة جماد أو قصور، بل كل موجود فهو حي؛ وليس بين الموجودات من تفاوت في الحياة إلا بالدرجة، تبعًا لمبدأ الاتصال الذي يستبعد الانتقال الفجائي. وهذا التفاوت بالدرجة هو بحسب درجة تميز الإدراك والدرجات أربع هي: مطلق الحي أي: ما يسمى جمادًا والنبات، فالحيوان، فالإنسان، فأرواح بعضها فوق بعض إلى غير نهاية. والفرق بين ما يسمى

جسمًا وبين الموجود المقول: إنه ذو نفس، أن الجهد والفعل في هذا يحفظان في الشعور والذاكرة، في حين أن الشعور والذاكرة لا يوجدان في ذاك إلا حال الفعل: "فكل جسم روح مؤقت، أي: عادم الذاكرة". ب- ولما كانت المونادات بسيطة فيمتنع أن تبدأ ابتداء طبيعيا وأن تنتهي انتهاء طبيعيا، فإن الكون والفساد الطبيعيين يقومان في تركيب أجزاء, وانحلال أجزاء. وعلى ذلك فبداية المونادات خلق بالضرورة، ونهايتها إعدام. غير أن الله لا يعدم مخلوقًا، فالمونادات خالدة، وما يبدو للحس كونًا وفسادًا عبارة عن نمو يجعل الحي منظورًا، ونقصان إلى ما لانهاية يجعله غير منظور. وليست تصل النفس الإنسانية في خلودها إلى سعادة مطلقة، ولكنها تتدرج في الكمال والسعادة إلى غير نهاية، كما يقضي مبدأ الاتصال، وتبعًا لهذا المبدأ أيضًا يجب التسليم بأن المونادات لامتناهية العدد؛ يدل على ذلك من الجهة الواحدة أن المادة منقسمة إلى غير نهاية, وأن تركيبها يستلزم من ثمة عناصر لامتناهية؛ ومن الجهة الأخرى أن المونادات محاكيات للذات الإلهية، والذات الإلهية تحاكى على أوجه لامتناهية، فهناك عدد لامتناهٍ من درجات الوجود. ج- ماذا تدرك المونادات؟ إنها تدرك العالم أجمع؛ لأنها محاكيات للذات الإلهية كما تقدم، وكل منها مرآة للوجود لأنه لما كانت الأشياء متصلة فليس يمكن إدراك جزء دون إدراك الكل. غير أن كل مونادا تدرك العالم من وجهة خاصة بها, فإن لها مجال إدراك متميز ولا تدرك ما يجاوزه إلا إدراكًا مختلطًا، بحيث يقابل الإدراكات المتميزة في مونادا معينة إدراكات مختلطة في المونادات الأخرى، والعكس بالعكس، والإدراك المتميز في مونادا معينة هو "نشر" الإدراك المختلط المقابل له وجلاؤه، والإدراك المختلط "طي" الإدراك المتميز أو إجماله. فالإدراك يحتمل درجات بحسب مبلغ تميزه: تحت الإدراك المتميز والمعلوم بالشعور aperception يوجد إدراك ضعيف غير واقع في الشعور perception لم يعده الديكارتيون شيئًا مذكورًا ولكنه موجود حقا. يدل على وجوده أولًا أن النفس لا يمكن أن تكون غير فاعلة وقتًا ما، ولما كان

الإدراك فعلها كانت تدرك دائمًا بالضرورة، ولكننا لا نشعر دائمًا أننا ندرك، فيلزم أن يكون فينا إدراكات غير مشعور بها. ثانيًا أن هناك ظواهر لا تعلل بغير التسليم بمثل هذه الإدراكات, كصوت الأمواج، فإنه صوت مجموعي يتضمن الأصوات الصغيرة المؤلف منها؛ وكالأفعال التي تبدو غير معقولة، فإنها تعلل بإحساسات ضعيفة غير مشعور بها آتية من داخل الجسم أو من الخارج، وهذا يدل على أن شيئًا واحدًا بعينه يمكن أن يتصور على أنحاء لامتناهية من حيث إن هناك درجات لامتناهية في التصور المتميز؛ ويدل على أن عدد المونادات لامتناهٍ. د- لما كانت المونادات مستقلة بعضها عن بعض تتغير من الداخل فتتولد حالاتها بعضها من بعض, كما سبق القول, وجب تفسير توافق حالاتها. ولا يفسر هذا التوافق إلا بافتراض خالق منسق "وهذا دليل إني على وجود الله" والقول بأن الله لما خلق النفس والجسم "أي: ما يبدو جسمًا" وضع فيهما قوانينهما بحيث يتوافقان، أي: إن الجسم يوجد معدا بذاته للفعل في الوقت الذي تريد النفس وعلى النحو الذي تريد، وإن النفس تحصل بذاتها على الإدراكات المقابلة لاستعداد جسمها، فيتلاقى الفعلان بموجب "تناسق سابق" مثلهما مثل ساعتين وفق الصانع بينهما فظلتا متوافقتين دون تفاعل. وقد يقال: إذا كان كل شيء يجري في النفس كأن ليس هناك سوى النفس والله، فلم قرن الله الجسم بالنفس؟ أليس الجسم عديم الفائدة؟ فيجيب ليبنتز أن هذا الاعترض صادر من مبدأ الاقتصاد في العمل moindre action وهو مبدأ سليم، ولكن هناك مبدأ آخر هو مبدأ الأحسن أو مبدأ العلل الغائية، وبمقتضاه وجب أن يخلق الله أكبر عدد من الجواهر الممكنة، وأن يجعل تغيرات النفس مقابلة لشيء في الخارج, على أنه يمكن القول: إن الجواهر تتفاعل، بشرط أن يُقصَد بذلك تأثير معنوي باطن شبيه بالتأثير الحقيقي من حيث المعلولات، فيكون معنى الفعل والانفعال أن المونادا تفعل من حيث هي حاصلة على كمال، وأنها تنفعل من حيث هي ناقصة، أو أن مونادا معينة هي أكمل من أخرى متى كان فيها علة ما يجري في الأخرى، أي: متى كانت حاصلة على أفكار متميزة هي في الأخرى مختلطة.

هـ- هكذا رأى ليبنتز أن يحل مسألة اتحاد النفس والجسم وتفاعلهما، وكانت قد شغلت ديكارت فذهب إلى أن النفس تتلقى حركات الجسم فتعدل اتجاه هذه الحركات "إذ كان مفهومًا عنده أن كمية الحركة في العالم باقية كما هي, وأن النفس من ثمة لا تخلق حركة"؛ ولكن ليبنتز يعترض عليه بأنه إذا كان من غير المعقول أن تعطي النفس الجسم حركة، فمن غير المعقول أن تستطيع التغير في اتجاه الحركة؛ لأن مثل هذا التغيير لا يتيسر إلا بزيادة كمية الحركة أو إنقاصها. وذهب مالبرانش إلى أن الله هو الذي يحدث ما يقع للنفس والجسم من حركات بعضها بمناسبة بعض، وليبنتز يتفق معه في إنكار تفاعل الجواهر، ويوجه إلى رأيه انتقادين فيقول: إنه يرجع الظواهر إلى علة عامة بدل أن يعين عللها القريبة، وإنه يلجأ إلى الله لجوء اليائس أي: إلى معجزة متصلة، على حين أن نظرية سبق التناسق إن لجأت إلى الله، فالله فيها علة مباشرة للجواهر فحسب لا للظواهر، إذ إنه يخلق جواهر فاعلة بالطبع بموجب قوانين ذاتية, ولا يحل هو محلها بمعجزة متصلة. وهنا نلمس أهمية مسألة اتحاد النفس والجسم، وتطورها من ديكارت إلى ليبنتز بعد مالبرانش وسبينوزا، وأثرها في تفاعل الموجودات إجمالًا، بل في مبدأ العلية نفسه، إذ إننا لو أنكرنا تفاعل الموجودات وهو ماثل للعيان لم يبق لدينا ما يختم الاعتقاد بالعلية. وكيف يفسر تصورنا لعالم خارجي في هذه الفلسفة؟ من البين أن العالم لا يمكن أن يكون فيها إلا ظاهريا أي: مجموعة ظواهر من حيث إن المونادات جميعًا لامادية. فالمادية هي الموجود منظورًا إليه من خارج، هي إحالة النسبة الميتافيزيقية بين وسيلة وغاية نسبة كمية بين أجزاء, ذلك بأنه يوجد في كل مونادا إدراك مختلط إلى جانب الإدراك المتميز، وهذا الإدراك المختلط لما بين الأشياء من نسب منطقية هو الذي يعطيها في نظرنا ظاهرا أشياء قاتمة في المكان والزمان. والجسم مجموعة مونادات ترأسها مونادا مركزية هي بالإضافة إليه كنفسنا بالإضافة إلى جسمنا, أو هو مجموعة إدراكات مختلطة, وما من إدراك متميز إلا وينطوي على إدراكات دنيا لا نهاية لها؛ وما الجسم الآلي آخر الأمر إلا صنع الفكر يؤلف بين إدراكاته، فليس للجسم وحدة حقة، وإنما وحدته آتية من إدراكنا، فهو موجود خيالي أو ظاهري. فالنفس

وحدة الجسم, والجسم وجهة نظر النفس. وما المكان إلا "نظام الأوضاع" ينشأ حين ندرك عدة ظواهر في وقت واحد؛ وما الزمان إلا "نظام المواقف المتعاقبة" فليس المكان والزمان شيئين متمايزين من المونادات وسابقين عليها، كما يتوهم نيوتن وأتباعه. ولكن إذا كان العالم الخارجي ظاهريًّا، فما الفرق بينه وبين رؤى الأحلام؟ الفرق أن الإحساس أقوى وأدق من الرؤيا، وأن الأجسام التي تبدو فيها المونادات هي ظواهر لها أصل ومرتبطة بعضها ببعض بعلاقات ثابتة, أو قوانين كلية تسمح لنا بتوقع ظاهرة بعد أخرى فيتحقق توقعنا، بينما صور الأحلام مجرد ظواهر لا أصل لها, على أن اليقين بهذه العلامات أدبي لا ميتافيزيقي. ز- التمييز بين الظواهر الحادثة والقوانين الكلية يثير مسألة أصل المعرفة وقيمتها. يريد لوك أن تكون جميع معارفنا وليدة التجربة، ولكن في النفس معارف ليست آتية عن طريق الحواس، هي المبادئ الضرورية والحقائق الكلية. إننا نطبق عفوًا مبادئ لا ندركها إدراكًا صريحًا إلا فيما بعد، وننكر التناقض ولو لم نسمع قط بمبدأ عدم التناقض. وعلى هذا لا تكون النفس لوحًا مصقولًا، بل تكون حاصلة على معارف غريزية أو فطرية. يعترض لوك قائلًا: لا إدراك بدون شعور، فتكون المبادئ الغريزية معارف غير معروفة، وهذا خلف. ولكن ليس من البين بذاته أنه لا إدراك بدون شعور, إن بين القوة الصرف والفعل التام حالة وسطى هي حالة الكمون تسمح لنا بالقول بأن المبادئ موجودة في النفس ولو لم يصاحبها شعور، كعروق الرخام ترسم ملامح التمثال قبل تحققه. فإذا قلنا مع لوك: "ليس" في العقل شيء إلا وقد سبق في الحس, وجب أن نستدرك فنقول: "إلا العقل نفسه". على أن طبيعة المونادا تقضي بأن تكون جميع معارفنا باطنة، إذ ليس للمونادا نوافذ تنفذ منها صور الأشياء، وليست المونادا كالشمع تنطبع عليها صور الأشياء. إنها موجود متميز متشخص، فلا يمكن اعتبارها خالية بادئ ذي بدء، وإلا لم تتميز من غيرها، تبعًا لمبدأ اللامتمايزات. إن وجودها المتميز بجب أن يقوم في شيء باطن هو مجموع استعداداتها للفعل. فالمونادا تتدرج باطراد من إدراكات غامضة إلى إدراكات واضحة فإلى إدراكات متميزة. بهذا المعنى يصح القول بأن التجربة شرط ظهور الكامنات في النفس

وتطبيقها، كما هو الحال عند أفلاطون؛ أي: بمعنى أن التجربة مجموع المعارف الحادثة العارضة للنفس من ذاتها، بينما نعني بالعقل مجموع المبادئ الضرورية, والحقائق الكلية اللازمة منها. ج- ومتى كانت المونادا مشتملة منذ الأصل على استعدادات للفعل، كما يقضي مبدأ اللامتمايزات ويقضي سبق التناسق، لزم أن جميع أفعالها صادرة عنها، وأن هذا معنى الحرية. إن وجود الإرادة في حال توازن تام تفعل بعده بحرية، وجود غير معقول وغير ممكن. أما أنه غير معقول فلأن مبدأ اللامتمايزات يحول دون المساواة التامة في الطبيعة. فالفوارق موجودة ولو لم نشعر بها، وفي النفس إدراكات كثيرة غير مشعور بها. وأما أن التوازن التام غير ممكن؛ فلأن نتيجة عدم الفعل، لا الفعل من حيث إن الفاعل لا يجد سببًا يميل به إلى جهة دون أخرى، كما يروى عن حمار بوريدان 1. فالحرية "جبرية نفسية" خاضعة لمبدأ السبب الكافي الذي يعني أن الفاعل المختار هو الأحسن؛ وهو سبب أدنى يحتل مكانًا وسطًا بين الحرية العمياء التي نجدها عند ديكارت والجبر الذي نجده عند سبينوزا, لا مجال عند ديكارت لغير الحادث، ولا مجال عند سبينوزا لغير الضروري، ولكن القضية الضرورية هي التي محمولها متضمن في مفهوم موضوعها، أو التي ترد إلى مثل هذه القضية, فنقيضها يتضمن تناقضًا؛ والقضية الممكنة أو التجريبية هي التي لا يتضمن نقيضها تناقضًا ولا ضرورة لها. فالفعل الحر فعل ممكن من بين أفعال أخرى ممكنة. وما الشعور بالحرية الذي يعتمد عليه ديكارت، إلا عدم الشعور بأسباب الفعل, وكثيرًا ما تكون هذه الأسباب دقيقة غير مشعور بها؛ مثلنا في ذلك مثل الإبرة الممغنطة، لو كان لها شعور لتوهمت أنها حرة في اتجاهها صوب الشمال؛ لعدم إدراكها الحركات غير المحسوسة في المادة المغناطيسية. ط- الحقيقة أن لا فرق بين الإمكان الذي يقول به ليبنتز وبين الضرورة التي يقول بها سبينوزا، فإن ممكنًا واحدًا بعينه من بين الممكنات كان محتومًا بمقتضى مبدأ اللامتمايزات ومبدأ سبق التناسق، فيكون حكمه حكم الضروري؛ وليبنتز يقول: "من الثابت أن لكل حمل بمعنى الكلمة أساسًا في طبيعة الأشياء, وحين لا يكون محمول القضية متضمنًا صراحة في الموضوع، يجب أن يكون

_ 1 انظر كتابنا "تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط" ص 249.

كامنًا فيه، إذ إن طبيعة الجوهر الشخصي أو الموجود التام هي أن تكون فكرته تامة بحيث تكفي لأن نفهم منها ونستنبط جميع محمولات الموضوع المضافة إليه هذه الفكرة 1 ". فهو يضع المحمولات العرضية والمحمولات الذاتية على قدم المساواة، ولا يحسب حسابًا للقوة التي هي إلى الضدين؛ لأنه رمى إلى المعقولية الكلية وأراد أن تكون كل قضية صادقة قابلة لبرهنة قياسية، وبهذا الاعتبار تتحول القضية الممكنة إلى ضرورية ما دام صدقها يلزم من إدراك حديها. وما جدوى قول ليبنتز: إن الحدين الأولين لا يجتمعان إلا بتحليل لا نهاية له غير ميسور إلا للعقل الإلهي، ما داما يجتمعان على كل حال؟ إن ليبنتز يقف نفس موقف سبينوزا, ففكرة الجوهر عندهما واحدة، وهي أن الجوهر ينطوي على كل ما يتحتم أن يقع له، مع هذا الفارق وهو أن الجوهر الأوحد عند سبينوزا يتجزأ عند ليبنتز إلى عدد لامتناهٍ من الجواهر الجزئية كل منها يمثل الوجود أجمع، دون أن يبرر ليبنتز خروجه من الأنا إلى جواهر أخرى؛ وما حاجته إليها والأنا حاوٍ لجميع التصورات؟ أجل, إنه يقول: إن المونادا تصادف عقبات تعوق تصورها، فتضيفها إلى مونادات أخرى؛ ولكن المونادات لا تتفاعل، فلم لا يقول بمونادا واحدة تحاول أن تستوضح جميع وجهات الوجود؟ ولو أنه التزم التصورية لكان اقتصر على جوهر واحد هو الأنا المتصور, وهكذا سيفعل مواطنه فختي. 56 - الله: أ- فوق المونادات المتناهية توجد المونادا العظمى اللامتناهية أو الله, ووجود الله ثابت بأدلة إنية ودليل لمي. أما الأدلة الإنية فثلاثة: الأول سبق التناسق، وقد مر الكلام عنه. الثاني يؤخذ من اعتبار المونادات ماهيات، ومؤداه أن مبدأ الاتصال يأبى الانتقال الفجائي، وإذن فليست تنتقل المونادات من العدم إلى الوجود انتقالًا فجائيًّا، ولكن الممكنات موجودات لامتناهية في الصغر، موجودة في ذات هي الذات الإلهية، وتحاول أن تتحقق وتتعارض في محاولاتها، فلا بد من علة ترفع العائق من سبيل البعض الذي يتحقق،

_ 1 "مقال فيما بعد الطبيعة" فقرة 13.

إذ ليس بصحيح ما زعمه سبينوزا من أن جميع الممكنات تتحقق، فإنها متعارضة متنافرة لا تلتئم في نظام واحد. وحتى لو سلمنا بتحقيقها جميعًا للزم أنها تتصارع, وأن بعضها يتغلب فيبقى الغالب فقط. والدليل الثالث يؤخذ من المتجانسات التي لا يلحقها تعارض؛ ذلك بأن مبادئ الأشياء الحادثة، وهي الزمان والمكان والمادة، متجانسة تحتمل كل تعيين فليست تقتضي المادة بذاتها الحركة دون السكون، ولا حركة معينة دون أخرى، فلا بد من علة تختار وتحقق وتكون موجودًا ضروريًّا ينطوي على علة وجوده. ب- وأما الدليل اللمي فهو دليل القديس أنسلم على هذه الصورة: يجب التمهيد له ببيان أن الله ممكن، أي: إن فكرة الله لا تتضمن تناقضًا، فيصير الدليل هكذا: "إن الله واجب بموجب ماهيته، فإذا كان الله ممكنًا كان موجودًا". والله ممكن، فإنه الموجود اللامتناهي، وليس يوجد فيه ولا خارجًا عنه ما يحد من ماهيته: أما فيه فصفات لامتناهية مؤتلفة في بساطة تامة، ولا تناقض إلا في المركب من عناصر متنافرة؛ وأما خارجًا عنه فليس يوجد شيء مكافئ له. ففكرة الله لا تتضمن تناقضًا، فالله ممكن, والممكن -كما سبق القول- يقتضي الوجود أو يميل بذاته إلى الوجود بقدر ما فيه من كمال، ولما كان الله غير متناه، فليس يعترض ميله إلى الوجود شيء مغاير له, كما تتعارض الماهيات المتناهية؛ لذا يذهب ميله بذاته إلى الوجود. فالممكن الذي هو الله موجود بمحض كونه ممكنًا، والإمكان والوجود شيء واحد فيه. ج- الله خالق المونادات: "إن الله، إذ يدير -إن جاز هذا التعبير- على جميع الجهات وجميع الأنحاء النظام الكلي للظواهر, الذي يرى من الخير أن يحدثه ليعلن مجده، وإذ ينظر إلى جميع وجوه العالم على جميع الأنحاء الممكنة, من حيث أن ليس هناك من علاقة تغيب عن علمه الكلي، فنتيجة كل نظرة إلى العالم من جهة معينة جوهر يعبر عن العالم طبقًا لهذه النظرة". والله حافظ المونادات, لقد ظن ديكارت أن ليس بين آنات الزمان ارتباط ضروري، فاعتبر الحفظ خلقًا متجددًا، ولكن الخلق ينقل المخلوق من الإمكان إلى الوجود والحفظ يحفظ عليه الوجود المستمر؛ لأن المخلوق متعلق بالعلية الإلهية على

الدوام. والله هو العلة الوحيدة "كما هو الحال عند مالبرانش وسبينوزا" من حيث إن المونادات لا تتفاعل، وإن فعلها "نشر" المطوي فيها. فالاتجاه واحد عند الفلاسفة الثلاثة، وهو اتجاه إلى وحدة الوجود. د- هل كان الخلق فعلًا ضروريًّا؟ رأى سبينوزا أنه ليس يمكن أن تصدر أفعال الله اعتسافًا فأخضعها للضرورة؛ ورأى ديكارت أن ليس يمكن أن يكون الله خاضعًا للضرورة فأطلق له الحرية. ولكن يجب التمييز بين الحقائق الضرورية والحقائق الممكنة. أما الأولى فليست تابعة للإرادة الإلهية، إذ لو كانت العدالة "مثلًا" وضعت اعتسافًا ومن غير سبب، لما بدت في ذلك طبيعة الله وحكمته، ولما كان هناك ما يلزمه بالعدالة من حيث إنه يستطيع أن يغيرها. وأما القضايا الممكنة فتابعة للضرورة الأدبية التي تقوم في اختيار الأحسن، وهي وسط بين الضرورة المطلقة والحرية المطلقة، نتبينها في إرادتنا تميل بها ولا تضطرها، وهي الضرورة الخاصة بمبدأ السبب الكافي، والممكنات، وإن كان كل منها على حدة ممكنًا في ذاته، ليست ممكنة كلها بعضها مع بعض؛ ومن بين التأليفات الممكنة التي لا تحصى، يوجد بالضرورة التأليف الذي يحقق أكبر كمية من الماهية أو الإمكان، وهو هذا العالم الذي هو خير العوالم الممكنة، فخلقه الله من حيث إن الله لا يفعل شيئًا إلا بمقتضى حكمته الفائقة, فالتفاؤل لازم من حكمة الله وخيريته. هـ- وماذا نقول في الشر إذن؟ يجب التمييز بين أنواع ثلاثة للشر: الشر الميتافيزيقي وهو النقص بالإجمال، والشر الطبيعي وهو الألم، والشر الخلقي وهو الخطيئة، فأما الشر الميتافيزيقي فلا محيص عنه، إذ إن النقص والحد والعدم ملازمة للموجود المتناهي، ولكن إذا ذكرنا أن الله لم يخلق أي مخلوق إلا وقد لحظ مكانه في الكل، وأنه خلق خير العوالم الممكنة، لزم أن كل مخلوق فهو حاصل في كل آن على ما يحق له من كمال بالإضافة إلى الكل؛ وإنما تبدو لنا الأشياء أقل كمالا مما كان يمكن أن يكون؛ لأننا لا ندركها إلا مفرقة وهذا خطأ وقع فيه بيل. وثمة خطأ آخر وقع فيه، هو اعتبار الله علة الشر، وقد قلنا: إن الشر الميتافيزيقي حد وعدم، وليس يقتضي العدم علة. وأما الشر الطبيعي أو الألم فيفسر بأنه نتيجة للشر الميتافيزيقي أو للشر الخلقي، آتية من

أن لنا جسمًا وهذا خير، وأن الأجسام الطبيعية مترابطة، وهذا خير أيضًا, وأن الخطيئة تستحق العقاب، على أن الألم قد يكون إنذارًا باجتناب ضرر، أو وسيلة لاكتساب ثواب, فيكون سببًا للخير. وعلى كل حال ليست الشرور من الكثرة والخطورة على ما يقوله المتشائمون, إنها لتعد كمية مهملة بالقياس إلى الخيرات في الحياة الإنسانية وفي جملة لعالم، ويمكن التغلب عليها بالعقل والمران. وأما الشر الخلقي فعلته القريبة حرية الإنسان التي هي في ذاتها خير عظيم، فهو ليس محتومًا, وليس يريده لله بإرادة سابقة، بل إنما يسمع به كجزء من العالم الذي هو خير العوالم الممكنة، من حيث إن الله لا يقرر خلق الأشياء مفردة. فما على الإنسان إلا أن يحسن استعمال الحرية، وما منحنا الحرية إلا لنحسن استعمالها. هذا إلى أن الشر الخلقي نفسه قد يكون سببًا لخير أعظم، فلولا خيانة يهوذا لما كان المسيح صلب وخلص البشر. فالخير والتناسق والنظام صفات ظاهرة في مملكة الطبيعة, وهي أظهر وأعظم في مملكة النعمة أو مدينة الله التي تضم الأرواح العاقلة الأخلاقية. في مملكة النعمة الله ملك أو بالأحرى أب؛ وفي مملكة الطبيعة الله صانع يدبر بقوانين آلية. فالتفاؤل يؤخذ بنوع خاص من اعتبار النظام الخلقي ومملكة النعمة. 57 - الأخلاق والدين: أ- يتبين النظام الخلقي من جملة إدراكاتنا المتميزة، فإنها هي المطابقة لطبيعتنا وطبيعة الوجود. فواجبنا أن نتوقف عن العمل بناء على إدراكاتنا المختلطة، فما الخطيئة إلا الفعل الصادر عن إدراك ناقص. وواجبنا أن نروض النفس على العمل بناء على إدراك متميز, بل إن واجبنا الأول العمل على اكتساب الإدراكات المتميزة أي: القواعد الكلية، فإننا بذلك نحقق كمال عقلنا الذي هو ماهيتنا ونحصل على سعادتنا الحقة التي هي الغبطة العقلية. والإدراك المتميز يبعث على العمل, وكلما تعمقناه وجلوناه زاد تعلقنا بالخير, في حين أن الجهل سبب انحرافنا عن الطريق القويم، وأن مجرد ترديد القواعد الكلية عقيم لا يثير فينا ميلًا إليها. وكلما اتسع مجال إدراكنا المتميز قوي شعورنا بعلاقتنا بإخواننا في الإنسانية وبالله. ومن ثمة كلما ازددنا كمالا اغتبطنا

بخير الآخرين وكمالهم وأحببناهم، إذ إن المحبة هي الاغتباط بسعادة الغير. وتجد المحبة موضوعها الاقصى في الله الموجود الفائق الكمال، فهو خيرنا وكمالنا، وباغتباطنا بكماله نكمل نفوسنا, وهذه ماهية الدين الطبيعي. ب- أما الأديان الوضعية فتقليد للتقوى الحقة مفيد للجمهور, طقوسها تقليد للأفعال الفاضلة، وعقائدها ظل الحقيقة. وبالرغم من هذا النقص، هي ممدوحة إذا عاونت على الارتفاع من الحياة الحسية إلى الحياة الروحية، ومذمومة إذا صرفت عن هذه الغاية. ومن هذه الوجهة خير الديانات الوضعية هي المسيحية، وليس بصحيح أن عقائدها معارضة للعقل. ج- بهذه الآراء يتابع ليبنتز العقلية الحديثة ولا يزيد عليها شيئًَا, ولكنه يعد زعيمًا اتصل أثره إلى اليوم في نواحٍ أخرى؛ فهو قد بين المذهب العقلي تبيينًا منطقيًّا ومضى معه إلى نتائجه المحتومة، وأهمها نظريته في الحرية، فكان أشد استمساكًا من ديكارت بمبدئهما المشترك وأدق تطبيقًا له؛ وهو أعظم مؤسسي المنطق الرياضي الذي تقدم في عصرنا تقدمًا كبيرًا؛ وهو مؤسس الروحية التصورية على نحو أكثر جرأة ووضوحًا من مالبرانش؛ وإلى فلسفته ترجع النظرية الفيزيقية العصرية المسماة دينامزم، أي: نظرية الطاقة، والتي ترد الأجسام إلى "مراكز قوة" أو كهرباء.

الفصل الثامن: جون لوك " 1632 - 1704 "

الفصل الثامن: جون لوك " 1632 - 1704 " 58 - حياته ومصنفاته: أ- هو أحد كبار ممثلي النزعة التجريبية الإنجليزية. جاء بعد هوبس وبيكون وكان أعمق منهما في توضيح المذهب الحسي والدفاع عنه؛ فاستحق أن يدعى زعيمه في العصر الحديث، ولئن كانت النزعة التجريبية الخاصة بإنجلترا، ظاهرة في تفكيرها منذ العصر الوسيط، فمن الحق أن يذكر أن لإنجلترا نزعة روحية أفلاطونية اتصلت منذ العصر الوسيط كذلك، ووجدت لها ملجأ في منتصف القرن بجامعة كمبردج, بينما كانت جامعة أكسفورد تحافظ على المدرسية الأرسطوطالية. ومن ممثلي هذه الأفلاطونية اللورد بروك الذي سقط قتيلًا في الخامسة والثلاثين " 1643 " وهو يناضل في سبيل البرلمان. وهو يذهب في كتابه "ماهية الحقيقة" " 1641 " إلى أن التجربة لا توفر لنا المعرفة الحقة، وأن العقل حاصل منذ الأصل على المعاني العليا الضرورية للعلم والأخلاق، فإن العلم يرتفع بالفعل فوق الحس، كما يشهد نظام كوبرنك مثلًا، وأن الأخلاق تدور على ما يجب أن يكون لا على ما هو كائن. ويصطنع بروك وحدة الوجود، ويقول: إن العقل لا يجد اطمئنانه النهائي إلا بمعرفة العلة الأولى للموجودات، وإن كل كثرة وكل علاقة وزمانية ومكانية ما هي إلا مظهر، وإن معرفتنا وحدة الموجودات في الله تبرئنا من الحسد, وتعلمنا أن في سعادة القريب سعادتنا. فمعارضة لوك للمذهب العقلي ولنظرية المعاني الغريزية، على ما سنرى، تتجه إلى هذه المدرسة كما تتجه إلى ديكارت ومدرسته. ب- ولد جون لوك بالقرب من بريستول، وكان أبوه محاميًا خاض غمار الحرب الأهلية دفاعًا عن البرلمان، فنشأ الابن على حب الحرية، وظل

متعلقًا بها إلى آخر حياته. ودخل أول أمره في مدرسة وستمنستر ومكث بها ست سنين يتلقى اللغات القديمة، إذ لم يكن يشتمل البرنامج على العلوم الطبيعية إلا قليلًا من الجغرافيا. ولما بلغ العشرين دخل أكسفورد وقضى بها ست سنين يتابع الدراسات المؤدية إلى الكهنوت، ولكنه لم يتذوق الفلسفة المدرسية، ولم يهتم بالفلسفة إلا حين قرأ ديكارت وجساندي، وبدا له أن الوجهة الأخلاقية من الدين أجدر بالعناية من الوجهة الاعتقادية. فولى وجهه شطر الطب ودرسه دون أن يتقدم للدكتوراه، وفي 1666 اتصل باللورد أشلي الذي صار فيما بعد كونت شفتسبري ومن أعاظم السياسيين في عصره، فكان كاتبه وطبيبه مدة ثلاث سنين. في ذلك الوقت نشر رسالة صغيرة "في التشريح" " 1668 " وانتخب عضوًا بالجمعية الملكية، ثم نشر رسالة أخرى "في الفن الطبي" " 1669 " حيث يعلن أن النظريات العامة تقف سير العلم، وأن لا فائدة إلا في فرض الجزئي الموجه إلى إدراك العلل الجزئية, فيبين بذلك عن اتجاهه التجريبي. ج- واضطره النزاع بين حزب البرلمان وتشارلز الأول إلى مغادرة إنجلترا، فقصد إلى فرنسا مرتين " 1672، 1675 - 1679 " حيث كان معظم إقامته بمونيلبي؛ ثم إلى هولندا " 1683 " حتى نشوب ثورة 1688، فعاد إلى وطنه في السنة التالية، فعرض عليه الملك الجديد السفارة لدى ناخب براندبورج، فطلب إعفاءه منها بسبب حالته الصحية، وقبل منصبًا آخر هو قوميسيرية التجارة والمستعمرات؛ ثم اعتزل الخدمة. في هذا الشطر الثاني من حياته ساهم في جميع الحركات الفكرية التي كان يضطرب بها عصره، وصنف فيها كتبًا، هي: رسالة "في الإكليروس" و"خواطر في الجمهورية الرومانية" و"لا ضرورة لمفسر معصوم للكتب المقدسة" و"في التسامح" و"في الحكومة المدنية" و"معقولية المسيحية" و"اعتبارات في نتائج تخفيض الفائدة وزيادة قيمة النقد" و"خواطر في التربية" يحبذ فيها طرائق, هي التي اتبعها أبوه في تربيته. د- أما الفلسفة فقد اتجه إليها فكره في شتاء 1670 , 1671 على إثر مناقشات مع بعض أصدقائه لم يوفقوا فيها إلى حل المسائل التي أثاروها، ففطن إلى أنه يمتنع إقامة "مبادئ الأخلاق والدين المنزل إلا بعد الفحص عن كفايتنا

والنظر في أي الأمور هو في متناولنا وأيها يفوق إدراكنا". وهكذا نبتت عنده فكرة البحث في المعرفة, فوضع لفوره رسالة "في العقل الإنساني" يرجع فيها معانينا جميعًا إلى معانٍ بسيطة مستفادة من التجرية، ثم عكف على الموضوع يخصص له أوقات فراغه مدة تسع عشرة سنة حتى أتم كتابه الشهير "محاولة في الفهم الإنساني" " 1690 " والكتاب مقسم إلى أربع مقالات: الأولى في الرد على نظرية المعاني الغريزية، والثانية في تقسيم المعاني بسيطة ومركبة وبيان أصلها التجريبي؛ والمقالة الثالثة في اللغة ووجوه دلالة الألفاظ على المعاني وتأثير اللغة على الفكر، ومعارضة الفلسفة المدرسية باعتبارها فلسفة لفظية، وإبطال حقيقة معاني الأنواع والأجناس؛ والمقالة الرابعة والأخيرة في المعرفة، أي: في اليقين الميسور لنا، فتبحث في قيمة المبادئ الأخلاقية، وفي علمنا بوجودنا، ووجود الله، وبوجود الماديات، وفي العقل والدين. والمقالة الأولى هي القسم السلبي من الكتاب؛ والمقالات الثلاث التالية هي القسم الإيجابي أي: عرض المذهب التجريبي المبطل لنظرية المعاني الغريزية، وقد دون لوك هذه المقالات أولا لتوقف المقالة الأولى عليها، بمعنى أن القارئ يقبل هذه المقالة بسهولة أكثر إذا ما رأى كيف يستطيع العقل أن يكتسب معارفه، كما يقول المؤلف نفسه "م 2 ف 1 ". وطبع الكتاب ثانية سنة 1694 بزيادات كثيرة وتعديلات, وترجم إلى الفرنسية ونشرت الترجمة سنة 1700 بعد أن راجعها المؤلف وأضاف إليها وأصلح منها. هـ- على أن بضاعته الفلسفية ضئيلة سطحية، وأسلوبه يبين عن شيء كثير من السذاجة؛ من شواهد ذلك أنه يكثر من التمثيل، ويسهب في تفصيل الأمثلة كأنها المقصود بالذات، ويسخر مما لا يعرف فتجيء سخريته ثقيلة جدًّا. استمع إليه يقول في حملته على القياس: "لو وجب اعتبار القياس الأداة الوحيدة للعقل والوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة، للزم أنه لم يوجد أحد قبل أرسطو يعلم أو يستطيع أن يعلم شيئًا ما بالعقل، وأنه لا يوجد منذ اختراع القياس رجل بين عشرة آلاف يستمتع بهذه الميزة. ولكن الله لم يكن ضنينًا بمواهبه على البشر إلى حد أن يقنع بإيجاد مخلوقات ذوات قدمين، ويدع لأرسطو العناية بجعلهم مخلوقات عاقلة "م 4 ف 17 فقرة 4 ". ثم يردد الأقاويل المتداولة

بين الشكاك والحسيين منذ عهد قديم من أن قواعد القياس ليست هي التي تعلم الاستدلال، وأن القياس لا يفيد في كشف الخطأ في الحجج ولا في زيادة معارفنا. فلم يميز لوك بين المنطق الفطري الموفور للناس وبين المنطق العلمي الذي وضعه أرسطو، ولم يميز بين العلم الناقص الصادر عن المنطق الفطري وبين العلم الكامل المحقق بقواعد المنطق العلمي، ولم يدرك حقيقة القياس، وفاتته أمور أخرى كثيرة، وهو مع ذلك يجزم فيها جميعًا. 59 - أصل المعاني: أ- أول ما يصنع لوك في كتابه "محاولة في الفهم الإنساني" هو أنه ينحي المذهب الغريزي من طريقه لكي يعرض المذهب الحسي أو التجريبي. وهو يظن أن الغريزية تعني وجود معان صريحة وقضايا صريحة في الذهن منذ الميلاد، ولم يقل ديكارت وليبنتز شيئًا مثل هذا؛ وهو يظن كذلك أن الغريزية تدع مجالًا واسعًا للتقدير الشخصي ما دامت معرفة باطنة، فلا يريد أن يتركها تعبث بنظرية المعرفة وتنكر وجود الله، وهما الأمران الضروريان لاتفاق العقول وطمأنينتها، ومع أن ديكارت وليبنتز كانا يعلمان الفرق بين الذاتي والموضوعي، وكان كلاهما يقيم مذهبه على وجود الله، غير أن لوك يصيب الحق في المعرفة الإنسانية حين يقول: "لكي نحصل على معرفة صادقة يجب أن نسوق الفكر إلى الطبيعة الثابتة للأشياء وعلاقاتها الدائمة، لا أن نأتي بالأشياء إلى فكرنا". وتبعًا لهذا المبدأ يعتقد أن المذهب الحسي هو المذهب الوحيد الممكن، ويشرع في دحض النظرية الغريزية فيقول ما خلاصته: ب- لو كان المذهب الغريزي صحيحًا لما كان هناك حاجة للبحث عن الحقيقة بالملاحظة والاختبار. إن ديكارت متفق مع مذهبه الغريزي حين "يغمض عينيه ويسد أذنيه" ويستبعد كل ما يأتي عن طريق الحواس، ولكنه يخالف مذهبه حين يعكف على دراسة التشريح ووظائف الأعضاء. ولو كانت المبادئ التي يذكرونها غريزة للزم أن توجد عند جميع الناس دائمًا, ولكن الأقلين من الناس، حتى من بين المثقفين، يعرفون المبادئ النظرية، مثل مبدأ الذاتية ومبدأ عدم التناقض. وما الفائدة من هذه المبادئ؟ لكي نحكم بأن الحلو ليس

المر، يكفي أن ندرك معنيي الحلو والمر فنرى فورًا عدم الملاءمة بينهما دون التجاء إلى المبدأ القائل: "يمتنع أن يكون شيء غير نفسه". كذلك ليست المبادئ العملية غريزية, إن هذه المبادئ، من أخلاقية وقانونية، تختلف من شعب إلى شعب ومن دين إلى دين؛ وإجماع فريق كبير من الناس على مبدأ ما دليل على أن المبدأ المقابل له ليس غريزيا، وما الضمير إلا "رأينا فيما نفعل" ولو كان الضمير دليلًا على وجود مبادئ غريزية لكانت هناك مبادئ غريزية مختلفة متعارضة من حيث إن كلا يصدر في فعله عن مبدأ. أليس المتوحشون يقترفون الكبائر ولا يبكتهم ضميرهم؟ وليس يعني هذا أن المبادئ الأخلاقية عرفية، كلا، إنها طبيعية، ولكنها مكتسبة، نتقبلها من بيئتنا ونألفها فتبدو غريزية "م 1 ف 2 ". ويقول أصحاب المذهب الغريزي، ردا على الاعتراض بأن الأطفال والبله وجمهرة الأميين يجهلون هذه المبادئ جهلًا تامًّا: إن من الممكن أن تكون المعاني والمبادئ في النفس دون أن تكون مدركة, ولكن كيف تكون هذه المعاني والمبادئ غير مدركة؟ إن وجود المعنى في النفس هو إدراكه؛ فقولهم يرجع إلى أن المعاني موجودة في النفس وغير موجودة فيها، كأنهم يقولون: إن الإنسان جائع دائمًا ولكنه لا يحس الجوع دائمًا. فواضح من هذا أن لوك لا يريد أن يعترف بالوجود بالقوة وباللاشعور، مع أن الذاكرة دليل ساطع عليهما. ج- متى بطل المذهب الغريزي وجب تفسير آخر للمعرفة. والحق عند لوك أن النفس في الأصل كلوح مصقول لم ينقش فيه شيء، وأن التجربة هي التي تنقش فيها المعاني والمبادئ جميعًا. والتجربة نوعان: تجربة ظاهرة واقعة على الأشياء الخارجية، أي: إحساس؛ وتجربة باطنة واقعة على أحوالنا النفسية، أي: تفكير "ولوك يفضل لفظ تفكير على لفظ شعور". وليس هناك مصدر آخر لمعانٍ أخرى "م 2 ف 1 ". ودراسة اللغة تؤيد هذا الرأي؛ فإن الألفاظ في الأصل تدل على جزئيات مادية، ثم نقلت بالتدريج على ضربين: أحدهما من الجزئيات إلى الكليات بملاحظة التشابه وإسقاط الأعراض الذاتية، والضرب الآخر من الماديات إلى الروحيات بالتشبيه والمجاز. فألفاظ التخيل والإحاطة والتعلق والتصور والاضطراب والهدوء وما إليها، أخذت أولًا من الماديات، ولفظ

النفس معناه الأصلي النفس، وهكذا، بحيث "لا يوجد في العقل شيء إلا وقد سبق وجوده في الحس" "م 2 ف 2 ". وإن لوك لعلى حق في قوله هذا، وليس في وسع الغريزيين أن يدلونا على معنى واحد من معاني المجردات والروحيات مطابق لموضوعه, ومسمى رأسًا من موضوعه. وإذا أضفنا إلى هذه العبارة المشهورة ما أضافه ليبنتز بقوله: "إلا العقل نفسه" أصبنا الحقيقة الكاملة في المعرفة الإنسانية, ولكن لوك لا يقبل هذه الإضافة, ويزعم أن المعرفة كلها تفسر بالحس وحده على النحو الآتي: د- معانينا طائفتان: معانٍ بسيطة مكتسبة بالتجربتين الظاهرة والباطنة، ومعانٍ مركبة ترجع إلى التفكير, أما المعاني البسيطة فطوائف ثلاث: أولاها المعاني المحسوسة بالحواس الظاهرة، مثل قولنا: بارد صلب أملس خشن مر امتداد شكل حركة؛ والطائفة الثانية المعاني المدركة باطنًا، وهي التي ترجع إلى الذاكرة والانتباه والإرادة؛ والطائفة الثالثة المعاني المحسوسة والمعاني المدركة باطنًا معًا، مثل معاني الوجود والوحدة والدوام والعدد واللذة والألم والقدرة "م 2 ف 7 ". اللذة والألم يصاحبان جميع معانينا الظاهرة والباطنة تقريبًا؛ والوجود والوحدة معنيان يمكن أن يثيرهما فينا كل إحساس خارجي وكل فكرة نفسية؛ والدوام معنى ينشأ من ملاحظة الزمن الذي يقضي بين معانينا في تعاقبها؛ وينشأ معنى العدد من تكرار الوحدة؛ ونشعر بالقدرة حين نفعل، وما الفعل الحر إلا الفعل نفسه، فإذا لم نقدر على الفعل لم نكن أحرارًا، إذ لا معنى للاعتقاد بالقدرة دون الفعل، وما اعتقادنا بالحرية إلا اعتقاد بإمكان تكرار فعل سابق لمجرد كون هذا الفعل قد سبق. وهكذا تفسر جميع المعاني التي من هذا القبيل، فإن النفس في إدراكها منفعلة تسجل الواقع. هـ- أما المعاني المركبة فالنفس فيها فاعلة؛ إذ إنها هي التي تصنعها. وهذه المعاني طائفتان: طائفة تؤلف فيها النفس المعاني البسيطة في معنى شيء واحد، مثل معنى الذهب أو معنى الإنسان، وطائفة تؤلف فيها النفس المعاني البسيطة بحيث تمثل مع ذلك أشياء متمايزة، مثل معاني الإضافة بالإجمال، كمعنى البنوة يجمع بين معنى الابن ومعنى الأب؛ وكمعنى العلة يجمع بين معنى شيء موجد ومعنى شيء موجد منه، والأصل في هذا أن تعاقب الظواهر يخلق بينها علاقات

في الذهن تحملنا على اعتقاد أنه إذا وضعت ظواهر معينة وقعت ظواهر معينة، ولكن هذا الاعتقاد ذاتي بحت، وليس للعلية من معنى سوى هذا التوقع الذتي، وكمعنى اللامتناهي، سواء أضيف لله أو للزمان أو للمكان، فقد ظنه ديكارت بسيطًا وهو مركب مكتسب بإضافة الكمية المحدودة المعلومة بالتجربة إلى مثلها وهكذا إلى غير نهاية؛ وكمعنى التشابه، ومعنى التغاير ... إلخ "م 2 ف 12 ". والطائفة الأولى تنقسم بدورها إلى قسمين: قسم يشمل معاني الأعراض, وهي معاني الأشياء لا تتقوم بأنفسها, كالمثلث أو العدد, وقسم يشمل معاني الجوهر، وهي معاني أشياء تتقوم بأنفسها، كالإنسان. وتنقسم الأعراض إلى أعراض بسيطة، وهي المركبة من معنى بسيط واحد مع نفسه، كالعدد المركب من تكرار الوحدة، والمكان والزمان المركبين من أجزاء متجانسة؛ وإلى أعراض مختلطة، وهي المركبة من معان بسيطة متنوعة, مثل معنى الجمال المركب من لون وشكل يحدثان سرورًا في الرائى، ومعاني القتل والواجب والصداقة والكذب والرياء. ووللتركيب ثلاث طرائق: المضاهاة والجمع والتجريد. أما المضاهاة فتكون المعاني المندرجة تحت اسم الإضافة, وأما الجمع فهو التأليف بين المعاني البسيطة, وأخيرًا التجريد وهو الانتباه إلى الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي، فنحصل على معانٍ كلية ندل على كل منها بلفظ واحد يغنينا عن ألفاظ لا تحصى للدلالة على كل جزئي، كما يغنينا عن حفظ صور الجزئيات وهي لا تحصى كذلك "م 3 ف 6 و 7 ". فالمعنى الكلي معنى ناقص يحتوي على بعض خصائص الشيء دون بعض، وكلما كان أكثر كلية كان أكثر نقصًا. فمعنى الجنس جزء من معنى النوع، ومعنى النوع جزء من معنى الفرد, فالمعنى الكلي من صنع الفكر لا يقابله في الخارج "صورة" ثابتة كما يظن المدرسيون "م 3 ف 11 ". أجل, إن الطبيعة تحدث أشياء متشابهة، والفكر يكون معانيه الكلية بمناسبة المشابهات، ولكن المعاني الكلية خلاصات لما نعرف من كيفيات الأشياء، فكلما تغيرت المعرفة تغيرت الأنواع "م 3 ف 6 " والأشياء خاضعة للتغير، فكلما تغيرت الأنواع تغيرت المعرفة.

60 - الفكر والوجود: أ- بعد هذا التحليل تأتي مسألة قيمة المعرفة: هل لمعانينا مقابل في الوجود؟ وهل توجد جواهر مقابلة للظواهر؟ يقول لوك: "من البين أن الفكر لا يدرك الأشياء مباشرة، بل بوساطة ما لديه عنها من معانٍ, فكيف يعلم الفكر أن معانيه مطابقة للأشياء؟ " "م 4 ف 4 ". ونقول: بل كيف يعلم أن هناك أشياء؟ هذا موقف ورثه لوك عن ديكارت، ولكنه لم يقدر المسألة حق قدرها ولم يشك قط في وجود عالم خارجي، وبعد أن وضع الحقيقة في صحة لزوم العلاقات بين المعاني بالاستدلال، عاد فجعل الحقيقة في المطابقة بين المعاني والأشياء. والمراد المعاني البسيطة؛ لأن المعاني المركبة عبارة عن نماذج يصنعها الفكر ويتأملها كما تقدم. وبعد أن نقد معنى الجوهر عاد فقال بوجود جواهر غير مدركة في أنفسها هي: النفس والله والمادة. ونقده للجوهر يرجع إلى أنه معنى مركب؛ ذلك أن الفكر يلاحظ تلازم معان بسيطة مكتسبة بحواس مختلفة، فيعتاد اعتبار هذا المجموع شيئًا واحدًا، ويطلق عليه اسمًا واحدًا كالإنسان والفرس والشجرة، ويتوهم أن هناك أصلا تقوم فيه الكيفيات؛ لأنه لا يدرك كيف يمكن لهذه المعاني البسيطة أو الكيفيات أن تقوم بأنفسها "م 2 ف 23 ". وهذا يعني أن لوك يظن القائلين بالجوهر يريدون به موضوعًا عاطلًا من الكيفيات مخفيًّا تحتها، والواقع أن الكيفيات عندهم كيفيات الموضوع وأن التمييز بينه وبينها تمييز ذهني له أصل في حقيقة الأشياء هو أن الأشياء تتقلد كيفيات مختلفة مع بقائها هي هي بالماهية. على أن لوك يعتقد بوجود الجوهر كما ذكرنا، ويقول: لو استطعنا إدراكها لأدركنا ائتلاف الكيفيات، ولكننا لا نستطيع لأن معرفتنا مقصورة على الإحساس والتفكير. ب- فالنفس مجموع معانٍ بسيطة مدركة بالتفكير، والأنا هو هذا الشيء المفكر المدرك لأفعاله، ووجوده موضوع حدس باطن لا يتطرق إليه شك ولا يحتاج إلى دليل, وجهلنا بجوهر النفس لا يخولنا الحق في إنكار وجودها. بيد أن لوك لا يريد أن يقول: إن "الذاتية الشخصية" تقوم في ذاتية النفس أي: بقائها هي هي، ولكنه يردها إلى ذاتية الشعور بالأنا الذي يتذكر

الآن فعلًا ماضيًا "م 2 ف 27 ". غير أن هذا وصف لشعورنا بالشخصية، وليس تفسيرًا لإمكان الذاكرة والشخصية. أليس التذكر يستلزم بقاء الأنا الذي يتذكر هو هو؟ هذه مسألة يراها لوك مجاوزة لدائرة التجربة البحتة, فلا يريد أن يعرض لها. كذلك يفعل في مسألة ما إذا كان الأنا روحيًّا أو ماديًّا، بسيطًا أو مركبًا، وهذه مسألة تقتضي حل مسألة أخرى هي ما إذا كانت المادة تستطيع أن تفكر أو لا تستطيع، ولا سبيل إلى حلها لأننا نجهل جوهر المادة كما نجهل جوهر النفس. فليس بوسعنا أن نتأكد إن كانت قوة التفكير تلائم طبيعة المادة أو لا تلائمها، وقد يكون الله كون جسمًا ما بحيث يقدر أن يفكر ونحن لا ندري. ج- والله موجود، ولكن ماهيته مجهولة لا يستطيع عقلنا أن يعينها. ولسنا نؤمن بوجود الله بناء على معنى غريزي، بل بناء على برهان. إن المعنى الغريزي معدوم بالمرة عند الذين يقولون: إنهم ملحدون، وعند بعض القبائل المتوحشة وهو إن وجد عند العامة, فإنه مشبع بالتشبيه ولا يطابق حقيقة الله. فلو كان في النفس معنى غريزي عن الله لآمن بالله جميع الناس وتعقلوه كما هو, وليس بصحيح أن معنى اللانهاية سابق على معنى النهاية كما يدعي ديكارت، وإنما اللانهاية معنى معدول، ونحن نتصور لانهاية الله عددًا غير محدود من أفعال الله بالإضافة إلى العالم، ونتصور سرمدية الله زمانًا غير محدود، أي: إن تصورنا اللانهاية ليس تصور لانهاية متحققة بالفعل، وإنما هو تصور تدرج لانهاية له، وإن كانت اللانهاية الإلهية في ذاتها شيئًا آخر يفوق تصورنا وكفايتنا المحدودة. أما البرهان على وجود الله فهو أن الموجود الحادث الذي هو أنا يستلزم موجودًا سرمديًّا كلي القدرة، وعاقلًا أيضًا من حيث إنه خلق في العقل، وخالق المادة من حيث إنه خلق نفسي، وإن خلق المادة أيسر من خلق النفس. وهذا البرهان برهان على وجود الله وعلى ماهيته في آن واحد دون حاجة إلى معنى غريزي. ولكن لوك يعول على مبدأ العلية، وهو عنده مركب بفعل النفس غير موضوعي، ويتحدث عن العقل والمادة والنفس والسرمدية كما لو كان يدرك كنهها، وقد قرر أن عقلنا يجهل الكنه ولا يدرك سوى الظواهر, فهو يعود إلى فطرة العقل برغمه ودون أن يشعر.

د- والأجسام موجودة، وعلمنا بوجودها محقق عمليًّا وإن لم يكن في مثل يقين علمنا بذاتنا وبالله. يدل على وجودها أولًا أن الذهن لا يستطيع إحداث صورها من تلقاء نفسه، وكل فاقد حاسة فهو عاطل من المعاني المتعلقة بتلك الحاسة، كالأكمه فإنه عاطل من معاني الألوان ولا يتصورها إن أمكن وصفها له. ثانيًا أننا نميز المعنى الآتي من الحس والمعنى الآتي من الذاكرة، فالأول مفروض علينا والثاني تابع للإرادة تذكره أو لا تذكره، وإن ما يصاحب الأول من لذة أو ألم لا يصاحب الثاني. ثالثًا أن الحواس يؤيد بعضها بعضًا، فالذي يرى النار يستطيع أن يمسها إن شك في وجودها، وحينئذ يحس ألمًا لا يمكن أن يحس مثله لو كان إدراكه مجرد تصور "م 4 ف 11 ". على أن معانينا ليست صور الأشياء أو أشباهها، وإنما هي علامات دالة عليها، كما أن الألفاظ لا تشبه المعاني التي تقوم في النفس حال سماعها, ولكنها تدل عليها. إن جواهر الأجسام خافية علينا كل الخفاء، ولكنها بقوة أو كيفية فيها تثير فينا معاني هي عبارة عن انفعالنا بتأثيرها. والكيفيات: أولية وثانوية, الكيفيات الأولية هي الامتداد والشكل والصلابة والحركة, وهي واقعية موضوعية ملازمة للأشياء في جميع الأحوال وإن كانت لا تمثلها حق التمثيل، فإن فكرة الامتداد غامضة لا تفسر وحدة الجسم أو تماسك أجزائه، وهي متناقضة لتناقض الانقسام إلى غير نهاية. والكيفيات الثانوية هي اللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة والبرودة وهي ليست للأجسام في أنفسها، وإنما هي انفعالاتها بتأثير الكيفيات الأولية في الحواس بحسب حجمها وشكلها وحركتها. فعلى كل حال نحن لا ندرك سوى انفعالنا بالأشياء، والجسم عبارة عن كيفيات مؤتلفة في تجربتنا. هـ- والخلاصة أن معرفتنا مقصورة على التجربة الظاهرة والباطنة، فيتعين على الفلسفة أن تقنع بما يدرك بالملاحظة والاستقراء فحسب، وأن تعدل عن المسائل الميتافيزيقية وعن المناهج العقلية. وتلك نتيجة المذهب الحسي الذي بعثه روسلان وجدده أوكام وهوبس وبيكون. وسيكون لهذه النتيجة ما بعدها؛ فإن لوك ما يزال يعتقد بفاعلية الذهن، ولكن سيأتي فلاسفة من الإنجليز بنوع خاص ينكرون هذه الفاعلية, ويفسرون الفكر كله بتداعي المعاني تداعيًا آليًّا، فيضمون المذهب الحسي إلى صورته القصوى.

61 - السياسة: أ- يعتبر لوك أحد مؤسسي المذهب الحري الجديد, فهو يعارض هوبس في تصويره الإنسان قوة غاشمة، وتصوره حال الطبيعة حال توحش يسود فيها قانون الأقوى، ويذهب إلى أن للإنسان حقوقًا مطلقة لا يخلقها المجتمع، وأن حال الطبيعة تقوم في الحرية، أي: إن العلاقة الطبيعية بين الناس علاقة كائن حر بكائن حر تؤدي إلى المساواة. العلاقات الطبيعية باقية بغض النظر عن العرف الاجتماعي، وهي تقيم بين الناس مجتمعًا طبيعيًّا سابقًا على المجتمع المدني، وقانونًا طبيعيًّا سابقًا على القانون المدني. وعلى ذلك ليس للناس بالطبع حق في كل شيء كما يزعم هوبس، ولكن حقهم ينحصر في تنمية حريتهم والدفاع عنها وعن كل ما يلزم منها من حقوق، مثل حق الملكية وحق الحرية الشخصية وحق الدفاع عنهما. ب- أما حق الملكية فإنه حق طبيعي يقوم على العمل ومقدار العمل, لا على الحيازة أو القانون الوضعي، وليس لأحد حق فيما يكسبه المرء بتعبه ومهارته, ولا تصير الحيازة حقا إلا إذا استلزمت العمل. على أن حق الملكية خاضع لشرطين؛ الأول أن الملك لا يدع ملكيته تتلف أو تهلك؛ والثاني أن يدع للآخرين ما يكفيهم فإن هذا حق لهم. فحرية العمل هي المبدأ الذي يسوغ الملكية والمبدأ الذي يحدها، إذ يجب أن تبقى حرية العمل مكفولة دائمًا للجميع. ج- وأما الحرية الشخصية فمعناها أن ليس هناك سيادة طبيعية لأحد على آخر. إن سلطة الأب أعطيت له لكي يربي الابن ويجعل منه إنسانا أي كائنًا حرًّا، فهي واجب طبيعي أكثر منها سلطة، وهي مؤقتة ولا تشبه في شيء سلطة السيد على العبد، وتفقد بسوء الاستعمال والتقصير. والسلطة السياسية تراض مشترك وعقد إرادي؛ وذلك لأن أعضاء المجتمع متساوون عقلا وحرية, بخلاف الحال في علاقة الآباء والأبناء. فأساس الاجتماع الحرية، والغرض من العقد الاجتماعي صيانة الحقوق الطبيعية، لا محوها لمصلحة الحاكم كما يزعم هوبس؛ فلا يستطيع الأعضاء أن ينزلوا إلا عما يتنافر من حقوقهم مع حال الاجتماع، وذلك هو حق الاقتصاص. فالسلطة المدنية قضائية في جوهرها؛

لذا لم تكن السلطة المطلقة الغاشمة مشروعة، خلافًا لما يدعي هوبس؛ الحق أنها ليست شكلًا من أشكال الحكومة المدنية، وإنما هي محض استعباد, والملك المستبد خائن للعهد، والشعب في حل من خلع نيره. د- ويجب الفصل بين الدولة والكنيسة. إن هدف الدولة الحياة الأرضية، وهدف الكنيسة الحياة السماوية. نحن إذ نولد ملك الوطن لا ملك الكنيسة ولا ندخل فيها إلا طوعًا. ولما كان المجتمع المدني غير قائم على مصالح الكنيسة فليس للدولة أن تراعي العقيدة الدينية في التشريع، ولا محل للقول بدولة مسيحية. مبدأ الدولة أن لكل أن يستمتع بجميع ما يعترف به للغير من حقوق، فيجب على الدولة أن تجيز جميع أنواع العبادة الخارجية، وتدع الكنيسة تحكم نفسها بنفسها فيما يتعلق بالعقيدة والعبادة وفقًا للقوانين العامة، فتسود الحرية جميع نواحي المجتمع المدني. هـ- تلك هي الآراء البارزة في كتب لوك السياسية, وسيكون لها ولآرائه في المعرفة أكبر الأثر على القرن الثامن عشر في إنجلترا وفرنسا، فيشيع المذهب الحسي ويشيع المذهب الحري في الدين والسياسة والتربية.

الباب الثالث: تحليل ونقد القرن السامن عشر

الباب الثالث: تحليل ونقد القرن السامن عشر مدخل ... الباب الثالث: تحليل ونقد "القرن الثامن عشر" 62 - تمهيد: أ- أظهر ما يبدو للناظر في فلاسفة القرن الثامن عشر اشتراكهم في التحليل والنقد؛ تحليل المعرفة ونقد العقل والدين والنظم الاجتماعية والسياسية. فأما نقد العقل فيستند إلى المذهب التصوري من جهة، وإلى المذهب الحسي من جهة أخرى. مبدأ المذهب التصوري أننا لا ندرك سوى أفكارنا، فيبقى كل ما عدا الأفكار موضع بحث كما كان عند ديكارت والذين جاءوا بعده. ومبدأ المذهب الحسي أن لا قيمة للمعاني المجردة، فينتج أن لا قيمة لما بعد الطبيعة. وكان نيوتن قد عرض علمًا خالصًا من الميتافيزيقا, فأعجب به كثيرون واتخذوا منه ومن الحسية دعامتين أقاموا عليهما المادية، وصنعوا بديكارت مثل ما صنع هو بأرسطو فبددوا آراءه الفلسفية والعلمية جميعًا. وأما نقد الدين فيصدر عن المواقف السابقة، وقد كثرت الكتب الباحثة في الدين الطبيعي خلال القرن. وأما نقد النظم الاجتماعية والسياسية فتابع للمواقف السابقة كذلك, وللنزوع العام إلى الحرية. ب- والفلاسفة كثيرون في هذا القرن؛ لذا رأينا أن نقسم هذا الباب إلى ثلاث مقالات: تتناول المقالة الأولى الفلسفة في إنجلترا، وتتناول الثانية الفلسفة في فرنسا, وتعرض الثالثة مذهب كانت وهو فيلسوف ألمانيا الأكبر، وهو وحده في عصره يضارع كبار فلاسفة القرن السابق؛ أما سائر معاصريه فنلاحظ فيهم انحطاطًا فلسفيًّا واضحًا. نلاحظ أفكارًا ساذجة في أسلوب سهل قليل الاصطلاحات, أقرب إلى الأدب منه إلى الفلسفة.

المقالة الأولى: الفلسفة في إنجلترا

المقالة الأولى: الفلسفة في إنجلترا الفصل الأول: الفلسفة الطبيعية 63 - إيزاك نيوتن " 1642 - 1727 ": أ- هو العالم الشهير خريج جامعة كمبردج والأستاذ بها. أهم كتبه: المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية " 1687 " والبصريات " 1704 ". كان لمنهجه العلمي ولمكتشفاته أثر في الفلسفة, وكانت له فلسفة خاصة تركت هي أيضًا أثرًا. جاء اكتشافه للجاذبية مؤيدًا للمذهب الآلي وموطدًا للثقة في المنهج الرياضي، فقد دل على مبدأ يفسر تماسك أجزاء الطبيعة، ووضع قانونا كليا استخرج منه بالقياس نتائج متفقة مع التجربة. على أنه إذ يقول بالجاذبية يعلن أنه لا يزعم بهذه التسمية تعيين طبيعة القوة التي تقرب جسمًا من جسم أكبر؛ وهذه نقطة جديرة بالملاحظة، فإنها تعني أن العلم الآلي يلتقي مع الظواهر ولكنه لا يدعي تفسيرها. ب- ومنهجه الرياضي يحدوه إلى القول بمكان مطلق, وزمان مطلق كاللذين تتخيلهما المخيلة وتعول عليهما الرياضيات. والإطلاق صفة من صفات الله، فالمكان المطلق هو الواسطة التي يتجلى بها حضور الله في كل مكان ويعلم أحوال الموجودات، والزمان المطلق هو أبدية الله؛ وبذا يجعل نيوتن من المكان والزمان شيئين ثابتين. وهو يبرهن على وجود الله من ناحية أخرى هي الغائية البادية في نظام العالم وجماله، فيلاحظ أن الطبيعة لا تفعل شيئًا عبثًا، وأنها تتخذ دائمًا أبسط الطرق، وأن نظامنا الشمسي لا يفسر بقوانين آلية، بل بقوة فائقة للطبيعة رتبت لكل جرم سماوي حجمه وثقله وسرعته، ورتبت المسافات بين مختلف الأجرام، وجعلت السيارات تدور بدل أن تخضع

للثقل وتسقط على الشمس. يضاف إلى ذلك ما يشاهد من نظام عجيب في الكائنات الحية وأعضائها، وغرائز الحيوان الأعجم منها. فلم يكن نيوتن ماديا ولم يستخدم الآلية إلا لربط الظواهر في نظام علمي. 64 - جون تولاند " 1670 - 1721 ": أ- هو من أوائل دعاة المادية في إنجلترا في هذا القرن، ومن "أحرار الفكر" المتحمسين. نشر آراءه في "رسائل إلى سرينا" "يريد الملكة صوفيا شارلوت البروسية، وكان قد أقام لديها في سنتي 1701 و 1702، وتعرف هناك إلى ليبنتز" وقد ألحق بهذه الرسائل "ردا على سبينوزا" ومقالا في "الحركة باعتبارها خاصية جوهرية للمادة" " 1704 "؛ ثم في كتابه "وحدة الوجود" " 1710 ". ب- وهو يذهب إلى أن المادة جوهر فاعل حي، وليست جوهرًا ساكنًا قابلًا للحركة من خارج كما تصورها ديكارت، وأن السكون لا يوجد إلا بالإضافة إلى الحواس، فلا حاجة لافتراض النفس، سواء أكانت كلية أم جزئية, وبذلك يسقط المذهب الثنائي. والفكر وظيفة من وظائف المادة تقوم بها متى توفر لها التركيب المطلوب, مثل تركيب المخ؛ فالفكر وظيفة المخ كما أن الذوق وظيفة اللسان. وقد خلق الله المادة فاعلة، وهو يدبر حركات الطبيعة فيتحقق ما في الجمادات والأحياء من نظام. ومعنى هذه العبارة الأخيرة أن تولاند كان واحدًا من "الطبيعيين" المؤمنين بالله كصانع للعالم، المنكرين لعنايته وللوحي وللنفس وللآخرة! وكانوا كثيرين دعوا 1 deists. 65 - ديفيد هارتلي " 1704 - 1757 ": أ- طبيب وعالم طبيعي, ويصرح في كتابه "ملاحظات على الإنسان" " 1749 " أنه متأثر بنيوتن ولوك. ويذهب إلى مثل مذهب تولاند، مع فارق بسيط هو أنه يضع في الإنسان "نفسًا" هي جوهر جسمي متمايز من الدماغ

_ 1 في كتاب "المنقذ من الضلال" للغزالي تعريف للطبيعيين يطابق تمامًا المقصود بكلمة deists عند الإفرنج.

وهي التي تفكر بوساطة الدماغ؛ وما أهمية هذا التمييز ولم نخرج من دائرة المادة؟ ويرى هارتلي أن تأثير الدماغ في الفكر هو من الوضوح بحيث يدل دلالة قاطعة على أن الفرق بين المادة والفكر فرق بالدرجة لا بالطبيعة، وأنهما لو كانا متباينين، لما أمكن أن يتفاعلا. ويفسر الإحساس بأنه حركة المادة العصبية، أو اهتزاز أثيري من العضو إلى المركز المخي بوساطة الأعصاب الحاسة ويفسر الفكر بأنه حركة نفسية مقابلة للحركة العصبية، وإذا ما تكرر الاهتزاز الأثيري ترك أثرًا هو المعنى. وتقوم حياتنا الفكرية في تداعي المعاني، ويقوم هذا التداعي في ترابط الحركات العصبية أو الاهتزازات الأثيرية، ويرجع إلى قانوني التعاقب والتقارن فحسب، وليس التداعي بالتشابه قانونًا أصيلًا. وتفسر العواطف العليا بتداعي العواطف الدنيا, مثال ذلك: محبة الله، فإنها تنشأ جزئيا من دواعٍ أنانية، ولكن لما كان الله يعتبر علة الأشياء جميعا فإن تداعيات لا تحصى تجتمع في فكرة الله فتعظمها حتى تمحى بإزائها سائر الأفكار. فهذه النظرية تجعل من هارتلي أحد مؤسسي مذهب التداعي. 66 - جوزيف بريستلي " 1733 - 1804 ": أ- هو مكتشف غاز الأكسجين، وكان لاهوتيًّا مؤمنًا بالله وبالمسيحية ولو أنه عارض عقيدة الثالوث، ومع ذلك انحاز إلى نظرية هارتلي, ولم يكن هذا الجمع بين الإيمان وبين المادية شاذا عند الماديين الإنجليز. وقد حشد بريستلي في كتابه "بحوث في المادة والروح" " 1777 " أدلة الماديين المتقدمين والمتأخرين، وأضاف إليها أخرى من عنده، نذكر أهمها فيما يلي: ب- يقول: 1 - لو كانت النفس بسيطة لما كانت في الجسم الممتد في المكان. 2 - إن نمو النفس مساوق لنمو الجسم تمام المساوقة، فهي تابعة له. 3 - ليس لدينا معنى واحد إلا وقد جاء عن طريق الإحساس أي: عن طريق الجسم. 4 - إن معاني الماديات كمعنى شجرة تنحل إلى أجزاء كالماديات أنفسها، فكيف يمكن أن توجد هذه المعاني في نفس غير منقسمة؟ 5 - ما فائدة النفس من الجسم, ولم توجد فيه إذا كانت تستطيع أن تحس وتعقل, وتعمل مستقلة عنه؟

ومن هذه الاعتراضات وأمثالها ندرك أن بريستلي لم يفهم معنى النفس المتحدة بالجسم لكي تمنحه الوحدة وتعمل بوساطته. ج- على أنه يقر باستحالة تفسير شعورنا بالشخصية مع القول بالمادية، إذ إن هذا الشعور يعني الشعور بجملة الأجزاء مع قيام كل جزء برأسه، ويسلم بأن هذه الحجة أقوى حجج الروحيين. ولكنه يعود فيسألهم: كيف تؤلف كثرة المعاني والعواطف والإرادات وحدة الشخصية؟ ويزعم أن المادية والروحية سواء في هذه النقطة، أي: إن كلتيهما تركب الوحدة بالكثرة. لم يدرك الفارق العظيم بين كثرة مادية آحادها متخارجة، وكثرة معنوية آحادها أعراض أو أفعال لجوهر بسيط يستطيع لبساطته أن ينعكس على نفسه ويدرك وحدته. د- وبريستلي يسمي مذهبه بالمادية، ولكنه يعتقد أن ماهية المادة القوة، قوة جاذبة ودافعة، وأنه يجب تصور الذرات بمثابة "نقط قوة"، وأن الصلابة كيفية محسوسة لا تعبر عن ماهية المادة بل عن فعل هذه المادة في الحس. 67 - إراسم دروين " 1731 - 1802 ": طبيب وعالم طبيعي وشاعر وفيلسوف. اصطنع نظرية هارتلي، وذهب في كتابه "قوانين الحياة العضوية" " 1794 " إلى أن الغرائز تتكون بالتجربة والتداعي بتأثير غريزة حب البقاء والملاءمة مع البيئة. ثم ذهب إلى أبعد من هارتلي فأكد أن الصفات المكتسبة بالطريقة المذكورة تنتقل بالوراثة.

الفصل الثاني: الفلسفة الخلقية والاجتماعية

الفصل الثاني: الفلسفة الخلقية والاجتماعية 68 - لورد شفتسبري " 1671 - 1713 ": أ- المذاهب التي نجملها في هذا الفصل تؤلف موقفًا وسطًا بين مذهب الأنانية الذي يمثله هوبس، وبين المذهب العقلي الذي يريد أن يرجع الأخلاق إلى قواعد ثابتة، فإن أصحاب هذا الموقف الوسط يستهجنون الأنانية ويرون بينها وبين الأخلاق الصحيحة مسافة كبيرة، ولكن المذهب الحسي أضعف ثقتهم بالعقل، فلجئوا إلى العاطفة وطلبوا إليها أن تمدهم بأسس الأخلاق، وأولهم شفتسبري حفيد اللورد الذي عرفه لوك. ب- يذهب شفتسبري في كتابه "بحوث في الفضيلة" إلى أن ليس بصحيح أن الميل الأساسي في الإنسان هو محبة الذات؛ إن في الإنسان ميولا اجتماعية طبيعية، بل إن في الحيوان مثل هذه الميول، وهي في كل نوع موجهة لخير النوع، وهي صنع غاية تحقق بها النظام الكلي. لقد بدد هوبس معنى الأخلاق، وهدم لوك أساس الأخلاق بنقده للمعاني الغريزية واستبعاده كل غريزة طبيعية. ليس يمكن الادعاء أن معنى المحبة والعدالة مستمدان من التجربة وحدها أو من الدين وحده. إن هناك غريزة تربط الفرد بالنوع، فلم يعش الإنسان قط, ولا يستطيع أن يعيش متوحدًا. من الخطأ المعارضة بين حال الطبيعة وحال اجتماع, وإذا ما عدنا إلى أنفسنا وجدنا فينا عواطف لاإرادية، هي الإعجاب بالنبل والخير، واحتقار الخسة والخبث. وذلك هو الحس الخلقي, لدينا حس باطن قوامه محبة النظام والجمال، وهذا الحس يدرك الخير والشر في الأفعال إدراكًا بديهيًّا مما يدرك البصر الألوان في الأشياء. فإذا طاوعناه وجدنا الإيثار يحدث في النفس اغتباطًا لطيفًا بما نهيئه للغير من سعادة، فيتفق الإيثار والأثرة ولكنها أثرة يفوق الاغتباط بها الاغتباط باللذات الحسية العنيفة, ويكفل الأخذ بها النظام والتناسق في الحياة الفردية والحياة الاجتماعية في الوقت نفسه.

69 - فرنسيس هاتشيسون " 1694 - 1747 ": نشر عدة كتب في الأخلاق، أهمها كتاب "الفحص عن أصل معنى الجمال والفضيلة" " 1725 " وعين أستاذًا بجامعة جلاسكو في سنة 1729. ويقتصر عمله على ترتيب آراء شفتسبري والتوسع في شرحها والتدليل عليها. وهو يذهب إلى أن لنا حسًّا للخير الخلقي، وأنه مع ذلك لا يغني عن العقل وعن التجربة؛ فالعقل يستنبط الوسائل لتحقيق غايات ذلك الحس، والتجربة تظهرنا على معلولات الأفعال وتعلمنا أن خير الأفعال ما عاد بأكبر سعادة على أكبر عدد من الناس. والحس الخلقي منحة من الله ودليل على حكمته السامية من حيث إن هذا الحس لا يقر إلا الأفعال النافعة للغير أو العائدة علينا بخير شخصي يتفق مع خير الغير, وهو حس أصيل لا يرجع إلى الدين ولا إلى النفع الاجتماعي؛ أما أنه لا يرجع إلى الدين، فالشاهد عليه ما نراه من بعض الناس الذين لا يعرفون الله ولا ينتظرون منه ثوابًا وهم حاصلون مع ذلك على معنى رفيع للشرف؛ وإذا استبعدنا الحس الخلقي ولم نعتبر سوى الجزاء الإلهي، كانت أفعالنا صادرة عن إغراء الثواب أو خوف العقاب لا عن الشعور بالواجب، وأما أن الحس الخلقي لا يرجع إلى اعتبار النفع الاجتماعي، فدليله أننا لا نقدر سوى الأفعال النزيهة، فنحتقر الخائن لوطنه ولو كان نافعًا لوطننا، ونكبر العدو الكريم. فالأخلاق قائمة بذاتها, مستقلة عن الدين والتجربة. 70 - آدم سميث " 1723 - 1790 ": أ- أخذ عن هاتشيسون بجامعة جلاسكو، ثم قصد إلى أكسفورد، وفي سنة 1751 صار أستاذًا بجامعة جلاسكو. وكان تدريسه مؤلفًا من أربعة أقسام: اللاهوت الطبيعي، الأخلاق، الحق الطبيعي، الاقتصاد السياسي. وله كتابان مهمان: الأول "نظرية العواطف الأخلاقية" " 1759 " والثاني "بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها" " 1776 " كان بمثابة "شهادة ميلاد" علم الاقتصاد السياسي, باعتباره علمًا قائمًا برأسه مبنيًّا على التجربة، وعد سميث مؤسسه. وفيما يلي كلمة عن كل كتاب.

ب- في "نظرية العواطف الأخلاقية" يرى آدم سميث هو أيضًا استحالة تعيين الفضيلة في كل حالة جزئية بناء على قوانين ثابتة، ويرجع هذا التعيين إلى "العطف" أو التعاطف أي: انفعالنا بعواطف الغير، ويستخرج قانون السيرة من قوانين العطف، فيلاحظ أن انفعالات الغير تنتقل إلينا بالعدوى، فلا نراهم يألمون أو يضحكون أو يغضبون إلا ونشاطرهم شعورهم, ذلك ميل طبيعي غير إرادي يحسه أشد الناس أنانية. وهكذا تجعلنا الطبيعة متضامنين جميعًا، نسر أو نحزن لما يصيب الغير. وقد ربطت الطبيعة بالعطف لذة كي يطلب لذاته, وهذا يكفي أساسًا للأخلاق؛ لأن العطف يتجه بالطبع إلى الخير. مثال ذلك: أن غضب الرجل العنيف أقل تأثيرًا فينا من حلم خصمه، وأننا نتأثر بالغضب للحق والعدل أكثر من تأثرنا باستكانة المسيء. فقوانين العطف وقوانين الأخلاق متطابقة، بحيث نستطيع أن نضع هذه القاعدة: "لا تفعل إلا ما شأنه أن يحوز رضا إخوانك في الإنسانية ويكسبك عطفهم" إذ إن خيرية الفعل تقاس بما يثيره من عطف خالص شامل في الحاضر والمستقبل. ومن هذه القاعدة تنشأ جميع المعاني الأخلاقية من مدح وذم وندم وواجب؛ فكما أننا نحكم على الآخرين، يحكم الآخرون علينا، فنعتاد النظر إلى أفعالنا مما ينظرون إليها أي: بدون تحيز، حتى إننا قد نخالف قومنا ونخرج على بعض التقاليد المرعية بينهم فنتعرض للوم والمذمة، ونحن واثقون أن الخلف ينصفنا، وأن قاعدة العطف تتحقق هنا أيضًا من حيث إننا شهود أفعالنا نغتبط بها أو نألم لها تمشيًا مع تلك العاطفة الباطنة. وعلى ذلك ليس الحس الخلقي غريزة كاملة منذ البداية، ولكنه يتكون ويترقى بالعقل والتجربة؛ وما يسمى بالواجب صادر عن العطف وراجع إليه، بمعنى أن العمل بمقتضى الواجب يقوم في أن ينصب كل منا نفسه شاهدًا عدلًا على نفسه فيقدر أفعاله بما يشعر به من عطف نزيه كالذي يشعر به الآخرون لو علموا بها. ج- وفي كتاب "ثروة الأمم" يقصد إلى أن يكفى الناس شر تدخل الحكومة وتعسفها، فيبين أن للثروة مصدرين هما العمل والادخار، وأنهما لا ينموان إلا حيث يترك "روح الصناعة" حرا من كل قيد، وأن قانون المنفعة كفيل بتنظيم الشئون الاجتماعية، بحيث إذا كفت الحكومة عن التدخل وتركت

قانون تقسيم العمل بحسب الكفايات وقانون العرض والطلب يفعلان فعلهما، رأينا منفعة المنتج ومنفعة المستهلك تتطابقان. فيضع سميث هذه القاعدة: "كل إنسان، طالما لم يخالف قانون العدالة، فهو حر كل الحرية في اتباع الطريق الذي تدله عليه منفعة". ولكنه يعني بالعدالة معنًى غريبًا، فيحلل المنافسة التجارية بجميع وسائلها، ولا يقر للعامل بحد أدنى من الأجر بل يدعه تحت رحمة صاحب العمل, كأنه لم يشد بالعطف، وكأن ليس من شأن العطف التخفيف من وطأة قانون العرض والطلب. ولا يريد سميث أن تتدخل الحكومة لحماية الضعفاء أو لصيانة الأخلاق العامة، بل يقصر وظيفتها على منع العنف وإقرار الأمن. وقد ظن أن ليس يوجد وسط بين ما يخافه من استبداد الحكومة وبين ما يراه من إطلاق الحرية، هو تدخل الحكومة في حدود معقولة. وقد ساد العمل بهذا المذهب الحري زمنًا طويلًا فأدى إلى استبداد أقلية من الماليين بجمهور العمال، وإلى نشأة الأحزاب الاشتراكية تدافع عن العمال وتحاول تحقيق العدالة الاجتماعية، ثم إلى الشيوعية التي تقيم نظام الثروة العامة على تدخل الحكومة ولا تدع للأفراد شيئًا من الحرية. ونحن نشهد الآن إفلاس المذهب الحري، وميل الحكومات جميعًا إلى تنظيم الإنتاج والاستهلاك لضمان حياة محتملة للسواد الأعظم.

الفصل الثالث: جورج باركلي " 1685 - 1753 "

الفصل الثالث: جورج باركلي " 1685 - 1753 " 71 - حياته ومصنفاته: أ- هو في الفلسفة الإنجليزية بمثابة مالبرانش في الفلسفة الفرنسية. كلاهما رجل دين، وكلاهما يجد في المبدأ التصوري وسيلة لإنكار المادة والرد على الماديين، وكلاهما يجعل من الله محور مذهبه في الوجود والمعرفة واليقين. يصدر باركلي عن لوك, ولكنه يعارضه ويزعم أنه يصحح موقفه في غيرما موضع. أنكر لوك موضوعية الكيفيات الثانوية، وآمن بالكيفيات الأولية المترجمة عن الامتداد أو المادة، فقال باركلي: وما الذي يخولنا الحق في الإيمان بوجودها؟ وما الفائدة في استبقاء المادة مع الإقرار بأننا نجهل ماهيتها؟ ليس يوجد سوى الأرواح، فاللامادية هي الحق وأنكر لوك موضوعية الأنواع والأجناس، وآمن بالمعاني المجردة في الذهن فحسب، فقال باركلي: بل ليس يوجد في الذهن معانٍ مجردة، وجميع معارفنا جزئية، وكل ما هنالك أن اسمًا بعينه ينطبق على جزئيات عدة. فالمذهب كله يرجع إلى هاتين النقطتين: الاسمية واللامادية. ب- ولد جورج باركلي في أيرلندا من أسرة إنجليزية الأصل بروتستانتية المذهب. ولما بلغ السادسة عشرة دخل جامعة دبلين حيث كان لمؤلفات ديكارت ولوك ونيوتن الحظ الأكبر في برنامج الدراسة. وبعد سبع سنين حصل على الأستاذية في الفنون، ونشر رسالتين صغيرتين، إحداهما في الحساب، والأخرى في "بحوث رياضية متفرقة". وعين مدرسًا بالجامعة " 1707 " لليونانية والعبرية ثم للاهوت, وبعد سنتين صار قسيسًا. ونشر "محاولة في نظرية جديدة للرؤية" " 1709 " تعتبر تمهيدًا لكتاب آخر أخرجه في السنة التالية عنوانه "مبادئ

المعرفة الإنسانية، حيث يفحص عن أهم أسباب الخطأ والصعوبة في العلوم، وأسس الشك والكفر بالله والإلحاد" وهو الكتاب المشتمل على مذهبه اللامادي، وكان باركلي قد اكتشف هذا المذهب وهو في العشرين، فهو يعد من أكثر الفلاسفة تبكيرًا في بناء مذهبهم. وقد سجل مرحل تفكيره في "مذكرات" دونها بين سنتي 1702 و 1710، وذكر فيها مشروع المقدمة والمقالة الأولى "وهما ما نشر" ومشروع مقالة ثانية في تطبيق المذهب على علمي الهندسة والطبيعة، ومشروع مقالة ثالثة في الأخلاق. فأثار كتاب "المبادئ" دهشة شديدة لإنكاره وجود الأجسام، حتى ظن بعضهم بالمؤلف مسًّا في عقله. وفي سنة 1713 قصد المؤلف إلى لندن داعيًا إلى مذهبه، وتعرف إلى مشاهير الكتاب، ونشر "ثلاث محاورات بين هيلاس وفيلونوس" هي عرض أدبي للامادية؛ أما هيلاس فهو الفيلسوف المادي كما يدل عليه اسمه المشتق من هيلي أي: هيولي، وأما فيلونوس فهو "صديق العقل" الناطق بلسان المؤلف، وينتهي الحوار بإقناع هيلاس باللامادية طبعًا! ج- وعرض له ما دفعه إلى السفر، فقضى عشرة أشهر في فرنسا وإيطاليا " 1713 , 1714 " ثم عاد إلى إنجلترا. وبعد سنتين رحل إلى إيطاليا وأقام فيها خمس سنين كان أكثر اهتمامه أثناءها بالجيولوجيا والجغرافيا والآثار. وفي عودته " 1721 " توقف بمدينة ليون ليكتب في "علة الحركة" وهو موضوع اقترحته أكاديمية العلوم بباريس، فوضع رسالة "في الحركة" هاجم فيها طبيعيات نيوتن، ونشرها بلندن حال عودته إليها " 1721 " وهي بمثابة المقالة الثانية من كتاب المبادئ. ولكن سفرًا طويلًا كان ينتظر باركلي, ذلك أن إرثًا آل إليه سنة 1723 فخطر له على الفور أن ينفقه في نشر المسيحية في الممتلكات الإنجليزية بأمريكا، واعتزم أن يؤسس لهذا الغرض في جزر برمودا معهدا لتخريج مبشرين يضطلعون بهذه المهمة, بل يصلحون العالم أجمع! ووعده رئيس الوزارة بمعونة مالية، فتزوج وأبحر سنة 1728 حاملًا معه عشرين ألف مجلد. ونزل "رود أيلاند" ومكث بها سنتين ينتظر المال، وفترت حماسته للمشروع، وأبلغ أن رئيس الوزارة يرى أن يعود إلى وطنه, ففعل سنة 1732. على أنه لم يضيع وقته هناك، فقد درس أفلاطون وأفلوطين

وأبروقلوس وبعض رجال الفيثاغورية الجديدة دراسة دقيقة لأول مرة. وهناك أيضًا حرر كتاب "السيفرون أو الفيلسوف الصغير" يتابع فيه حملته على "أحرار الفكر" ونشره حال رجوعه إلى إنجلترا؛ والكتاب بمثابة المقالة الثالثة من كتاب المبادئ. وأعاد طبع كتبه السابقة، وبهذه المناسبة رد على الانتقادات في "دفاع عن نظرية الرؤية وشرح لها" " 1733 " وفي "التحليل" " 1734 " وهو خطاب موجه إلى رياضي ملحد, وفيه نقد لمبادئ الرياضيات من الوجهة الاسمية. د- وفي 1734 عين أسقفًا على كلوين بأيرلندا الجنوبية حيث كانت الغالبية من الكاثوليك، فأبدى نحوهم كثيرًا من التسامح، بل أبدى كثيرًا من العطف على ما كانوا فيه من بؤس، فأنشأ جمعيات خيرية ومدارس، وفكر في "مصرف وطني أيرلندي" ونشر رسالة في هذا الموضوع " 1737 " وعني بالإصلاح الأخلاقي ودون فيه رسائل. ومنيت أيرلندا بمجاعة عقبها وباء سنة 1740، فجرب في علاجه دواء كان عرفه من هنود رود أيلاند، هو ماء القطران، فحصل على نتائج باهرة. فظن أنه وفق إلى الدواء الكلي، وشرع في وضع كتابه الأخير "سيريس" أي: سلسلة باليونانية, وهو يفسر هذا العنوان بقوله: "سيريس" أي: سلسلة الاعتبارات والبحوث الفلسفية في مفاعيل ماء القطران، وفي موضوعات أخرى متنوعة مترابطة متولد بعضها من بعض " 1744 " وهذا الكتاب مرآة لدراسته للأفلاطونية والفيثاغورية في رود أيلاند. وفي 1751 فقد ابنًا له وجزع جزعًا شديدًا وكانت صحته آخذة في الاعتلال، فعول على الاعتزال بمدينة أكسفورد، وبعد بضعة أشهر من حلوله بها أصيب بشلل كلي أودى به. 22 - الاسمية: أ- مبدأ المذهب الحسي أن المعرفة الحقة هي المقصورة على ما يبدو للشعور بأعراض محسوسة، وأن ما لا يبدو محسوسًا وهم محض. ولكن الفلاسفة الحسيين تفاوتوا في تطبيق هذا المبدأ، وكان باركلي أكثر دقة من لوك في هذا التطبيق. سلم لوك بأن الاسم يثير في النفس معنًى مؤلفًا من الخصائص المشتركة بين أفراد النوع أو الجنس الواحد، فقال باركلي: "لست أدري إن كان لغيري تلك القوة العجيبة، قوة تجريد المعاني. أما أنا فأجد أن لي قوة تخيل

معاني الجزئيات التي أدركتها، وتركيبها وتفصيلها على أنحاء مختلفة, ولكن يجب على كل حال أن يكون لها شكل ولون. وكذلك معنى الإنسان عندي يجب أن يكون معنى إنسان أبيض أو أسود أو أسمر، مقوم أو معوج، طويل أو قصير أو متوسط. ومهما أحاول فلست أستطيع تصور المعنى المجرد. ومن الممتنع عليّ أيضًا أن أتصور المعنى المجرد لحركة متمايزة من الجسم المتحرك، لا هي بالسريعة ولا بالبطيئة، ولا بالمنحنية ولا بالمستقيمة, وقس على ذلك سائر المعاني الكلية المجردة" 1. والوجدان يشهد بأن "اللامعين ممتنع التصور" وهنا خطأ باركلي والحسيين جميعًا. إن هذا الخطأ قائم في الظن بأن "عدم التعيين" من جهة الأعراض المحسوسة المتخيلة لا يدع مجالًا لتعيين من جهة العناصر المعقولة المقومة للماهية. أجل لا يمكن أن تكون الصورة الخيالية غير معينة من جهة الأعراض؛ لأن الأعراض موضوعات الحس والخيال! أما المعنى المجرد فغير معين من جهة الأعراض، ومعين من جهة الخصائص الذاتية، وهذه الخضائص هي المدركة به وفيه. إن العقل يدرك أن الشكل واللون يختلفان في أفراد الإسان، وأن السرعة والاتجاه يختلفان في الحركات، فيحكم بأن هذه الأعراض غير لازمة بالتعيين، وأنه يجب صرف النظر عنها وتصور الإنسان حيوانًا ناطقًا، وتصور الحركة مجرد نقلة من مكان إلى آخر. ب- غير أن باركلي يضطر إلى التلطيف من تطرف موقفه في ثلاث نقط حيث يعترف بالكلية، وبالفرق بين الحد أو التعريف وبين المعنى مما يتصوره هو، وبأن لنا دراية ما بالنفس وبالروحيات التي هي غير محسوسة ولا متخيلة. أما الكلية فيفسرها بأن معنى جزئيا يؤخذ ليمثل سائر المعاني الجزئية التي من جنسه أو من نوعه، ولكن الجنس أو النوع لا ينشأ من إدراك شيء هو هو، بل من الإحساس بالتشابه. مثال ذلك أن المعنى المجرد للمثلث الذي لا يمثل نوعا من أنواع المثلثات هو معنى متناقض، ولا يستطيع أحد أن يكونه، وليس في ذهن الرياضي سوى معنى جزئي، بيد أن هذا المعنى يمكن أن يكون "كليا من حيث دلالته" أي: يمكن أن يمثل "أي مثلث كان" 2. ولولا

_ 1 مقدمة كتاب "مبادئ المعرفة الإنسانية". 2 مقدمة كتاب "مبادئ المعرفة الإنسانية" " 12 و 15 ".

تشبع باركلي بالاسمية لرأى غريبًا أن يكون المعنى الجزئي "كليا من حيث دلالته" ولساءل نفسه: أليست هذه الدلالة عين المعنى المجرد الكلي؟ وإذا كانت هناك أنواع يضم كل منها أفرادًا فكيف لا تقابلها معان مطابقة لها؟ إن تفسيره يرجع إلى القول بأننا لا نعقل النوع، ولكننا مع ذلك نضع اسمًا يدل على النوع. أما الحد المستعمل في العلوم فإن باركلي يقبله، ثم ينكر أن يكون له معنى مقابل في الذهن، ويقول: إن أصحاب المعاني المجردة يخلطون بين المعنى الذي يتصور "وهو جزئي" وبين الحد الذي لا يمكن أن يتصور. والحال هنا كالحال في النقطة السابقة, فلو أن باركلي ساءل نفسه: كيف يمكن أن يوجد الحد دون إدراك مقابل؛ لرأى نقص المذهب الحسي. وأخيرًا اضطر باركلي ابتداء من سنة 1734 إلى أن يدل بلفظ notion على معرفة الروح والروحيات والعلاقات بين المعاني، وهي أمور لا تتخيل كالمحسوسات، وهذا إقرار منه بأن لدينا معارف مغايرة للمعارف المتخيلة والتي يدل عليها بلفظ 1 ided. يضاف إلى ذلك أنه في الطبعة الثالثة لكتاب السيفرون المنشورة قبل وفاته بسنة، حذف الفقرات الثلاث التي كان لخص فيها نقده لمذهب المعاني المجردة. ج- ولكنه كان قد ناقش أصول الرياضيات والعلم الطبيعي بناء على الاسمية فوصل إلى أقوال نجد مثلها شائعًا الآن على أقلام كثير من الفلاسفة والعلماء 2. أهم هذه الأقوال أن الحساب والجبر علمان اسميان, فإننا لا نعتبر فيهما الأشياء بل العلامات, ولا نعتبر هذه لذاتها بل لأنها توجهنا في استخدامنا للأشياء. إن معنيي العدد والمقدار إذا أخذا بغض النظر عن المحسوسات كانا معنيين مجردين ومن ثمة كاذبين. ومعنى اللامتناهي باطل، فمن المحال أن يوجد معنى مكان لامتناه من حيث إن كل معنى فهو متناه؛ ومن المحال أن يوجد خط لامتناهي الصغر من حيث إن كل خط فهو قابل للقسمة، ومن المحال قسمة المقدار إلى ما لانهاية من حيث إن المكان المدرك بالحس متناه دائمًا، وإن هناك حدا أدنى ملموسا أو مبصرا لا يدرك وراءه شيء، ومن ثمة لا يوجد دونه شيء. وما معنى الزمان إلا معنى تعاقب المعاني في الذهن, وأما المكان

_ 1 الطبعة الثالثة من الكتاب السابق " 142 ". 2 هذه المناقشة موضوع كتاب "علة الحركة" وكتاب "التحليل" أي: الرياضي.

فإن اللامادية تبين بطلانه "على ما سنرى". فمتى لم تكن المبادئ الرياضية معقولة لم تكن الرياضيات علومًا، وإنما هي فنون أو صناعات مفيدة في العمل. وأما العلم الطبيعي فموضوعه قوانين الحركة وتفاعل الأجسام، ولكن اللامادية تبين أن الطبيعة جملة معانٍ، فليس لنا أن نضيف للأجسام قوة وفاعلية، وليس يوجد رباط ذاتي بين ما يسمى علة وما يسمى معلولا، وما نظام العالم إلا نتيجة الإرادة الإلهية، وإنما يريد الله النظام محبة بنا؛ لكي نستمد من التجربة توقعا مفيدا في أفعالنا المستقبلة. إذا كان هذا هكذا كانت المعجزات معقولة، وفهمنا كونها استثنائية. د- هذا الشك في قيمة العلم من الوجهة النظرية مبني على الشك في قيمة المعاني المجردة، أي: على الخلط يبن تخيلنا للشيء وتعقلنا له أو حكمنا عليه بكذا وكذا. وكان هذا الشك عزيزًا على باركلي، فقد أفاد منه سلاحًا يطعن به الملحدين ويؤيد الدين, إذا كان العلماء يقبلون المبادئ النظرية وهي غير معقولة, فبأي حق يهاجمون العقائد الدينية؟ وإذا كانوا يقبلون المبادئ النظرية لمرماها العملي، فلم لا يقبلون العقائد الدينية التي تولد في النفس الإيمان والمحبة؟ فالاعتقاد بالمعاني المجردة سبب قوي للإلحاد, وهو سبب قوي للاعتقاد بالمادة الذي هو سبب آخر للإلحاد. وهكذا يرى باركلي في الاسمية تأييدًا للإيمان، وتجيء الاسمية على يده ضربا من الفلسفة المسيحية. ولكنه يمحو اللاهوت النظري بأكمله، فيتفق مع النزعة البروتستانتية التي ترمي إلى مجرد الإيمان في حين أن الاتجاه العام في المسيحية كان إلى التعقل بقدر المستطاع، على ما حاوله آباء الكنيسة والمدرسيون من بعدهم. 73 - اللامادية: أ- إنكار المادة لازم من المبدأ التصوري القائل: إن الموضوعات المباشرة للفكر هي المعاني دون الأشياء. وباركلي يأخذ على ديكارت ولوك اعتقادهما بوجود المادة بعد قولهما: إن المعاني أحوال للنفس، ويقرر أن "وجود الموجود هو أن يدرِك أو أن يدرَك" وهذه عبارة مأثورة عنه. والمدرك معنى، وغير المدرك لا وجود له. إن الفلاسفة القائلين بالمادة يعترفون بأنهم لا يدركونها

في ذاتها, فما الفائدة من وضعها؟ وماذا عسى أن تكون؟ إنها معنى مجرد يمتنع تصوره بمعزل عن الكيفيات، فهي معنى باطل. وعلى هذا المعنى الباطل تقوم وحدة الوجود عند سبينوزا وأضرابه، فإنهم يجمعون فيه جملة الأشياء، وعليه تقوم المادية، فإنها ترد إليه جملة الوجود، وما الأجسام في الحقيقة إلا تصورات الروح, فالاعتقاد بالمادة عديم الجدوى وفيه خطر كبير. ب- وإلى التدليل على أننا لا ندرك المادة قصد باركلي في رسالته "نظرية جديدة للرؤية" فيبين أن البصر لا يدرك بذاته مقادير الأشياء وأوضاعها ومسافاتها، إذ إن المسافة أية كانت ما هي إلا خط أفقي يقع على نقطة واحدة من الشبكية. وكل ما يدركه البصر إن هو إلا علامات أو دلائل على المسافات والأوضاع والمقادير؛ ذلك بأن إدراك الكيفيات الأولية يرجع في الأصل إلى اللمس وحده، وبتكرار التجربة ينشأ تقارن بين مدركات اللمس وبين بعض الإحساسات البصرية، هي اختلافات الأضواء والألون، أو بعض الإحساسات العضلية الناجمة من حركات العينين، فتصير هذه كافية لتقدير مسافات الأشياء وأوضاعها ومقاديرها ولا تدعنا العادة نشعر بذلك، بل نعتقد أننا نبصر الكيفيات الملموسة ونحن نستنتجها استنتاجًا من الكيفيات المبصرة التي هي علامات عليها. وإذا افترضنا أنفسنا خلوا من هذه التجربة أشبهنا الأكمه الذي يستعيد البصر فلا يستطيع التمييز بين مكعب وكرة بالبصر وحده وقبل لمسهما، إذ لا "تبدو له المبصرات إلا كسلسلة جديدة من المعاني أو الإحساسات, كلها قريب إليه قرب إحساسات الألم أو اللذة" أي: كلها ذاتي داخلي. تظن العامة أن هناك نسبة بين الامتداد المبصر والامتداد الملموس لشيء بعينه، والحقيقة أن "معاني اللمس والبصر نوعان متمايزان متغايران" وليس بينهما ارتباط ضروري، بل كل ما بينهما تقارن تجريبي: "إن معاني البصر، حين نعرف بها المسافة والأشياء القائمة على مسافة, لا تدلنا على أشياء موجودة على تلك المسافة, وإنما هي تنبهنا فقط إلى ما سوف ينطبع في ذهننا من معاني اللمس "أي: الإحساسات اللمسية" تبعًا لأفعال معينة". أما المعاني اللمسية فهي وسائر المعاني سواء في كونها ذاتية. وقد سلم لوك بأن الكيفيات الثانوية لا توجد إلا بما هي مدركة فيجب أن ينسحب هذا على الكيفيات الأولية أيضًا.

ج- على أن إنكار المادة لا يعني إنكار الأشياء. إننا ندرك المحسوسات ولا نستطيع الشك في وجودها، وندركها في الأماكن التي تبدو فيها. "إن من عبث الأطفال أن يعتبر الفيلسوف وجود المحسوسات موضع شك, ريثما يبرهن عليه بالصدق الإلهي ... لو قبلت هذه المقدمة لشككت للحال في وجودي الخاص كما أشك في وجود الأشياء التي أبصرها, وألمسها الآن". إننا نرى الفرس نفسه، ونرى الكنيسة نفسها ونرى الحائط أبيض، ونحس النار حارة، ونعلم أن الأشجار هي في الحديقة، وأن الكتب هي على المنضدة. وهكذا "لا تقولن: إن اللامادية تحيل الأشياء معاني، وإنما هي تحيل المعاني أشياء". والواقع أننا نميز الإحساس من الصورة، والموجود من المتخيل، وهناك علامتان تسمحان بهذا التميز: الأولى قوة الإحساس وتميزه بالنسبة إلى الصورة، فإن هذه تبدو أثرًا ضعيفًا لذاك؛ والعلامة الثانية أن الإحساسات أشد تماسكًا وأكثر انتظامًا من الصور، تتسلسل بنظام فنشعر أنها ليست من صنعنا، ونعتقد بالخارجية، فإن الشيء الخارجي مجموع من الإحساسات تعرضها علينا التجربة مؤتلفة دائمًا، كما تعرض علينا علاقات بين مختلف المجموعات أو الأشياء، وبتكرار إحساسنا بالعلاقات تنشأ فينا عادة توقع إحساسات معينة بعد إحساسات معينة, وينشأ لدينا الاعتقاد بدوام الأشياء ولو لم ندركها دائمًا. وهذا يكفي لقيام العلم الطبيعي، فإنه عبارة عن تفسير ظواهر تسمى معلولات بظواهر أخرى تسمى عللا. د- كيف نفسر ائتلاف الإحساسات في مجاميع، واطراد العلاقات بين هذه المجاميع؟ لا نلتمس التفسير في المحسوسات أنفسها باعتبارها أشياء قائمة خارج الذهن، ونحن لا ندرك شيئًا خارج الذهن، ولا نستطيع أن نتصور تفاعلًا بين جوهر مادي هو الشي وآخر روحي هو النفس. إذن يجب أن تكون العلة المطلوبة روحية, ولكنها ليست روحنا، فإن ذهننا لا يحتوي على جميع المعاني؛ ثم إنه منفعل بالإضافة إليها وقابل لها، وإن جميع الأذهان تدركها في نفس الوقت ونفس الظروف فيبقى أن العلة المطلوبة روح خارجية, وماذا عساها أن تكون إلا الله؟ "لا أقول: إني أرى الأشياء بإدراك ما يمثلها في الذات الإلهية المعقولة كما يقول مالبرانش، بل إن الأشياء المدركة مني هي

معلومة من عقل لامتناهٍ ومحدثة بإرادته". العقل الإلهي هو الذي يعرض علينا المعاني ونظامها, ودوام الله هو الذي يؤيد اعتقادنا بدوام الأشياء، والإرادة الإلهية هي التي وضعت العلاقات بينها "فكون الغذاء يغذي، والنوم يريح، ووجوب أن نزرع لكي نحصد، وبالإجمال وجوب استخدام وسائل معينة للوصول إلى غاية معينة، هذه أمور نعرفها، لا باستكشاف ترابط ضروري بين معانينا، بل فقط بملاحظة القوانين الموضوعة في الطبيعة". وعلى ذلك ليست الطبيعة ما يعتقد الفلاسفة الوثنيون من أنها علة مغايرة لله, إنها اللغة التي يخاطبنا بها الله. هـ- ذلك مذهب باركلي يدور كله على المبدأ الذي وضعه ديكارت حين قال: إن الذهن لا يعرف الأشياء مباشرة, بل يعرفها بوساطة ما لديه عنها من معانٍ، فيصل إلى مثل آراء الديكارتيين. وهو مذهب مسيحي أو لون من ألوان الأفلاطونية المسيحية التي صادفناها في فلسفة العصر الوسيط، والتي تريد أن ترى في الله الفاعل الأوحد، وفي العالم تجليًا ورمزًا ولغة. نقول "تريد" لأن المبدأ الديكارتي يحتمل بل يحتم نتيجة أخرى هي عزل الفكر في نفسه, واعتباره الكل في الكل. وباركلي لا يتفادى هذه النتيجة إلا بمناقضة بعض آرائه، فإنه يعتمد على مبدأ العلية للقول بوجود الله وليست تسمح التصورية الاسمية بقبول هذا المبدأ؛ وهو يقبل الجوهر الروحي مع اعترافه بأن هذا الجوهر ليس معنًى ولا مدركًا بمعنى، ومع أن التصورية لا تسمح بقبول الجوهر أيا كان. وسنرى هيوم يلح في إبطال مبدأ العلية، ويستبعد الجوهر الروحي بنفس الدليل الذي اعتمد عليه باركلي لاستبعاد الجوهر المادي. وولا غرابة أن نرى باركلي، وقد فرغ من بيان مذهبه وتأييده على النحو المتقدم، يجد في الأفلاطونية والفيثاغورية مزيدًا من البيان والتأييد، فينقل عنهما نصوصا مطولة يحشو بها كتابه العجيب "سيريس" وينسج فيه على منوالهما. فقد كان يرمي إلى معرفة الله وتفسير صدور الموجودات "أو المعاني" عن الله. والمعرفة الحسية لا تنبئنا بشيء عن ماهية الله الروحية. فلما قرأ الكتب الأفلاطونية والفيثاغورية أدرك أن المعرفة الحسية ناقصة سطحية, ورأى أن "التطهير الأفلاطوني" يرتفع بنا إلى إدراك المُثُل التي هي الله نفسه, والتي هي

قوانين الوجود، دون أن يتصورها "معاني مجردة"، ودون أن يعدل عن رفضه للمعاني المجردة، وإنما تصورها موجودات عقلية غير مخلوقة، مع علمه بأن "أدق عقل إنساني إذا بذل أقصى جهده لم يدرك من هذه المثل الإلهية إلا وميضًا خاطفًا؛ لعلوها فوق جميع الجسميات محسوسة أو متخيلة". هذه المثل يحقق الله أشباهًا لها تعلنها إلينا بأن يجعل من العالم موجودًا حيًّا تعمل فيه نار لطيفة للغاية هي نفسه، وهي الأداة المباشرة التي يستخدمها الله في تنظيم الحركات الكونية، فإنها مشبعة بالحكمة الإلهية تنفذ إلى جميع الأشياء, وتكون الكيفيات المختلفة أو المعاني المحسوسة، وتؤلف بينها في كل منظم متماسك. ولوفرة هذه النار في ماء القطران كان هذا الماء دواء عجيبًا وآلة العناية الإلهية لنشر الخير بين الناس؛ وينتهي باركلي بنظرية الأفلاطونية الجديدة في الأقانيم الثلاثة باعتبارها وسيلة إلى تصور عقيدة الثالوث, فاتجاهه لم يتغير وآراؤه الرئيسية لم تختلف.

الفصل الرابع: ديفيد هيوم " 1711 - 1776 "

الفصل الرابع: ديفيد هيوم " 1711 - 1776 " 74 - حياته ومصنفاته: أ- شغف بالفلسفة منذ صباه حتى ضحّى في سبيلها بدراسة القانون التي أرادته أسرته عليها، ثم ضحى بالتجارة. كان يطمح إلى أن يقيم مذهبًا يضارع العلوم الطبيعية دقة وإحكامًا بفضل تطبيق "منهج الاستدلال التجريبي" فسافر إلى فرنسا وهو في الثالثة والعشرين ومكث بها ثلاث سنين يفكر ويحرر وعاد إلى إنجلترا؛ وبعد سنتين " 1739 " نشر مجلدين من "كتاب في الطبيعة الإنسانية" الأول في المعرفة، والثاني في الانفعالات. وفي السنة التالية نشر المجلد الثالث والأخير في الأخلاق؛ فأشبه باركلي في التبكير العقلي. وكتابه هذا يطرق الموضوعات التي طرقها لوك، ولكنه جاء معقد الأسلوب عسير الفهم، فلقي إعراضًا عامًّا تأثر له هيوم تأثرًا عميقًا، فتحول إلى تحرير المقالات القصيرة الواضحة ونشرها في ثلاثة مجلدات بعنوان "محاولات أخلاقية وسياسية" " 1741 , 1742، 1748 " فأصابت نجاحًا. وكان قد عاد إلى "كتاب الطبيعة الإنسانية" فخففه ويسره، فأخرج كتاب "محاولات فلسفية في الفهم الإنساني" " 1748 "، وضحت فيه آراؤه عن ذي قبل، ثم عدل عنوانه هكذا: "فحص عن الفهم الإنساني". واستأنف الكتابة في الأخلاق السياسية فنشر " 1751 " كتابًا بعنوان "فحص عن مبادئ الأخلاق" هو موجز القسم الثالث من "كتاب الطبيعة الإنسانية" ونشر " 1752 " كتابًا آخر بعنوان "مقالات سياسية". ثم توفر على تدوين "تاريخ بريطانيا العظمى" فأظهره في ثلاثة مجلدات " 1754، 1756، 1759 " نالت إعجابًا كبيرًا. وكان في تلك الأثناء يعالج مسألة الدين، فصنف حوالي 1749 "محاورات في الدين الطبيعي" لم يشأ أن تنشر

في حياته، فنشرت بعد وفاته بثلاث سنين؛ ولكنه نشر " 1757 " كتابًا أسماه "التاريخ الطبيعي للدين". ب- وبعد ذلك شغل منصب كاتب السفارة البريطانية بباريس " 1763 - 1765 " فكان موضع حفاوة الأوساط الفلسفية والأدبية. وعاد إلى وطنه " 1766 " وبصحبته روسو الذي كان يطلب ملجأ في إنجلترا، وأنزله ضيفًا في بيت له. ثم عين وزيرًا لأسكتلندا " 1768 " ولكنه اعتزل الوزارة في السنة التالية، وأقام بمدينة أدنبرة مسقط رأسه، وتوفي بها. 75 - تحليل المعرفة: أ- يدور تفكير هيوم على تحليل المعرفة كما تبدو للوجدان خالصة من كل إضافة عقلية، وفقًا للمبدأ الحسي، وعلى تقدير قيمة المعرفة تبعًا لهذا التحليل ومن جهة صلاحيتها لإدراك الوجود مع العلم "بأن شيئًا لا يحضر في الذهن إلا أن يكون صورة أو إدراكًا" على ما يقضي به المبدأ التصوري. فمذهبه يرجع إلى نقطتين: حسية وتصورية، كمذهب لوك ومذهب باركلي، إلا أنه أدق تطبيقًا للمبدأين وأكثر جرأة في مواجهة نتائجهما الشكية، حتى أعلن الشك صراحة. ب- المعرفة في جملتها مجموع إدراكات perceptions أي: أفكار بلغة ديكارت, أو معانٍ بلغة لوك وباركلي. والإدراكات منها انفعالات impressions ومنها أفكار أو معان thoughts or ideas ومنها علاقات relations بين المعاني بعضها والبعض، وبينها وبين الانفعالات. فالانفعالات هي الظواهر الوجدانية الأولية، أو هي إدراكاتنا القوية البارزة، مثل انفعالات الحواس الظاهرة، واللذة والألم و"انفعالات التفكير" التي تحدث تبعًا للذة والألم، كالمحبة والكراهية، والرجاء والخوف. والمعاني صور الانفعالات؛ لذا كانت أضعف منها. والقاعدة فيما يخصها هي أن ليس من قيمة إلا أن يكون صورة انفعال أو جملة انفعالات؛ فإذا لم يكن كذلك كان مركبًا صناعيًّا يجب الفحص عن أصله ويجب تبديده. ومن هذا القبيل المعاني المجردة، وهيوم يرفضها رفضًا باتًّا ويصطنع الاسمية مثل باركلي، فيتحدث نفس حديثه ويسوق نفس الأمثلة.

يقول: "إن معانينا الكلية جميعًا هي في الحقيقة معانٍ جزئية مرتبطة باسم كلي يذكر اتفاقًا بمعانٍ أخرى جزئية تشبه في بعض النقط المعنى الماثل في الذهن". فاسم فرس مثلًا "يطلق عادة على أفراد مختلفة اللون والشكل والمقدار، فبمناسبته تتذكر هذه المعاني "أو الأفراد" بسهولة". ج- والعلاقات تنشأ بفعل قوانين تداعي المعاني، أي: قوانين التشابه، والتقارن في المكان والزمان، والعلية. هذه القوانين هي القوانين الأولية للذهن، تعمل فيه دون تدخل منه، وهي بالإضافة إليه كقانون الجاذبية بالإضافة إلى الطبيعة. فهيوم يزيد على لوك أن ليس للذهن فعل خاص في المضاهاة والتركيب والتجريد التي هي وسائل تكوين المعاني، ويقصر وظيفة الذهن على مجرد قبول الانفعالات فتحصل منها المعاني حصولًا آليًّا بموجب قوانين التداعي؛ والعلاقات التي تؤلف العلوم نوعان: علاقات بين انفعالات قائمة في أن بعض الانفعالات علل والبعض الآخر معلولات، كما هو الحال في العلوم الطبيعية، وعلاقات بين معانٍ، وهي التي تتألف منها الرياضيات, فيتعين النظر في كل من هذين النوعين. د- أما العلوم الطبيعية فقيمتها تابعة لقيمة علاقة العلية، وهذه العلاقة هي التي تسمح لنا بالاستدلال بالمعلول الحاضر على العلة الماضية، وبالعلة الحاضرة على المعلول المستقبل. ولكنها عديمة القيمة؛ فإنها ليست غريزية وليست مكتسبة بالحس الظاهر، أو الحس الباطن، أو بالاستدلال. لقد بين لوك أن ليس في الذهن شيء غريزي, والحواس تظهرنا على تعاقب الظواهر الخارجية، ولا تظهرنا على قوة في الشيء الذي يسمى علة يحدث بها الشيء الذي يسمى معلولا؛ فأنا أرى كرة البلياردو تتحرك، فتصادف كرة أخرى، فتتحرك هذه، وليس في حركة الأولى ما يظهرني على ضرورة تحرك الثانية. والحس الباطن يدلني على أن حركة الأعضاء في تعقب أمر الإرادة، ولكني لا أدرك به إدراكًا مباشرًا علاقة ضرورية بين الحركة والأمر، ولا أدري كيف يمكن لفعل ذهني أن يحرك عضوًا ماديًّا. وأخيرًا ليس يمكن القول بأن رابطة العلية مكتسبة بالاستدلال. إن الفلاسفة الذين يدعون أن للشيء الذي يظهر للوجود علة بالضرورة وإلا كان علة نفسه أو كان معلولا للعدم، يفترضون

المطلوب، أعني: استحالة استبعاد البحث عن العلة. يجب البرهنة على ضرورة العلة قبل الاحتجاج ببطلان وضع هذه العلة في الشيء الذي يظهر للوجود أو في العدم. وعلى هذا فمبدأ العلية لا يلزم من مبدأ عدم التناقض، ولا تناقض في تصور بداية شيء دون رده إلى علة. إن معنى العلة معنى البداية، وليس متضمنًا فيه، ومن الممكن للمخيلة أن تفصل بين معنى العلة ومعنى ابتداء الوجود. ثم إن معنى العلة ومعنى المعلول متغايران، ويستحيل علينا أن نعلم مبدئيا معنى المعلول من معنى العلة: "إن آدم، قبل الخطيئة، مهما افترضنا لعقله من كمال، ما كان يستطيع أبدًا أن يستنتج مبدئيا من ليونة الماء وشفافيته أنه يخنقه ويستحيل على العقل، مهما دقت ملاحظته، أن يجد المعلول في العلة المفترضة؛ لأن المعلول مختلف بالكلية عن العلة، فلا يمكن استكشافه فيها". بل إن الاستدلال لا يخولنا الحق في توقع نفس المعلولات بعد نفس العلل، إذ ليس في وسع العقل أن يبرهن على "أن الحالات غير الواقعة في تجربتنا يجب أن تشابه الحالات التي جربناها" كما أنه ليس في وسع التجربة أن تبرهن على وجوب التشابه بين المستقبل والماضي، من حيث إن التجربة نفسها قائمة على هذا الافتراض. وكل ما هنالك "أن العلة شيء كثر بعده تكرار شيء آخر, حتى إن حضور الأول يجعلنا دائمًا نفكر في الثاني". وعلى ذلك تعود علاقة العلية إلى علاقتي التشابه والتقارن، فهاتان العلاقتان هما الأصليتان، وعلاقة العلية مجرد عادة فكرية من نوعهما، وما يزعم لها من ضرورة ناشئ من أن العادة تجعل الفكر غير قادر على عدم تصور اللاحق وتوقعه إذا ما تصور السابق. والنتيجة أن ليس يوجد حقائق ضرورية ومبادئ بمعنى الكلمة, وأن العلوم الطبيعية نسبية ترجع إلى تصديقات ذاتية يولدها تكرار التجربة. هـ- وأما العلاقات التي بين المعاني, فتتجلى في الرياضيات. ويميز هيوم بين الحساب والجبر من ناحية والهندسة من ناحية أخرى. فيقول: إن الحساب والجبر علمان مضبوطان يقينيان؛ لأنهما قائمان على معنى الوحدة، وهو معنى ثابت يسمح بتأليف مقادير والمعادلة بينها بما يطابق الواقع، في حين أن الوحدات المكانية في الهندسة "كالخط والسطح" ليس لها في الواقع مثل ذلك الثبات، وإنما هي مقاربة له، وليس يستنبط منها من نتائج سوى الاحتمال القوي.

وهذا ما وصل إليه هيوم في تحليل المعرفة ونقد العلوم. وأول ما يسترعي النظر قصره وظيفة الذهن على القبول، وتفسير محتوياته تفسيرًا آليًّا بقوة الانفعالات وضعفها وفعل قوانين التداعي. على أنه يعترف بأنه إذا كان التمييز بين الانفعالات والمعاني ميسورًا عادة, فقد يحدث أن تكون المعاني قوية والانفعالات ضعيفة، كما يشاهد في حالة التخييل وبعض الأمراض النفسية وحينئذ فإما ألا يبقى لنا سبيل للتمييز بين الحقيقة والخيال، أو أن يقوم الذهن بهذا التمييز بناء على علامات مكتسبة من التجربة، فيبين عن فاعليته. وهيوم يعترف أيضًا بأنه قد يحدث أن نحصل على معنى دون انفعال مقابل، كما إذا افترضنا عدة ألوان متضائلة بالتدريج، وافتقدنا لونًا من بينها، فإننا نحس هذه الثغرة ونحصل على معنى هذا اللون ولو لم نره قط، ثم إن طائفتي الانفعالات والمعاني تختلف ليس فقط بالقوة بل بالطبيعة أيضًا؛ ذلك بأن معنى لذة ماضية أو ألم ماضٍ لا يشبه تلك اللذة أو ذلك الألم كما تشبه الصورة الأصل، أو ليس المعنى من نوع اللذة أو من نوع الألم في الوجدان، ولكنه تذكر أو تصور اللذة أو الألم، أي: إن اللذة أو الألم موضوع المعنى. فالمعنى فعل مخصوص يقتضي قوة مخصوصة. ولا بد من الاعتراف أيضًا بقوة مخصوصة تدرك التشابه والتقارن اللذين يجعل هيوم منهما قانوني الفكر، إذ ليس هناك انفعالان يقابلانهما ويعتبران أصلا لهما. كذلك لا بد من القول بقوة مخصوصة لتفسير الاسم الكلي، إذ كيف يطلق على كثيرين إذا لم يكن فينا قوة تنتقل من جزئي إلى آخر؟ ولم يطلق على كثيرين إلا إذا كانوا يتفقون في النوع أو في "بعض النقط" كما يقول هيوم؟ إذا كان هناك نوع، ولو مؤقت على رأي لوك، كانت له خصائص متضامنة تؤلف ماهية معقولة. وأخيرًا ليست الاعتراضات التي يوجهها هيوم إلى مبدأ العلية حاسمة, فإذا سلمنا له أن الإدراك الظاهري لا يظهرنا على القوة التي تفعل، وإذا سلمنا جدلا أن الإدراك الباطني لا يظهرنا على علاقة ضرورية تربط حركات الأعضاء بأمر الإرادة، فإننا ندعي أن العقل يدرك هذه العلاقة وضرورتها. أجل, إن معنى العلة ومعنى المعلول متغايران، ولكن المعلول موجود يظهر للوجود، وبهذا الاعتبار هو لا يظهر بنفسه ولا بفعل العدم، وإنما يظهر بفعل موجود آخر هو علته. وإذا

كان مبدأ العلية لا يلزم من مبدأ عدم التناقض، بمعنى أنه لا يستنبط منه استنباطًا مستقيمًا، فإنه يستند إليه من جهة أن منكره يقع في التناقص, إذ إنه يزعم أن ما يوجد ليس له ما به يوجد، وهذا خلف. والواقع أن مبدأ العلية أولى في العقل، وأن الاعتقاد به واحد عند جميع الناس وفي جميع الأعمار، مع أن المذهب الحسي يقضي بأن تكون قوة العادة معادلة لعدد التجارب وأن يتفاوت الاعتقاد بتفاوت التجربة. فالفلسفة الحسية تنتهي إلى إلغاء العقل وإلغاء العلم الطبيعي؛ لأنها لا تعتقد بضرورة القانون وترد الشعور بالضرورة إلى أثر العادة. وإذا كان هيوم اعتقد بقيمة مطلقة للحساب بحجة أنه قائم على علاقات بين معانٍ لا بين انفعالات، فقد نسي أن المعاني عنده ترجع إلى انفعالات، وأن العلاقات تابعة كلها للتكرار والتداعي. ولقد كان الواجب عليه حين بدا له يقين القضايا الرياضية، أن يعود إلى مبدئه الحسي ويكمله بالعقلي, ولكنه لم يفعل. 76 - الفكر والوجود: أ- الناحية الأخرى من مذهب هيوم الفحص عما للمعرفة من قيمة موضوعية، وماذا عسى أن يكون لها من هذه القيمة، وإدراكنا مقصور على الظواهر؟ "لا يمكن أن يحضر في الذهن سوى إدراكات, فيلزم أنه من الممتنع علينا أن نتصور أو أن نكون معنى شيء يختلف بالنوع عن المعاني والانفعالات. فلنوجه انتباهنا إلى الخارج ما استطعنا، ولتثب مخيلتنا إلى السموات أو إلى أقاصي الكون، فلن نخطو أبدًا خطوة إلى ما بعد أنفسنا" 1. وفكرة الوجود لا يقابلها أي انفعال، ولا فارق بين التفكير في شيء والتفكير في نفس الشيء موجود، ونحن حين نتصوره موجودًا لا نمنحه صفة جديدة. وتبعًا لهذا الموقف لا يبقى محل للحديث عن وجود الماديات والنفس والله، إذ إن كل ما عدا الفكر مغيب عنا. ولكن هيوم ينظر في هذه الأمور ليبين تهافت الأدلة التي تقدم على وجودها، ولتفسير اعتقادنا بهذا الوجود. ب- "بأي حجة ندلل على أن إدراكات الذهن يجب أن تكون حادثة عن أشياء خارجية, وأنه لا يمكن أن تحدث عن قوة الذهن نفسه؟ إن

_ 1 كتاب الطبيعة الإنسانية: القسم الثاني ف 6.

الذهن لا يجد في نفسه سوى إدراكات، فلا يستطيع أن يتحقق من ارتباط هذه الإدراكات بأشياء لا يبلغ إليها. وهل هناك شيء أكثر استعصاء على التفسير من النحو الذي قد يؤثر به جسم في روح بحيث يحدث صورة في جوهر مفروض فيه أنه من طبيعة جد مغايرة بل معارضة؟ " 1. ولما كان مبدأ العلية نسبيًّا فلا نستطيع الاعتماد عليه للتدليل على وجود علل لانفعالاتنا؛ وإذا كنا نعتقد أن في الخارج أشياء مستقلة عن إدراكنا، وأننا في كل صباح نرى الشمس عينها التي سبق لنا رؤيتها، فهذا وهم سببه افتراضنا أن الإدراكات المتشابهة هي هي بعينها. واعتقادنا بوجود الأشياء شعور يصاحب الانفعال ولا يصاحب الخيال؛ هذا الشعور تصور للشيء أقوى وأدوم من تصور الخيال! وهو لا يتعلق بإرادتنا، ولكن طبيعتنا تثيره فينا. ونحن نجهل القوى التي يتعلق بها التعاقب المطرد للظواهر، ونجهل السبب الذي يجعلنا نتوقع نفس اللاحق بعد نفس السابق 2. ج- كذلك ليس لدينا انفعال مقابل للنفس أو للجوهر بالإجمال. إن الاعتقاد بالجوهر تابع للاعتقاد بالعلية؛ فإننا نرى جملة من الكيفيات مؤتلفة ونتعلم من التجربة أن هذا المجموع يتكرر، فنتوهم الجوهر كعلة ائتلاف الكيفيات، وعلة بقاء هذا الائتلاف أو تكراره في ذهننا. فما النفس إلا جملة الظواهر الباطنة وعلاقاتها؛ ولا يمكن إثبات الأنا بالشعور، فإني "حين أنفذ إلى صميم ما أسميه أنا أقع دائمًا على إدراك جزئي" أي: على ظاهرة. بيد أن هيوم يعود فيقر 3 بأنه لا يدري كيف تتحد في الذهن الإدراكات المتعاقبة، أي: كيف تفسر الذاكرة وانفعالاتنا ظواهر منفصلة، وينتهي بالتصريح بأن هذه المسألة عسيرة جدا على عقله! د- وينقد هيوم الأدلة على وجود الله، فيقول: إن دليل الغائية المشهور قائم على تمثيل الكون بآلة صناعية وتمثيل الله بالصانع الإنساني، ولكن الصانع الإنساني علة محدودة تعمل في جزء محدود، فبأي حق نمد التشبيه إلى هذا الكل

_ 1 كتاب "فحص عن الفهم الإنساني" القسم الثاني عشر, ف 1. 2 الكتاب المذكور, القسم الخامس. 3 في ملحق كتاب الطبيعة الإنسانية.

العظيم الذي هو الكون، ونحن لا ندري إن كان متجانسًا في جميع أنحائه؟ ولو سلمنا بهذه المماثلة لما انتهينا حتمًا إلى الإله الذي يقصده أصحاب الدليل، إذ يمكن أن نستدل بما في الكون من نقص على أن الإله متناهٍ كالصانع الإنساني، وأنه ناقص يصادف مقاومة، أو أنه جسمي وأنه يعمل بيديه, أو يمكن أن نفترض أن الكون نتيجة تعاون جماعة من الآلهة. وإذا شبهنا الكون بالجسم الحي، أمكن تصور الله نفسًا كلية، أو قوة نامية كالقوة التي تحدث النظام في النبات دون قصد ولا شعور. أما دليل المحرك الأول, فليس هناك ما يحتم تسليمه ونبذ المذهب المادي، إذ قد يمكن أن تبدأ الحركة بالثقل أو بالكهرباء مثلا دون فاعل مريد. وأما دليل الموجود الضروري، فلا يستند إلى أصل في تجربتنا من حيث إن التجربة لا تعرض علينا انفعالًا ضروريًّا، وإن المخيلة تستطيع دائما أن تسلب الوجود عن أي موجود كان. إن معنى الموجود الضروري ثمرة وهم المخيلة التي تمد موضوع تجاربنا إلى غير نهاية، فلم لا نمد المادة نفسها إلى غير نهاية فنعتبرها الله؟ وبأي حق نفترض الكون كلا محدودا حتى نبحث له عن علة مفارقة؟ وأخيرًا, إن وجود الشر يعارض القول بعناية الإلهية, وليس وجود الشر محتومًا كما يقولون؛ إذ من الميسور جدا تصور عالم بريء من أسباب الشر التي نشاهدها في عالمنا. هـ- بمثل هذه السفسطة يتذرع هيوم لإقصاء الحقائق والجواهر من الفلسفة, بعد أن سلم بالمبدأ الحسي وذهب إلى نتيجته المنطقية فبلغ إلى "الظاهرية" المطلقة التي ترد المعرفة إلى ظواهر لا يربط بينها سوى علاقات تجريبية, وهذه الظاهرية هي الصورة التي يتخذها الشك في العصر الحديث. وقد كان هيوم معجبًا بقدماء الشكاك، وكان ينعت نفسه بالشاك, ويرى أن الفلسفة هي هذا الشك، وأن الحياة العملية يكفي فيها وحي الغريزة، فلا صلة بين الحياة والفلسفة، حتى لقد قال: "ما من طريقة استدلالية أكثر شيوعًا، ومع ذلك ما من طريقة أجدر باللوم، من إدحاض فرض ما بعواقبه الخطرة على الدين والأخلاق. إن الرأي الذي يؤدي إلى خلف هو رأي كاذب من غير شك؛ ولكن ليس من المحقق أن الرأي كاذب لكونه يستتبع عاقبة خطرة". وفإذا بحث في الأخلاق نقد المذهب العقلي, وأسلم نفسه لوحي القلب

والعاطفة كما يقول. فعنده أن الحكم الخلقي ينشأ حين نتصور فعلًا ما بجميع علاقاته, فتقوم فينا عاطفة إقرار أو إنكار. فنقول عن الفعل: إنه خير أو شر لا لكونه كذلك في ذاته بل لنوع تأثرنا به. وليس يصدر الإقرار أو الإنكار عن الأنانية، بدليل أننا نقر أفعالًا لا تفيدنا شخصيا، أو ننكر أفعالا مفيدة لشخصنا. الواقع أن الذي يصدر أحكامًا أخلاقية ينزل عن وجهته الخاصة ويتخذ وجهة مشتركة بينه وبين الآخرين، فتجيء أحكامه كلية. فأساس الأخلاق التعاطف، أو عاطفة الزمالة، أو "الإنسانية" التي تحملنا على محبة الخير للناس جميعًا. وإذا كانت الميول الغيرية أرفع من الميول الأنانية، وكانت هذه مذمومة وتلك ممدوحة، فليس يرجع ذلك إلى طبيعتها، بل إلى عموم منفعتها. ولما كانت الأخلاق صادرة عن الغريزة، كانت أصولها واحدة عند الجميع، ورجعت الاختلافات إلى اختلاف الظروف. فالمحبة الأبوية مثلًا غريزة عامة، وقتل الأطفال مظهر من مظاهرها في بلد جد فقير.

الفصل الخامس: توماس ريد " 1710 - 1796 "

الفصل الخامس: توماس ريد " 1710 - 1796 " 77 - حياته ومصنفاته: نبغ في هذا القرن لفيف من المفكرين الأسكتلنديين, أخذوا على أنفسهم الدفاع عن الأخلاق والدين بالرجوع إلى الضمير وعواطفه الطبيعية، فتألف منهم ما يسمى الأسكتلندية. ذكرنا بعضهم في الفصل الثاني من هذه المقالة, وتوماس ريد أهمهم؛ لأنه عرض للفلسفة في جملتها, وعالج مسألة المعرفة وهي المسألة الأساسية فيها. تخرج في جامعة أبردين, وعين قسيسًا ثم عين أستاذًا بتلك الجامعة، فأستاذًا بجامعة جلاسكو. كان على مذهب لوك وباركلي، فلما قرأ كتاب هيوم في الطبيعة الإنسانية هالته النتائج التي انتهى إليها، وعول على معارضة الشك بيقين "الذوق العام" Commou Sense. له ثلاثة كتب مذكورة: الأول "بحث في الفكر الإنساني على مبادئ الذوق العام" " 1763 "والثاني "محاولات في القوى العقلية" " 1785 " والثالث "محاولات في القوى الفاعلية" " 1788 "؛ وهذان الكتابان تفصيل للكتاب الأول. 78 - مذهبه: أ- "محال أن نفسر السبب الذي من أجله نوقن بمدركات حواسنا وشعورنا وسائر قوانا. إن هذا اليقين قاهر؛ إنه صوت الطبيعة، وعبثًا نحاول معارضته. وإذا أردنا أن ننفذ إلى أبعد منه ونطلب إلى كل قوة من قوانا السبب الذي يبرر ثقتنا بها، وأن نعلق هذه الثقة إلى أن تبديه، فيخشى أن تسوقنا هذه الحكمة المسرفة إلى الجنون, وأن نعدم بالمرة ضوء الذوق العام لأننا لم نرد الخضوع للحال المشترك بين بني الإنسان". الذوق العام منحة خالصة من الله

لا يكتسب بالتربية، فإنه قوة إدراك البديهيات، وبه نتعلم الاستدلال وقواعده أي: استنباط النتائج الصحيحة من البديهيات. ب- يتشكك لوك وباركلي وهيوم في وجود أشياء خارجية، وما ذلك إلا لأنهم اعتقدوا أننا حين نعرف إنما نعرف معنى أو صورة، فوضعوا واسطة بين العارف والمعروف، ووجدوا أنفسهم مضطرين لإقامة البرهان على وجود شيء مقابل للصورة أو المعنى, وهذا موقف ينطوي على جرثومة الشك. ويرد عليه أولا بنتائجه السيئة، ثم بالرجوع إلى الذوق العام، فما من أحد يعتقد أنه يرى صور الأشياء ولكن يعتقدون أنهم يرون الأشياء أنفسها. وفينا ميل طبيعي للاعتقاد بأن الروابط بين الظواهر المدركة ستظل هي هي في المستقبل، وعلى هذا الأساس تقوم العلوم، وكل ذي عقل سليم يقبله، وإن وجد من لا يقبله فهو جدير أن يدخل البيمارستان. إن تعاقب الليل والنهار قديم في تجربتنا, وما من أحد يعتبر الليل معلول النهار أو النهار معلول الليل. الحقائق التجريبية هي التي يحتمل يقيننا بها الزيادة والنقصان، فالطبيب مثلًا يزداد اقتناعًا بفاعلية دوائه كلما ازداد نجاحه حتى يتحول تخمينه الأول إلى يقين؛ أما المبادئ العقلية فاليقين بها ثابت منذ الأصل لا تزيد فيه التجربة ولا تنقص منه؛ وعلى ذلك ليست هذه المبادئ آتية من التجربة. ج- وتشكك هيوم في وجود الأنا وقصر معرفتنا على الظواهر الباطنة, ولكننا ننتقل من الظواهر الباطنة إلى موجود نسميه أنا بموجب مبدأ عقلي غريزي. الذاكرة تدلنا على بقاء الأنا هو هو، ويدلنا الذوق العام على أن هذه الذاكرة تقتضي وجودًا متصلًا. "ليست شكلا ولا فعلا ولا عاطفة، ولكني موجود يحس ويعمل ويفكر". "أحوالي الباطنة تتغير في كل لحظة، ولكن الأنا متصل الوجود، وهو المحل المشترك للأحوال المتعاقبة". وقال هيوم أن ليس أغمض من فكرة القوة, ولكنها تدرك ضرورة من شعورنا بأنفسنا، فإننا نجد في أنفسنا قدرة فاعلية هي الإرادة، وإذا كنا لا نشعر بقوانا أنفسها فإننا نشعر بالأفعال التي تنم عنها، وكل فعل فهو يفترض قدرة في الفاعل، وافتراض شيء يفعل دون أن يكون حاصلا على قدرة الفعل خلف ظاهر. د- على أن ريد يقف عند حد النقد، ويعرض معتقداتنا على أنها

بديهية طبيعية دون محاولة تفسيرها. فهو يسلم بلا مناقشة جميع المبادئ المقبولة عند جميع الناس "مبادئ العلم الرياضي, والعلم الطبيعي، والأخلاق، وما بعد الطبيعة" "لأنها من الضرورة للسيرة بحيث لا يمكن النزول عنها إلا ونقع في أباطيل لا تحصى نظرية وعملية" ولكنه لا يصنف هذه المبادئ ولا يعقلها بمبدأ أعلى. بل إنه يقع في شرك المبدأ التصوري، فما الإدراك الظاهري المباشر عنده إلا "إيحاء ضروري" أو "إشارة طبيعية" إلى الشيء الخارجي، لا صورته. وهو يسائل نفسه قائلًا: "كيف يجعلنا الإحساس نتصور وجود شيء خارجي لا يشبهه بحال، ويضطرنا للاعتقاد به؟ " ويجيب بقوله: لا أزعم العلم بذلك، وحين أقول: إن الإحساس يوحي بالصورة وبالاعتقاد، لا أقصد إلى تفسير طبيعة ارتباط هذه الحدود، بل إلى التعبير عن واقعة يستطيع الجميع شهودها في الوجدان. وعنده أن كل الفرق بين الكيفيات الأولية والثانوية هو "أن حواسنا تعطينا فكرة مباشرة متميزة عن الأولى، في حين أن طبيعة الثانية غامضة نسبية". وعلى ذلك لا يمحو ريد الواسطة بين العارف والمعروف، بل يقبلها صراحة وهي الإحساس كإشارة؛ ويذهب إلى أن ماهيات الأجسام وماهية النفس محجوبة عنا، فيصل إلى النتيجة التي وصل إليها لوك وهيوم وهي استبعاد الميتافيزيقا بحجة أنها تثير مسائل غير قابلة للحل. فجملة القول: أنه نظر إلى المسائل من الوجهة النفسية دون الوجهة الميتافيزيقية, فظن أن إثبات الواقع يكفي، ورد الفلسفة إلى علم النفس الوصفي، وقال: إن هذا العلم في غنى عن الآراء الميتافيزيقية في طبيعة الجسم والنفس أسوة بالعلوم الطبيعية, وكان له أتباع حذوا حذوه, فجعلوا علم النفس مستقلا عن الفلسفة، وهذا أهم أثر للمدرسة الأسكتلندية.

المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا

المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا الفصل الأول: كوندياك " 1715 - 1780 " 79 - حياته ومصنفاته: قسيس لم يزاول مهام الكهنوت قط، وإنما قرأ الفلاسفة المحدثين، وخالط معاصريه منهم، واعتنق مذهب لوك، فكان زعيم الحسية في وطنه. عرض هذه الحسية في كتابه "محاولة في أصل المعارف الإنسانية" " 1746 " وأتبعه بآخر عنوانه "كتاب المذاهب" " 1749 " نقد فيه مذاهب ديكارت ومالبرانش وسبينوزا وليبنتز وغيرهم من المعتمدين على العقل وحده، فلا يهتدون إلى الحق، بل لا يتفقون فيما بينهم، فالامتداد عند ديكارت جوهر، وعند سبينوزا عرض، وعند ليبنتز معنى متناقض، ثم نشر كتابه المعروف "في الإحساسات" " 1754 " يفصل فيه الكتاب الأول. وألحق به كتاب "الحيوان" " 1755 " يبين فيه نشوء قوى الحيوان والفرق بينه وبين الإنسان. وفي 1768 انتخب عضوًا بالأكاديمية الفرنسية خلفًا لقسيس آخر، والواقع أن أسلوبه رشيق واضح. وبعد وفاته نشر له كتاب في "المنطق" لا على الطريقة المدرسية، ولكنه عبارة عن ملاحظات ونصائح في تدبير الفكر، وكتاب في "لغة الحساب" لم يتمكن من إتمامه، وكان يقصد به إلى بيان الطريقة التي يمكن بها صوغ جميع العلوم، ومنها الأخلاق والميتافيزيقا، بمثل ما للرياضيات من دقة. 80 - مذهبه: أ- يذهب كوندياك في الحسية إلى أبعد من لوك، فإنه يقصر التجربة

على الإحساس الظاهري، ويستغني عن "التفكير" كمصدر أصيل للمعرفة، فيدعي أن أي إحساس ظاهري يكفي لتوليد جميع القوى النفسية. ولبيان ذلك يفترض "في كتاب الإحساس" تمثالًا حيًّا داخل تمثال من رخام، ويقول: إذا كسرنا الرخام في موضع الأنف أتحنا للتمثال الحي القدرة على استخدام حاسة الشم، وهي الحاسة المعتبرة أدنى الحواس، فعند أول إحساس يوجد شيء واحد في شعور التمثال، هو رائحة وردة مثلًا، ويكون شعوره كله هذه الرائحة، أو أية رائحة أخرى تعرض له. ومتى كان له إحساس واحد ليس غير، كان هذا هو الانتباه. ولا ينقطع الإحساس بالرائحة بانقطاع التأثير، ولكنه يبقى, وبقاؤه هذا مع حدوث رائحة جديدة هو الذاكرة. وإذا وجه التمثال انتباهه إلى الإحساس الحاضر والإحساس الماضي جميعًا، كان هذا الانتباه المزدوج المقارنة أو المضاهاة. وإذا أدرك بهذه المضاهاة المشابهات والفوارق، كان الحكم الموجب والحكم السالب. وإذا تكررت المضاهاة وتكرر الحكم، كان الاستدلال. وإذا أحس التمثال إحساسًا مؤلمًا فتذكر إحساسًا لاذًّا، كان لهذه الذكرى قوة أعظم وكانت المخيلة, وتلك هي القوى العقلية. أما القوى الإرادية فتتولد من الإحساس باللذة والألم, ذلك بأنه إذا تذكر التمثال رائحة لذيذة وهو منفعل بإحساس مؤلم، كان هذا التذكر حاجة، ونشأ عنه ميل هو الاشتهاء, وإذا تسلط الاشتهاء كان الهوى. وهكذا يتولد الحب والبغض والرجاء والخوف, ومتى حصل التمثال على موضوع شهوته كان الرضا. وإذا ما ولدت فيه تجربة الرضا عادة الحكم بأنه لن يصادف عقبة في سبيل شهوته تولدت الإرادة، فما الإرادة إلا شهوة مصحوبة بفكرة أن الموضوع المشتهى هو في مقدورنا. ب- على أن التمثال، وقد حصل على جميع قواه، لا يعلم أن العالم الخارجي موجود، بل لا يعلم أن جسمه موجود، من حيث إن إحساساته انفعالات ذاتية ليس غير. فكيف يصل إلى إدراك المقادير والمسافات؟ وكيف يدرك أن شيئًا موجودًا خارج عنه؟ هاتان مسألتان يجب التمييز بينهما، والفحص عن كل واحدة على حدة، وهما موضوع القسم الثاني والقسم الثالث من كتاب الإحساسات. فعن المسألة الأولى يقر كوندياك رأي لوك أن الأكمه الذي

يستعيد البصر لا يميز لفوره بين كرة وبين مكعب كان يعرفهما باللمس، إذ إن اللمس هو الذي يدرك الأشكال أولًا، ويدركها البصر بفضل علاقاته باللمس، ثم لا تعود به حاجة إلى تذكر الإحساسات اللمسية التي كانت مساعدة له، خلافًا لما يذهب إليه باركلي. وعن المسألة الثانية قال كوندياك في الطبعة الأولى لكتاب الإحساسات: إن معرفة "الخارجية" ترجع إلى تقارن الإحساسات اللمسية، مثل أن يحس التمثال في آن واحد حرارة في إحدى الذراعين وبرودة في الأخرى وألمًا في الرأس. وعاد فقال في الطبعة الثانية " 1778 ": إن إحساسات لمسية بمثل هذا الغموض يمكن أن تتقارن دون أن تتخارج، وإن فكرة الخارجية تنشأ من المقاومة التي نصادفها في حركتنا, وبذلك نضيف جسمنا إلى أنفسنا ونميز بينه وبين سائر الأجسام. ولما كان اللمس يدرك القرب والبعد، فإن اختلاف إحساسات الروائح والأصوات والألوان في القوة يوحي إلى التمثال بأن هذه الإحساسات ليست مجرد أحوال باطنة، ولكنها صادرة عن أشياء خارجية؛ وبذلك نرجع أحكام الخارجية إلى إحساسات ليس غير. ج- وللتمثال المقصور على الشم -كما تقدم- القدرة على تجريد المعاني وتعميمها؛ فإنه إذ يميز بين الحالات التي يمر بها يحصل على معنى العدد؛ وإذ يعلم أنه يستطيع ألا يبقي الرائحة التي هو إياها وأن يعود ما كان، يحصل على معنى الممكن؛ وإذ يدرك تعاقب الإحساسات يحصل على معنى الزمان؛ وإذ يتذكر جملة الإحساسات التي ينفعل بها يحصل على معنى الشخصية, وأما المعنى الكلي فهو جزء من المعنى الجزئي، ولا حقيقة له إلا في الذهن، وما هذه الحقيقة إلا لفظ أو اسم. ليس في الطبيعة ماهيات وأنواع وأجناس، وإنما تعبر الألفاظ الكلية عن وجهات نظر الذهن حين يدرك ما بين الأشياء من مشابهات وفوارق. ومتى لم يكن في الطبيعة ماهيات كان الحد لغوًا ووجب الاستعاضة عنه بالتحليل: "معانينا إما بسيطة أو مركبة؛ البسيطة لا تحد ولكن التحليل يكشف لنا عن أصلها وطريقة اكتسابها. والمعاني المركبة لا تعلم إلا بالتحليل؛ لأنه هو وحده الذي يبين لنا عناصرها". ومتى لم تكن المعاني المجردة إلا ألفاظًا, لم يكن هناك سوى وسيلة واحدة لتخيلها. تلك هي إجادة وضع اللغة؛ فإنه إذا لم يكن لدينا أسماء لم يكن لدينا معانٍ مجردة، فلم يكن

لدينا معاني أجناس وأنواع، فلم نستطع الاستدلال. ففن الاستدلال يرجع كله إلى أحكام الكلام, وليس الاستدلال تأديًا من الكلي إلى الجزئي ولكنه "حساب" يتأدى من الشيء إلى الشيء نفسه بتغير الإشارات الدالة, ومثله الأعلى استدلال الجبر الذي ترجع إليه سائر أنواع الاستدلال. "وهذا معناه رد القضية إلى معادلة، وتتصل هذه المحاولة بمحاولات ريمون لول وليبنتز وأصحاب المنطق الرياضي فيما بعد". د- وهكذا بدل أن يفسر كوندياك الأفعال بالقوى والانفعالات بالميول، يجعل الميول تصدر عن الانفعالات، ويجعل القوى عادات الأفعال، وما يسمى غريزة ثمرة التجربة الشخصية، أو عادة ولدها التفكير، أو "عادة خلت من التفكير الذي ولدها". ولما كان أفراد النوع الواحد تحس نفس الحاجة فتعمل لنفس الغاية بنفس الأعضاء، كانت للنوع نفس العادات أو الغرائز، وكانت جميع المعاني وجميع قوى النفس "إحساسات محولة". هـ- بيد أن كوندياك لم يكن ماديًّا، فإنه إذ يعتبر الإحساس ظاهرة أصيلة, يرى في الظواهر الجسمية التي يجعلها الماديون علة له مجرد "مناسبات" لظهوره. وهو يعارض لوك معارضة صريحة في افتراضه أن مادة معينة قد تكون حاصلة على قوة التفكير، فيقول: إن المفكر يجب أن يكون واحدًا، وليس للمادة وحدة ولكنها كثرة. ويعترف للإنسان بنفس روحية عاقلة خالدة، ويضعه فوق الحيوان لأنه يميز الحق، ويحس الجمال، ويخلق الفنون والعلوم، ويدرك مبادئ الأخلاق، ويصعد إلى الله. ولكن كوندياك يذهب مذهب بعض مفكري العصر الوسيط ويقول: إن الحسية حال الإنسان بعد خطيئة آدم، وإن آدم كان قبل خطيئته يعقل بدون وساطة الحواس؛ لأن النفس الإنسانية عاقلة بذاتها، وستعود إلى التعقل في الحياة الآجلة. وهو يدلل على خلود النفس بأنها خلقية, وأنها لا تلقى في الحياة العاجلة ما يناسب أفعالها من ثواب وعقاب. ويدلل على وجود الله بدليل العلة الفاعلية، ودليل العلة الغائية. وسواء أكان مخلصًا في هذا القسم من أقواله أم لم يكن، فقد كان أثره الخاص إذاعة المذهب الحسي في وقت اشتدت فيه الحملة على الدين والفلسفة السلفية، كما سنرى فيما يلي.

الفصل الثاني: الفلسفة الطبيعية

الفصل الثاني: الفلسفة الطبيعية 81 - فولتير " 1694 - 1778 ": أ- هو الكاتب الشهير الذي سما بالنثر الفرنسي إلى أوجه، وكأن هذا السمو أنهك سائر قواه فتركه في الشعر نظامًا، وفي الفلسفة وقد عرض لها، تلميذًا متواضعًا للوك ونيوتن. درس كتبهما في إنجلترا حيث أقام ثلاث سنين " 1726 - 1729 " وكتب فيهما "رسائل فلسفية" أذاعها أحد الناشرين من غير إذنه " 1734 " فأنكرتها السلطة وصدر الأمر بإحراقها. وكتبه التي تعد فلسفية: ما بعد الطبيعة، ومبادئ فلسفة نيوتن، والفيلسوف الجاهل، وكتاب النفس ومحاورات أفيمير، والقاموس الفلسفي وهو أشهرها. ب- اقتنع بالمذهب التجريبي الذي اتفق عليه بيكون ولوك ونيوتن، فكان معارضًا لديكارت؛ عارض فلسفته بفلسفة لوك، وعارض علمه بعلم نيوتن. كان بيكون أبا المنهج التجريبي؛ ونقل لوك هذا المنهج إلى الميتافيزيقا ففسر العقل الإنساني كما يفسر الفسيولوجي أعضاء الجسم، ودون "تاريخ" النفس، بينما كتب ديكارت ومالبرانش "قصتها"؛ وكان نيوتن العالم الذي لا يثبت قولًا إلا بالتجربة والحساب، ولئن كان ديكارت سبقه إلى بعض المسائل فقد تفوق هو عليه وقوّض أركان مذهبه. هكذا يناصر فولتير مذهب التجربة على الميتافيزيقا. ج- وهو يعارض بسكال الداعي إلى المسيحية، وقد خصص له الرسالة الأخيرة من "الرسائل الفلسفية" وكان يرغب "منذ زمن طويل في منازلة هذا العملاق". يقول: حتى لو سلمنا بوجود المتناقضات التي يدل عليها بسكال في الإنسان، لم يكف هذا التدليل على حقيقة المسيحية، إذ إننا نجد في الديانات الوثنية أيضًا أساطير تكون طبيعتنا من عناصر متعارضة، ثم إن حجة بسكال ترجع إلى اعتبار المسيحية مذهبًا ميتافيزيقيًّا متفوقًا على سائر المذاهب،

ولا تبرهن على أن المسيحية الدين الحق. وما المتناقضات في الإنسان إلا العناصر الضرورية المركبة له، من خير وشر، ولذة وألم، وهوى وعقل. وهذا يعني أن فولتير يريد أن يمحو من نفس الإنسان آثار القلق الذي يدفع به صوب الدين، وهو يتبع في جدله منهجه المألوف فيبسط المسائل, ويهون من شأنها حتى يفوت جوهرها ولبها. وماذا يعنيه من اللب والجوهر وقد آمن مع لوك بأن العقل محدود, فكفى نفسه مئونة البحث في الميتافيزيقا بل راح يتهكم عليها بكل قول ظريف؟ د- بيد أنه كان يؤمن بالله, والدليل الأقوى عنده "على الأقل في وقت ما" هو هذا: "إذا وجد شيء منذ الأزل، وأنا موجود، ولست موجودًا بذاتي، فهناك موجود بالذات هو الله". وكثيرًا ما كان يردد دليل العلل الغائية الذي "كان يعتبره نيوتن أقوى الأدلة" "حين أرى ساعة يدل عقربها عن الزمن أستنتج أن موجودًا عاقلًا رتب لوالبها لهذه الغاية. وكذلك حين أرى لوالب الجسم الإنساني أستنتج أن موجودًا عاقلًا رتب هذه الأعضاء، وأن العينين أعطيتا للرؤية، واليدين للقبض ... إلخ". ويقول في موضع آخر شعرًا: "إن الكون يحيرني، ولا يسعني أن أعتقد أن توجد هذه الساعة ولا يكون لها صانع" وهو يبين أن العلامة على العلة الغائية الحقة المميزة لها من العلة الغائية المظنونة هي "أن يكون للشيء دائمًا نفس الأثر، وألا يكون له إلا هذا الأثر، وأن يكون مركبًا من أعضاء متعاونة على إحداث نفس المعلول". غير أنه كان يظن أن هذا الدليل لا يؤدي إلى إثبات إله لامتناهٍ خالق، بل فقط إلى إثبات موجود أكبر عقلًا وأقوى من الإنسان، ثم كان إيمانه بقوة الدليل يزداد باعتبار أن القول بضرورة العالم ينطوي على صعوبات ومتناقضات لا ينطوي على مثلها القول بوجود الله. لذا كان يعارض الماديين في تفسيرهم للكون بقوانين المادة, وتفسيرهم للأنواع الحية بالتولد الذاتي وبالتطور على ما تشاء الصدفة، وقد كان يعتبر الكون أثرًا معقولًا، ويذهب في رفض التطور إلى حد التشكك في أن تكون الأجناس البشرية أنفسها وليدة تطور أصل واحد. هـ- والقول بالغائية يستتبع القول بالعناية، ولكنها عند فولتير عناية كلية لا تتناول الجزئيات، أي: إن تدبير الكون لا يرجع إلا للقوانين العامة التي

وضعها الله أو "أن الله صانع الساعة لا مخلص الإنسان" على حد تعبير أحد المؤلفين، وهذا هو المذهب الطبيعي يتخذ له سندًا من فيزيقا نيوتن. لذا نرى فولتير يذهب إلى التفاؤل أول الأمر, نقول للملحد: "إن ما هو شر بالإضافة إليك هو خير في النظام العام"؛ ثم حدث زلزال بلشبونة أودى بكثيرين، فثارت ثائرة فولتير في قصيدة معروفة، ورأى أن وجود الشر اعتراض هائل في أيدي الملحدين. وكذلك هو يتردد في مسألة الخلود، مع أنه كان يقول بضرورة إله يثيب ويعاقب، وبضرورة الدين للشعب الذي لا يأتي الفضيلة عن عقل ونزاهة كالفلاسفة "! " ولكنه مفتقر إلى حافز ورادع. فهو لا يرى رابطة ضرورية بين روحانية النفس وخلودها، فقد تكون النفس روحية ثم لا تكون خالدة؛ وهو يبين أن القول بنفس متمايزة من الجسم "على طريقة ديكارت" يثير إشكالات عاتية، ويعارض ما نحسه من علاقة مطردة بين قوانا الفكرية وتركيبنا الجسمي. على أنه لا يعتقد أن الفكر صادر عن المادة، إلا أن يكون الله قد منح المادة قدرة على التفكير كما قال لوك. وهو يتردد في مسألة الحرية, فقد أعلن "أن خير المجتمع يقتضي أن يعتقد الإنسان بحريته" ثم مال إلى الجبرية بحجة أننا لا نريد دون سبب, وتابع لوك في أن الحرية ليست حرية الإرادة بل حرية تنفيذ الفعل المراد، فقال: "إن حريتي تقوم في أن أمشي حين أريد أن أمشي, ولا أكون مصابًا بالنقرس" أما المصاب بالنقرس فلا حرية له. ز- وهكذا نرى فولتير يعالج مسائل معروفة بأساليب معروفة، ولا يفلح في إقامة مذهب متسق. وهو يمثل روح عصره خير تمثيل، ذلك الروح الخفيف الهازل الذي يقنع بالآراء الجزئية، ويتعمد الانتقادات، ويتخذ من النكتة حجة ومن السخرية دليلًا. وقد كان فولتير أكبر عامل على نشر هذا الروح, واستطالة أثره إلى أيامنا. 82 - ديدرو " 1713 - 1784 ": أ- بدأ حياته القلمية بالترجمة عن الإنجليزية، وكان مما ترجمه

كتاب شفتسبري "محاولة في الاستحقاق والفضيلة" " 1745 ". ونشر "خواطر فلسفية" أعرب فيها عن آراء مخالفة للدين، فحبس بسببها ستة أشهر " 1749 ". ونشر كتبًا أخرى تدرج فيها من المذهب الطبيعي القائل بوجود الله والمنكر للعناية الإلهية، إلى الأحادية المادية الزاعمة أن المادة حية بذاتها، وأن الأحياء تتطور ابتداء من خلية تحدثها المادة الحية بحيث "تحدث الأعضاء الحاجات، وتحدث الحاجات الأعضاء". وهو ينقل هذه النظرية القديمة نقلًا، ولا يدعمها بحجج علمية جديدة. ب- وفي 1746 طلب إليه مدير إحدى المكتبات أن يترجم "موسوعة في الفنون والعلوم" كانت ظهرت بإنجلترا سنة 1728 ولقيت إقبالًا شديدًا، فرأى هو أن يصدر موسوعة على غرارها، وأشرك معه صديقه العالم الرياضي دالاميير " 1717 - 1783 " عضو أكاديمية العلوم، فألفيا حولهما طائفة من المعاونين، أدباء وعلماء وفلاسفة، من بينهم فولتير وروسو، وأخرجوا المجلد الأول سنة 1751 مفتتحًا بمقدمة من قلم دالاميير في أصل العلوم وتصنيفها، وعدم فائدة المذاهب الميتافيزيقية والدينية، فكان هذا المجلد الأول مثارًا لحملات عنيفة من جانب المتدينين، فآثر دالاميير الراحة والسلامة وترك شريكه، فثبت ديدرو على رأس المشروع يخرج مجلداته فيتجدد حول كل مجلد النقاش الشديد، حتى اكتمل عددها سبعة عشر " 1772 ". فكانت هذه الموسوعة بؤرة الزندقة والإلحاد، نشر فيها ديدرو مقالات عديدة حملت إلى القراء أفكارًا كثيرة في جميع العلوم، ولكنها أفكار فطيرة خلع عليها بأسلوبه شيئًا من القوة الظاهرة. 83 - دي لامتري " 1709 - 1751 ": مادي مذكور. نشر أصول مذهبه في كتاب أسماه "التاريخ الطبيعي للنفس" " 1745 " وتوسع في شرح هذه الأصول في كتاب عنوانه "الإنسان آلة" " 1748 " فكان للكتابين دوي كبير. وعنوان الثاني يدل على أن صاحبه يستعين بديكارت الفيزيقي على ديكارت الميتافيزيقي. فقد زعم ديكارت في كتاب الانفعالات أن جميع الأعضاء يمكن أن تتحرك بموضوعات

الحواس وبالأرواح الحيوانية بدون معونة النفس، وأن الذاكرة تعتمد على آثار في المخ، وأن الحيوان آلة يمكن, بل يجب أن نفسر ما نشاهده فيه من ظواهر تبدو فكرية تفسيرًا آليًّا. فقال دي لامتري: إذا كان الحيوان يحس ويدرك ويذكر ويضاهي ويحكم ويريد بفضل تركيبه المادي فحسب، فما الداعي لوضع نفس روحية في الإنسان وهو يأتي عين تلك الأفعال، ولا تختلف أفعاله عن أفعال الحيوان إلا بالدرجة؟ وهكذا يبدو لنا بوضوح أن فلسفة ديكارت الثنائية ثوب ملفق من رقعتين، يختار منهما دي لامتري الرقعة المادية، ويستغني عن نفس متمايزة من الجسم متحيزة في نقطة منه أو فيه كله, فيرد الحياة النفسية إلى الحياة الجسمية بحيث يكفي تركيب الأعضاء للإدراك، وتؤثر البيئة والغذاء والتربية في المزاج، ويؤثر المزاج في الخلق. 84 - هلفسيوس " 1715 - 1771 ": داعٍ آخر من دعاة المادية، معروف بمحاولة للانتقال من الأنانية إلى الغيرية في الأخلاق. إنه يسلم بأن الأصل طلب المنفعة الحاصة، ولكنه يقول: إن الإنسان الحقيق بهذا الاسم يجد لذته أي: منفعته, في سعادة الآخرين، فلا يطيق رؤية الشقاء، فيعمل جهده على تخفيفه أو محوه تفاديا من مشهده المؤلم. بيد أن هذا الصنف من الناس قليل, فواجب المصلحين أن يحملوا كل شخص على أن يرى منفعته الذاتية في منفعة الغير. وذاك بترتيب مكافآت وعقوبات قانونية تجعل المنفعة في رعاية الغيرية أعظم منها في رعاية الأنانية. 85 - دولباك " 1723 - 1789 ": ألماني عاش في باريس. اصطنع المادية المطلقة وكان له تأثير كبير. ذهب إلى أن المادة متحركة بذاتها، وأن كل شيء يفسر بالمادة والحركة, وأنهما أزليتان أبديتان, خاضعتان لقوانين ضرورية هي خصائصهما. فليس العالم متروكًا للصدفة، ولا مدبرًا بإله، وكل الأدلة على وجود الله منقوضة, ولا غائية في الطبيعة. ليست العين مصنوعة للرؤية، ولا القدم للمشي, ولكن المشي والرؤية نتيجتان لاجتماع أجزاء المادة. ولا نفس في الإنسان، ولكن الفكر

وظيفة الدماغ، والفرق بين العقول نتيجة الفرق بين الأدمغة. ولا حرية، فإن القول بها إنكار للنظام الكوني. 86 - كابانيس " 1757 - 1808: طبيب مادي أرجع جميع الظواهر النفسية إلى العوامل المادية، عوامل البيئة والغذاء ومزاج الجسم، وجمع شواهد كثيرة لتأييد رأيه. وله عبارة مأثورة، هي قوله: إن الدماغ يفكر كما تهضم المعدة, وكما تفرز الكبد الصفراء. ويرى القارئ كم كانت الفلسفة الفرنسية في هذا القرن هزيلة, وقد كانت مع ذلك صاخبة أشد الصخب. ولعله يجد شيئًا من الجدة في الفلسفة الاجتماعية التي يمثلها مونتسكيو وروسو.

الفصل الثالث: مونتسكيو

الفصل الثالث: مونتسكيو " 1689 - 1755 " 87 - حياته ومصنفاته: هو ناقد اجتماعي ومفكر سياسي, أدرك ما في بيئته من نقائص فعمل على التنبيه إليها، فكان قدوة طيبة لأهل طبقته من الأشراف. نشر "رسائل فارسية" " 1721 " تخيل فيها اثنين من أبناء فارس يزوران أوروبا وبخاصة فرنسا ويبعثان بخواطرهما إلى أصدقائهما في وطنهما؛ وهذه الخواطر عبارة عن نقد المجتمع الفرنسي في أخلاقه وعاداته وحكومته وديانته, في تهكم تارة وفي جد أخرى. ثم بدا له أن يضع كتابًا شاملًا في "روح القوانين" فشرع يعد له العدة ويجمع موادّه، أي: يدرس القوانين والمؤلفين في إيطاليا وسويسرا والنمسا والمجر وهولندا وإنجلترا "وقد أقام بلندن سنتين" حتى نشره بجنيف 1748. وكان قد نشر قبل ذلك قسما منه وسماه بعنوان "اعتبارات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم" " 1734 ". 88 - تعريف القانون: أ- "روح القوانين" لفظ مبهم يتحدد معناه بالملاحظات الآتية: يكاد يكون مونتسكيو الوحيد بين مفكري عصره الذي ينظر إلى أمور السياسة في أنفسها دون صلة برأي صريح في العقل والطبيعة. وهو يقصر عنايته على القوانين الوضعية, فلا يعرض للبحث في القانون الطبيعي وأصل الاجتماع. وهو يريد أن يستكشف الأسباب الطبيعية للقوانين الوضعية، أو "قوانين وضع القوانين" فإنه لا يعتقد أن المشرع يصدر عن محض إرادته، ولكنه يخضع لأسباب خارجة عنها. هذه الأسباب هي من الجهة الواحدة طبيعة الحكومات القائمة أو التي يراد إقامتها، ومن جهة أخرى طبيعة الأرض والمناخ

والموقع الجغرافي ومساحة البلد ونوع العمل وطريقة المعيشة والديانة والعادات ومبلغ الثروة وعدد السكان. فموضوع الكتاب الفحص عن علاقة القوانين بهذه الأسباب المختلفة. "وجملة العلاقات تؤلف ما يسمى روح القوانين" أي: طبيعتها "م 1 ف 3 ". وعلى ذلك لم يقصد مونتسكيو إلى أن يضع فلسفة القانون، أي: فلسفة ترد أسباب القوانين إلى مبادئ عقلية كلية، وإنما قصد إلى تفسير القوانين بظروف طبيعية تعلم بالملاحظة والتاريخ، لكن لا على مذهب "المادية التاريخية" فإنه يصرح بأن للأسباب المعنوية ومنها القوانين أنفسها، التقدم على الأسباب الطبيعية والاقتصادية، وبأن المشرع يستطيع أن يناهض ما يدفع إليه المناخ والمزاج من ميول وأخلاق، فيقوّم اعوجاج الشعب ويوجّهه إلى الصلاح. ب- ينتج من هذا التحديد أن "القوانين بأوسع المعاني، هي العلاقات الضرورية اللازمة من طبيعة الأشياء؛ وبهذا المعنى للموجودات جميعًا قوانينها. فهناك إذن عقل أول، والقوانين هي العلاقات القائمة بينه وبين مختلف الموجودات، وعلاقات هذه الموجودات فيما بينها". "فالقول بأن ليس هناك من عدل أو ظلم إلا ما تأمر به أو تنهى عنه القوانين الوضعية، يعدل القول بأنه قبل أن ترسم دائرة لم تكن جميع الأوتار متساوية" "م 1 ف 1 ". ج- الداعي للقانون الوضعي هو الرغبة في أخذ الناس بما ينبغي أن يكونوا عليه, وما ينبغي أن يعملوا في المجتمع؛ إذ إنهم عرضة للخطأ وحاصلون على حرية العمل. ويعيش الناس في المجتمع بناء على استعداد طبعي لا بناء على عرف وتعاقد. وأول مسألة تصادف الباحث مسألة أشكال الحكم، إذ إن القوانين تصدر عن شكل الحكومة كما يصدر الماء عن العين. وثمة مسألة أخرى هي مسألة مبادئ الحكم أو الدوافع التي تحرك الحكومة, فلننظر في القوانين من هاتين الوجهتين. 89 - أشكال الحكم: أ- هي ثلاثة: جمهورية، وملكية، وطغيان. وتنقسم الجمهورية إلى ديمقراطية وأرستقراطية بحسب ما يكون الحكم للشعب برمته، أو لفريق منه

هم الأشراف. طبيعة الديمقراطية أن الشعب فيها ملك ورعية في آن واحد. هو ملك باقتراعه، ورعية بطاعته لولاة الأمر المعينين منه لتنفيذ قوانينه وتدبير الشئون العامة، وفي مثل هذه الحكومة ينص على حق الاقتراع وطريقته في القوانين الأساسية؛ ويزاول الشعب بنفسه حق التشريع، ولا ينزل عن هذا الحق لممثلين أو وكلاء، وإلا تغيرت طبيعة الحكومة؛ ووظيفة الوكلاء تنفيذية وإدارية ليس غير. في هذا التصور يصدر مونتسكيو عن اليونان، فلا يتمثل الديمقراطية إلا في بلد ضيق المساحة قليل السكان بحيث يستطيع جميع المواطنين أن يقترعوا في نطاق مجلس واحد. وبهذا المعنى يرى أن الشعب "عجيب في اختيار الذين يريد أن يعهد إليهم بقسط من سلطانه" لأن أقدار الرجال في مختلف الأعمال معلومة للجميع. ب- وطبيعة الأرستقراطية أن الشعب فيها رعية والأشراف حكام. ومتى كان الأشراف قليلي العدد كانوا حكامًا جميعًا! ومتى كانوا كثيرين انتخبوا مجلسًا من بينهم، فيكون المجلس أرستقراطية، وجمهرة الأشراف ديمقراطية، والشعب كمًّا مهملًا. على أن الأرستقراطية الحكيمة تعمل على انتشال الشعب من هذا العدم وتوفير مهمة له في الدولة، فإن خير أرستقراطية هي التي تقترب من الديمقراطية، وشر أرستقراطية هي التي تقترب من الملكية. ج- وطبيعة الملكية أنها حكم الفرد بموجب قوانين ثابتة أي: دستور، وبوساطة هيئات منظمة كالأشراف والإكليروس والمدن تقيد إرادة الملك غير الدستورية. ولكي تكون الدولة ملكية حقا يجب فوق ذلك أن توجد فيها هيئة مكلفة بتسجيل القوانين ومراجعتها والتذكير بها إن نسيت. بهذه الهيئة يقصد مونتسكيو البرلمان ولو أنه لا يسميه صراحة. د- وطبيعة الطغيان أنه حكم الفرد لا يتقيد بدستور, ولا يعبأ بهيئات إن وجدت. فالطاغية يحكم لمصلحته الخاصة ويضحي في سبيلها بمصلحة الشعب, مثله مثل المتوحش الذي يقطع الشجرة ليقطف الثمرة. وهو لجهله وكسله وميله للذة يولي الحكم وزيرًا يقوم عنه بجميع المهام ويتحمل التبعات. تلك طبائع الحكومات, فما مبادئها؟

90 - مبادئ الحكم: أ- مبدأ الديمقراطية الفضيلة, أي فضيلة؟ لقد عرفها مونتسكيو تعريفات مختلفة، فقال في التنبيه الذي قدم به للكتاب: إنها "حب الوطن، أعني: حب المساواة. إنها ليست فضيلة أخلاقية ولا فضيلة مسيحية، ولكنها فضيلة سياسية". وقال في موضع آخر: "هي حب القوانين والوطن، هي الإيثار المتصل للمنفعة العامة على المنفعة الخاصة" "م 4 ف 5 ". ويقترب بها من الفضيلة الأخلاقية حيث يقول "م 5 ف 3 ": إن حب الديمقراطية هو أيضًا حب العفة، إذ بدون عفة عامة تحد إلى الضروري حق استعمال الثروة تنعدم المساواة, يريد أن المواطن في الديمقراطية مطالب بالخضوع للقوانين من تلقاء نفسه ما دام هو الحاكم وهو الرعية في آن واحد، وما دام هذا الخضوع الضروري لبقاء الديمقراطية لا يتسنى إلا برضاه. ب- وفي الأرستقراطية الفضيلة لازمة أيضًا، ولكن بقدر أقل، أي: إنها لازمة للحكام يأخذون أنفسهم بالاعتدال والنظام بحيث يتساوون فيما بينهم؛ غير لازمة للمحكومين لأنهم يخضعون للقوانين بقوة الحكومة القائمة. ج- وفي الملكية تقوم الحكومة بغير حاجة ماسة للفضيلة، فإن مبدأها الكرامة أو الشرف أعني: حرص هيئاتها على امتيازاتها, والدفاع عنها كي تحول دون انقلاب الملكية إلى طغيان، وبذلك تؤدي وظيفتها. فإذا اعتبرت كل هيئة أن كرامتها تقوم في صيانة حقوقها "ومضى كل إلى الخير العام وهو يعتقد أنه يمضي إلى مصالحه الخاصة" فللملكية ميزة، إن جاز هذا القول، هي أنها تقوم بدون الفضيلة الضرورية للديمقراطية والأرستقراطية، وهذه الفضيلة عسيرة نادرة. د- ومبدأ حكومة الطغيان خوف الشعب من السلطان، وفي هذا الخوف كبح للشعب وحماية له في نفس الوقت، حماية من تفاقم عبث المقربين من السلطان وهم الذين يفرضون القوانين على الشعب، فإنهم هم أيضا تابعون لهوى السلطان. فانتفاء القوانين، وانتفاء الطبقات، وتساوي الجميع في العبودية, تلك أظهر خصائص الحكم الاستبدادي، ولا محل فيه للفضيلة والكرامة، لا عند

السلطان، ولا في الطاعة التي يقتضيها. هـ- وكل من هذه الحكومات يفسد بفساد مبدئه؛ فتذهب الديمقراطية إما بذهاب روح المساواة فتنقلب إلى أرستقراطية وإلى حكومة فردية، وإما بالمغالاة في هذا الروح فتنقلب إلى استبداد الكل وتنتهي إلى استبداد الفرد. وتذهب الأرستقراطية حين يمضي الأشراف مع الهوى في استخدام سلطتهم، ويطلبون مزايا الحكم دون متاعبه ومخاطره. وتذهب الملكية حين ينزل الأشراف عن كرامتهم حبًّا بالألقاب والمناصب فيستعبدون، أو حين يتحول الملك من العدالة إلى القسوة فيعمل على محو الهيئات ليستأثر بالأمر. أما الطغيان فليس له أن يفسد من حيث إنه فاسد بالطبع. ووالهدف الذي يصبو إليه مونتسكيو، والذي يبين خلال تعليقاته على الحكومات، هو أن تكفل الحكومة الحرية في أوسع مدى، وعلى خير وجه مستطاع، فإنه يمقت الاستبداد ويؤيد الحرية الشخصية. وليست تقوم الحرية عنده في أن يعمل المرء ما يريد، بل في "أن يقدر المرء أن يعمل ما ينبغي عليه أن يريد، وألا يكره على عمل ما لا ينبغي أن يريد. هي الحق في أن يعمل المرء كل ما تجيزه القوانين "العادلة", وإذا كان لمواطن أن يعمل ما ينهى عنه كان لغيره نفس هذا الحق، فتلاشت الحرية" "م 11 ف 3 ". وخير ما يكفل الحرية استقلال السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، فإن السلطة المعتدية تلقى حينئذ سلطة تقف في وجهها، بينما اجتماع السلطات الثلاث في يد حاكم واحد أو هيئة واحدة من الحكام، سواء أكانت ديمقراطية أم أرستقراطية، يسوق إلى الطغيان "م 11 ف 6 ". ولما كان الحكم يقتضي السرعة والدقة والكتمان، كانت الملكية خير الحكومات، والملك كما سبق تعريفه حاكم مقيد بدستور وبهيئات قوية محترمة ولكنه مستقل في إصدار القرارات المطابقة للقانون. أما الشعب فغير كفء لأن يحكم بنفسه، ولكنه يشارك في الحياة السياسية على صورتين: إحداهما أن يكون له مجلس ممثلين يتقدمون برغبات، والأخرى أن ينتخب "محلفين" يساهمون في تطبيق القوانين. وأما وضع القوانين فيعهد به إلى مجلسين يختلف أعضاؤهما في ميولهم فيعدل بعضهم بعضًا, على مثال المجلسين الإنجليزيين. ومونتسكيو يعطينا

تحليلًا دقيقًا للدستور الإنجليزي، ويرى فيه خير ضمان للحرية السياسية. بيد أنه لا يمكن أن يقال: إنه كان يود لو ينقل إلى فرنسا، وهو القائل في بدء كتابه: "يجب أن تكون القوانين خاصة بالشعب الموضوعة له حتى ليكون من قبيل الصدفة النادرة أن تلائم قوانين أمة, أمة أخرى" "م 1 ف 3 " إلا أنه يجب أن يقال: إن القصد الأول الذي رمى إليه مونتسكيو هو الإصلاح السياسي والاجتماعي، وإنه إنما اتخذ من التحليل العلمي وسيلة أمينة فعالة لتحقيق هذا الإصلاح. ولا شك أنه كان عاملًا قويًّا في تهيئة الجو للثورة الفرنسية, ولكن فيلسوف الثورة كان في الواقع روسو.

الفصل الرابع: جان جاك روسو " 1712 - 1778 "

الفصل الرابع: جان جاك روسو " 1712 - 1778 " 91 - حياته ومصنفاته: ولد بجنيف من أسرة فرنسية الأصل بروتستانتية المذهب. وعهد به والده إلى أحد الحفارين كي يعلمه صناعته، وكان هذا الرجل فظًّا قاسيًا، فغادر روسو المدينة هربًا منه وهو في السادسة عشرة، وهام على وجهه يحترف شتى الحرف في سويسرا وإيطاليا. وبعد ثماني سنوات لقي في سافوي سيدة يسَّرت له شيئًا من الاستقرار، فاستطاع أن يكون نفسه إذ تعلم الموسيقى واللاتينية وقرأ الفلاسفة. وبعد خمس سنين قصد إلى باريس، ثم غادرها إلى البندقية، فكان كاتبًا لسفير فرنسا فيها. وعاد إلى باريس وهو في الثالثة والثلاثين، وأخذ يتردد على الفلاسفة وبخاصة ديدرو. وفي صيف 1749 قرأ في إحدى الصحف أن أكاديمية ديجون تعرض للمسابقة هذه المسألة: "هل عاونت الفنون والعلوم على تصفية الأخلاق؟ " فاهتزت نفسه وجاشت فيها الأفكار، وخطر له الجواب بالسلب، وشرع يكتب وقدم للأكاديمية ما كتب وأحرز الجائزة. وهذا أصل كتابه الأول "مقال في العلوم والفنون" " 1750 " الذي طير صيته في أرجاء أوروبا، حتى لقد كتب إليه ملك بولندا. ثم أعلنت تلك الأكاديمية أنها تضع للمسابقة هذا الموضوع: "ما منبع تفاوت المراتب بين الناس؟ وهل يقره القانون الطبيعي؟ " فعقد العزم على الكتابة وأخرج كتابه الثاني "مقال في أصل التفاوت بين الناس" ولكن الأكاديمية لم تمنحه الجائزة. فنشر الكتاب " 1754 " ومضى يعمل على استكمال مذهبه، وبعد ثماني سنين " 1762 " نشر كتابين: أحدهما "العقد الاجتماعي" والآخر "إميل أو في التربية" 1. فأنكرت السلطة الباريسية الكتاب الأخير

_ 1 إميل: اسم للطفل الذي يرسم روسو برنامج تربيته.

وهمَّت باعتقال المؤلف، ففر إلى سويسرا، ولكن السلطة بها كانت أنكرت الكتاب أيضًا فطردته، فلجأ إلى إنجلترا بصحبة هيوم ونزل ضيفًا عليه، ولكنه لم يلبث أن خاصمه وعاد إلى باريس، فسمح له بالإقامة في فرنسا، فقضى بقية أيامه في حالة مضطربة. 92 - الاجتماع مفسدة: أ- كتبه التي ذكرناها "ولم نذكر كتبه الأدبية" تفصِّل مذهبه تفصيلًا منطقيًّا بحسب ترتيب صدورها. ففي مقاله الأول يزعم أن العلوم والآداب والفنون تكمل ظاهر الإنسان فقط ولا تكمل باطنه، بل إنها كلما تقدمت أمعنت في إفساده. ويستشهد على ذلك بما توفره للرذيلة من فرص، وبما كان من مصر وأثينا وبيزنطة والصين، إذ مالت إلى الانحطاط أو غاصت في الرذيلة حالما ساد فيها حب العلوم والفنون، بينما الشعوب التي ظلت بعيدة عن عدوى المعارف الباطلة كانت فاضلة وسعدت بفضائلها، مثل الفرس الأقدمين والإسبرطيين والجرمان والسويسريين. هذا فضلًا عن أن الحكماء الحقيقين بهذا الاسم أبانوا سوء أثر الآداب والفنون. إنها تولد الرذيلة لأنها تطيل الفراغ، وتدفع إلى الترف وتنميه، ولا يتسنى الترف بغير الثراء المفرط عند بعض يقابله الفقر المدقع عند بعض. إن لدينا علماء وفنانين من كل نوع، ولم يبق لدينا مواطنون؛ وإذا كان لا يزال منهم بقية فهم في الريف فقراء محتقرون. الفضيلة ممتهنة، والمواهب الفنية معتبرة، فكان من جراء ذلك تفاوت مشئوم بين الناس. "أيتها الفضيلة! أنت العلم السامي للنفوس الساذجة, أهنالك حاجة لكل هذا العناء وهذه الأدوات لكي نعرفك؟ أليست مبادئك مطبوعة في جميع القلوب؟ أوليس يكفي لتعلم قوانينك أن نخلو إلى أنفسنا ونستمع إلى صوت الضمير في صمت الأهواء؟ تلك هي الفلسفة الحقة، فلنتعلم أن نقنع بها". ب- هذا المقال ينطوي في الواقع على مذهب تام في الإنسان والاجتماع. وما إن شرع روسو يكتب مقاله الثاني "في أصل التفاوت بين الناس" حتى وضع شرطًا لحل المسألة "التمييز بين الأصيل والصناعي في الطبيعة الراهنة

للإنسان، وتعرف حالة تلاشت، حالة قد لا تكون وجدت، وقد لا توجد أبدًا، مثلها مثل النظريات التي يفترضها العلماء كل يوم لتفسير تكوين العالم". ولئن كان روسو يعرض نظريته بمثابة فرض، فكثيرًا ما يعتبرها واقعة تاريخية، وهو على كل حال يبني عليها جميع آرائه. هذه النظرية هي أن الأصيل في الإنسان، أو حال الطبيعة كما يقول، أن الإنسان كان متوحدًا في الغاب, لا يعرف أهله، ولعله لم يكن يعرف أولاده، لا لغة له ولا صناعة، ولا فضيلة ولا رذيلة من حيث إنه لم يكن له مع أفراد أنواعه أية علاقة يمكن أن تصير علاقة خلقية. كان حاصلا بسهولة على وسائل إرضائه حاجاته الطبيعية؛ ولئن لم يكن له غرائز معينة كغرائز العجماوات، فقد كانت له القدرة على محاكاة الغرائز والتفوق على العجماوات في تحصيل مثل ما توفره لها غرائزها المعينة، كان يعتاد الآفات الجوية وتشتد بنيته بمقاومتها، ولم يكن يصاب إلا بالقليل من الأمراض، فقلما كان يحتاج إلى الأدوية، وكانت حاجته إلى الأطباء أقل. وإنما تعتل الصحة بالإسراف في المعيشة، وبالميول المصطنعة وما ينتج عنها من إجهاد جسمي وعقلي. "إذا كانت الطبيعة أعدتنا لنكون أصحاء، فإني أكاد أجرؤ على التاكيد بأن حالة التفكير مضادة للطبيعة، وأن الإنسان الذي يتأمل هو حيوان فاسد". الحرية هي التي تميز الإنسان أكثر من الفهم "الموجود في الحيوان إلى حد ما". إن الحيوان ينقاد لدافع الطبيعة، ولكن الإنسان يرى نفسه حرًّا في الانقياد له أو مقاومته. وإنما تبين روحانية نفسه من شعور بهذه الحرية. وكان الإنسان المتوحد طيبًا تأخذه الشفقه من رؤية الموجود الحاس يهلك أو يتألم، وبالأخص إخوانه في الإنسانية. ولقد أخطأ هوبس في قوله: إن حالة الطبيعة تتميز بالطمع والكبرياء، فإن هاتين العاطفتين لا تنشآن إلا في حال الاجتماع. فالإنسان المتوحد كان كاملًا سعيدًا؛ لأن حاجاته قليلة، وإرضاءها سريع, ولأنه كان حرا مستقلا، فكان كل إنسان مساويًا لكل إنسان. ج- كيف خرج الإنسان من هذه الحالة الأولى؟ خرج منها اتفاقًا بأن عرضت له أولًا أسباب طبيعية، كالجدب والبرد القارس والقيظ المحرق، اضطرته إلى التعاون مع غيره من أبناء نوعه تعاونًا مؤقتًا كان الغرض منه الصيد

برًّا وبحرًا وتربية الحيوان لتوفير القوت. ثم اضطرتهم الفيضانات والزلازل إلى الاجتماع بصفة مستديمة، فاخترعت اللغة، وتغير السلوك، وبرز الحسد، ونشبت الخصومة. هذا الاجتماع بنوعيه، المؤقت منه والمستديم، يمثل حالة التوحش، وهي ليست بعد الحالة المدنية؛ لأنها خلوّ من القوانين، وليس فيها من ردع سوى خوف الانتقام. وحدث اتفاقًا أيضًا أن استكشف الإنسان استعمال الحديد، وهو شرط الزراعة، والصناعتان شرط الحالة المدنية بما تقتضيان من تقسيم العمل والتعاون، إذ يستمد المزارعون الآلات الحديدية من صناعها ويعطونهم قوتهم. وتستتبع الزراعة تقسيم الأراضي، فيزداد التفاوت ويتفاقم الخصام. ويتفق الأقوياء الأغنياء على تدعيم مكانتهم فيضعون أنظمة عامة تصون لكل ملكه وتوطد السلام؛ ويذعن الفقراء الضعفاء لهذه القوانين كي يدفعوا الشر عن أنفسهم. هنا تبدأ الحالة المدنية المنظمة بالقوانين، وتثبت الملكية، ويتوطد التفاوت. وهكذا صار الإنسان الطيب بالطبع شريرًا بالاجتماع, وبما أتاحه له الاجتماع من تقدم عقلي وصناعي. وإن قيام دولة يستتبع قيام دول أخرى، فتنشب بينهما الحروب. 93 - إصلاح مفاسد الاجتماع: أ- على أن الاجتماع قد أضحى ضروريًّا، ومن العبث محاولة فضه والعودة إلى حال الطبيعة. وكل ما نستطيع صنعه هو أن نصلح مفاسده بأن نقيم الحكومة الصالحة ونهيئ لها بالتربية المواطنين الصالحين. فمن الوجهة الأولى تعود المسألة إلى "إيجاد ضرب من الاتحاد يحمي بقوة المجتمع شخص كل عضو وحقوقه، ويسمح لكل وهو متحد مع الكل بألا يخضع إلا لنفسه, وبأن تبقى له الحرية التي كان يتمتع بها من قبل". هذه المسألة هي التي يعالجها كتاب "العقد الاجتماعي" فيذهب إلى أن هذا الفرض ممكن التحقيق بأن تجمع الكثرة المفككة على أن تؤلف شعبًا واحدًا، وأن تحل القانون محل الإرادة الفردية، وما تولده من أهواء وتجره من خصومات، أي: أن يعدل كل فرد عن أنانيته، وينزل عن نفسه وعن حقوقه للمجتمع بأكمله، وهذا هو البند الوحيد للعقد الاجتماعي. ولا إجحاف فيه، إذ بمقتضاه يصبح الكل متساوين في ظل

القانون، والقانون إرادة الكل تقر الكلي أي: المنفعة العامة، إذ إن الشعب لا يريد إلا المنفعة العامة، فالإرادة الكلية مستقيمة دائمًا. ومن يأبَ الخضوع لها يرغمه المجتمع بأكمله، إذ إنه "حين يغلب الرأي المعارض لرأيي فهذا دليل على أني كنت مخطئًا, وأن ما كنت أعتبره الإرادة الكلية لم يكن إياها". والمجتمع القائم على العقد يؤلف هيئة معنوية أو "شخصًا عامًّا" تبدأ فيه الخليقة ويقوم الحق، بعد أن كان كل فرد يتبع إرادته الخاصة. ولهذا المجتمع "دين مدني" "م 4 ف 8 " لا يدع للفرد ناحية من الحياة مستقلة عن الحياة المدنية. ويتعين على الدولة أن تنكر دينًا كالمسيحية يفصل بين الروحي والسياسي, وألا تطيق إلى جانبها سلطة كنسية إذ "لا قيمة لما يفصم الوحدة الاجتماعية" وإنما لزم الدين لأنه ما من دولة قامت إلا وكان الدين أساسها. على أن يكون هذا الدين مقصورًا على العقائد الضرورية للحياة، تفرض كقوانين حتى لينفى أو يعدم كل من لا يؤمن بها "لا باعتباره كافرًا, بل باعتباره غير صالح للحياة الاجتماعية". هذه العقائد هي عقائد القانون الطبيعي: وجود الله، والعناية الإلهية، والثواب والعقاب في حياة آجلة، وقداسة العقد الاجتماعي والقوانين, ولكل أن يضيف إليها ما يشاء من الآراء في ضميره. ب- كذلك الرجوع إلى الطبيعة في التربية، فيترك الطفل يربي نفسه بنفسه، وبذلك ينشأ حرًّا جديرًا بأن يكون عضوًا في دولة حرة، إذ ما من وسيلة لتربية الطفل لأجل الحرية إلا تربيته بالحرية. وهذا يعني أن التربية يجب أن تكون سلبية ما أمكن، فتقتصر على معاونة الطفل في تربيته نفسه بنفسه، وتجتنب كل ما يضيق عليه ويقيده. وإن قيل لنا: إننا بهذا نعرضه لأن يجرح نفسه ويتألم، كان الجواب: فليكن "إن الألم أول ما ينبغي أن يتعلمه, وهو بأكبر حاجة لأن يتعلمه". على أن المربي لا يقف متفرجًا إذا رآه يعرض حياته للخطر بقلة تجربته، بل ينبهه وينهاه بقوة. ولكن هذه الحالة نادرة؛ فبرنامج التربية يشتمل على أربع مراحل هي: حياة الطبيعة، الحياة العقلية، الحياة الخلقية، الحياة الدينية. في المرحلة الأولى، وهي التي تمتد من الطفولة الأولى إلى الثانية عشرة، يوجه المربي جهده إلى تكوين الجسم، ولا يعرض للنفس بحال احترامًا لحقوق الطبيعة الطيبة أصلًا، فيحذر أن يريد

إصلاحها أو تكميلها بالعادات، فإن العادة الوحيدة التي ينبغي أن يتخذها الطفل هي ألا يتخذ عادة ما. ويجتهد المربي في أن يقصي عن الطفل جميع المؤثرات المصطنعة، مؤثرات الأسرة والمجتمع والدين، ريثما يكون نفسه ويختار له دينًا حين يبلغ سن الاختيار، وإلا لم تكن تربيته طبيعية، ولم يكن عمله الخاص؛ ومن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة يتثقف الفتى بالمعارف الطبيعية، وذلك بأن يتصل بالأشياء مباشرة، وأن يصل بالملاحظة الشخصية إلى استكشاف الضروري له في العلم والفن فيعلم أشياء من الفلك والجغرافيا والطبيعة والكيمياء. فلا يلقن دروسًا شفوية، ولا يسمح له بمطالعة الكتب، فإنها جميعًا لا تعلمه إلا ألفاظًا، اللهم إلا كتابًا واحدًا هو قصة روبنسون كروزي حيث يتعلم كيف يمكن الاستغناء عن الكتب! ثم يعلم حرفة يدوية. وابتداء من الخامسة عشرة يعلم الأخلاق، فتنمي فيه الشفقة وعرفان الجميل ومحبة الإنسانية وضبط أهواء النفس؛ ويعلم أن له نفسًا وأن الله موجود. وفي الثانية والعشرين يمهد للزواج بالخطوبة، ثم بأسفار يفيد منها معرفة المجتمع وعاداته ورذائله ومخاطره والحرف النافعة. وفي المرحلة الأخيرة يتخذ إميل دينًا يعرضه عليه قسيس يلقاه في سفره ويستشيره هو في الأمر, وعقائد هذا الدين هي التي ذكرناها، وهي عقائد طبيعية بحتة، لا تستند إلى وحي من حيث إن في الوحي افتئاتًا على حقوق الشخصية. ج- هكذا يزعم روسو, وكأن مذهبه بأكمله عبارة عن "تمدين المسيحية" أي: نقل لعقائدها إلى مستوى مدني. فالمسيحية تقول بحالة برارة أولى، وبسقوط بالخطيئة, وبنجاة من السقوط، ويقول روسو بحالة برارة أولى أفسدها الاجتماع ويمكن إصلاحها بالعقد الاجتماعي والتربية الملائمة. وقد ظن أن الحالة الأولى يجب أن تكون من البساطة والسذاجة بحيث تعتبر "لوحًا مصقولًا" غفلًا من العلم والفن والأخلاق، بل معارضة لها؛ وقدم هذه الحالة أولًا على أنها مجرد فرض، ثم رآها فرضًا لازمًا لتفسير الإنسان، ثم اعتبرها واقعة تاريخية كما لاحظنا، وهذا تدرج في الإبهام أو التوهم تعوزه الدقة المنطقية. وقديمًا نقد أفلاطون الفن، ونعته بأنه معلم وهم، ولكنه عرف له قيمة إصلاحية متى كان مطابقًا للأخلاق القويمة. فالمسألة تنحصر في حسن استعمال الفن أو

سواء استعماله، أي: إنها تعود إلى الإرادة والأخلاق، لا إلى الفن نفسه. كذلك يقال في العلوم، فلا شك أنها مطلب العقل الذي هو من طبيعة الإنسان، وأنها في أنفسها أدوات تحت تصرف الإرادة. فكان يكفي أن يتصور حال الطبيعة حال إرادة مستقيمة مستعدة لأن تحسن استعمال العلوم والفنون، أو أن تهن فتسيء استعمالها. ولكن وراء نظريته مغزًى مستورًا هو أن العقل أناني بالطبع لأنه يحسب ويرجع كل شيء للأنا، فهو أصل الشقاء، وأن العاطفة هي المرشد الأمين الكافي لتحقيق السعادة؛ فيقول روسو: "كل ما أحسه شرا فهو شر، الضمير خير الفقهاء" ويصيح قائلا في صفحة مشهورة: "أيها الضمير! أيها الضمير! الغريزة الإلهية، الصوت الخالد السماوي، الدليل المحقق لموجود جاهل محدود ... " فكل ما يسمى الآن حقوقًا وأخلاقًا ويستمد له سندًا من العقل، هو صناعي ناشئ من الحياة الاجتماعية التي هي صناعية كذلك، وليس في حال الطبيعة أخلاق وحقوق ما دام الإنسان في تلك الحال مستغنيًا عن الإنسان مقطوع الصلة به. وإنما وقف روسو عند هذا الرأي لأنه تصور العقل آلة في خدمة الأنانية، على حين أن العقل يستكشف لنفسه قيمة خاصة، ويدرك في نفسه قانونًا خاصًّا هو القانون الخلقي الذي هو في الواقع غيري لا أناني. د- وأي علاج وصف روسو لأمراض الاجتماع؟ إنه علق النجاة على الديمقراطية ذات الإرادة الكلية المستقيمة دائمًا، الحاكمة بأمرها في كل شيء حتى في المعتقد الديني؛ أي: إنه رأى علاج الاجتماع بضرب من الاجتماع فقدس العقد الاجتماعي، على حين أن النتيجة المنطقية لمبدئه هي الانتفاض على الاجتماع والعمل على العودة إلى حال الحرية والبرارة والسذاجة، أي: المذهب الفوضوي؛ والواقع أن تحقيق الإجماع محال، وأن الأمر يعود دائما إلى الأغلبية، وأن ليس هناك ما يضمن أن تلتزم الأغلبية النفع العام والعدالة بين الجميع، وكم رأينا الأغلبية تخطئ وتستبد أشنع استبداد، حتى في أقدس الأمور وهي العقيدة الدينية، فتنكر تلك العقائد المتواضعة التي اعتبرها روسو أساسية. فهو إذ يستبعد من حال الطبيعة الخير والشر والحق والواجب, ويقدس إرادة الأغلبية ويطالبنا بالإذعان لها كأنها الإرادة الإلهية, يقيم ضربًا من الاستبداد هو

شر ألف مرة من استبداد الفرد الذي لا يعتمد على حق. ومن المضحك, بل من المؤسف أشد الأسف، أن نرى هذا الرجل يتحدث عن التربية وعن الشفقة، وهو الذي عهد بأولاده إلى أحد الملاجئ، فلم يحبهم ولم يعن بهم؛ وأن نرى هذا العصامي يفلسف ببضع أفكار التقطها في مطالعاته، فيذيع كثيرًا من الأفكار الفطيرة في حلة من البلاغة خلابة، وإن لم تخلُ من كثير من التعمل، تصرف السواد عما يعوز مقاله من دقة ويعتوره من بطلان. وما على الثورة الفرنسية إلا أن تشب وقد أعلن إنجيلها ورسمت مبادئها وصِيغت عبارات خطبائها!

المقالة الثالثة: الفلسفة في ألمانيا إمانويل كنط " 1724 - 1804 "

المقالة الثالثة: الفلسفة في ألمانيا إمانويل كنط " 1724 - 1804 " الفصل الأول: حياته ومصنفاته 94 - من ليبنتز إلى هيوم: أ- قيل عن سقراط: إنه يشطر الفلسفة اليونانية شطرين: ما قبله وما بعده, ودعا ديكارت أبا الفلسفة الحديثة, واعتبر الحد الفاصل بين القديم والجديد في تطور الفكر الأوروبي. كذلك نقول عن كنط: إنه يشطر الفلسفة الحديثة نفسها شطرين. أجل لقد أخذ الشيء الكثير عمن سبقوه، من ديكارت إلى هيوم وروسو، وجرى في تيارهم، ولكن تفكيره أدى به إلى وجهة جديدة سيطرت على القرن التاسع عشر، ولم تبدأ العقول في التحرر منها إلا منذ عهد قريب. وسنحاول أولًا أن نبين تدرج هذا التفكير, فنترجم لحياة كنط العقلية، وهي تكاد تكون كل حياته، فقد تقضت حياته الخارجية في مدينة واحدة أو منطقة واحدة، وكانت منظمة تنظيمًا دقيقًا تسير كالآلة في العمل والراحة والنوم، ولا يتخللها من حوادث سوى الحوادث العلمية. ب- ولد كنط بكونجسبرج من أبوين فقيرين على جانب عظيم من التقوى والفضيلة، ينتميان إلى شيعة بروتستانتية تدعى الشيعة التقوية PIETISME تستمسك بالعقيدة اللوثرية الأساسية القائلة: إن الإيمان يبرر المؤمن، وترى أن محل الدين الإرادة لا العقل، وتعلي من شأن القلب والحياة الباطنة، ومن ثمة تقول: إن الإيمان الحق هو الذي تؤيده الأعمال، وتعتبر المسيحية في جوهرها تقوى

ومحبة الله، وتعتبر اللاهوت تفسيرًا مصطنعًا أقحم عليها إقحامًا. نشأ كنط على هذا المذهب وتشبع به في المنزل والمدرسة والجامعة؛ فكان لذلك أثره في توجيه فكره حتى كوّن فلسفة تميز تمييزًا باتًّا بين صورة خالصة ومادة، وحتى قال في وصف هذه الفلسفة:"أردت أن أهدم العلم "بما بعد الطبيعة" لأقيم الإيمان". ج- دخل في الثامنة إحدى المدارس التابعة للشيعة التقوية، وأتم برنامجها في السادسة عشرة. وكان أظهر ما أفاده فيها شيئين: إعجابًا باللغة اللاتينية وما تنطوي عليه قواعدها وتراكيبها من روح الجد والنظام، حتى كان مطمحه حين ذاك أن يتوفر على فقه اللغة؛ وإعجابًا بالرواقية الرومانية وما تتحلى به من نبل وشجاعة. وسيبقى هذان الأثران في نفسه، ويدخلان في فلسفته. وبعد المدرسة اتجه إلى كلية الفلسفة بجامعة مدينته يقصد إلى دراسة اللاهوت ليصير قسيسًا، ولكنه عدل عن هذا القصد فيما بعد. تتلمذ لأستاذ بالكلية للرياضيات والفلسفة من أتباع التقوية ومن أتباع فولف 1 ناشر فلسفة ليبنتز الموسومة بالعقلية؛ فعرف بواسطته مؤلفات نيوتن، فكانت عنصرًا آخر مهمًّا من عناصر فكره؛ ولكنه حار بين التقوية والعقلية، الأولى تشيد بالإرادة والعاطفة كما ذكرنا، والثانية تشيد بالعقل والعلم القياسي وتؤلف التقوى الحقة من "نور وفضيلة" وتعلن أن من الخطأ على السواء "الاعتقاد بأن المرء يستطيع أن يحب أخاه الإنسان دون أن يخدمه، وبأنه يستطيع أن يحب الله دون أن يعرفه". وفي 1746 تقدم برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين ديكارت وليبنتز في مسألة قياس قوة جسم المتحرك. د- توفي والده، فرأى أن يكسب رزقه بالتعليم في أسرة غنية، وزاول هذا العمل في ثلاث أسر على التوالي من أهل المنطقة. قضى في ذلك تسع سنين لم ينقطع أثناءها عن التحصيل والتفكير، ونشر في نهايتها " 1755 " كتابًا في "التاريخ العام للطبيعة ونظرية السماء" غفلًا من اسمه، طبق فيه على أصل العالم القوانين التي فسر بها نيوتن النظام الراهن للعالم، وعرض في تفسير تكوين العالم نظرية آلية كثيرة الشبه بالنظرية التي سيعرضها لابلاس بعد أربعين سنة. وفي تلك

_ 1 كان لفولف Christian Wolf " 1679 - 1754 " تأثير كبير في ألمانيا بدروسه وكتبه الموضوعة على نسق تعليمي في جميع أقسام الفلسفة، فأذاع مذهب ليبنتز في الجامعات والأوساط المثقفة، وظلت الفلسفة الألمانية إلى أمد بعيد تصطنع لغة كتبه وبرامجها ومناهجها.

السنة استطاع أن يستقر بكونجسبرج، وحصل على درجتين جامعيتين: أولاهما برسالة "في النار" والثانية برسالة "في المبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية" يقبل فيها دليل العلل الغائية على وجود الله بدون تحفظ, ثم عين أستاذًا خاصًّا بالجامعة. هـ- إلى ذلك الوقت كان تحت تأثير فولف ونيوتن ميتافيزيقيًّا وعالمًا طبيعيًّا. ففي رسالة نشرها سنة 1755 دافع عن تصور ليبنتز للحرية وقال: إن الإرادة لا تشذ عن مبدأ السبب الكافي، وفي سنة 1758 نشر رسالة أيد فيها تفاؤل ليبنتز القائل: إن الله لكماله خلق بالضرورة خير العوالم الممكنة، وحاول الرد على القائلين: إن فكرة خير العوالم الممكنة فكرة جوفاء غير ذات موضوع. ثم قرأ شفتسبري وهاتشيسون وهيوم، وقرأ روسو، فتغير تفكيره تغيرًا عميقًا. ووجد عند الثلاثة الأول القول بحس خلقي يدرك المعاني الخلقية بداهة، ويقرر الخير والشر دون حاجة إلى تدليل؛ وبعبارة أخرى: وجد عندهم فلسفة خلقية مستقلة عن العقل، ومستقلة عن الدين. ووجد عندهم أيضًا منهجًا قائمًا على التحليل النفسي، وأكبر منهم منهجهم هذا في الملاحظة الباطنة، واكتشافهم أن قوة الشعور بالخير غير قوة تصور الحق، وأن الشعور دون العقل هو الذي يقدم للعمل الخلقي موضوعات محققة وبواعث فاعلية. وأرجع "الخلقية" في صميمها إلى الشعور بالجمال وبكرامة الطبيعة الإنسانية, ورأى أن هذا الشعور غير مرتبط بموضوع جزئي, وأنه من الممكن لذلك أن يصير باعثًا كليًّا للعمل. ز- وكان تأثير هيوم أبعد مدى، وقد قال كنط فيما بعد: إن هيوم أيقظه من سباته الاعتقادي، وكان ذلك برأيه في مبدأ العلية بنوع خاص، إذ كان قد قال: إن مبدأ العلية ليس قضية تحليلية، أي: إن المعلول ليس متضمنًا في العلة أو مرتبطًا بها ارتباطًا ضروريًّا، وإن الضرورة التي تبين له ما هي إلا وليدة عادة تتكون بتكرار التجربة. سلم كنط بالملاحظة الأولى، ولكنه فطن إلى أن التجربة لا تولد ضرورة بمعنى الكلمة، وأن العلم قائم على مثل هذه الضرورة، وأن قيام العلم أمر واقع يمنع من قبول الشك ومن الاكتفاء بالتجربة فحسب, فيجب أن يكون مبدأ العلية مبدأ أوليا في العقل، وبفضله تتحول القضية التجريبية إلى قضية أولية كلية ضرورية, ويجب إذن الفحص عن سائر المبادئ المطوية في العقل

وتعيين وظائفها في المعرفة العلمية. وتلك هي الفكرة النقدية التي بنى عليها كنط فلسفته، ولكنها لن تنضج عنده إلا بعد زمن غير قصير. ح- أما روسو فكان يدعو إلى الرجوع للطبيعة أي: للفطرة خالصة مما غشاها به المجتمع من عرف وتقليد. وقد قال كنط: إنه كان يعتقد أن العلم أكبر عنوان للمجد، والغاية القصوى للإنسانية، حتى احتقر الشعب الجاهل، فرفع روسو الغشاوة عن بصيرته وعلمه أن حال الطبيعة أسمى من حال المدنية، وأن التربية يجب أن تكون سلبية في الأكثر, فتقتصر على ضمان حرية الميول الطبيعية، وتنبذ إكراه العرف المصطنع. إن روسو عالم الأخلاق، فكما أن نيوتن وجد المبدأ الذي يربط ما بين قوانين الطبيعة المادية، كذلك استكشف روسو الحقيقة البسيطة التي تضيء الطبيعة الإنسانية إلى أعماقها، وهي الخلقية الصافية المستصفاة من كل إضافة زائفة. 95 - نقد الميتافيزيقا: أ- نأتي الآن إلى مرحلة ثانية من 1760 إلى 1770 شرع فيها كنط ينقد الفلسفة العقلية في النظريات والخلقيات قبل أن يستبين مذهبه. ففي رسالة بعنوان "الأساس الممكن الوحيد للبرهنة على وجود الله" " 1763 " يذكر أربعة أدلة على وجود الله، فينقد الدليل الوجودي الذي يستخرج الوجود كمحمول من فكرة الله كموضوع، ويقول: ليس الوجود "العيني" محمولًا متضمنًا في فكرة؛ ثم ينقد الدليل الطبيعي الذي ينتقل من وجود حادث إلى وجود ضروري كامل، فيحتج بأن هذا الدليل يذهب من الضروري إلى الكامل كأنهما متساوقان فيعود إلى الدليل الوجودي؛ وينقد دليل العلل الغائية بحجة أن كمال العالم نسبي, فلا يدل بذاته على موجود كلي الكمال، وأن هذا الدليل أيضًا يعود إلى الدليل الوجودي. يبقى دليل يذهب من الممكن إلى المطلق، فيراه صحيحًا لأن الممكن لا يعقل بما هو كذلك إلا بالإضافة إلى موجود عيني ضروري لولاه لكان الممكن ممتنعًا، وهذا خلف؛ ويرى كنط أن الأدلة الثلاثة السالفة إذا بنيت على هذا الدليل صارت صحيحة. ب- وفي "دراسة في وضوح مبادئ العلم الإلهي النظري والأخلاق"

" 1764 " يذهب إلى أن العقل المنطقي لا يجد في ذاته حقائق معينة، وإنما يجد مبادئ عامة جوفاء، كمبدأ الذاتية الذي لا يعطينا بنفسه موضوعًا للعلم. ومن هذا القبيل فكرتا الواجب والكمال، وهما في الفلسفة العقلية الفكرتان الأساسيتان للأخلاق. ففكرة الكمال لا تعرفنا بالكامل الذي يجب طلبه وما فكرة الواجب إلا فكرة الضرورة القانونية الخالية من كل تعيين. ج- وفي "أحلام واهم معبرة بأحلام الميتافيزيقا" " 1766 " ينطق العنوان بقصد المؤلف إلى التهكم والنقد. الواهم أو الإشراقي هو الذي يدعي الاتصال بموجودات روحية عليا، مثل سويدنبورج السويدي معاصر كنط, والميتافيزيقي أيضًا يتحدث عن مثل هذه الموجودات، ولكنه يزدري الإشراقي. فهو يعتقد إذن أن ليس لها تجربة مباشرة، وهو مضطر إلى الإقرار بأنه لا يدركها في أنفسها، وأنه إنما يعرفها بضرب من المعرفة السلبية، وفي هذه الحالة تكون الميتافيزيقا علم حدود العقل الإنساني، ولا تستطيع مجاوزة التجربة التي هي المعرفة الحقة. ولا بأس في ذلك؛ لأن هذا الذي يفوت علمنا ويعتبر ضروريا لتنظيم حياتنا الخلقية، وهو عالم الأرواح، هو موضوع إيمان لا موضوع برهان. على أن تصور مثل هذا العالم قد تصبح له قيمة لو جاءت وقائع تثبت أن ثمة وحدة أو مشاركة روحية بين الموجودات العاقلة، وقد يكون الضمير الخلقي إحدى هذه الوقائع لما ينطوي عليه من الواجب، أي: تقرير ما يجب أن يكون بغض النظر عن التجربة، ولما تفترض صفته الكلية من الارتباط بين جميع الضمائر؛ وقد يمكن تأويله بأنه وحي بعالم معقول تخضع فيه الإرادات الجزئية لقوانين خاصة, أو لإرادة كلية. د- وكانت نقطة التحول إلى فلسفته رسالة باللاتينية في "صورة ومبادئ العالم المحسوس والعالم المعقول" " 1770 " خولته الحق في اعتلاء كرسي المنطق وما بعد الطبيعة. يذهب فيها إلى أن المعرفتين الحسية والعقلية تختلفان، ليس فقط بدرجة التمييز كما يقول العقليون، بل كل الاختلاف: المعرفة الحسية تؤدي إلينا كيفيات، وهذه الكيفيات تبدو في المكان والزمان، والمكان والزمان معنيان كليان، فهما إذن من مصدر آخر غير التجربة، هما صورتان يفرضهما الفكر على الكيفيات المحسوسة، فالمعرفة الحسية مجموعة ظواهر. أما المعرفة العقلية فتلوح

كأنها تظهرنا على الأشياء كما هي في نفسها، إذ تمدنا بمبادئ ومعانٍ مطلقة لا تمتّ إلى المحسوس بسبب، بل إنها تقع في التناقض إذا أرادت تطبيقها عليه. فمثلًا: المبدأ القائل: إن المركب يفترض البسيط، اعتمد عليه ليبنتز فوصل إلى أن العالم مركب من بسائط، ولكننا لا نصل أبدًا إلى البسيط بسبب القسمة إلى ما لانهاية؛ ثم إن المعاني المنطوية في ذلك المبدأ، وهي معاني الكل والبسيط والمركب، وأيضًا المعاني التي يستخدمها ليبنتز في المونادولوجيا، وهي معاني الإمكان والوجود والضرورة والجوهر والعلة، لا تدخل كأجزاء في أي تصور حسي، وليست مستخرجة من التصور الحسي, فالمحسوس والمعقول متخارجان متغايران. 96 - وضع الفلسفة النقدية: أ- عكف كنط على النتائج التي بلغ إليها يعيد فيها النظر ويلائم بينها، وبعد عشر سنين " 1781 " أخرج كتابه الأكبر "نقد العقل الخالص النظري" يبين فيه كيف, وإلى أي حد تتطابق معاني العقل ومدركات الحس. فقرر أن المعاني لا تستفاد من الأشياء على ما يزعم الحسيون، وأن الأشياء لا تستفاد من المعاني على ما يزعم العقليون، ولكن المعاني هي الشروط الأولية المتعلقة بها المعرفة الحسية. فمعنيا المكان والزمان يطبقان على الكيفيات المحسوسة فيجعلان منها ظواهر، وليس المكان والزمان شيئين محسوسين. ومعانٍ أخرى أو مقولات اثنتا عشرة تطبق على الظواهر فتجعل منها قضايا علمية أي: معارف كلية ضرورية، وليس في التجربة كلية وضرورة. ومعان أخرى ثلاثة، هي معاني النفس والعالم والله، ليس لها في التجربة موضوع تنطبق عليه، وكل ما يدعي العقل إثباته بشأنها غلط. ففي هذا الكتاب تلقى الرسائل النظرية التي لخصناها في العدد السابق، ومحصله أن الفكر حاصل بذاته على شرائط المعرفة، وأن الأشياء تدور حوله لكي تصير موضوع إدراك وعلم، ولا يدور هو حولها كما كان المعتقد من قبل. وهذه هي الثورة التي أحدثها كنط في عالم الفكر، وشبهها بالثورة التي أحدثها كوبرنك في عالم الفلك. ولكي يقرب هذا المذهب إلى الأذهان ويصحح ما جرى من الأخطاء في فهمه، وضع رسالة أسماها "مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تعتبر علمًا" " 1783 ".

ب- ثم تحول إلى فلسفة الأخلاق، فصنف فيها كتابين: الأول: "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" " 1785 " والثاني "نقد العقل العملي" " 1788 " يكمل به الكتاب السالف. وخلاصة موقفه فيهما أنه لما كان العلم كليًّا ضروريًّا أي: صادرًا عن العقل، فيلزم أن الفلسفة الخلقية لا تقوم على التجربة الظاهرة، ولا على حس باطن "كما كان اعتقد هو تحت تأثير الفلاسفة الإنجليز وروسو" بل على العقل وحده، فإن العقل هو الذي يمدنا بمعنى الواجب الذي هو الركن الركين في الأخلاق. أما معاني الله والنفس والحرية والخلود، التي كانت الفلسفة السلفية تقيم الأخلاق عليها، فلا سبيل إلى اعتبارها أساسا لها بعد أن بين "نقد العقل النظري" استحالة العلم بها؛ على أنه يمكن الإيمان بها إذا أدى بنا إليها تحليل المعاني الأخلاقية أنفسها، فتبنى الميتافيزيقا على الأخلاق بدل أن تبنى الأخلاق على الميتافيزيقا. ج- ورأى كنط ضرورة الوصل بين العقلين النظري والعملي، فدوَّن كتابه "نقد الحكم" " 1790 " أو فلسفة الجمال والغائية. ذلك أن موضوع العقل هو الحق الذي مظهره الضرورة والآلية في الطبيعة؛ وموضوع الإرادة الخير بواسطة الحرية، ولدينا قوة أخرى حاكمة بالجمال وبالغائية، أي: واضعة نسبة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الضرورة الطبيعية والحرية، باعتبار الجمال والغائية معلولين للحرية تعمل في مادة خاضعة لقوانين الآلية. فموضوع هذه القوة متوسط بين الحق والخير، فالقوة نفسها متوسطة بين العقل والإرادة. وتسميتها بالحكم آتية من المماثلة بين مظاهرها وبين الحكم المنطقي، فإنها كالحكم "عند كنط كما سنرى" توقع نسبة بين شيئين متغايرين, الحكم بالجمال آني تلقائي، والحكم بالغائية وليد التجربة والاستدلال. والحكمان ذاتيان، ليس لهما قيمة موضوعية، ولكنهما صادران بموجب تركيب الفكر، وبخاصة حين ننظر إلى عالم الأحياء. الغائية تكمل الآلية، وهي الواسطة بين العلم الآلي والإيمان بالإله الخالق الذي هدتنا إليه الأخلاق، وأداة الوصل بين الطبيعة والحرية. د- وكان الجدل حول الدين شديدًا، فضلًا عما للدين في ذاته من أهمية لدى الفيلسوف، فحرر كنط كتابًا بعنوان "الدين في حدود العقل الخالص" " 1793 " يرجع فيه الدين إلى مجرد عاطفة، ويؤَوّل العقائد تأويلًا رمزيًّا، كما

يريد المذهب التقوي الذي نشأ عليه، وكان هو انقطع منذ زمن طويل عن الاختلاف إلى الكنائس وعن كل عبادة خارجية. فلما ظهر الكتاب وجهت إلى المؤلف رسالة ملكية تعرب عن عدم رضا الملك لرؤيته يشوه في ذلك الكتاب, وفي رسائل أخرى بعض العقائد الجوهرية في المسيحية أو يحط من قدرها، وتطلب منه الكفّ عن نشر مثل هذه الأضاليل أو عرض نفسه لإجراءات صارمة. فأجاب بأن موقفه الفلسفي يحترم المسيحية، وتعهد بعدم الكتابة أو التعليم في الدين بصفته "تابعًا جد أمين لجلالة الملك". وقال فيما بعد: إنه تعمد وضع هذا التحفظ؛ لأنه أراد أن يؤقت تعهده بحياة الملك. وبالفعل عاد إلى الكتابة في المسائل الدينية بعد وفاة الملك. هـ- ورأى كنط أن يدل على كيفية تنظيم العلم والعمل، أي: أن يكمل فلسفته النقدية بميتافيزيقا، إذ إن النقد لا يعني إلغاء الميتافيزيقا, بل التمهيد لها باعتبارها علمًا كليًّا للتجربة, لا كالميتافيزيقا القديمة التي تدور على معانٍ جوفاء مقطوعة الصلة بالتجربة. ولما كان العقل مشرعًا على نحوين: أحدهما بالفهم في ميدان الطبيعة، والآخر بالإرادة في ميدان الحرية، كانت الميتافيزيقا على نوعين: ميتافيزيقا الطبيعة أو فلسفة العلوم الطبيعية, وميتافيزيقا الأخلاق العملية. فمن الوجهة الأولى وضع "المبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي" أي: خصائص المادة وقوانين الحركة، و"الانتقال من المبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي إلى الفيزيقا" أي: إلى الظواهر الطبيعية. ومن الوجهة الثانية نشر "رسالة في السلام الدائم" " 1795 " ثم "ميتافيزيقا الأخلاق" " 1797 " في جزأين: الأول عنوانه "المبادئ الميتافيزيقية الأولى لمذهب الحق" وعنوان الثاني "المبادئ الميتافيزيقية الأولى لمذهب الفضيلة" وهما يتناولان تطبيق الكليات في الجزئيات وليس فيهما شيء يعتبر جديدًا، بل هما ينمان عن ضعف الشيخوخة. ووفي الواقع شعر كنط في السنة التي ظهر فيها كتابه الأخير بانحطاط قواه العقلية، فاعتزل التعليم بالجامعة بعد أن زاوله نيفًا وأربعين سنة، محاضرًا أثناءها في شتى العلوم، فضلًا عن علوم الفلسفة، مثل القانون والتربية وعلم الإنسان والجغرافيا الطبيعية والميكانيكا والرياضيات والمعادن, مؤلفًا في كل ذلك كتبًا ومقالات. فقد كان متوفرًا بكليته على العلم؛ لم يتزوج، ولم يكن له مع أقرب

أقربائه سوى علاقات متباعدة، وإن كان يحلو له الاجتماع بالأصدقاء حول مائدة الطعام، وبغير الجامعيين منهم على الخصوص، والتبسط معهم في أحاديث الأسفار والأدب والاقتصاد، فيفيد منهم معارف لم يكن يصادفها بنفسه. وأخذت حالته الجسمية والعقلية تسوء بمر الزمن, حتى فقد البصر والذاكرة. ولما حضرته الوفاة كانت كلمته الأخيرة قوله: "حسنًا".

الفصل الثاني: نقد العقل النظري

الفصل الثاني: نقد العقل النظري 97 - المسألة النقدية: أ- ما قيمة معارفنا؟ أو ما النسبة بين معارفنا وبين الوجود؟ تلك هي المسألة المركزية في الفلسفة، والتي يتعين حلها بادئ ذي بدء. لا يرى كنط أن نقد المعرفة يبدأ بالشك المطلق كما هو الحال عند ديكارت. فإن لدينا علمين قائمين لا تختلف فيهما العقول هما: الرياضي والطبيعي، على حين أن ثالث العلوم النظرية، وهو ما بعد الطبيعة، موضع خلاف متصل ولو أن في العقل استعدادًا طبيعيًّا له يدفعه إليه دفعًا. وعلى ذلك يكفي أن نتبين السبب في إمكان العلم الرياضي والعلم الطبيعي، أو شرائط العلم الحق، فيبين لنا في نفس الوقت سبب استحالة الحصول على معرفة ميتافيزيقية، ولعلنا نجد بعد ذلك تفسيرًا للاستعداد الطبيعي للميتافيزيقا في غير الناحية النظرية، أي: في الناحية الخلقية. ولما كانت المعرفة الحقة تقوم في الحكم، وهو الفعل العقلي الذي يحتمل الصدق أو الكذب, بينما المفردات ليست معرفة بمعنى الكلمة ولا تحتمل صدقًا أو كذبًا، كان الواجب علينا أن نستعرض مختلف أحكامنا لنتبين نوع الحكم الذي يعتمد عليه العلم، وننظر في خاصيته وطريقة تأليفه؛ وبذا نكون قد حللنا المسألة. ب- الأحكام نوعان: أحكام تحليلية وأحكام تركيبية. الأحكام التحليلية هي التي محمولها مستخرج من مفهوم موضوعها، كقولنا: الجسم ممتد، أو: الكل أعظم من الجزء، أي: إنها التي تحلل مفهوم الموضوع إلى العناصر المتضمنة فيه, ثم ترد إليه هذه العناصر بالإضافة. لذا كانت أحكامًا أولية أو قبلية a priori مركبة بدون معونة التجربة، وكانت كلية ضرورية كمبدأ الذاتية الذي تعتمد عليه، وهو المبدأ القائل: إن كل ماهية فهي ما هي. ولكن هذه الأحكام تفسيرية بحتة، لا يزيدنا محمولها معرفة بالموضوع، فلا جدوى منها ولا فائدة لها في إقامة العلم. والأحكام التركيبية هي التي يزيد محمولها شيئًا جديدًا على الموضوع، فتوسع

معرفتنا بالموضوع. وهي نوعان: أحدهما أحكام تركيبية ذاتية، أو أحكام إحساس مثل قولي: الشمس تسطع وهذا الحجر يسخن، أو: السكر حلو "أعني: في مذاقي"، أو: أحمل جسمًا وأحس ثقلًا؛ هذه أحكام تعبر عن حالة شعورية. فقيمتها ذاتية لا تضطرني إلى اصطناعها دائمًا، ولا تضطر غيري إلى تصديقها؛ لأن الحكم هنا عبارة عن وضع نسبة بين إحساسين في الحال الراهن. والنوع الآخر أحكام موضوعية أو أحكام تجربة، وهي تعبر عن علاقة ضرورية كلية بين الموضوع والمحمول، فلها قيمة بالنسبة إليهما معتبرين في نفسهما مستقلين عن الشخص الذي يحسهما، أي: إن لها قيمة موضوعية، ولفظ "موضوعي" يعني في لغة كنط ما كان له قيمة كلية مستقلة عن الشخص بما هو شخص، مثل قولي: ضوء الشمس يسخن الحجر، أو: الجسم ثقيل, فإن قصدي هنا أن ضوء الشمس علة سخونة الحجر، وأن هذا حق ولو لم أحس هاتين الظاهرتين ولم أوقع النسبة بينهما. وجميع أحكامنا ذاتية أولًا تترجم عن شعورنا وتخضع لقانون التداعي، ثم يصير بعضها موضوعيا. والأحكام التي من هذا النوع الأخير أولية كالأحكام التحليلية مع كونها تركيبية، فإنها صادقة دائمًا بالنسبة إليَّ وإلى أي شخص آخر، ولا تتوقف على عدد التجارب ولا على حالة الشخص الذاتية؛ وهذه الأحكام هي التي تتألف منها العلوم. فالمسألة النقدية تعود إلى هذا: ما السبب في إمكان الأحكام التركيبية الأولية، مع العلم بأن الموضوع والمحمول مستفادان من التجربة، وأن التجربة جزئية متغيرة، وأننا بالرغم من هذا نعتقد بضرورة الحكم وكليته. أجل, إننا حاصلون على هذا الاعتقاد، وليس يكفي لتفسيره قول لوك وهيوم: إن الرباط بين الظواهر ذهني فحسب، وإن العادة التي تتكون بتكرار التجربة هي التي تجعلنا ننقل الضرورة الذاتية إلى ضرورة موضوعية؛ ليس يكفي هذا القول لأن شأنه، وقد كشف لنا عن أصل هذا الرباط، أن يبدد اعتقادنا بموضوعيته، وهو لا يبدده. فالمطلوب وضع نظرية جديدة في الموضوعية باعتبارها رباطًا كليًّا ضروريًّا بين محمول وموضوع متباينين مستفادين من التجربة, وكان هيوم قد قال: إن مثل هذا الرباط أمر غير معقول. ج- لنبين قبل ذلك أن العلوم تتألف من أحكام تركيبية أولية. وليكن الحكم الآتي مثالا على أحكام الهندسة: "الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين".

فالمحمول هنا "وهو "أقرب مسافة"" ليس متضمنًا في الموضوع "الذي هو "الخط المستقيم"" ولكنهما متخارجان, يرجع الموضوع إلى الكيفية، فإن الاستقامة صفة للخط، ويرجع المحمول إلى الكمية والإضافة؛ ومع ذلك فالنسبة بينهما ضرورية كلية، أي: إن هذا الحكم تركيبي أولي. وليكن الحكم الآتي مثالا على أحكام الحساب: 7 + 5 = 12 , فلا فكرة 7 ولا فكرة 5 تتضمنان فكرة 12. وليكن الحكمان الآتيان مثالين على أحكام العلم الطبيعي: أحدهما أنه في جميع تغيرات العالم المادي تظل كمية المادة بدون تغير, فإن معنى المادة لا يتضمن معنى عدم تغير الكمية، والحكم الآخر أنه في كل حركة الفعل والانفعال متساويان, فليس يتضمن معنى الحركة معنى المساوة بين الفعل والانفعال. د- كيف نحصل على مثل هذه الأحكام؟ أما الأحكام الرياضية فإن خاصيتها التركيبية آتية من تصوير حدودها في المخيلة، فإني أحصل على الخط المستقيم وعلى النقطتين بفعل الخيال، وأحصل على عدد 12 بإضافة الواحد خمس مرات إلى عدد 7. وأما الأحكام الطبيعية فإن خاصيتها التركيبية آتية من كون حدودها ظواهر مدركة بالحس. أما صفة الأولية في هذين النوعين من الأحكام فآتية من كون الفكر حاصلًا على معانٍ رابطة يطبقها على الحدود. فإذا نظرنا في الأحكام الميتافيزيقية وجدنا حدودها، وهي: العالم في جملته والنفس والله، غير محسوسة ولا متخيلة كما هو معلوم، ولا معقولة كما سيتضح فيما بعد؛ فهي أحكام تركيبية أولية، ولكن التركيب فيها ظاهري فقط، هو تركيب معانٍ صِرْفة لا تعتمد على مادة في الحس أو في الخيال, فهي لذلك لا تتصف بالموضوعية ولا تستحق أن تدعى علمًا. هـ- فالمعرفة بمعنى الكلمة تتألف من عنصرين: مادة وصورة، بحيث لا توجد المادة في الفكر بدون صورة، وبحيث لا يكون للصورة في نفسها أي معنى؛ لأن وظيفتها الاتحاد بالمادة. المادة موضوع الحدس الحسي، وليس لنا من حدس سواه؛ والصورة رابطة في الفكر تسمح بتركيب حكم كلي ضروري؛ لأنها هي أولية. هناك إذن مادة للفكر أو وجود خارجي, وكنط لا يتابع التصورية المطلقة في إنكار هذا الوجود أو التشكك فيه، وإن يكن مذهبه يمنع من القول به كما سنرى. كان بعضهم قد عزا إليه أنه تصوري مطلق بعد ظهور الطبعة الأولى

لكتابه، فوضح رأيه في الطبعة الثانية وتوسع في نقد التصورية المطلقة. وهو يصرح بأن الإحساس انفعال، وأن التخيل فعل، فإذا كنت أحس نفسي منفعلًا فيجب أن أعتبر نفسي خاضعًا لتفسير شيء فعال. غير أنه يصرح أيضًا أننا لا ندرك من الشيء إلا انفعالنا به، فيأخذ بنصف تصورية، ويعتبر مهمة نقد المعرفة منحصرة في تبين ما هو آتٍ من خارج وما يصيفه إليه الفكر من عنده. وهذا الذي يضيفه الفكر، أي: الصورة في المعرفة، يسميه Transcendental ويعرفه بأنه معنى أو مبدأ ذاتي للفكر، متقدم على التجربة تقدما منطقيا لا زمنيا، ووظيفته جعل التجربة ممكنة، أي: تركيب موضوعات محسوسة وأحكام كلية؛ واستعماله على هذا الوجه مشروع. غير أنه قد يطبق اعتسافًا خارج نطاق التجربة، أي: على مطلق الوجود, كما أن من المعاني والمبادئ الذاتية، كمعاني العالم والنفس والله، ما يجاوز بطبيعته حدود التجربة؛ وفي هاتين الحالتين يتخذ المعنى أو المبدأ قيمة خاصة في حين أنه صورة بحتة، فيسمي كنط هذا الاستعمال Transcendant. لذا نترجم اللفظ الأول بالصوري في مقابل المادة الآتية من خارج، ونترجم اللفظ الثاني بالمفارق أو الميتافيزيقي في مقابل التجريبي 1. ويدعو كنط مذهبه بالتصورية الذاتية أو التصورية, ويميز بينه وبين التصورية المطلقة حيث يقول: "إن قضية التصورين الحقيقين بهذا الاسم، من المدرسة الأيلية إلى الأسقف باركلي، هي أن كل معرفة حسية فهي ظاهرية، وأن الحقيقة لا توجد إلا في معاني العقل؛ لأن العقل عندهم حدسي ومعانيه موضوعات حقة، بينما المبدأ المهيمن على مذهبي التصوري هو أن كل معرفة آتية من العقل الخالص فهي ظاهرة، وأن الحقيقة لا توجد إلا في التجربة؛ لأن العقل عندي صوري ووظيفة معانيه توحيد التجربة".

_ 1 لفظ Transcendental من وضع المدرسيين يدلون به على بعض معانٍ تسمو أو تعلو على مقولات أرسطو وتلائم جميع الموجودات, وهي الوجود ولواحقه الواحد والحق والخير والقوة والفعل وغيرها. ولكن كنط صرفه إلى المعنى المذكور فوق, فجعله صفة للصور أو المعاني والمبادئ التي يعتبرها خاصة بالفكر وحده, والتي يدعوها باطنة أو ذاتية متى طبقت في حدود التجربة. لذا أدينا هذا المعنى بقولنا: صوري. أما لفظ Transcendant فقد استعمله المدرسيون وكثيرون غيرهم إلى أيامنا للدلالة على سمو الله على المخلوقات ومفارقته لها، واستعمله كنط بمعنى المفارقة والسمو من حيث الوجود ومن حيث المعرفة أيضا, أي: حين تطلق الصور الفكرية إلى ما بعد التجربة؛ لذا أدينا هذا المعنى بقولنا: مفارق ومفارقة. انظر أيضًا: A Lalande, Vocabulaire de la philosophie.

ووقوانا الفكرية ثلاث، أي: القوى التي ترد كثرة المادة إلى الوحدة، أو بعبارة أدق: مجموعات الصور المتجانسة؛ لأن التصورية تنكر على العقل دعوى النفاذ إلى الجوهر وقواه. القوة الأولى هي الحساسية الصورية، وهي غير الحساسية التجريبية التي تقبل من خارج مادة الإحساس، فإن هذه المادة كيفية صرفة، كاللون والصلابة والطعم والرائحة والحرارة والبرودة، ونحن ندركها في المكان والزمان، فيجب تبيان أن المكان والزمان صورتان ذاتيتان تخلعهما الحساسية الصورية على مدركات الحساسية التجريبية، فترتبها بوساطتهما في علاقات أحياز في المكان وتقارن وتعاقب في الزمان، وتجعل الرياضيات الخالصة أو البحتة ممكنة بأن توفر لها الصورة الفكرية اللازمة للضرورة والكلية. والقوة الثانية الفهم الصوري، وهو غير الفهم المنطقي الذي لا ينظر إلا إلى النسب القائمة على مبدأي الذاتية وعدم التناقض في الأحكام التحليلية، فإن هذه النسب تتناول الممكن فقط، وهناك الموجود بالفعل وله نسب خاصة به. هذه النسب يضعها الفهم الصوري بين مدركات الحساسية فيؤلف أحكامًا كلية ضرورية, فيجعل العلم الطبيعي ممكنًا. "ومن هنا يتبين سبب تقديم كنط العلم الرياضي على العلم الطبيعي، فإنه عنده يتضمن شرطي تصور الطبيعيات، وهما المكان والزمان، على حين أن أرسطو يؤخره لأنه يرى موضوعاته، وهي الأعداد والأشكال، مكتسبة بتجريدها من المحسوسات المتضمنة أصل معنيي المكان والزمان". والقوة الثالثة النطق، وهو حاصل على معانٍ ثلاثة يرد إليها جميع المعارف فيحقق الوحدة التامة في الفكر. هذه المعاني هي العالم ولنفس والله. العالم يشمل جميع الظواهر الخارجية، والنفس تشمل جميع الظواهر الداخلية، والله علة الطائفتين من الظواهر. فنقد العقل يبين أن هذه المعاني صور بحتة وظيفتها هذا التوحيد، وأنها إذا أخذت كموضوعات وجودية كانت مدعاة لأخطاء أو أغاليط لا حل لها، ومن ثمة فإن علم الميتافيزيقا ممتنع. وكتاب "نقد العقل النظري" يأخذ لفظ العقل بمعنى واسع يعادل قولنا: القوة الداركة. وينقسم إلى قسمين كبيرين: الحساسية الصورية، والمنطق الصوري، وينقسم هذا القسم الثاني إلى قسمين: التحليل الصوري وموضوعه استكشاف الصور الذاتية للفهم، والجدل الصوري وموضوعه أغاليط النطق.

98 - الحساسية الصورية: أ- المكان صورة أولية ترجع إلى قوة الحساسية الظاهرة التي تشمل حواسنا الخمس. والزمان صورة أولية ترجع إلى قوة الحساسية الباطنة بصفة مباشرة، وإلى قوة الحساسية الظاهرة بصفة غير مباشرة من حيث إن كل إحساس فهو حدث نفسي له موضعه من الزمان. وهنا يثير كنط مسألتين: الأولى هل لهاتين الصورتين وجود في الذهن وهل هما أوليتان؟ ويسمى البرهنة على هذه المسألة بالعرض الميتافيزيقي. والثانية هل هاتان الصورتان موضوعيتان وصالحتان لاكتساب معارف أولية؟ ويسمى البرهنة على هذه المسألة بالعرض الذاتي. ب- أما المسألة الأولى فيورد عليها كنط ثلاثة أدلة: الدليل الأول أننا لولا هاتان الصورتان لما استطعنا إدراك المحسوسات في المكان والزمان، إذ إننا نتصور الموضوعات متحيزة خارجًا عنا وبعضها إلى جانب بعض، فيرتبها ترتيبًا مكانيًّا، فصورة المكان مفترضة في كل تجربة ظاهرة، ولدينا تصورات حسية متقارنة أو متعاقبة، ونحن نقول: إنها تقابل أشياء متقارنة أو متعاقبة، فصورة الزمان مفترضة في التقارن والتعاقب، أي: في كل ظاهرة باطنة. الدليل الثاني أننا نستطيع أن نطرد من ذهننا الموضوعات والأحداث التي نضعها في المكان والزمان، ولا نستطيع أن نمحو تصور المكان والزمان. ويعلم كنط أنه يمكن أن يقال: إنهما معنيان كليان مجردان من التجربة كمعاني الأجناس والأنواع، فيرد قائلًا: إن المعنى المجرد من التجربة ليس كليا بمعنى الكلمة، وإنما هو معنى عام يختصر الجزئيات المدركة، وهو لذلك كلي نسبي يحتمل استثناء لاستحالة استيعاب الجزئيات جميعًا؛ ثم هو أفقر من المعنى الجزئي؛ لأنه يحتفظ ببعض عناصره ويغفل الباقي! ثم إن أفراده هي الموجودة أولًا، وهي متباينة فيما بينها؛ أما صورتا المكان والزمان فهما من جنس المكان والزمان الجزئيين، ونحن نحصل على أجزائهما بقسمة المكان الواحد والزمان الواحد إلى أجزاء متجانسة، فهما كليان حقا حاصلان على "كمية مطلقة". الدليل الثالث أننا نتصور المكان والزمان غير متناهيين. وليس في التجربة سوى مقادير متناهية؛ وإن قيل: إن المعاني العامة غير متناهية هي أيضًا من حيث إننا ندرج تحتها عددًا لامتناهيًا من الأفراد، كان الجواب

أن هذه المعاني ليست غير متناهية هي أنفسها، ولكنها مجردة غير معينة, وليست أفرادها متضمنة فيها كتضمن أجزاء المكان والزمان فيهما. ج- وأما المسألة الثانية فيورد عليها كنط دليلا يعتبره حاسمًا "وإن يكن أثبته في الطبعة الأولى فقط من "نقد العقل النظري" وذكره في "مقدمة لكل ميتافيزيقا"": الرياضيات علوم أولية، والمطلوب تفسير إمكانها. الحساب علم الزمان, إذ إن العدد يتكون من آنات الزمان المتعاقبة، والهندسة علم المكان؛ فإذا لم يكن المكان والزمان صورتين أوليتين موضوعيتين، كانت المقادير الرياضية تجريبية، وكانت القضايا الخاصة بها ذات كلية نسبية فحسب، وانهارت الرياضيات الخالصة؛ ولكنها قائمة، تثبت للأعداد والأشكال علاقات كلية ضرورية، فالنظرية النقدية لازمة. د- هذه الأدلة واهية. فالدليل الأول لا ينهض إلا إذا سلمنا لكنط أن الإحساس إحساس بكيفية صرفة لا امتداد لها في ذاتها ولا مدة، وهذا قول لازم من التصورية، ساقط بسقوطها. فإننا إذا قلنا: إن المحسوس متحيز في مكان, كان إدراك المكان مقارنا لإدراك المحسوس, ولم تعد هناك ضرورة لأن يكون المكان مفارقًا للكيفية سابقًا عليها. وإذا قلنا: إن التعاقب قانون الأحداث الظاهرة والباطنة، وإن هذا التعاقب زمان بالقوة يصير زمانًا بالفعل حالما نعده، كان التعاقب أساسًا للزمان، ولم يكن الزمان مفترضًا للتعاقب 1. والدليل الثاني يعني أن تصور المكان والزمان لازم للمخيلة لأن وظيفتها تصور المحسوس الذي هو في المكان والزمان, ولا يعني أن صورتي المكان والزمان غير مجردتين من التجربة. إن كنط يفهم التجريد على طريقة الحسيين، ولكنّ هناك تجريدًا من نوع آخر دل عليه أرسطو، هو استخلاص الخصائص الجوهرية بحدس عقلي، وليس هذا التجريد اختصارًا للجزئيات المدركة فحسب، وإنما هو إدراك للماهية مهما يكن من عدد الجزئيات، والماهية الحاصلة به مثال ونموذج لجميع الجزئيات الممكنة، وهي من ثمة كلية ضرورية لتجردها عن الأعراض المخصصة لكل جزئي والمختلفة بين جزئي وآخر. فلم لا نقول: إننا نحصل على معنيي المكان والزمان بتجريد المكان

_ 1 انظر في كتابنا "تاريخ الفلسفة اليونانية" ما يقوله أرسطو في حقيقة المكان والزمان، وفي طريقة إدراكنا لهما، وفي التجريد، وفي اللامتناهي.

والزمان الجزئيين عما يلابسهما من موضوعات وأعراض؟ والدليل الثالث يعني فقط أن المخيلة تتخيل دائمًا مكانًا وراء مكان وزمانًا وراء زمان، ولا يعني أنها تتخيل، أو أن العقل يتعقل، مكانًا وزمانًا غير متناهيين بالفعل، من حيث إن اللامتناهي في المكان والزمان لا يوجد إلا بالقوة. والدليل الرابع قائم على أن كنط لم يفطن إلى أن باستطاعة العقل أن يحيل المحسوس معقولا بالتجريد، ومن ثمة كليا ضروريا، وأن التجريد الذي نعنيه أكثر تحقيقًا لموضوعية العلم؛ لأنه يشتق موضوع العلم من ذات المحسوس، ونظرية كنط تجعل هذا الموضوع شيئًا مغايرًا للمحسوس وذاتيًّا صرفًا, هذه النظرية وليدة عقل اقتبل المذهب الحسي 1. ثم أخذ يعمل على تصحيحه كي يصون العلم، فلم يجد إلا أن يضيف للذات العارفة ما يتطلبه العلم ويأباه المذهب الحسي. وهذا التوفيق المصطنع بين العلم والتجربة هو العيب الأساسي في فلسفة كنط بأكملها كما سنرى. 99 - التحليل الصوري: 1 - تحليل المعاني أو المقولات: أ- قلنا: إن القسم الثاني من "نقد العقل النظري" يسمى المنطق الذاتي، وإنه ينقسم بدوره إلى تحليل وجدل. الغرض من التحليل تفسير الأحكام العلمية، أي: التركيبية الأولية, وهو ينقسم إلى قسمين: تحليل المعاني وتحليل المبادئ. أما تحليل المعاني فيدور على ثلاثة أمور: الأول الفحص عن المعاني الذاتية الرابطة بين الظواهر المعروضة في المكان والزمان ربطًا كليًّا ضروريًّا، ويسميه كنط مقولات؛ الأمر الثاني بيان أن لهذه المعاني قيمة أولية أو موضوعية بالنسبة إلى الظواهر، ويسمي كنط هذا البيان استنباط المقولات؛ والأمر الثالث بيان كيف يتم تطبيق المعاني على الظواهر، ويسمي كنط هذا البيان بالرسم الصوري. وأما تحليل المبادئ فمعناه استكشاف قوانين العلم الطبيعي الخالص التي تسمح باستعمال هذه المعاني, وسيتبين كل هذا من التلخيص الآتي.

_ 1 اقتبل كنط المذهب الحسي إلى حد من السذاجة بعيد، فإنه يقول: إن علم الطبيعة يمكن أن يكون علمًا بمعنى الكلمة؛ لأن الثبات الضروري للعلم ممكن في المكان، على حين أن علم النفس لا يمكن أن يصير علمًا لعدم توفر الثبات في الزمان. إنه لم ير أن ثبات العلم آتٍ من ثبات الماهيات التي ينظر فيها مهما يكن حظها من الزمان والمكان.

ب- لأجل الفحص عن المقولات يجب أن نحصي أولًا أنواع الأحكام، فنجد أنها أربعة. ذلك أننا إذا نظرنا إلى موضوع الحكم دون مفهومه لم يبق لنا إلا كميته أو ما صدقه؛ وإذا نظرنا إلى المحمول مثل هذه النظرة لم يبق إلا أنه كيفية مضافة إلى الموضوع؛ وإذا اعتبرنا العلاقة بين الموضوع والمحمول كان لنا معنى الإضافة؛ وإذا اعتبرنا النحو الذي يترابط عليه الموضوع والمحمول كان لنا معنى الجهة. وعلى ذلك تنقسم الأحكام بحسب الكمية والكيفية والإضافة والجهة. ولكل من هذه الأقسام الأربعة ثلاثة أنواع، فنحصل على الجدول الآتي: ج- هذا الجدول يستلزم بعض الشرح: 1 - في كل قسم الحد الأول يعبر عن شرط، والثاني عن مشروط، والثالث عن المعنى الناتج من الجمع بين الاثنين. 2 - القسمان الأول والثاني يجب أن يضما معًا من جهة كونهما خاصين بموضوعات الحدس: الكمية خاصة بمقدار الظواهر, والكيفية خاصة بدرجة شدتها, فهما تؤلفان المقولات الرياضية. والقسمان الثالث والرابع خاصان بوجود

_ 1 لا الوجود الواقعي، بل الوجود المنطقي المدلول عليه بالرابطة، مثل قولنا: المنطق "هو" العلم الذي ... وبتعبير آخر: الوجود المقصود هنا هو الإيجاب.

موضوعات الحدس، فهما يؤلفان مقولات الحركة أو التغير أو العلم الطبيعي. 3 - القسمة الثلاثية في كل قسم، مع أن مبدأ عدم التناقض يقتضي القسمة الثنائية؛ ذلك لأن الملحوظ هنا هو الوجود، وفي الوجود لا يرتفع الضدان كما يرتفعان في المنطق الصرف، إذ إنه متى تعارضت قوتان حدثت ظاهرة هي صورة أخرى لكمية القوة. 4 - مقولات الإضافة تعبر عن علاقة الشيء بالكيفية، وهذه العلاقة إما أن تكون بين جوهر وعرض، فيكون الحكم حمليًّا، أو بين مبدأ ونتيجة، أو علة ومعلول، فيكون الحكم شرطيًّا متصلًا, أو بين الجنس وأنواعه، فيكون الحكم شرطيًّا منفصلًا. 5 - لما كان كل حكم تعبيرًا عن نسبة، كانت الإضافة المقولة الكبرى الشاملة لسائر المقولات. د- وقد نزيد المسألة إيضاحًا بالمقارنة بين موقف كنط وموقف أرسطو: 1 - يقول كنط: إن القصد الأول واحد عنده وعند أرسطو، وهو وضع جدول شامل للأحكام. غير أن أرسطو وضع جدول الأجناس العليا التي تندرج تحتها جميع الموضوعات والمحمولات، ووضع كنط جدول الوظائف المنطقية أو الروابط أو النسب بين الموضوعات والمحمولات. فأرسطو وجودي يرتب الأشياء وخصائصها، وكنط ذاتي يرتب وظائف العقل. 2 - يأخذ كنط على أرسطو أنه جمع مقولاته جمعًا تجريبيًّا بتحليل الكلام الإنساني. وقد يكون هذا صحيحًا ولا يقدح في المقولات أنفسها، ولا يمنع من إمكان ترتيبها ترتيبًا منطقيًّا جامعًا مانعًا، كما ذكرنا بهذا الصدد في كتابنا "تاريخ الفلسفة اليونانية". وكنط نفسه لم يستنبط مقولاته استنباطا حقا، ولكنه استخرجها من جدول الأحكام كما تلقاه عن المنطق القديم. 3 - ويأخذ كنط على أرسطو أيضًا أن مقولاته ليست متجانسة؛ فمقولات الزمان والمكان والوضع ترجع إلى التصور الحسي لا إلى العقل. ولكن هذا لا يعد مأخذًا إلا بناء على مذهب كنط الذي يفصل بين الحس والعقل، أما عند أرسطو فاللفظ في الحكم معنى مجرد من المحسوس، فالمقولات كلها معقولة مهما يكن من أصلها الحسي. 4 - ويأخذ كنط على أرسطو أيضًا أن ليس لنظريته خاصية معينة, فهي نفسية ومنطقية لأن المقولات فيها أنحاء الحكم والتعبير, وهي ميتافيزيقية لأن المقولات فيها منصبة على الوجود. ولسنا ندري ما يمنع أن يكون للنظرية خصائص ثلاث من ثلاث وجهات، والفكر والوجود متطابقان في فلسفة أرسطو؟ بل ليس

لنظرية كنط خاصية معينة, فقد وضع في جدوله الحكم الشخصي لأنه رأى أن هناك فرقًا من حيث الوجود، بين اعتبار الفرد واعتبار البعض واعتبار الكل، مع أن الموضوع الشخصي معادل للموضوع الكلي في المنطق الصوري؛ لأنه مأخوذ مثله بكل ما صدقه, فهل النظرية منطقية أو ميتافيزيقية؟ كذلك وضع في جدوله الحكم المعدول، مع أن هذا الحكم موجب منطقيًّا فلم يكن هناك داعٍ لتخصيصه بالذكر، إلا أن يكون الملحوظ فيه نوع العلاقة بين المحمول والموضوع، فيكون كنط نظر هنا أيضًا إلى الوجود وهو يضع جدولًا منطقيًّا صرفًا. ثم إن مقولات الجهة ليست صادرة عن نفس المبدأ الصادرة عنه سائر المقولات, فإن هذه تدل "أو تريد أن تدل" على أنحاء ارتباط المحمولات بالموضوعات، وتلك تريد أن تبين نوع وجود المحمولات للموضوعات، فهي مأخوذة من اعتبار الوجود لا من اعتبار الوظيفة المنطقية فحسب، أي: إنها ثلاثة مواقف للعقل بإزاء الحكم، لا ثلاث مقولات. 5 - ويظهر التعمل في جدول كنط من أنه أثبت مقولات لكي تتم له القسمة الثلاثية ليس غير, فإن التفاعل نوع من الفعل وداخل في مقولة العلية؛ والمقولة الثانية من مقولات الجهة "وجود, لاوجود" تشبه المقولة الأولى من مقولات الكيفية من جهة حدها الأول، وتشبه المقولة الثانية من جهة حدها الثاني، فإن الوجود يعادل الإيجاب، واللاوجود يعادل السلب؛ بينما مقولات أرسطو متمايزة معينة. هـ- أما استنباط المقولات أو التدليل على موضوعيتها، فيتبين على هذا النحو: بالمقولات نوحد بين الظواهر، إذ نثبت بها بين الظواهر علاقات كلية ضرورية, وهذه العلاقات تجعل من الظواهر "موضوعات" بالإضافة إلينا، أي: أشياء نعتبرها موجودة وذات قيمة مستقلة عن وجودنا الشخصي. وليس يمكن هذا إلا إذا كانت الظواهر منطوية في وجدان واحد بعينه "وجدان ذاتي" يظل هو هو ويوحد بينها، على حين أن الوجدان التجريبي أو الحس الباطن يتغير باستمرار. هذا التوحيد هو الفعل الجوهري للفكر، وهذا الفعل مصحوب بشعور عقلي "ذاتي" خالص من كل موضوع يترجم بأنا أفكر. وإذن, ففي أصل الفكر توجد الوحدة الضرورية للإدراك، وهي الأنا الخالص، الأنا أفكر، الذي هو عين الفهم، والفهم قوة تلقائية وظيفتها الحكم أي: الربط بين الظواهر. "الأنا

أفكر" صادر عن الوجدان ومصاحب لجميع التصورات. وكيف أقول "أنا" دون أن أثبت بإزائي شيئًا ليس إياي؟ فالذات العارفة تفترض الموضوع المعروف، أي: تفترض حدوسًا مرتبطة بعلاقات كلية ضرورية، فإني حينئذ أشعر بذاتي. فللمقولات قيمة موضوعية لأنها أحد عاملين يخلقان موضوعات التجربة، والعامل الآخر حدوس الحساسية. وليس للمقولات من قيمة أو معنى دون المادة الآتية من الحس، وليست هي معارف بالذات كالمعاني الغريزية عند أفلاطون وديكارت وليبنتز، وإنما هي مجرد روابط لتوحيد التجربة. فبدون الحدوس المقولات جوفاء، وبدون المقولات الحدوس عمياء. وهكذا وجد كنط في الوجدان نفسه مبدأ التوافق بين الحس والفهم، ذلك المبدأ الذي وضعه ديكارت والديكارتيون في الله. وكيف تنطبق المقولات على الحدوس؟ إنها لا تنطبق مباشرة، ولكن كل مقولة تقتضي علامة تدل على أنها هي التي يجب تطبيقها دون غيرها. فكل مقولة يقابلها رسم دال على استعمالها المشروع. هذا الرسم تقوم به المخيلة المبدعة، وهي قوة تلقائية تختلف عن المخيلة المستعيدة الخاضعة لقوانين تداعي الصور. فالمخيلة المبدعة هي الواسطة بين الحساسية والفهم، وهي متوسطة حقًّا إذ إنها تلقائية كالفهم وحسية كالحساسية. وهي تعمل في اللاشعور فتقدم رسومًا تخطيطية للمقولات هي طرائق كلية لتصور المقولات على نحو حسي. ولكي تستطيع أن تخطط مثل هذه الرسوم يجب أن يكون هناك صورة أولية حسية تلائم جميع الظواهر. هذه الصورة هي الزمان، وقد أسلفنا أنها صورة الحساسية بنوعيها. فلكل مقولة رسم يدل عليها على النحو الآتي: أولا رسم الكمية العدد أو مقدار الزمان, ذلك بأن جميع الظواهر تتعاقب في الزمان، وأن تصور التعاقب يتم بإضافة أجزاء زمانية متساوية، وإضافة آحاد إلى آحاد هي العدد، فرسم الكلي جملة آنات الزمان، ورسم البعضي عدد من الآنات، ورسم الشخصي آن واحد. ثانيا رسم الكيفية الوجود في الزمان أو مضمون الزمان, من حيث إن كل ظاهرة فهي متضمنة في زمان، وإنها في ذاتها كيفية. فرسم الوجود زمان يشغله حدث متصل، ورسم السلب زمان خلو من الحدث، ورسم الحد زمان فيه حدث غير تام أي: فيه إحساس لا يبلغ إلى نهايته. ثالثًا الإضافة نظام تعاقب الزمان؛ ذلك بأن الظواهر تملأ الزمان على أنحاء متنوعة, بعضها يبقى وبعضها يمر، بعضها يتعاقب وبعضها يتقارن. فرسم الجوهر

تصور البقاء في الزمان، ورسم العلية تصور التعاقب الراتب في الزمان، ورسم التفاعل أو الاشتراك تصور تقارن أعراض جوهرين في الزمان. رابعًا رسم الجهة تصور الوجود في جملة الزمان، فإن الظواهر يمكن أن توجد إما في أي زمان كان، وهذا هو الإمكان؛ أو في زمن معين، وهذا هو الوجود الواقعي؛ أو في كل زمن، وهذه هي الضرورة. فالرسم الذاتي يعطينا فكرة عن الطريقة التي يمكن أن تطبق بها المقولات على الظواهر بوساطة فعل المخيلة المبدعة في اللاشعور. ز- هكذا يقول كنط، ولنا على أقواله ملاحظات: فأولا ليس العدد رسمًا للكمية، ولكنه حقيقة الكمية المتصورة، فإن العدد جميع آحاد موجودة أو مفترضة، وليس يهم كونه يتم في الزمان. ثانيًا ليس الوجود في الزمان رسمًا للكيفية، ولكنه هو أيضًا حقيقة الموضوع المتصور، فإن الظاهرة كيفية بذاتها. ثالثًا ليس نظام تعاقب الزمان مقابلا لمقولات الإضافة ومحتما تطبيقها، فإن البقاء في الزمان قد يتفق للعرض كما يتفق للجوهر، ونحن نستطيع تصور جوهر لا يبقى سوى لحظة واحدة؛ وتصور التعاقب الراتب لا يدل دائمًا على العلية، بل قد يكون محض تعاقب؛ وكذلك تصور تقارن أعراض جوهرين لا يدل حتمًا على التفاعل, فكيف نميز بين مختلف الحالات؟ رابعًا ليس تصور الوجود في جملة الزمان مقابلا لمقولات الجهة؛ فليس الإمكان مجرد الوجود في أي زمان كان، وليست الضرورة مجرد الوجود في كل زمن؛ ولكن لكل منهما تعريفًا قائمًا على ماهية الشيء من حيث هو موجود بذاته أو مفتقر إلى غيره، وكنط لا يلحظ الماهية المعقولة لأنه يجعل من العقل قوة غير مدركة. أما الوجود في زمن معين، فيرجع إلى مقولة الكيفية كما سبق. وعلى ذلك, فلكل مقولة في واقع الأمر مفهوم يختلف عن الرسم الخيالي الذي يقال: إنه يدل عليه، وهذا المفهوم يدركه العقل، ولكن العقل عند كنط غير مدرك. ح- والآن وقد تمت نظرية الأحكام التركيبية الأولية، أي: نظرية الحساسية والفهم والتطابق بينهما، نستطيع أن نرى مبلغ ما فيها من عبث وتهافت. إن كنط، لكي يبرر موضوعية الإحساس، يضع شيئًا خارجيًّا مؤثرًا فينا، فيناقض مذهبه من حيث إن العلية عنده مقولة جوفاء، إن خولتنا الحق في الربط بين الظواهر,

فهي لا تخولنا الحق في الخروج من الظواهر إلى أشياء بالذات هي غير معلومة في أنفسها. فلم ينتقل كنط من التصورية إلى الموضوعية كما زعم. ولكي يبرر موضوعية القضايا العلمية، يضع المقولات، ولكنه يريدها على أن تكون جوفاء، فيدع القضايا العلمية غير مفهومة، إذ لا التجربة تثبت لها الكلية والضرورة، والتجربة جزئية حادثة، ولا العقل يثبتهما، والعقل يطبق المقولات من غير إدراك خاص، بناء على رسوم خيالية لا تدل في حقيقة الأمر على المقولات. فالنتيجة أن القضية العلمية كاذبة من حيث إن العقل يوقع فيها نسبة بين حدين هما بريئان منها. فلم ينتقل كنط من المذهب الحسي إلى المذهب العقلي كما زعم؛ وذلك لأنه لم يصحح المذهب الحسي إلا بمجموعة ألفاظ هي المقولات، فلم يوفق إلى تفسير المطابقة بين الحس والعقل. إن هذه المطابقة لا تفسر إلا بنظرية أرسطو في التجريد، حيث تقدم التجربة مادة الحكم، أي: الموضوع والمحمول متحدين أو متضامنين، فيحيلهما العقل ماهيتين مجردتين ومن ثم كليتين ضروريتين، ويدرك النسبة بينهما. ولما كانت فلسفة كنط بأكملها قائمة على نظرية المقولات, فقد انهارت بانهيار هذا الأساس, ولن نصادف فيما تبقى منها سوى أخطاء فوق أخطاء. 100 - التحليل الصوري: 2 - تحليل المبادئ: أ- يقول كنط: على أن الرسوم الخيالية لا تكفي لجعل الظواهر موضوعية، فإن فعلها مقصور على بعث مقولة معينة دون أن يبرر تطبيق هذه المقولة. بيد أنها تجعل من الممكن تأليف أحكام تركيبية أولية هي موضوعية. هذه الأحكام هي مبادئ الفهم الخالص يؤلفها ابتداء بتعيين شروط الرسوم تطبيقا موضوعيا. ومن اليسير الآن أن نستنبط مبادئ العلم الطبيعي الخالص استنباطا أوليا، فإن جدول المقولات يقودنا إلى جدول المبادئ. فلمقولات الكمية مبدأ هو "جميع الحدوس مقادير متصلة" إذ إنها معروضة في المكان والزمان اللذين هما مقداران متصلان. ولمقولات الكيفية مبدأ هو "في كل ظاهرة، الشيء الواقعي "الذي هو موضوع الإحساس" حاصل بالضرورة على كمية شدة أو على درجة" إذ يجب أن يكون للأشياء درجة تأثير على حواسنا لكي تحدث فينا إحساسات، وتختلف

الأشياء في هذه الدرجة فتختلف الإحساسات. وهذان المبدآن رياضيان يبرران تطبيق الرياضيات على العلم الطبيعي. ولكل من مقولات الإضافة مبدأ: المبدأ الأول "الجوهر باقٍ في تعاقب الظواهر, وكميته لا تزيد ولا تنقص" إذ لما كان الجوهر لا يتغير من حيث وجوده، فلا يمكن أن تزيد كميته أو تنقص. المبدأ الثاني "جميع التغيرات تقع تبعًا لقانون ترابط العلة والمعلول" أي: في تعاقب منتظم، إذ لو كانت نسبة التعاقب بين الظواهر غير منتظمة، لما كان للنسبة قيمة موضوعية، وما انتظام التعاقب إلا العلية. المبدأ الثالث "جميع الظواهر المدركة معًا في المكان متفاعلة" فإن الشرط الذي يجعل معرفة التقارن موضوعية هو أن يكون شيئان بحيث لا يوجد أحدهما قبل الآخر ولا بعده, فتقارنهما هكذا هو العلامة التي تسمح لنا بتطبيق مقولة التفاعل. ولكل من مقولات الجهة مبدأ: المبدأ الأول "كل ما يتفق والشروط الصورية للتجربة "وهي المكان والزمان والمقولات" فهو ممكن". المبدأ الثاني "كل ما يتفق والشروط المادية للتجربة فهو موجود في الواقع" أي: إن إدراك الشيء، أو إدراك علاقته بشيء مدرك، تبعًا لمبادئ الإضافة، يدل على وجوده الواقعي. المبدأ الثالث "كل ما يتفق مع الوجود الواقعي تبعًا للشروط العامة للتجربة فهو ضروري". ويلزم من هذا أن ليس في الطبيعة صدفة أو علية عمياء، وإنما كل شيء فيها يتوقف على شروط، ويقع بموجب ضرورة معقولة. ومبادئ الإضافة والجهة تعين الأشياء بعلاقاتها فيما بينها، أو بعلاقاتها بقوتنا المدركة، فهي مبادئ قوية ""دينامية"" أي: مبادئ الحركة والتغير تقوم عليها القوانين الطبيعية. ب- والنتيجة التي وصلنا إليها هي أن المقولات والمبادئ تعني أن الطبيعة لكي تكون معلومة لنا، يجب أن تطابق الشروط التي نستطيع أن نتصور وجودها عليها، أو أن شروط الطبيعة تستنبط من شروط الفكر. وهكذا يتجلى لنا الانقلاب الذي أحدثه كنط, إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر بدل أن يعتقد الناس جميعًا أن الفكر يدور حول الأشياء. ولكن هل هناك استنباط حقا؟ الحق أن كنط رأى العناصر الضرورية للعلم، والموجودة في العلم بالفعل، والتي لا تدرك بالحواس، فاستخلصها وحاول أن يستنبطها فما فعل إلا أن وضعها وضعًا، وما كان الاستنباط إلا محاولة صناعية. وهو يلتمس دليلًا آخر على صحة مذهبه؛ فإنه ينبه على أن التحليل

كما عرض للآن، افتراضي ذهب فيه من الأحكام كما هي في الفكر إلى الشروط التي تفسرها؛ فإذا هو بيّن أن هذه الشروط إن خُولفت، أي: إن طبقت المقولات والمبادئ على الأشياء بالذات كما تفعل الميتافيزيقا، بدل أن تقصر على الظواهر كما تقضي به "التصورية النقدية"، لم يبق هناك معرفة بمعنى الكلمة، وانقلب الفرض مذهبًا مقررًا. وبعبارة أخرى: إنه يريد أن يقدم على صحة مذهبه برهانًا بالخلف بعد أن قدم البرهان المستقيم. وذلك ما يحاوله في "الجدل الذاتي" حيث ينقد معاني النطق أو معاني الميتافيزيقا. وسوف نرى أن هذا النقد ما هو إلا محاولة صناعية أخرى. 101 - الجدل الصوري: 1 - تعريفه: أ- المسألة الثالثة من مسائل الفلسفة النقدية هي قيمة الميتافيزيقا. ولهذا اللفظ عند كنط معنيان: الواحد أن الميتافيزيقا هي "النقد" أي: الفحص عن العناصر الأولية في المعرفة وفي العمل. فمن الجهة الأولى هي ميتافيزيقا الظواهر كما تبدو في "نقد العقل النظري" الذي نلخصه في هذا الفصل؛ ومن الجهة الثانية هي ميتافيزيقا الأخلاق كما تبدو في "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" وفي "نقد العقل العملي" اللذين سنلخصهما في الفصل التالي. والمعنى الثاني أن الميتافيزيقا هي العلم الذي يدعي إدراك موضوعات خارجة عن نطاق التجربة, هذه الميتافيزيقا هي التي يقصد كنط إلى إبطالها هنا؛ لأنها في اعتباره تذهب بغير حق من الأشياء كما تبدو لنا خلال صورنا الفكرية، إلى الأشياء كما هي في أنفسها. فهو يتابع الحسيين في هذه النقطة، ويطبق المبدأ التصوري بكل دقة، فيفترق عن ديكارت ومالبرانش وليبنتز وباركلي في اعتقادهم أن العقل واقع على صور الوجود وذاهب منها إلى أصولها. وكان طبيعيا أن يرفض كنط قبول الميتافيزيقا كعلم بالشيء بالذات بعد النتائج التي خرج بها من تحليل الحساسية والفهم، فضلًا عن اعتداده بالواقع من أن الميتافيزيقا ليست مقبولة عند الجميع كالرياضيات والعلم الطبيعي، فإن هذا يدل في عرفه على أنه لو كان لنا حدس عقلي لكانت الميتافيزيقا كالعلمين الآخرين. وهو يرى أن الاعتقاد العام بأن العقل الإنساني يستطيع أن يضع مثل هذا العلم، إنما هو نتيجة وهم قاهر يريد هو أن يبدده في هذا القسم من الكتاب

بالكشف عن منشئه وطبيعته. ب- منشأ الوهم الميتافيزيقي قوة من قوانا الفكرية وأعلاها، هي النطق؛ لذا كان هذا الوهم ملازمًا للفكر الإنساني وعسير التبديد. يختلف النطق عن الفهم في أن وظيفة الفهم الحكم، أي: الربط بين الظواهر بوساطة المقولات وتركيبها في قضايا، ووظيفة النطق الاستدلال بالأقيسة الثلاثة المعروفة: الاقتراني، والشرطي المتصل, والشرطي المنفصل. إلا أنه يستعمل هذه الوظيفة على نحوين: نحو منطقي، ونحو مفارق، أما النحو المنطقي فيقوم في إدراج حدس "المقدمة الصغرى أو المشروطة" تحت قاعدة "المقدمة الكبرى أو الشرط" بحيث يرد معرفة جزئية إلى معرفة كلية باعتبار هذه شرط تلك، وهكذا إلى غير نهاية. وأما النحو المفارق فيتجه على العكس إلى اعتبار سلسلة الشروط جملة تامة، أي: إنه يمضي في توحيد المعرفة حتى يبلغ إلى المطلق, فيدعي تقديم برهان تام عن المشروط، أو يمضي من الوجود التجريبي، لا إلى وجود يمكن أن يقع في التجربة، بل إلى وجود أخير مجاوز للتجربة بالمرة. ولكن المحقق تحليليًّا هو أن المشروط يفترض شرطًا، فالمبدأ الذي يصعد المنطق بموجبه من مشروط إلى لامشروط، هو مبدأ تركيبي يجاوز مجال المنطق الصرف، وهو أوليّ في نفس الوقت إذ إن التجربة لا تعطينا مبدأ أول. وقد مر بنا أن الحكم التركيبي الأولي لا يعد مقبولًا إلا إذا اشتمل على حدس حسي. فاستدلال النطق عبث لا غناء فيه؛ لأنه يركب أقيسة فاسدة مؤلفة من أربعة حدود، إذ تنتقل المعاني كما هي في الفكر "أي: من صور بحتة" إلى أشياء بالذات خارجة عن متناول الفكر، فيكون لكل من هذه المعاني مدلولان: الواحد صوري في المقدم، والآخر مادي في التالي. ج- وطبيعة الوهم الميتافيزيقي أن النطق، لما كان لا يصادف المطلق في التجربة، يخترع معاني يعتبرها المبادئ القصوى. هكذا فعل أفلاطون حين ترك العالم المحسوس وتوغل فيما فوقه على أجنحة المثل في خلاء العقل الخالص, فأشبه حمامة تشق الهواء فتحس مقاومة فيخيل إليها أنها تكون أكثر توفيقًا لو طارت في خلاء مطلق. وكما أن النظر في صورة الأحكام كشف لنا عن المقولات أو معاني الفهم، كذلك النظر في صورة الاستدلالات يكشف لنا عن معاني النطق هذه. ذلك بأن القياس الاقتراني "وهو يسند محمولا إلى موضوع، أي: كيفية إلى جوهر"

متى استخدم في الفحص عن المطلق الذي تنتهي إليه ظواهرنا الوجدانية، وصل إلى موضوع لا يستعمل كمحمول فلا يستند إلى شيء آخر, هذا الموضوع هو معنى الأنا أو النفس كجوهر. والقياس الشرطي المتصل "وهو يعلق مشروطًا على شرطه" متى استخدم في الفحص عن العلة المطلقة للعلل الطبيعية، وصل إلى معنى العالم كجملة العلل أو الشروط. والقياس الشرطي المنفصل "وهو يعارض بين حدين, فيضع أحدهما بناء على ارتفاع الآخر" متى استخدم للفحص عن الشرط المطلق لجميع موضوعات الفكر، وصل إلى معنى العلة المطلقة أو الموجود الأعظم وهو الله. ومن هنا نشأت ثلاثة علوم: علم النفس النظري يزعم أنه علم النفس باعتبارها جوهرًا مفكرًا؛ والعلم الطبيعي النظري يزعم أنه علم العالم باعتباره جوهرًا كذلك؛ والعلم الإلهي النظري يزعم أنه علم الله. فبمراجعة مسائل هذه العلوم وأدلتها، يتبين لنا أن الأدلة سوفسطائية، وأن المسائل وهمية نشأت من اعتقاد أننا ندرك بتلك توحيدًا نهائيًّا. د- سوف يتضح الآن مقصد كنط باستخدام هذه الأقيسة الثلاثة، فيتضح مقدار ما بذل من تصنع وافتعال. إننا لا نرى مسوغًا لوضع النطق كقوة متمايزة من الفهم، فإن معاني النفس والعالم والله تكتسب بتطبيق مقولتي الجوهر والعلية على كل ظاهرة قبل النظر إلى جملة الظواهر. وكنط نفسه يذكر بين المقولات مقولة "الجملة" ففكرة "جملة الظواهر" متوفرة للفهم، وفي المقولات الثلاث المذكورة الكفاية. ولكن كنط ورث عن فولف هذا التقسيم للميتافيزيقا، وورث فكرة النطق عن الأفلاطونيين، من فلاسفة ومتصوفين، وكانوا يميزون بين قوة استدلالية تضع العلم الطبيعي، وقوة حدسية تدرك الروحيات، دون أن يفطنوا إلى أن علمنا بالروحيات قائم هو أيضًا على تطبيق مبدأ العلية، لا على حدس مباشر؛ فأراد هو أن يلتمس لكل أساسًا منطقيًّا. 102 - الجدل الصوري: 2 - نقد علم النفس النظري: أ- يدعي هذا العلم أنه يبرهن على وجود النفس كجوهر قائم بذاته, ابتداء من "أنا أفكر" وأنه يعين ماهية النفس بتطبيق المقولات على "أنا أفكر" فيصل إلى أن النفس بسيطة وشخصية أي: باقية هي هي تحت ما يعرض لها من تغيرات،

وخالدة. فهو يرجع إلى أربع مسائل كبرى يركب لها أربعة أقيسة, ولكن هذه الأقيسة أغاليط يشتمل كل منها على أربعة حدود؛ لأن أحد الحدود الثلاثة في الظاهر مأخوذ في الحقيقة بمعنى في إحدى المقدمتين وبمعنى آخر في الأخرى. لذا يسمي كنط هذه الأقيسة "أغاليط العقل الخالص". ب- المسألة الأولى جوهرية النفس، تدلل عليها الميتافيزيقا بهذا القياس: "ما لا يتصور إلا كذات، فهو لا يوجد إلا كذات، وهو من ثمة جوهر؛ والموجود المفكر لا يتصور إلا كذات؛ وإذن فهو لا يوجد إلا كذات أي: جوهر". هذا القياس غلط؛ لأن المقصود بالذات في المقدمة الكبرى هو "الشيء" الذي يتصور كذات، أي: الذات التي تدرك كذلك، أو الذات التي هي في الوقت نفسه موضوع إدراك؛ وفي الصغرى ليس المقصود "شيئًا" من حيث إن قولنا: الموجود المفكر أو أنا أفكر لا يتضمن موضوع فكر، بل يعني الشرط الضروري لإمكان الحكم وإحداث وحدة الشعور، فإن "أنا أفكر" هي الصورة التي تجمع الظواهر في فكر واحد بعينه. ذلك بأن ليس لنا حدس بنفسنا كذات مفكرة، وكل ما ندركه هو فكرنا متعلقًا بموضوعات لا مستقلًّا. فإذا طبقنا المقولات على "أنا أفكر" كان هذا التطبيق فعلًا منطقيًّا صرفًا عاطلًا من أية قيمة موضوعية، من حيث إن المقولات لا تطبق تطبيقا موضوعيا إلا على الحدوس الحسية. فلا يسوغ الانتقال من وحدة الفكر كشرط منطقي إلى وحدة جوهر متقوم بذاته. ج- المسألة الثانية بساطة النفس، تدلل عليها الميتافيزيقا بهذا الأساس: "الموجود الذي يفترض فعله ذاتًا بسيطة هو جوهر بسيط؛ والنفس موجود يفترض فعله "وهو الفكر" ذاتًا بسيطة "لأن التفكير رد التصورات إلى الوحدة، وهذا ما لا يستطيعه الموجود المركب"؛ وإذن فالنفس جوهر بسيط". ولكن المراد بلفظ بسيط في الكبرى موجود مدرك بالحدس كموجود بسيط, وفي الصغرى المراد موجود يتراءى لنفسه كأنه موجود بسيط. وبعبارة أخرى: لأجل أن نفكر يكفي أن نعتبر نفسنا ذاتا بسيطة، وليس من الضروري أن نكون كذلك حقا. د- المسألة الثالثة شخصية النفس، تدلل عليها الميتافيزيقا بهذا القياس: "الحاصل على الشعور بذاته في أوقات مختلفة هو جوهر شخصي؛ والنفس حاصة على هذا الشعور؛ وإذن فالنفس جوهر شخصي". ولكن هنا أيضًا ينتقل القياس

من الشعور بالذات في أوقات مختلفة، وهو الشرط الصوري أو المنطقي لتصوراتنا كما سبق القول، إلى بقاء الذات هي هي، مع أن هذا التصور المنطقي قد يبقى وتتغير الذات إذا كانت الذوات المتعاقبة تتوارث حالة نفسية واحدة بعينها. هـ- المسألة الرابعة تقوم النفس بذاتها, ومن ثمة استطاعتها البقاء بعد فناء الجسم، تدلل عليها الميتافيزيقا بهذا القياس: "الشيء المعلوم مباشرة له وجود متمايز من وجود الشيء المعلوم بالواسطة؛ والنفس تعلم ذاتها مباشرة، في حين أن الجسم لا يعلم إلا بوساطة النفس؛ وإذن فالنفس متمايزة من الجسم". هذا القياس يذهب من المعرفة إلى الوجود: أنا أعرف الأنا متمايزًا من اللاأنا، ولكن هل تعني هذه المعرفة أن الأنا مستقل حقا عن اللاأنا؟ أليس يمكن أن يكون لدى هذه المعرفة وأنا مركب من نفس وجسم؟ وهذا القياس مبني على تمايز النفس والجسم، مع أن الجسم تصور حاصل في الحساسية بتأثير علة مجهولة، وليس التصور شيئًا خارجًا عن الذات المتصورة حتى نقول بإدراك مباشر وإدراك غير مباشر. وقد تكون العلة المجهولة روحًا، وقد لا يكون هناك إلا جوهر مشترك هو جسم في صورة المكان وروح في صورة الزمان، ما دام إدراك الشيء بالذات ممتنعًا علينا. فالفلسفة النقدية تخلصنا من مسألة تمايز النفس والجسم وتفسير العلاقة بينهما, وهي مسألة غير قابلة للحل كما يشهد مذهب ديكات والمذاهب الصادرة عنه. والفلسفة النقدية تخلصنا من المادية, فما دمنا لا نستطيع البرهنة على وجود النفس وحقيقة الخلود، فإننا للسبب عينه ننكر على الماديين إمكان البرهنة على عدم وجود النفس, وعدم الخلود. وذلك نقد كنط لعلم النفس النظري كما يوجد عند ديكارت والديكارتيين بما فيهم فولف، وكنط محق في بعض هذا النقد، مبطل في الباقي. إنه محق في قوله: إننا لا ندرك النفس مباشرة، أي: إن ليس لنا إدراك موضوعه ذات النفس، ولكن كل إدراك فهو واقع على موضوع ومصحوب بالشعور بالذات. وإنه مبطل في دعواه أن هذا الشعور لا يصلح أساسًا للتدليل على وجود النفس وماهيتها، وأن الأدلة السالفة أغاليط. إنه يميز بين الأنا الذاتي أو الصوري والأنا التجريبي، ويقول عن الأول: إنه مجرد موضوع منطقي أو مجرد حد في قضية، ويقول عن الثاني: إنه ظاهرة خاضعة للمقولات كسائر الظواهر، وإنه ليس هناك ما يبرر الخروج من

الفكر إلى الوجود. ولكنه هو الذي يلزمنا مذهبه ويحاجنا به كأنه ثابت لا ينقض. إن الشعور بالذات فعل، والفعل وجود، ولا يعقل أن يكون الوجود هنا مقولة الوجود أو الإيجاب، فلفظ الذات مأخوذ بمعنى واحد في المقدمتين. فهذه حالة واحدة على الأقل لا تخضع للشروط العامة التي يزعمها كنط للمعرفة وهي المقولات. وديكارت على حق حين يقول: إنه يدرك وجود الأنا المفكر إدراكًا مباشرًا, وإن كان قد أخطأ الحق حين ظن أن الإدراك المباشر واقع على جوهر لامادي. وقد غلا كنط في الفصل بين الفكر والوجود حتى فصل بينهما في "أنا أفكر". وفي هذه الملاحظات ما يوضح وجه الحق في المسائل الأولى والثانية والثالثة. أما المسألة الرابعة فالحجة الأولى فيها صائبة. إن معرفتي الأنا متمايزًا عن اللاأنا لا تدل بذاتها على أن الاثنين متمايزان في الواقع، وعلى أن الإنسان قد لا يكون مركبًا من نفس وجسم متحدين اتحادًا جوهريًّا. ولكن الحجة الثانية مبنية على مذهب كنط في المعرفة، وليس هذا المذهب ملزمًا كما تقدم. وإذا كان إنكار جوهرية الجسم والنفس يسقط دعوى الماديين، فهو يسقط أيضًا دعوى الروحيين, فأي ربح يعود علينا من الفلسفة النقدية؟ 103 - الجدل الصوري: 3 - نقد العلم الطبيعي النظري: أ- يقول كنط: لأجل تعيين مسائل هذا العلم ينبغي الرجوع إلى المقولات، فما معاني النطق إلا بعض مقولات الفهم مطلقة من قيود التجربة. إن مبدأ الاستدلال هذا هو المشروط، وهذا المشروط سلسلة، فالمقولات التي تنطبق عليه هي التي يكون التركيب فيها سلسلة من الشروط مترتبة بعضها على بعض. فمن حيث الكمية، نجد أن كل حدس فهو مصحوب بمقدارين هما الزمان والمكان: أما الزمان فالظواهر التي فيه تؤلف لذاتها سلسلة؛ وأما المكان فليس سلسلة لذاته وإنما هو مركب، ولكن إذا اعتبرنا طريقة إدراكنا وجدنا أن له ما نقوم به من تركيب أجزائه هو تركيب متتالٍ، ومن ثمة يتم في الزمان ويؤلف سلسلة؛ والنطق يقتضي أن يكون للعالم بداية في الزمان وحد في المكان حتى يقف عند المطلق. ومن حيث الكيفية أو حقيقة العالم في المكان، نصادف مسألة ما إذا كان المركب في المكان ينقسم إلى أجزاء لا تتجزأ، إذ إن مثل هذه القسمة التامة أو اللامشروطة

هي التي تعتبر عند النطق التفسير الوافي للمركب. ومن حيث الإضافة، نجد أن من بين مقولاتها مقولة العلية وحدها تتضمن علاقة تتالٍ بين حدود، والنطق يطلب علة أولى كشرط مطلق لسلسلة العلل في العالم، ولا تكون العلة أولى، أي: خارجة عن سلسلة العلل الطبيعية، إلا إذا كانت حرة. ومن حيث الجهة، نجد أن من بين مقولاته اثنتين فقط يمكن أن يؤلفا سلسلة، هما مقولتا الضرورة والحدوث، والنطق يسعى إلى إقامة الحادث على الضروري باعتبار الضروري الشرط المطلق لجملة الموجودات. ب- فالنطق يعتبر هذه القضايا الأربع موضوعية، بدل أن يعتبرها مجرد تركيب منه، ويسخر الفهم للتدليل عليها، أي: لإبطال التسلسل إلى ما لا نهاية في تلك المواضع الأربعة. ولكن الفهم يدلل أيضًا على نقائض هذه القضايا؛ لأنه بذاته لا يملك إلا أن يرد ظاهرة مشروطة إلى ظاهرة مشروطة، وهكذا إلى غير نهاية، بحيث تبدو القضايا ونقائضها لازمة على السواء، فنقع في تناقض كما يتبين من الجدول الآتي: نقائض النطق الخالص للعالم بداية في الزمان، وهو محدود في المكان. كل جوهر مركب فهو مركب من أجزاء بسيطة، وليس يوجد في العالم شيء إلا وهو بسيط أو مركب من أجزاء بسيطة. العلية الطبيعية ليست العلية الوحيدة التي ترجع إليها جميع ظواهر العالم، بل من الضروري التسليم أيضًا بعلية حرة لتفسير هذه الظواهر. العالم المحسوس يتعلق بموجود ضروري سوء أكان جزءًا منه أو كان علة مفارقة له. ليس للعالم بداية ولا حد، ولكنه لامتناهٍ من حيث المكان والزمان. لا شيء مركبا في العالم مركب من أجزاء بسيطة، وليس يوجد في العالم شيء بسيط. ليس هناك حرية، ولكن كل شيء في العالم يحدث بموجب قوانين طبيعية. ليس يوجد موجود ضروري سواء في العالم, أو خارج العالم باعتباره علته. فالفهم والنطق متعارضان، وهما مع ذلك يؤلفان عقلنا. ويبدو هذا التعارض واضحًا في القياس التالي: "حين يوجد المشروط توجد سلسلة شروطه بأكملها؛ والمشروط موجود؛ وإذن فسلسلة شروطه موجودة". هذا القياس غلط؛ لأنه يحتوي

على أربعة حدود: ففي المقدمة الكبرى, الموضوع أي "المشروط" مأخوذ باعتباره موضوعًا معقولًا مستقلًّا عن شروط الحساسية أو الحدس، وهذا هو الحال في القضايا جميعًا، وفي المقدمة الصغرى "المشروط" مأخوذ طبعًا باعتباره العالم الظاهري الماثل في حسنا، وهذا هو الحال في نقائض القضايا. فبأي حق نستدل بحد أوسط ذي معنيين, وننتقل من الظاهرة إلى الشي بالذات؟ ج- ونحن نلاحظ أولًا أنه ما دام الغلط ناشئًا من التردد بين معنيين، فليس يصح القول: إن العقل متناقض مع نفسه, إلا بمعنى للعقل واسع يشمل الفهم والنطق، وهو المعنى الذي أراده كنط بعنوان كتابه. فيبقى مبدأ عدم التناقض مصونًا؛ لأن التعارض ههنا واقع بين قوتين مختلفتين لكل منهما وجهة خاصة، ومن شروط التناقض أن يكون الموضوع في المقدمتين واحدًا بعينه. ونلاحظ ثانيًا أن كنط يلزمنا مذهبه, ويريدنا على أن نؤمن معه بقوتين عقليتين متعارضتين ونستدل كاستدلاله. ولكننا نؤمن بعقل واحد ينظر إلى الأشياء نظرة واحدة، وإذا حكمناه في القضايا ونقائضها وجدناه يحكم بأن في كل تقابل إحدى القضيتين صادقة والأخرى كاذبة، فيرتفع التناقض بالفعل. وها نحن أولاء نورد استدلالات كنط ونعقب عليها بإحقاق قضية, وإبطال أخرى. د- التناقض الأول: القضية: "للعالم بداية في الزمان، وهو متناهٍ أو محدود في المكان". دليل الشق الأول أنه إذا لم يكن للعالم بداية كانت كل لحظة مسبوقة بزمان غير متناهٍ، وهذا خلف لأن معنى اللانهاية في الزمان أن هناك سلسلة لا تتم أبدًا. ودليل الشق الثاني أنه لو كان العالم لامتناهيًا في المكان لاقتضت الإحاطة به جمع وحداته على التوالي في زمان غير متناهٍ، ولا يمكن عبور الزمان اللامتناهي كما تقدم. نقيض القضية: "ليس للعالم بداية ولا حد، ولكنه لامتناه من حيث الزمان والمكان". دليل الشق الأول أنه لو كان للعالم بداية لكان تقدمها زمان متجانس، وفي مثل هذا الزمان تتساوى الآنات في عدم احتوائها ما يرجح وجود العالم على عدم وجوده، فلم يكن العالم ليوجد أبدًا. ودليل الشق الثاني أنه لو كان للعالم حد لكان هذا الحد خلاء أي: لا شيئًا ولا حدًّا، فلم يكن العالم محدودًا. ونحن نسلم القضية، مع تحفظ على الشق الأول وهو أنه لا يقام على هذا الشق برهان ضروري، كما بينا ذلك في الرد على قول أرسطو بقدم العالم، وفي

عرض موقف القديس توما الأكويني من هذه المسألة؛ ثم مع تحفظ على الشق الثاني وهو أن حد العالم لا يتعلق بإمكان إحاطتنا به، كما يذكر كنط، بل بطبيعة المادة فإن للمادة الموجودة بالفعل سطحًا بالضرورة والسطح محدود، على ما يذكر أرسطو. أما نقيض القضية فنقول عن شقه الأول: إن في الاستدلال عليه خطأ، إذ إن هذا الاستدلال يعتمد على فكرة أن الزمان شيء متجانس سابق على العالم مستقل عنه، وهذا غير صحيح لأن الزمان وهو عدد الحركة يوجد بوجود العالم المتحرك, فإذا سلمنا أن العالم لم يوجد "في" الزمان، لم تكن النتيجة المحتومة أنه قديم كما يريد الاستدلال، بل إنه قد يكون قديمًا، وقد يكون حادثًا وجد "مع" الزمان أو أن الزمان وجد معه، ونقول عن الشق الثاني "ليس للعالم حد": "إنه إذا كان العالم محدودًا كان حده سطحه الخارجي, كما بينه أرسطو". هـ- التناقض الثاني: القضية: "كل جوهر مركب "أي: الجوهر المادي" فهو مركب من أجزاء بسيطة، وليس يوجد في العالم شيء إلا وهو بسيط أو مركب من أجزاء بسيطة". ذلك بأنه لو كانت المادة مركبة إلى غير نهاية, لكان تحليلها يستتبع انعدامها؛ فلكي تبقى يجب أن يقف التركيب عند حد، أي: أن تكون الجواهر المركبة من أجزاء بسيطة. نقيض القضية: "لا شيء مركبًا في العالم, مركب من أجزاء بسيطة، وليس يوجد في العالم شيء بسيط" ذلك بأن التركيب لا يمكن إلا في المكان بحيث يكون عدد أجزاء المركب مساويًا لعدد أجزاء المكان الذي يشغله، ولكن المكان لا يتألف من أجزاء بسيطة بل من أمكنة، والأجزاء الأولى إطلاقًا لمركب ما هي بسيطة, فيلزمنا القول: إن البسيط يشغل مكانًا, أي: إن البسيط مركب, وهذا خلف. ونحن نرفض القضية، ونحيل القارئ إلى ما قلناه في حجج زينون الأيلي وردود أرسطو عليها. أما احتجاج كنط بأنه لكي لا تكون المادة مركبة إلى غير نهاية يجب أن يقف التركيب عند أجزاء بسيطة، فيرد عليه بأن إضافة البسيط إلى البسيط لا تنتج الامتداد, فيجب وضع الامتداد أصلًا كما يقول الدليل على نقيض القضية، ونحن نسلم بهذا النقيض. والتناقض الثالث: القضية: "العلية الطبيعية ليست العلية الوحيدة التي ترجع إليها جميع ظواهر العالم، بل من الضروري التسليم أيضًا بعلية حرة لتفسير

هذه الظواهر". ذلك بأن كل ما يحدث بموجب العلية الطبيعية يحدث بعد حادث سابق يعينه, وهكذا إلى غير نهاية, فإذا لم يكن هناك سوى هذه العلية لزم القول بسلسلة لامتناهية من العلل لتعيين كل ظاهرة، ولكن السلسلة اللامتناهية لا تتم أبدًا، فيجب أن تكون سلسلة العلل تامة أي: متناهية، ومن ثمة يجب التسليم بعلية حرة قادرة على أن تبدأ سلسلة ظواهر تجري حسب القوانين الطبيعية. نقيض القضية: "ليس هناك حرية، ولكن كل شيء في العالم يحدث بحسب قوانين طبيعية" ذلك بأن كل بداية فعل تفترض في العلة حالة لا تكون فيها فاعلة، فإذا صارت إلى حالة هي فيها فاعلة, كان فيها حالتان متعاقبتان لا تربط بينهما علاقة علية, ولكن لكل ظاهرة علة, فالحرية معارضة لقانون العلية. هذا التناقض يتناول مسألة الحلق، ونحن نسلم القضية، ونلاحظ أن الدليل الذي يورده كنط عين الدليل على القضية في التناقض الأول، وأن هذا الدليل يقيم العلية على تناهي سلسلة العلل في الزمان، على حين أن التناهي الذي يحتمه مبدأ العلية هو تناهي عدد العلل المترتبة بالذات أي: المتوقف بعضها على بعض آخر، كما بيناه في عرض برهنة القديس توما الأكويني على وجود الله. ونحن نرفض نقيض القضية، فإنه يغلط من وجهين: أحدهما أنه يفترض أن الله يشرع في الفعل في وقت ما، وهذا تشخيص للزمان قبل وجوده؛ والوجه الآخر أنه يفترض في الله انتقالا من القوة إلى الفعل، وهذا مخالف لماهية الله الذي هو فعل محض، فإن حدوث العالم لا يعني أن الله فعل بعد أن لم يكن فاعلا، بل إن العالم وجد بعد أن لم يكن موجودًا، فالعالم هو الذي يتغير بموجب إرادة إلهية قديمة، وإذا كان مبدأ العلية يقضي بأن لكل ظاهرة علة، فإنه لا يقضي بأن كل علة معلولة، إذ إن التسلسل معناه عدم الوصول إلى علة أبدًا, ومناقضة مبدأ العلية. ز- التناقض الرابع: القضية: "العالم المحسوس يتعلق بموجود ضروري، سواء أكان هذا الموجود جزءًا من العالم أو علة مفارقة له" ذلك بأن العالم المحسوس سلسلة تغيرات، وكل تغير فله شرط سابق في الزمان, وكل ما كان مشروطًا فهو يفترض جملة شروطه بأكملها بحيث يقوم على الضروري. وهذا الضروري يجب أن يكون داخلًا في العالم المحسوس لكي يعين سلسلة التغيرات فيه، ولو كان خارج العالم وخارج الزمان لما أمكن أن يكون أساسًا للوجود الحادث. نقيض

القضية: "ليس يوجد موجود ضروري, سواء في العالم أو خارج العالم باعتباره علته". الشق الأول يحتمل فرضين: أحدهما أن الموجود الضروري جزء من العالم، فنضع بذلك بداية مطلقة لسلسلة تغيرات العالم خلافًا لقانون العلية؛ والفرض الآخر أن الموجود الضروري هو سلسلة تغيرات العالم "على ما يذهب إليه سبينوزا وغيره من أصحاب وحدة الوجود" فتكون هذه السلسلة الحادثة في كل حلقة من حلقاتها ضرورية في جملتها، وهذا خلف. والشق الثاني يلزمنا القول بأن هذه العلة المفارقة تبدأ سلسلة علل التغيرات في العالم، وأنها في الزمان، ومن ثمة أنها جزء من العالم، وهذا مخالف للمفروض. التدليل على هذا التناقض شبيه بالتدليل على التناقض الثالث، وهو على كل حال أخص بالعلم الإلهي منه بالعلم الطبيعي، ولكن طوائف المقولات أربع، فيجب أن يكون هناك أربعة تناقضات. ونحن نسلم أن "العالم المحسوس يتعلق بموجود ضروري" لا للزوم بداية زمنية، كما يذكر كنط، بل للزوم بداية وجودية ومنطقية، كما يذكر القديس توما الأكويني. ونرفض القول بأن الموجود الضروري جزء من العالم، إذ لو كان كذلك لما كان علة مطلقة, أما نقيض القضية ""ليس يوجد موجود ضروري"" فنرفضه، إذ ليس يدلل عليه بتنافر بداية مطلقة مع مبدأ العلية، وقد بينا على العكس أن مبدأ العلية يقتضي بداية مطلقة، وليس يلزمنا مذهب سبينوزا، ويعتبر رد كنط عليه ردًّا صحيحًا؛ وليس يلزم أن تكون العلة الأولى في الزمان جزءًا من العالم لكي تبدأ سلسلة الظواهر الطبيعية، إذ ليس فعلها حركة مادية. ح- تلك هي المتناقضات المشهورة عن كنط، ولسنا نعلل شهرته بها إلا بأن الناس يذكرون الحديث قبل القديم، فقد وردت كلها عند زينون الأيلي، وعند أفلاطون في محاورة "بارمنيدس" على الخصوص، وعند أرسطو في ردوده على حجج زينون في محاولة التدليل على قدم العالم، وعند فيلسوف إنجليزي اسمه Arthur Collier نشر سنة 1713 كتابًا بعنوان "المفتاح الكلي" يصدر فيه عن مالبرانش, ويدعي التدليل على تناقض فكرة العالم الخارجي بإمكان التدليل على القضايا الآتية ونقائضها على السواء. العالم لامتناهي الامتداد ومتناهيه، المادة منقسمة إلى غير نهاية وهناك أجزاء لا تتجزأ، الحركة ضرورية وفي نفس الوقت ممتنعة التصور. جمع كنط إذن هذه المتناقضات جمعًا ووضعها هذا الوضع المسرحي

ليبين عبث العقل، فاعتقد كثيرون من بعده بناء على شهادته أن العقل عابث؛ غير أنه لم يرض أن يتركنا في حيرتنا بإزائها، فزعم أن لها حلا، وحلا مرضيا جدا. ذلك أن القضيتين الأولى والثانية ونقيضيهما كاذبة على السواء لأنها جميعًا تذكر العالم كأنه شيء بالذات وهو ليس كذلك في حدسنا، فلا نستطيع أن نعلم إن كان متناهيًا أو غير متناهٍ، وإن كانت المادة مركبة من أجزاء بسيطة أو ليست مركبة. أما القضيتان الثالثة والرابعة ونقيضاهما فيمكن أن تكون صادقة على السواء، ولكن من وجهين: فيصدق النقيضان بالإضافة إلى العالم كما هو ماثل في حدسنا، وتصدق القضيتان بالإضافة إلى العالم معتبرًا كشيء بالذات، فقد يكون هناك أشياء بالذات، ومن الممكن تصور عالم معقول وإن لم ندرك كنهه، وفي هذه الحالة نتصور إمكان علية حرة تكون العلية الطبيعية معلولها، ونتصور موجودًا ضروريًّا تكون الموجودات الحادثة متعلقة به، فما إن نجد -وسوف يجد كنط- مسوغًا للإيمان بعالم معقول، حتى يصبح لدينا الإيمان بهاتين القضيتين، وهكذا يبقى الباب مفتوحًا أمام الأخلاق والدين. ولكن بم يجيب كنط على قائل كشوبنهور: إن النقائض هي الصادقة لأنها مطابقة لصور إدراكنا التي تقضي بأن لكل مشروط شرطًا، بينما القضايا كاذبة لأنها وليدة ضعف المخيلة التي تهن دون التسلسل إلى غير نهاية, فتتحمل الأسباب لتضع له حدًّا؟ وبم يجيب إذا قلنا له: إن العالم المعقول إن وجد كان خاضعًا لمبدأ العلية كالعالم المحسوس فلا تكون فيه حرية، كما يقول الدليل على نقيض القضية الثالثة، ولا يكون فيه موجود ضروري، على ما جاء في الدليل الثالث على نقيض القضية الرابعة. لقد قال كنط: إن حله للمتناقضات "قد يبدو دقيقًا غامضًا للغاية" وإنه لكذلك حقًّا. 104 - الجدل الصوري: 4 - نقد العلم الإلهي النظري: أ- هذا العلم يدعي التدليل على وجود موجود ضروري كعلة أولى للعالم. ويمكن رد أدلته إلى ثلاثة: الأول يستنبط وجود الموجود الضروري بمجرد تحليل معناه، وهذا هو الدليل الوجودي "والتسمية لكنط". والدليل الثاني يذهب من التجربة بالإجمال، أي: من موجود حادث أيا كان، إلى علة أولى هي موجود ضروري, وهذا هو الدليل الطبيعي. والدليل الثالث يذهب من تجربة معينة

هي تركيب العالم ونظامه إلى علة أولى لهذا التركيب، وهذا هو الدليل الطبيعي الإلهي "وترجع هذه التسمية إلى الفيلسوف الإنجليزي دورهام, في كتاب عنوانه "الإلهيات الطبيعية" physico- Theology صدر سنة 1713 وصادف إقبالًا كبيرًا". ويتلخص نقد كنط لهذه الأدلة في إبطال الأول، ثم بيان أن الدليلين الآخرين يعتمدان عليه وأنهما إذن باطلان مثله. فيخرج بهذه النتيجة وهي أنه يستحيل إقامة دليل عقلي على وجود الله، فيصدقه كثيرون ويتناقلون انتقاداته على علاتها. ب- الدليل الوجودي يعتمد على تعريف الله بأنه الموجود الكامل، وكنط يسلم هذا التعريف؛ لأنه يعتقد أن فكرة الله أصيلة في العقل كما سبق القول. ولكنه يقول: إن الدليل عقيم؛ لأن الوجود المثبت فيه وجود متصور، وإن الوجود ليس محمولا ذاتيا تختلف الماهية بوجوده لها أو عدمه، وإنما هو تحقق الماهية، فمعنى المثلث لا يتغير، سواء وجد مثلث أو لم يوجد، والماهية هي هي بالإضافة إلى مائة ريال متصورة ومائة ريال عينية, فبأي حق يضاف الوجود إلى معنى الموجود الكامل؟ وهذا النقد لا يخرج عن نقد الراهب جونيلون ونقد القديس توما الأكويني للقديس أنسلم؛ ونحن نسلم عجز هذا الدليل, فلننظر في الدليلين الآخرين. ج- الدليل الطبيعي يذهب من حدوث العالم أو أي شيء فيه، كوجودي أنا على الأقل، وينتهي إلى موجود ضروري, فيعترض كنط بأن هذا الموجود الضروري ليس حتمًا الموجود الكامل أو الله، بل قد يكون المادة أو العالم، وأن نتيجة الدليل تعدل عند أصحابه هذه القضية: الكامل ضروري، وهذا قول الدليل الوجودي الذي هو غلط. ولكن كنط واهم هنا: الدليل الوجودي غلط؛ لأنه يمضي من المعنى إلى الوجود العيني، أما الدليل الطبيعي فليس غلطًا؛ لأنه يذهب من الموجود إلى الموجود، ويقول: إن الضروري كامل لا إن الكامل ضروري؛ وإنما نصل إلى موجود ضروري لأن العلة الأولى يجب أن تكون موجودة بذاتها, أي: أن يكون وجودها عين ماهيتها، وإلا لم تكن هي العلة الأولى؛ وإنما نقضي بأن الضروري كامل لنفس هذا السبب, فهذه القضية ليست مقدمة كما هو الحال في الدليل الوجودي، ولكنها نتيجة مبرهنة. ويكرر كنط الأقوال التي أيد بها نقيض القضية في التناقض الرابع، وأهمها أن مبدأ العلية يقضي بأن لكل ظاهرة علة لا بأن للعلل علة أولى؛ ثم يقول: إن مسألة العلية هاوية يتردى فيها العقل، وإن

العقل ليضطرب إذا اعتبر أن الإله الذي يقول به كعلة أولى لا يستطيع أن يجيب إذا سأل نفسه: "أنا الموجود منذ الأزل, من أين أنا؟ ". إن الكمال المطلق لا يمحو مسألة العلية ولا يحلها, نقول: بل إنه يحلها ويمحوها, سأل موسى قائلًا: "ما اسمك؟ " فكان الجواب: "أنا الموجود" ولا جواب إلا هذا، وقد بينا أن فهم كنط لمبدأ العلية ينتقض هذا المبدأ، إذ إن عدم الوقوف عند حد في سلسلة العلل معناه عدم الوصول إلى علة بمعنى الكلمة، أي: علة غير معلولة، وترك السلسلة معلقة. د- الدليل الطبيعي الإلهي يستنتج وجود الله من نظام العالم بحجة أن النظام لا يمكن أن يكون وليد الاتفاق أو العلية المادية. يقول كنط: هذا الدليل جميل مشهور لدى الجمهور، وهو جدير بأن يذكر دائمًا باحترام، إذ عليه اعتمد الناس دائمًا للاعتقاد بوجود الله. غير أن له عيوبا خطيرة؛ فأولًا هو يشبه غائية الطبيعة إن كانت حقيقية, بغائية الفن، مع أن بينهما هذا الفارق: في الفن المادة والصورة متغايران، فالمادة بحاجة لمن يطبعها بالصورة؛ أما في الطبيعة فلا بد من برهان خاص على أن الطبيعة عاجزة بذاتها عن إحداث النظام. ثانيًا إذا سلمنا بهذا الشبه كان كل ما نصل إليه هو أن صورة العالم هي الحادثة دون مادته، بحيث يؤدي بنا الدليل إلى إله مصور للعالم لا إلى إله خالق لمادته. ثالثًا لما كانت تجربتنا محدودة، وكان في العالم نقائص، فإن هذا الدليل يؤدي بنا إلى أن هذا الإله المصور حاصل على عقل كبير من غير شك, لكن لا على عقل غير متناهٍ؛ لضرورة التناسب بين العلة والمعلول. وأصحاب الدليل يدعون مع ذلك أنهم يصلون إلى الله الموجود الكامل، فهم هنا أيضًا ينتقلون دون أن يشعروا من العلة الضرورية لنظام العالم، على افتراضها خالقة هذا العالم، إلى الموجود الكامل, وهذا ما يفعله الدليل الطبيعي الذي يستند إلى الدليل الوجودي الذي هو غلط. وكنط واهم هنا أيضا؛ فأولًا إن البرهان على أن الطبيعة عاجزة بذاتها عن إحداث النظام برهان ميسور متى لاحظنا أن النظام تأليف الكثير لتحقيق غاية، وأن الغاية معقولة قبل تحقيقها، وأن المادة غير عاقة. ثانيًا نسلم بأن الدليل لا يذهب بذاته إلى الإله الخالق, وأن كل ما ينتجه أن لنظام العالم علة عاقلة. وإنما تعددت الأدلة على وجود الله لتعدد وجهات الإمكان في الطبيعة، كل وجهة تؤدي إلى مبدأ

أول من جنسها، وتؤدي الوجهات جميعًا إلى المعنى التام لله. على أن الدليل يؤدي إلى إله خالق إذا لاحظنا أن النظام في الطبيعة ليس نتيجة تركيب أجزاء مادية متجانسة كما يريد المذهب الآلي، ولكنه صادر عن ماهيات أشياء هي موجودات واحدة بوحدة حقيقية، بحيث إن إيجادها على صورة معينة هو في الواقع إيجاد المادة والصورة معًا. ثالثًا إن الدليل يؤدي بنا إلى أن منظم العالم موجود غير متناهٍ إذا فهمنا النظام على النحو المتقدم ووجدناه يعدل الخلق، إذ إن الخلق أو منح الوجود لا يكون إلا عن الموجود بالذات. أما إذا وقفنا عند موجود متناهٍ عادت المسألة فقلنا: إن هذا الموجود معلول يقتضي علة، ويمتنع التسلسل، فننتهي إلى علة أولى هي بالضرورة وجود كامل لامتناهٍ. وليس بصحيح أن هذا الدليل يعتمد على الدليل الوجودي, فقد بينا أن الانتقال من الضروري إلى الكامل غير الانتقال من الكامل إلى الضروري. وبذا تتبدد اعتراضات كنط. هـ- خلاصة "الجدل الصوري" أن لا سبيل إلى إقامة ميتافيزيقا نظرية. وهذا ما كان كنط قد بلغ إليه شيئًا فشيئًا وأعلنه في رسائل متتالية، بحيث يبدو هذا القسم من "نقد العقل النظري" عرضًا جديدًا لتلك الرسائل. أجل إن "الحساسية والتحليل" يؤلفان صلب المذهب ويظهران التغاير بين الظواهر والجوهر وامتناع تجاوزنا نطاق التجربة. ولكن الجدل كان لازمًا لتفسير وهم الميتافيزيقا واستحالة العلم الذي لا يستند إلى الحس، وفي الوقت نفسه للكشف عن "حاجات" جوهرية في الفكر الإنساني لا يكشف عنها تحليل التجربة. فليس يرمي "الجدل الصوري" إلى أن موضوعات الميتافيزيقا غير موجودة، بل إلى أن ليس باستطاعة عقلنا إدراك وجودها وماهيتها. فإن قيل: وعلى أي شيء تقام الأخلاق؟ كان جواب كنط أنها تقوم بذاتها، وهذا عنده آمن لها، إذ إن النطق الذي يدعي التدليل على النفس والحرية والله، يدعي أيضًا التدليل على المادية والجبرية والإلحاد, فيصبح تعليق الأخلاق عليه خطرًا كبيرًا عليها. وإذن فإنكار الميتافيزيقا بالمرة أصلح للأخلاق، ولا سيما أن الجدل يبين أن أفكار الله والنفس والحرية ضرورية في العقل, وأن الأدلة عليها لازمة من قوانين العقل. فالباب مفتوح للإيمان بها إن وجدت واسطة لذلك. وعند كنط الواسطة موجودة، وهي الأخلاق كما سنرى. فالجدل الصوري يمهد للانتقال من نقد العقل النظري إلى نقد العقل العملي.

الفصل الثالث: نقد العقل العملي

الفصل الثالث: نقد العقل العملي 105 - المادة والصورة في الأخلاق: أ- إذا أردنا أن نقيم فلسفة الأخلاق وجب أن نلتمس مبادئها في العقل الخالص من كل مادة. ليست هذه الفلسفة خليطًا من تلك الأخلاط التي تضم الظواهر التجريبية والمعاني العقلية، والتي يزعم أصحابها أنهم يوفقون بها بين مقتضيات النظر والتجربة. إن المذاهب التي تدعي تفسير الخليقة بطبيعة الإنسان كما هي معلومة بالتجربة والتاريخ، تشترك في عيب جوهري هو عجزها عن إقامة قوانين كلية للإرادة، فإن مثل هذه القوانين لا يطالع إلا في العقل الصرف. ويمكن ترتيب هذه المذاهب في طائفتين: واحدة تعتمد على مبادئ حسية، وأخرى تعتمد على مبادئ عقلية. وترجع مذاهب الطائفة الأولى إلى فكرة السعادة، فتقيم السعادة إما على الحساسية الطبيعية، كما فعل أرستيب وأبيقور وهوبس وأضرابهم، أو على العاطفة الأخلاقية، كما فعل شفتسبري وأشياعه. وترجع مذاهب الطائفة الثانية إلى فكرة الكمال، فتصور الكمال إما حالة نفسية حادثة بالإرادة، كما نرى عند ليبنتز، أو الله نفسه المشرع الأعظم، كما يقول اللاهوتيون. ب- من بين هذه المذاهب الأربعة، المذهب الذي يجب استبعاده أولًا هو مذهب السعادة الشخصية؛ إذ إن الحساسية جزئية متغيرة، فلا يمكن أن نستخرج منها قانونًا كليًّا ضروريًّا كالذي تفتقر إليه فلسفة الأخلاق، ثم إن هذا المذهب يرد الخير إلى اللذة والمنفعة, فيمحو كل تمييز نوعي بين بواعث الفضيلة وبواعث الرذيلة. أما مذهب العاطفة الأخلاقية فهو أرفع من غير شك؛ لأنه يعترف بالفضيلة أولا وبالذات، ولكنه من نوع المذهب السابق، إذ إنه يعرض على الإرادة منفعة حسية هي الرضا النفسي. وإنما لجأ أنصاره إلى العاطفة ليأسهم من العقل، ولم يقدروا أن العاطفة متغيرة نسبية لا تصلح مقياسًا للخير والشر.

ج- وإذا انتقلنا إلى مذهب الكمال في صورته الأولى أو الميتافيزيقية، وجدناه أفضل؛ لأنه لا يدع حق التقرير في الأخلاق للحساسية، بل يسلمه للعقل. ولكن فكرة الكمال غير معينة من جهة الغاية التي ترمي إليها، وليس لدينا معيار لتعيين الحد الأقصى الذي يلائمنا في واقع الأمر, وهي غير معينة في ذاتها، فإن الكمال الذي يكتسبه الإنسان هو كفاية ما لتحقيق غاية، وليست هذه الغاية غاية أخلاقية دائمًا، فلا بد من علامة غريبة عن الكمال للحكم عليه حكمًا أخلاقيًّا. فنخرج من المذهب وينكشف نقصه. وإذا اعتبرنا هذا المذهب في صورته الثانية أو اللاهوتية، رأينا من الجهة الواحدة أنه لما لم يكن لنا حدس بالكمال الإلهي فإننا لا نستطيع تعيين الكمال إلا بمعانينا نحن فنقع في دور، أو نعود إلى الصورة السابقة، ورأينا من جهة أخرى أن الإرادة الإلهية إن لم تعرف أولًا بصفات أخلاقية أمكن تصورها مصدر أوامر ونواهٍ عديمة الصلة بالخلقية أو معارضة لها، وإذا تصورناها مطابقة للخلقية فقد قدمنا الخلقية عليها ولم تعد هناك حاجة لتبرير الخلقية نفسها والبحث لها عن دعامة غريبة عنها. فمن العبث ومن الخطأ محاولة إخضاع القانون الأخلاقي لموضوع ما أو لسلطان موجود أعلى. د- ما هو إذن المبدأ الأخلاقي؟ شيء واحد يعتبره الناس خيرًا بغير تحفظ، هو الإرادة الصالحة. أما مواهب الطبيعة، كالذكاء وسرعة الحكم وأصالته والشجاعة والحزم، وأما مواهب الحظ، كالمال والجاه والسلطة؛ وأما لذات الحياة على اختلافها، فلا يراها الضمير العام خيرات بالذات. والسبب في ذلك أنها لا تعين بأنفسها طريقة استعمالها، ولكنها مجرد وسائل تستخدمها الإرادة كما تشاء، فتكون أحيانًا كثيرة مصدر إغراء سيئ وتسخر لأغراض مذمومة. أليست رباطة جأش المجرم تثقل جرمه وتزيد في مقت الناس له؟ أما الإرادة الصالحة فهي على العكس الشرط الضروري والكافي للخلقية، إذ إنها خيرة بذاتها لا بعواقبها، وتظل خيرة حين لا تستطيع تنفيذ مقاصدها، ما دامت قد عملت وسعها في هذا السبيل. هـ- وما هي الإرادة الصالحة؟ لأجل تحليلها كما تبدو في الضمير العام، يجب إرجاعها إلى معنى "الواجب" وهو معنى يمثل لنا الإرادة الصالحة مفروضة علينا، إذ إن طبيعتنا ناقصة، وبسبب هذا النقص لا تكون كل إرادة صالحة

بالضرورة، ولا تكون الإرادة الصالحة صالحة دفعة واحدة. الإرادة الصالحة إذن هي إرادة العمل بمقتضى الواجب أي: للواجب دون أي اعتبار آخر. بأي علامة تميز العمل الذي من هذا القبيل؟ إن التمييز سهل بين الأفعال الصادرة عن الواجب والأفعال المطابقة للواجب مطابقة خارجية فقط, ويفعلها الفاعل ابتغاء منفعة أو اندفاعًا مع رغبة. هذه الطائفة الثانية من الأفعال لا تمت إلى الفضيلة بسبب إذ ليس للمنفعة ولا للرغبة صفة خلقية. لكن التمييز يصبح عسيرًا حين تكون الأفعال صادرة عن الواجب وعن الرغبة معًا، فيجد المرء نفسه ميَّالا إلى ما يفرضه الواجب، مثل أن يقال: إن واجبي صيانة حياتي وتوفير السعادة لنفسي، وأنا أحرص طبعًا على الحياة وأسعى طبعًا لأكون سعيدًا. الحق أن الإرادة الصالحة لا تبدو بوضوح إلا متى كانت في صراع مع النزعات الطبيعية فاستمسكت بالواجب. وإنما يقصد الإنجيل إلى هذا المعنى حين يأمرنا بمحبة أعدائنا, فإن المحبة الحسية لا يؤمر بها، أما المحبة المعقولة الصادرة عن الإرادة فهي موضوع أمر، ويجب أن تتحقق بمعزل عن المحبة الحسية، بل بالرغم من الكراهية الحسية. وإذا كان الواجب معنًى عقليًّا صرفًا, فكيف يمكن أن يكون دافعًا نفسيًّا إلى العمل؟ يمكن ذلك بواسطة بين العقل والحس. فهناك عاطفة ليست كسائر العواطف منبعثة عن مؤثرات حسية، ولكنها متصلة اتصالًا مباشرًا بتصور الواجب، أي: إنها صادرة عنه وإنه هو موضوعها, تلك هي عاطفة الاحترام. وعلى ذلك يكون الواجب "ضرورة العمل احترامًا للواجب" فالاحترام من حيث طبيعته ومصدره ومهمته عاطفة أصيلة بالمرء، بينما سائر العواطف ترجع إلى الميل أو إلى الخوف. غير أن بينه وبين الخوف والميل بعض المماثلة؛ فالمماثلة بينه وبين الخوف تقوم في نسبته إلى قانون مفروض على حساسيتنا من حيث إنه الشعور بخضوعنا لسلطة القانون الخلقي. وتقوم المماثلة بينه وبين الميل في نسبته إلى قانون صادر عن الإرادة نفسها من حيث إنه الشعور بمشاركتنا فيما للقانون من قيمة لامتناهية فإذا كان من الوجهة الأولى يحط من قدرنا، فإنه من الوجهة الثانية يشعرنا بكرامتنا, ولا يتجه الاحترام لغير القانون. إنه لا يتجه مطلقًا إلى الأشياء، وإن بدا أحيانًا متجهًا إلى الأشخاص فلكونهم يبدون بفضيلتهم أمثلة للقانون.

وهكذا يكون الاحترام منبعثًا عن العقل وحده، عن قوة أخرى، ولا لغرض آخر غير القانون. 106 - الواجب أو الأمر المطلق: أ- إن التحليل السابق لا يكفي لإقامة فلسفة الأخلاق, يجب تكميله وتأييده بمنهج آخر هو منهج الاستنباط الفرضي المستخدم في العلوم لاستكشاف القوانين, وهو يقوم في افتراض مبدأ واستخراج نتائجه ومضاهاة هذه النتائج بالواقع، وبذا نقف على خصائص القانون الخلقي ومضمونه ومبدئه العقلي. فأما أن هناك قانونًا، فهذا ما يحتمله المبدأ القائل: إن كل شيء في الطبيعة يفعل بموجب قانون؛ وأما أن هناك قانونا عمليا إراديا، فهذا لازم مما للموجودات العاقلة، ولهم وحدهم، من عقل عملي أو إرادة أو قوة الفعل بناء على تصور قانون. ويختلف موقف الإرادة من القانون؛ فقد نفترض موجودًا تتطابق الإرادة فيه مع العقل دائمًا, فلا تشتهي إلا ما يعتبره العقل الخالص خيرًا، وتلك حال إرادة قديسة كالإرادة الإلهية. وليست هذه حال الإرادة الإنسانية، إذ إنها خاضعة لدوافع حسية معارضة للقانون؛ فبالإضافة إليها تنقلب ضرورة القانون إكراهًا ويسمى تصورها أمرًا، فإن الأمر يترجم عن علاقة بين قانون وإرادة ناقصة. وهذا الأمر مطلق لأنه يقرر أن الفعل ضروري في ذاته دون أية علاقة بشرط أو غاية، فيقيد الإرادة مباشرة ولا يعترف بإمكان مخالفته، بعكس الأمر الشرطي الذي يرتب ما يأمر به لغاية معتبرة شرطًا, فلا يفترض سوى أن من يريد الغاية يريد الوسيلة إليها، ولا يقيد الإرادة لأن الغاية التي هي شرطه متروكة للاختيار. ب- كيف نعرف الأمر المطلق؟ إن خاصية القانون هي الكلية، فالأمر المطلق لا يعرف إلا بكلية القانون الواجب على حكم الإرادة أن يطابقه، فنقول في تعريفه: "اعمل فقط حسب الحكم الذي تستطيع أن تريد في الوقت نفسه أن يصير قانونًا كليًّا". هذا التعريف صوري بحت، لا يشتمل على غايات أو دواعٍ مستمدة من التجربة، وأمثال هذه الغايات والدواعي ذاتية حتمًا وليست كلية. غير أن هذا التعريف عام بعيد عن التطبيق العملي، فيتعين علينا أن نتدرج منه إلى ما هو أخص. فإذا لاحظنا أن تصور قانون كلي يصاحبه طبيعة، من حيث

إن المعنى الصوري للفظ طبيعة يدل على أشياء خاضعة لقوانين، استطعنا أن نصوغ الأمر المطلق في صيغة جديدة هي: "اعمل كما لو كنت تريد أن تقيم الحكم الصادر عن فعلك قانونًا كليًّا للطبيعة". وما علينا إلا أن نراجع هذه الصيغة ببعض الأمثلة لنرى كيف تطبق. مثال أول: هل يجوز للذي يضيق بالحياة أن ينتحر؟ إن هذا الإنسان يصدر عن حب الذات ويرتب عليه هذا الحكم، وهو أنه يستطيع اختصار حياته إذا خشي أن تربي آلامها على لذاتها. ولكن الطبيعة التي يكون قانونها القضاء على الحياة بموجب النزعة التي وظيفتها الدفع إلى تنمية الحياة واستطالتها، تكون طبيعة مناقضة لنفسها, ولا يقوم لها كيان كطبيعة. فلا يمكن أن يصير مثل هذا التطبيق لحب الذات قانونًا كليًّا للطبيعة. مثال ثانٍ: هل يجوز اقتراض المال والوعد برده مع العلم بعدم القدرة على رده؟ كلا، إذ إن المفروض في الموعد هو الصدق، فكيف يمكن أن يصير الوعد الكاذب قانونًا كليًّا؟ هذا أيضا تناقض، ونتيجته المحتومة ألا يصدق أحد مثل هذا الوعد، فيصبح الوعد نفسه مستحيلًا، ويستحيل نوال القرض الموجو منه. مثال ثالث: هل يجوز إيثار لذات الحياة على تثقيف النفس وتنمية الشخصية؟ إن هذا الحكم يمكن أن يصير قانونا كليا من وجه؛ لأنه لا يلاشي الطبيعة، فلا ينطوي على تناقض؛ ومع ذلك لا يمكن في واقع الأمر أن يصير قانونًا كليًّا؛ لأن الإنسان بصفته موجودا عاقلا يريد بالضرورة أن تبلغ قواه تمام النماء، من حيث إنها حينئذ تسعفه في تحقيق غايات مختلفة، وإنها وهبت له لهذا الغرض. مثال رابع وأخير: هل يجوز للغني أن يقول: ماذا يعنيني من أمر الغير؟ إن هذا الحكم أيضا يمكن أن يتصور قانونًا كليًّا من وجه، لأن النوع الإنساني يمكن أن يبقى معه، ولكن الإرادة التي تأخذ به تناقض نفسها؛ لأنها بموجبه تقطع كل أمل وتفقد كل حق في الحصول على العون عند الحاجة. ففي المثالين الأولين الحكم مناقض لنفسه، فلا يمكن إطلاقًا تصوره على نحو كلي، وفي المثالين الأخيرين الإرادة هي التي تناقض نفسها في ماهيتها، فلا يمكن بهذا الاعتبار تصور حكمها على نحو كلي, وقس على ذلك سائر الأحكام. ج- هذا من جهة أن الإرادة قوة العمل بناء على تصور قانون، ولكنها أيضًا قوة العمل لغاية. ومن الغايات ما هو متروك للاختيار فلا يدخل إلا في أوامر

شرطية. أما الأمر المطلق فيجب أن يكون له غاية من نوع آخر، غاية بالذات يضعها العقل وحده فتفرض على كل موجود عاقل. هذه الغاية لا نجدها إلا في الموجود العاقل نفسه، فإن في الواقع نفس العقل، فيجب عليه ألا يدع نفسه يرجع إلى شيء خارجي، أسوة بالعقل الذي لا يرجع إلى شيء خارجي "في مذهب كنط". ولما كانت الصورة التي تبدو لنا فيها الطبيعة العاقلة هي الإنسانية، كانت الإنسانية غاية بالذات و"مادة" الإرادة الصالحة. فتخرج لنا صيغة جديدة للأمر المطلق، هي: "اعمل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك, وفي أي شخص آخر كغاية لا كوسيلة". وإذا طبقنا هذه الصيغة الجديدة على الأمثلة المذكورة آنفًا، تبين لنا أن الذي ينتحر يتصرف بالإنسانية في شخصه كما لو كانت وسيلة ليس غير لحياة هنيئة أو محتملة؛ وأن الذي يبذل وعدًا كاذبًا يتصرف بالغير كما لو لم يكن الغير غاية بالذات بل كان مجرد أداة لرغباته؛ وأن الذي يهمل تثقيف نفسه فلا يساهم في كمال الإنسانية يعتقد أنه يستطيع استخدام الإنسانية في شخصه طبقًا لذوقه الخاص؛ وأن الذي يمسك معونته عن الغير، وإن كان لا يمنع الإنسانية من أن تكون غاية بالذات، فإنه لا يريدها كذلك ولا يعمل على ذلك. د- وبالجمع بين الصيغتين المتقدمتين نحصل على صيغة ثالثة هي: "اعمل كما لو كنت مشرع القانون" ذلك بأنه إذا كان واجب الموجود العاقل أن يعمل بمقتضى القانون، وأن يعامل نفسه كغاية بالذات، فواضح أنه لا يمكن الاقتصار على اعتباره خاضعًا للقانون، وإلا كان مجرد أداة ووسيلة بالإضافة إلى قانون يفرض عليه من خارج أو من عل، وإنما يجب أن يكون أيضًا صانع القانون. وهكذا نصل إلى فكرة إرادة مشرعة كلية، وهي فكرة أساسية مستخرجة من مجرد تحليل الأمر المطلق، وكافية لتوفير منفعة "عقلية" للإرادة تحملها على الطاعة له، إذ كان من الحق أن ليس يمكن إرادة شيء دون تصور منفعة ما. فيكون موقفنا أننا -باعتبارنا موجودات عاقلة- مشرعو القانون الذي نحن خاضعون له باعتبارنا موجودات عاقلة وحاسة معًا. فالمبدأ الأساسي والمبدأ الأعلى للخليقة هو "استقلال الإرادة" لأنه مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة. ومتى كان القانون صادرًا عن العقل كان واحدًا عند جميع الموجودات العاقلة، وكانت هذه الموجودات بمثابة عالم معقول أو مملكة الغايات، أي: اتحاد منظم خاضع لقوانين مشتركة،

رئيسه الموجود العاقل البريء من الحساسية الكامل الإرادة, يقرر القوانين ولا ينفعل بقوتها إلا كراهية. وهكذا تعينت الصيغة الأصلية للأمر المطلق بثلاث صيغ أخرى تتفق معنى ولا تتمايز إلا بأن الأولى خاصة بصورة الأحكام الأخلاقية "وهي القانون الكلي للطبيعة" والثانية خاصة بالمادة "وهي الموجودات العاقلة الغايات بالذات" والثالثة تعينها تمام التعيين "وهي الاستقلال بالتشريع في مملكة الغايات". وهذه الصيغ الثلاث تتدرج بالأمر المطلق حتى تقربه إلى نفوسنا. 107 - من الواجب إلى الميتافيزيقا والدين: أ- قلنا: إن الواجب أمر مطلق صادر عن إرادة خالصة إلى إرادة منفعلة بميول حسية, فكيف يمكن أن تتطابق هذه مع تلك؟ لا بد من واسطة تصل بينهما, هذه الواسطة هي الحرية. نعم ليس الواجب ممكنًا إلا بالحرية، ووجوده يدل على وجودها، وهما معنيان متضايفان، فإنه إذا كان على الإنسان واجب، كانت له القدرة على أدائه، وكان فيه، إلى جانب العلية الظاهرية، علية معقولة مفارقة للزمان تضع القانون وتفرضه على نفسها. فالحرية خاصية الموجودات العاقلة بالإجمال، فإن هذه الموجودات لا تعمل إلا مع فكرة الحرية، وهي إذن, من الوجهة الخلقية, حرة حقا. وبعبارة أخرى: إن للقوانين الواجبة نفس القيمة بالإضافة إلى موجود حر, وبالإضافة إلى موجود لا يستطيع أن يعمل إلا مع تصور حريته، وذلك هو المعنى الذي يحق لنا به إضافة إرادة حرة لكل موجود عاقل. فالحرية والقانون يؤكدان العالم المعقول، والإنسان عضو فيه من حيث خضوعه لقوانين عقلية بحتة، وهذا ظاهر في نفس كل إنسان، حتى المجرم، فإنه يقر بسموّ الفضيلة التي يخالفها، فهو بإقراره هذا يلاحظ العالم المعقول. فالقانون علة علمنا بالحرية، والحرية علة وجود القانون. والقانون يبرهن على الحرية، والحرية تفسر القانون. وفكرة العالم المعقول واسطة التركيب بين الإرادة المنفعلة بالميول وبين الإرادة المشرعة الكلية. على أن هذا العالم المعقول ليس موضوع علم أصلًا، ولكنه "وجهة نظر" يجد العقل نفسه مضطرا للارتفاع إليها لكي يتصور نفسه موجودًا خلقيًّا. فليس للعقل أن يحاول تفسير إمكان الحرية؛ فإن مثل هذه المحاولة معارضة لطبيعة العقل من حيث إن علمنا محصور في نطاق العالم المحسوس, وإن الشعور

الباطن لا يدرك سوى ظواهر معينة بسوابقها، وهذه المحاولة معارضة لطبيعة الحرية نفسها من حيث إن تفسيرها يعني ردها إلى شروط وهي علية غير مشروطة. فيكفي أن يستطيع العقل استبعاد المذاهب التي تعتبر الإنسان شيئًا من أشياء الطبيعة فحسب، وأن يفهم وجوب استعصاء هذه المسألة عليه لما يعلم من قصوره. ب- بعد مسألة: ماذا يجب أن أعمل؟ تأتي مسألة: ما مصيري؟ ولكي نحل هذه المسألة ما علينا إلا أن نمضي مع العقل إلى هدفه الأسمى، وهو المطلق. لكن لا العقل النظري الذي موضوعه العلم، ولا العقل العملي الذي موضوعه الخير الخلقي، بل العقل بالذات الذي يظهر في العقلين ويجمع بينهما. ما حكمه في معنى الخير وهو المعنى الذي يتعين علينا أن نتصوره هنا على وجه الإطلاق؟ إذا اتخذنا هذا الموقف وجدنا أن معنى الخير مشترك بين الخير الخلقي والخير الطبيعي المحسوس. وإذن فليس الخير الخلقي هو الخير الأوحد أو الكامل والتام، وإن كان هو الخير الأعلى؛ بل هناك أيضا الخير الذي هو موضوع ميولنا الحسية. فالخير المطلق مركب من هذين الخيرين، وهذا التركيب نتصوره في معنى الخير الأعظم، وهذا المعنى هو المبدأ الموحد بين ميول الطبيعة والإرادة الخالصة. هو الفضيلة من جهة، والسعادة بنسبة الفضيلة من جهة أخرى. الفضيلة هي الشرط من حيث إنها خير بذاتها, بينما السعادة متوقفة عليها فهي خير من وجه فقط، ولا يبررها إلا السيرة الفاضلة, وبكلمة واحدة الفضيلة تجعلنا أهلًا لأن نكون سعداء. ج- ما شروط تحقيق الخير الأعظم الذي يقضي به العقل؟ أو كيف نتصور اجتماع الفضيلة والسعادة؟ هذه صعوبة رأى الرواقيون والأبيقوريون أن يحلوها بوضع نسبة تحليلية بين الحدين، بحيث تكون الفضيلة شرطًا للسعادة، أو تكون السعادة شرطًا للفضيلة, ولكن هذا محال. قال الرواقيون: إن الفضيلة تتضمن السعادة، وإن الإنسان الفاضل سعيد بالفضيلة تمام السعادة. والتجربة تدحض هذه القضية، وما ذلك إلا لأن الحدين متغايران تمام التغاير: السعادة معنى حسي والفضيلة معنى عقلي؛ وهما يرجعان إلى قانونين متغايرين تمام التغاير, ترجع الفضيلة إلى القانون الخلقي أي: إلى الكلي بالذات، وتتوقف السعادة على القوانين الجزئية للطبيعة، وليست تعني الطبيعة بالخلقية، وليست تراعي الصلاح والطلاح فيما تقضي به من لذات أو آلام لبني الإنسان. وقال الأبيقوريون:

إن السعادة المعينة بالعقل تتضمن الفضيلة، فما الفضيلة إلا الاسم الكلي الذي تندرج تحته الوسائل إلى السعادة. والعقل ينكر هذه القضية، إذ لا فضل ولا فضيلة في طلب السعادة، بل إن طلبها يفسد الفعل الخلقي. د- الحق أن النسبة بين الحدين تركيبية. إذا كان هناك عالم أعلى مطابق بذاته لشروط الخلقية، وأمكن التسليم بتأثير هذا العالم الأعلى في عالمنا المادي، فحينئذ يمكن قبول القضية الرواقية، ويمكن تصور الفضيلة علة للسعادة بصفة غير مباشرة بفضل ذلك التأثير، بحيث يكون العالم المعقول هنا أيضًا واسطة التركيب بين الحدين. فلكي يمكن أن يتحقق الخير الأعظم، يجب أولًا أن تكون الفضيلة الكاملة أو القداسة ممكنة. ولكن الإنسان المركب من طبيعتين متباينتين قاصر كل القصور عن البلوغ إلى القداسة، فإن معنى القداسة بالإضافة إليه قهر الحساسية قهرًا تامًّا, من حيث إنها أنانية في صميمها معارضة للخلقية بذاتها. على أن الإنسان، إذا لم يكن في طاقته أن يصير قديسًا بالإطلاق، فهو يستطيع أن يترقى إلى غير نهاية نحو القداسة بإضعاف ميوله الحسية إضعافًا مطردًا. ولكي يكون هذا الترقي اللامتناهي ممكنًا، يجب أن تدوم شخصيتنا، وذلك هو خلود النفس، أي: إمكان تحقيق شخصيتنا في سلسلة غير متناهية من الحيوات المحسوسة تقربها من القداسة إلى غير حد. هـ- ويجب ثانيًا لكي يتحقق الخير الأعظم أن يؤثر في الطبيعة فاعل تتحد فيه القداسة والسعادة اتحادًا تامًّا, هذا الفاعل هو الذي يدعى الله. ويكفي أن نعلم بالضبط النسبة بين الإنسان من جهة والطبيعة والخلقية من جهة أخرى حتى ندرك ضرورة الله. ذلك بأن السعادة حالة الشخص الذي تجري كل الأمور على ما يشتهي، فهي تتضمن توافقًا بين الطبيعة والغايات التي يسعى إليها الشخص. فإذا كان لا بد من وجود سعادة مرتبطة بالفضيلة وعلى قدرها، فلا يمكن أن تحقق هذه السعادة إلا بوجود علة للطبيعة مفارقة لها حاصلة على مبدأ هذا الجمع, أو التركيب بين الحدين والمناسبة بينهما. هذه العلة هي الخير الأعظم الأصلي الذي يجعل الخير الأعظم الإضافي ممكنًا، أي: الذي يحقق عالمًا يكون خير العوالم. "إن الحالة إلى السعادة، واستحقاق السعادة بالفضيلة, وعدم المشاركة فيها مع ذلك، هذا ما لا يتفق أصلا مع الإرادة الكاملة للموجود "الأعلى" العاقل الحاصل على

القدرة الكلية، حالما نحاول فقط أن نتصور مثل هذا الموجود". وفالحرية والخلود والله أمور يؤدي إليها العقل العملي, وإن عجز العقل النظري عن البرهنة عليها. هي "مسلمات العقل العملي" وهي عقائد، لا عقائد شخصية ذاتية، بل موضوعية كلية؛ لأن العقل نفسه هو الذي يفرضها، فهي عقائد مشروعة. وإن التسليم بها إقرار بتقدم العقل العملي على العقل النظري. غير أن هذا التقدم لا يعني العلم بوساطة العقل العملي بما لا يستطيع العقل النظري العلم به، بل يعني فقط أننا نثبت باسم العمل ما يقتضيه العمل، فنؤمن به إيمانًا خلقيًّا أو عمليًّا قائمًا على "حاجة للعقل العملي" هي من ثمة حاجة كلية. ولا بأس في ذلك، بل على العكس, إن هذا الإيمان موافق لنا كل الموافقة, فلو كان لنا بالله وبالخلود علم نظري كامل، لكان يكون من المستحيل استحالة أدبية ألا يضغط هذا العلم على إرادتنا ويجبرها، ولكانت خليقتنا آلية فكنا أشبه بالدمى يحركها الخوف أو الشهوة، في حين أن الإيمان يدع مجالًا لحرية الإرادة, وللفضل في الفضيلة. ز- ونتيجة هذه النظرية أن يحق لنا أن نتصور واجباتنا أوامر صادرة ليس فقط عن العقل بل أيضًا عن الله، فننتهي إلى الدين، لا الدين الموضوع قبل الأخلاق والمعين لها، بل على العكس الدين القائم على الأخلاق القائمة على العقل. نعم إن الأخلاق تنتهي إلى الدين ولا تقوم عليه. هي تنتهي إلى الدين لأن الإنسان، وهو حاس عاقل معًا، لا يستطيع بقوته الذاتية البقاء إلى غير حد على الإرادة الصالحة ومقاومة مطالب الحساسية، وأن يحدث بأداء الواجب ما تقتضيه هذه الحساسية بحق من سعادة. والأخلاق لا تقوم على الدين؛ لأن في طاعة القانون الخلقي أصل الحاجة التي يرضيها الدين. ولهذا العكس أثر بالغ، فإن سلمنا به لم يبق الدين عقيدة نظرية، ومثل هذه العقيدة تفترض معارف ممتنعة علينا، ولم يبق الدين عبادات نرمي بممارستها إلى إحداث القداسة فينا، والعبادات أشياء حسية. ولئن كنا سلمنا بتأثير من العالم المعقول على العالم المحسوس، فلا يسعنا التسليم بتأثير من المحسوسات على المعقولات. وإذن فالدين قائم كله على الفعل الخلقي الباطن 1.

_ 1 المرجع في هذا الفصل كتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق"، وكتاب "نقد العقل العملي". في الكتاب الأول يتبع كنط المنهج التحليلي أولًا، فيرجع من الأحكام الأخلاقية إلى =

108 - تعقيب: أ- هذا مذهب سامٍ بلا ريب، وقد طالما أثار الإعجاب. وإن القارئ لكنط في الأخلاق ليحمد له سمو روحه وشدة غيرته على الفضيلة، وهو القائل: "شيئان يملآنني إعجابًا: السماء ذات النجوم فوق رأسي، والقانون الخلقي في نفسي" ولكن المقصد شيء وتبريره شيء آخر، وقد أخفقت محاولة كنط فيما نرى لإقامة الأخلاق على أسس وطيدة، ولا بد من بيان ذلك ههنا بكلمات موجزات ليتم إلمامنا بحقيقة المذهب, فنقول: أولًا: إنه لا يمكن أن يكون الواجب صورة بحتة. أجل، إن مطابقة الفعل للواجب قد تكون خارجية فقط ويكون القصد اللذة أو المنفعة، وإن هذا يبين الفرق بين الصورة والمادة في الأخلاق، وبين الفضيلة والرذيلة. ولكن هذا يبين أيضًا أن الواجب هو عمل موضوع ما لذات الموضوع، أي: لحكم العقل بأنه هو الملائم اللائق. فمنشأ صلاح الإرادة هو توجيهها إلى الخير الحق، بحيث تكون الصيغة الحقة للواجب: "افعل الخير واجتنب الشر". وماذا يفيد المرء من مجرد القصد الحسن؟ إن الغرض من العمل تكميل النفس، والنفس جملة قوى تتطلب التحقق بالفعل الملائم. فهل تتكمل بالباطل وإن اعتقدته حقًّا؟ أو هل تتكمل بإرضاء شهوات الجسم بحجة أن التوجه إلى الله هو المقصود, وأن الجسم عديم القيمة، كما يزعم بعض المتصوفين أو بالأحرى المتصاوفين؟ وليست الرغبة في الموضوع الملائم مخالفة للواجب أو مغايرة له، ولكنها متضمنة فيه، من حيث إن الواجب هو فعله، وإن إدراكنا للخير الملائم لا بد أن يثير فينا ميلًا إليه. ولولا ذلك لما فعلنا شيئًا، ولما فهمنا أن موجودًا عاقلًا يفعل شيئًا، فيرتفع الواجب مادة وصورة. ب- ثانيًا: إن الواجب كما يضعه كنط هو أمر مطلق بالإضافة إلى العقل، لكن لا بالإضافة إلى الإرادة. ذلك بأن الواجب يعبر عن نسبة ضرورية بين الفعل

_ = المبدأ الذي تقوم عليه، وهو معنى الإرادة الصالحة، وهذا موضوع القسم الأول، وفي القسم الثاني يعرف الواجب، وينقد سائر المذاهب؛ ثم يتبع في القسم الثالث المنهج التركيبي, فيبدأ بما للعقل الخالص من قوة عملية يترجم عنها معنى الحرية، وينزل إلى تعيين الواجبات بالتفصيل. أما الكتاب الثاني فمنهجه تركيبي، وهو مقسم إلى تحليل وجدل على غرار "نقد العقل النظري". في التحليل يعود كنط إلى موضوع القسم الثالث من الكتاب السابق فيفصل القول فيه، وفي الجدل يبين موقف العقل العملي من الموضوعات الميتافيزيقية ووجوب التسليم بها.

والطبيعة الإنسانية العاقلة، وأن العقل يدرك هذه النسبة وضرورتها، ولكن للإنسان طبيعة حسية، والخير عنده مشترك بين الخير الحسي والخير العقلي، وقد تأبى الإرادة أن تسير سيرة عقلية وتؤثر عليها اللذة والمنفعة، فتكون صيغة القانون الخلقي في الحقيقة هكذا: "إذا أردت أن تسير بموجب العقل فافعل كذا" بأي سلطة نواجه الإرادة؟ إذا كان الإنسان هو المشرع لنفسه، فلا يمكن أن يلزم نفسه. ومن البديهي أن القانون الخلقي لا يلزم الإرادة إلا إذا كان صادرا عن سلطة عليا. وقد زعم كنط أن فلسفة الأخلاق يجب أن تقوم بذاتها، فكانت النتيجة أنه ترك الواجب أمرًا شرطيًّا غير موجب. وقد خشي أن تهدر الكرامة الإنسانية، ولكن القانون الإلهي هو في الوقت نفسه قانون الطبيعة الإنسانية يدركه العقل فيها, ويدركه أمرًا إلهيًّا حالما يعتبرها مخلوقة, وهل يمكن أن يكون المخلوق مستقلًّا كل الاستقلال، أي: غير مخلوق؟ ج- ثالثًا: إن الكلية وسيلة طيبة لتعرف الفعل السائغ من غير السائغ، ولكنها ليست صيغة صورية، ولا يلبث كنط أن يضع معادلة تامة بين الكلية والطبيعة حيث يقول: "إن تصور قانون كلي يصاحبه تصور طبيعة". ولا يخرج لفظ الطبيعة عن معنيين: أحدهما أن الطبيعة جملة الأشياء, والآخر أنها ماهية الشيء. ففي الحالة الأولى تكون الكلية مساوقة للطبيعة، وفي الحالة الثانية تكون لاحقة على الماهية. ويأخذ كنط لفظ الطبيعة بالمعنيين المذكورين, ويفرع الثاني إلى اثنين هما الطبيعة الحسية والطبيعة العقلية في الإنسان، فيجتمع له ثلاثة معانٍ مختلفة ينتقل من أحدها إلى الآخر دون تحرج ولا تنبيه، كما يتضح من تحليله للأمثلة الأربعة. ففي المثال الأولى يقول: إن الذي ينتحر يناقض طبيعته التي تدفع إلى البقاء، فيأخذ لفظ الطبيعة بمعنى الماهية. وفي المثال الثاني يقول: إن الوعد الكاذب مناقض لمفهوم الوعد، وإن النتيجة المحتومة ألا يصدق أحد وعدًا، فيعتمد على معنى الماهية أولًا, وعلى معنى الطبيعة كجملة بني الإنسان ثانيًا. وفي المثال الثالث يقول: إن الذي يتبع اللذة لا يلاشي الطبيعة فلا تشتمل سيرته على تناقض، ولكن الموجود العاقل يريد بالضرورة أن تبلغ قواه تمام النماء، فيأخذ لفظ الطبيعة بمعنى الطبيعة الحسية أولا ومعنى الطبيعة العقلية ثانيا. وفي المثال الرابع يقول: إن الغني الذي لا يعنى بالفقير لا يلاشي النوع الإنساني، ولكنه يفقد كل أمل

في عون الغير، فيعتمد على معنى الطبيعة كجملة بني الإنسان. وكان من أثر هذا التردد ذهابه إلى أن كلا من المثالين الثالث والرابع يمكن أن يصير قانونًا كليًّا من وجه، والحقيقة أن هذا غير ممكن لأن كلا الرجلين يخالف الطبيعة العقلية التي هي الملحوظة في الأخلاق، فتشتمل سيرته على تناقض. ثم إن اعتبار الماهية هو عين اعتبار الكمال الذي أبى كنط أن يجعل منه غاية. د- رابعًا: إن وجود الواجب يدل على وجود الحرية، لكن لا في مذهب كنط، إذ كيف يكون "العمل مع تصور الحرية" عملًا حرًّا والفلسفة النقدية تقرر أن أفعالنا خاضعة للآلية, وأن تصور الحرية نفسه فعل من هذه الأفعال؟ وأي معنى يبقى للواجب الذي هو أمر صادر للإرادة المنفعلة بميول حسية، ويجب العمل به بالرغم من الميول الحسية، أي: بالرغم من سلسلة العلل الآلية، وهذا مستحيل في تلك الفلسفة؟ يلجأ كنط إلى العالم المعقول ويقول: إن كل نفس تختار فيه لنفسها "خلقًا معقولًا" ينتشر في الحياة المحسوسة على نحو آلي بمر الزمان، فيبعث قصة لأفلاطون، مع فارقين في مصلحة أفلاطون؛ في أحدهما أنه يسوق الفكرة في قصة، في حين أن كنط يضعها موضع الجد، والفارق الآخر أن أفلاطون يؤمن بحقيقة العالم المعقول ويعرف للعقل القدرة على التدليل على وجوده، في حين أن كنط يتصور العالم المعقول مجرد "وجهة نظر" وينكر على العقل القدرة على البلوغ إليه. وقد نفترض وجود العالم المعقول فيستحيل علينا أن نرى فيه أي معنى للحرية والواجب طبقا لمبادئ الفلسفة النقدية, فإنه إذا كان العالم المعقول معقولا حقا، كان خاضعًا لمبدأ العلية ولم يتسع للحرية، وإذا كانت النفس فيه عقلًا خالصًا وإرادة خالصة كما يلزم من تعريفه، كانت مستقيمة بالطبع فلا ينطبق عليها الواجب، ويبقى على كنط أن يفسر لنا كيف تسيء الاختيار، ثم كيف يتفق اختيارها مع سلسلة العلل الآلية في العالم المحسوس، ثم كيف يتفق اختيار النفوس جميعًا من تلك العلل التي تخضع لها النفوس في الحياة الأرضية؟ هل يذهب كنط مع أفلاطون إلى أن النفوس تختار بين نماذج حيوات معينة تبعًا لمجرى الكواكب، أو يقول مع ليبنتز: إن الله نسق بين العالمين؟ إن حله لمسألة الحرية حل لفظي بحت، والنتيجة الثابتة من مذهبه أن يدع الإنسان حائرًا بين الواجب الذي يعلنه إليه العقل العملي، وبين الآلية الطبيعية التي يحتمها العقل النظري.

هـ- خامسًا: إن الاستدلال بفكرة الواجب على ضرورة الخلود وضرورة الله استدلال سليم، ولكن بشرط أن نعترف للعقل بقوة الإدراك الموضوعي، ولمبدأ العلية بقيمة موضوعية، وهذا الشرط غير متوفر في مذهب كنط، فلا يبقى للإيمان بالخلود وبالله أساس معقول، ويكون تقدم العقل العملي على العقل النظري افتئاتًا لا مسوغ له. ولقد باعد كنط بين الخير الخلقي والخير الحسي أو السعادة في عرفه حتى ظننا كل الظن أنهما لن يتلاقيا، وها هو ذا يجمع بينهما في فكرة "الخير الأعظم" ويقول: إن هذه الفكرة يذهب إليها العقل بالذات ويقودنا بوساطتها إلى الخلود, وإلى الله, فأين كان هذا العقل بالذات وقت الشروع في إقامة فلسفة الأخلاق؟ وفيم كانت الإشادة بالفضيلة المجردة؟ وفيم كان التنديد بالسعادة؟ كيف صار للفضيلة ثمن ومكافأة، ولم تعد غاية بذاتها لذاتها؟ وإذا كان لا بد من السعادة، أفليست السعادة المجانسة للفضيلة، كما فهمها القائلون بالكمال، أولى من الأخرى؟ وكيف نأمن ألا تفسد السعادة الإرادة الصالحة بعد أن يجعل الله العالم المادي متفقًا مع الفضيلة بحيث يكافئنا باللذة كلما فعلنا الفضيلة؟ لقد أبى كنط كل الإباء أن يسند الواجب إلى الله، فما باله يعود فيقول: إن لنا أن نتصور الواجب صادرًا عن الله؟ وماذا يصير باستقلال الإنسان وإرادته، وقد تشدد كنط في صيانتهما أيما تشدد؟ هل يعقل أن تبقى حياتنا الخلقية بمعزل عن هذا الإيمان ولا تتأثر به؟ لقد أشفق كنط على حريتنا من العلم النظري بالخلود وبالله، فكيف لا يشفق عليها من الإيمان وهو يريده قويًّا راسخًا رسوخ فكرة الواجب؟ إن حل كنط لمسألتي الخلود والله حل لفظي, فإنه يقيم هاتين الفكرتين على فكرة الواجب وهي صورة صرفة لا تمتاز بشيء عن باقي الصور العقلية التي يأبى كنط أن يعترف لها بالموضوعية، فيكون الخلود ويكون الله مجرد صورتين. فكنا إذن متسامحين لما سمينا الحرية والخلود والله "مسلمات العقل العملي". إنها في الواقع "مصادرات" لا يسمح المذهب بقبولها ويضعها الفيلسوف وضعًا. وماذا فعل في النهاية؟ محا الميتافيزيقا أول الأمر, فأخطأ فهم المعاني الأخلاقية الكبرى، وقلب الوضع الطبيعي لفلسفة الأخلاق رأسًا على عقب، ثم عاد فأثبت الميتافيزيقا ليحتفظ للأخلاق ومعانيها بقيمة ما، فدلنا على استحالة الاستغناء عن الميتافيزيقا. وبعبارة موجزة: إنه هدم بيده البناء الذي شاده، وتلك عاقبة المبطل مهما يؤت من مقدرة.

الباب الرابع: تركيب وبناء النصف الأول من القرن التاسع عشر

الباب الرابع: تركيب وبناء النصف الأول من القرن التاسع عشر مدخل ... الباب الرابع: تركيب وبناء "النصف الأول من القرن التاسع عشر" 109 - تمهيد: أ- ليس يرضي المرء حال واحد، وتاريخ الفلسفة يشهد بذلك كما يشهد به التاريخ العام والملاحظة اليومية. كان العصر الوسيط عصر إيمان ويقين، ثم نجم الشك منذ القرن الرابع عشر، وتفاقم في القرنين التاليين، حتى إذا ما جاء القرن السابع عشر شهدنا رد فعل قويًّا ومذاهب كبرى كلها مثبتة مؤكدة. ثم كان القرن الثامن عشر فإذا النقد والشك يعودان بشدة وينتشران بسرعة, فحاول كنط أن يقف تيار الشك ويكبح جماح النقد باسم العلم والأخلاق. وقد مضى على أثره القرن التاسع عشر يعمل على التركيب والبناء، مع فوارق في الدواعي وفي المذاهب سنعنى بتبيانها. ب- والقرن التاسع عشر من أبهى عصور الفلسفة، فهو زاخر بالأسماء حافل بالجهود، نجد أنفسنا مضطرين إلى تقسيم الكلام عليه إلى بابين: باب يتناول نصفه الأول، وآخر يتناول نصفه الثاني، وهما مختلفان نزعة وقوة. ونقسم الباب الأول إلى ثلاث مقالات: واحدة في الفلسفة الألمانية، وأخرى في الفلسفة الفرنسية، وثالثة في الفلسفة الإنجليزية، تبعًا لأهمية كل منها. الفلسفة الألمانية تصدر عن كنط وتتفرع فروعًا كثيرة طريفة قوية؛ والفلسفة الفرنسية تنجب مذاهب طريفة كذلك في علم النفس والاجتماع؛ والفلسفة الإنجليزية بعضها يستوحي الفلسفة الألمانية في نقد المعرفة والوجود، وبعضها يمضي مع العقلية القومية وهي تجريبية كما هو معلوم، فيعالج على مقتضاها مسائل علم النفس والأخلاق والاجتماع.

المقالة الأولى: الفلسفة في ألمانيا

المقالة الأولى: الفلسفة في ألمانيا مدخل ... المقالة الأولى: الفلسفة في ألمانيا 110 - تمهيد: أ- ألح كنط في بيان أن الفكر فاعل أصيل مركب لموضوعاته، ثم اعتقد بمادة للمعرفة آتية من خارج، فحد من سلطان الفكر وعلق فعله على شيء مغاير له، وهو القائل: إن استخدام مبدأ العلية للخروج من التصور إلى الوجود مجاوزة لقانون الفكر. فقام جيل من الفلاسفة اعتنقوا مبدأ فاعلية الفكر إطلاقًا، فاشتركوا في التصورية المطلقة وفي وحدة الوجود؛ كل منهم يضع مبدأ واحدًا مطلقًا، ويستنبط منه مبادئ فرعية، ويفسر بها جميع العالم والحياة وما تبدو فيه الحياة من تاريخ وعلم ودين وفن. وهم إذ يصحِّحون كنط في هذه النقطة، يعودون في الحقيقة إلى صميم مذهبه، ويعودون إلى النزعة الألمانية الدفينة التي صادفناها عند ديكارت وبوهمي مثلًا، وهي نزعة الحياة المتدفقة من باطن إلى ظاهر، الصادرة عن الواحد إلى الكثير. ب- كانت هذه النزعة ممثلة أيضًا في عقلية العصر وحاجاته, فقد كانت البروتستانتية أفرغت الدين من كل عقيدة معينة وردته إلى مجال العاطفة فحسب، وأطلقت للنفس العنان تذهب في الرومانتية كل مذهب معتزة بحريتها, متمردة على كل سلطان أو رقيب. وكانت الثورة الفرنسية محاولة جريئة لإعادة بناء المجتمع على مبادئ كلية ومعانٍ مجردة، وسرعان ما هاجت الأفكار والعواطف في أرجاء القارة الأوروبية. وكان الشعر الألماني في عصره الذهبي، عصر جوتي وشيلر اللذين أبدعا في الإعراب عن نوازع الحياة. فأراد الفلاسفة أن يقلدوا الفنانين فيجعلوا من العلم والشعر شيئًا واحدًا, أعني: مظهرين لقوة خالقة واحدة بعينها، فجاءت مذاهبهم رومانتية، وماهية الرومانتية، على ما عرّفها أحد أركانها نوفاليس، تعميم أو إطلاق الموقف الفردي، في حين أن الكلاسيكية تستوحي الكلي المطلق في الإنسان أي: الماهية، فتصدر عن العقل وتخاطب العقل، وتصدر الرومانتية عن الشعور الفردي وترمي إلى إثارة الشعور في أغمض صوره، ومن هنا جاء ميل

هؤلاء الفلاسفة إلى لانهائية الوجود ولانهائية التقدم في التاريخ. ولعل الرومانتية الفلسفية ترجع إلى ديكارت مذ قال: "أنا أفكر وأنا موجود" واستخدم ضمير المتكلم باطراد راويًا عن نفسه مستشهدًا بأفكاره وأحواله، فشاعت هذه الطريقة حتى انتهى الأمر إلى اعتبار المذهب الفلسفي "وجهة نظر" لا ينازع فيها الفيلسوف كما لا ينازع الفنان في وجهته، وإلى استدلال الفيلسوف على حقائق الأشياء بمنهج تفكيره الخاص وتجربته الخاصة. يضاف إلى ما تقدم الرجوع إلى دراسة سبينوزا بعد إهمالها، فبدا كتابه "الأخلاق" كأنه المثل الأعلى للفلسفة والمنهج الأكمل، سواء لأصحاب وحدة الوجود ولخصومهم. والرأي في الفلاسفة الذين نؤرخ لهم في هذه المقالة, أنهم دلوا على مقدرة عظيمة في التركيب والتنسيق، ولكنهم استمدوا مادتهم من تراث كبار الفلاسفة، وغلوا في التجريد، وأغربوا وأمعنوا في الإغراب، وأثقلوا كتبهم بأسلوب غريب معقد محشو بالاصطلاحات، فجاءت بعيدة المنال على الأكثرين، تقتضي قراءتها مرانًا خاصًّا ليس باليسير.

الفصل الأول: فختى " 1762 - 1814 "

الفصل الأول: فختي " 1762 - 1814 " 111 - حياته ومصنفاته: أ- ابن فلاح من أهل سكسونيا. كان يستمع إلى عظات الأحد فيحفظها عن ظهر قلب, فلما خبر فيه هذه المقدرة سريّ من سراة المنطقة تكفل بنفقات تعليمه. فترك الصبي رعي البقر والإوز وأخذ يقطع مراحل التعليم، حتى بلغ إلى المرحلة الجامعية وهو في الثامنة عشرة، فاجتازها بالرغم مما نزل به من ضنك شديد بوفاة كفيله. درس اللاهوت وفقه اللغة والفلسفة في إيينا وليبزج، وطوف في أرجاء ألمانيا ليوسع من ثقافته. ب- وهو في الثامنة والعشرين وقف على كتب كنط، ومن ذلك الوقت وجد وجهته العقلية. وفي السنة التالية قصد إلى كونجسبرج، وتعرف إلى الفيلسوف الكبير، وعرض عليه كتابًا عنوانه "محاولة في نقد كل وحي" ذهب فيه إلى أن الوحي غير مقبول ما لم يكن بأكمله عقليًّا معقولًا. كان الكتاب عبارة عن تطبيق مذهب كنط على الدين قبل أن يضع كنط كتابًا في هذا الموضوع، فقدره؛ بل إن الكتاب نشر غفلا من اسم المؤلف لخطأ عرض، فظنه كثيرون من قلم كنط. وبعد سنة عين أستاذًا بجامعة إيينا " 1793 ". ج- في هذه الجامعة بسط مذهبه، ثم نشره في كتاب "المبادئ الأساسية لنظرية المعرفة" " 1794 " الذي يعد أهم كتبه, والذي كان موضع عنايته المتصلة ينقحه باستمرار ليجعله أكثر كمالًا وأقرب منالًا. ثم نشر كتابًا في "القانون الطبيعي" " 1796 "، و"المدخل الأول إلى نظرية المعرفة" " 1797 " هو خير عرض لمذهبه، و"الفلسفة الخلقية" " 1798 ". وأذاع مقالًا في "مبدأ اعتقادنا بعناية إلهية" " 1798 " فاتهمه كاتب بالإلحاد؛ فكرر آراءه في رسالتين بعنف أشد, إحداهما بعنوان "نداء إلى الجمهور" والأخرى "دفاع قانوني" " 1799 " ووجه خطابًا مثيرًا إلى أحد أعضاء حكومة قيمار, فثار الأعضاء جميعًا حتى جوتي

وقرروا عزله من منصبه، فغادر المدينة. د- قضى بضع سنين في برلين يحرر عروضًا جديدة لمذهبه، ويلقي دروسًا شعبية. ونشر كتاب "مصير الإنسان" " 1800 " ثم ثلاثة كتب هي "الخاصية الجوهرية للعالم ومظاهرها في ميدان الحقيقة" و"المنهج للوصول إلى الحياة السعيدة" و"الملامح الكبرى للعصر الحاضر" " 1806 ". وفي برلين أعد كتابه "ظواهر الشعور" الذي لم ينشر إلا بعد وفاته، وهو أسهل عرض لما كونه في سنيه الأخيرة من آراء عامة في الفلسفة وعلم النفس. وبعد موقعة إيينا التي انتصر فيها نابليون على الجيوش البروسية، احتل الفرنسيون برلين، فرحل إلى كونجسبرج وعلم بجامعتها. ثم وقعت هذه المدينة في أيدي الفرنسيين، فقصد إلى كوبنهاجن, ولما عقد الصلح عاد إلى برلين. وشرعت بروسيا تنهض من كبوتها فكان هو أحد الرجال الممتازين الذين عملوا على بعث ألمانيا. ففي شتاء 1807 - 1808، والفرنسيون يحتلون برلين، ألقى خطبته المشهورة "إلى الأمة الألمانية" يقول فيها: "لقد وقفت الحرب المسلحة مؤقتًا، والمطلوب الآن الجهاد في ميدان الأخلاق والأفكار؛ يجب العمل على إيجاد جيل قوي يهدف إلى عظائم الأمور, ويضحي بنفسه في سبيلها. إن ألمانيا أنجبت لوثير وكنط وبستالوتزي، وأنتم وحدكم أيها الألمان من بين جميع الشعوب الحديثة، حاصلون على جرثومة التقدم الإنساني بأظهر ما تكون، فإذا هلكتم هلكت معكم الإنسانية جمعاء". وفي سنة 1809 أنشئت جامعة برلين، وعين أستاذًا بها، فمديراً لها. ولما نشبت حرب الاستقلال تطوعت زوجته للتمريض فأصيبت بالحمى، وانتقلت العدوى إليه فتوفي. 112 - نظرية المعرفة: أ- كان فختي قوي الإرادة مشغوفًا بالحرية, شديد الرغبة في الامتياز والتأثير في معاصريه بالقلم واللسان. فنقل هذه النزعة إلى الفلسفة لاعتقاده أن المذهب الفلسفي ليس آلة صماء يصطنع أو ينبذ كما نشاء، ولكنه عقيدة تنبعث من صميم النفس. حتى إنه ليعلن في كتاب "المدخل الأول" أن الاختيار بين التصورية والوجودية تابع لغلبة الشعور بالاستقلال والفاعلية, أو لغلبة الشعور بالتبعية والانفعالية. فجاءت فلسفته قائمة على أن الإرادة صميم الطبيعة الإنسانية، وأن الحياة الخلقية

مقدمة على العقل النظري بمعنى أدق وأعمق مما قال كنط. إن العقل النظري يتصور الوجود خاضعًا للضرورة, وفينا حرية تريد أن تعمل، وفينا ضمير يرسم لنا نظامًا مغايرًا لنظام الطبيعة، ويوجب الجهاد لتحقيق الغايات الكبرى التي ينزع إليها، ونحن نشعر بأننا جزء من هذا النظام المثالي كلما عملنا بناء على دواعٍ عقلية فحسب، وحاجتنا الضرورية إلى العمل أساس الأمر المطلق الذي قال به كنط دون أن يفسره, فكيف نوفق بين الوجود والحرية؟ نوفق بينهما بأن نقول: "إن الطبيعة التي عليَّ أن أعمل فيها ليست شيئًا غريبًا عني, منقطع الصلة بي" وإنه إذا كان باستطاعتي أن أنفذ إلى الطبيعة "فذلك لأنها مكونة بقوانين فكري، وأنها عبارة عن علاقات بيني وبين نفسي". الحرية أولا، والحرية تريد أن تترقى، فلكي تعمل تخلق الطبيعة وموضوعاتها. وهذه هي التصورية المطلقة التي ترد الأشياء تصورات، أو هذه هي الأحادية التصورية، أو مذهب ديكارت وبوهمي في لغة منطقية سوف نرى الآن شيئًا منها. وهذه التصورية المطلقة هي الموقف الوحيد الممكن إذا سلمنا بأن الفكر لا يدرك سوى تصوراته، فلا يعود لنا من سبيل إلى الأشياء أنفسها بالحدس، ولا يعود لنا من سبيل إليها بالاستدلال اعتمادًا على مبدأ العلية, وهذا المبدأ صورة من صور الفكر. فمهمة "نظرية المعرفة" بيان كيفية صدور صور الأشياء عن فاعلية الفكر، إذ لا يمكن أن يوجد في الأنا إلا ما كان أثرًا لفاعليته. ب- نحن لا نشعر بأننا نحدث اللاأنا، فلا بد أن يكون في الأنا المتناهي المدرك في التجربة مبدأ أوسع منه هو الأنا الخالص أو الأنا اللامتناهي، وهو علة عالم الموضوعات الماثلة في الأنا التجريبي، يشبه "الأنا أفكر" الذي قال به ديكارت والذي وضعه كنط وراء مبادئ الفهم. لا نشعر بفاعليته، ولا ندرك سوى آثارها أي: مختلف التصورات. فالمبدأ الأول في نظرية المعرفة هو هذه الفاعلية الروحية، ثم تتسلسل معانيها ومبادئها متولدة بعضها من بعض وفقًا لقانون التقابل والتوفيق الذي أشار إليه كنط في تقسيمه الثلاثي للمقولات بالإيجاب والسلب والحد؛ وكان كنط قد اقتصر على وضع المقولات وضعًا باعتبارها لوازم منطقية للفكر؛ أما فختي فيريد أن يستنبطها استنباطًا، فيبدأ من أبسط مبادئ المنطق العادي, وهو أن ا=ا، ويقول: إن هذا المبدأ يفترض "أنا" يعقله، وإذن فلي أن أضع

بدل ا، وهو كمية غير معينة، الأنا الذي لولاه لم يكن المبدأ ليوضع, فأحصل على "أنا=أنا". ولكن اكمية ممكنة فحسب، والأنا كمية موضوعية ضرورة، فلي أن أقول: "أنا موجود" ثم أستخرج من هذا القول أولًا مبدأً منطقيًّا هو مبدأ الذاتية, وثانيًا مبدأً ميتافيزيقيًّا هو مقولة الوجود. وهذا هو منهج الإيجاب، أي: إيجاب الأنا لنفسه. وكما قلت: إن ا=ا، أستطيع أن أقول: إن "لا اغير مساوٍ لـ ا" ثم أن أستبدل بهذه القضية قولي: "إن لاأنا عير مساوٍ لأنا" فأحصل على تقابل بين أنا ولاأنا، وأستخرج من هذا التقابل أولًا مبدأ منطقيا هو مبدأ عدم التناقض، وثانيًا مبدأ ميتافيزيقيا هو مقولة السلب. وهذا هو منهج السلب، أي: نفي الأنا بوضع اللاأنا. على أن الأنا واحد، فهو لا يطيق هذا التعارض بين أنا ولاأنا. ولكني لا أجد طريقة تحليلية للتوفيق بين الحدين، فالأمر يقتضي فعلا جديدا من الفكر، أي: تركيبا. وإنما يتسنى هذا التركيب بوساطة فكرة الانقسام؛ ذلك بأنه إذا كان كل من الحدين المتعارضين يحد الآخر، فهناك محل للاثنين، ويجيء التركيب على هذا النحو: الأنا يعارض اللاأنا المنقسم بأنا منقسم؛ ومن هنا أستخرج أولًا مبدأ منطقيًّا هو مبدأ السببية، وثانيًا مبدأ ميتافيزيقيًّا هو مقولة التعيين. وهذا هو منهج الحد، أي: وضع الأنا لنفسه باعتباره محدودًا باللاأنا، ووضع الأنا للاأنا باعتباره محدودًا بالأنا. التركيب الأول نقطة بداية الفلسفة النظرية التي تدرس الأنا باعتباره منفعلًا بموضوعات تبدو أول الأمر جواهر أو أشياء بالذات؛ والتركيب الثاني نقطة بداية الفلسفة العملية حيث يرى الأنا نفسه واضعًا حدًّا لفعل الأشياء الخارجية ومستخدمًا إياه لتحقيق ذاتيته. بيد أن التحليل يستكشف في هذين التركيبين متناقضات مماثلة للتناقض الذي خرج من الأنا، فيرفعها الفكر. ج- منهج الحد يعود بنا إلى الشعور المباشر حيث نجد الموضوعات والأنا فاعلًا ومنفعلًا بالإضافة إليها. وعندئذ نجد صورة الزمان في تعاقب ظواهر الأنا المتناهي، وهذا التعاقب ضروري لأن الأنا يريد أن ينمي حريته، فالزمان أداة الحرية. ونجد صورة المكان في وضع موضوعات اللاأنا, كل على حدة. ونجد مبدأ العلية في تفاعل الأنا واللاأنا، ثم ننقله عفوًا إلى موضوعات اللاأنا إذ نتصورها متوقفة بعضها على بعض. وإلى هنا ينتهي الاستنباط، فإن فختي لا يريد "ولا يستطيع" أن يستنبط سوى المعاني العامة, دون الجزئيات الماثلة في الشعور.

ولما كان الأنا الخالص يفعل طبقًا لقوانين، كانت صورة العالم في شعورنا موضوعية، وكانت واحدة في جميع الأناوات المحدودة. ونظننا بغير حاجة إلى التنبيه على ما في هذا الاستنباط من صناعة زائفة, وما في وقوفه عند الكليات من إقرار بالعجز ودلالة على البطلان. 113 - الأخلاق والدين: أ- قلنا: إن في الأنا حاجة أولية للعمل، هذه الحاجة, حين تتعلق ببعض الأشياء المتغيرة، تبدو ميلًا طبيعيًّا وترمي إلى اللذة, واللذة تجعلنا تابعين للأشياء. والحاجة الأولية للعمل غير متناهية في ذاتها، فهي بهذا الاعتبار تعرب عن استقلال الأنا بإزاء الأشياء جميعًا، وتفسح له مجال الاختيار، فيتحرر من كل تبعية حسية. وهكذا نحصل على القانون الخلقي، وهو أن "كل فعل جزئي يجب أن ينتظم في سلسلة تقودني إلى الحرية الروحية كاملة". وبذا يتحقق الأنا اللامتناهي في العالم المحسوس، فنشعر باحترام أنفسنا، ونشعر بغبطة مباينة بالمرة للذة الحسية التي يخلق بنا ألا نسميها لذة، والتي إذا طلبت لذاتها أشعرتنا باحتقار أنفسنا، فإن هذا الطلب وليد الكسل؛ كسل دون التفكير فيما يحقق الحرية وما لا يحققها، وكسل دون الارتفاع فوق الحاضر؛ ثم يجرّ الكسل إلى الجبن والنفاق، وتفضيل العبودية على الجهد. ب- كيف يمكن إيقاظ الميل إلى الحرية؟ قد تكون الحاجة الروحية الأولية من القوة في بعض الأفراد بحيث ترفعهم فوق المحسوسات وهم لا يفهمون ولا يفهم الغير، إذ إن هذه الحاجة لا تفسر بالأنا التجريبي الذي هو موضوع إدراك؛ فيكونون للغير مثلا ونماذج، ويؤثرون فيهم. فإذا اعتبروا هم واعتبر الغير هذه القوة والأفعال الصادرة عنها بمثابة الخوارق؛ نشأت ديانة وضعية، وكانت عاملًا على إيقاظ النشاط والاهتمام الغافلين في معظم النفوس. لذا كان من الأهمية بمكان عظيم أن يعيش الفرد بين الأفراد، فما هو إنسان إلا بوجوده بين الناس. فإذا اتبع كل يقينه، عمل الكل على تنمية الاستقلال الباطن، وعلى تحقيق العقل أو الأنا الخالص. فإذا قيس الفرد من حيث هو كذلك إلى هذه الغاية اللامتناهية، بدا وسيلة ضئيلة القيمة. فالمطلوب أن يمحو الفرد فرديته، لا بالتأمل الصوفي،

بل بالعمل جهد استطاعته على تحقيق الغاية الأزلية. ج- ماهية الدين إذن أن يؤمن الإنسان بالنظام الخلقي، ويعتبره مصدر واجباته، ويعاون على نموه. ولا بأس في أن يشخص شعوره بهذا النظام في موجود معين، إذا كان الغرض تقوية هذا الشعور في ضميره. أما إذا تصور الله سلطانًا حاكمًا بأمره، وانتظر من جوده لذات مقبلة، كان عابد صنم، وكان جديرًا بأن يدعى ملحدًا. لا يوجد الشخص بدون موضوع يحده ولو كان هو ذلك الموضوع، ولا يتصور الله موجودًا محدودًا، وما الأنا المطلق إلا معنى مجرد إلا إذا اعتبرناه بمعزل عن الأفراد الذين يحققونه. إن الله الحقيقي هو الله الإنسان؛ وإن الله هو النظام الخلقي، والحرية التي تتحقق في العالم بالتدريج. د- ولا نظننا بحاجة إلى التنبيه على ما في هذا المذهب من تناقض أساسي، فمن المعلوم أن كل ما خلا الأنا فهو من خلق الأنا الخالص، وإنما يخلق الأنا الخالص لكي يتحقق، فهو ينقسم إلى كثرة من الأناوات التجريبية، ويتحقق فيما يقوم بينها من علاقات أخلاقية؛ فما هذا الأنا الذي يضع اللاأنا ليحد به ذاته، ويفرضه على نفسه ليقاومه ويحاول التغلب عليه ويمحوه، فيحقق ماهيته التي هي الحرية؟ أوهام في أوهام وأضغاث أحلام دونها حرب دون كيشوت لطواحين الهواء. وسوف يتولى شلنج لفت نظر أستاذه إلى هذا التناقض الصارخ.

الفصل الثاني: شلنج " 1775 - 1854 "

الفصل الثاني: شلنج " 1775 - 1854 " 114 - حياته ومصنفاته: أ- في السادسة عشرة قصد إلى جامعة توبنجن فدرس فيها اللاهوت, ثم عكف على الفلسفة فقرأ كنط وفختي وسبينوزا, وانتقل إلى جامعة ليبزج فدرس فيها العلوم الطبيعية. على هذه الدراسات ستدور مرحلتان من مراحل ثلاث تمثل تطور فكره. بدأ المرحلة الأولى جدا, إذ نشر في سنتي 1794 , 1795 مقالات شرح فيها نظرية فختي في المعرفة. ولكنه ما لبث أن تبين أن هذه النظرية لا تحتمل الطبيعة إلا بمثابة حد أو وسيلة مع أن للطبيعة وجودًا أقوى، فنشر "خواطر لأجل إقامة فلسفة طبيعية" " 1797 " وهو مع ذلك يتصور فلسفته الطبيعية بمثابة ملحق لنظرية المعرفة عند فختي. ب- ثم عين أستاذًا بجامعة إيينا بفضل جوتي وشيلر وفختي " 1798 " ومكث بها أربع سنين, نشر خلالها الكتب الآتية: "في النفس العالمية" " 1798 " و"رسم أول لمذهب في فلسفة الطبيعة" و"مدخل" إلى الكتاب المذكور أو "في فكرة العلم الطبيعي النظري" " 1799 " و"مذهب التصورية الذاتية" " 1800 " و"برونو أو في المبدأ الإلهي والطبيعي للأشياء" " 1802 ". في هذه المرحلة الثانية فصل آراءه في الفلسفة الطبيعية متأثرًا بسبينوزا والأفلاطونية الجديدة وعصر النهضة، وعارض فختي وناقشه مناقشة حادَّة. ج- وتستغرق المرحلة الثالثة خمسين سنة, تنقل أثناءها بين جامعات فورزبورج " 1803 - 1806 " وأرلنجن " 1820 " وميونيخ " 1827 " وبرلين " 1841 " وهو يحاضر, ولا يكتب إلا قليلًا في الفلسفة الدينية بعد أن كان طبيعيا تصوريا، ونشر في ذلك كتاب "الفلسفة والدين" " 1804 " و"بحوث فلسفية في ماهية الحرية الإنسانية" " 1809 ". وبعد وفاته نشر له "فلسفة الميثولوجيا" و"فلسفة الوحي". فله إذن فلسفتان: إحداهما طبيعية، والثانية دينية.

115 - الفلسفة الطبيعية: أ- قال فختي بأنا خالص أو لاشعوري صنع اللاأنا. فيعترض شلنج بقوله: ليس اللاشعوري أنا أو ذاتًا، ولا لاأنا أو موضوعًا، إذ ليست توجد الذات بدون موضوع يعينها يظهرها لذاتها، وليس يوجد الموضوع بدون ذات تتصوره. وعلى ذلك لا يمكن القول بأنا مطلق، ولا بلاأنا مطلق، من حيث إن كلًّا منهما شرط الآخر. فيلزم إما أن ننكر المطلق وهذا غير مستطاع، أو أن نضعه مثالًا صرفًا وراء الأنا واللاأنا, وراء كل تقابل، فنقول: إنه ملتقى الأضداد جميعًا، وإنه منبع كل وجود. ومن ثمة لا ينبغي القول مع المذهب التصوري: إن الأنا يحدث اللاأنا، إذ ليس التفكير إحداث موجود، ولكنه إحداث صورة الموجود؛ ولا القول مع المذهب الحسي: إن اللاأنا يحدث الأنا، فما التجربة إلا بداية العلم, ثم نطبق عليها القوانين العقلية فتنطبق، مما يدل على أن للطرفين منبعًا مشتركًا. وفي الواقع: إن الأنا واللاأنا، أو الفكر والوجود، أو الروح والطبيعة، صادران كلاهما عن مبدأ أعلى ليس هو أحدهما ولا الآخر, ولكنه يصير الواحد والآخر. ب- نستطيع تعيين الطبيعة باتباع المنهج الثلاثي الذي استخدمه فختي بعد كنط وهو عبارة عن وضع قضية، ثم وضع نقيضها، ثم تركيبهما، إذ إن هذا منهج التفكير. فالطبيعة هي أولا مادة وثقل أي: جذب ودفع، وهي ثانيًا صورة أي: نور ومغناطيس وكهرباء وتركيب كيميائي، وهي ثالثًا مادة معضونة أي: مركب المادة والصورة يبدو فيه النظام من الغايات والوسائل. على أن هذه الدرجات الثلاث لا توجد منفصلة، وإنما شأنها شأن الأفعال الفكرية الأولية الثلاثة. إن الطبيعة جمعاء معضونة: المادة روح ناعس، والروح مادة تنتظم؛ الجماد نبات بالقوة، والحيوان نبات أعلى، والدماغ الإنساني خاتمة التعضون. جميع الظواهر الطبيعية مظاهر متفاوتة لقوة واحدة هي النفس العالمية، ويرجع التفاوت إلى اختلاف النسب الكمية بين المادة والروح. ج- أما قوى الروح فتبدو في المعرفة والعمل والفن. المعرفة حسية وعقلية, بالحس يبدأ روح الطبيعة يدرك غيره، فهو بالحس يحطم الحواجز التي تحصر المادة في ذاتها, وبالعقل ينظم المعرفة الحسية, وبتمييز العقل بين نفسه وبين مفعوله

يصير إرادة، ويصير الأنا النظري أنا عمليًّا. العقل يخلق معانيه ومبادئه دون أن يشعر، والإرادة تشعر بأنها علة ما تحدث، وهذا الشعور هو الشعور بالحرية. فالحياة الروحية تنبعث من تفاعل العقل والإرادة؛ العقل يثبت اللاأنا، والإرادة تتحرر منه. وفي هذا التفاعل، أو تعارض الروح والطبيعة، تقوم حياة النوع الإنساني أو التاريخ. وللتاريخ ثلاثة عصور: الأول يتميز بغلبة العنصر القدري وهذه هي القضية، أو المادة والعقل، أو العقل بغير إرادة. والعصر الثاني افتتحته روما ولم يزل، هو عبارة عن رد فعل من جانب العنصر الإرادي ضد القدر. والعصر الثالث، وهو المستقبل, سيكون مزاجًا من هذين العنصرين. وهكذا سيتحقق المطلق شيئًا فشيئًا، أي: يتحقق المثال فيصير وجودًا، دون أن يتحقق كله نهائيا من حيث إن الزمان غير متناهٍ. على أن باستطاعة الإنسان أن يرتفع إليه بالحدس الفني، فإن الشعور بالجمال في الطبيعة والفن أرفع صور الحياة الروحية. و"الفن هو الطريقة الوحيدة التي تشهد بما تعجز الفلسفة عن التعبير عنه، أي: باللاشعور في العمل وفي الصنعة، وبأن اللاشعور والشعور شيء واحد في الأصل. وهذا هو السبب في كون الفن المثل الأعلى عند الفيلسوف، فإنه يظهره على اتحاد ما يبدو منفصلًا في الفكر وفي الطبيعة". أي: إن الفن هو الطريقة الوحيدة لتصور وحدة الفكر والطبيعة، وحدة العارف والمعروف، وإن عنده تمحى متناقضات الوجود، وبنوع خاص التناقض بين النظر والعمل. فهذه الفلسفة الطبيعية التي تنتهي إلى تصوف فني هي في الواقع بعث لمذهب المادة الحية الذي بدأت به الفلسفة اليونانية, والذي اصطنعه غير واحد من الأطباء والكيميائيين في عصر النهضة الحديثة، دون أي تقدم فلسفي أو علمي. وكل ما هنالك تكديس للمعارف وبراعة في عرضها والربط بينها. 116 - الفلسفة الدينية: أ- تصدى شلنج لتصحيح فختي، فقام تلميذ له يصححه هو ويفلح في تحويله عن الجادة. نشر هذا التلميذ كتيبًا بعنوان "الفلسفة في انتقالها إلى اللافلسفة" قال فيه: إن الفلسفة عاجزة عن تفسير خروج الكثرة المتنوعة من الواحد المطلق، وإن الاعتقاد بإله خالق يحل هذا الإشكال، فالفلسفة تؤدي إلى الدين،

وهو أعلى منها. فعني شلنج بهذه المسألة، واعترف "في كتابه "الفلسفة والدين"" باستحالة استنباط الكثرة والتضاد من الوحدة المطلقة، وآمن بإله شخصي، أي: بإله هو إرادة أولًا وقبل كل شيء، إرادة محض سابقة على كل تعقل وكل إرادة شعورية، إرادة نازعة إلى الوجود الشخصي والشعور. ولا تنمو الشخصية إلا بمصارعة قوى معارضة، فيجب التسليم بتعارض أصيل في الذات الإلهية، وهو تعارض ينتهي إلى الانسجام بتطور الحياة الإلهية، دون أن يعني هذا التطور تعاقبًا في الزمان، إذ ليس في الله بداية ونهاية، بل هناك حركة دائرية سرمدية. وهذا النزوع الإلهي إلى الوجود، أو هذه "الأنانية الإلهية" علة الأشياء جميعًا. ويسهب شلنج في تفصيل هذه الفكرة العامة، ويعود إليها في كتابه "ماهية الحرية الإنسانية" وهو أكبر كتاب دوّنه في فلسفة الدين. وما هذه الفكرة العامة إلا صورة مأخوذة من الإنسان, فإن الإنسان في البداية جملة من القوى والنزعات المتعارضة. فيختار بينها، فتتعين شخصيته. وشلنج صادر فيها رأسًا عن المتصوفين المريبين، من ديكارت إلى جاكوب بوهمي، وقد عكف على قراءتهم. ولا تختلف فلسفته الدينية عن فلسفته الطبيعية إلا في تصور المطلق؛ فقد كان رآه مثالًا صرفًا وحاول أن يستخرج الأشياء منه بجدل عقلي، ثم عاد فرآه إرادة تخرج الأشياء منها بالنزوع. وقد دعا هذا الانتقال من الجدل إلى الإرادة، انتقالا من الفلسفة السلبية إلى الفلسفة الإيجابية؛ ووجد في هذه ميزة كبرى على تلك، هي أن الجدل لا يوصل إلا إلى الممكنات والقوانين الكلية، بينما الوجود العيني يقتضي قدرة وإرادة. ولكن لب فكره لم يتغير، وهذا اللب هو الأحادية أو وحدة الوجود مركبة على ضرب من الجدل هو أقرب إلى القصص الأسطوري منه إلى الاستدلال الفلسفي.

الفصل الثالث: هجل " 1770 - 1831 "

الفصل الثالث: هجل " 1770 - 1831 " 117 - حياته ومصنفاته: أ- زميل شلنج في دراسة اللاهوت بجامعة توبنجن، وأكبر منه بخمس سنين ولكنه تأخر عنه في النشر؛ لأنه أرجأ الكتابة إلى ما بعد الفراغ من تكوين مذهبه بجميع تفاصيله، مستخدمًا في ذلك ثقافة واسعة دقيقة في الفلسفة والعلوم الطبيعية والرياضيات واليونانية واللاتينية والتاريخ والفنون والاجتماع، فجاءت كتبه عرضًا منظمًا واضحًا نهائيًّا لفلسفته. عين أستاذًا بجامعة إيينا سنة 1801، فالتقى هناك بفختي وشلنج، وعمل مع شلنج زمنًا ما، ثم افترقا لتباين العقلية واختلاف الرأي. وبعد معركة إيينا رحل إلى جنوب ألمانيا، ومكث في نورمبرج ثماني سنين. ثم عين أستاذًا بجامعة هيدلبرج " 1816 " فأستاذًا بجامعة برلين " 1818 " حيث بلغ ذروة الشهرة والمجد, والتفَّ حوله التلاميذ النابهون. شغل منصبه هذا إلى وفاته، وكانت وفاته بالكوليرا. ب- كتبه الحاوية لمختلف وجهات مذهبه سبعة: أولها "فينومنولوجيا الذهن" " 1807 " أي: وصف الظواهر الذهنية وآثارها في حياة الإنسان، يصف فيه تطور الفرد وتطور النوع، أي: علم النفس وتاريخ المدنية متداخلين حتى ليصعب أحيانًا كثيرة التمييز بينهما؛ والكتاب بمثابة مدخل إلى المذهب. ثم يجيء كتاب "المنطق" في ثلاثة مجلدات " 1812 - 1816 " وهو عرض للمعاني الأساسية الميتافيزيقية والمنطقية، فهو حجر الزاوية في بناء المذهب. والكتب الباقية تعالج أقسام المذهب: "موسوعة العلوم الفلسفية" " 1817 " و"مبادئ فلسفة الفقه" " 1821 " و"دروس في فلسفة الدين" و"تاريخ الفلسفة" و"فلسفة الجمال" نشرت بعد وفاته. أما أسلوبه فغاية في التجريد والتعقيد, حافل بالمصطلحات.

118 - المنطق: أ- يأخذ هجل على فختي أن المنطق عنده هو الأنا يحدث اللاأنا لكي يتغلب عليه مجهود حر؛ فالمطلق أحد طرفي التضاد، فهو ليس مطلقًا. ويأخذ على شلنج أن المطلق عنده هو الأصل المشترك المتجانس للأنا وللاأنا تتحد فيه الأضداد جميعًا, ولكن المطلق بهذا الوصف هو أصل مجرد، هو أشبه شيء بالليل تبدو فيه جميع البقر سودًا, لا يكشف لنا عن السبب الذي من أجله يصدر عنه العالم ولا كيف يصدر. أما هجل فيتفق معهما في وحدة الوجود، ويرى أن المطلق هو الوجود الواقعي بما فيه من روح لامتناهٍ أو مثال أو عقل كلي أو مبدأ خالق منظم، وأن الطبيعة والفكر حالان له، يظهر الفكر في وقت ما من أوقات تطور الطبيعة، لا أنهما وجهان له متوازيان. ويرى أنه لأجل فهم الوجود في مبدئه وتسلسل مظاهره, يجب اتباع منهج منطقي يبين هذا التسلسل ابتداء من أصل واحد "هو القضية" ينقلب إلى نقيضه, ثم يأتلف مع هذا النقيض, ويتكرر هذا التطور الثلاثي ما شاءت مظاهر الوجود؛ أي: إنه يجب ترك العقل يجري على سليقته هذه ابتداء من أول وأبسط المعاني، وهو معنى الوجود. هذا المنهج هو المنطق أو الجدل الذي شأنه أن يتأدى من معنى إلى معنى ضرورة، بحيث يبدو الفكر وجوديًّا، ويبدو الوجود الواقعي منطقيًّا، أي: ضروريًّا ومعقولًا ضرورة. هذا دون أن يعني الجدل صدورًا حقيقيًّا يخرج به الأكثر من الأقل والمشخص من المجرد، وتوازيًا محكمًا بين مراحله ودرجات الوجود؛ لكنه تركيب عقلي تستمد معانيه ومبادئه من الوجود، ويؤدي آخر الأمر إلى ظواهر الوجود. ب- المعنى الأول معنى الوجود، وهو أكثر المعاني تجريدًا وخواءً، وأوسعها صدقًا، وأشدها واقعية، فإن جميع معانينا تعبر عن حال وجود، وما هي إلا معنى الوجود باديًا في صور مختلفة. الوجود مجرد الإيجاب, أو هو ما به كل موجود هو موجود. فليس هو في نفسه شيئًا من حيث إنه في الموجودات المتباينة المتنافرة على السواء: الدائرة وجود والمربع وجود، والأبيض والأسود، والنبات والحجر. ليس الوجود شيئًا لأنه قابل لأن يكون كل شيء, فتعقله عباة عن تعقل اللاوجود في الوقت نفسه، وهذا هو التناقض بعينه. أما الموجود حقا فهو المركب من النقيضين

الوجود واللاجود، أي: الموجود الذي لا يوجد على التمام، وهذه هي الصيرورة، فهي صميم الوجود، وهي سر التطور، إذ إن الوجود من حيث هو كذلك ثابت عقيم، واللاوجود عقيم أيضًا، على حين أن الصيرورة وجود لاوجود "ما سيصار إليه". فهي التي تحل هذا التناقض الأول. وبذلك يضع هجل التناقض مبدأ أول في العقل وفي الوجود، ويزعم أنه بذلك يخرج من الشك ولا يسقط فيه، إذ يلاحظ أن متناقضات العقل "كما صادفناها عند كنط" تبرز حتمًا وتقوم سببًا للشك في المذاهب التي تؤمن بمبدأ عدم التناقض، أي: تعتبر الأشياء ماهيات ثابتة على مثال تعريفاتها في عقلنا، بينما اعتبار الموجود صائرًا ناميًا، واعتبار التناقض ماهية تتجلى في متناقضات العقل، يجعل الوجود معقولًا؛ وما ذلك إلا لأنه ظن أن الوجود إطلاقًا هو الوجود المحسوس الصائر المتحرك، فشك في العقل الذي يعلل الحركة بالثبات، والقوة بالفعل. ومنذ الآن نستطيع أن نصف فلسفته بأنها حسية واقعية, تريد أن ترفع المحسوس إلى مقام المطلق، والواقع إلى مقام الحق. ج- الموجود يصير إذن، أي: يثبت ويتعين، وها هي ذي مقولة الكيف: والموجود المعين يعارض ما يغايره وينافيه، فيبدو هكذا مضافًا، وها هي ذي مقولة الإضافة: والموجود المعين هو المحدود المتناهي، ولكنه يصير إلى ما لانهاية ويقبل كل تعيين، فالمتناهي لامتناهٍ؛ وينحل هذا التناقض في معنى "الشيء" أي: الجزئي أو الفرد الذي هو اللامتناهي موجودًا على حال ما. وبعبارة أخرى: إن الموجود لا يوجد إلا بشروط معينة وعلى حال معينة وفي حدود معينة, فاللامتناهي إذ يتحقق يتعين ويتحدد ويتميز ويتوحد. هذا الموجود الواحد يعارضه الوجود المنتشر في الكثرة, وها هي ذي مقولة الكم: والكثرة في جملتها "واحدة" هي مركب يثبت الوحدة وينفيها في آن واحد؛ ويبدو هذا المركب بنوع خاص في الكم المتصل الذي هو واحد بالفعل, كثير بالقوة لقبوله القسمة باستمرار؛ والقسمة تولد ضده وهو الكم المنفصل أو العدد؛ والعدد في ذاته لا يقتضي حدا معينا, فهو في ذاته متناه وغير متناه؛ ولما كانت كل كمية قابلة للزيادة والنقصان، وجدنا اللامتناهي في ناحيتين متقابلتين: اللامتناهي في الكبر، واللامتناهي في الصغر. والعدد هو الكم المبدد، يقابله الشدة وهي الكم المجموع المركز، ويتفقان

في المقياس والنسبة، إذ إن كل موجود فهو نسبة معينة من العناصر المكونة له, فالنسبة هي الموجود وقد صار ماهية. د- الماهية هي الموجود منشورًا بحيث يكون له وجهات عدة يعكس بعضها بعضًا, والانعكاس هو الظاهرة, والماهية والظاهرة متلازمان؛ أو الماهية هي القوة أو الفاعل، والظاهرة فعل القوة أو وظيفتها؛ أو الظاهرة ماهية الماهية، من حيث إنه من الجوهري للماهية أن تظهر وللظاهرة أن تنم عن الماهية، كما أنه من الجوهري للمبدأ أن يخرج نتائجه. والماهية إذا اعتبرت مبدأ فاعلا صارت جوهرًا, والجوهر يقابله العرض؛ ويصير العرض جوهرًا بدوره بمعنى أن الجوهر مفتقر إليه كي يظهر, والجوهر هو خصائصه فحسب. وبذا نستبعد فكرة إله مفارق للعالم، وفكرة نفس مستقلة عن الظواهر المكونة للأنا، وفكرة مادة مستقلة عن الكم وسائر الأعراض. على أن الجوهر إذا كان مجموع أعراض، فهو ليس مجرد مجموع آلي، ولكنه مجموع حي مرتبط بأعراضه ارتباطًا جوهريًّا، أي: إنه علتها. والعلة والمعلول متلازمان، وهما يؤلفان شيئًا واحدًا. والمعلول هو العلة محققة، كما أن الأعراض هي الجوهر منشورًا. وليس في المعلول شيء إلا وهو في العلة، وليس في العلة شيء إلا ويتحقق. وكل معلول فهو بدوره علة، وكل علة فهي معلول لعلة سابقة. على أن سلسلة العلل والمعلولات ليست غير متناهية في خط مستقيم، ولكنها متناهية دائرية، مثل أن المطر علة الرطوبة والرطوبة علة المطر، وأن خلق الشعب تابع لشكل الحكومة, وشكل الحكومة تابع لخلق الشعب. فليس هناك علة مفارقة لسلسلة العلل مطلقة دونها، ولكن المطلق جملة العلل الجزئية النسبية. هـ- هذا هو القسم الأول من أقسام الفلسفة الهجلية، وهو استنباط المعاني الأولية بالإثبات والنفي والجمع بينهما. أما المعاني الأولية فمشهورة منذ زمن طويل، هي المعروفة في فلسفة أرسطو بالوجود ولواحقه وبالمقولات، وقد أفاض المدرسيون في شرحها. وأما منهج الاستنباط فقائم على غلط مؤداه أن الشيء القابل لأن يتعين بأشياء أخرى هو ملتقى هذه الأشياء ومجمعها، فهو نافٍ لنفسه متناقض في ذاته. والواقع أن لهذا الشيء مفهومًا في عقلنا لا يتضمن الأشياء التي قد يتعين بها، فلا تناقض فيه، ولا تناقض في العقل الذي يتصوره بالإضافة إلى التعيينات الممكنة، بل بالعكس يعلم العقل أن هذه التعيينات لا تجتمع فيه من جهة واحدة

فيدرك مبدأ عدم التناقض. فقول هجل: "ليس الوجود شيئًا؛ لأنه قابل لأن يكون كل شيء" يجب تصحيحه هكذا: إن الوجود قابل لأن يكون كل شيء لا معًا بل كلًّا على حدة، فالوجود شيء في كل موجود وبحسب هذا الموجود. فغير صحيح أننا نعقله وجودًا ولاوجودًا في الوقت نفسه، وإنما الصحيح أننا نعقله وجود كذا أو كذا من الماهيات، فإن ما ليس وجودًا من وجه هو وجود من وجه آخر. ويقال مثل هذا تمامًا عن العدد في قبوله التعيين بالتناهي أو اللاتناهي، وعن الكم في قبوله التعيين بالمتصل أو المنفصل، وعن سائر المعاني العامة: إن لكل منها مفهومًا، فهو ليس متناقضًا في ذاته، وهو في ذاته بريء من التعيينات جميعًا، ولكنه متى وجد كان هذا أو ذاك منها. والشيء المتغير القابل لأعراض مختلفة، هو ما هو بالفعل في كل آن, وقابل لأعراض أخرى بالقوة تحل فيه متى زالت أضدادها. فليست الصيرورة اجتماع الأضداد أو النقائض، بل الانتقال من ضد إلى ضد بحيث لا يجتمع ضدان، وهذا عين مبدأ عدم التناقض. فالمنهج الذي اصطنعه هجل عاجز عن تفسير الإيجاد بقوة باطنة كما يريد؛ لأن اللامعين لا يقتضي بذاته تعيينا دون آخر 1. 119 - الطبيعة: أ- الروح المطلق يباين نفسه فتظهر الطبيعة. فهي إذن مظهره الخارجي الذي يعارضه وينافيه, وهي تتطور وفقًا للمنهج الثلاثي: فهناك أولًا الطبيعة في ذاتها الممثلة في الميكانيكا أي: جملة القوانين الآلية التي تعبر عن مطلق الجسمية أو الوجهة الكمية في الأجسام؛ وثانيًا الطبيعة لذاتها أي: جملة القوى الفيزيقية والكيميائية التي تعبر عن الوجهة الكيفية؛ وثالثًا الطبيعة في ذاتها أي: الجسم الحي. ب-العقل الخالق، كالعقل المتصور في الإنسان، يبدأ بما هو أكثر تجردًا وأقل إدراكًا، أي: بالمكان والمادة. المكان موجود وغير موجود، والمادة شيء وليست شيئًا، مثلهما مثل الوجود الذي في رأس المنطق. هذا التناقض هو مبدأ التطور الطبيعي والقوة الدافقة، وهو ينحل في "الحركة" التي تقسم المادة إلى وحدات

_ 1 انظر في كتابنا "تاريخ الفلسفة اليونانية" رد أرسطو على بارمنيدس " 60، ب" وعلى مليسوس " 18، د" ودفاعه عن مبدأ عدم التناقض " 71، ج د هـ".

متمايزة وتكون منها السماء. إن تكوين الأجرام السماوية بمثابة الخطوة الأولى التي تخطوها الطبيعة في طريق التشخص. توزع المادة وانتظامها في السماء يمثلان مقولات الكم, والنزوع المنبث في الطبيعة يبدو في الجاذبية التي تحقق فكرة التناسب, وتجعل من العالم جسمًا حيًّا. السماء مجتمع ابتدائي يشبه من بعيد المجتمع الإنساني. ج- وتتنوع المادة تنوعًا كيفيًّا، فيظهر النور، تعارضه الحرارة، فينحل هذا التعارض في الكهرباء، فيظهر من الكهرباء الكيمياء بعناصرها المتقابلة، فتتفاعل هذه العناصر ثم تأتلف في المركبات. فعلما الطبيعة والكيمياء يدرسان الاستحالة الباطنة, والتغير الجوهري. د- ثم تظهر من القوى الفيزيقية والكيميائية الكائنات الحية التي هي مجاميع مركزة. لا بمعنى أنها وليدة المادة والآلية فحسب, ولكنها وليدة تطور المثال أو الروح بواسطة المادة. ويلقى الكائن الحي معارضة من الطبيعة الخارجية، فيثبت فرديته أو يحقق مثاله بالتمثيل المتصل والتنفس والحركة الحرة. وأدنى صورة الحياة النبات، وهو بدن ناقص، وهو عبارة عن أعضاء كل منها فرد، فهو ضرب من تبديد الحياة في هذه الحيوات الابتدائية المنفصلة المتجانسة إلى حد كبير الحاصل كل منها على قوة الحياة على حدة. ثم تتحقق الفردية في الحيوان، فإن أجزاءه أعضاء بمعنى الكلمة أي: خدام الوحدة المركزية، وهي عبارة عن أنظمة منوعة، كالنظام العصبي والدموي وما إليهما؛ وهنا أيضًا درجات؛ فإن الحيوانية تترقى بالتدريج على رسم واحد إلى أن يصل الروح الخالق إلى جسم الإنسان، فيقف عنده من حيث المادة، ويغدق عليه الكنوز الروحية. وفي كل هذا الوصف يستخدم هجل المعارف العلمية من وقت أرسطو إلى وقته, ولا يصنع أكثر من أن يرتبها الترتيب الثلاثي كما يقتضي منهجه، ويسلسل بعضها من بعض كما يقتضي مذهبه الأحادي. 120 - الإنسان والمجتمع: أ- بعد أن يعارض الروح المطلق نفسه بالطبيعة, يميل ضرورة إلى التغلب على هذا التعارض بأن يستعيد نفسه بمعرفة نفسه. وهنا أيضًا يبدو تطوره ثلاثيا: فأولا نجد الروح في ذاته أو الروح الذاتي، أعني: الفرد مقر الظواهر الشعورية

التي يدرسها علم النفس؛ وثانيًا الروح لذاته أو الروح الموضوعي، أعني المجتمع؛ وثالثًا الروح في ذاته ولذاته، أعني: الاتحاد الأعلى للروح الذاتي والروح الموضوعي، أو جملة الحياة الروحية للوجود متجلية في الفن والدين والفلسفة. ب- ماهية الإنسان روح، أي: شعور وحرية. ولكن الشعور والحرية على درجات ثلاث: ففي الدرجة السفلى الروح مقارن للجسم، ينمو وينضج ويشيخ معه، إحساساته غامضة يقابلها انفعالات غامضة، وهذه "جسمية الروح" "التي يسميها علم النفس الآن باللاشعور". ثم يظهر الشعور الواضح، فيدرك الإنسان ذاته ويدرك الأشياء, وهذان إدراكان متعارضان، يوفق بينهما "الفهم" الذي وظيفته إدراج الإحساس تحت قوانينه الأولية، وجعل مدركات الشعور موضوعية، ووضع الحقيقة، على ما بيّن كنط. وفوق جسمية الروح والشعور الواضح المعين بالفهم نجد العقل الذي يؤلف بينهما, إذ يجعل من قوانين الشعور قوانين الحياة، أعني أن النظر ينقلب عمليًّا حين يتخذ الروح ذاته موضوعًا لإرادته، كما قال كنط، فيتفق النظر والعمل. فالروح الذاتي، حين يقر بالحقيقة والقانون، يقر بسمو الروح الموضوعي، ويقدمه على نفسه. ج- للروح الموضوعي مظاهر ثلاثة تقوم بإزاء المظاهر الذاتية الثلاثة، هي: الحق والواجب والمؤسسات الاجتماعية التي هي الأسرة والمجتمع المدني والدولة. ففي حالة الطبيعة يسيطر على الفرد الأنانية الحيوانية، وفي حال الاجتماع تنتظم هذه الأنانية بالحق والقانون؛ لأن الفرد يدرك بعقله أن الآخرين نظراؤه، وأن العقل والحرية والروحية "وهي مترادفات" خيرهم المشترك، فيتخذ حرية أخيه الإنسان قانونًا لحريته هو أي: حدًّا لها، وهذا أصل التعاقد. ويبدو الحق في التملك حيث يتناول الفرد شيئا خارجيا عاطلا من الإرادة فيجعله شيئه الخاص وينفذ فيه إرادته. ولكن الحرية المضمونة بالحق بالنسبة إلى الأشياء الخارجية هي حرية ناقصة؛ إذ إنها لا تعنى بالباعث الباطن، فتدع مجالًا للصراع بين الروح الذاتي والروح الموضوعي. ويزول هذا الصراع بأن يصير احترام الحق إراديًّا، فتصير المطابقة للقانون "خلقية" تنظم الحياة الباطنة، على حين أن الحق لا ينظم سوى المنافع المادية. على أن الفرد ميال للأنانية وللشر، فهو عاجز بمفرده عن تحقيق المثل الأعلى الأخلاقي، فيجد المعونة في المجتمع الذي يحرره من نفسه, ويوفر له وسائل العمل الصالح.

د- المؤسسة الاجتماعية الأساسية هي الأسرة تنظم غريزة التناسل بالزواج, والزواج بواحدة يكفل حسن تربية البنين. وعلى الأسرة يقوم المجتمع المدني وتقوم الدولة, فلا يعتبر الزواج أمرًا عاطفيًّا فحسب، ولكنه واجب مقدس, ويجب أن يصدر عن الشعور بالواجب، أي: أن يعقد لأجل المجتمع والدولة، وحينئذ يعد عملًا خلقيًّا. لذا كان الطلاق منكرا مبدئيا، ولا ينبغي أن يسمح به إلا في حالات استثنائية يعينها القانون. والمجتمع المدني يتكون من الأسر, ولكنه ليس صنعها أو صنع الأفراد بحيث تكون الحكومة مسئولة أمامهم. إنه مرحلة في تطور الروح المطلق، فهو طبيعي لا عرفي, والغرض منه صيانة الحقوق وحماية المصالح الفردية؛ وبهذا الاعتبار يمكن أن يتكون من قوميات مختلفة، مثلما يشاهد في سويسرا. فهو ينظم غريزة الانتقام إذ يضع القصاص المدني أو القانون الجنائي؛ وينظم الأنانية في الحياة الاقتصادية. وليس القصاص المدني انتقامًا أو إصلاحًا خلقيًّا, ولكنه جزاء عدل يمكن أن يذهب إلى حد الإعدام. أما غرض الدولة فيزيد على ما تقدم تحقيق الروح المطلق، والتضحية بالمصالح الخاصة في سبيله. فهي قومية، لها لغتها ودينها وأخلاقها وأفكارها. هي إذن تامة الوحدة، لا يقف منها الفرد موقف الخصم باسم النقد الشخصي, وهي غاية، والأسرة والمجتمع المدني وسيلتان إليها، تستوعبهما في وحدة عليا هي الروح المطلق محققًا بتمامه. وجودها دليل "سير الله على الأرض" ويجب احترامها كما يحترم إله أرضي. نظامها لازم من طبيعتها التاريخية ولا يفرض عليها من خارج نظام منقطع الصلة بها ولو كان صادرًا عن العقل. ليست الجمهورية أكمل أنظمة الحكم، سواء أكانت شعبية أم أرستقراطية, الجمهورية تسرف في تقدير الفرد وتضحي بالمثل الأعلى في سبيله أو في سبيل الأسرة أو الطبقة؛ لذا اضمحلت الجمهوريات القديمة. النظام الطبيعي هو الملكية؛ لأنها تشخص الدولة والفكرة القومية في زعيم واحد هو محل سلطانها ورمز تقاليدها، هو العقل اللاشخصي وقد صار عقلًا واعيًا، هو الإرادة الكلية وقد صارت إرادة شخصية. يستنير برأي مجلس تشريعي مكون من خير ممثلي القوى القومية، وبخاصة القوى العقلية، ولكن هذا الرأي استشاري بحت، وسلطة الزعيم مطلقة، وحكمة الروح المطلق تؤيده, فتجنبه الانحراف إلى الأنانية والطغيان! هـ- كيف تكون العلاقات بين الدول؟ كان كنط قد ارتأى أن كل دولة

فهي شخصية أدبية مستقلة في الداخل خاضعة لقواعد الحق، وأن الحالة الراهنة التي تعتبر فيها الحرب الوسيلة الوحيدة لفض المنازعات وتنظيم العلاقات الدولية، هي حالة وحشية يجب العمل على الخروج منها بإيجاد "جمعية أمم" تنضم إليها كل أمة بملء حريتها، وتشترك جميعًا في تسوية الخلافات طبقًا لمبادئ العدالة الدولية. وبناء على ذلك كان كنط قد وضع في 1795 "مشروعًا لسلم دائم" حيث يعين بالعقل الصرف في عشر مواد, الشروط الضرورية لتحقيق هذه الغاية. ولكن هجل يرى أن ليس من شأن الفلسفة أن تفرض قوانينها على الوجود، وإنما شأنها أن تدرك القانون الذي يجعل الوجود معقولًا، من حيث إن كل وجود فهو معقول، وكل معقول فهو وجود. وليس يوجد في الواقع التاريخي جمعية أمم، وإنما تبدو الدولة دائما كأنها المرحلة القصوى لتطور الروح المطلق تطورًا موضوعيًّا. فيجب أن يستمد حل الإشكال من هذا التطور نفسه: إن التاريخ يظهرنا على أنه يوجد في كل عصر من عصوره دولة مهيأة لأن تتزعم سائر الدول وتفرض عليها ما بلغت إليه من تقدم في الحضارة، هذه الدولة واجبها الفتح، وانتصارها يبرر حروبها. الدولة الغالبة خير من الدولة المغلوبة بدليل غلبتها نفسها التي يجب أن تعتبر حكم الله. و"جدل التاريخ" يعرض علينا ثلاث مراحل كبرى: الأولى: استبداد الدول الآسيوية الضخمة، والثانية: سيادة أثينا القائمة على الحرية والديمقراطية، والثالثة: التي تتفق فيها هاتان النزعتان المتعارضتان هي الحضارة المسيحية التي تعد الجرمانية خير ممثل لها، وبواسطتها سيتحقق الانتصار النهائي في التاريخ! وهكذا يعارض هجل الفردية الحديثة التي ترى في الفرد موجودا قائما برأسه, وفي الدولة نتيجة تعاقد بين أنانيات مختلفة, فيرتب الفرد للأسرة والمجتمع، ويقول: إن الأسرة والمجتمع المدني والدولة شروطها إذا رُوعيت، برزت أمام الفرد واجبات ضرورية؛ وهذا صحيح كل الصحة، وهذا أساس النظام والرقي الخلقي في حين أن الفردية مصدر فوضى وانحطاط. ولكن هجل لا يرجع بنظامه إلى مبدأ أعلى يتجلى في العقل، بل يقدس الواقع فيخضع الفرد للدولة إخضاعًا تامًّا، ينكر عليه حق الانتقاد والإصلاح، ويعود من حيث لا يريد إلى أدهى ضروب الاستبداد، وهو الاستبداد الذي يزعم لنفسه حقا إلهيا.

121 - الفن والدين والفلسفة: أ- مهما تبلغ الدولة من كمال، فهي ليست الغاية القصوى التي يتجه إليها تطور الروح، وليست الحياة السياسية المظهر الأخير لنشاطه. إن ماهية الروح الحرية، وأكمل دولة فهي لا تخرج عن كونها قوة خارجية؛ لذا يصعد الروح إلى أعلى من الدولة، ويعمل على تحقيق ما يجده في نفسه من مثل أعلى للجمال والله والحقيقة، فيولد الفن والدين، ويصير الروح المطلق بالفعل إذ يتحقق على هذا النحو في نفس الإنسان. ب- بالفن أحرز الإنسان أول انتصار على المادة قبل أن ينتصر عليها انتصارًا كليًّا بالعلم. فإن الفن إنزال فكرة في مادة وتشكيلها على مثالها, ولكن مطاوعة المادة متفاوتة, وهذا أصل تعدد الفنون الجميلة فتتدرج من المادية إلى الروحية. وهي تتوزع طائفتين: طائفة الفن الموضوعي تشمل العمارة والنحت والتصوير، وطائفة الفن الذاتي تشمل الموسيقى والشعر. في العمارة نجد الفكرة وصورتها متمايزتين جد التمايز لعصيان المادة وتمردها، فإن المادة ههنا أغلظ مواد الطبيعة؛ لذا كانت العمارة فنا رمزيا بحتا يدل على الفكر ولا يعبر عنها تعبيرًا مباشرًا. إن الهرم والمعبد الهندي والمعبد اليوناني والكاتدرائية المسيحية رموز جميلة، ولكن المسافة بينها وبين ما نرمز إليه بعيدة بعد السماء عن الأرض. تشبه العمارة السماء ذات الأبعاد الهائلة والعظمة الساحقة، فإنها تترجم عن القوة الرابضة واللانهاية الدائمة، ولكنها عاجزة عن تأدية حركة الحياة. في النحت تتقارب الصورة والفكرة إلى حد ما، فإن هذا الفن ينفخ روحًا في المادة الغليظة، كالحجر والرخام والنحاس، ويبقى عاجزًا دون التعبير عن النفس ذاتها كما تبدو للناظر. التصوير يحقق هذا التقدم, فإنه يستخدم مواد أكثر لطافة، ويقتصر على رسم سطح الجسم، ويوحي بالعمق بوساطة السطح, لكنه لا يعبر إلا عن وقت من أوقات الحياة يتنبه في المادة. وهذه خاصية مشتركة بينه وبين النحت والعمارة؛ لذا كانت هذه الفنون متلازمة تأتلف على أنحاء كثيرة؛ بالموسيقى نبلغ إلى الفن الذاتي، فإنها ترجمة عن انفعالات النفس وألوانها المختلفة إلى غير نهاية. تستخدم الصوت، وهو شيء لطيف؛ ولكن الصوت فيها رمز كالبناء في العمارة، فهو مبهم غامض كالانفعالات التي يترجم عنها، ولهذا السبب تحتمل القطعة الموسيقية تأويلات عدة. في الشعر يصل الصوت إلى درجة الكمال

فإن الصوت فيه قول معقول ونطق يعرب عن كل شيء: عن الطبيعة والإنسان وأحداث التاريخ, يطاوع الفكر في جميع ثناياه فيبني وينحت ويصور ويغني ويروي؛ فهو مجمع الفنون, وهو من ثمة الفن الكامل. الملحمة تمثل الفنون الموضوعية الخلاقة، تصور مثلها الطبيعة وآياتها والتاريخ وأمجاده. ولكنها طفولة الشعر؛ هي ثرثارة طويلة كالسنين الأولى من سني الحياة، وفيرة الصور، زاخرة بالعجائب والغرائب كمخيلة الأطفال. والشعر الغنائي يقابل الموسيقى, يأوي إلى العالم غير المنظور المدعو بالنفس الإنسانية ولا يتعداه، فهو محدود ناقص. والشعر الدرامي أكمل أنواع الشعر، هو شعر الشعر، يجمع بين العالمين الظاهر والباطن، فيمثل التاريخ والطبيعة والنفس، ولا يزدهر إلا في أرقى الشعوب حضارة. ج- وللفن على العموم، ولكل فن على الخصوص، تاريخ في ثلاثة عصور: فالفن الشرقي رمزي يستخدم الأمثلة ويستلزم التأويل ويحتمل منه وجودًا عدة. لا يقوى بعد على إخضاع المادة، فيزدري الصورة الخارجية ولا يعنى بإجادتها. يحب الكبر والعظم واللانهاية، ويغلو فيها. أما الفن اليوناني فيصطنع التعبير المباشر بدل الرمز، فتجيء مصنوعاته مفسرة أنفسها بأنفسها؛ لأنه ينزل الفكرة كلها في الصورة. غير أن هذا الكمال يورثه نقصًا، فإن تمام حلول الفكرة في المادة يفنيها فيها ويضحي بها في سبيل الصورة الظاهرة والجمال المحسوس. المسيحية تتلافى هذا النقص, فإنها ترفع الفن من العالم المنظور حيث ضل وضاع، إلى العالم المعقول موطنه الحق، وتستبدل بالجمال الحسي الجمال المعنوي، وتعبد العذراء مثال الطهارة والقداسة بدل الزهرة. ولكن أنى للصورة المادية أن تطابق المثل الأعلى؛ لذا كان الفنان المسيحي عديم الرضا عن آياته الفنية مهما تبلغ من إتقان. إن العذراء التي يتخيلها، والمنازل الأبدية التي يرنو إليها، والألحان السماوية التي يرهف لها سمع نفسه، والحياة الإلهية التي يحاول الإعراب عنها, كل أولئك أرفع وأجمل من أن يوضع في المادة؛ فييأس من قدرته، ويعود إلى ازدراء الصورة والغلو في الروحانية. د- هذا الشعور بالعجز عن تصوير المثل الأعلى في المادة هو أصل الدين، وموضوع الدين المثل الأعلى أو اللامتناهي مدركًا في الباطن، وموضوع الفن التعبير

عنه في الظاهر. فالدين بما هو كذلك منحدر عن الفن، وإن يكن الفن محاولة دينية أولى, فالوثنية أداة الوصل بين الفن والدين, ولها مراحل ثلاث: المرحلة الأولى السحر الذي يقدس القوى الطبيعية العاطلة من الشعور؛ والمرحلة الثانية البوذية التي تعبد إلهًا روحيًّا ولكنها تتصوره عاطلًا من الشعور كذلك؛ والمرحلة الثالثة الزرادشتية التي تقول بإله مجرد تسميه النور يحاول إثبات ذاته بإزاء الظلمة التي هي نفي وسلب. هذه الأديان الشرقية تعتبر الله موجودًا كليًّا غير ذي شخصية فتعارضها أديان "الشخصية الروحية" وهي: الموسوية التي تمثل الإثبات، والديانة اليونانية التي تمثل النفي، والديانة الرومانية التي تمثل المركب من النفي والإثبات. الموسوية أدركت استحالة التعبير عن اللامتناهي، فحظرت تصويره بأي شكل كان ونبذت الأوثان، ولكنها لم تحظر تصوره فتصورته موجودًا شخصيًّا مفارقًا للعالم كلي القدرة. ففيها وفي سائر الديانات الشرقية اللانهاية هي الغالبة. إله الشرق شبيه بملوك الشرق: هو المتصرف الأوحد، يحيي ويميت، يرفع ويضع، يريد ويفعل، وما على الإنسان إلا التسليم. وبقدر ما كان الشرق متدينًا كان اليونان مشغوفين بالطبيعة وبالأرضيات، فتصوروا الله على مثال الإنسان، أي: إنهم في الواقع عبدوا الإنسان بعقله وجماله وقوته, ولكنهم لم يتحرروا من العقلية القديمة تمام التحرر, فقد نصبوا القدر فوق البشر، وفوق الآلهة أنفسهم؛ وهذا القدر هو اللامتناهي، يتهدد البشر في كل آن وينغّص حياتهم ويشعرهم بأنهم عدم. أما الرومان فكانوا أهل جد وصرامة، فوضعوا الأخلاق الصارمة قانونًا للحياة، وعادوا إلى روحانية الألوهية معتبرين الآلهة معينين على تحقيق أوامر الضمير الإنساني. هاتان الصورتان المتعارضتان؛ اللاشخصية والشخصية, تأتلفان في المسيحية القائمة على أن المسيح إله وإنسان معًا، فتتصور اللامتناهي ينزل من عرشه، ويدخل في منطقه المتناهي، فيحيا حياتنا ويتألم ويموت، ثم يبعث فيعود إلى مجده، ففيها إثبات ونفي وتركيب. وهي تختصر الأديان وتصفيها وتكملها، كما يختصر الشعر الفنون الجميلة؛ فهي الدين المطلق. هـ- بيد أن المسيحية نفسها ليست القمة التي ينتهي عندها تطور الروح, فإن الفن والدين يؤديان إلى الفلسفة ويأتلفان فيها. الثلاثة تقول: إن كل شيء صادر عن روح لامتناهٍ, ولكن الفن والدين وليدا العاطفة والمخيلة، أما الفلسفة

فتحقيق ما يرمزان له, هي انتصار العقل الخالص يفهم الوجود فيتحرر منه. كانت الطبيعة وقواها، والدولة ومؤسساتها، تبدو كأنها أشياء خارجية مفروضة على الإنسان؛ والآن ترى الفلسفة في أفعال الطبيعة أفعال العقل أي: أفعال الإنسان، وفي المؤسسات الاجتماعية صورة السلطة الأخلاقية التي يحملها في نفسه. فليست ترمي الفلسفة إلى محو المعاني الدينية، بل إلى إحالتها معاني عقلية. وفي الفلسفة فقط يتحقق الروح المطلق أو الله تمام التحقيق؛ لأن فيها تصل الثقافة الإنسانية إلى أقصاها. وما المذاهب الفلسفية التي يسجلها التاريخ إلا حلقات في سلسلة التقدم نحو هذا النصر النهائي، أي: إنها درجات متفاوتة لفلسفة واحدة. وجود بارمنيدس وصيرورة هرقليطس ائتلفا في مذهب أرسطو؛ والأمثلة كثيرة على مثل هذا الائتلاف. ومن جهة عامة كانت الفلسفة اليونانية عبارة عن دراسة المادة، فجاءت فلسفة العصر الوسيط عبارة عن فلسفة الروح، فألفت الفلسفة الحديثة بينهما في وحدة عليا كانت الفلسفة الهجلية آخر وأكمل صوررها "طبعًا! " حيث ينتهي الروح المطلق إلى تمام الشعور بذاته، ويجمع في تركيب أعلى وأخير بين الأضداد التي صادفها في تطوره مذ كان وجودًا ولاوجودًا في آن واحد. إن الفلسفة الأخير زمانها ثمرة جميع الفلسفات السابقة، ويجب أن تضم مبادئ هذه الفلسفات جميعًا. فهي "الكل" حيث تبقى الأجزاء متمايزة من الله باعتبارها أوقاتًا في تيار التطور، وحيث تتلاشى باعتبارها مظاهر الله كما تقتضي وحدة الوجود. وماذا نقول وسذاجة الفلاسفة لا حد لها؟ نقول مع ذلك: إن هجل قد أفلح في إقامة فلسفة فسيحة الأرجاء رفيعة العماد قائمة على فكرة رئيسية واحدة مطبقة بمنهج واحد؛ وإن تأثيره كان عميقًا في جميع النواحي: في الفلسفة الخالصة وفي الفقه والسياسة والأخلاق والدين والفن والتاريخ, غير أن منهجه صناعي وثلاثياته مفتعلة. إن نفي ما لا يعطينا معنًى جديدًا، واستنباط المعاني الأساسية ظاهري، والحقيقة: إن الفيلسوف يطالعها في الواقع، ويحاول الربط بينها بشيء كثير من التعسف. والانتقال من المنطق إلى الفلسفة الطبيعية لا يتم بموجب ضرورة جدلية، بل لأن الفيلسوف يمحو المعنى المجرد الذي بنى عليه المنطق، ويعود صراحة إلى التجربة التي استمد منها المعاني المجردة؛ لذا دعيت فلسفته الطبيعية بالجزء الخجلان في مذهبه. والانتقال من الفلسفة الطبيعية إلى الفلسفة الروحية يتم

بمحو جديد هو محو صورة الخارجية التي اتخذها الروح في الطبيعة، فيحل الشعور محل المادة ونحن نطالعه في أنفسنا. والدرجات الثلاث في الطبيعة لا يجدها الفيلسوف في الروح إلا لأنه وجدها في الواقع, فلسنا هنا بإزاء استنباط حقيقي. ويقال مثل ذلك في كل انتقال من حد إلى آخر في مختلف الثلاثيات؛ فنخرج بأن هجل قد أخفق في بيان إمكان معرفة الوجود معرفة أولية كما يحتم مذهب وحدة الوجود. وكان لا بد أن يخفق، إذ إن الطبيعة إحدى الصور الممكنة للوجود، فرفعها هو إلى مقام الصورة الضرورية، وأنى لمنهج كائنًا ما كان أن يقلب الممكن ضروريًّا؟

الفصل الرابع: شوبنهور " 1788 - 1860 "

الفصل الرابع: شوبنهور " 1788 - 1860 " 122 - حياته ومصنفاته: أ- فيلسوف التشاؤم وباعث البوذية في الفلسفة الحديثة. أقام مذهبًا على غرار المذاهب الثلاثة السابقة، إلا أنه تصور المبدأ الأول "إرادة كلية" هي قوة عمياء تكون الموجودات على التوالي. ولنا أن نقول: إن مزاجه مال به إلى هذا التصور, فقد عرفت حالات مرض عقلي عن أسرة أبيه وأسرة أمه، وورث هو السويداء والخوف والحذر، وكانت له شهوة جامحة يعجز عن ضبطها، ونزعة قوية إلى التأمل، فأحس في نفسه أن الإنسان مركب من جزأين متعارضين. وقد روي أنه وهو في السابعة عشرة، وقبل أن يتلقى أية ثقافة فلسفية، تأثر بشقاء الحياة كما تأثر بوذا حين استكشف الألم والمرض والشيخوخة والموت. ثم تلقى الفلسفة بجامعة جوتنجن " 1809 - 1811 " وبجامعة برلين " 1811 - 1813 " حيث استمع إلى فختي دون أن يتذوقه كثيرًا. ولكن أعجبه من أفلاطون وكنط قسمة الوجود إلى محسوس ومعقول، أو عالم الظواهر وعالم الشيء بالذات؛ وكانت هذه القسمة في نظره بمثابة ازدواج التأمل والشهوة أو الفكر والإرادة. وقرأ الكتب الهندية الدينية في ترجمة لاتينية، وهي تدور على مسألة الشر الطبيعي والخلقي كما هو معلوم، فنمت في عقله عناصره مذهبه. ب- بدأ بوضع أساس المذهب، أي: نظرية المعرفة، فدون رسالة الدكتوراه في "الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي" " 1813 " ثم عكف على تفصيل المذهب، فأخرج المجلد الأول من كتابه الأكبر "العالم إرادة وتصور" " 1819 " ضمنه نظرية المعرفة ونظرية العالم. وبعد خمس وعشرين سنة أخرج المجلد الثاني في الفن وفي الأخلاق، فتم به المذهب بأصوله وفروعه. ولكن الكتاب لم يصادف

نجاحًا يذكر, ولم يصب الفيلسوف أي نجاح في تعليمه بجامعة برلين " 1820 - 1831 ". فعزا إخفاقه إلى ائتمار أساتذة الفلسفة به، وغلا في هجوهم، وزعم أنه الوريث الحقيقي لكنط وأول فيلسوف كبير بعده. انقطع عن التعليم، واستمر على الكتابة، فنشر كتاب "الإرادة في الطبيعة" " 1836 " جمع فيه من العلوم الطبيعية ما ظنه شواهد على نظريته في الإرادة الكلية؛ وكتاب "المشكلتان الأساسيتان في فلسفة الأخلاق" " 1841 " فصل فيه آراءه الأخلاقية. ومنذ ذلك الحين بنوع خاص أخذت كتبه تذيع وشهرته تتسع، وهدأت نفسه، فنعم بشيخوخة هانئة، وكان يتمنى لو يعمر طويلًا بالرغم من تشاؤمه. 123 - العالم: أ- كيف ندرك العالم؟ وما قيمة هذا الإدراك؟ إن الإحساس حالة ذاتية, ولكن الفهم يضيفه فورًا، بفعل لاإرادي ولاشعوري، إلى علة خارجية نتصورها فاعلة في الزمان مستقلة عنا في المكان. فالعالم بالنسبة إلينا جملة تصوراتنا فحسب, غير أن هذه التصورات مرتبطة بموجب مبدأ السبب الكافي، ولهذا المبدأ أربع صور هي: علاقة بين مبدأ ونتيجة، وعلاقة بين علة ومعلول، وعلاقة مكان وزمان، وعلاقة بين داعٍ وفعل. الصور الثلاث الأولى تخص النظر، والرابعة تخص العمل. ولما كانت تجربتنا متوقفة على استخدام صور الفهم، كانت هذه الصور سندًا لموضوعيتها، ولم يمكن القول: إن العالم محض وهم. كذلك لمبدأ العلية الذي هو إحدى هذه الصور نتيجتان ضروريتان تؤيدان الموضوعية: إحداهما قانون القصور الذاتي, وهو يحتم أن تفسر كل ظاهرة بظاهرة سابقة، والأخرى قانون بقاء المادة وهو يقضي بأن غاية العلم ومثله الأعلى المادية المطلقة، بما في ذلك المعرفة نفسها، فنقول: إنها وظيفة الدماغ. ب- بيد أن المادة فكرة من أفكارنا, فما المادية إلا تصورنا للعالم، وما العالم إلا الوجهة الخارجية للوجود. ولو كنا ذاتًا عارفة فحسب لما عرفنا عن العالم سوى أنه تصور, ولكننا نحس في أنفسنا غرائز وميولًا, وندرك أن الإرادة جوهر الإنسان وفقًا للصورة الرابعة من صور الفهم؛ فيجب وصل التجربة الظاهرة بالتجربة الباطنة، وفهم العالم بوساطة الإنسان، وحينئذ ندرك أن الإرادة جوهر العالم أيضًا،

وأن العلية الطبيعية في مختلف درجاتها من جنس إرادتنا. فالإرادة هي الشيء بالذات يتجلى في مختلف الموجودات, ولكن هذه النتيجة أوسع من مقدماتها في المذهب؛ فإن حياة إرادتنا تتقضى في صورة الزمان، وأفعالنا الإرادية خاضعة لقانون الداعي الذي هو إحدى صور السبب الكافي، فبالإضافة إلينا الإرادة نفسها ظاهرة من ظواهر لا تدرك إدراكًا مباشرًا كما يدعي، فلا يمكن بحال أن تكون شيئًا بالذات مستقلًّا عن تصور الفهم. فنحن هنا بإزاء عيب أساسي في المذهب، هو الانتقال من التصور إلى الوجود، والمذهب يرد كل الوجود إلى تصور، مما يدل على قوة فطرة العقل التي يخالفها هؤلاء الفلاسفة بالقول, ويتبعونها بالفعل. ج- أول مظاهر الإرادة الكلية الفعل الآلي البحت, حيث العلة والمعلول من طبيعة واحدة, وحيث يمكن إدراك علاقاتهما مباشرة. ثم تتنوع القوى الطبيعية إلى حرارة ومغناطيس وكهرباء وما إلى ذلك؛ فيتعذر إدراك العلاقات بسبب تباين العلة والمعلول. ثم تظهر الإرادة الكلية واضحة في عالم الأحياء, فإن الكائن الحي يتكون من باطن، ويعمل من باطن، وهذا يعني أن الإرادة الكلية هي التي تصور أعضاءه وتلائم بينها وبين البيئة، وأنها هي التي تعمل فيه أثناء اليقظة والنوم بدون انقطاع. وعلاقة العلية ههنا أكثر خفاءً؛ فإن العلية تبدو ههنا كمؤثر أو دافع، ويبدو المعلول محتويًا على أكثر مما في العلة. وأخيرًا تصير العلة داعيًا في الأحياء الحاصلين على شعور، وهنا نعلم أن علاقة العلية إرادة. والمعرفة نفسها ما هي في الأصل إلا وسيلة للإرادة تتوخى منها صورًا للحياة أرفع وأقوى قائمة في الإفادة من بعض الأشياء, واجتناب ضرر البعض الآخر عن دراية وتوقع. والعقل أعلى تجليات الإرادة؛ فهو آلة للحياة أكثر إحكامًا وتنوعًا مما للحيوان من آلات, ذلك أن آلات الحيوان ظاهرة وغاياتها معروفة محدودة, أما العقل فباطن يخفي غاياته ويستخدم ما يشاء من آلات مصنوعة. د- هذا التنوع في الصور الطبيعية صادر عما في الإرادة الكلية من حب البقاء وميل للتحقق إلى أقصى حد. وهذا التنوع أصل تعارض الموجودات وتصارعها: يفترس البشر والعجماوات بعضهم بعضًا, ويفترسون جميعًا النبات، ويستهلك النبات الهواء والماء وغيرهما من المواد. الحياة شر، وكل ما نصادفه من

خير فهو زائف. وإذا كنا نتصور الحياة خيرًا ونحرص عليها ونسعى إلى الاستزادة منها، فهذا راجع إلى ما تبهرنا به الإرادة الكلية من خيرات مظنونة, وتثيره فينا من آمال كاذبة لتستطيع البقاء بوسائل جديدة هي بنو الإنسان، يعتقدون أنهم يختارون غاياتهم اختيارًا وهم في الحقيقة مدفوعون من حيث لا يشعرون. يصدق هذا على حفظ الفرد، وعلى حفظ النوع بالتناسل، فإن "شيطان النوع" يهيج في الفرد أقوى غريزة ويدفعه إلى إرضائها، وما هو إلا أداة الإرادة الكلية التي تتوق إلى البقاء في النوع. "وهنا يسهب شوبنهور، ويقول في المرأة كلامًا ورد مثله في جميع اللغات". هـ- الحياة شر: تشهد بذلك التجربة كما تقدم، ويشهد به النظر في ماهية الألم واللذة. والألم انفعال إيجابي، هو ترجمة عن حاجة مفيدة للحياة. واللذة إرضاء هذه الحاجة وتلطيف مؤقت، فهي انفعال سلبي، وإن بدت حالة إيجابية فتلك وسيلة من وسائل خداع الإرادة الكلية؛ لذا كانت انفعالات الألم أقوى في الغالب، نلحظها ولا نلحظ عدم الألم: لا نلحظ الصحة والشباب والسلامة والحرية حتى تفوتنا. واعتياد اللذة يفل من حدتها، وانقطاع الشيء المعتاد يخلق آلامًا جديدة. وكلما زكا العقل ودق الشعور اشتدَّ الإحساس بالألم: ألم الإنسان أكثر وأشد من ألم الحيوان؛ ويتفاوت الناس في عدد آلامهم وقوة شعورهم بها. كل هذا يدل على أن مبدأ السبب الكافي المنظم للتصور لا يصدق على الإرادة الكلية التي هي شيء بالذات. إنها لمشكلة من الوجهتين النظرية والعلمية؛ لأنها مبدأ لاعقلي، جوهر لا يفهم وينبغي ألا يفهم! 124 - الفن والأخلاق: أ- على أنه يتفق أحيانًا للمعرفة الإنسانية أن تتحرر من خدمة الإرادة الكلية, وذلك حين نستغرق في التأمل الفني فيزول الشعور بالفردية ويزول الألم؛ أو حين يتملكنا الاعتقاد بزيف الفردية فنؤثر عليها الغيرية. الفن والأخلاق إذن وسيلتان للتحرر من الشعور بالوجود وبالألم. الفنون من وحي الإرادة الكلية تحاول بها أن تتحقق أكثر فأكثر. الدرجة الدنيا فن العمارة، وهو ييسر لنا تصور الدرجات الدنيا في الطبيعة: الثقل والتماسك والمقاومة، وظهور القوة الكامنة في

المادة بالصراع بين الثقل والمقاومة. ثم تجيء الفنون الشكلية: النحت يظهر الصورة الإنسانية في حال الحركة، أي: تحقق الإرادة في الفرد وتغلبها على العقبات التي تعترضها من جانب القوى الطبيعية تجلياتها السفلى، ولكنه يقتصر على إظهار الإنسان في عمومه. أما التصوير فيمثل الأخلاق، أي: مختلف وجهات الإنسان في مختلف الظروف، فتبرز الملامح والإشارات. والنحت والتصوير يظهراننا على المعاني بوساطة علاماتها الطبيعية. أما الشعر فيوحي بالمعاني بوساطة الألفاظ؛ وكل نوع من أنواع الشعر تعبير عن وجهة من وجهات الإنسان: الشعر الغنائي يظهر الألم الإنساني الناشئ من مغالبة الإرادة للعقبات, والشعر التراجيدي يظهر الألم الإنساني الناشئ من تعارض الطباع والأخلاق. وأخيرًا الموسيقى، وهي فن يستغني عن كل صورة مكانية ويتخذ صورة الزمان، فيشبه حياتنا الباطنة في تعاقب ظواهرها، ويعبر عن الأفعال مجردًا، أي: عن السرور بالذات أو الألم بالذات، كل منهما مجرد عن دواعيه. فليست الموسيقى صورة ظاهرة، ولكنها صورة الإرادة نفسها صاعدة ونازلة في خط منحنٍ، أي: في صورها البسيطة وصورها المركبة، فتظهرنا على تاريخها المكنون ومعاركها وآلامها. ب- غير أن التحرر بالفن لا يتسنى إلا للعباقرة، ولا يتسنى لهم إلا غرارًا. فهناك وسيلة أخرى في متناول الجميع للتغلب على الأنانية التي تدفع بنا إليها الإرادة, هي أن نذكر وحدة البشر جميعًا، وأن نعتقد أنه يضطرب في كل منا موجود واحد بعينه، وأن الفردية والمباينة وهم خادع. هذا منشأ الفضيلة الحقة ومحبة الإنسانية. ولما كانت اللذة محو الألم، كان كل ما تستطيعه المحبة التلطيف من الألم؛ لذا تبدو المحبة في صورة الشفقة, فالشفقة الظاهرة الأخلاقية الأولية، وهي تدل على وحدة النوع الإنساني، ولا تفسر إلا بهذه الوحدة. أما الفضائل المتعارفة فما هي إلا صور للأنانية يتوخى منها الناس تحسين حالهم، بينما الشفقة ميل عن الذات إلى الغير. فلا يبلغ إلى الراحة التامة إلا الذين ينكرون "إرادة الحياة" إنكارًا باتًّا، ويستسلمون لبطش الإرادة الكلية. أولئك هم الزهاد والقديسون الذين يعتبرون الزهد محو الميل إلى بقاء الذات والنوع، لا الذين يعتبرون قهر الجسم وسيلة للسعادة في حياة مقبلة، إذ ما دام الوجود شرا فإن إرادة الوجود شر، والذي يجرب ألم الحياة ووهم الفردية يفقد كل داعٍ للعمل. ومتى علمت

إرادتنا ذلك من عقلنا, وجب عليها أن تنكر نفسها وتفنى في النرفانا. ج- هذه الفلسفة تعميم تجربة شخصية لجموح الأهواء وألم الحياة. وقد قال عنها شوبنهور: إنها استقرائية تحليلية "ككل علم جدير بهذا الاسم" أو إنها "ميتافيزيقا تجريبية" بعكس الميتافيزيقا القياسية التركيبية المعروفة عن أصحاب وحدة الوجود من بارمنيدس إلى سبينوزا. وكان شلنج قد وضع مثل هذه الميتافيزيقا التجريبية في مرحلته الأولى الطبيعية, وسيقوم لهما أنداد لعل آخرهم برجسون. وقد أدت بشوبنهور تجربته الباطنة إلى نصب إرادة كلية عمياء شريرة، في حين أن الشر بالذات ممتنع الوجود. ولم يفسر لنا كيف تخرج الأشياء المنظمة من الإرادة العمياء تخبط خبط عشواء، وكيف يخرج العقل من اللاعقل. ومهما يقل عن الحرب والاضطراب في الطبيعة، فإن كلا من الموجودات الطبيعية منظم في ذاته له ماهية ثابتة يعمل بحسبها, فتأتي أعماله وأحواله مطردة، ويلتئم النظام العام وهو ظاهر لا يحتاج إلى دليل. وكيف نتحرر من الإرادة الكلية؟ أليس هذا التحرر بحاجة إلى إرادة؟ فمن أين تأتي إرادة إنكار إرادة الحياة؟ وهل الشفقة هي النتيجة المنطقية لمبدأ المذهب، أو أن المنطق يؤدي إلى وجوب ترك الضعفاء إلى مصيرهم، أو التعجيل بالقضاء عليهم، ما دام الوجود شرا بالذات؟ وفي الواقع, لقد انتحر كثير من قراء شوبنهور، فكانوا أكثر إخلاصًا للمبدأ وللمنطق من الرجل الذي ما أبى على نفسه شيئًا من متاع الحياة, وكان يتمنى امتداد عمره واستطالة سلامته. وتعريفه للزهد مطابق للبوذية, مخالف للمسيحية مهما يرد أن يجمع بين هاتين الديانتين: ترمي البوذية إلى الفناء التام، وترمي المسيحية إلى كبت الغرائز الحسية لإطلاق الحرية للحياة الروحية والاستزادة منها إلى أبعد حد، وشتان بين الموقفين! ولئن كان القديس بولس قد رفع العزوبة المسيحية فوق الزواج، فهو قد فاضل بين خيرين، ولم يقل: إن الزواج شر كما توهم فيلسوفنا. وقديمًا رفع أفلاطون وأرسطو حياة الحكمة فوق الفضائل الأخلاقية. ويقول شوبنهور: إن المسيح هو المثل الأعلى للذي يفهم مذهبه حق الفهم؛ لأنه ضحى بجسمه الذي هو معلول إرادته, وقتل في نفسه إرادة الحياة, فما قوله في أن المسيح مات ليخلص البشر وأنه قام من بين الأموات؟ إن هذه الفلسفة حافلة بالاستدلالات الفطيرة والتأويلات المعتسفة.

د- وهذه الفلسفات الألمانية الضخمة مركبة على نمط واحد، ولا تفترق إلا في المبدأ الأول وتوجيه التفسير بناء على هذا المبدأ. فمسائل الفلسفة وحلولها المختلفة معروفة من تاريخها، وكل الجهد ينحصر في اختيار المبدأ والحلول، ثم النزول من أعلى مراتب الطبيعة الماثلة أمامنا إلى أدناها لتبين عوامل التركيب أو ما يبدو كذلك، ثم عرض هذه العوامل وتركيباتها كأنها مستنبطة استنباطًا، حتى ليصبح المذهب الفلسفي لونًا من ألوان الأدب، وهو كذلك بالفعل عند الكثيرين. وإذا أردنا أن ندل على ميزة لهذه الفلسفات، قلنا: إنها صدق فهم الكائن الحي بأنه وحدة متطورة بقوة باطنة هي التي سماها أرسطو بالصورة والعلية الصورية. لا أنه مركب صناعي من ذرات قائمة بأنفسها كما يريد المذهب الآلي. لذا نجد هؤلاء الفلاسفة يردون وحدة الطبيعة ووجوه الشبه بين الأحياء إلى أن هذه الأحياء تجليات أو خلائق أصل واحد بعينه، ويخالفون القائلين بتحول الأنواع بعضها إلى بعض بمر الزمان. وهاتان فكرتان سيكون لهما أثر بليغ فيما سيأتي من مذاهب روحية، وهما ظاهرتان كل الظهور في "التطور الخالق" وما رتبه عليه برجسون من أصول وفروع.

الفصل الخامس: هربارت " 1776 - 1841 "

الفصل الخامس: هربارت " 1776 - 1841 " 125 - حياته ومصنفاته: أ- هو أقدم من شوبنهور، وقد أخرناه لأنه اتخذ وجهة مغايرة لوجهة الأربعة المذكورين آنفًا، فارتأى أن الأشياء موجودة حقًّا وليست مجرد تصورات, وأن مهمة الفيلسوف قبولها كما هي ومحاولة تفسيرها، لا تركيب العالم تركيبًا مبدئيًّا يقلب الفلسفة قصة شعرية. وله محاولة في تطبيق الرياضيات على الظواهر النفسية حتى يجعل من علم النفس علمًا مضبوطًا كسائر العلوم الطبيعية, فكان من هذه الناحية زعيمًا لمدرسة سنصادف فيما يلي بعض أتباعها البارزين. ب- كان أستاذًا بجامعة جوتنجن " 1805 " ثم بجامعة كونجسبرج. أهم مؤلفاته: "ما بعد الطبيعة" و"علم النفس مؤسسًا للمرة الأولى على التجربة والميتافيزيقا والرياضة" و"موجز علم النفس". 126 - الميتافيزيقا: أ- الفلسفة توضيح المعاني التي يقوم عليها العلم. ولما كانت هذه المعاني لا تخلو من تناقض، كانت مهمة الفيلسوف العمل على رفعه. هذا التناقض أدركه زينون وظن أن لا مخرج منه، ورأى فيه الشكاك سببًا للعدول عن الميتافيزيقا, وقبله هجل على أنه ماهية الفكر والوجود. ولكن مبدأ عدم التناقض قانون العقل، ويجب رعايته ما دام العقل. والوقوف عند الشك عجز، وإن قليلًا من التفكير يقنعنا بفساد هذا الموقف, فإنه إذا كان وجود الأشياء موضع شك، فما من شك في أنها تبدو موجودة، وإذا لم يكن هناك شيء لم يبد شيء. على أن من الممكن الشك في كون الأشياء مطابقة لتصورنا، وهذا الشك نقطة بداية الفلسفة, وهو ينشأ من النظر في المتناقضات.

ب- المعاني المتناقضة هي بنوع خاص: معاني المادة والزمان والحركة والجوهر والعرض والعلة. فالمادة والزمان يشتركان في كونهما "وحدة متكثرة" من حيث إنهما قابلان للقسمة، وهذا أصل المتناقضات الواردة عند زينون وكنط. والحركة جمع بين الوجود واللاوجود. والجوهر عبارة عن شيء واحد بعينه هو في الوقت نفسه كثير بما يضاف إليه من أعراض أو قوى. والعلة إذا كانت خارجية كان معناها أن الشيء المتغير بها هو كما كان من قبل "ما دام هو هو" وليس كما كان من قبل "ما دام معتبرًا, قد تغير"؛ وإذا كانت داخلية كالفعل الإرادي، كان معناها أن موجودًا واحدًا بعينه فاعل ومنفعل في آن واحد، أي: إنه مزدوج وليس واحدًا. ج- لأجل رفع التناقض يجب القول بأن ما يوجد في الخارج ليس الأشياء المحدودة البادية في الحس، وهي متكثرة كما سبق القول، بل كيفيات مقابلة للكيفيات المدركة بالحواس، كل منها بسيط مطلق في نوعه، وأن الأشياء البادية في الحس تأليفات من صنعنا، ومن ثمة ذاتية نسبية. ولا تناقض في كون الكيفيات جميعًا مطلقة، من حيث إن الموجودات الجسمية هي التي تتنافى ويحد بعضها بعضًا، وموجوداتنا غير ممتدة، مثلها مثل مونادات ليبنتز، مع هذا الفارق وهو أنها ليست مركبة من أحوال وإنما هي بسيطة كل البساطة، وليست متغيرة وإنما هي ثابتة لا تتغير. وما التغير إلا تغير العلاقات المتبادلة بين الكيفيات، لا تغير الكيفيات أنفسها. وهكذا اعتقد هربارت أنه أنقذ مبدأ عدم التناقض. 127 - علم النفس: أ- الأنا أحد تلك الموجودات البسيطة, وفعله الجوهري صيانة ذاته ومدافعة الآخرين. وتعدد ظواهرنا الشعورية نتيجة هذه المدافعة، فما الظاهرة الشعورية إلا مجهود النفس في سبيل البقاء، وما الفكر إلا جملة علاقات الأنا بسائر الموجودات، والظواهر الشعورية تروح وتجيء، وتشتد وتضعف، فلها إذن وجه كم، ويمكن دراستها بتطبيق الرياضيات. لم يلج علماء النفس هذا الطريق للآن بسبب شدة تغير هذه الظواهر حتى لتبدو متأبية على القياس. ولكن حساب النهايات الصغرى يطبق العدد على عين الحركة, أو التغير دون حاجة إلى تعيين

الكميات المتغيرة. فمنذ استكشاف هذا الحساب أصبح من الممكن دراسة تغير الشعور دراسة رياضية دون حاجة إلى وحدة ثابتة تقاس بها الظواهر قياسًا مباشرًا. يكفي أن نعتبر هذه الظواهر بمثابة قوى متعارضة، فإذا تعارضت ظاهرتان بنفس القوة، وقفت كل منهما الأخرى وانتقلتا من مجال الشعور إلى مجال اللاشعور؛ وإذا ما اشتدت إحداهما عادت إلى مجال الشعور وإلى الحركة. فحساب هذا الوقف أو التعادل وهذه الحركة موضوع الدراسة الرياضية للنفس. فهربارت يتصور الظواهر الشعورية قوى متقابلة على مثال الكيفيات الخارجية، أو يتصور العالم الخارجي على مثال عالم النفس, ولكن معادلاته فقدت كل قيمة لأنه أقامها على عدد كبير من الفروض جاءت في الغالب متنافية مع الواقع. وسنرى في الباب التالي محاولات أخرى لإدخال الكم على علم النفس.

المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا

المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا مدخل ... المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا 128 - تمهيد: كان الفكر الفرنسي في القرن الثامن عشر صدى للفكر الإنجليزي، ولكنه الآن يستعيد أصالته ويستحدث مذاهب خاصة. فما إن أفاق من غمرات الثورة ورأى ما عقبها من خراب مادي واضطراب معنوي وقلق اجتماعي حتى شرع في البناء, وفي نفس كل عامل من عمال هذا المشروع الخطير يقين لا يتطرق إليه الشك بأن علة العلل الاضطراب المعنوي أو فساد العقيدة في "القيم العليا". فعملوا جميعًا، كل بطريقته الخاصة، على استرداد الإيمان بهذه القيم. فظهر مذهب نفسي روحي يهزم المادية هزيمة ماحقة، وتداولته الأجيال إلى أيامنا حتى ليعد طابع الفكر الفرنسي. وقام بعض الكاثوليك يحطمون مبادئ القرن السالف في الاجتماع، وينادون بالعودة إلى العقيدة السلفية. وقام غيرهم ينكرون هذه المبادئ من ناحيتهم، ويعلنون عداءهم للميتافيزيقا واستمساكهم بالواقع، مع إعلانهم في الوقت نفسه أن ليست "الواقعية" عندهم مرادفة للمادية ومبطلة للقيم. فالفصلان الأولان من هذه المقالة يتحدثان عن فريقين من رجال المذهب الروحي والفصل الثالث يعرض المذهب الواقعي.

الفصل الأول: المذهب الروحي

الفصل الأول: المذهب الروحي 129 - تمهيد: زعم كوندياك أن تمثالا على شكل الإنسان, حاصلًا على مجرد الحياة, عاطلًا من كل ميل أو قوة أو تعيين أيا كان، يستطيع أن يكتسب جميع الإحساسات والصور والمعاني والانفعالات اكتسابًا آليًّا بيّن هو طريقته بتحليل دقيق. وقد أخذ بهذا التحليل أصدقاء وأتباع لكوندياك ألفوا فئة متضامنة في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية تواصل إلحاد القرن الثامن عشر، وحزبًا سياسيًّا أيد بونابرت أول الأمر ثم انقلب عليه حين رآه يستبد. من بين هذه الجماعة فريق يعتمد على طريقة كوندياك ويعارض بها مبادئه ونتائجه؛ وقد تدرجت هذه المعارضة، فقال أحدهم كابانيس: إن مثل هذا التمثال لا ظل له من الحقيقة، وإن الإنسان يولد وفيه استعدادات فسيولوجية ذات أثر قوي في الحياة النفسية؛ وقال دستو دي تراسي: وفيه أيضًا قوى عقلية؛ وقال مين دي بيران، وهو أعمقهم فكرًا وأبعدهم أثرًا: وفيه نفس مستقلة بذاتها وميول أصيلة إلى الميتافيزيقا وإلى الدين، فكان مؤسس الفلسفة الروحية الفرنسية المعاصرة. هؤلاء الثلاثة أركان الفئة، وثانيهم هو الذي اقترح لفظ ldeologue أو "معنوية" للدلالة على فلسفتهم التي تطرح جانبًا النظر الميتافيزيقي وتقصر همها على دراسة "المعاني" "بالمعنى العام أي: الظواهر النفسية" لتبين خصائصها وقوانينها وعلاقتها بالإشارات المعبرة عنها، محاولة بنوع خاص استكشاف أصلها. فدعوا ldeolagues أي: أصحاب المعاني. ولكن هذا الاسم انصرف أيضًا إلى معنى ينطوي على السخرية والتحقير فدل على التحليل الأجوف والمناقشة العقيمة والتفكير الخيالي أو "الميتافيزيقا المظلمة" على حد تعبير بونابرت نفسه. وقد ضممنا إليهم عالما طبيعيا شهيرا، هو لامارك، أبدى رأيًا في الكائن الحي وتطوره يتفق مع رأيهم, ويفسح له مكانًا في تاريخ الفلسفة.

130 - لامارك " 1748 - 1829 ": أ- بدأ حياته العلمية بدراسات فلكية وجيولوجية، فدون سنة 1776 رسالة "في علل أهم الوقائع الطبيعية" عارض فيها نظريات لافوازبي بغير توفق كبير؛ وفي السنة عينها بعث إلى أكاديمية العلوم برسالة "في أهم ظواهر الجو". ثم عكف على دراسة النبات، ونشر كتابًا في ثلاثة مجلدات عنوانه "النبات الفرنسي، أو وصف موجز لجميع النباتات التي تنمو بفرنسا نموا طبيعيا، مرتب تبعًا لمنهج تحليلي جديد، مع ثبت بأصرح مزاياها في الطب وفائدتها في الفنون" " 1778 ". وفي 1794 عين أستاذًا لعلم الحيوانات اللافقرية، فخطر له أن الطبيعة قد تكون بدأت بهذه الحيوانات الدنيا "حين كونت سائر الحيوان بمعونة زمن طويل وظروف مواتية" وصرح بذلك في خطبة افتتاح دروسه لسنة 1800 , فكانت هذه الفكرة مبدأ فلسفته العلمية، وقد قال: "كل علم يجب أن يكون له فلسفته. فهو لا يتقدم حقا إلا بهذه الواسطة". ونشر سنة 1809 كتابًا في "فلسفة الحيوان" يشرحها فيه. ب- على أنه لم يذهب إلى مطلق التطور في المادة إلى الخلية الحية إلى مختلف الأحياء. أجل, لقد سلم بالتولد الذاتي, لكن لا بمعنى أن المادة تتجه بذاتها إلى الحياة، بل بمعنى أن غازات لطيفة كالحرارة والكهرباء قد تنقل غير الحي إلى حي بكيفية متقطعة وفي نطاق ضيق. فالحياة في الأصل من خلق الله؛ أوجد الله أصولًا طبيعية أو نماذج ينتظم كل منها من عدد معين من الأعضاء المعينة مركبة تركيبًا معينًا. فمثلًا نموذج الحيوان الفقري يتضمن عينين موضوعتين الواحدة بإزاء الأخرى وأسنانًا وأرجلًا. بيد أن في هذا النموذج أحياء كثيرة نرى الأعضاء فيها موزعة توزيعًا آخر أو ضامرة أو معدومة بالمرة. فهذه الاختلافات الطارئة على النموذج وليدة ظروف أفسدته, أو وليدة تطور يرجع إلى أن البيئة بتربتها وغذائها ومناخها تولد في الحيوان حاجات مختلفة، فيبذل مجهودًا لإرضاء حاجاته، وينتهي مجهوده المتصل إلى تعديل الأعضاء، بل إلى نقلها من موضع إلى آخر من جسمه فإن استخدام العضو ينميه، وعدم استخدامه يهزله أو يضمره بالتدريج، والوراثة تنقل العضو على حاله من النمو أو الهزال أو الضمور. وهذا يفسر لنا

مثلًا عدم توازي عيني السمك المسطح "فقد اضطرته عاداته إلى السباحة على جانبيه المسطحين. وهو في هذا الوضع يتلقى من الضوء في أعلى أكثر مما يتلقى في أسفل، ولما كان بحاجة لإدامة الانتباه إلى ما فوقه، فقد اضطرت هذه الحاجة إحدى العينين إلى الانتقال والحلول في المكان الغريب المعروف". هذه عوامل التطور في نطاق النموذج عند لامارك, وقد فطن إلى تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي فلاحظ أن القوي من الحيوان والأقوى سلاحًا يفترس الضعيف. ولكنه لم يتوسع في هذه الفكرة، ولم يعرها مثل ما سيعيرها دروين من أهمية كبرى. 131 - كابانيس " 1757 - 1808 ": طبيب عني بدراسة "العلاقات بين الطبيعي والمعنوي في الإنسان" وهذا عنوان كتابه وموضوعه " 1802 " يأخذ فيه على كوندياك أنه لم يلتفت لغير الإحساسات الخارجية، فأغفل التأثيرات المتواردة بلا انقطاع على الدماغ من جميع الأعضاء الداخلية, والتي تشهد بأن الشخص يولد حاصلًا على رأسمال أصيل يؤثر في كل ما يرد من خارج فيلونه بلون خاص. هذا هو مزاجه الذي يميل به إلى خلق معين، أو يسبب له الاضطراب العصبي والجنون دونما تأثير خارجي. إن الأفعال الغريزية تنقض رأي كوندياك، والغريزة مركب من حركات يشبه تركيب الفعل المروي، ويخرج إلى الفعل بمناسبة إحساس باطن، فلا يمكن أن تفسر بتأثير خارجي، كما أن تأثيرًا خارجيًّا لا يفسر عمل المعدة مثلًا أو أي عضو آخر. وقد اصطنع كابانيس المنهج المادي, فردَّ كل فعل من أفعال الإنسان إلى عضو فيه، وقال فيما قال: "إن الدماغ يفرز الفكر كما تفرز الكبد الصفراء". على أنه لم يصطنع المذهب المادي فترك الباب مفتوحًا للإيمان بالعلل الأولى، وإن تكن هذه العلل في رأيه "فوق دائرة بحثنا, ومتناول عقلنا". 132 - دستو دي تراسي " 1754 - 1836 ": قلنا: إنه واضع لفظ ldealagie. وقد دون "مبادئ المعنوية" في أربعة كتب: "الأول في "المعنوية" " 1801 " والثاني في "الأجرومية العامة" " 1803 " والثالث في "المنطق" " 1805 " والرابع في "الإرادة" " 1815 ".

وهو يعارض كوندياك في تخريجه القوى النفسية بعضها من بعض، ويرى وجوب القول بقوى أولية متمايزة. يضع كوندياك الإحساس قبل الحكم ويخرج من الحكم النزوع؛ فيقول دي تراسي: ولكن الإحساسات يمكن أن تتقارن دون أن تختلط والتقارن نسبة مدركة فورًا، أي: حكم مقارن للإحساس. ثم إن الإحساس باللذة أو الألم يتضمن الشعور بنسبة بين الإحساس والقوة الحاسة، ويمكن أن يثير نزوعًا سابقًا على الحكم، وإذن فالإحساس والحكم والنزوع قوى أولية على السواء، كذلك ليست الغريزة مكتسبة، ولكنها نتيجة مباشرة لتركيب الحيوان، مثلها مثل الهضم أو أية وظيفة أخرى. وأيضًا لا يكفي اللمس المنفعل لإظهارنا على "الخارجية" ولا بد لذلك من قوة الحركة، فإن ما نحسه من مقاومة لفعلنا الإرادي يعلمنا أن ما يقاوم إرادتنا مغاير لها. وقوة الحركة هذه بمثابة حاسة سادسة تعطينا إحساسات خاصة. 133 - مين دي بيران " 1766 - 1824 ": أ- هو أحد الشباب الملتفين حول كابانيس ودستو دي تراسي، الآخذين بأقوالهما وبمبادئ كوندياك. وكان ذا مزاج قلق, وكان ميالًا للاستبطان قديرًا عليه قدرة فائقة. وجد في نفسه عواطف غامضة متناقضة مرتبطة من غير شك بحالات عضوية متأبية على إرادته، فالتفت بقوة خاصة إلى الحساسية الباطنة، وفطن إلى أن المعاني والإرادات الأخلاقية صادرة بلا ريب عن منابع مغايرة للإدراكات الحسية الظاهرية. وحدث أن أعلن المجمع العلمي سنة 1799 موضوعًا للمسابقة هو: "ما تأثير العادة على قوة التفكير؟ " فدون رسالة "في العادة" فازت بالجائزة، وأعقبها برسالة تكميلية. وقد بين أن فينا قوة فعلية إلى جانب الانفعال الذي يعول عليه كوندياك، وأن تأثير العادة يختلف في الانفعال وفي الفعل؛ فالانفعالات جميعًا تضعف بالتدريج حتى تنمحي إذا ما استطالت أو تكررت، كالإحساس المتصل برائحة بعينها فإنه ينتهي إلى العدم؛ لأن اتصاله وتكراره يضعف قدرة العضو الحاس على مزاولة الجهد أو الشعور بالمقاومة؛ في حين أن الأفعال أو الإدراكات تزداد وضوحًا بازدياد حركة العضو الحاسّ وتضاؤل الانفعال كالرؤية, فإنها تتميز إذا ما اعتدل تأثير العضو ووهج اللون، أو

ضعف الشعور بحركات عضلات العينين بتأثير العادة؛ وعلى العكس يغمض الإدراك حتى يصير انفعالًا إذا ضعفت حركة العضو الحاس أو سكنت. وإذن فالإدراك غير الانفعال, ولكن العادة تكسب الأعضاء الحاسة سهولة وسرعة وسدادًا في حركتها فتضعف الشعور بالقسط الفعلي في الإدراك حتى تزيله, وفي الذاكرة أيضًا فعل وانفعال. فثمة فرق بين عودة الصور إلى الذهن عودة تلقائية وبين استعادتها بالإرادة. والعقل من جهته لا يتكون حقا إلا بحصوله على الألفاظ وهي إشارات إرادية وحركات مقابلة للمعاني دالة عليها؛ ومن شأن العادة أن تجعل العقل يربط بين هذه الحركات وبين المعاني المقابلة لها بسرعة وسداد متزايدين. وليس صحيحًا ما قاله كوندياك من أن قوة التفكير قائمة كلها في الإشارات أو الألفاظ، إذ كيف كان يمكن خلق الإشارات بدون فعل الفكر؟ فكل تقدم فكري فهو يتوقف على الجهد الباطن الذي يوجد عادات فعلية جديدة. ب- وفي 1805 أعلن المجمع العلمي موضوعًا آخر للمسابقة هو: "كيف يمكن تحليل قوة التفكير وما هي القوى الأولية التي يجب الاعتراف بها لها؟ " وضع هذا السؤال "المعنويون" الذين كانوا يؤلفون أكاديمية العلوم. فدون مين دي بيران "رسالة في تحليل الفكر". كانوا يقصدون بالقوى الأولية مظاهر الإحساس في تحوله؛ وفهم هو أن المطلوب القيام بتحليل يكشف عن "أبسط وأوكد معرفة تصير بها جميع المعارف ممكنة" فقال: إن الظاهرة الأولية هي الجهد العضلي، به يعرف الأنا نفسه معرفة مباشرة أنه قوة تعلو على الجسم, وتحدث حركة عضلية أي: توترًا تستطيله بالإرادة. وليس يعرف الأنا نفسه إلا باعتباره علة فاعلية في مادة تقاومه. ونحن نجد في كل شعور بالأنا هذا الاتحاد الوثيق بين هذين العنصرين المتباينين: قوة لامادية ومقاومة مادية، بحيث ينعدم الشعور بانعدام المقاومة. إن التجربة الباطنة لا تظهرنا على جوهر النفس ندركه بالحدس مستقلا عن الفعل في الجسم، كما اعتقد ديكارت، ولكنها تقفنا فقط على قوة فاعلة شخصية متضامنة مع الطرف الذي تفعل فيه. أما تصور ديكارت للعلاقة بين الأنا والحس على مثال العلاقة الخارجية بين صانع ومصنوع, فإنه يؤدي, وقد أدى بالفعل, إلى إنكار فاعلية النفس في الجسم، كما رأينا عند مالبرانش وليبنتز وغيرهما. وفي معرفة الأنا لنفسه في الشعور بالجهد توجد بالتضمن المعاني الأولية: معاني الوجود

والجوهر والوحدة والذاتية؛ ومعنى القوة أو العلة مدركًا إدراكًا مباشرًا لا مستنتجًا بالاستدلال؛ ومعنى الحرية متجليًا في معارضة الإرادة للنزوع. هذه المعاني يقول عنها الفلاسفة: إنها مجردات غريزية أو مركبة، الحقيقة أنها أصيلة مستمدة من صميم الوجدان, وهي شروط الفكر وأصول العلم. ولكن هذا لا يعني من جانب مين دي بيران أنه بلغ إلى ما بعد الطبيعة، فإن منهجه نفسي، ولم يكن يقصد إلى مجاوزة علم النفس، ولما فكر في المسائل الميتافيزيقية والدينية عالجها بالمنهج النفسي، فكان مؤسس علم النفس الديني. ج- وهو لم يفكر في الدين إلا بعد تفكير في الأخلاق. كان قد أغفل ما تلقاه من الدين في حداثته، واعتقد في وقت ما أن الرواقية تتفق مع مذهبه لما تقول به من سيطرة الإرادة على نوازع الحس، ولكن التجارب علمته أنه لا يستطيع أن يجد في نفسه قوام حياته القلقة المضطربة. ومنذ ذلك الحين أخذ يطلب الله لحاجته إلى نعمة ربانية يتغلب بها على الحساسية. وقد سجل هذه التجربة في "جريدته الخاصة" ثم شرع يضع تأويلها الفلسفي في كتاب أسماه "محاولات في علم الإنسان" ولم يتمه. إنه ينتقد أدلة ديكارت على وجود الله، فيقول: إن الانتقال من النفس إلى الله بموجب مبدأ العلية يثير مسألة ممتنعة الحال هي: ما علاقة العلية بين الخالق والمخلوق؟ إذ إن هذه العلاقة تختلف بالمرة عما نعلمه من علاقات علية. ثم لا يمكن الجزم بأن فكرة الله فكرة محصلة، فقد تكون للنفس قدرة خفية على الاستكمال إلى غير نهاية، ومن ثمة على إبداع فكرة موجود كامل دون أن يوجد مثل هذا الموجود ليكون علة الفكرة التي تصوره. ثم إن الدليل الوجودي غلط من حيث إن الوجود يشاهد ولا يستنبط من فكرة، وأن لا تفاوت بين الجواهر في الوجود، ولا تفاوت فيه بين الجواهر والأعراض، ما دامت جميعًا مجرد أفكار. فلا يبقى إلا الرحوع إلى النفس، وحينئذ نرى النفس "تماس منبع كل حقيقة وكل نور، وتحس الله واللانهاية في إشراقات العبقرية الفجائية، وفي الوثبات الآتية نحو الحقائق العليا، وفي البروق اللامعة خلال السحب المخيمة على عقولنا، وفي إلهامات وعواطف مستعصية على التعبير". فيكون للإنسان حيوات ثلاث مقابلة للأنظمة الثلاثة عند بسكال: حياة حيوانية خاصيتها إحساس وتخيل، أي: مجرد انفعال؛ وحياة إنسانية هي الإدراك مع الفعل أو الجهد؛

وحياة إلهية هي انفعال وقبول من عل. بيد أن مين دي بيران يسأل نفسه: كيف الاستيثاق من أن أصل هذه التجربة إلهي؟ إذا سلمنا بأنها ليست من فعل النفس لكوننا لا نشعر بأننا نحدثها، فكيف التدليل على أنها ليست من فعل الجسم؟ ولا سيما أنه لاحظ اندفاعًا منه إلى أفكار وعواطف دينية في حالات معينة من جسمه وأوقات معينة من السنة، كما لاحظ وجه الشبه بين المؤمن المنفعل بالنعمة وبين النائم الذي يتلقى الإيحاء في النوم المغناطيسي، ولاحظ أثر هيئة الجسم في إثارة أفكار وعواطف وحركات معينة. وقد لازمه الشك في هذه المسألة طول حياته مع ميل متزايد إلى الاعتقاد بأن التجربة الدينية إلهية، وبأنه يستحيل أن ننكر على المؤمن ما يحس من اطمئنان وسعادة وبهاء. ولم يكن الدين عنده عقيدة محددة وكنيسة معينة, وإنما كان مجرد عاطفة, ولو أنه كان يدرس إنجيل يوحنا وكتاب التشبه بالمسيح وكتب الأسقف فنيلون. وهكذا سيكون الحال عند معظم الذين يلجئون إلى التجربة الدينية بهذا المعنى، وأشهرهم في أيامنا وليم جيمس وهنري برجسون، وهذه روحانية هزيلة تدعنا مترددين في التجربة الدينية أهي حقيقة أو وهم، وكل ما تصل إليه الكشف عن حاجات وأمان للإنسان تسمو به فوق الحياة الأرضية، دون أن تدله على حقيقة معينة وغاية واضحة. وقد عرف مين دي بيران هذا النقص في منهجه، فاعتنق المسيحية ومات عليها. 134 - لاروميجيير " 1756 - 1837 ": هذا المذهب الروحي أعلنه في الجامعة نفر من المفكرين اتصلوا بمين دي بيران وتأثروا به, أولهم لاروميجيير ألقى "دروسًا في الفلسفة" بكلية الآداب بباريس " 1811 " ثم نشرها في كتاب " 1815 - 1818 ". يعرف الفلسفة بأنها طريقة تحليلية ترجع المعاني إلى فعل قوانا المعروفة, فتبطل الاعتقاد بأنها نابعة من قوى عليا خفية. في هذا التعريف اصطناع لطريقة كوندياك، واحتجاج على الرومانتية الألمانية. ولكنه يعتمد، ليس فقط على الحس الذي هو قوة انفعالية، بل أيضًا على الانتباه الذي هو قوة فعلية، فيستخرج منه المضاهاة التي تستكشف علاقات الأشياء, وتمهد للحكم والاستدلال.

135 - روايي كولار " 1763 - 1843 ": سياسي أكثر منه فيلسوفا، ألقى دروسًا بكلية الآداب بباريس " 1811 - 1814 " عارض فيها فلسفة كوندياك بفلسفة ريد، فأدخل هذه الثانية في التعليم بفرنسا. إن "فلسفة الإحساس" تقوم على التصورية التي تركب الأشياء من الانفعالات؛ فيلزم عنها أن الأنا مجموعة إحساسات، وأن الطبيعة مجموعة كيفيات محسوسة، وأن الله مجموعة معلولات: فلا جوهر، ولا بقاء متصل في الزمان، ولا قوة فاعلية، فننتهي في الميتافيزيقا إلى الشك العدمي، وفي الأخلاق إلى الأنانية من حيث أن ليس لغيرنا "بل ولا لنا" وجود جوهري. ولكن "فلسفة الإدراك" "وهي فلسفته" تقوم على وقائع أصيلة بينة بذاتها مشتركة بين جميع بني الإنسان، هي وجود الأنا كجوهر مفكر باقٍ عارف ذاته معرفة مباشرة، وعارف بقاءه بالذاكرة، وعارف عليته في الفعل الإرادي والانتباه. وبضرب من الاستقراء ننقل طبعًا إلى الأشياء الطبيعية الجوهرية والبقاء والعلية، لما نصادف منها من مقاومة، ونرى بينها من تفاعل، مع حذف ما في فاعليتنا من تفكير وإرادة. ثم نتأدى من فاعلية الأشياء إلى فاعلية الله باعتبار أن العلل الجزئية لا تتفق فيما بينها إلا بفعل علة واحدة كلية القدرة. 136 - فيكتور كوزان " 1792 - 1867 ": أ- دخل مدرسة المعلمين العليا بباريس ليتخرج فيها أستاذًا للأدب، فما أن استمع فيها إلى لاروميجيير ذات يوم من سنة 1810 حتى مال إلى الفلسفة وعول على أن يخصص لها حياته. وفي السنة التالية استمع إلى روايي كولار بكلية الآداب, ثم اتصل بمين دي بيران. وفي 1814 عين أستاذًا للفلسفة بمدرسة المعلمين؛ وفي 1815 ندبه روايي كولار ليحل محله بكلية الآداب, فكان محاضرًا بارعًا وفيلسوفًا سطحيًّا. وهكذا كان شأن أستاذيه وشأن مريديه وتلاميذه. وفي هذه الفترة كان على رأي أساتذته الفرنسيين يجمع إليهم ريد وأتباعه من الأسكتلنديين ورحل إلى ألمانيا ثلاث مرات " 1817، 1818، 1824 " والتقى بشلنج وهجل وأخذ عنهما، فكان له مذهب جديد. ورقي إلى مرتبة

الأشراف، وعين عضوًا بمجلس شورى الدولة، ومديرًا لمدرسة المعلمين، ومديرًا للجامعة، وأخيرًا وزيرًا للمعارف؛ فهيمن على التعليم وبرامجه مدة طويلة. أهم كتبه: كتاب "التاريخ العام للفلسفة" وكتاب "في الحق والجمال والخير" وهو كتاب مشهور نقَّحه مرارًا. ب- مذهبه الجديد يرمي إلى "استخلاص عقيدة النوع الإنساني" أي: استخلاص ما في كل مذهب من وجه حق؛ لذا أسماه بالتخير eclectisme فكان لتعليمه صبغة تاريخية ظاهرة، وهو الذي أدخل تاريخ الفلسفة في التعليم الجامعي بفرنسا وأثار الاهتمام بالتأليف فيه. وهو يرد المذاهب إلى أربعة كبرى: المذهب الحسي أو المادي الذي يفسر الوجود بالمادة المحسوسة تفسيرا آليا, والمذهب العقلي أو الروحي الذي يفسر الوجود تفسيرا منطقيا، ومذهب الشك الذي يقول بامتناع إدراك الحقيقة لما يرى من تناقض المذهبين السابقين، والمذهب الصوفي الذي يحسم الشك بالإيمان الديني ويطلب الحقيقة خارج الإنسان. ويتألف تاريخ الفلسفة من هذه المراحل تتعاقب على هذا الترتيب في أدوار مختلفة. ولكن واحدًا من هذه المذاهب ليس حقًّا بالإطلاق ولا باطلًا بالإطلاق، والفلسفة الكاملة تجمع بين عناصرها المتلائمة فتسقط عناصرها الباطلة، وهذا تعريف التخير ومنهجه. فإذا طبقناه وجدنا المذهب الحسي صادقًا في قوله بالمادة، مخطئًا في إنكار الروح والمعاني العقلية التي يشترك فيها كل الناس, ويرجعون إليها دائمًا بالطبع, فيجب الجمع بين المذهبين الحسي والعقلي، وبذا يتبدد الشك ونستغني عن المذهب الصوفي، إذ لا حقيقة للوحي، وكل الحقيقة قائمة في الفلسفة التي هي غاية نمو العقل الإنساني. ج- وقوام مذهبه الجديد وحدة الوجود حيث تتلاءم الأضداد. إن الحقائق المطلقة التي نجدها في عقلنا تتطلب عقلًا مطلقًا، وبذا يقوم الدليل على وجود الله "على طريقة القديس أوغسطين" وبذا يحتفظ كوزان بالمنهج الفرنسي الذي يذهب من علم النفس إلى الميتافيزيقا، وينبذ قول الألمان بحدس عقلي يدرك المطلق مباشرة، وبذا نخرج من الذاتية إلى الموضوعية. ولما كان الله غير متناهٍ كان الموجود الأوحد. ولما كان الله عقلًا كان وجدانًا، والوجدان يتضمن التنوع والتباين، فالله يستخرج الكون من ذاته بتطور إرادي، كما يستخرج الإنسان

من نفسه فعله الإرادي؛ وهذا التطور الإرادي في الله هو مع ذلك ضروري لازم من كماله باعتباره العلة المطلقة، إذ إن مثل هذه العلة لا تستطيع ألا تخلق. فحياة الكون، ومن ثمة حياة البشر والشعوب مظهر الحياة الإلهية؛ وكل ما هو موجود هو عقلي، فالنجاح يبرر الفعل أيا كان كما قال هجل. وقد ثارت مناقشات حادة حول هذه الأقوال، كان من أثرها أن كوزان تحول منذ 1833 من وحدة الوجود إلى الإله المفارق! ولا ندري إن كان هذا التحول صادرًا عن اقتناع أو عن حرص على سمعة الجامعة وعلى ترقيه هو في مناصب الدولة, ولكنه ظل إلى النهاية على المبدأ العقلي المنكر للوحي. وبالرغم من سلطانه على التعليم كان نفوذه ضئيلًا على جمهرة المثقفين.

الفصل الثاني: المذهب الفلسفي

الفصل الثاني: المذهب الفلسفي 137 - لويس دي بونالد " 1754 - 1840 ": أ- المذهب الفلسفي معارض للمذهب الفردي؛ فهو ينكر عليه دعواه أن الفرد من بني الإنسان كائن قائم برأسه, وأن الاجتماع وليد اتفاق بين الأفراد، ويعارض هذه الدعوى بتوكيد ضرورة الاجتماع؛ وهو ينكر عليه دعواه أن العقل الفردي يبلغ إلى الحق بقوته الذاتية، ويعارض هذه الدعوى بإرجاع العلم الإنساني إلى وحي أول نزلت به من لدن الله ألفاظ اللغة والمعاني المقابلة لها فتناقلها السلف. ولويس دي بونالد زعيم الناقمين على فلسفة القرن الثامن عشر الفردية، الحاملين على الثورة الفرنسية وليدة هذه الفلسفة. هاجمهما في كتاب نشره سنة 1796 بعنوان "نظرية السلطة السياسية والدينية" ثم دأب على شرح آرائه في كتب عدة أهمها "تحليل القوانين الطبيعية للنظام الاجتماعي" و"الشريعة الأولى" و"فحص فلسفي عن الموضوعات الأولى للمعارف الأخلاقية". ب- لقد أخطأ روسو وأخطأ مشرعو الثورة من بعده. إنهم جميعًا صدروا عن الخطأ الذي قامت عليه البروتستانتية وهو الفردية. ليس بصحيح أن الفرد كائن على حياله، وأنه طيب بالطبع رديء بالاجتماع، وأن التشريع يؤخذ من مجرد معنى الإنسان بدون نظر إلى استعداداته وطباعه وماضيه وظروف المكان والزمان. الحق أننا عرضة بالطبع للانقياد إلى الأهواء، وأننا إنما نستمد من المجتمع أسباب نمونا واستكمالنا والقوة التي نسيطر بها على أنفسنا. فالإنسان الطبيعي إنسان اجتماعي، والاجتماع ضروري لا عرفي. وإذا كانت القوانين هي "العلاقات الضرورية اللازمة من طبيعة الأشياء" كما عرفها مونتسكيو, وإنها لكذلك, كانت الطبيعة لا الغالبية هي التي تضع القوانين بإنشاء عادات تكتسب قوة القانون، أو بالتنبيه على عيب العادة أو القانون، بما يحدث عنهما من اضطراب. فيجب القول بأن السلطة في الأصل من عند الله، بمعنى: أن الله وضع ضرورة السلطة في طبيعة البشر كما وضع قوانين علاقاتهم: "إن الناس

متشابهون إرادةً وعملًا، ولكنهم ليسوا متساوين إرادةً وعملًا، وهم من جراء هذا التشابه وهذا التفاوت يؤلفون نظامًا ضروريًّا من الإرادات والأعمال يسمى المجتمع". والمجتمع الأول هو الأسرة، يبدو فيها التشابه والتفاوت ووحدة السلطة. فيجب احترام الأسرة بما هي كذلك، وإذن يجب اعتبار الزواج عقدًا غير قابل للفسخ، فإن الطلاق يفترض أن الزوجين فردان على حين لا توجد فردية بعد عقد الزواج بل توجد الأسرة، ومهمة المجتمع تكميل الأسرة لا هدمها. ج- والعلم الإنساني من عند الله. إن المذهب الفردي يقيم من عقل الفرد حاكمًا في كل موضوع, فيؤدي إلى تضارب الأحكام, وهناك حقائق كلية مشتركة بين جميع الناس يجب الإيمان بها. إن الفرد حاصل على العقل، ولكنه لا يعقل المعنى إلا باللفظ الدال عليه، والمجتمع هو الذي يعلمه الألفاظ فينقل إليه المعاني بوساطتها. ليست اللغة من إنشاء الإنسان, والذين يدعون ذلك هم الذين يدعون أن الاجتماع اتفاق عرفي؛ ولكننا قلنا: إنه ضروري، فيجب القول: إن اللغة عطية من الله حملت إلى الناس قضايا نظرية وقواعد عملية، وإن الإنسان مدين بكل شيء للمجتمع. أجل قد تكفي الصور الحسية لمعاني الماديات؛ أما المعاني الروحية كالفضيلة والعدالة وما إليهما، التي هي أساس الاجتماع والأخلاق، ومعاني الأفعال على اختلاف ضروبها، مثل قولنا: أفكر وسأمشي, فمستحيلة بدون الألفاظ المعبرة عنها. وليس اللفظ المحسوس علة الفكر الروحي, ولكن هذا الفكر كامن في العقل, واللفظ إرادة لا غنى عنها لكي ندرك المعنى، ويمتنع إدراك المعنى دون النطق الباطن باللفظ الدال عليه. وليس الفرد هو مبتدع اللفظ، فإن هذا الابتداع يستلزم تفكيرًا وهذا التفكير نفسه يفتقر إلى لفظ. والواقع أن الفرد يتلقى اللغة بالتربية، وبدون هذه التربية لا يحصل على أي شعور حتى على الشعور بوجوده؛ فكان لا بد أن يوحي الله باللغة إلى الإنسان الأول. والتجربة تؤيد هذا الدليل؛ فإننا بحاجة إلى تعلم كل حقيقة، حتى الحقائق الرياضية، وبنوع خاص الحقائق الأخلاقية والاجتماعية، بحيث إذا لم تلقن بالتعليم قضي على حياة المجتمع بل على حياة الفرد.

138 - جوزيف دي مستر " 1753 - 1821 ": أ- سفير سافوي في بطرسبرج من 1803 إلى 1817. كان قد آمن بمبادئ الثورة في شبابه، فردته مظالم الثورة إلى التفكير في تجديد النظام بالرجوع إلى الدين. ولما أرسل إليه دي بونالد كتابه الأول رد عليه يقول: إنه كان قد وصل إلى نفس المذهب. أشهر كتبه "أسمار بطرسبرج" و"البابا" و"اعتبارات في الثورة الفرنسية" و"مراجعة فلسفة بيكون". ب- يرى هو أيضًا أن العناية الإلهية طبعت فينا الحقائق وعلمتنا الكلام، فتبلورت الحقائق في الألفاظ. ويعارض لوك في دعواه بأن جميع معارفنا مستفادة من الإحساس، ويعارض العلم الحديث في تفسيره للأشياء بالمادة فحسب، فيقول: إن المادة لا يمكن أن تكون علة، وإن لنا في شعورنا بتأثير إرادتنا دليلًا على أن علة الحركة إرادة. وللعلماء أن يتوفروا على علومهم، وليس لهم أن يطبقوا مناهجها ونتائجها على الأمور الاجتماعية والدينية. في هذه الأمور كان الرأي الخاص وكانت حرية التعبير عن الآراء الخاصة أصل الشر في العصر الحديث. بدأ الشر بالبروتستانتية، واستمر بفلسفة بيكون وفلسفة لوك وفلسفة القرن الثامن عشر يمثلها فولتير "آخر البشر بعد الذين يحبونه". ودواء هذا الشر الاعتماد على عصمة البابا، فيكفل للمجتمع النظام والسلام. وإن قيل: إن هذه العصمة سر من الأسرار، أجاب: إن الأسرار تكتنفنا من كل جانب: فالعقل ينكر الحرب والحرب قائمة في الطبيعة جمعاء كوسيلة خفية لاستبقاء الحياة؛ والجلاد ممقوت من الناس أجمعين, وهو عامل على صيانة كيان المجتمع. ويمضي دي مستر في تأييد السلطة إلى حد الارتياب في العقل وهو القائل: إن الله طبع فينا الحقائق, وأن ليس أسخف من الزعم بأن الإنسان ترقى بالتدريج من الجهل إلى العلم ومن التوحش إلى الحضارة، فيقول: إن الذين يصيبون في الحكم قلائل، وإن لا واحد يصيب في الحكم على جميع الأشياء، وإن كل مرتبة من مراتب الموجودات قاصرة عن التي فوقها, فلعل فوقنا مرتبة لا ندرك منها شيئًا فنكون بالنسبة إليها كالعجماوات بالنسبة إلينا، فالخير كل الخير في التعويل على السلطة. فهو لا يميز تمييزًا واضحًا بين ما للعقل وما للدين، وهو كاتب مجيد يجري في تفكيره على نسق أقرب إلى الخطابة منه إلى البرهان.

139 - فليسيتي دي لامني " 1782 - 1854 ": أ- قسيس أراد أن يعالج "عدم المبالاة بالدين" "وهذا عنوان كتاب له شهير ظهر 1817 - 1823 " فأرجع عدم المبالاة إلى البروتستانتية التي ابتدعت فكرة الفحص الحر والثقة بالعقل الفردي؛ فبلبلت الأفكار وزعزعت مبدأ السلطة في الدين والاجتماع، فانزلقت العقول من البدع في الدين إلى المذهب الطبيعي الذي يقيم الإيمان بالله وبخلود النفس والحرية والثواب والعقاب على حجج عقلية، ولما أدركت وهن هذه الحجج ورأت تناقض العقل، انتهت إلى الإلحاد في الدين والشك في العقل، فانهارت أسس الأخلاق. حجة الملحد أن عقله لا يصل إلى وجود الله, ولا يفهم الخلود ولا الشر الطبيعي والخلقي, ولكنه مع ذلك يؤمن بأمور أخرى لا يفهمها، يؤمن بالجاذبية وبانتقال الحركة وبالمادة وبالفكر, وبغير ذلك كثير دون أن يفهم. "يا له من أحمق، ليفسر لي حبة رمل أفسر له الله". والطبيعيون يعتمدون على حجج شخصية تختلف باختلاف العقول، وليس من بينهم من يستطيع إقامة الدليل على أن أقواله هي الصحيحة دون غيرها. وأما المبتدعة في الدين فآية في التناقض، إذ إنهم يسلمون بالوحي ثم يدعون لأنفسهم الحق في رفض ما يرون رفضه من قضايا الوحي، كأنما الله عني بإنزال وحيه ثم تركه عرضة للتغيير والتبديل, وكأنه أنشأ الكنيسة ثم عدل عن تأييدها بنوره. "إن الادعاء بجواز إنكار جزء من الوحي لهو أكثر إمعانًا في البطلان من إنكار الوحي جملة". ب- الخطأ الأكبر إذن قائم في التعويل على إدراكنا الخاص. إن الحواس خداعة، والعاطفة متقلبة إلى غير حد، والاستدلال أداة طيعة لإثبات أو إبطال أية قضية كانت كما بيَّن بسكال. ولكن عقلنا حاصل على حقائق لا يقوى عليها الشك، وأساس اليقين بها إجماع العقول عليها، وعدم التسليم بها هو الجنون بعينه. "فاليقين يقوم في قبول حقائق العقل الكلي والحقائق التي يستنتجها منها العقل الفردي". وهناك قضية مجمع عليها في كل زمان ومكان، وهي وجود الله، بإقرار الملحدين أنفسهم، وفي كل جيل يرد الناس جميعًا هذه القضية إلى الجيل السالف, وهذا إعلان منهم بأنها موحاة من الله نفسه. ولا بد أن يكون الله أوحى بالدين

الحق, ولم يترك هذا الأمر للعقول الفردية؛ فلا عجب أن نرى الكنيسة تعلن أنها مكلفة من قبل الله بالمحافظة على الوحي. تعاليمها قوية سامية، وهي تستند إلى نبوءات تحققت ومعجزات لا سبيل إلى الشك فيها. فهي "ليست مذهبًا معروضًا علينا، ولكنها شريعة يجب أن تخضع لها قلوبنا". ج- لم ترضَ الكنيسة عن هذا الكتاب وهي تعلم أن للعقل القدرة على إدراك الحقائق الطبيعية، وأن وجود الله حقيقة طبيعية يبرهن عليها العقل ولا يقنع بقبولها من المجتمع. ومن سخريات الدهر أن لامني بعد أن دافع عن الدين والكنيسة هذا الدفاع الحار، وبعد أن نقل من اللاتينية كتاب "التشبه بالمسيح" وعلق على فصوله بفصول قد تضارعها قوة وجمالا، ذهب في علاقة الكنيسة والدولة وفي السياسة إلى آراء أنكرتها الكنيسة, فتمرد على حكمها وآثر عقله الفردي حتى ابتدع في الدين ودوّن "رسم فلسفة" " 1841 - 1846 " يتخذ فيها عقيدة الثالوث مبدأ لنظرية في الوجود، وينبذ صراحة عقائد أخرى، كالخطيئة الأصلية والفداء والنعمة، ويصطنع ضربًا من وحدة الوجود في كلامه عن الخلق، ويصر على عصيانه إلى النهاية. ومن عجب أن هؤلاء السلفيين فاتهم الرجوع إلى الفلسفة السلفية الحقة، تلك التي كونتها الأجيال المسيحية حتى تمت على يدي القديس توما الأكويني, والتي هي أصدق نظرًا في الدين والعقل جميعًا.

الفصل الثالث: المذهب الواقعي

الفصل الثالث: المذهب الواقعي 140 - سان سيمون " 1760 - 1825 ": أ- أوجست كونت صاحب "الفلسفة الواقعية" ولكن فكره تكون بجانب الكونت دي سان سيمون, وتأثر من غير شك بشارل فوريي، وهما مصلحان اجتماعيان، فنقدم الكلام عليهما، وثلاثتهم يصدرون عن نفس الدواعي التي صدر عنها السلفيون، هي أن المجتمع يتدهور فيجب إعادة تنظيمه، وهو لا ينظم إلا بسلطة روحية توحد بين العقول، إلا أن هذه السلطة عند الواقعيين ليست الكنيسة, بل العلم الذي يضع حدًّا لفوضى الأفكار، ويوفر أسباب التنظيم والتعمير، وينتهي إلى دين جديد. ب- كان سان سيمون مغامرًا في الحياة وفي الفكر. تطوع لنصرة الولايات المتحدة في حربها الاستقلالية، وقام بمشروعات صناعية، وفي أثناء الثورة نزل عن لقب الكونتية, وسجن ثم أخلي سبيله. خرج من الثورة بأن العصر الوسيط كان عصر تنظيم عقب انحلال الإمبراطورية الرومانية وحروب البرابرة، فكانت أوروبا خلاله مرتبطة بعقيدة مشتركة، ولم يكن القساوسة دجالين كما يزعم فولتير، بل كانوا أكثر أفراد الشعب استنارة. ولكن النقد ثم الثورة حَطَمَا هذا النظام، فسادت فوضى أخلاقية واجتماعية قوامها الإنكار والأنانية. فيتعين العمل على إقامة نظام جديد بوساطة العلم الواقعي. ولم يكن تلقى ثقافة علمية، فقرب إليه بعض خريجي مدرسة الهندسة ومدرسة الطب ليتمكن من تدوين موسوعة علمية تتخذ أساسًا للإصلاح، وكان كونت واحدًا من هؤلاء فكان كاتبًا له ومعاونًا مدة من الزمن. وأخذ سان سيمون عن طبيب مغمور من معاصريه، هو الدكتور بوردان Burdin أن العلوم بدأت تخمينية ثم تدرجت إلى الحال الواقعي بحسب بساطة موضوعها، فتكونت الرياضيات وتبعها الفلك فالكيمياء. وكان هذا الطبيب يقسم تاريخ العقل الإنساني إلى ثلاثة عصور: الأول تخميني يذهب من تعدد الآلهة إلى إله واحد، والثاني وسط بين التخمين والواقعية يذهب

من تصور علة غير منظورة إلى تصور القوانين، والثالث واقعي يرمي إلى تفسير العالم بقانون واحد، وقد بدأ هذا العصر منذ قليل. وإذا ما تم تكوين الفسيولوجيا على النمط الذي تسير عليه حصلنا على العلم الواقعي للطبيعة الإنسانية، فأمكن إقامة أخلاق وسياسة واقعية، وتكوين الفلسفة الواقعية باعتبارها العلم الكلي، ووضع الدين الواقعي الذي قوامه تصور جديد للعالم على قاعدة علمية بحتة، وقساوسته العلماء. وكان سان سيمون أول من قال "فلسفة واقعية" و"سياسة واقعية". ج- ثم بدا له أن التنظيم الجديد بغير حاجة ماسة للتمهيد العلمي، وأن أقرب السبل إليه تسليم زمام الحكم إلى كبار رجال الصناعة والعلم بدل الأشراف والقانونيين، ورفع مستوى الطبقة العاملة من الوجهتين العقلية والاقتصادية، موقنًا أن اتفاق المصالح كفيل بتحقيق الوحدة. وفي سنيه الأخيرة أراد أن يؤسس مسيحية جديدة قائمة على محبة الإنسان, واعتبار الحياة الأرضية غاية لذاتها لا وسيلة لحياة مقبلة غير منظورة، فكان له عدد صغير من الأتباع في حياته وبعد مماته. 141 - شارل فوريي " 1772 - 1837 ": هو أحد آباء الشيوعية الحديثة، وقد دل على طريقة عملية للإصلاح. قال: إن العناية الإلهية التي يشهد بوجودها نظام العالم فطرتنا على نزعات إذا اتبعناها بلغنا إلى السعادة الفردية والاجتماعية. فعلى كل فرد أن يختار العمل الذي يوافق ميله. ولا يتسنى هذا الاختيار إلا في فرق phalanges تمثل كل فرقة منها المهن الضرورية لبقائها، أو عدد الميول الممكنة، أو عدد التأليفات الممكنة للنزعات الأصلية، ويبلغ هذا العدد 1620 "! " فيعيش أفرادها في قرية phalanstere وتؤلف كل مهنة جماعة، وفي كل قسم من أقسام المهنة يؤلف العمال جماعة أصغر، بحيث يشعر الكل بتعاون الكل، بخلاف الحال في مجتمعاتنا الكبيرة حيث تتضاءل مكانة الفرد وتغيب عنه علاقته بالمجموع. وإذا كونا فرقة من هذا القبيل تكونت بالمحاكاة فرق أخرى, وتلاشى المجتمع "المتحضر" شيئًا فشيئًا وحلت محله خلايا اجتماعية. وتبقى الأسرة في كل فرقة, ولكن حرة مما يزعم من قيود وواجبات، وتلغى جميع القوانين التي تحد من الحرية، سواء أكانت قوانين وضعية أم أخلاقية أم دينية، وقد انتشرت هذه التعاليم في

فرنسا، وألف فوريي فرقة نموذجية، ولكنها أخفقت. وحوالي منتصف القرن كان لمذهبه في أمريكا مائتا ألف من الأتباع. 142 - أوجست كونت " 1798 - 1857 ": أ- هو الذي حقق أماني سان سيمون، فدون موسوعة علمية، ووضع علما سياسيا، ودينا إنسانيا. ولد بمونلبتي في أسرة شديدة التعلق بالكثلكة، ولكنه فقد الإيمان منذ الرابعة عشرة. وكان تلميذًا ممتازًا في الرياضيات, فالتحق بمدرسة الهندسة بباريس في السادسة عشرة يحصل علومها ويستكمل ثقافته بقراءة كتب فلسفية كثيرة، وبخاصة كتب هيوم ودي مستر ودي بونالد. هذه المدرسة من خلق الثورة، وكانت مركز الثقافة العلمية والفكرة الجمهورية، وكان جل طلابها متشيعين لسان سيمون، وهو في طليعتهم. فاتصل به في 1817 وظل كاتبًا له ومعاونًا حتى 1822 لما أراد سان سيمون أن يرجئ الإصلاح العلمي ليشرع في الإصلاح الاجتماعي، فخالفه لاقتناعه، بعد قراءة دي مستر، أن الشرط الأول للنجاح إعادة وحدة الاعتقاد إلى العقول كما كان الحال في العصر الوسيط, ولكن بوساطة العلم لا بوساطة الدين. ونشر بهذا المعنى كتابًا بعنوان "مشروع الأعمال العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع" " 1822 " ثم بعنوان "السياسة الواقعية" " 1824 " يعلن فيه أن فلسفة القرن الثامن عشر القائمة على حرية الرأي وسلطة الشعب، فلسفة مفيدة في النقد والهدم عقيمة في الإنشاء؛ لأن هذين المبدأين نقديان لا منظمان؛ وأن الواجب قبل كل شيء وضع مذهب علمي شامل تقوم عليه سياسة واقعية تمتنع معها حرية الرأي كما تمتنع في الرياضيات أو العلم الطبيعي؛ إذ يتبين منها أن العلاقات الإنسانية خاضعة لقوانين، وأن النظام الاجتماعي متضامن مع جملة الحضارة كما تبدو في العلم والفن والصناعة، فيستقر المجتمع على خير حال. وذلك هو البرنامج الذي سيعمل فيلسوفنا على تحقيقه. ب- بدأ إذن بتحرير موسوعة العلوم الواقعية والمحاضرة فيها " 1826 " فأقبل على الاستماع إليه جمهور من العلماء، ولكنه ما ألقى ثلاث محاضرات حتى انتابته أزمة عقلية ترجع إلى مزاجه العصبي وإرهاق العمل وشواغل الحياة، فعنيت

به زوجته حتى أعادت إليه اتزانه، فاستأنف محاضراته في يناير 1829، وأنفق عشر سنين " 1832 - 1842 " في إخراج كتابه الأكبر "دروس في الفلسفة الواقعية" في ستة مجلدات, يعرض فيه وقائع العلوم وقوانينها ومناهجها عرضًا منظمًا. ثم نشر كتيبًا بعنون "مقال في الروح الواقعي" " 1844 " هو خير مقدمة لفلسفته. ودعيت هذه المرحلة الأولى في تحقيق برنامجه بالمرحلة العلمية. ج- ودعيت المرحلة الثانية بالصوفية. بدأت بأزمة عصبية ثانية كان من أسبابها هيامه بسيدة تعرف إليها في 1844 وتوفيت بعد سنتين, فاتخذ منها مثال "الإنسانية" وكان يتوجه إليها بالفكر والصلاة كل يوم، وصارت "شيطانه" الذي يوحي إليه أثناء تحريره كتابه الكبير الثاني "مذهب في السياسة الواقعية، أو كتاب في علم الاجتماع يضع ديانة الإنسانية" " 1851 - 1854 في 4 مجلدات" واختصره في كتاب "التعليم الديني الواقعي" أو عرض موجز للديانة الكلية " 1852 ". 143 - مذهبه 1 - قانون الحالات الثلاث: أ- يرى المذهب الواقعي أن الفكر الإنساني لا يدرك سوى الظواهر الواقعة المحسوسة وما بينها من علاقات أو قوانين, وأن المثل الأعلى لليقين يتحقق في العلوم التجريبية، وأنه يجب من ثمة العدول عن كل بحث في العلل والغايات وما يسمي بالأشياء بالذات. ويدلل كونت على نسبية معرفتنا، لا بنقد أفعال العقل كما فعل لوك وهيوم وكنط، بل يعرض ما ظنه تاريخ العقل كما فعل سان سيمون أخذًا عن الدكتور بوردان، فيقول: إن العقل مر بحالات ثلاث: حالة لاهوتية، وحالة ميتافيزيقية، وحالة واقعية. ب- ففي الحالة اللاهوتية كان دأب العقل البحث عن كنه الكائنات وأصلها ومصيرها، محاولًا إرجاع كل طائفة من الظواهر إلى مبدأ مشترك. وقد تدرج في ذلك درجات ثلاثا: كانت الدرجة الأولى "الفيتشية" Fetiehisme يضيف فيها إلى الكائنات الطبيعية حياة روحية شبيهة بحياة الإنسان؛ وكانت الدرجة الثانية تعدد الآلهة، وهي أكثر الدرجات الثلاث تمييزًا للحالة اللاهوتية، يسلب فيها عن الكائنات الطبيعية ما كان خلع عليها من حياة، ويضيف أفعالها

إلى موجودات غير منظورة تؤلف عالمًا علويًّا، وكانت الدرجة الثالثة التوحيد أي: جمع كثرة الآلهة في إله واحد مفارق، وفي هذه الحالة تتسع الشقة ويزداد التضاد بين الأشياء وبين المبدأ الذي تفسر به. وقد بلغت الحالة اللاهوتية أوجها في الكثلكة التي تؤلف تأليفًا عجيبًا التفسيرات الفائقة للطبيعة في فكرة إله واحد مدبر للكل بإرادته. فخصائص الحالة اللاهوتية هي أن موضوعها مطلق، وتفسيراتها فائقة للطبيعة، ومنهجها خيالي. هذا من الوجهة النظرية, أما من الوجهة العملية فقد كانت المعاني اللاهوتية أساسًا متينًا مشتركًا للحياة الخلقية والاجتماعية، وكانت هذه المرحلة الأولى مرحلة السلطة، سلطة الكهنة وسلطة الملوك. ج- وفي الحالة الميتافيزيقية يرمي العقل كذلك إلى استكناه صميم الأشياء وأصلها ومصيرها، ولكنه يستبدل بالعلل المفارقة عللا ذاتية يتوهمها في باطن الأشياء، وما هي إلا معانٍ مجردة جسمها له الخيال, فقال: العلة أو القوة الفاعلية والجوهر والماهية والنفس والحرية والغاية وما إليها. والميل الذي ساقه في الحالة السابقة من الفيتشية إلى تعدد الآلهة فإلى التوحيد، يسوقه هنا أولا إلى الاعتقاد بقوى بعدد طوائف الظواهر، مثل القوة الكيميائية والقوة الحيوية، ثم إلى إرجاع مختلف القوى إلى قوة أولية هي "الطبيعة". لذا تبلغ هذه الحالة أوجها في مذهب وحدة الوجود الذي يجمع في "الطبيعة" جميع القوى الميتافيزيقية. وكل الفرق بينها وبين الحالة السالفة أن المجرد يحل محل المشخص، ويحل الاستدلال محل الخيال, أما الملاحظة فثانوية فيها جميعًا. والحالة الميتافيزيقية فترة انتقال وأداة انحلال؛ هي فترة نقد عقيم ولكنه ضروري, إذ يتناول الاستدلال المعاني اللاهوتية فيبين التناقض فيها. وإذا كان العقل في هذه الحالة يضع معاني أو قوى موضع الإرادات المتقلبة، فإنه يضعف من سلطان القوى المفارقة. هذا من الوجهة النظرية, أما من الوجهة العملية فيبدو الانحلال في انتشار الشك والأنانية. فيفصم الفرد الرباط الذي يربطه بالمجتمع, ويثقف العقل على حساب العاطفة، ويتصور الاجتماع ناشئًا من تعاقد الأفراد، وتام الدولة على مبدأ سلطة الشعب، ويحكمها القانونيون. د- وفي الحالة الواقعية يدرك العقل امتناع الحصول على معارف مطلقة، فيقصر همه على تعرف الظواهر واستكشاف قوانينها وترتيب القوانين من الخاص إلى العام؛ فتحل هنا الملاحظة محل الخيال والاستدلال, ويستعاض عن العلل

بالقوانين أي: العلاقات المطردة بين الظواهر. فيكون موضع العلم الإجابة عن سؤال "كيف" لا عن سؤال "لم" وتكون الحالة الواقعية مختلفة عن الحالتين الأخريين في العناصر الثلاثة جميعًا التي هي الموضوع والتفسير والمنهج. هذه الطريقة هي التي أفلحت في تكوين العلم، ويجب أن يحل العلم الذي تولد عنها محل الفلسفة؛ فكلما أمكن معالجة مسألة بالملاحظة والاختبار انتقلت هذه المسألة من الفلسفة إلى العلم واعتبر حلها نهائيًّا. أما المسائل التي لا تقع تحت الملاحظة فهي خارجة عن دائرة العلم، ويدل تاريخها على أنها لم تتقدم خطوة واحدة منذ أن وضعت، فهو ينطق بأنها غير قابلة للحل، كما أن نجاح العلم الواقعي يقضي بإمكانه وبأنه المجال الحقيقي للعقل. هذا من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فتمتاز الحالة الواقعية بقيام علم الاجتماع، وسيأتي الكلام عليه. هـ- هذه الحالات الثلاث متنافرة، ونحن نجدها تتعاقب في كل إنسان، ففي الحداثة نقنع بسهولة بالتفسيرات اللاهوتية؛ وفي الشباب نقتضي عللا ذاتية، وفي سن النضج نعول في الأكثر على الوقائع. غير أن هذا التنافر لا يمنع من التقارن؛ فالشخص الواحد قد يقبل تفسيرات لاهوتية أو ميتافيزيقية في بعض الموضوعات، مع قبوله العلم الواقعي في موضوعات أخرى هي على العموم أقل تعقيدًا؛ وأهل العصر الواحد بنوع خاص نرى بعضهم على حالة وبعضًا آخر على حالة أخرى؛ وكذلك شعوب الأرض ليسوا كلهم على درجة واحدة من رقي العقل, على أن القانون الكلي يبقى صادقًا إذا اعتبرنا الحالة الغالبة في شعب معين وعصر معين. فإننا حينئذ نرى اللاهوت ينجم أولًا, ثم نرى الميتافيزيقا تعارضه, وأخيرًا يولد العلم الواقعي الذي هو وحده قارد على البقاء؛ لأن الحالتين السابقتين لما كانتا قائمتين على الخيال كانتا دائمًا مبعث ظنون جديدة ومناقشات جديدة، على حين أن العلم يستند إلى الواقع فيجمع العقول على وحدة الرأي ويحل محلهما، لا يتكلف في ذلك محاربتهما بل يتركهما تسقطان من تلقاء ذاتهما. وولما كانت التجربة محدودة دائمًا، فسيظل دائمًا كثير من الظوهر خارج علومنا. ولما كانت الظواهر متباينة، فيمتنع رد العلوم بعضها إلى بعض، أو رد كثرة القوانين إلى قانون واحد. بل إن في كل علم فروعًا مستقلة, في علم الطبيعة وفي علم النبات وعلم الحيوان, ولا يمكن الأخذ بنظرية لامارك في تطور الأنواع

الحية بعضها إلى بعض. فلا يمكن أن تنتهي الحالة الواقعية إلى وحدة مطلقة، كالله في الحالة اللاهوتية، وكالطبيعة في الحالة الميتافيزيقية. فالفلسفة الواقعية جملة القوانين المكتسبة فعلا بالتجربة, لا جملة قوانين الوجود. غير أننا إذا لم نستطع البلوغ إلى وحدة موضوعية، فبوسعنا أن نبلغ إلى وحدة ذاتية تقوم في تطبيق منهج واحد بعينه في جميع ميادين المعرفة، فننتهي إلى تجانس النظريات وتوافقها، ومن ثمة إلى علم واحد. فالمنهج الواقعي يحقق الوحدة في عقل الفرد، ويحققها بين عقول الأفراد، وهكذا تصير الفلسفة الواقعية الأساس العقلي للاجتماع. ومن هذه الوجهة تجد في معنى الإنسانية المقابل الوحيد الممكن لمعنى الله ولمعنى الطبيعة. وفي الحالة الواقعية الاتصال بين النظر والعمل أوثق منه في الحالتين الأخريين، إذ إن العلم بقوانين الظواهر يسمح بإيجاد الظواهر، بل إن الرغبة في هذا الإيجاد سبب يجعلنا ننتقل إلى هذه الحالة. "العلم لأجل التوقع وبقصد التدبير" ذلك شعار العلم الواقعي؛ لذا يقابل هذه الحالة الصناعة من جهة لكونها عبارة عن استغلال الإنسان للطبيعة، وعلم الاجتماع من جهة أخرى لكونه يكشف لنا عن وسائل التقدم. ولئن كانت الفلسفة الواقعية في غنى عن التفسيرات اللاهوتية والميتافيزيقية، إلا أنها لا تعارضها معارضة مباشرة، بل إنها تعترف باستحالة التدليل على عدم وجود الروحيات كما تقرر استحالة التدليل على وجودها، وبذا تتميز من المذهب الحسي المعروف أو المذهب المادي الذي ينكر الروحيات إنكارًا. 144 - مذهبه 2 - تصنيف العلوم: أ- الفلسفة الواقعية جملة العلوم الواقعية. ويذكر كونت ستة علوم أساسية مرتبة هكذا: الرياضيات، علم الفلك، علم الطبيعة، علم الكيمياء، علم الحياة، علم الاجتماع. هذه العلوم مكتسبة بالاستقراء حتى الرياضيات, فإنها إنما تعتبر علمًا عقليًّا بحتًا لأن موضوعها من البساطة بحيث نغفل عادة أصله الاستقرائي، ولكن ليس هناك علم عقلي بحت. ومبدأ هذا التصنيف تزايد التركيب وتناقص الكلية، أي: النسبة العكسية بين المفهوم والماصدق، فكلما كان المفهوم بسيطًا كان الماصدق واسعًا، والعكس بالعكس. وهذا التصنيف

هو أيضًا تصنيف تعقل متناقص وتجربة متزايدة، أي: كلما نزلنا درجة قَلَّ مجال العقل البحت وازداد شأن التجربة. فالرياضيات في رأس الجدول لا تتبع علمًا آخر ويتبعها باقي العلوم؛ لأن موضوعاتها وقوانينها أكثر بساطة وكلية؛ وعلم الاجتماع في آخر الجدول يتبع سائر العلوم ولا يسيطر على علم؛ لأن موضوعاته وقوانينه أكثر تعقدًا وتخصصًا؛ وبالنزول من الرياضيات إلى علم الاجتماع نرى التركيب يتزايد والكلية تتناقص؛ وذلك لأن الرياضيات لا تنظر لغير الكم المجرد، وهو أبسط الأشياء وأقلها تعيينًا؛ فيضيف إليه علم الفلك معنى القوة فيدرس الأجسام الحاصلة على قوة جاذبة وهي الأجرام السماوية؛ وعلم الطبيعة يضيف الكيف إلى القوة فيدرس القوى المتمايزة بالكيف، كالحرارة والضوء؛ وتضيف الكيمياء الخصائص الملازمة لكل نوع كيميائي من الأجسام؛ ويضيف علم الحياة إلى المادة اللاعضوية التركيب العضوي والظواهر الخاصة به؛ ويضيف علم الاجتماع ما ينشأ بين الأحياء من روابط مستقلة عن تركيبها. ولئن كانت جميع العلوم محصلة بمنهج واحد كما سبق القول، فإن هذا المنهج يتعدل في كل علم تبعًا لموضوع هذا العلم: فالرياضيات، أو بالأحرى الحساب؛ لأنه أكثر بساطة وكلية من الهندسة والميكانيكا، يتضمن شروط العلم بالإطلاق أي: جميع أنواع التحليل والاستدلال، بحيث تعود العلاقات الرياضية فتظهر في العلاقات المعقدة, وهذا وجه التجانس ين العلوم؛ وعلم الفلك يعلمنا فن الملاحظة، فإنه يراجع بالاستقراء فروضًا يضعها بالقياس؛ ويعلمنا علم الطبيعة فن التجربة، وتعلمنا الكيمياء فن التصنيف، ويعلمنا علم الحياة الطريقة المقارنة، ويعلمنا علم الاجتماع الطريقة التاريخية. وكلما كان موضوع العلم بسيطًا كليًّا كانت الطريقة القياسية متقدمة فيه على الطريقة الاستقرائية. وأخيرًا: إن هذا الترتيب المنطقي مطابق لتدرج ظهور العلوم, أو بعبارة أدق: لتكونها تكونًا واقعيًّا، فإن الحالات الثلاث تبدو في تاريخ كل علم، فكلما كان موضوع العلم أعقد استغرق وقتًا أطول في اجتياز هذه المراحل. لذا كانت العلوم المجردة هي التي تبلغ أولًا المرحلة النهائية، ولا تبلغ إليها العلوم المشخصة إلا فيما بعد. ب- نلاحظ على هذا التصنيف أربع ملاحظات: الأولى: أنه يبدأ بالكم، وهناك معانٍ أكثر منه بساطة وكلية, هي المعاني المعروضة في المنطق والميتافيزيقا،

ولكن كونت لا يرى أن للعقل موضوعًا خاصًّا ولا مظهرًا إلا في موضوع، ويذهب في هذا السبيل إلى حد إنكار استخدام الإشارات في الرياضيات بدل الكميات, وإنكار حساب الاحتمالات لأنه عبارة عن إنكار فكرة القانون، وإنكار كل تفسير يجاوز المشاهد، مثل تفسير انتشار الضوء بالتموج أو غيره، وتفسير أصل الأنواع الحية بالتطور، وكل وجود لا يقع تحت الحس، مثل وجود الأثير أو الذرات، ويدعو كل هذا ميتافيزيقا؛ فهو يبتر من العلم مقدماته ومبادئه، ويقصي منه فروضا كثيرة نافعة. الملاحظة الثانية: أنه يجعل من الفلك علمًا أساسيًّا ويضعه في المحل الثاني، والواقع أن علم الفك يتقوم بالميكانيكا وعلم الطبيعة والكيمياء، فهو إذن علم تطبيقي تابع لهذه العلوم، ويجب أن ينزل عن مكانه لعلم الميكانيكا الذي يتخذ من الحركة موضوعًا له، وهي ظاهرة لا يمكن ردها إلى سواها، وهي بادية في جميع الظواهر الطبيعية. الملاحظة الثالثة: أنه لا يجعل مكانًا خاصًّا لعلم النفس، بل يقسم كونت دراسة الإنسان بين علم الحياة وعلم الاجتماع, حيث يدرس الإنسان في آثاره الخارجية، والواقع أن علم النفس يجيء بينهما متصلًا بالأول موصلًا للثاني. وينكر كونت إمكان ملاحظة النفس فيقول: إننا نلاحظ جميع الظواهر بالعقل، فبأي شيء نلاحظ العقل نفسه؟ لا يمكن قسمة العقل إلى قسمين؛ أحدهما يفكر والآخر يلاحظ التفكير. أما الانفعالات النفسية فتمكن ملاحظتها لأن لها عضوًا غير العقل. ومعنى هذا أن المادة لا تنعكس على نفسها، ولما كان العقل عند كونت وظيفة عضوية فهو لا ينعكس على نفسه ولا يعلم أفعاله، ولكن هذا الانعكاس وهذا العلم واقعان؛ وعلم النفس قائم, فالمنطق يقضي بأن ننكر عضوية العقل, وقديمًا استدل أرسطو على روحانية النفس بانعكاسها على ذاتها. الملاحظة الرابعة: أن كونت ينكر بذلك أصالة الظواهر النفسية، وأن جدوله إذ يحتم تبعية العلم الأدنى للعلم الأعلى، يحتم تبعية الظواهر النفسية والظواهر الاجتماعية للرياصيات, وهو لم يبين هذه التبعية, ولم يبين الفرق بينه وبين الماديين. فما المذهب الواقعي في حقيقة الأمر إلا المذهب المادي، مع استدراك متواضع بصدد الروحيات لا يبدو له أي أثر عملي.

145 - مذهبه 3 - علم الاجتماع: أ- هذا العلم من إبداع أوجست كونت، وقد خصَّص له ثلاثة مجلدات من كتابه "دروس في الفلسفة الواقعية". دعاه Saciologie فذاع هذا الاسم وعرفه بأنه "العلم الذي يتخذ له موضوعًا ملاحظة الظواهر العقلية والأخلاقية التي بها تتكون الجماعات الإنسانية وتترقى". وكثيرًا ما يسميه بالعلم الاجتماعي الطبيعي Physique Saciale ليدل على منهجه الاستقرائي وليميز بينه وبين علم السياسة الذي ينهج نهجًا قياسيًّا ابتداء من فكرة الطبيعة الإنسانية, أو من غاية للدولة توضع أولًا. وهذا لا يمنع من أن يتضمن علم الاجتماع مسائل جوهرية من علم النفس والاقتصاد السياسي والأخلاق وفلسفة التاريخ. والعلم فيه لأجل العمل، فإننا -ولو أن الإنسانية تنمو طبقًا لقوانين ضرورية- نستطيع استعجال التقدم وتلطيف الأزمات بتوفير الظروف الملائمة، وذلك إما بتعديل ظروف الحياة المادية كالتربة الغذاء، أو بتعديل ظروف الحياة الاجتماعية بالأخذ عن حضارات مختلفة أو بتدبير حكومي. ويقسم أوجست كونت علم الاجتماع إلى قسمين؛ أحدهما الاجتماع الساكن S. statique يفحص عن الشروط الدائمة لوجود المجتمع أي: الأوضاع الملازمة له؛ والقسم الآخر S. dynamique يفحص عن قوانين نمو المجتمع أي: تطور هذه الأوضاع. والفكرة الأساسية في القسم الأول هي فكرة النظام، وفي القسم الثاني فكرة التقدم. والقسمان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، إذ إن النظام والتقدم مترتبان الواحد على الآخر، وهذا ما تغفل عنه المدرسة الرجعية والمدرسة الثورية على السواء، الأولى تتمسك بالنظام، والثانية تدعو إلى التقدم. وليس هذا التقسيم خاصا بعلم الاجتماع، ولكنه مشترك بين العلوم؛ ففي الرياضيات تنظر الهندسة إلى العالم في حالة السكون، وتنظر إليه الميكانيكا في حالة الحركة؛ وفي عالم الجماد ينظر علم الطبيعة إلى القوى الطبيعية في حالة التوازن، وتنظر إليها الكيمياء في حالة الفعل؛ وفي عالم الحياة يدرس علم التشريح تركيب الأعضاء فيمثل السكون، ويدرس علم الفسيولوجيا وظائف الأعضاء فيمثل الحركة. ب- من وجهة الاجتماع الساكن, يجب أولًا الفحص عن أصل الاجتماع.

لا يمكن أن يكون هذا الأصل حسبان الفرد للربح الذي يعود عليه من العيش مع أمثاله، إذ إن الربح لا يبين إلا إذا حصل الاجتماع ومضى عليه وقت كافٍ. إنما الدافع إلى الحياة المشتركة غريزة مستقلة عن حساب الفرد، ونحن نرى العاطفة تسبق المعرفة في كل ميدان. على أن الأنانية أقوى في الأصل من هذه الغريزة الغيرية، ثم تخضع لها بنمو العقل والتعاطف، وإنما ينمو العقل والتعاطف بالحياة الاجتماعية. وإن الفلسفة الواقعية لتعاون على ذلك بتقريرها أن نمونا كله يتحقق في المجتمع وبوساطته. وحالما يوسع المرء عاطفته حتى تستوعب النوع الإنساني أجمع، يحصل على رضا حاجته للخلود بأن يعتبر بقاء النوع امتدادًا لحياته الخاصة. ومتى وجد المجتمع كان وحدة مؤلفة من أجزاء متفاعلة حتى إن أحدها لا يتغير إلا وتتغير أجزاء أخرى. أجزاء المجتمع أو شروط وجوده طائفتان: مؤسسات ووظائف، أي: شروط موضوعية وشروط ذاتية. ذلك أنه لما كان المجتمع لا يصير ممكنًا إلا بتغلب الغيرية، فقد مست الحاجة إلى ثلاث مؤسسات لتحقيق هذه الغلبة: فأولا ومن حيث الحياة المادية نجد الملكية شرطًا أساسيًّا، إذ إن المالك ينتج أكثر مما يستهلك فيدخر الفرق لفائدة الغير؛ وثانيًا ومن حيث الحياة الأخلاقية نجد الأسرة وهي الوحدة الاجتماعية وأوثق الجماعات حتى إن تسميتها اتحادًا أصح من تسميتها اجتماعًا، فيها تظهر البذور الأولى للاستعدادات التي تعين المجتمع، وفيها يتعلم الفرد أن يجاوز نفسه ويسود التعاطف على الغرائز الشخصية. فهي ضرورية كتمهيد بين الفرد والمجتمع من وجهين: أحدهما أنها تلائم ملاءمة طبيعية بين الطباع والأخلاق المختلفة الناشئة من استعدادات مختلفة, فإن الاجتماع يقتضي تنوع الأفراد واتفاقهم في آن واحد؛ والوجه الآخر هو أن الأسرة هي المدرسة التي تولد فيها العواطف الاجتماعية متمثلة في التضامن الذي يبدو في تعاون الوالدين على تربية البنين، وفي الطاعة تبدو في انصياع البنين لأوامر الوالدين الرامية إلى قمع الأنانية، وفي الاقتصاد يبدو في تدبير التراث العائلي احتياطًا للمستقبل. وثالثًا ومن حيث الحياة العقلية نجد اللغة وسيلة الاتصال بين الأفراد، فيشتركون في الأفكار والعواطف, ويؤلفون رأس مال عقلي كما تجمع الملكية رأس مال مادي. ومما تجب ملاحظته أن الصلة وثيقة بين الأفكار والأخلاق من جهة وبينها وبين المؤسسات من جهة أخرى، بحيث لا يسع أية

سلطة، رجعية كانت أو ثورية، أن تحصل على نتيجة ما بفرض مؤسسات مغايرة للأفكار والأخلاق السائدة، ولئن كانت المؤسسات مصدر تأثير في الأفكار والأخلاق، فإن هذا التأثير يقتضي فترة من الزمن هادئة، ويبدو خاصة في طفولة النوع الإنساني. وأما الوظائف فهي وجوه النشاط المقتضاة للحياة الاجتماعية. ومن هذه الوجهة نجد أن الخاصية الجوهرية لكل مجتمع هي تنوع الأعمال وتناسقها. ولهذه الخاصية أساس هو جملة القوى الاجتماعية من مادية وعقلية وخلقية؛ ولها مدبر هو السلطة، ولها رباط موحد هو الدين. فالقوة المادية تقوم على الكثرة والثروة، وتخص رجال الحرب ورجال الصناعة؛ والقوة العقلية ترجع إلى العلماء والكهنة؛ والقوة الأخلاقية مزية المرأة التي هي أكبر عامل على نمو العواطف الغيرية، إلا أن المرأة لا تزاول هذه القوة إلا في الأسرة بسبب ضعفها الطبيعي؛ والسلطة ضرورية لكل مجتمع؛ والدين ضروري كذلك، وسنتكلم عنه فيما بعد. ج- ومن وجهة الاجتماع المتحرك يمكن رد أقوال كونت فيه إلى أربعة قوانين: الأول قانون التطور نفسه؛ والثلاثة الأخرى خاصة بقوانا الثلاث وهي العقلية والعملية والعاطفية. فأما التطور فخاصية الإنسان لأنه من دون سائر الحيوان حاصل على قوى قادرة على التقدم المتصل. لكن تقدم الإنسانية لا يتجه نحو غاية مطلقة، والفلسفة الواقعية لا تعترف بالمطلق، بل نحو تكامل الحالات المكونة للحياة الاجتماعية، كما يتكامل الجنين بمروره بسلسلة معينة من الحالات وهذا التقدم في تاريخ الإنسانية ضروري مطرد، كما هو شأن كل قانون طبيعي، دون أن يصل أبدًا إلى الكمال المطلق. وأما قانون التقدم العقلي فهو قانون الحالات الثلاث المذكورة آنفًا. وعليه يتمشى التقدم العملي، فإن الحالة اللاهوتية تقابلها حالة عسكرية، وتقوم أهمية هذه الحالة فيما تطبع عليه الناس من نظام واطراد، وهما الشرطان الضروريان لكل كيان سياسي، وفيها تتركز القوى حول غايات مشتركة مسيسة الحاجة، وما كان إلا لقوة خارجية أن تكون الوحدة وتصونها, فالحرب هي التي تتيح النمو للمجتمع في مرحلته الأولى. وتستتبع الحرب الرق لضرورة اضطلاع الرقيق بالأعمال المادية كي يتوفر المحاربون على أعمالهم الحربية، ويقابل الحالة الميتافيزيقية فترة تئول فيها السلطة إلى الفقهاء, فيميلون بالحكم من

الملكية إلى الديمقراطية، وتتحول العسكرية من هجومية إلى دفاعية، ويضعف الروح العسكري شيئًا فشيئًا ويقوى روح الإنتاج، وتحاول الطبقة الوسطى التقدم إلى المحل الأول وتطالب بحقوق سياسية، ويحاول الفقهاء إيجاد التوازن بين الدعاوى المختلفة وهذه حالتنا الراهنة، وهي حالة انتقال غامضة مضطربة. ويقابل الحالة الواقعية الحالة الصناعية، يرجع فيها إلى القوى المنتجة تعيين نظام المؤسسات وتوزيع السلطات، فتحل المسائل الاجتماعية محل المسائل السياسية، ويسير العمال مع ميل الفلسفة الواقعية إلى تقديم الواجبات على الحقوق، حتى يتركز اهتمام الجميع في حل المعضلة الاجتماعية الكبرى التي هي توفير العمل والنمو الروحي للجميع. وأما قانون التقدم العاطفي فيمضي من الأنانية إلى شيء من الغيرية، ثم لا تزال الغيرية تتقدم حتى تسود سيادة تامة تمشيًا مع القانونين الآخرين. فاتحاد الأفراد في الأسرة، واتحاد الأسرة لأجل الحرب، وتعاون الجميع لأجل ازدهار الصناعة، تلك مراحل نمو الغيرية. د- هذا القانون الأخير صلب علم الأخلاق، ولم يكن كونت عالج هذا العلم إلا في الفصل الأخير من علم الاجتماع، ثم اقتنع بأهميته العظمى لتعزيز العاطفة الاجتماعية، واعتزم أن يجعل منه علمًا قائمًا برأسه يكون سابع العلوم الرئيسية، فيصير هو من ثمة أعقد العلوم، وتصير سائر العلوم أجزاء له. وفي رأيه أن المهمة التي يجب على الفلسفة الواقعية أن تعمل لها هي محو فكرة "الحق" الراجعة إلى أصل لاهوتي من حيث أنها تفترض سلطة أعلى من الإنسان، وحصر الأخلاق كلها في فكرة "الواجب" ذلك "الميل الطبيعي إلى إخضاع النزعات الذاتية لصالح النوع أجمع" بحيث يصير شعارنا "الحياة لأجل الغير". إن فكرة الواجب آتية من الروح الاجتماعي الذي تحققه الفلسفة الواقعية, إذ تبين الفرد عضوًا من أعضاء النوع، وتستنبط قوانين سيرته من النظام الكلي للأشياء لا من مصلحته الخاصة فحسب. وأرفع المعاني في ميدان الأخلاق معنى الإنسانية بما هي كذلك، أي: الإنسانية التي يتوقف تقدمها على تضافر الأفراد والجماعات، والعلم الواقعي مفيد جدا لعلم الأخلاق, إذ من المهم جدا تعيين مبلغ التأثير المباشر وغير المباشر لكل ميل, وكل فعل في الحياة الفردية والاجتماعية.

146 - مذهبه 4 - ديانة الإنسانية: أ- خطا كونت خطوة أوسع فبلغ إلى الدين, إنه ينعت دينه بالواقعي. والحقيقة أن هذا الدين يكاد يكون كله ثمرة العاطفة والخيال في تكوينه والإحساس به. كان فيلسوفنا قد وضع العقل في المحل الأول يستكشف قوانين الوجود ويؤثر في العاطفة, فيحدث أخلاقا ومؤسسات اجتماعية؛ وها هو ذا الآن يرى أن قيمة العقل تنحصر في نتائجه العملية، وأن هذه النتائج تتوقف على الظروف الخارجية في حين أن العاطفة توفر لنا رضًا باطنًا مباشرًا، فيقدم العاطفة إلى المحل الأول ويطلب إليها إنارة العقل فينتهي إلى مثل الحالة اللاهوتية التي اعتبرها طفولة النوع الإنساني؛ حتى إنه يتبع في ذلك منهجًا يخالف المنهج العلمي, فينقطع عن كل جديد في العلم والأدب ويتوفر على الموسيقى والشعر الإيطالي والأسباني، ويطالع كتاب "التشبه بالمسيح" فيستبدل الإنسانية بالله في كل موضع منه ويستعين به على تعمق فكرة الإنسانية والإخلاص لها على مثال الصوفيين، ويلزم من ذلك تقدم الفن على العلم من حيث إن مصدر الفن العاطفة, وإن الفن يصور مثلًا عليا تهذب أفكارنا وغرائزنا. وقد حدا هذا الموقف ببعض تلاميذه الأقربين إلى اعتزاله وعده خارجًا على الفلسفة الواقعية الخالصة. بيد أن من الحق أن نذكر أن علم الاجتماع الساكن قد عد الدين أحد الأوضاع الملازمة للمجتمع، وأنه كان من المتعين على كونت الاحتفاظ به مع الملاءمة بينه وبين المذهب الواقعي، فلا يمكن أن يقال: إن الدين خاطر طارئ على فكره أثارته الأزمة العصبية الثانية. ولسنا ندري على أية صورة كان يجيء الدين المتسق مع العقل الواقعي. أما الصورة التي رسمها كونت فنجملها فيما يلي: ب- الدين خاصية النوع الإنساني, وتعريفه أنه المبدأ الأكبر الموحد لجميع قوى الفرد ولجميع الأفراد فيما بينهم، وذلك بنصب غاية واحدة لجميع الأفعال. وقد سبق القول: إن معنى الإنسانية أرفع المعاني من الوجهة الذاتية، وإنه هو الذي يكفل وحدة المعرفة, إذ تحصل هذه الوحدة بالنظر إلى العالم من حيث علاقاته بالإنسانية. وهذا المعنى واقعي ينطق به التاريخ، فليس يوجد الفرد إلا بفضل الماضي، وليس يستمد أسباب الحياة المادية والعقلية والخلقية إلا من الإنسانية،

بحيث نستطيع أن نقول: إن الأموات أحياء أكثر من الأحياء أنفسهم. فديانة الإنسانية عبادة الإنسانية باعتبارها "الموجود الأعظم" الذي تشارك فيه الموجودات الماضية والحاضرة والمستقبلة المساهمة في تقدم بني الإنسان وسعادتهم. والعبادة مشتركة وفردية: تقوم المشتركة في أعياد تذكارية تكريمًا للمحسنين إلى الإنسانية، فيملؤها السرور وعرفان الجميل. وقد وضع كونت "تقويمًا واقعيًّا" دل فيه على كل يوم وكل شهر بأسماء الرجال الذين امتازوا بالعمل على تقدم الإنسانية. وفي العبادة الفردية يتخذ الأشخاص الأعزاء على الفرد نماذج للمثل الأعلى. ولما كانت كرامة الفرد تقوم في كونه جزءًا من "الموجود الأعظم" كان واجبه أن يوجه جميع أفكاره وأفعاله إلى صيانة هذا الموجود وإبلاغه حد الكمال، وهكذا تنطوي الغيرية على الواجب الأعظم, وعلى السعادة العظمى جميعًا. ج- ويعهد بتدبير العبادة التربية إلى هيئة إكليريكية, أعضاؤها فلاسفة شعراء أطباء معًا، مهمتهم استكشاف ما يكفل خير "الموجود الأعظم" وتحقيق ما حققته الكنيسة في العصر الوسيط, أو أرادت تحقيقه من أفكار جليلة عميقة. ولما كانت "الواقعية" قد تحررت من الأوهام القديمة فلا بأس عليها أن تعود إلى التصور الفيتشي للطبيعة فتضيف إلى الأشياء نفسًا وحياة؛ وهذه الإضافة مصدر قوة للغة والفن وكل ما من شأنه أن يفيد في بقاء "الموجود الأعظم" ونمائه، وتعتبر السماء أو الهواء "الوسط الأعظم" الذي تكونت فيه الأرض التي هي "الفيتش الأعظم" فيؤلفان مع "الوجود الأعظم" الثالوث الواقعي. وبعد الفلاسفة الذين هم بمثابة الدماغ من الجسم، يأتي النساء وهن بمثابة أعضاء العاطفة، وواجبهن إثارة عواطف الحنان والغيرية الكفيلة باستكمال "الموجود الأعظم". وبعدهن يجيء رجال الصناعة والمال وهم بمثابة أعضاء التغذية. وأخيرًا: يجيء العمال وهم بمثابة أعضاء الحركة. د- تلك هي ديانة الإنسانية مسخ بها كونت الديانة المسيحية، ونصب نفسه كاهنها الأكبر، ووضع لها شعارًا: المحبة كمبدأ، والنظام كأساس، والتقدم كغاية. فكان له بعض الأشياع في فرنسا وإنجلترا والسويد وأمريكا الشمالية والجنوبية، تبعوا في كل بلد كاهنًا أكبر وأقاموا معابد. ولا نظننا بحاجة إلى التنبيه على غرابتها وتهافتها، ولا على ضعف النظرية الأساسية في المذهب وهي

نظرية الحالات الثلاث. فقد أقر كونت أن الرياضيات وجدت واقعية أول ما وجدت، وقليل من التفكير يدلنا على أن الإنسان ما كان بقي على سطح الأرض لو لم يتعرف خصائص الأشياء منذ أول أمره فيفيد من النافع, ويحتاط للضار ويصطنع الأسلحة والآلات. فالحالات الثلاث أولى بها أن تكون متعاصرة متلازمة مع تفاوت فيما بينها في كل عصر وكل فرد؛ وأن يكون لكل منها قيمة. ولكن كونت اقتنع بنسبية المعرفة ورأى أن يبررها بهذه النظرية، وبهره العلم التجريبي فحصر فيه كل الحقيقة وجاءت فلسفته الواقعية هي الفلسفة المادية بالرغم من تحفظه, إذ إنها تؤدي إلى النتيجة نفسها وهي إنكار الميتافيزيقا. ونحن نقصر فضل كونت على طائفة كبيرة من الأفكار الجزئية العميقة في العلوم والاجتماع. 147 - جوزيف برودون " 1809 - 1865 ": أ- نختتم هذا الفصل بذكر اثنين من الاشتراكيين أرادا أن ينظما المجتمع تنظيمًا واقعيًّا. أولهما برودون كان عامل طباعة ولكنه تثقف بالقراءة الكثيرة، ثم كتب، فجاءت كتاباته مزيجًا يعوزه الوضوح والانسجام من ملخصات قراءاته ومن آراء خاصة. أهم كتبه "ما الملكية؟ " " 1840 " و"خلق النظام في الإنسانية" " 1843 " و"المتناقضات الاقتصادية" " 1846 " و"العدالة في الثورة الفرنسية وفي الكنيسة" " 1858 " و"الحرب والسلم" " 1861 ". وهو ينتقد فيها على السواء مذهب الحرية والمذهب الشيوعي؛ يقول: إن الحرب ضرب من حكم الله ويشيد بالسلم؛ يحمل على الاستبداد ولا يؤمن بالاقتراع العام. ب- مذهبه الخاص قائم على فكرة العدالة. وهو يعرفها بأنها "حقيقة كلية تتجلى في الطبيعة بقانون التوازن، وفي المجتمع بتبادل أساسه تساوي الأشخاص". ومن فكرة العدالة هذه يستنبط نظاما اقتصاديا يسميه "التعاون" أو "التبادل" ويرجو تحقيقه حين يصل العمال إلى السلطة بفضل الاقتراع العام, فيديرون المشروعات والمصارف وغيرها من المؤسسات الاجتماعية بحيث يجعلون لكل عمل مكافأة من جنسه أي: على قدره؛ فإن الواجب على كل إنسان أن يعمل لكي يعيش ويحق له أن يقتني ملكًا بنتاج عمله، والملكية سبب من أسباب الحرية، ولكن كل ثروة أو كل ملكية تجيء من غير طريق العمل هي سرقة، كالفائدة

على رأس المال، فإن المال عقيم بطبيعته فلا ينبغي أن ينتج ربحًا يتيح لصاحبه الحياة بلا عمل؛ إن هذا تناقض وإنه منافٍ للعدالة. هكذا كان قد قال أرسطو والمدرسيون، ويوجد عند برودون أفكار أخرى محافظة، مثل أن الزواج عقد غير قابل للفسخ؛ لأنه عبارة عن التوحيد بن الزوجين. وقد كان له أثر عميق في الحركة النقابية والحركة التعاونية والحركة السلمية. 148 - لويس بلان " 1811 - 1886 ": ثوري ساهم في ثورة 1848 , وأسس "مصانع قومية" أخفقت وأدى إخفاقها إلى اضطرابات دموية. هذه المصانع كانت تطبيقا لمذهب بسطه في كتيبين: أحدهما في "تنظيم العمل" " 1846 " والآخر في "الحق في العمل". ويرجع مذهبه إلى ما يأتي: لكل إنسان حق طبيعي في أن يحيا, ولا يتحقق هذا الحق إلا بإحدى وسيلتين هما الملكية الخاصة والعمل. أما الملكية الخاصة فيستغلها في المجتمع الرأسمالي نفر من الأغنياء يركزون الثروات في أيديهم, ولا يدعون للسواد سوى العمل بأجور دنيئة مع التعرض للعطلة، فيحرمونهم فعلا حقهم في الحياة. والعلاج الوحيد لهذه الحالة هو أن تتملك الدولة جميع الموارد فتوفر عملًا لكل مواطن وتوزع النتاج على الجميع بالقسطاس. وهذه هي الشيوعية, ولا يدري أصحابها أنها تجر مساوئ هي شر من مساوئ الرأسمالية.

المقالة الثالثة: الفلسفة في إنجلترا

المقالة الثالثة: الفلسفة في إنجلترا مدخل ... المقالة الثالثة: الفلسفة في إنجلترا 149 - تمهيد: في هذه الفترة التي نؤرخ لها لا نجد في إنجلترا سوى ممثلين اثنين للمذهب الحسي: أحدهما بنتام, وهو يقصر عنايته على الأخلاق والاجتماع؛ والآخر جيمس مل يعالج علم النفس التجريبي. وإلى جانب هذا الجدب في الفلسفة القومية نجد تأثير الألمان يبعث حركة روحية معارضة لها، فيصطنع بعض الأدباء, وأشهرهم كولريدج وكارليل، الرومانتية ووحدة الوجود، ويؤلف السر وليم هاملتون مذهبًا نقديًّا يشبه بعض الشبه مذهب كنط. وهكذا أتاح اللقاح الألماني للفكر الإنجليزي ما لم تكن تسمح به فلسفته القديمة من قوة وعمق نسبيين كما يتضح من الفصول الثلاثة الآتية.

الفصل الأول: المذهب الحسي

الفصل الأول: المذهب الحسي 150 - إرميا بنتام " 1748 - 1832 ": أ- اعتنق المذهب النفعي، وطبقه في كتابه "المدخل إلى مبادئ الأخلاق والتشريع" " 1789 ". ووضع مشروعًا لسجن نموذجي " 1802 " وأنشأ مجلة "وستمنستر" " 1824 " للدعوة إلى الإصلاح الدستوري، وكون حزبًا لهذا الغرض، فكان لدعوته أثر كبير في السياسة الإنجليزية، وتم الإصلاح المنشود في سنة وفاته. ودون مذكرات في "المكافأة" وأخرى في "المعاقبة" وأعطاها إلى صديق فرنسي هو إيتين ديمون, حررها بلغته ونشرها في كتابين نقلًا إلى الإنجليزية, ونشر الأول سنة 1825 والثاني سنة 1830. وترك لأحد أتباعه مذكرات نشرت بعد وفاته بسنتين بعنوان علم "الأخلاق" deontology. ب- مذهبه أن الناس يطلبون اللذة ويجتنبون الألم بالطبع، شأنهم في ذلك شأن الحيوان، ولكنهم يمتازون على الحيوان بأنهم يتبعون مبدأ النفعية حيثما يعملوا العقل، أي: إنهم يحكمون بأن الفعل الخير هو الذي يعود بلذة مستمرة أو الذي تزيد فيه اللذة على الألم، وأن الفعل الشرير هو الذي يعود بألم مستمر أو الذي يزيد فيه الألم على اللذة. ولا يمنع من الإقرار بهذا المبدأ سوى الأحكام المتواترة وبنوع خاص العقائد الدينية. فالمطلوب التدليل على أن الأخذ به يعود بأكبر قدر من اللذة أو السعادة التي هي مقصد الكل. ولكي يحكم العقل يجب تقدير اللذات بجميع ظروفها والموازنة بينها. تقاس اللذات أولا من جهة صفاتها الذاتية، وهي: الشدة والمدة والثبات وقرب المنال والخصب "أي: القدرة على إنتاج لذات أخرى" والنقاء "أي: خلوها من أسباب الألم". وتقاس ثانيًا من جهة عواقبها الاجتماعية, وهي: الخوف الذي يستولي على المواطنين من جراء الجريمة، والقدوة السيئة التي تنشرها بينهم، والاضطراب الاجتماعي الذي تسببه، والقصاص الذي ينزل بالمجرم، فإن القصاص عنصر يدخل في حساب الآلام ويعارض لذة

الفعل فيميل بالمرء إلى اتباع القوانين التي يراها المشرع نافعة لأكبر عدد، كما أن المكافأة وإقرار المواطنين وثناءهم تحمل على ذلك أيضًا مع ما فيه من حرمان, وهذه العواقب هامة جدًّا يجب على الفرد مراعاتها؛ لأن منفعة المجموع شاملة للمنافع الفردية ومن ثمة مقدمة عليها؛ ولذا كانت الغاية التي يتعين علينا السعي لتحقيقها هي "أكبر سعادة لأكبر عدد". وهذا هو العلم الجديد الذي يأتي به بنتام ويسميه بالحساب الخلقي لإجادة الاختيار بين اللذات، ويعتقد أنه يحول به علم الأخلاق وعلم التشريع إلى علمين مضبوطين كالرياضيات، ويعول في التوحيد بين النفع الذاتي والنفع العام على الجزاء الطبيعي للفعل والجزاء القانوني والجزاء الاجتماعي. ج- وما هذا المذهب إلا مذهب أبيقور وهوبس ومن لف لفّهما. وقد كان أفلاطون فطن إلى حساب اللذات والآلام، ولكنه لم يعتبره حسابًا كميًّا مثل بنتام، ولم يرد الخلقية إلى النفعية مثله. إن اللذة والألم يرجعان إلى الكيف لا إلى الكم، ويستحيل قياس القيمة الذاتية للذة ما باعتبار الكم، ويستحيل الموازنة بين لذتين من نوع واحد كلذة التفاح ولذة الخوخ، ويستحيل من باب أولى الموازنة بين لذتين مختلفتين بالنوع، ولا سيما إذا كانت إحداهما حسية والأخرى عقلية أو فنية. كذلك لا يوجد قياس مشترك بين قرب المنال والنقاء، أو بين الشدة والمدة، إلى غير ذلك من خصائص اللذة التي يمتنع اجتماعها للذة بعينها، وإنما يتفق بعضها للذة وبعض آخر للذة أخرى، وهكذا بحيث تمتنع المضاهاة ويمتنع الاختيار. 151 - جيمس مل " 1773 - 1836 ": أ- أسكتلندي أخذ عن دوجالد ستوارت بجامعة أدنبري, ثم كان مؤدبًا في أسرة اللورد جون ستوارت, وفي الثلاثين صحبه إلى لندن وأخذ ينشر بعض الرسائل. ثم نشر تاريخ "الهند البريطانية" " 1718 " نقد فيه حكومة شركة الهند نقدًا عسيرًا. ولما خلا فيها منصب تقدم له فعين فيه للإفادة من معارفه، وترقى إلى منصب رفيع أكسبه نفوذًا كبيرًا على حكومة الهند. وعرف بنتام وشاركه في مجلته وفي نضاله الدستوري. وكان إلى جانب ذلك يواصل النظر في

الفلسفة حتى نشر كتابه "تحليل ظواهر الفكر الإنساني" " 1829 " وقد عرض فيه مذهب تداعي المعاني على صورة أوضح, وبمادة أغزر مما جاء عند أراسم درون وديفيد هارتلي اللذين أوحيا به إليه. ب- في هذا الكتاب يتصور الفكر كما يتصور الآليون الطبيعة؛ فإن هؤلاء يقولون: إن الطبيعة مؤلفة من ذرات تأتلف فتكون الأجسام، ويقول هو: إن الفكر مؤلف من عناصر بسيطة "نقط شعورية" هي الإحساسات والانفعالات الأولية تأتلف تبعًا لقانون الترابط بالتقارن, فتكون سائر الظواهر الفكرية. وقانون التقارن هو القانون الوحيد للفكر، وليس الترابط بالتشابه قانونًا أصيلًا ولكنه يرد إلى الترابط بالتقارن, فالحياة الفكرية خاضعة للآلية، وقوة الترابط تابعة بنوع خاص لقوة ما تهيجه الإحساسات من انفعالات ولتواتر الترابط. وحين يتوثق الائتلاف تتكون في الفكر التصديقات, ولهذه الذرية الفكرية تطبيقاتها في المنطق والأخلاق والتربية؛ فبالتشريع والتربية يمكن تثبيت الروابط التي يراد أن تسيطر على الإنسان؛ وبالنظر في الأخطاء المتواترة ندرك أنها ناشئة عن الترابط, فنتحرر منها ونعمل على أن نحل محلها بالترابط أيضًا آراء جديدة. وهنا يبدو قصور المذهب الحسي، فإنه يلجأ إلى الفعل الشخصي بعد استبعاده من النفس، ولا يدل على قيمة خاصة للآراء الجديدة تفضل بها الآراء القديمة ما دامت كلها وليدة الترابط، فلا يبرر مبادئ النظر وقواعد العمل.

الفصل الثاني: الرومانتية

الفصل الثاني: الرومانتية 152 - كولريدج " 1772 - 1834 ": شاعر وواعظ نشر في إنجلترا أدب الرومانتيين الألمان وفلسفتهم، فأثار في الشبيبة أفكارًا جديدة وحماسة جديدة. كان في شبابه على مذهب هيوم وهارتلي، ثم اقتنع بوحدة الفكر وفاعليته، فنفر من محاولات الحسيين لرد الظواهر الروحية إلى الوظائف الدنيا وتطبيق الآلية على الحياة الخلقية، وصرفته دراسة الفلسفة الألمانية عن الفلسفة الإنجليزية، فعارض القول بالتجربة بالقول بالحدس، وعارض التحليل بالتركيب. ولعله تأثر بأفلوطين أكثر مما تأثر بالألمان، فإنه يميز مع الأفلاطونيين بين الفهم والعقل، ويجعل من الفهم قوة استدلالية تركب ما تتلقاه من التجربة وتقف عند هذا الحد، ومن العقل قوة حدسية تقدم مبادئ التركيب وتكشف عن صميم الأشياء. وباعتبار هذه الوجهة الثانية يسمي العقل بالعملي لاعتقاده أن العقل العملي عند كنط وفختي يستكنه الجواهر. وقد استخدم هذا التمييز بين الفهم والعقل للدفاع عن الدين، فقال: إن الاعتراضات التي كان هيوم وفولتير وأضرابهما يعتبرونها قاطعة، ترجع إلى الفهم ويبددها العقل. وهو يفسر عقيدة الثالوث بالقضية ونقيضها والمركب منهما! بل يضع رابوعًا بأن يقدم على هذه الحدود الثلاثة أساسًا لها هو "الله الإرادة المطلقة أو الوحدة المطلقة"! على أن الدين عنده لم يكن الدين السلفي, بل جملة من الصور والعواطف تولد فيه نشوة لا أكثر, وكان ضعيف الخلق لم يستطع السيطرة على سيرته. 153 - كارليل " 1795 - 1881 ": صاحب كتاب "الأبطال والبطولة". كان مؤمنًا في حداثته، ثم قرأ هيوم وغيره من الشكاك فتبدد إيمانه واعتبر العالم آلة صماء. وفيما هو عاكف على دراسة الرياضيات قرأ شيلر وجوتي وفختي فتغير موقفه. لم يعد العالم في نظره "دكان بضائع" بل انقلب معبدًا؛ ولم يعد العقل مصدر المعرفة الحقة

بل صار القلب ذلك المصدر. رأى أن الشك والنفي مرتبطان بالاستدلال العقلي، وأن المادية والإلحاد والنفعية مذاهب نافية لا تتناول إلا الظاهر، وأن الموقف الطبيعي هو الإيجاب والإيمان. إن محاولة البرهنة بالعقل على وجود الله بمثابة محاولة إضاءة الشمس بمصباح! العالم "ثوب الله" ورمز لمعانٍ تستعصي على المنهج العلمي. إن العلم يتصور الطبيعة دون أن يحسب حسابًا لمعناها، والآلية "فلسفة الثياب". أما الفلسفة الحقة فهي جهاد مستمر ضد العادة التي تجعلنا نتخذ من الظواهر جواهر فتحجب عنا بها الأشياء, والإنسان هو الرمز الأكبر. لقد اعتقد لوك وأتباعه أن العقل مجرد آلة تفكر وآلة تعمل بدافع اللذة والألم والمنفعة وحساب الربح والخسارة، بينما الإنسان حياة خلقية تنبعث من ميل النفس إلى إرضاء مثلها العليا. إن الأخلاق النفعية تغلو في أهمية التفكير الواعي، ولا تفطن إلى أن كل أمر جليل إنما يولد وينمو من تلقاء نفسه. ولكل أن يجد رمزه وديانته: "لست أقصد بالديانة الإيمان الكنسي، بل ما يعتقده بالفعل كل إنسان بصدد علاقاته الباطنة بهذا الكون الخفي" ما دام الفاعل فينا وفي الخارج قوة إلهية. وإن هذه القوة اللامتناهية تبدو بصفة خاصة في الإنسان، وبصفة أخص في الإنسان العظيم "كما يقول فختي". فيجب أن تقوم الحياة الروحية والاجتماعية على تكريم الأبطال أي: عظماء الرجال، وهكذا كانت قائمة في الماضي. عظماء الرجال خالقو ما يحاول سواد البشر تحقيقه؛ لذا كان تاريخهم روح التاريخ العام. ونحن الآن أحوج ما يكون بنو الإنسان للأبطال أي: لأرستقراطية مستنيرة تقودنا، وليس هناك من معنى للحرية والمراقبة الشعبية والديمقراطية. إن جمهرة الإنسانية بحاجة إلى نظام من حديد، ويجب أن تكون فضيلتها الوحيدة طاعة القانون.

الفصل الثالث: فلسفة النسبية

الفصل الثالث: فلسفة النسبية 154 - وليم هملتون " 1788 - 1856 ": أ- ولد بجلاسكو وتخرج في جامعتها وفي جامعة أكسفورد. عين أستاذًا للقانون الأسكتلندي والقانون المدني بجامعة أدنبرى، فأستاذًا للفلسفة بها " 1836 " وشغل هذا المنصب إلى وفاته. كان قد نشر في "مجلة أدنبرى" ثلاث مقالات فلسفية تشتمل على لب مذهبه: الأولى "فلسفة اللامشروط" " 1829 " والثانية "فلسفة الإدراك الظاهري" " 1830 " والثالثة "المنطق" " 1833 " وقد جمعت فيما بعد في كتاب عنوانه "مناقشات في الفلسفة". ونشرت دروسه الفلسفية بجامعة أدنبرى في مؤلفين: "دروس فيما بعد الطبيعة" في مجلدين، و"دروس في المنطق" في مجلدين. ونحن نقتصر هنا على عرض رأيه في اللامشروط ورأيه في الإدراك؛ أما المنطق فأهم أثر له فيه نظريته في تكميم المحمول وهي معروفة مبسوطة في جميع الكتب المنطقية المعاصرة؛ ونحن لا نوافقه عليها؛ ويطول بنا القول إذا أردنا مناقشتها. ب- يرجع مذهبه إلى منبعين: المدرسة الأسكتلندية وكنط؛ وهو أقرب إلى الأول منه إلى الثاني. والمحور الذي يدور عليه هو أن "التفكير شرط" أي: إن المعرفة نسبية، وذلك من ثلاثة وجوه: فإنها تقوم في نسبة بين حدين يجمع بينهما في الحكم، ونسبة بين ذات عارفة وموضوع معروف يحد أحدهما الآخر، ونسبة بين جوهر وعرض فيدرك الجوهر بالعرض ويدرك العرض بالنسبة إلى الجوهر سواء أكان العرض ذاتيا للجوهر أو خارجيا كالزمان والمكان. هذه النسب قوام التفكير إذا حاولنا رفعها محونا كل معرفة ووقعنا في الوحدة المطلقة. فكل ما هو مدرك مشروط أي: نسبي، واللامشروط أو المطلق لامدرك سواء أكان كلًّا أو جزءًا، فإن أي كل فهو دائمًا بالنسبة إلينا جزء لكل أكبر، وإن أي جزء فيمكن أن يتصور قابلًا للقسمة فيكون من ثمة كلا. فلا أساس لزعم شلنج وكوزان أننا ندرك المطلق؛ وإلى الرد عليهما قصد هملتون بنوع خاص.

ج- أما المشروط أو النسبي فمدرك إدراكًا موضوعيًّا، إذ "لا يمكن أن تكون طبيعتنا كاذبة في أصلها" وإني "في أبسط إدراك أشعر بنفسي كذات مدركة, وأشعر بشيء خارجي كموضوع مدرك". فنقد كنط لعلم النفس النظري غير مقبول؛ صحيح أن الشعور شرط الظواهر الباطنة، ولكنه هو ظاهرة، فيجب أن يكون وراءه شيء, ويجب أن يكون هذا الشيء مختلفًا عما وراء الظواهر المادية, غير أن هذا يذهب فقط إلى أن الأشياء موجودة في الخارج بكيفياتها الأولية؛ أما الكيفيات الثانوية فتحدثها الأشياء فينا بقوى لها. فنحن لا ندرك الأشياء في أنفسها من حيث إننا بعيدون عنها، وإنما ندركها في تأثيرها الواقع على حواسنا: ندرك الشمس مثلا بوساطة الأشعة الواصلة إلى العين، وندرك وجود العالم الخارجي على العموم بفضل مقاومته لفعلنا العضلي. وعلى هذا يكون الإدراك مباشرًا ولكنه إدراك آثار الأشياء في الحس. وهذا موقف يختلف عن موقف ريد وعن موقف كنط وأتباعه. د- متى كانت معرفتنا نسبية لزم أننا لا ندري شيئًا عن المطلق، بل لعلنا لا ندري إن كان موجودًا أو غير موجود. بيد أن هملتون يجد بابًا للولوج إليه فيقول: إن أي موضوع معروف فهو جزء من حيث إنه مشروط، ومن ثمة هو مردود إلى لامشروط، وهذه النسبة تخرجنا من حدود معرفتنا وتجعلنا نثبت وجود المطلق. فإذا سألنا أنفسنا: هل هو متناهٍ أو غير متناهٍ؟ وجدنا أنفسنا بين حدين متقابلين، ومبدأ الثالث المرفوع يقضي بأن أحد الحدين المتقابلين صادق بالضرورة، خلافًا لرأي كنط في المتقابلات, فما سبيلنا إلى تعيين جانب الصدق ههنا؟ لا سبيل سوى الاختيار لأن هذه المسألة تجاوز حدود الفكر، وليس يتم مثل هذا الاختيار إلا بناء على أسباب خلقية، فنقول: إننا بحاجة إلى موجود غير متناه يستطيع أن يحفظ روحنا. ثم بوسعنا أن نخطو خطوة أخرى فنتصور المطلق بالمماثلة بنا، ونتصور العلاقة بينه وبين العالم على مثال العلاقة بين أنفسنا وجسمنا. وهكذا ننتقل من الفلسفة إلى اللاهوت، فإن نهاية الفلسفة بداية اللاهوت. هـ- وهكذا يخالف هملتون مبدأ فلسفته، فما كان أحراه أن يحتاط في المبدأ للنتيجة! فبعد أن عرف المعرفة بالنسبية ظن أن بإمكانه القول بالمطلق ووضع علاقة بينه وبين النسبي دون أن يفطن إلى أن المطلق يصير بهذه العلاقة مشروطًا نسبيًّا بموجب تعريفه! إن الرد على شلنج وأضرابه لا يحتاج إلى جعل المعرفة الإنسانية

نسبية إطلاقًا، بل إلى بيان أن ليس لدينا في الواقع مثل الحدس الذي يزعمون, وإن إثبات اللانهاية للمطلق لا يحتاج إلى ذلك الاختيار الخلقي الذي سبق به هملتون أصحاب البراجماتزم, بل يتوسل إليه بالاستدلال العقلي. فلو أن هملتون ميز منذ البداية بين "التصور بنسبة" وبين "الحكم على موضوع بأنه نسبي أو مطلق" إذن لرأى أن بإمكاننا إثبات وجود المطلق وصفاته بالاستدلال دون أن يكون للمنهج الاستدلالي أي أثر في قيمة أحكامنا؛ فإننا إن قلنا: إن العالم يقتضي علة أولى، وإن العلة الأولى مطلقة، وإن المطلق غير متناه، كانت هذه الأحكام صادقة ولم تصر العلة الأولى المطلقة شيئًا نسبيًّا بسبب دخولها في نسبة الحكم. وهذا غلط وقع فيه غير واحد من الفلاسفة المحدثين لأنهم اتخذوا من علم النفس أساسًا للفلسفة, فتصوروا الأشياء في أنفسها على مثال شعورنا بها أو منهجنا في إدراكها. 155 - منسل " 1820 - 1879 ": تلميذ هملتون، وأستاذ بأكسفورد، وكبير قساوسة كنيسة سنت بول. كتابه "حدود الفكر الديني" " 1858 " يستند إلى قول هملتون: إن معرفتنا لا تبلغ إلى المطلق ويرتب عليه امتناع إقامة لاهوت عقلي؛ ويذهب في الوقت نفسه إلى أن العلم ما دام نسبيًّا فهو لا يملك الاعتراض على الوحي؛ وإن الصعوبات والمتناقضات ليست ناشئة من الوحي, بل من حدود العقل الذي يزعم مع ذلك الخوض في المطلق على حين أن حدوده تدل على أن شيئًا قد يوجد ويكون فوق متناوله, فما لا نستطيع فهمه يجب علينا الإيمان به. يجب الإيمان بشخصية الله ولو بدا لنا تناقض بين الحدين من حيث إن الشخصية تفترض التعيين والحد, وإن الله مطلق من كل حد وتعيين. ويجب علينا الإيمان بعقيدة النعمة الإلهية وبعقيدة القصاص الأبدي ولو بدا لنا أنهما متنافران وأن المحبة والعدالة فينا تأبيان القصاص إلى الأبد. إننا نرى الجزء ولا نرى الكل، فلا يسوغ لنا أن نتصور الله بوساطة صفاتنا وأخلاقنا فإن هذه لازمة من طبيعتنا المحدودة ولا تنقل إلى الله بأي حال. وعلى هذا يكون منسل أشد استمساكًا بمبدأ النسبية من أستاذه، وهو يدلنا على أن النتيجة المنطقية لهذا المبدأ إنكار المطلق أو على الأقل تجاهله، إلا أن نكون متدينين من جهة أخرى فنعول على الإيمان الأعمى. ويرجع الاختيار بين هذين الموقفين إلى المزاج الشخصي، وما أعظم أثر المزاج الشخصي عند الفلاسفة المحدثين!

الباب الخامس: مادية وروحية النصف الثاني من القرن التاسع عشر

الباب الخامس: مادية وروحية النصف الثاني من القرن التاسع عشر مدخل ... الباب الخامس: مادية وروحية "النصف الثاني من القرن التاسع عشر" 156 - تمهيد: لقد تعارضت المادية والروحية في كل عصر، ولكن لعل هذا التعارض لم يبلغ من الشدة في وقت ما مبلغه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فكان الطابع الذي يميزه. وهنا أيضًا الفلاسفة كثير، فنقسم الكلام عليهم إلى ثلاث مقالات. في المقالة الأولى نتكلم عن الفلسفة الإنجليزية وقد استعادت قسطًا كبيرًا من الأهمية والنفوذ، فنرى فريقًا من رجالها يأخذون بالمذهب الحسي ويطبقونه على أنحاء شتى: فيضع جون ستوارت مل منطقًا مطابقًا له، ويفصل ألكسندر بين أصوله وفروعه في علم النفس، ويقيم له دروين أساسا بيولوجيا إذ يزعم التدليل على تطور الأنواع الحية من أدنى إلى أعلى، ويشيد منه سبنسر فلسفة شاملة تستوعب جميع العلوم، على حين تزدهر حركة دينية قوامها الفلسفة الهجلية. وفي المقالة الثانية نرى الفلسفة الفرنسية ماضية في الاتجاهين السابقين: الاتجاه الواقعي دونما تجديد أو ابتكار، والاتجاه الروحي يعمل أصحابه على الحد من سلطان الآلية في الطبيعة لضمان الحرية الإنسانية. وفي المقالة الثالثة نرى الفلسفة الألمانية تسير في التيار الكنطي من جهة، وتناصر مذهب التطور والمادية الإلحادية من جهة، وتحاول جعل علم النفس علمًا تجريبيًّا مضبوطًا من جهة.

المقالة الأولى: الفلسفة في إنجلترا

المقالة الأولى: الفلسفة في إنجلترا الفصل الأول: جون ستوارت مل " 1806 - 1873 " 157 - حياته ومصنفاته: أ- هو ابن جيمس مل " 151 " وقد دعاه أبوه جون ستوارت باسم اللورد الذي كان مؤدبًا في أسرته. ثقفه أبوه بنفسه، فأبدأه اليونانية في الثالثة من عمره, وما بلغ الثامنة حتى كان يقرأ هيرودوت ومذكرات سقراط لأكسانوفون وتراجم الفلاسفة لديوجين لايرث بل بعض محاورات أفلاطون. وقد قال هو: إن كل هذا كان متيسرًا. ثم أخذ يتعلم اللاتينية والحساب إلى جانب لغته طبعًا. ثم قرأ التاريخ العام في كتب مفصلة، وهذا أدعى إلى فهمه وحفظه من المختصرات التي تعلم في المدارس. وبعد دراسة قسم كبير من الأدبين اليوناني واللاتيني شرع يدرس المنطق بنفسه، وكان يراجع أباه فيه أثناء النزهة كما كان يفعل في سائر المواد. ثم قرأ كتبا في الاقتصاد السياسي، ودرس ديموستين وأفلاطون، وفي الثامنة عشرة قرأ الكتب الأربعة الأولى من منطق أرسطو ولخصها. ودرس القانون، وقرأ كتب بنتام وكوندياك ولوك وهلفسيوس وهيوم والأسكتلنديين, فجمع لأبيه كثيرًا من المواد لكتابه "تحليل الفكر الإنساني". وانضم إلى فريق الشباب الذين كانوا يعملون على نشر أفكار بنتام وجيمس مل الفلسفية والسياسية ومذهب هارتلي في تداعي المعاني. وكان قد دخل في خدمة شركة الهند الشرقية منذ السابعة عشرة, فترقى في مناصبها حتى بلغ آخر منصب شغله أبوه, فكان يقوم بأعماله العقلية في أوقات فراغه. وانتخب عضوًا بمجلس النواب سنة 1865 وبقي فيه ثلاث

سنين كان خلالها موضع تقدير كبير, ولكن خصومه أخذوا عليه آراءه في الدين فلم يجدد انتخابه. ب- كتب كثيرًا في المجلات والجرائد، ومنها مجلة "وستمنستر" التي كان يحررها بنتام وجيمس مل. وقد جمع مقالاته الكبرى في عدة مجلدات بعنوان "مقالات ومناقشات". ونشر كتبًا عدة نذكر أهمها: كتاب "المنطق القياسي والاستقرائي" " 1843 " كان له صدى كبير في أوروبا؛ و"مبادئ الاقتصاد السياسي" " 1848 " يجعل فيه من هذا العلم جزءًا من علم الاجتماع، ويعرف ما في الاشتراكية من وجه حق و"مقال في الحرية" " 1859 " يدافع فيه عن الحرية الشخصية متابعًا الميل العام في إنجلترا ومتأثرًا بفرنسا، فقد كان قضى فيها سنة " 1820 - 1821 " فأحبها وأحب أدبها، ولما شبت فيها ثورة 1830 قصد إلى باريس وأعجب بما رآه من روح النهضة الاجتماعية عند رجالها الإصلاحيين؛ وكتاب "في النفعية" " 1861 " يدافع فيه عن مبدأ المنفعة في العمل ويعرض لتصحيح مذهب بنتام وتكميله؛ و"مراجعة فلسفة هاملتون" " 1865 " ينقد فيها المذهب الحدسي؛ و"أوجست كونت والفلسفة الواقعية" " 1865 " تعقيب على الفيلسوف الفرنسي يقبل آراءه في المعرفة الإنسانية ولا يتابعه في آرائه السياسية والدينية, بل يعتبرها إضافات مستقلة عن الأولى كل الاستقلال؛ و"ترجمته لحياته" " 1873 "؛ ثم "محاولات في الدين" نشرت بعد وفاته " 1874 ". ج- على سعة مطالعاته وكثرة كتابته جاء أسلوبه ضعيفًا معقدًا؛ فإن عبارته متثاقلة متعثرة بل هي أحيانًا غير صحيحة؛ حتى ليمكن القول: إن مطالعاته الأدبية كانت سطحية لم تؤهله لأن يصير كاتبًا ولم تهذب تفكيره. فالفرق كبير بينه وبين بسكال مثلا الذي تثقف هو أيضًا بإرشاد والده ولكنه كان ناضج الفكر عميقه قوي الأسلوب إلى حد الإعجاز. ولم تؤهله مطالعاته الفلسفية لفهم جميع المسائل، بل إن دراساته المنطقية لم تجعل منه عقلا منطقيا، حتى إن ستانلي جفونز، بعد أن شرح كتابه في المنطق عشر سنين بجامعة لندن عملا ببرنامجها، نقد الكتاب نقدًا عسيرًا وقال: إن تدريسه ضار بتكوين الشباب, وإن "عقل مل كان متناقضًا في جوهره، لم يمس شيئًا إلا خلط فيه". يضاف إلى ذلك أنه لم يكن عالمًا

طبيعيًّا وأن مواد فصوله في المنطق الاستقرائي مستمدة من وول 1 Whewell وهرشل 2 Hershell، ومناهجه مأخوذة عن فرنسيس بيكون. وكتابه في فلسفة هاملتون كتاب مهلهل لا يدري قارئه أحيانًا كثيرة أين الفاصل بين ما يورده المؤلف عن هاملتون وما يعقب به عليه، وهو إلى ذلك ساذج يخلط خلطًا كثيرًا في جميع مسائل الفلسفة. ومثل هذا يقال في كتاب النفعية وفي سائر كتبه. فلسنا ندري في الحق سببا لشهرته إلا أن يكون وفرة التأليف وضخامة الدعوى, وما هو في هذا بفريد! 158 - المذهب الحسي: أ- كان مل يعتقد أن المذهب العقلي هو المذهب الحدسي كما يوجد عند هاملتون، وأن المذهب العقلي يعني التعويل على الرأي الخاص كيفما كان، ويحمل على التكاسل والمحافظة على القديم بأن يحسم كل مشكلة بقوله: إن العقل يرى كذا أو يجد في نفسه كذا وكذا من المعاني والمبادئ؛ فعارضه بالمذهب التجريبي القائل: إن الأفكار آتية كلها من التجربة، وإن جميع النسب والعلاقات تفسر بقوانين التداعي. والواقع أن هذا المذهب يعجز عن تفسيرها، فإنه يقضي بأننا لا ندرك سوى ما يقع تحت الحس أو الباطن على ما يقع، فيدع الظواهر المدركة منفصلة متعاقبة تعاقب أفعال الآلة المادية، فلا يحد مل، لكي يفسر اعتقادنا بالجواهر، إلا أن يقول: إن هذا الاعتقاد مبني على "إمكان مستمر للإحساس في ظروف معينة" مثال ذلك: أني "أرى ورقة بيضاء على منضدة، ثم أنتقل إلى حجرة أخرى ومع أني انقطعت عن رؤية الورقة فإني موقن أنها ما تزال في موضعها" وذلك لأن باستطاعتي أن أعود فأراها؛ وباستطاعتي أن أدرك ظواهر معينة متى أدركت

_ 1 عالم معدني ثم أستاذ فلسفة بجامعة كمبردج " 1795 - 1866 ". في كتابه "تاريخ العلوم الاستقرائية" " 1837 "وكتابه "فلسفة العلوم الاستقرائية مؤسسة على تاريخها" " 1840 " يحاول أن يبين صواب رأي كنط أن في العقل معاني أساسية سابقة على التجربة تسمح بتنظيم التجربة, فمعنيا المكان والزمان أساس الرياضية، ومعنى العلة أساس العلوم الطبيعية، ومعنى الغاية أساس العلوم الحيوية، ومعنى الواجب أساس الأخلاق. واستشهاده بتاريخ الكشوف العلمية يبين خير تبيين ماهية المنهج الاستقرائي. 2 عالم فلكي ألماني الأصل " 1738 - 1822 " استكشف سيارة أورانوس وأقمارها ثم أقمار زحل. كتابه المفيد في منطق العلوم عنوانه "مقال في دراسة الفلسفة الطبيعية" " 1830 ".

ظاهرة ملازمة لها في تجربتي، وهذا ما يسمى شيئًا أو جسمًا؛ كذلك "الاعتقاد بوجود نفسي حتى حين لا يكون هناك إحساس, ولا يكون تفكير ولا شعور بوجودها يرجع إلى الاعتقاد بإمكان مستمر للتفكير والشعور في أحوال معينة". على أن إستوارت مل يعترف هنا بأنه لا يفسر تذكر الماضي وتوقع المستقبل؛ فإنهما يفترضان بقاء الذي يتذكر ويتوقع، إذ لا يعقل أن سلسلة الظواهر المدركة تدرك نفسها بما هي سلسلة, أي: بما هي ماض ومستقبل, وهذا عين الصواب. وكان مل يعتقد بالأنا ويرى أن الشعور به أصيل لا يرد إلى قوانين الفكر، ويعتبر الأنا أساس الحرية والكرامة الإنسانية، فيقول: إن الموقف الأحكم هو قبول هذا الأمر الواقع ولو لم نستطع تفسيره. وهو يعارض أوجست كونت في نقده للاستبطان، ويقول بإمكان علم النفس بناء على الملاحظة بالذاكرة بعد الفعل مباشرة، ويستشهد بتجارب علماء النفس وكتاباتهم. فهو في هذه المسألة المهمة يخرج على المذهب الحسي ومع ذلك لا يخرج منه، بل إنه يعتقد أن النظر في نظام العالم يؤدي إلى الاعتقاد بوجود إله خالق محسن، ويستدرك فقط بأن النقص البادي في العالم يستتبع أن هذا الإله متناهٍ " 104، د". ب- والمذهب الحسي مضطر إلى إنكار اللاشعور من حيث إنه لا يقر بغير الظواهر المدركة، فيصف مل اللاشعور بأنه "تغير في الأعصاب لا يصاحبه شعور" أي: إنه يسقط منه كل عنصر نفسي ويرده إلى حالة فسيولوجية. وهو من ثمة ينكر الحرية ويتهم شهادة الوجدان فيقول: إن الوجدان يعي ما أفعل أو أحس، لا ما قد أفعل أو أستطيع أن أفعل؛ الوجدان واقع على الموجود لا على الممكن المستقبل؛ هو واقع على ما بالفعل لا على ما بالقوة. فليس هناك شعور باستطاعتي أن أفعل كذا وكذا، وإنما هناك وهم ناشئ من أن أفعالًا صدرت عني في الماضي فأصبحت أعتقد بإمكان صدور أفعال من قبيلها. ومع ذلك فقد كان مل يؤمن بالحرية ويدافع عنها، وحجته في ذلك أن التعاقب المضطرد للظواهر النفسية لا يعني أن السابق يعين اللاحق حتمًا، وإذا كنا لا نشعر بالحرية "فإننا موقنون أن أفعالنا الإرادية ليست خاضعة للقسر, ونحن نشعر بأننا غير مجبرين" فنحن قادرون على أن نعمل على استكمالنا الخلقي. ومن اليسير أن نرد على مل بأن عدم الشعور بالقسر لا يدل على انتفاء القسر، فقد نكون مجبرين

ثم لا نشعر بأننا مجبرون, وهذا مثال آخر على تناقض مل 1. 159 - المنطق: أ- في مثل هذا المذهب كيف يكون المنطق؟ يكون تشويهًا للمنطق الصحيح وتبديدًا له. ويبين هذا من استعراض المسائل الرئيسية. وأولا موضوع المنطق، ففي هذه المسألة يأخذ مل على كنط وهملتون تعريفهما المنطق بأنه علم اللزوم "أي: لزوم التالي من المقدم" وأنه علم صوري يتناول شروط مطابقة الفكر لنفسه ويتجاهل صدق القضايا وكذبها. فيأبى مل التسليم بمنطق صوري بحجة أن الفكر لا يكون صحيحًا حقًّا إذا هو غض النظر عن مادة المعرفة. ولكن ما الذي يمنع من اعتبار شروط مطابقة الفكر لنفسه؟ لعل المانع أن هذا الاعتبار يفترض وجود الفكر مستقلا عن الموضوعات، وهذا ما لا يطيقه المذهب الحسي. وفضلا عن ذلك لو سلمنا بأن المنطق يعنى بصدق القضايا وكذبها، لتبدد المنطق باعتباره علمًا خاصًّا وبقيت فقط العلوم على اختلافها. على أن مل، إذا ما عالج المسألة في كتاب المنطق، اعترف بأن المنطق لا يعنى بالحقائق المدركة إدراكًا مباشرًا في التجربة, وقال: إنه "علم التدليل" وإن المنطق الصوري قسم مرءوس من المنطق العام أو "منطق الحقيقة"؛ وهو مرءوس لأن الأصل عنده إدراك المحسوس وإن إدراك المجرد لاحق. ولكن هذا اعتبار لكيفية إدراكنا لا للموضوعات المدركة وتفاوتها في التجريد وترتبها من ثمة بحسب هذا التفاوت من الأعم إلى الأخص، ولو أنه روى في الأمر لرأى أن "منطق الحقيقة" لا يعنى بحقيقة القضايا في العلوم، بل بالشروط الصورية للمعرفة بالإجمال "وهذا موضوع المنطق الصوري" ولكل علم بالتفصيل "وهذا موضوع المنطق المادي". فالتردد "أو التناقض" واضح هنا بين مقتضى المذهب الحسي وبين مقتضى المنطق كما هو قائم بالفعل. ب- كيف يتصور مل أفعال العقل وأية قيمة يضيف إليها؟ إنه يتابع المذهب الحسي فينكر وجود المعنى المجرد في الذهن, ويردد أقوال الحسيين في استحالة تصور ماهية خالصة، كتصور إنسان لا بالكبير ولا بالصغير،

_ 1 في هذه المسائل يرجع خاصة إلى كتابه "مراجعة فلسفة هملتون" وإلى المقالة السادسة من كتابه "المنطق" وهي المخصصة للعلوم الأدبية.

لا بالنحيف ولا بالبدين، لا بالأبيض ولا بالأسود، وهو كل ذلك معًا، وهو ليس شيئًا من ذلك. ثم يقرر أننا كلما تصورنا شيئًا تصورناه صورة شخصية جزئية، وأن أصل الاعتقاد بالمعاني المجردة أننا نستطيع أن نقصر انتباهنا على بعض عناصر الصورة الجزئية وأن نمضي في سلسلة من الاستدلالات خاصة بهذه العناصر دون سواها كما لو كان بإمكاننا أن نتصورها منفصلة عن الباقي؛ وإنما نستطيع ذلك باستخدام الإشارات، وبخاصة الألفاظ، فنوجد رباطًا صناعيًّا بين العناصر التي تشترك فيها طائفة من الأشياء وبين صوت ملفوظ، حتى إذا ما طرق الصوت سمعنا قامت في ذهننا فكرة شيء حاصل على هذه العناصر. ولم يفطن مل إلى أن هذا التفسير اعتراف بالمعنى المجرد من حيث يريد أن يكون إنكارًا، فإنه يمكن أن يقال: "عناصر مشتركة" يجب أن تكون هذه العناصر مدركة بحيث لا تتعلق بواحد, أي: أن تكون مجردة من العلائق الشخصية, ولكي يوضع اللفظ يجب أن يوجد في الذهن معنى هو الذي يحمل على وضعه. ولكن مل يظن أنه قد استبعد المعنى المجرد، ويرتب على هذا الظن نتائج منها: أنه لا ينبغي التحدث عن مفهوم المعاني وماصدقها، بل ينبغي الاقتصار على القول بأن اللفظ denote يدل على أفراد الطائفة ويتضمن connote العناصر، مثل لفظ الطير فإنه يدل على النسور والعصافير والغربان والإوز وما إليها، ويتضمن الحياة والجناحين وما إلى ذلك من العناصر التي نطلق بسببها اسم الطير. ونتيجة أخرى هي أن الحد قضية معلنة دلالة اللفظ، لا أنه قضية معبرة عن ماهية الشيء المحدود كما يقول المنطق القديم: "كل ما يوجد من حق في القول بأن الإنسان لا يتصور بدون النطق، هو أنه لو لم يكن له النطق لما اعتبر إنسانًا, فلا استحالة في التصور ولا في الشيء, وإنما تنشأ الاستحالة من اصطلاح اللغة" كأن اصطلاح اللغة نشأ وثبت عبثًا! ج- ويظن مل أننا في غنى عن المعنى المجرد لتركيب الحكم، فيرى أن الأحكام الواقعية التي من قبيل قولنا: هذا الحائط أبيض، هي عبارة عن الجمع بين إحساسين لا أكثر، وأن الأحكام التي تسمى ضرورية تفسر بتداعي الأفكار أي: بالتجربة أيضًا، وذلك أن التداعي يوثق الصلة بين ظاهرتين حتى لا نستطيع تصورهما منفصلتين، فالضرورة ترجع إلى عجزنا عن تصور نقيض حكم ما أو

ضده. وقد فاته أن المحمول في الحكم الواقعي هو في حقيقة الأمر معنى مجرد، ويتضح هذا غاية الوضوح باعتبار الحكم السالب مثل قولنا: ليس هذا الحائط أبيض، فإن البياض ههنا لم يدرك مع إدراك الحائط، ولكنه معنى محفوظ في الذهن يوجب تارة ويسلب أخرى. كذلك فاته أن الضرورة في الأحكام العلمية والفلسفية ليست كضرورة الترابط بالتشابه والتضاد والاقتران، ولكنها نسبة جوهرية بين الموضوع والمحمول يدركها العقل ويقصد إليها. فتفسيره للحكم تفسير للمعقول بالمحسوس, فلا غرابة أن يجيء قاصرًا. وسيزداد هذا الأمر بيانًا عند الكلام على الاستقراء. د- ونقده للقياس مشهور، فهو يزعم أن القياس مصادرة على المطلوب الأول؛ لأننا حين نقول: "كل الناس ميتون، والدوق أوف ولنجتون إنسان، فالدوق أوف ولنجتون ميت" نفترض النتيجة في المقدمة الكبرى الحاكمة على "كل الناس" ولا يسوغ افتراضها وهي المطلوب, فإنها إما أن تكون معلومة قبل الكبرى وحينئذ فلا فائدة من تركيب القياس وتركيبه عمل صناعي بحت؛ وإما أن تكون مجهولة، وحينئذ يستحيل صوغ الكبرى لاستحالة التحقق من موت كل الناس إلا بالتحقق من موت كل فرد من الناس. فليس القياس استنتاج الجزئي من الكلي، ولا الكلي من الجزئي، ولكن استنتاج الجزئي من الجزئي، أي: استنتاج حالة معينة من حالة أخرى شبيهة بها؛ فحين نريد أن ندلل على أن الدوق أوف ولنجتون ميت، لا نفكر في كل الناس، وإنما نفكر فقط في الذين ماتوا قبله ونتخذ منهم مقدمة جزئية، وحينئذ لا يكون الاستدلال مصادرة من حيث إن الدوق غير متضمن فيها. فالقياس عبارة عن استقراء وليست النتيجة فيه "مستنبطة" من الكبرى ولكنها مكتسبة "وفقًا" للكبرى، ولو أن مل أنعم النظر لوجد أن القياس شيء مختلف عن هذا الاستنتاج بالمشابهة والمماثلة. وقد رددنا على مزاعمه في سياق عرضنا لمنطق أرسطو ""تاريخ الفلسفة اليونانية" الطبعة الثانية ص 123 ". هـ- إذا لم يكن هناك سوى الاستدلال بالجزئي على الجزئي، فما القول في الاستقراء العلمي وهو استدلال بالجزئي على الكلي، أي: وضع قانون بسبب ما يشاهد في بعض الجزئيات؟ يجيب مل أننا نتعلم بالتجربة أن في الطبيعة نظام تعاقب لا يتغير، وأن كل ظاهرة فهي مسبوقة بأخرى، فندعو السابق المطرد علة،

واللاحق المطرد معلولًا، وبموجب قانون التداعي تميل المخيلة إلى استعادة الظواهر على النسق الذي تعاقبت عليه؛ وهذا أصل الاعتقاد بقوانين علمية ومبادئ كلية ضرورية، بما في ذلك مبادئ الرياضيات وقضاياها، بالرغم مما قال هيوم، فإنها عادات أو روابط غير منفصمة، بل بما في ذلك مبدأ الذاتية فما هو إلا تعميم للتجربة, قائم على هذه الظاهرة وهي "أن الاعتقاد وعدم الاعتقاد حالتان عقليتان متنافيتان". فالقضايا الكلية الضرورية وليدة التجربة الجزئية, ومن يدرينا؟ لعل في الكون مناطق توجد فيها معلولات بدون علل، وتكون فيها 2 + 2 مساوية لخمسة؛ وهذا في الحق منطق المذهب الحسي، أي: إلغاء العقل والمنطق والعلم على اختلاف أنواعه. وغير أن مل وكان يعلم أن ليس كل تعاقب مطرد يعتبر قانونًا، وأن العلم يقصد بالعلة شيئًا آخر غير السابق المطرد، فاعترف بأن العلة هي "السابق الضروري" دون أن يبين سبب الضرورة، ووضع مناهج كمناهج فرنسيس بيكون لتمييز العلة من مجرد التعاقب والتلازم وتعيين الاستقراء الصحيح. هذه المناهج مشروحة في كتب المنطق، فنقتصر على ذكرها، وهي: منهج الاتفاق أو التلازم في الوقوع، ومنهج الاختلاف أو التلازم في التخلف، ومنهج التغير النسبي أي: تغير المعلول بنسبة تغير العلة، وأخيرًا منهج البواقي يطبق على معلول مركب يقع بعد جملة ظواهر، ومثاله إذا كنت أعلم باستقراءات سابقة أن بعض هذه الظواهر علة لأجزاء من المعلول، كانت الظواهر الباقية علة الأجزاء الباقية. وهكذا يسلم مل راغمًا بأن العلة مغايرة للسابق العرضي ولو كان مطردًا، فإنها سابق ضروري أي: سابق فاعلي، إذ لو لم تكن هناك فاعلية لما كانت هناك ضرورة أو نسبة ضرورية. 160 - الأخلاق: أ- هنا أيضًا يصطنع مل المذهب الحسي ثم يخالفه وهو لا يدري، كما يبين خصوصًا في كتاب "النفعية"؛ يبدأ بأن يقول: إنه لم يكن للإنسان في الأصل من سبب للعمل سوى المنفعة أي: توخي اللذة، وبخاصة تفادي الألم، ثم عمل ترابط الأفكار عمله فصارت الأفعال التي كانت وسيلة الخير تعتبر خيرة في ذاتها كما

يعتبر البخيل المال غاية وخيرًا وهو وسيلة إلى الخير. هذا هو المذهب الحسي المتعارف, غير أن مل يستدرك فيقول: ليست اللذة راجعة كلها إلى اللذة الجسمية وكميتها كما اعتقد بنتام، وإنما هناك لذات تابعة للكيفية أي: لاعتبارات معنوية، فمما لا شك فيه أن وظائفنا متفاوتة رتبة وقيمة، وأن حياة الوظائف العليا أشرف من حياة الوظائف الدنيا؛ يدل على ذلك أن ما من إنسان يرضى أن يستحيل حيوانًا أعجم، اللهم إلا أفرادًا جد قليلين؛ إن الإنسان البائس لخير من خنزير شبعان، وإن سقراط معذبًا لخير من جاهل راضٍ. هذا ما يراه الإنسان المهذب ويؤثره لنفسه, وهو كذلك يؤثر المنفعة العامة على منفعته الخاصة، إذ إن النفعية تقتضي الفاعل الحكيم أن يعمل للآخرين كما يحب أن يعملوا له، وهذا الإيثار شرط الحياة الاجتماعية التي هي شرط المنفعة الشخصية. ب- هكذا يصحح مل مذهب المنفعة في نقطتين: الأولى أنه يجب اعتبار الكيفية في اللذة لا الكمية فحسب؛ والثانية أنه يجب إخضاع المنفعة الذاتية للمنفعة الكلية, ولكنه يخرج على مذهبه الحسي في كلتا النقطتين؛ أما في الأولى فلأن المذهب الحسي لا يعترف بالكيفية، فلا يعترف بقيم موضوعية للموجودات والوظائف، ولا بمغايرة الوظائف العليا للوظائف الدنيا بالماهية والطبيعية، وإنما الطائفتان عنده من نوع واحد، والاختيار بين اللذات متروك لتقدير المنفعة الحسية ليس غير. والمذهب الحسي يفسر الفضيلة بأنها اتخاذ الوسيلة غاية أي: العمل لا لغاية وصرف النظر عن المنفعة, فيجعل من الفضيلة عملًا غير معقول؛ فيجيء مل ويوحد بين الكيفية العليا والمنفعة العامة والفضيلة, فيجعل من الفضيلة عملا معقولا مرادا لذاته مع مغايرته للمنفعة الحسية. وأما في النقطة الثانية فلأن النفع الذاتي هو الأصل والمعيار في المذهب الحسي، فكيف نطالب بإخضاعه للنفع العام؟ ومهما يقل: إن هذا شرط ذاك فكثيرًا ما يتعارضان، فباسم أي مبدأ يفرض على الفرد اختيار منفعة المجموع دون منفعته هو؟ التناقض بادٍ للعيان هنا وفي كل مسألة، وهو تناقض المذهب الحسي مع الحقيقة الشاملة، وستوارت مل ملوم لإصراره على هذا المذهب بعد أن لمس نقصه في نواح كثيرة, ولكنه استنشقه في بيته وبيئته، ولم يوفق إلى فهم المذهب العقلي على حقيقته، فكان ما كان من الخبط الذي رأينا أمثلة منه.

161 - ألكسندر بين " 1818 - 1903 ": أ- هو أبرز تلاميذ ستوارت مل وأحبهم لديه. كان أستاذًا بجامعة أبردين مسقط رأسه، وصنف كتبًا عدة أهمها: "الحواس والعقل" " 1855 "، "الانفعالات والإرادة" " 1859 "، "الروح والجسم" " 1873 "، "المنطق" " 1875 "، وكان بين قد ساهم في "منطق" مل؛ و"ترجمة لحياة جون ستوارت مل". ب- في هذه الكتب نجد مادة غزيرة وتحليلًا دقيقًا. وقد رمى مؤلفها إلى إقامة علم النفس على مثال العلوم الواقعية بتطبيق منهجها الوصفي الاستقرائي كما يبدو بنوع خاص في التاريخ الطبيعي والفسيولوجيا، وهذه عين فكرة ستوارت مل. فنراه يجتهد دائما في أن يصف بمنتهى الدقة جميع الظواهر النفسية، وخصوصًا عند المرضى، ثم يصنفها ويفسرها ويستخلص القوانين التي تربط بينها. ولمجهوده العلمي في هذا الباب خاصيتان: إحداهما استخدام الفسيولوجيا باستمرار لأنه كان يرى أن الوجهة الفسيولوجية والوجهة الوجدانية في الظواهر النفسية متحدتان، وخصوصًا في الظواهر الأولية، حتى تؤلفا كلًّا لا يتجزأ، وهذا حق غفل عنه ديكارت وأتباعه. الخاصية الأخرى اتخاذ التداعي قانونًا أساسيًّا في تفسير حياتنا الباطنة؛ غير أن بين لا ينكر مع ذلك تلقائيا الأنا، كما أنكرها بعض أصحاب هذا المذهب، بل يقول بأن لكل إنسان عملا ذاتيا صادرا عن غرائزه ومزاجه دون قسر خارجي. على أن هذا العمل الذاتي يختلف عن الفعل الحر إذا كانت الحرية "السيطرة على أفعالنا بحيث متى علمنا على نحو معين كنا قادرين على أن نعمل على نحو آخر" لأن هذا القول يفترض وجود النفس كجوهر متمايز من سلسلة الظواهر، وبين لا يقبل هذا الافتراض ولا يقبل الحرية بهذا التعريف, وكان مل ينبذهما أيضًا.

الفصل الثاني: تشارلس دروين " 1809 - 1882 "

الفصل الثاني: تشارلس دروين " 1809 - 1882 ": 162 - حياته ومصنفاته: أ- حفيد أراسم دروين " 67 ". عالم طبيعي وضع نظرية في تطور الأحياء أدت به إلى نظرية فلسفية في الطبيعة, وعالج تبعًا لهذه النظرية مسائل نفسية وأخلاقية. كان عالما طبيعيا فكان عالمًا كبيرًا. حاول أولا دراسة الطب في أدنبرى فلم يتذوقه؛ ثم عرض لدراسة اللاهوت في كمبردج فما لبث أن انصرف عنها، ودفعه ميله الفطري إلى الاشتراك في رحلة علمية حول الأرض طالت خمس سنين " 1831 - 1836 " وجمع خلالها من الملاحظات ما كان الأساس الأول لنظريته. وقضى بعد ذلك زهاء ربع قرن يستكمل ملاحظاته وتجاربه حتى أخرج النظرية، وقضى زهاء ربع قرن آحر يدعمها ويجادل عنها, ويعالج في ضوئها ما يعرض له من مسائل. ب- أخرج نظرية التطور في كتابه "أصل الأنواع" " 1859 " ثم أيدها بكتاب عنوانه "تغير الحيوان والنبات في حال الدجن" " 1868 " ثم طبقها على الإنسان في كتابه "تسلسل الإنسان والانتخاب الطبيعي" " 1871 " وعالج على مقتضاها مسائل نفسية في كتاب "التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان" " 1872 " وكتب ترجمة لحياته. 63 - أصل الأنواع: أ- أثناء رحلته البحرية وجد أن الأنواع الحية، وبخاصة الحيوانية منها, تتشابه تشابهًا عميقًا من حيث بنية الجسم، وتتفرع أصنافًا عديدة يمتاز كل صنف منها بفوارق ملائمة كل الملاءمة لبيئته، فتساءل كيف نفسر القرابة من

جهة والتنوع من جهة أخرى؟ أو ما السبب في بقاء أنواع النبات والحيوان وفي نمو الخصائص المفيدة لها؟ فخطر له فرض مؤقت هو تطور هذه الأنواع. ولما عاد إلى إنجلترا قرأ " 1838 " كتاب ملثوس Malthus في مسألة السكان " 1798 " 1 ففكر أن لا بد أن يكون السبب تنازع الحيوان على القوت، وأن الحياة "صراع في سبيل البقاء". وكان قد عني بتجارب مربي الحيوان ورآهم يحصلون على أصناف جديدة بالمزاوجة بين الأفراد الذين يلاحظون فيها تغيرات ضئيلة ملائمة، فقدر أن الأفراد الذين يكتسبون وظيفة أو عضوًا ملائمًا لظروف حياتهم أقدر على الصراع من العاطلين من تلك الوظيفة أو ذلك العضو، فيحسن الأولون نوعهم وينقرض الآخرون. فهناك إذن "انتخاب طبيعي" يشبه الانتخاب الصناعي إلا أنه خلو من القصد والنظام، فلا يدل على علة التغير بل على أثره ونتيجته. ثم قدر أن القرابة بين الأنواع المندثرة والأنواع الباقية تفسر بأن هذه صور عليا من تلك. ب- فانتهى دروين إلى أن الأنواع الحالية على اختلافها يمكن أن تفسر بأصل واحد أو ببضعة أصول تمت وتكاثرت وتنوعت في زمن مديد بمقتضى قانون الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح وهو القانون اللازم من تنازع البقاء، وقوانين ثلاثة ثانوية هي: أولًا قانون الملاءمة بين الحي والبيئة الخارجية؛ ثانيًا قانون استعمال الأعضاء أو عدم استعمالها تحت تأثير البيئة أيضًا بحيث تنمو الأعضاء أو تضمر أو تظهر أعضاء جديدة تبعًا للحاجة؛ وثالثًا قانون الوراثة وهو يقضي بأن الاختلافات المكتسبة تنتقل إلى الذرية على ما يشاهد في الانتخاب الصناعي. فالنظرية الدروينية آلية بحت تستبعد كل غائية ولا تدع للكائن الحي قسطًا ما من التلقائية كالذي تدعه له نظرية لامارك، بل تعتمد على

_ 1 ملثوس اقتصادي إنجليزي معروف " 1766 - 1834 ". يذهب في كتابه إلى أن السكان، حين لا يعوق تكاثرهم عائق، يتضاعف عددهم في كل ربع قرن، فيزيد من فترة إلى أخرى بنسبة هندسية، في حين أن أسباب المعيشة لا تزيد إلا بنسبة حسابية. ولكن الرذيلة والفاقة والحرب والهجرة، مظاهر قانون طبيعي يرمي إلى تقليل عدد السكان للمعادلة بينهم وبين أسباب المعاش. على أن هذه الآفات يبطل فعلها حالما تزداد أسباب المعاش، فتكون النتيجة أن الفقر ضرورة لا يتغلب عليها قانون إعانة الفقراء "في إنجلترا" من حيث إن هذا القانون يعمل على تزايد السكان دون زيادة أسباب المعاش، فعلى الأهلين أن يعملوا على الحد من النسل بالعفاف.

محض الاتفاق أو الصدفة في حياة النبات والحيوان. وهي لذلك لا تستتبع الترقي المطرد في جميع الأحياء كما ظن البعض, فاعترضوا عليها ببقاء الحيوانات الدنيا, فإن دروين كان قد قال: إن الحي يبقى على حاله ما لم تضطره الظروف إلى صراع قوي للبقاء، وأن لا ميزة ترجى للدودة في اكتسابها أعضاء أكثر كمالا ما دامت ظروفها على حالها. وعلى ذلك فقد يحدث الانتخاب الطبيعي تقهقرًا إلى صورة أبسط إذا ما تبسطت البيئة لسبب من الأسباب، فتضمحل بعض الأعضاء وتضمر لزيادتها عن الحاجة. وسوف نرى دروين يمعن في الآلية والمادية بصدد الإنسان. 164 - الإنسان: أ- في كتاب "أصل الأنواع" ترك دروين مسألة أصل الإنسان معلقة، ولكنه عاد فرأى أن ليس هناك من موجب لاستثنائه من قانون التطور. وهو يصرح بذلك في كتاب "تسلسل الإنسان" ويقول بأن الفرق بين الإنسان والحيوان فرق بالكم أو الدرجة فقط، وأن المسألة بين القوى الفكرية لحيوان من أدنى الفقريات والقوى الفكرية لقرد من القردة العليا، أكبر من المسافة بين القوى الفكرية في القرد وبينها في الإنسان. كما يقول: إن الحيوان يكتسب الفطنة والحذر مما يعرض له من تجربة ويتحمل من ألم، وإن له ذاكرة وذوقًا فنيًّا وغريزة تعاطف، فلا يسوغ نفي العقل عنه. ولدروين في هذا الباب ملاحظات عديدة دقيقة، ولكنه اعتقد مثل جميع الحسيين أن العقل امتداد للحس من نوعه، والواقع أن الحس قد يذهب في إدراكه بعيدًا جدًّا ويستدل بالجزئي على الجزئي نوعًا من الاستدلال دون أن يبلغ إلى مرتبة العقل الذي هو قوة إدراك المعاني المجردة والمبادئ الكلية وقوة الحكم والاستدلال. ب- وقد أخذ على هذه النظرية أنها مبطلة للتعاطف منافية للأخلاق، فأقر دروين بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يمكن أن يقال: إنه أخلاقي, وأن هذا هو الفرق الأكبر بينهما؛ ولكنه ارتأى مع ذلك أن لا تناقض بين القول بتنازع البقاء والقول بأن العاطفة الأخلاقية نمت نموا طبيعيا؛ ذلك بأنه ينبغي أن نذكر دائمًا أن الصفات والوظائف التي يتطلبها الانتخاب الطبيعي ليست

هي المفيدة للفرد فحسب ولكنها أيضًا المفيدة للصنف أو النوع، من حيث إن الاجتماع والتعاون عامل فعال في درء المخاطر عن الأفراد. ولما كان بقاء النوع يتوقف على صون الذرية، وكانت الذرية في الغالب عاطلة من أسباب البقاء، فمن اليسير أن نفهم أن محبة الوالدين لذريتهم يمكن أن تنمو بالانتخاب الطبيعي؛ وإن المشاهدة لتدلنا على أن من الحيوان ما يعرض نفسه للخطر لإنقاذ غيره. وهذا يمكن أن تنشأ وتحفظ في الفرد صفات غير نافعة له بما هو هذا الفرد ونافعة للمجموع يؤيدها إقرار من جانب المجموع؛ ولقد كان هذا بالفعل شأن الصفات التي اعتبرت فضائل في شعوب مختلفة وعصور مختلفة. فالانتخاب الطبيعي يحتمل المحبة والتعاون كما يحتمل البغض والقسوة، وهناك تاريخ طبيعي لعواطف الغيرية إلى جانب التاريخ الطبيعي لعواطف الأنانية. ومهما تتسع الشقة بين ما يساور الحيوان حين يدل على عطف وتضحية وبين الخلقية الإنسانية العليا، فإن الطرفين متصلان بدرجات لا تحصى، ولا يسوغ اعتبار النمو الطبيعي منقطعًا في نقطة ما. إن في النوع الإنساني نفسه فوارق كبيرة جدا من الوجهة الخلقية؛ بل إن هناك صورًا من الحياة الإنسانية هي أدنى بكثير مما قد تدل عليه حياة الحيوان. ويعلن دروين أنه يفضل أن يكون منحدرًا من القرد الذي يخاطر بحياته لينقذ حارسه، على أن يكون منحدرًا من الإنسان المتوحش الذي يلذ بتعذيب عدوه ويقتل أولاده دون أن يشعر بوخز ضمير ويعامل نساءه معاملة الرقيق وهو نفسه مسترق لأشنع الخرافات! وهنا أيضًا يغفل دروين عن طبيعة العقل فيغفل عن طبيعة الخلقية. إن النظر السليم ليدل على أن الفعل الخلقي هو الصادر عن حكم العقل بناء على تصور الخير المجرد، وقديمًا نبه أفلاطون وأرسطو على ذلك ولاحظا أن الفعل التلقائي في الحيوان والإنسان لا يعد خلقيا. ج- وقد أخذ على دروين أن نظريته مادية إلحادية, والواقع أنه لم يشأ أن يستثني الإنسان من قانون التطور العام, أو يعلق مسألة النفس الناطقة, وذهب إلى أن الحياة النفسية في الإنسان كما في الحيوان مرتبطة بفعل الأعضاء، وقال بدراستها من الدرجات الدنيا إلى الدرجات العليا على هذا الاعتبار. وقد كان مؤمنًا بالله إلى وقت ظهور كتابه "أصل الأنواع" وقال في ختامه: إن الصور الحية الأولى مخلوقة؛ ثم تطور فكره شيئًا فشيئًا حتى أعلن أسفه لاستعماله لفظ

الخلق مجاراة للرأي العام، وصرح بأن الحياة لغز من الألغاز، وأن ما في العالم من ألم يعدل بنا عن القول بعناية إلهية، وأنه هو "لا أدري" لا يقول بالعناية ولا بالصدفة 1 , وأن الكلمة الأخيرة عنده هي "أن المسألة خارجة عن نطاق العقل, ولكن بوسع الإنسان أن يؤدي واجبه". د- وهل يدع مذهبه محلا لواجب؟ ما مذهبه إلا المذهب المادي المعروف، وقد خلع عليه حلة علمية شائقة، ولكنها لا تخفي عيوبه عن النظر الثاقب. قلنا: إن دروين عجب لتشابه أفراد النوع الواحد من حيث بنية الجسم وتوزعها أصنافًا تبعًا للبيئة وظروف المعيشة, فظاهر أن النوع ثابت من حيث الجوهر متغير من حيث العرض، ولكن دروين اتخذ التغير العرضي معيارًا وفسر الأنواع أنفسها كما تفسر الأصناف. وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى اعتبار الإنسان نوعًا قائمًا بذاته بسبب ما يختص به من علم ولغة وفن وصناعة وخلق ودين، وهي مظاهر للعقل لا نظير لها ولا أصل في سائر الحيوان. وقد نسلم بالتطور ثم نرانا مضطرين إلى الإقرار بموجد للمادة موجه لها، لقصور المادة عن تنظيم نفسها، ولكن من العلماء والفلاسفة من يفكرون كالعامة بالمخيلة دون العقل فيسيغون المحالات, وسنصادف نفرًا منهم فيما يأتي من فصول, يتخذون من مذهب التطور سلاحًا يهاجمون به الدين والروحيات إطلاقًا.

_ 1 في موضع كتب في سنة 1876 من ترجمته لحياته.

الفصل الثالث: هربرت سبنسر " 1820 - 1903 "

الفصل الثالث: هربرت سبنسر " 1820 - 1903 " 165 - حياته ومصنفاته: ابن معلم ابتدائي. شغف منذ حداثته بالعلوم الطبيعية والتاريخ، وبالمناقشات العلمية والسياسية والدينية، كان مهندس سكك حديد بضع سنوات, وشغل بمسألة التطور حين قرأ كتاب ليل Lyell في طبقات الأرض الذي كان في طبعاته الأولى يعارض نظريات لامارك، وخرج من دراسة علم الأجنة بأن التطور هو الانتقال من المتجانس إلى المتنوع، وأنه قانون الطبيعة. ونظر في المذهب الحسي كما كان إلى وقته وتفسيره محتوى الوجدان من أفكار وعواطف بالتجربة الفردية, فارتأى أن هذا المحتوى يفسر بتجربة النوع تتعين وتتطور بالوراثة، فدون كتابًا أسماه "مبادئ علم النفس" " 1855 " عرض فيه هذا الرأي ونظرية التطور في جملتها. وأول عرض قام به لفلسفة التطور ظهر في مقال عنوانه "التقدم، قانونه وعلته" " 1857 " فذكره دروين في مقدمة كتابه "أصل الأنواع" بين الذين سبقوه إلى نظريته. ثم رأى أن نسبية المعرفة على طريقة كنط وهاملتون ومنسل, تسمح له بإفساح مجال للدين إلى جانب مجال العلم وبناء فلسفة شاملة، فشرع يدون كتبه الكبرى في "الفلسفة التركيبية" حيث جمع علوم العصر كلها مؤلفة في مذهب متسق حول مبدأ التطور، أي: إنه وضع الفلسفة التركيبية الموضوعية التي كان أوجست كونت قد قال باستحالتها لاستحالة الانتقال التدريجي من مرتبة إلى أخرى من مراتب الوجود. هذه الكتب تفصيل مقالات نشرها في مجلات مختلفة ثم جمعت في ثلاثة مجلدات بعنوان "محاولات"؛ ولكنه تفصيل فضفاض كدس فيه كل المعارف في حين أن المقالات قصيرة واضحة. وجاءت الكتب الكبرى في عشرة مجلدات تتالت من 1860 إلى 1893. وهذه أسماؤها: المبادئ الأولى, مبادئ البيولوجيا في مجلدين, مبادئ علم النفس في مجلدين، مبادئ علم الاجتماع في ثلاثة مجلدات،

مبادئ الأخلاق في مجلدين. وله أيضًا كتاب في التربية " 1861 " وآخر في تصنيف العلوم " 1864 " وآخر في ترجمته لحياته. أنجز هذا العمل الضخم بمثابرة حقيقة بالإعجاب تقاوم اعتلال صحته من جهة, وضيق ذات يده من جهة، وبمقدرة فائقة في التحليل والتركيب. 166 - المعلوم والمجهول: أ- يذهب سبنسر إلى أن موضوع المعرفة ينحصر في جملة العلوم الواقعية, وقد انتقد تصنيف أوجست كونت لهذه العلوم، ولكنه أخذ عنه التمييز بين العلوم المجردة والعلوم المشخصة, وأضاف قسيما وسطا سماه العلوم المجردة المشخصة, فوضع الجدول الآتي: 1 - العلوم المجردة أو علوم الصور الجوفاء، وهي المنطق والرياضيات بفروعها, 2 - العلوم المجردة المشخصة أو علوم الظواهر، وهي الميكانيكا وعلم الطبيعة والكيمياء, 3 - العلوم المشخصة أو علوم الموجودات، هي علم الفلك وعلم طبقات الأرض، وعلم الحياة "وفيه الأخلاق" وعلم النفس وعلم الاجتماع. هذا التقسيم يشبه تقسيم العلوم النظرية عند أرسطو بحسب درجات التجريد الثلاث، ولكن سبنسر يظن أن المشخص بما هو كذلك موضوع علم في حين أنه موضوع وصف فحسب، فما في علمي الفلك وطبقات الأرض من قضايا كلية يرجع في الحقيقة إلى علوم أخرى هي الرياضيات والطبيعة والكيمياء، وما يقال فيهما عن أشخاص الأفلاك ومداراتها وعن الطبقات الأرضية وأحوالها أمور جزئية؛ ثم إنه يضع بين العلوم المشخصة علوم الحياة والأخلاق والنفس والاجتماع وهي في الواقع تدرس ظواهر عامة وتتأدى إلى قوانين كلية, فالتقسم غير محكم. ومهما يكن من قيمة هذا الجدول فهو يمثل في نظر سبنسر "مجال المعلوم" كما يبدو في "الفلسفة الواقعية" التي هي عبارة عن جملة القوانين المشتركة بين جميع فروع المعرفة العلمية، بحيث يمكن أن يقال: إن المعرفة العامية عديمة الوحدة, والعلم معرفة ناقصة الوحدة, والفلسفة معرفة موحدة تمام التوحيد بفضل قانون التطور الذي هو أعم القوانين. ب- وكل ما خرج عن العلوم والفلسفة الواقعية يؤلف "مجال المجهول" أو ما يجاوز إدراكنا. وفي كتاب "المبادئ الأولى" يعرض سبنسر جملة العلوم

عرضًا منظمًا، ويحاول أن يسوغ استبعاد الميتافيزيقا أو علم المطلق. ونقده صوري ومادي: من الوجهة الأولى يبين الاستحالة الصورية لإدراك المطلق، وذلك استنادًا إلى نسبية كل معرفة؛ ومن الوجهة الثانية يبطل المذاهب الميتافيزيقية في المطلق. يقول من الوجهة الأولى: إن العقل إذا حاول أن يتصور المطلق وضع نفسه بإزاء المطلق فحده وجعله غير مطلق, وكل معرفة فهي تفترض اختلافًا أو شبهًا، فإن فكرة ما لا تدرك إلا بمعارضتها بفكرة سابقة مختلفة عنها أو شبيهة بها، وعلى ذلك فكل فكر فهو نسبي، ولا يمكن أن يوجد شيء خارج المطلق حتى يختلف عنه أو يشبهه. ويقول من الوجهة الثانية: سواء اعتقدنا أن العالم هو المطلق وأنه موجود بذاته، أو أن المطلق موجود مفارق هو الذي أوجد العالم، انتهينا إلى هذا التناقض وهو أن شيئًا قد يستطيع أن يكون علة نفسه. وهناك متناقضات أخرى بين اللانهاية من جهة والشخصية من جهة، إذ إن الشخصية حد وتمييز وإن اللانهاية شمول كل شيء؛ وبين القدرة الإلهية من جهة والخيرية والعدالة من جهة؛ وبين العدالة من جهة والنعمة من جهة؛ وما إلى ذلك من المتناقضات. وكذلك الحال في المعاني العلمية الرئيسية، كالزمان والمكان والمادة والحركة والقوة والوجدان والشخصية، فإنها واضحة يجوز لنا استخدامها ما دمنا نقتصر على عالم التجربة المحدود، ولكنها تؤدي إلى متناقضات حالما نريد استخدامها للتعبير عن ماهية موجود مطلق كأنها مظاهرة. إن معرفتنا تنتقل من ظواهر إلى أخرى دون أن تدرك البداية ولا النهاية؛ كل ما هنالك أن النظر في العالم المعلوم يؤدي بنا إلى وضع المطلق المجهول. ج- وعلى ذلك, فليست اللاأدرية مرادفة للإلحاد, وليست تعني أننا مضطرون إلى الإيمان بالمطلق مجرد إيمان كما يقول هاملتون ومنسل لاعتقادهما أن معنى المطلق أو اللامتناهي معنى معدول سلبي فحسب, إنه معنى محصل. أجل إننا لا نفهمه، ولكن في هذا القول إثباتًا ضمنيًّا لوجوده، فإن من المستحيل أصلا تصور أن لا موضوع لمعرفتنا سوى الظواهر دون أن نتصور في نفس الوقت موجودًا تكون هذه الظواهر ممثلة له. إننا في تصورنا للمتناهي نتصور الموجود والنهاية, وفي تصورنا للامتناهي ننفي النهاية ولا ننفي الموجود. إن بين أفكارنا جميعًا شيئًا مشتركًا هو ما ندل عليه بلفظ الموجود ونعني به شيئًا ثابتًا

تحت الأعراض المتغيرة. هذا العنصر الفكري الأخير هو إذن بطبيعته غير معين وغير قابل للرفع، بحيث إن قوانين الفكر التي تحظر علينا تكوين تصور عن موجود مطلق، تحظر علينا أيضًا استبعاد تصوره. بل إننا نستطيع أن نتصوره بالمماثلة مع ما نشعر به أنه قوتنا الذاتية في الجهد العضلي، وذلك بأن نمحو شيئًا فشيئًا الحدود التي تبدو فيها القوة المجهولة في كل حالة جزئية, دون أن نصل إلى تكوين معنى محصل عنها. المادة والحركة مظهران لها، والزمان والمكان صورتان لمظاهرهما. د- إذا تقرر هذا لزم منه أن للدين مكانًا إلى جانب العلم. وإنما كان التعارض بينهما لأن الدين على اختلاف صوره، يدعي تعيين ماهية العلة المطلقة ويريد أن يحل مسائل لا تحل إلا بالعلم، وأن العلم يريد أن ينفذ إلى ميدان هو ميدان خاص بالدين. فما إن تعين حدود المعرفة كما ينبغي حتى يتفق العلم بالدين على أن ماهية الوجود مجهولة غير مدركة، وينحصر كل في دائرته وينتهي النزاع بينهما. إن للعاطفة الدينية أصلًا عميقًا في الإنسان, فهي من ثمة مشروعة. إنها عاطفة الاحترام بل الحب الذي تحسه النفس نحو ما يعلو عليها. وليس لها أن تخشى شيئا من النقد المنطقي مهما اشتدّ، فإن القوة التي ينم عنها العالم تفوق إدراكنا. ذلك هو الدين الذي يعترف به العلم، لا دين الإنسانية الذي ابتدعه أوجست كونت وزعم له صفة الواقعية, وأقامه على عبادة الطبيعة المنظورة وعظماء الرجال. وما سائر الأديان المعروفة عن الشعوب المتوحشة والمتحضرة إلا ترجمات مختلفة عن القوة العظمى التي هي علة الظواهر الطبيعية, والتي كان الإنسان البدائي يحس شيئًا منها في فعله الإرادي. هـ- واضح أن هذا المذهب ملفق من رقعتين؛ فإن سبنسر ينتمي إلى المدرسة الحسية فيقول: إن المعرفة قائمة بأكملها على التجربة، ثم يصطنع نظرية في المطلق المجهول لكي يدع الباب مفتوحًا للدين والأخلاق. وهذه النظرية مأخوذة كلها عن سبينوزا وكنط وهاملتون ومنسل، وقد رددنا بما فيه الكفاية على ما تتضمن من قول بالنسبية ومن دعوى تناقض الميتافيزيقا. فلا نعد سبنسر هنا إلا مقلدًا ومنسقًا لعناصر معروفة في تاريخ الفلسفة، دون أن يتمكن من إقامة الدليل على أن فكرة المطلق تعبر عن وجود مفارق للطبيعة ضامن للدين والأخلاق، لا عن

عظمة الطبيعة المادية فحسب, فتفوتنا الأخلاق ويفوتنا الدين. هذا فضلا عن ضآلة الدين عنده, وعن نقص فلسفته الأخلاقية كما سنرى. 167 - تكوين العالم: أ- قانون التطور يقضي بأن كل شيء يبدأ ظاهرة بسيطة, فتلتئم حولها بالضرورة ظواهر أخرى فتركب كلا أعقد فأعقد. والطبيعة مادة وحركة، وما الحياة وما الشعور على اختلاف صوره إلا تعقد المادة والحركة، أي: مجرد أثر الطبيعة في أجزاء من المادة. فهيئة العالم تفسر بنظرية لابلاس أو ما يشابهها, ونشوء الحياة يفسر بتفاعل القوى الكيميائية, وتفسر الأنواع الحية بتطور الأصول الأولى المتجانسة بفعل البيئة، وسبنسر يفيد هنا كثيرًا ببحوث دروين ويستشهد بها, ويحلل الإحساس إلى "صدمات" عصبية أولية يقابل كل منها اهتزازًا من الاهتزازات التي يحلل إليها العلم الحديث الكيفيات المحسوسة. وبذا يحصل على "مادة شعورية" تتكامل بتأليف الصدمات بعضها مع بعض. وبتأليف هذه التأليفات بواسطة قوانين التداعي يحصل على الصور الخيالية والمعاني المجردة والأحكام والاستدلالات والأخلاق والاجتماع، على ما سبق لنا بيانه عن الحسيين مرارًا كثيرة, بحيث يرجع ترقي الفكر إلى ترقي الجهاز العصبي وملاءمة تدريجية بين الكائن الحي وبيئته، ويرجع التطور إلى علاقات بين الظواهر الخارجية يقابلها علاقات بين الأجزاء العصبية يقابلها علاقات بين الظواهر الوجدانية. على أن هذا لا يعني إدراكاتنا شبيهة بالأشياء, بل يعني فقط أنها علامات على الأشياء وأن النسب القائمة بينها يقابلها نسب في الخارج, فسبنسر يأخذ بالتصورية ثم يصححها بنوع من الوجودية، وهو يفضل الوجودية على التصورية لسببين: الأول سلبي وهو أن هذه تعتمد على تلك، فنحن نؤمن عفوًا بوجود الأشياء ولا نحاول أن نبين أن الصوت مثلا مجرد حالة ذاتية حتى نتحدث عن اهتزازات الجرس التي تنتقل إلى الأذن, والتي تفعل كذا وكذا في أعضائها كأن كل هذه موجودات. والسبب الثاني إيجابي وهو أن ما مر بنا من نسبية موضوعات العلوم يقتضي شيئًا مطلقًا تكون هي مطاهره. ب- وتتأيد نظرية التطور إذا لاحظنا أن التجربة والعلم لا يفسران باكتساب

الفرد فحسب، وأن العقل في الفرد وكما نعرفه ليس قابلية صرفة تكيفها التجربة الفردية على ما ارتأى لوك وهيوم ومل، إذ لو صح الرأي لكان الفرس مثلا يقبل نفس التربية التي يقبلها الإنسان، وهذا باطل. والواقع أن العقل الإنساني كما نعرفه لا يقتصر على قبول التجارب ولكنه ينظمها، وهو إنما ينظمها بالمبادئ, فما منشأ هذه المبادئ؟ إن العقل وظيفة من وظائف الحياة، وقد خضع للتطور فتكون بتأثير البيئة في الدفاع تأثيرًا متصلًا كيفه شيئًا فشيئًا حتى بلغ به إلى هذه المطابقة التي نراها بينه وبين الطبيعة. ولما كان الناس قد عاشوا في بيئة متشابهة, فقد تولدت نفس المبادئ عندهم جميعًا، وهذا أصل كليتها؛ ولما كان العقل قد تكيف هذا التكيف فقد أصبح عاجزًا عن تصور نقائض المبادئ، وهذا أصل ضرورتها. فالمبادئ التي تبدو الآن غريزية أولية، والتي يفسرها الحسيون بتجربة الفرد، والتي يضعها كنط وضعًا، قد اكتسبها النوع الإنساني بتكرار التجربة مدى أجيال طويلة؛ فأصبحت عادات وراثية. يبقى أن يفسر لنا سبنسر كيف تتكون بالتدريج بديهيات تدرك دفعة واحدة أو لا تدرك، وفي أي وقت خرجت من دور التكون وصارت مبادئ تنظم بها بعد أن لم تكن تنظم. ج- على أن الحركة ومختلف صور الطاقة تتبدد باستمرار، فالتقدم يصاحبه انحلال، وستنتهي القوة العالمية إلى حالة توازن كلي أي: موت كلي وعود إلى السديم الأول. ومن المستحيل علينا أن نعلم إن كانت هذه الحالة تدوم أو يعقبها دور تطور. إن دوامها فرض ممكن، ولكن يمكن أيضًا أن نعتقد أن وراء العوالم التي تدركها علومنا الراهنة طاقة مختزنة تكاد تكون غير متناهية تؤثر حينئذ في المادة فتستأنف التطور, فيتعاقب التطور والانحلال في أدوار هائلة، ولم يقل لنا سبنسر ما حظ الإنسان من هذا التعاقب، وما حظ هذا الفرض من الرجحان وكأنه أبى أن يعتقد بانتهاء التطور وانحلال الموجودات، وهذا الإباء صادر من غير شك عما فينا من ميل طبيعي للبقاء والخلود تصدمه المادية بلا رحمة. 168 - الأخلاق: أ- هذا المذهب يحتم النظر إلى الأخلاق تبعًا للتطور, واعتبارها ظواهر

طبيعية. فهو لا يحتمل إلا علمًا للأخلاق من طراز العلوم الواقعية يستبعد المعاني والمبادئ الميتافيزيقية، ويقصر السيرة الإنسانية على أن تكون حالة خاصة من سيرة الكائنات الحية لا أكثر. إن الخلقية هي هذه السيرة في المراحل الأخيرة من التطور. ولما كان قانون تطور الكائن الحي الملاءمة بينه وبين بيئته، كما نشاهد في سلم الأحياء، كانت السيرة الإنسانية أو الأخلاق "جملة الأفعال الخارجية المتجهة مباشرة أو بالوساطة إلى صيانة الحياة وتنميتها". ومن شأن تطور الإنسان وتقدم الحضارة تقسيم العمل بين الأفراد واستفادتهم بعضهم من بعض، فالتعاون الاجتماعي شرط ضروري لنمو الحياة الفردية؛ لأن به يتمكن كل فرد من تحقيق غايته الخاصة. وبذا تبدو تبعية المنفعة الفردية للمنفعة الاجتماعية مشروعة كلما اختلفنا. المنفعة إذن هي الحكم لا اللذة, أجل إن الخير يتفق على العموم مع اللذة، واللذة هي العنصر الجوهري في كل تصور للخلقية، وهي دليل وفرة الحيوية، والعلامة التي تشهد للوجدان بالملاءمة الصالحة بين الأفعال ووظائف الحياة. فالغرض من اللذة هو الفعل الحيوي الذي هو طلب الغاية الطبيعية. والحياة الخلقية هي التي أفعالها متسقة مطابقة للإنسان، والحياة المخالفة للخلقية هي التي لا نظام بين أفعالها ولا اتساق. فتقدم الخلقية هو تقدم الملاءمة بين حياة الإنسان وقوانينها الأساسية, ومبدأ الأفعال الخلقية هو اعتبار النتائج الطبيعية الذاتية للأفعال دون أي شيء آخر، كالشعور بالواجب أو الخوف من جزاء عرفي. ب- لم تحصل الملاءمة بين الإنسان وبيئته من أول الأمر، وهي غير حاصلة الآن إلا حصولا جزئيا، وقانون التطور يضمن لنا أن يتم في المستقبل. لقد تحقق التعاون بالانتقال التدريجي من الحالة العسكرية إلى الحالة الصناعية: الأولى تقوم على الحرب والإكراه والقانون العرفي, فتتضمن تبعية الأفراد للجماعة تبعية دقيقة، والثانية تقوم على العمل والتعاقد فتفسح المجال للتعاون الإرادي. ومن الوجهة العاطفية مر الإنسان بحالة أولى كان فيها يطلب منفعته الذاتية، وهذه مرحلة الأنانية؛ ثم فطن إلى أن منفعته تزداد بالتعاون مع إخوانه، فأحبهم لهذه المنفعة، فكانت مرحلة الأنانية المختلطة بالغيرية، ثبت فيها بالوراثة هذا الجمع بين المنفعتين حتى بدا العمل لمصلحة الغير أمرًا مستحبًّا ولو لم يعد منه نفع ذاتي

بل لو تعارضت المنفعتان، وهذه المرحلة ما تزال للآن، وهي مرحلة الصراع بين الأنانية والغيرية، وما الشعور بالواجب سوى مظهر سلطان التطور الماضي في أنفسنا؛ ونحن سائرون شيئًا فشيئًا إلى مرحلة ثالثة وأخيرة تتحد فيها المنفعتان تمام الاتحاد, فتسود الغيرية وتصير الأخلاق الفاضلة طبيعية في الإنسان وتمحى فكرة الواجب. ج- في هذا المذهب أمور مقبولة وأخرى منافية لمفهوم الأخلاق. فالمقبول قول سبنسر: إن الغاية الطبيعية هي الفعل المطابق لوظائف الحياة، وإن الحياة الخلقية هي الحياة المطابقة للإنسان, وإن اللذة "الحقة" هي التي تنشأ من الملاءمة الصالحة بين الأفعال ووظائف الحياة. في هذه الأقوال التي يتوخى منها سبنسر وضع غاية ومعيار للسيرة الإنسانية, نرى معنى ميتافيزيقيا يفترضه باستمرار ولا يعترف به صراحة، هو معنى الماهية أو الطبيعة الإنسانية التي إذا طابقها فعل كان خلقيا وإذا خالفها فعل لم يكن خلقيا. هذا المعنى تفترضه جميع المذاهب النفعية فتخالف المبدأ الحسي، ولا يتمشى مع هذا المبدأ إلا أمثال أرستيب الذين يقولون باللذة كيفما كانت. أما الأمور المنافية للأخلاق فأولها تعريف سبنسر للأخلاق بأنها "جملة الأفعال الخارجية المتجهة إلى صيانة الحياة وتنميتها" هذا التعريف يلزم من المذهب الحسي، ولكنه يخالف فهم الناس جميعًا، فإنهم يريدون بالأفعال الأخلاقية أولا وبالذات الأفعال الباطنة، سواء خرجت إلى الفعل أم لم تخرج، المتجهة إلى تنمية حياة النفس ولو اقتضى الأمر التضحية بالحياة الجسمية التي لا يعرف التطور المادي حياة غيرها. وثمة أمر ثانٍ هو أن القانون في مذهب التطور قانون طبيعي لا خلقي، قانون بيولوجي هو أثر البيئة فينا، يدفعنا إلى الأمام كما يدفع الطبيعة بأسرها، في حين أن القانون الخلقي قانون مثالي معروض على الإرادة لكي تحققه باختيارها, فتحقق فوق النظام الطبيعي نظامًا إنسانيًّا بمعنى الكلمة. وأمر ثالث نجعله الأخير هو أن الغيرية التي يعدها سبنسر مرادفة للخلقية هي في مذهبه غير مقصودة بالذات ولكنها نتيجة الارتباط بين المنفعة الذاتية ومنفعة الغير، فهي الأنانية بعينها. ومتى كان قانون التطور محتومًا، فما الحاجة إلى إقناعنا بالعمل بموجبه؟ أليس لكل أن يكفي نفسه مؤنة الغيرية ويعول على الضرورة الطبيعية في تحقيق التقدم؟

ولقد عالج سبنسر مسألة الإحسان، وبخاصة الإحسان المنظم من الدولة، فكان موقفه فيها موقف الأنانية القاسية, قال: إن الإحسان معارض للقانون الطبيعي الذي يقضي ببقاء الأصلح، ومؤدٍّ إلى انحطاط النوع الإنساني بالتدريج, إذ إنه يعارض على تكاثر أقل الأفراد مواهب على حساب أكثرهم مواهب، وإن الفريق النشيط من الأهلين يدفع جزية ثقيلة لفريق عديم النفع هم الشيوخ والمرضى والمجانين، وإن تقدم الأقوياء وسقوط الضعفاء نتيجة ضرورية لقانون كل مستنير نافع، وإن الدولة إذ تحاول وقف هذا القانون الحكيم بدافع من حب للإنسانية زائف، تزيد في مقدار الألم بدل أن تنقص منه 1. هذا كلام قاسٍ يتضح مه جليا أن سبنسر لا ينظر إلى الإنسان إلا كما ننظر إلى الحيوان، ولا يفهم من الغيرية إلا أنها تبادل المنفعة. ويزيد في قسوته أن كثيرين من "الضعفاء" هم ضحايا لفساد المجتمع, فهم مظلومون يتعين على المجتمع تخفيف الظلم عنهم. وما قيمة "الجزية" بالقياس إلى ازدياد الغيرية الحقة التي يراها سبنسر غاية التطور الإنساني، وبالقياس إلى احترام الكرامة الإنسانية في هؤلاء الضعفاء، وهذا الاحترام كسب خلقي من غير شك, ولكن المذهب المادي لا يعرف الخلقية، وسبنسر ينطق عنه بأفصح بيان. وقد بذل مجهودًا عظيمًا في شرحه وتأييده، فراح مجهوده عبثًا, وكان هو آخر رجال هذا المذهب في بلده. 169 - توماس هكسلي " 1825 - 1895 ": من أشهر القائلين بنظرية التطور وأكثرهم ضجيجًا ومهاترة. طبق هذه النظرية على الإنسان قبل دروين في كتابه "مكان الإنسان في الطبيعة" " 1863 " وله كتاب عن "هيوم، حياته وفلسفته" وله "محاولات" مختلفة " 1894 ". هو واقعي يرى أن المادية والروحية خطأ على السواء؛ لأنهما تفترضان أننا نعلم حقيقة الأشياء ونحن لا نعلمها. ويقال: إنه هو الذي وضع لفظ agnosticism " لاأدرية" للدلالة على هذا الموقف, فاصطنع سبنسر هذا اللفظ. وهو واضع لفظ Bathydius, ذلك أن بعضهم اعتقد أنه اكتشف في قاع البحر مادة هلامية هي حلقة الانتقال من عالم الجماد إلى عالم الحياة، ونظر فيها هكسلي فاعتقد

_ 1 في كتابه "فيما للإحسان من شأن خلقي".

أنها بروتوبلاسما ودعاها بذلك الاسم، ثم اتضح أنها طين لا أكثر أو راسب جرف مواد عضوية! وقد اعترف بذلك في دعابة لطيفة أثناء مؤتمر علمي بشفيلد في سنة 1879 , وأعلن أسفه لأنه كان السبب في تضليل كثيرين اعتمدوا على شهرته واستشهدوا به في تأييد التولد الذاتي. وهذا مثال على ما للنظريات من قوة إيحاء متى تسلطت على النفس، أو مثال على أن الغرض مرضٍ.

الفصل الرابع: الحركة الدينية

الفصل الرابع: الحركة الدينية 170 - نيومان " 1801 - 1890 ": أ- منذ أوائل القرن قامت في جامعة أكسفورد معارضة شديدة للمذهب التجريبي صادرة بالأكثر عن أسباب دينية، ثم ظهرت فيها معارضة فلسفية تعتمد على الفلسفة الألمانية وبخاصة على مذهب هجل، كما اعتمدت عليها المعارضة السابقة الممثلة بكولريدج وكارليل وهاملتون، غير أن الفلسفة الألمانية لم تدرس دراسة جدية في إنجلترا إلا في هذه الفترة الثانية أي: في الربع الأخير من القرن، وكانت جامعة أكسفورد هي المتقدمة في هذا المضمار. ولكن هذه الحركة الدينية الثانية تجرد الدين عن العقائد السلفية ولا تحتفظ إلا بالعاطفة الدينية خالصة. لذا لم يرض عنها المؤمنون وعدوها أشد خطرًا من الإلحاد السافر. ب- من أبرز رجال الحركة الأولى نيومان. قرأ هيوم واعتقد مثله أن الاستدلال عاجز عن توفير اليقين, ولكنه كان منذ حداثته شديد التقوى حتى كان مقتنعًا اقتناعًا يمكن أن يسمى عمليا أو تجريبيا بوجود الله كما يظهرنا عليه الإنجيل، فرأى أن الذي يبحث عن الجماعة الدينية التي احتفظت للآن بالحياة الإنجيلية، فلن يجدها إلا في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. فانضم إليها " 1845 " وصار قسيسًا فكردينالًا. ج- لم يبق طبعًا على تشككه في العقل, ولكنه ميز بين ضربين من التصديق: أحدهما يرجع إلى المعرفة التجريدية التي هي ثمرة استدلالات العقل النظري, والتي تظل بلا أثر فعال في السيرة، والضرب الآخر تصديق محسوس يخرج من صميم النفس ويقيد الحياة بأكملها. ومصدر هذا التصديق الضمير الذي هو القانون الإلهي للخلقية تدركه كل نفس في ذاتها. فالدين الحق هو الذي يقابل صوت الضمير ويدفع بالحياة الروحية إلى قمتها. وهو في هذا يساير هيوم الذي ميز بين "المعرفة" التي هي شكية حتمًا, وبين التصديق العملي بدوافع الطبيعة

الإنسانية؛ غير أن نيومان اتخذ من الضمير أساسًا موضوعيًّا تبنى عليه الحياة, ويبنى عليه اليقين العقلي. فهو قد انتهى إلى ضرب من البراجماتزم، وكتابه "أجرومية التصديق" مليء بالاعتبارات في التجربة الدينية. وهذه وجهة لها حظ كبير عند كثيرين من المحدثين الذين يرون أن للضمير والحياة الروحية قيمة ذاتية، وأن علامة الحق في كل رأي معروض هي ما لهذا الرأي من نفع لحياتنا الأخلاقية والدينية. 171 - سترلنج " 1820 - 1909 ": هو زعيم الحركة الثانية، فإن كتابه "سر هجل" " 1865 " أول كتاب مهم بالإنجليزية عن هذا الفيلسوف. والكتاب غريب يصطنع في بعض فصوله أسلوب النبوة بما فيه من حماسة وغموض. ويرى سترلنج أن الفلسفة الهجلية هي الفلسفة المسيحية بمعنى الكلمة؛ لأنها تبين أن المسيحية هي الديانة المطلقة وتوفق بين العقل والإيمان. ولما أنشأ اللورد Gifford المحاضرات الفلسفية الدينية المعروفة باسمه، افتتحها سترلنج " 1889 " بدروس في "الفلسفة واللاهوت". 172 - توماس هل جرين " 1836 - 1882 ": أ- أستاذ الفلسفة الخلقية بأكسفورد " 1878 ". كان معتبرًا زعيم الحركة الهجلية الإنجليزية، وقد أثر في شباب الجامعة تأثيرًا بليغًا يرجع بالأخص إلى سمو شخصيته. أهم مؤلفاته: "المدخل إلى هيوم" " 1874 " ينقده فيه نقدًا نافذًا، و"مقدمة للأخلاق" " 1883 " يحاول فيها أن يهتدي إلى أساس للأخلاق غير تجريبي. ب- وجه همه منذ البداية إلى محاربة المذهب الحسي والإلحاد ومذهب اللذة، أي: إلى إعادة العقل في المعرفة، والله في الدين, والخلقية في السيرة. فالمعرفة لا تستغني عن العقل إذ لا معرفة بدون علاقات تربط بين الظواهر فتؤلف الأشياء ومبادئ العلم "كما بين كنط". وهذا الربط يكشف لنا عن وحدة الوجدان "كما بين كنط أيضًا". فلا يمكن اعتبار الوجدان نتاجًا آليًّا للتطور البيولوجي عاطلًا من العقل. ليست توجد الطبيعة "في مذهب كنط" إلا بفضل

الأنا الذي يكون موجوداتها ويدركها، فكيف تعكس الآية ويقال: إن الطبيعة تخلقه؟ ج- والله أو المطلق موجود بدليل أن الإحساس جزئي ناقص يفترض علاقة بمعرفة كلية تندرج تحتها جميع الإحساسات، وهذه المعرفة الكلية موجودة بالعقل الكلي أو الله، فالله أصل مفترض لكل معرفة. ثم إن رجوعنا إلى أنفسنا يكشف لنا عن مثل أعلى نحس أننا ملزمون بتحقيقه، والله متضمن في هذا الشعور بالمثل الأعلى، بل إن هذا الشعور هو أكثر من دليل على وجود الله، إنه حضور الله فينا "بالمعنى الذي يريده هجل، أي: إن الله يتحقق في الإنسان". أما قول هاملتون وسبنسر: إن المطلق غير معلوم فقول متناقض من حيث إن العلم بوجود المطلق إدراك لشيء عنه. فالعقل ينتهي إلى الإيمان ويتكمل به, على أن هذا الإيمان إيمان عقلي بحقائق عقلية، فلا ينبغي فهم العقائد المسيحية فهمًا حرفيًّا، بل يجب اعتبارها رموزًا لتلك الحقائق "كما بين كنط وهجل". د- والأخلاق تصدر عن نفس المبدأ. إن الأنا الإنساني مشارك في الأنا الكلي، وتقوم الحياة الخلقية في التقدم نحو التوحيد بين الطرفين "أي: نحو تأليه الإنسان" وهذه الغاية لا تحقق بإرضاء نزعة جزئية أية كانت، بل بإرضاء طبيعتنا جمعاء. وإن الفرد ليجد في المؤسسات الاجتماعية عونًا في سبيل هذا التقدم نحو الكلي، فلا يسوغ له معارضة مؤسسة ما بخيره الذاتي "وبذا يقف جرين في صف المحافظة الاجتماعية كما وقف هجل". هـ- وقد كان لهذه الحركة الدينية الهجلية أشياع بين اللاهوتيين والوعاظ من البروتستانت استغلوا فلسفة هجل بصور مختلفة, نذكر منهم جويت " 1817 - 1893 " المعروف بترجمته لمحاورات أفلاطون وشرحه عليها؛ ونذكر كيرد " 1820 - 1898 " وأخاه " 1835 - 1908 ".

المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا

المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا مدخل ... المقالة الثانية: الفلسفة في فرنسا 173 - تمهيد: في هذه المقالة نجمع في فصل أول بين فلاسفة بعضهم على المذهب الواقعي, والبعض الآخر على المذهب الروحي النابع من فيكتور كوزان وطريقة التخير. ولكن هناك فلاسفة كانوا أكثر أصالة وأعمق أثرًا يرجعون إلى مين دي بيران وطريقته النفسية, ويحاولون إنقاذ الحرية الإنسانية من الآلية العلمية, وهم طبقتان نستوفي الكلام عليهم في فصلين.

الفصل الأول: بين الواقعية والروحية

الفصل الأول: بين الواقعية والروحية 174 - إميل ليتري " 1801 - 1881 ": هو أشهر تلاميذ أوجست كونت. اعتزل أستاذه لما رآه يبتدع دين الإنسانية، وقال: إن الدين كان المرحلة الأولى من مراحل العقل, وإن هذه المرحلة انقضت ولا ينبغي أن يكون لها رجعة. فعمل على إذاعة المذهب الواقعي الأول ومعارضة الثاني. وأكمل تصنيف العلوم بإدخال الاقتصاد السياسي، وعلم النفس الفلسفي الذي يفحص عن طرائق المعرفة وقواعدها، وعلم الأخلاق وعلم الجمال وعلم النفس التجريبي. وله عبارة مأثورة في الميتافيزيقا هي أنها "محيط يضرب شاطئنا, ولكنا لا نملك له سفينة ولا شراعًا". 175 - أرنست رنان " 1723 - 1892 ": أ- كاتب شهير ومستشرق معروف. كان يعد نفسه للإكليروس، ثم تشكك في الدين عن طريق النقد التاريخي، فتحول عن مشروعه، وقضى حياته يكتب في المسائل الدينية ويعقب على الكتب المقدسة. أشهر تآليفه "مستقبل العلم" دوّنه سنة 1848 ولم ينشره إلا سنة 1890؛ و"حياة يسوع" " 1863 "؛ و"ابن رشد والرشيدية" " 1869 "؛ و"محاورات فلسفية" " 1876 ". ب- "مستقبل العلم" أن يحل محل الدين. والعلم يعني -بنوع خاص- التاريخ وفقه اللغات، فهما علما الأمور الروحية، يظهران الإنسانية على ماهيتها خلال نموها، ويشعرانها بالقوة التي تسوقها، كما قال هجل 1، والمهمة الأولى للمؤرخ الفحص عن أصول المسيحية التي هي أرقى ديانة روحية. وفي هذا

_ 1 ويعني العلم عند آخرين من المعاصرين جملة العلوم الفيزيقية والكيميائية والحيوية, وقد أثملتهم روائع مكتشفاتها وبدائع تطبيقاتها، فرأوا في العلم التجريبي الفيصل الأوحد بين الحق والباطل، والمنبع الأوحد للسعادة المنشودة؛ إذ به ينظم المجتمع تنظيما معقولا وتتغلب الإنسانية على المرض والشيخوخة والموت، بل تجد فيه القاعدة الوحيدة للأخلاق. وقد سميت هذه النزعة Scientisme أي: المذهب العلمي الذي هو المذهب الواقعي, الذي هو المذهب المادي.

الفحص يفسر لنا رنان كل شيء تفسيرًا طبيعيًّا، فإن الدين عنده خرافة، أو بتعبير ألطف هو فرض مفيد يرفع النفس, وبذا يجمع رنان بين الواقعية والروحية. على أن التفسير الطبيعي ليس في رأيه رد الأحداث إلى "جدل باطن" كما يفعل الهجليون, بل ردها إلى تأثير عظماء الرجال. وقد كان يسوع واحدًا منهم، بل كان "رجلا منقطع النظير" وجد حقا "لا كما زعم شتراوس" ولكنه لم يكن على ما زعم له الحواريون. ج- هذا الاتجاه العام في التفكير يحتمل فوارق واختلافات كثيرة تقلب بينها رنان. فكان ينكر رأيًا ثم يعود فيصطنعه ثم يعود فينكره وهكذا، ولا تعوزه الحجة في كل مرة. وهو إذ يؤرخ لابن رشد وأشياعه من الغربيين يميل ميلًا ظاهرًا إلى الآراء الإلحادية وأصحابها. وهو إذ يكتب المحاورات الفلسفية يجري قلمه بشك لطيف عابث على طريقة فولتير. 176 - إيبوليت تين " 1828 - 1893 ": أ- أديب مؤرخ فيلسوف تدل عناوين كتبه على تنوع كفاياته, منها: "تاريخ الأدب الإنجليزي" في خمسة مجلدات " 1853 "؛ و"الفلاسفة الفرنسيون الكلاسيكيون في القرن التاسع عشر" في مجلدين " 1856 "؛ و"المثل الأعلى في الفن" " 1867 "؛ وكتابه الفلسفي المشهور "في العقل" في مجلدين " 1870 "؛ و"أصول فرنسا المعاصرة" في اثني عشر مجلدًا صدرت تباعًا بعد سنة 1870؛ ينصف فيها نظام الحكم القديم ضد الثورة وميولها. ب- في كتاب "العقل" يحذو حذو كوندياك والفلاسفة الحسيين من الإنجليز، فيصف الإحساس بأنه أولا وقبل كل شيء ظاهرة عصبية قد يطرأ عليها الشعور وقد لا يطرأ، فالشعور ظاهرة عارضة لا أصلية، والوجدان في جملته ظواهر منفصلة تربط بينها قوانين التداعي كما أن الشيء الخارجي ذرات مستقلة تجمع بينها قوانين الحركة. والإدراك الظاهري واقع على صورة باطنة لا على شيء خارجي، فهو تخييل، غير أنه "تخييل صادق" والصورة المتخيلة "تخييل كاذب". والمعنى المجرد لفظ ليس غير يذكر بالجزئيات؛ والحكم والاستدلال تركيب ألفاظ, إلى غير ذلك من الآراء التي ينقلها عن الحسيين

وكل نصيبه فيها براعة العرض والتمثيل. وهو يجمع إلى هذا أشياء من سبينوزا وأخرى من هجل، فيتصور الله مجرد قانون, "القانون السرمدي" الذي تنتهي عنده سائر القوانين الجزئية؛ ولا يعتقد بخير أو شر بالذات، فلا يعنى بنتائج هذا الموقف في الحياة العلمية. وهو الذي عناه بول بورجي في قصته "التلميذ" يذيع آراء ثم يندهش لما تؤدي إليه من فواجع. 177 - إميل فاشرو " 1890 - 1897 ": أ- معروف بكتب ثلاثة: "التاريخ النقدي لمدرسة الإسكندرية" " 1846 - 1851 "؛ و"الميتافيزيقا والعلم" " 1858 "؛ و"المذهب الروحي الجديد" " 1884 ". ب- يعارض كوزان في طريقة التخير، ويقول بوحدة الوجود على طريقة هجل. فمن الوجهة الأولى يذكر أن مصادر المعرفة ثلاثة: المخيلة والوجدان والعقل. المخيلة تتصور الوجود كله على مثال المحسوسات فتؤدي إلى المادية, والوجدان يحملنا على تصور الوجود قوة روحية على مثال ما نعهده في أنفسنا. والعقل يدفعنا إلى أن نرى في الوجود نموًا ضروريًّا لقوة لامتناهية بموجب مبادئ ضرورية على مثال مذهب سبينوزا. فالمواقف الأصلية متعارضة لا يمكن التوفيق بينها ولا اختيار أحدها. ومن الوجهة الثانية يقول: إن الاختيار يتعين بين الموجود والمثل الأعلى, ذلك أن كل موجود فهو متناهٍ كالموجودات التي تمثلها المخيلة؛ أما الكمال اللامتناهي فمثل أعلى غير متحقق وغير ممكن التحقيق بتمامه لتنافي اللانهاية والوجود، ولكن المثل الأعلى يضفي على الموجود معناه ويعين اتجاهه. فالله غير متحقق ولكنه يتحقق شيئًا فشيئًا بتحقيق المثل الأعلى "كما جاء عند هجل ورنان". وقد رد "كارو" "وهو من نفس المدرسة" على فاشرو ورنان وتين في كتاب بعنوان "فكرة الله" " 1864 ". 178 - جول سيمون " 1814 - 1896 ": أ- هو روحي عقلي. صنف كتابًا في "تاريخ مدرسة الإسكندرية" " 1845 " وكتبًا فلسفية أهمها: "الدين الطبيعي" " 1856 "، و"حرية الضمير" " 1857 "؛ و"الحرية" " 1859 "؛ و"الواجب".

179 - بول جاني " 1823 - 1899 ": هو أقرب إلى كوزان, ولكنه لا يفهم التغير على أنه انتخاب آلي للآراء المشتركة, بل على أنه تطبيق المنهج الموضوعي الذي أفلح في التوفيق بين العلوم. ويبدو هذا التطبيق في كتابه "تاريخ الفلسفة" وهو كتاب متداول ومترجم إلى الإنجليزية، حيث يقدم على تاريخ المدارس تاريخ المسائل فيتتبع الحلول في كل مسألة من بداية الفلسفة إلى أيامنا. وكتابه "العلل الغائية" " 1877 " يستمد كل مادته من العلوم. وكتابه "الأخلاق" " 1874 " يقرر أن أداء الواجب هو نمو الطبيعة الإنسانية نحو كمالها، فيوفق بين كنط وأرسطو. وكتابه الأخير "علم النفس وما بعد الطبيعة" " 1897 " يدور على النقطة الجوهرية في روحانية كوزان, وهي الوصول إلى الميتافيزيقا عن طريق الاستبطان.

الفصل الثاني: فلاسفة الحرية طبقة أولى

الفصل الثاني: فلاسفة الحرية "طبقة أولى" 180 - جول لكيي " 1814 - 1862 ": تخرج في مدرسة الهندسة بباريس, واشتغل بالفلسفة، وكان هدفه الأول التدليل على الحرية. نهج في ذلك منهج ديكارت في "البحث عن حقيقة أولى" "وهذا عنوان كتابه الذي لم ينشر إلا في سنة 1924 ". يريد أن الحرية شرط المعرفة أو أنها الحقيقة الأولى بين الحقائق التي نوفق إلى اكتسابها، لكن لا باعتبارها ظاهرة وجدانية، على ما يذهب إليه الروحيون، إذ إن الشعور بانتفاء القسر "أو عدم الشعور بالقسر" لا يعد دليلًا على حرية الفعل, وإن التجربة الباطنة لا تعد حجة إلا إذا وجدت النفس في عين الظروف مرتين أو أكثر فجاء فعلها في كل مرة مختلفًا، وهذا مستحيل الوقوع. فالوسيلة إلى التدليل على الحرية هي أن نضع أنفسنا موضع الباحث عن حقيقة أولى, "وكيف أعتزم البحث، وأحدد الغاية، وأقاطع العادة والمألوف من الآراء، وأحاول وضع نفسي في حالة استقلال وإخلاص ... إذا كانت أفكاري تتعاقب في نظام لا سيطرة لي عليه؟ " الحرية هي إذن القدرة على التصرف بأفكاري وسلكها في نظام غير محتوم. فالحرية هي الحقيقة الأولى السابقة على كل حقيقة, ذلك بأني لا أستطيع أن أثبت أو أن أنفي إلا بواسطة الحرية أو الضرورة، وهناك أربعة فروض لا خامس له: فإما توكيد الضرورة ضرورة, أو توكيد الحرية ضرورة، أو توكيد الضرورة بحرية، أو توكيد الحرية بحرية. فالفرض الأول لا يدع مجالا للمعرفة كما تقدم، والثاني متناقض، والثالث متناقض كذلك، والرابع هو الفرض الممكن في ذاته وفاتح الطريق إلى المعرفة, فلا يقام على الحرية دليل بمعنى الكلمة، ولكنها تسلم تسليمًا. "وإني أفضل أن أثبت الحرية، وأن أثبت أني أثبتها بوساطة الحرية, وإثباتي هذا ينقذني ويحررني. وإني آبي مواصلة معرفة لا تكون معرفتي، وأعتنق اليقين الذي أنا صانعه".

181 - شارل سكرتان " 1815 - 1895 ": سويسري الموطن, فرنسي اللغة, أستاذ بجامعة لوزان. أراد أن يقيم الأخلاق على تأويل فلسفي للعقيدة المسيحية, وعرض هذه المحاولة في كتابه "فلسفة الحرية" " 1848 , 1849 " فقال: إن الأخلاق لا تستغني عن الحرية فينبغي الفحص عن مبدأ أعلى كفيل بأن يكون لها أصلًا وقانونًا, هذا المبدأ هو الله. إن مذهب وحدة الوجود يرى في الله موجودا ضروريا بضرورة ذاتية، فيرى في فعله فعلًا ضروريًّا كذلك إذ كان من الممتنع الحصول على الممكن ابتداء من الضروري. فلن ننجو من وحدة الوجود إلا بالتسليم بأن الله حرية مطلقة، حتى بإزاء حريته نفسها، وأنه هو ما يريد أن يكون، فإن الموجود الذي يمنح نفسه الكمال بحرية لهو أكمل من الوجود الكامل بالطبع. فالميتافيزيقا تاريخ الأفعال الممكنة للحرية المطلقة, وليس يريد الله الخليقة تبعا لنزوع فيه، فإن هذا يجعل من الخلق فعلًا ضروريًّا. فهو إذن يريد الخليقة لذاتها لا لذاته، وهذه هي المحبة، ويريدها كغاية وإذن يريدها حرة. والأخلاق تحقيق الحرية, والواجب الذي ترجع إليه جميع الواجبات هو التحاب؛ لأن الناس جميعًا متضامنون. 182 - أنطوان كورنو " 1801 - 1877 ": أ- رياضي كبير يمتاز بنظريتين: نظرية في نسبية المعرفة على وجه خاص به، ونظرية في وجود الاتفاق أو الصدفة؛ والنظريتان ترميان إلى ضمان الحرية، فإنه إذا كانت معرفتنا نسبية فليس يسوغ القول بالضرورة المطلقة، وإذا كان في العالم مجال للاتفاق كان فيه مجال للحرية. وقد فصل هاتين النظريتين في كتبه الآتية: "عرض نظرية الحظوظ والاحتمالات" " 1843 " و"محاولة في أسس معارفنا وفي خاصية النقد الفلسفي" " 1851 " و"تسلسل الأفكار الأساسية في العلوم وفي التاريخ" " 1861 " و"اعتبارات في سير الأفكار والأحداث في الأزمنة الحديثة" " 1872 " و"المذهب المادي والمذهب الحيوي والمذهب العقلي" " 1875 ". ب- نسبية المعرفة معناها أن المعرفة لا تقع إلا على نسب أو علاقات، غير

أن هذه العلاقات موضوعية, فالمعرفة موضوعية، لكنها لما كانت واقعة على علاقات فهي تترتب في درجات من الاحتمال دون أن تبلغ إلى اليقين المطلق. فنحن من الجهة الواحدة متصلون بالأشياء تابعون لها في حياتنا، فمن الطبيعي أن ندركها من الناحية التي تهمنا لا في حقيقتها المطلقة. ومن جهة أخرى نحن ندرك هذه الأشياء في علاقاتها بعضها ببعض, مثال ذلك: أن الإدراك المباشر الذي يرى الذهب أصفر هو أبعد عن الواقع من معرفة الفيزيقي الذي يعلم أن هذا اللون الأصفر مركب من لون الذهب وأثر انعكاس الضوء على سطحه, ويزيد اقتراب الفيزيقي من الواقع إذا استطاع ربط ما للذهب من خصائص بصرية بتركيبه الذري, ولكن علمنا صادق في هذه الحدود. والدليل على صدقه نجاحه، فإن هذا النجاح يدل على أن بين الوجود والعقل مطابقة. وكذلك القول في الفروض أو النظريات العلمية، فإنها تقبل متى سمحت بالربط بين الظواهر ربطًا معقولًا، وكلما اتسع نطاق التطبيق كانت النظرية أكثر احتمالًا، كما هو الحال في نظرية الجاذبية العامة. فالفرق بين كورنو وبين كنط أن النسبة عنده نسبة المعرفة إلى الشيء المعروف, وأنها عند كنط نسبة الشيء المعروف إلى طبيعة القوة العارفة. ج- والاتفاق يبدو أولا في كون المعاني الأساسية في علومنا متباينة منفصلة بحيث يمتنع سلكها في نظام تام الوحدة, فليس هناك انتقال منطقي من فكرتي الزمان والمكان إلى فكرتي القوة والمادة, ومن هاتين إلى فكرة الألفة الكيميائية، ومن هذه الثلاث جميعًا إلى فكرتي الحياة والجسم العضوي, ومن هاتين إلى فكرتي العقل والمجتمع "على ما قال أوجست كونت". ويبدو الاتفاق ثانيًا من ضرورة التمييز في جميع ميادين المعرفة بين القوانين أو العلاقات المطردة التي تسمح لنا بتوقع الظواهر، وبين ظروف الظواهر من زمان ومكان وغيرهما، وهي ظروف لا تتكرر، ولا تفسر إلا بالرجوع إلى ظواهر سابقة ومن هذه إلى أخرى سابقة وهكذا إلى غير نهاية. فسواء اعتبرنا ظواهر المادة البحتة أو الظواهر البيولوجية أو الظواهر الإنسانية، قلنا: إن في أصلها وقائع تاريخية أي: ظواهر اتفاقية. فبإزاء العلوم الفيزيقية يقوم علم تكوين العالم، وبإزاء البيولوجيا يقوم التاريخ الطبيعي وبإزاء علم النفس وعلم الاجتماع يقوم التاريخ الإنساني. ولا يوجد تفسير علمي

لهذه الوقائع، من حيث إن العلم معرفة القانون, وإن الاتفاق خارج عن القانون. ولكن ما يعجز العقل الإنساني عن تفسيره قد يكون معقولًا للعقل الإلهي باعتباره عقلًا مشخصًا حيًّا لا مجرد عقل منطقي. على أن الله ليس موضوع علم, بل موضوع إيمان. 183 - شارل رنوفيي " 1815 - 1903 ": أ- تخرج هو أيضًا في مدرسة الهندسة بباريس، وكان كمعظم طلابها مشايعًا لسان سيمون, مناصرًا لفكرة الجمهورية. وكان أوجست كونت معيدًا له بهذه المدرسة، وكان جول لكيي قرينًا له وصديقًا، وقد قال هو عنه: "إنه الرجل الذي قشع الغشاوة عن عينيه، وعلمه ما الحرية وما اليقين وما العلاقة بين الحرية والإيمان" فكانت الحرية الركن الأول من أركان مذهبه, وساقته إلى نقد كل مذهب يعتبر الحياة الخلقية مظهرًا ضروريًّا لقانون كلي أو لموجود مطلق, أعني: الآلية العلمية والجبرية التاريخية والدين. وقادته دراسته الرياضية إلى العناية بفكرة اللانهاية, فرأى أن العدد اللامتناهي ممتنع, وأن كل مجموع واقعي يجب أن يكون متناهيًا، فكان التناهي ركنا آخر من أركان مذهبه ساقه إلى نقد كل نظرية من نظريات الاتصال التي تضع بين الأشياء فوارق غير متناهية فتندرج من شيء إلى آخر تدرجًا متصلًا، وجاء هذا النقد موافقًا لمواقفة من الحرية والأخلاق. ودرس ديكارت وكنط وهيوم، فأخذ بالتصورية وبنسبية المعرفة، أي: بأن ليس هناك سوى ظواهر وأن ظاهرة ما لا تفهم إلا باعتبارها مركبة من ظواهر أخرى أو داخلة في تركيب ظواهر أخرى, فكان هذا الموقف الركن الثالث من أركان مذهبه وجاء مطابقًا للركنين الأولين، فإن متناقضات العقل التي حصرها كنط تحتم علينا الاختيار بينها، وإنما تختار القضايا التي تثبت للعالم خصائص متناهية فنعدها صادقة ونعد نقائضها كاذبة، بخلاف ما ذهب إليه كنط من أن القضايا ونقائضها غير قابلة للتفنيد، وساقه هذا الاعتبار إلى فلسفة نقدية سميت بالفلسفة النقدية الجديدة neo-criticisme. وتلك هي قسمات فلسفته تجدها منبثة في جميع كتبه. ب- هذه الكتب هي: "محصل الفلسفة القديمة" " 1842 " محصل

الفلسفة الحديثة" " 1844 " "محاولات في النقد العام" المحاولة الأولى "تحليل عام للمعرفة" " 1851 " والثانية "في الإنسان" " 1858 " والثالثة في "مبادئ الطبيعة" " 1864 " والرابعة "المدخل إلى الفلسفة التحليلية للتاريخ" " 1864 " وكتاب "الخيال في التاريخ" " 1857 " و"علم الأخلاق" " 1869 ". وفي سنة 1872 أسس مجلة "النقد الفلسفي" نشر فيها مقالات كثيرة, ثم أسس مجلة "النقد الديني" " 1878 " لنشر البروتستانتية. وابتداء من 1891 أحل مجلة "العام الفلسفي" محل مجلة "النقد الفلسفي" ونشر الكتب الآتية: "الفلسفة التحليلية للتاريخ" في أربعة مجلدات " 1896 - 1898 " "المونادولوجيا الجديدة" " 1896 " "متناقضات الميتافيزيقا الخالصة" " 1901 " وبعد وفاته نشرت " 1910 " مراسلته مع شارل سكرتان وهي تمتد من 1868 إلى 1891. ج- قلنا: إن الحرية هي الركن الأول من أركان مذهبه, وهو يضعها وضعًا كما فعل لكيي مع اختلاف في الطريقة، فإنه يقول: إن العلوم لا تفحص عن مبادئها ولا عن المعاني الأساسية فيها، ولكنها تقتصر على استخدام المبادئ لتسجيل العلاقات بين الظواهر, وفي هذه الوظيفة تنحصر قيمة المبادئ, وهذا هو السبب في اتفاق العلماء فيما بينهم. وعلى ذلك فالعلوم متمايزة بتمايز مبادئها, ولا يمكن سلكها في علم كلي. وإن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه أنصار العلم تصورهم الفلسفة على أنها العلم الأعلى الذي يضع جميع الظواهر تحت مقولة الكم فحسب, في حين أن هذه المقولة لا تنطبق إلا على أبسط الظواهر. ليست الفلسفة مثل هذا العلم، بل إنها ليست علمًا، إذ إنها تفحص عن مبادئها الخاصة وتضعها موضع المناقشة، فليس من مبدأ يفرض نفسه على الفكر دون منازع، وليس من مبدأ إلا وقد وجد من شك فيه ويمكن الشك فيه. فالفيلسوف يضع مبادئه بفعل ذاتي تتدخل فيه جميع قواه ومنها الهوى والإرادة "كما ارتأى فختي". فليس اليقين حالة انفعالية للعقل، ولكنه حالة فعلية، بحيث يمكن القول أن ليس هناك يقين وإنما هناك أناس موقنون. فالحرية هي الحقيقة الأولى في ميدان المعرفة, هي مسلمة من المسلمات يستخدمها الجبري نفسه حين يختار الجبر والضرورة مبدأ أول، ومع هذا الفارق وهو أنه يناقض نفسه بينما الحري يتفادى التناقض.

ورنوفيي فيما يخصه يختار الإيمان بالعقل واصطناع مبدأ عدم التناقض الذي هو عماد العقل. د- أما فكرة التناهي التي هي الركن الثاني من أركان مذهبه فتلزم من اعتبار أن كل موجود بالفعل فهو متناهٍ ضرورة, وأن كل عدد فهو جملة معينة. وليس لفكرة اللامتناهي سوى معنى واحد مقبول هو قدرة العقل على اطراد سيره دائمًا؛ وإذا ما قصدنا بها موجودًا عينيًّا كانت متناقضة. ولما كان العالم؛ أي: مجموع تصوراتنا، خاضعًا لقانون العدد، كان متناهيًا، ولو أن تجربتنا تعجز عن استيعابه, فليس يمكن القول بجوهر مادي ينقسم إلى غير نهاية، ولا بالمكان الذي هو خاصية من خصائص المادة، ولا بالزمان وهو متجانس متصل كالمكان، ولا بالحركة وهي انتقال في المكان والزمان. ولذا نستبعد الآلية التي ترد الموجودات جميعًا إلى جوهر مادي واحد، وترد الأفعال والأحداث إلى سلسلة متصلة، فتجعل في العالم محلا للإمكان والحرية. وهذا يعني أننا نتصور الأشياء مركبة من وحدات منفصلة أو مونادات، وأننا نتصور الأفعال والأحداث متمايزة منفصلة، على أن المونادا ليست جوهرًا روحيًّا كما قال ليبنتز ولكنها متقومة بالعلاقات الباطنة والظاهرة بين التصورات ليس غير، وقانون تصور الامتداد هو الذي يحدونا إلى تصورها كأنها ذرة أو جوهر فرد قائم بذاته. وكذلك ليس يمكن القول بجوهر روحي غير متناه, ما فكرة الله إلا فكرة النظام الخلقي الضامن لخلود النفس ومطابقة السعادة والفضيلة على ما قال كنط، دون حاجة إلى تصور الله خالقًا للطبيعة وموفقًا بينها وبين الفضيلة. الله مملكة الغايات أو نظام الغائية. وإذا أردنا أن نؤمن بإله وجب أن نتصوره متناهيًا حتى يكون معقولا ويدع مجالا لحريتنا. ومتى سقط اللامتناهي سقط أيضًا إمكان الانتقال بفوارق غير متناهية بين الظواهر، ولزم أن قيمة قانون العلية محدودة، وأن من الممكن أن توجد علل لا تكون معلولات, أي: أن توجد "بدايات مطلقة" كما يقولون، أو إن حرية الإرادة ممكنة. وهذا مهم جدا للأخلاق. ويدلنا التاريخ على أن ليس هناك قانون تاريخي كلي, وإنما هناك قوانين متعددة ينطبق كل منها على مرحلة من مراحل التاريخ, ولكل مرحلة بداية جديدة، أي: فعل حر كان يمكن أن يكون غير ما كان. البدايات الجديدة هي عظماء الرجال، فإن ما يدلون عليه من

قدرة خالقة يشهد ببطلان القول بأن الشخصية نتيجة تطور بطيء, وإن في المنهج التاريخي الذي يعتبر كل ما يحدث كأنه الممكن الوحيد. وعلى ذلك ينتهي رنوفيي إلى التصورية المطلقة، ولكنه لا يبين أساس القوانين الطبيعية, ولا كيف يتحقق نظام الغائية بالقوانين الطبيعية، ولا أصل النظام الغائي؛ ولم ير أن فكرة الإله المتناهي هي الفكرة المتناقضة من حيث إن المتناهي لا يمكن أن يكون مبدأ أول, وإن التناهي في العدد غير التناهي في الوجود. هـ- وأما نسبية المعرفة التي هي الركن الثالث من أركان مذهبه فلازمة من كوننا لا ندرك سوى تصوراتنا وعلاقاتها. والعلاقات الأساسية هي المقولات ولا تستنبط المقولات استنباطا قياسيا أو بالتركيب الأولي كما حاول ذلك كنط، بل تستخلص من تحليل التجربة، وهذه إحدى النقط التي يفترق فيها رنوفيي عن أستاذه الكبير، فإنه يقول: "لقد طلب كنط المستحيل إذ أراد أن يبرهن على أن مقولاته هي المقولات الحقة, وأن ليس هناك أكثر ولا أقل من التي يوردها, أما أنا فقد نهجت منهجًا تجريبيًّا، ولا أدري كيف أستطيع أن أفعل غير ذلك فليسأل القارئ نفسه إن كان هذا الجدول مرضيًا مستنفدًا كل مضمون التصور وهذا كل ما له عليّ". والمقولات تؤلف نظامًا من المعاني مرتبة، وهذا النظام عبارة عن فلسفة، وها هو ذا: هذه المقولات ترجع كلها إلى مقولة الإضافة للأسباب التي تحتم القول بالنسبية. وإن مبدأ النسبية ناشئ من طبيعة شعورنا، فإن الشعور نفسه

نسبة، ولكنه يتميز من سائر النسب بأنه نسبة بين الأنا كذات والأنا كموضوع, أي: نسبة بين حدين هما شيء واحد. وهكذا كان الشعور أساس سائر النسب إذ إنها لا تتضح إلا بردها إلى هذه النسبة الرئيسية. وإذا أريد تجاوز الظواهر فليس يمكن ذلك إلا بمسلمات دينية، بشرط ألا تتعارض ومبدأ النسبية بقبول فكرة إله لامتناهٍ. ورنوفيي يوافق هيوم على استحالة البرهنة على موضوعية علاقة العلية والخروج بوساطتها من دائرة التجربة, ويفترق عنه بقوله: إن مقولة العلة مرتبطة بطبيعة شعورنا كما تقدم، وبقوله: إن الإرادة هي أساس هذه المقولة في الشعور، أي: إن معنى الإرادة هو الذي يجعل معنى العلة مفهومًا فلا يرد إلى معنى أسبق منه, بل يجب أن يقف عنده الفكر بموجب قانون النسبية. ولكنا نسأل: هل الحد الذي يحتم علينا هذا القانون الوقوف عنده هو حد أول بذاته، أو هو أول بالإضافة إلينا؟ في الحالة الأولى نصل إلى المطلق ويصبح قانون النسبية نسبيا مع أنه في طبيعة شعورنا؛ وفي الحالة الثانية لا يسوغ لنا كذلك اعتباره أول والوقوف عنده, فلا محيص عن التناقض. إن المنطق يقضي أن يقودنا قانون النسبية إلى اللانهاية التي يأباها رنوفيي كل الإباء فيقول بحق: إن التسلسل لا يوفر لنا أي تفسير. وبناء على هذه الأركان الثلاثة, ما مكان الإنسان في العالم؟ هناك نظريتان: إحداهما تخضع الشخص "للشيء" أي: للموضوع الذي لا شخصية له، والأخرى تتصور الأشياء بالمماثلة مع الشخص. التصويرية تحسم الخلاف وتنحاز إلى النظرية الثانية؛ إذ مهما يكن من تسلط الموضوع على العقل فإن العقل يدرك أن الموضوع موضوعه هو وليس مباينًا له. فالعقل متقدم على الموضوع تقدمًا منطقيًّا, ونحن لا نعقل العالم إلا بتأويله تبعا لتجربتنا الباطنة وبالمماثلة معها فنعود إلى الموقف الأول للإنسان حين كان يشخص قوى الطبيعة، ولكننا نستخدم الفلسفة ولا نجري مع الخيال والأسطورة، فنتصور الأشياء مونادات كما ذكرنا. ولكن المونادا عند رنوفيي جملة علاقات كما سبق القول، فكيف تكون شخصيا؟ نرى ههنا التعارض بين النسبية وبين النزعة الشخصية: الأولى لازمة من الفلسفة الحديثة، والثانية لازمة من "الإرادة" التي يؤكدها العصر الحديث ويبالغ في توكيدها.

ز- وإذا سلمنا أن الإنسان شخص، وأن الشخص موجود خلقي كما يريد رنوفيي، فكيف تكون أخلاق الإنسان؟ يريد رنوفيي أيضًا أن تقوم الأخلاق علمًا مستقلًّا بذاته لا يستند إلى الدين أو إلى الميتافيزيقا. والسبيل إلى ذلك في رأيه أن نبدأ بفكرة الإنسان باعتباره "موجودًا حاصلًا على العقل ومعتقدًا نفسه حرًّا". هذا الموجود يعلم بالتجربة أن له غايات رئيسية وأخرى ثانوية, غايات بعيدة وأخرى قريبة، خيرات زائلة وأخرى دائمة، خيرات يعرضها العقل وأخرى تدفع إليها الشهوة؛ فيحكم أن غايات معينة هي الأفضل على كل حال. وهذا هو الحكم التركيبي الأساسي الذي يتحقق فيه معنى الواجب، أي: كلما رأى العقل غاية "واجبة" التحقق بموجب قوانينه، رآها في الوقت نفسه "واجبة" الطلب بالإرادة, وحينئذ تنشأ واجبات الإنسان نحو نفسه. فإذا تصورناه في علاقة مع الطبيعة نشأ واجب احترام كل ما يتصف بالنظام والعقل. وإذا تصورناه في علاقة مع الحيوان، ثم مع إخوانه في الإنسانية نشأ واجب العدالة، ونشأت مع العدالة معاني الكرامة والاحترام والحقوق والواجبات. وهكذا يتم علم الأخلاق العقلي, ولكن رنوفيي لا يسوغ الانتقال من الوجوب العقلي إلى إلزام الإرادة، ونحن هنا بين حدين متباينين. إن هذا الانتقال لا يسوغ إلا بالتدليل على أن الوجوب العقلي يريده إلزامًا للإرادة مشرع هو خالق العقل والإرادة. وهذا التسويغ، وتسويغ تعريف الإنسان بأنه موجود عاقل حر خلافًا للمذهب الحسي مثلًا، يرجعان إلى الميتافيزيقا؛ فعلم الأخلاق علم تابع وليس علمًا مستقلًّا. وفلسفة رنوفيي في جملتها قائمة على التصورية وما تستتبعه من نسبية أو شك, وعلى خلط بين اللانهاية التي تعني عدم التعيين، واللانهاية التي تعني كمال الوجود بالفعل. وتشخيص الأولى تناقض، وتشخيص الثانية يحتمه معنى العلة الأولى الذي يحتمه النظر في الوجود, كما أوضحنا غير مرة وسنضطر إلى إيضاحه غير مرة، إذ إن هذا الخلط شائع.

الفصل الثالث: فلاسفة الحرية طبقة ثانية

الفصل الثالث: فلاسفة الحرية "طبقة ثانية" 184 - فليكس رافيسون " 1813 - 1900 ": أ- هو زعيم هذه الطبقة الثانية. كان في العشرين لما أعلنت أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية، بناء على اقتراح فيكتور كوزان، عن مسابقة في "ميتافيزيقا أرسطو، عرضها ومناقشتها" فعالج الموضوع وفاز بالجائزة. ثم عاد إلى رسالته يتوسع فيها ويتعمق حتى صارت الكتاب المشهور الذي صدر جزؤه الأول سنة 1837 "وهو المخصص لأرسطو" وصدر الثاني سنة 1864 "وهو مخصص للفلسفة اليونانية بعد أرسطو وتأثرها به". في هذه الدراسة وجد أن الحياة، النامية منها والحاسة والناطقة، لا ترجع إلى المادة بل إلى قوة ذاتية أو نفس، وأن علة الحياة والحركة في الطبيعة نزوع يدفع بها صوب "العقل الإلهي" الذي هو موجود حقا وليس مجرد مثال من المثل الأفلاطونية. ووجد في الفلسفة الأرسطوطالية مدخلًا إلى المسيحية, ذلك بأن أرسطو يقول: إن الخير بالذات الذي تنزع إليه الطبيعة يجهل الطبيعة, وإن المسيحية تعلم أن الله محبة تتنزل إلى مخلوقات فيتصل الفعل بالقوة والمثال بالواقع. ب- وفي الوقت نفسه " 1838 " تقدم برسالة للدكتوراه "في العادة" يبين فيها أن العادة تظهرنا، في داخل الوجدان، على اتصال الروح بالمادة, خلافًا لما يذهب إليه ديكارت وكثيرون غيره من انفصال وثنائية. أصل العادة فكر وإرادة، أي: تصور غاية واتخاذ الوسائل لتحقيقها، فإذا ما تحققت تناقص الفكر والإرادة والشعور شيئًا فشيئًا حتى تنمحي وتبقى العادة حاجة حيوية وميلا يخرج إلى الفعل من تلقاء ذاته. فالعادة لا تفسر إلا بتكوين تلقائية فاعلية هي بمثابة وظيفة جديدة تختلف عن الفعل الآلي من جهة وعن الفعل المروي من جهة أخرى؛ لأن العادة فكرة متحققة في المادة, وبها تفهم تلقائية النزوع في الكائن الحي وفي الطبيعة، كما تفهم لاشخصية الطبيعة مع نزوعها الذاتي إلى غايات، فإن كلتا هاتين الحالتين فكرة منطبعة في مادة. وإذن فليست الطبيعة

قوة عمياء تعمل كآلة، وليست الآلية هي الأصل، إنما الأصل الغائية تستخدم الآلية بحيث لما كانت هذه لولا تلك. وهكذا ميز رافيسون الحياة من المادة البحتة وبين لمعاصريه فكرة الصورة والعلية الصورية وفكرة الغاية والعلية الغائية على ما رأى أرسطو. وستظل فكرة الحياة هذه إلى وقتنا محور مذاهب عدة, ولا شك أنه مدين بها لأرسطو، ولو أن مصادر أخرى تضافرت على تأييدها عنده منها: مين دي بيران، وشلنج وقد كان استمع إلى دروسه في موينخ، ومدرسة الطب بمونبلي التي كانت معروفة بالمذهب الحيوي تعارض به المادية. ج- وفي 1867 نشر له "تقرير عن الفلسفة في فرنسا في القرن التاسع عشر" يعود فيه إلى هذه الآراء بالشرح والتأييد. يميز أولًا بين طريقتين في الفلسفة, إحداهما تحلل الأشياء إلى أجزاء جامدة وتزعم أن الأشياء مجموعات من هذه الأشياء ليس غير، فتفسر الحي بالميت وترد الأعلى إلى الأسفل، وهذا دأب المادية والآلية؛ والطريقة الأخرى تعنى بما بين الأجزاء من تركيب وانسجام بناء على وجهة مشتركة، فترى الحياة في كل شيء، وتفسر الأسفل بالأعلى، وهذه طريقة الروحية. ثم يقول: إن الفلسفة الفرنسية تتجه هذه الوجهة الثانية, فقد قال أوجست كونت في المجلد الأول من "دروس الفلسفة الواقعية": إن ظواهر الحياة من جنس ظواهر الجماد سواء بسواء، وبعد ثماني سنين استثنى حياة الحيوان، وفي المجلد الأخير استثنى النبات أيضًا؛ وكلود برنار 1 أثبت أولًا القانون الآلي حتى إذا ما أنعم النظر في ظواهر الحياة أعرب عن اعتقاده "بفكرة موجهة" بل "خالقة" هي العلة الحقة للجسم الحي. وهذا الاتجاه يلاحظ عند جميع الفلاسفة والعلماء الذين يتعمقون طبيعة الحياة. ولما كانت حياتنا الباطنة أقرب وأوضح صورة للحياة، كان هذا الاتجاه مؤذنًا بقيام مذهب جديد هو "الواقعية الروحية" تتصور الوجود على مثال الوجدان. 185 - جول لاشليي " 1832 - 1918 ": أ- هو ثاني أعلام هذه الحركة. مصنفاته قليلة العدد صغيرة الحجم، ولكنها

_ 1 فسيولوجي مشهور " 1816 - 1878 " معروف بكتاب عنوانه "مدخل إلى دراسة الطب التجريبي" حيث يصف المنهج التجريبي بالتفصيل. وقد نقل هذا الكتاب إلى العربية الدكتور يوسف مراد.

غاية في الرصانة والعمق. وهي لا تعدو رسالتين للدكتوراه " 1871 " إحداهما "في أساس الاستقراء" والأخرى "في طبيعة القياس" ومقالات أهمها مقال "علم النفس والميتافيزيقا" " 1885 ". يضاف إلى ذلك تدريسه بمدرسة المعلمين العليا. وكان قصير الأمد, وتأثيره الشخصي في توجيه الأفواج المتتالية من الطلاب. ب- إنه ينتمي إلى تصويرية كنط ويتعمق بنوع خاص "نقد الحكم" " 96 ج" ويعمل على إعادة مبدأ الغائية إلى مقامه بين المبادئ الأولى والدفاع عنه ضد الآلية والجبرية, فبين أن الاستقراء العلمي يقوم على فكرة العلة الغائية لا على فكرة العلة الفاعلية. إن في الطبيعة نوعين من القوانين: نوعًا يشمل قونين آلية تنطبق على ظواهر جد بسيطة، ونوعًا يشمل القوانين الكيميائية وبخاصة القوانين البيولوجية وهي تعبر عن علاقات جد مركبة وتعمل دائمًا بحيث يحدث عنها دائمًا عين النتائج أي: عين الأنواع الكيميائية وعين الأنواع النباتية والأنواع الحيوانية، وذلك بالرغم من تعقد التركيب وكثرة الشروط والظروف المطلوبة. فلو كان العلم يقوم على الآلية فحسب لوجب الاقتصار على القول بأن المركبات الكيميائية والكائنات الحية تحدث في المستقبل نفس الأنواع "إذا توفرت لها الشروط المطلوبة" ولكن العلم لا يستعمل هذه الصيغة الشرطية, ونحن نعتقد أن الشروط جميعا متوافرة بالفعل, فتصور القوانين الطبيعية, ما خلا عددًا يسيرًا من القوانين البسيطة, يقوم على مبدأين متمايزين: مبدأ بموجبه تؤلف الظواهر سلاسل يتعين فيها وجود اللاحق بوجود السابق، وهذا مبدأ الآلية، ومبدأ بموجبه تؤلف هذه السلاسل أنظمة يتعين فيها وجود الأجزاء بفكرة الكل، و"الكل الذي يحدث أجزاءه" علة فاعلية، فيجب أن نضع إلى جانب الآلية أو بالأحرى فوقها "مبدأ نظام يسهر، إن جاز هذا التعبير، على استبقاء الأنواع الكيميائية والأنواع الحية". ج- مبدأ الغائية إذن هو القانون الذي يخضع له العالم, وليس يعني هذا أنه من وضع الفكر الإنساني في محاولته فهم العالم, فإن الفكر نفسه جهد نحو غاية، نزوع إلى الخير وإلى تمام الوجود. "إن المسألة العليا في الفلسفة، وقد تكون مسألة دينية أكثر منها فلسفية, هي الانتقال من المطلق الصوري إلى المطلق

العيني الحي، من فكرة الله إلى الله. فإذا أخفق القياس في هذه المهمة فعلى الإيمان المخاطرة, وعلى الدليل الوجودي أن يدع مكانه للرهان" أي: لرهان بسكال كما يقول في مقال عنه " 1901 ". فهو من الذين يلجئون إلى الإيمان لمجاوزة حدود الفكر وحدود الطبيعة. وقد كان كاثوليكيًّا مؤمنًا ورعًا, ولكنه لم يجد إلا هذه الطريقة للتملص من مذهب كنط، والطريقة الوحيدة السائغة هي الإيمان أولًا بموضوعية الفكر, فتلزم عنها موضوعية سائر ما يتأدى إليه الفكر. 186 - إميل بوترو " 1845 - 1921 ": أ- أستاذ بالسوربون, حمل هو أيضًا على الآلية ودافع عن الغائية. رسالته للدكتوراه "في إمكان قوانين الطبيعة" " 1874 " ترمي إلى الفحص عما إذا كانت الضرورة العقلية هي التي تتحقق في الأشياء كما يدعي الآليون، أو أن في العالم ما يظهرنا على شيء من الإمكان، وحينئذ لا تكون قوانين الطبيعة كافية أنفسها، بل يكون لها أسبابها في علل أرفع منها. والواقع أن هنالك من القوانين بقدر ما هنالك من درجات الوجود، وفي هذه الدرجات المترتبة من الأقل كمالا إلى الأكمل فالأكمل، كل درجة فهي ممكنة بالإضافة إلى الدرجة السفلى، في حين أن الآلية تقوم على وحدة مادة الوجود وتعادل القوى المادية, وعلى أن الدرجات درجات تركيب هذه المادة وقواها لا أكثر، والحقيقة أن لا معادلة بين الجسم وعناصره، وبخاصة إذا اعتبرنا الجسم الحي من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان. لذا كنا عاجزين عن أن نقول مبدئيًّا: أي جسم ينتج عن عناصر معينة, وكنا مضطرين للرجوع في ذلك إلى التجربة. بل إن الإمكان يتزايد من درجة إلى أخرى، وكلما مضينا من العلوم المجردة إلى المشخصة غلبت وجهة الحركة والقوة على وجهة السكون والمعادلة, وحلت الكيفية محل الكمية. ففي ميدان الحياة يستحيل قياس القوة الحيوية؛ إذا إنها ترجع إلى الكيف لا إلى الكم؛ ولا ينحصر الفرق بين الحياة والمادة في هذا فقط, فإننا نلاحظ أيضا أن الحي ينمو وينقص, يرقى وينحط, أي: إن له تاريخًا وليس للمادة البحتة تاريخ. ثم إنه لا سبيل إلى ملاحظة تعادل القوة في الوجدان, وإنما الواضح البين أن الوجدان يستخدم القوة كأداة. وهكذا نرى أن "الواقعية" إذا فهمت على وجهها جاءت مع الروحية من حيث إن

سلم الموجودات يرينا الحرية تنمو شيئًا فشيئًا على حساب الآلية حتى "إذا ما تركنا الوجهة الخارجية التي تبدو فيها الأشياء كأنها موجودات جامدة محدودة؛ لكي نلج إلى أعمق أعماق أنفسنا وندرك ذاتنا في منبعها, إن أمكن وجدنا أن الحرية قوة لامتناهية. ونحن نشعر بهذه القوة كلما عملنا حقًّا" "ص 156 " أي: كلما نزعنا إلى الخير والحياة الخلقية, فإن "الله هو الموجود الذي نحس فعله, الخالق في أعماق النفس حين نجهد للاقتراب منه". فعلة الإمكان في العالم قوة خلق وتغيير نازلة من عل, من الله نفسه, ومتغلغلة في جميع درجات الوجود على قدر الجهد الذي تبعثه جاذبية المثل الأعلى, وهي جاذبية فنية إلى أجمل الصور، وجاذبية خلقية إلى فعل الخير، إن الله الحي علة الإمكان في العالم؛ لأنه حياة وحرية. ب- هذا المذهب يكشف لنا عن سبب اختيار بوترو لموضوع رسالته الثانية "في الحقائق الأزلية عند ديكارت" فقد أراد أن يفحص عن الإمكان في ذات الله, وظل يتتبع فكرة الإمكان هذه حتى خصص لها كتيبًا عنوانه "فكرة القانون الطبيعي في الفلسفة المعاصرة" " 1895 " يوسع فيه مجال الإمكان حتى يجعل من القوانين الطبيعية مجرد مناهج وجدناها للملاءمة بين الأشياء وعقلنا وللتصرف في الأشياء لتحقيق رغباتنا. كذلك يقول في جميع المعاني التي تكونها لفهم الأشياء, بحيث لا يحق لنا أن نضيف قيمة مطلقة للتمييز بين الفكر والحركة مثلًا. ولسائر المعاني والتمييزات, إذ إنها تعبر عن طريقتنا في النظر إلى الأشياء لا عن أحوال الأشياء أنفسها. وهذا ميل إلى محو موضوعية القانون الطبيعي، وإلى التصورية في مسألة المعرفة. وهذا الميل المزدوج منتشر في أيامنا، سنصادفه عند أصحاب البراجماتزم وعند برجسون وكثيرين من الفلاسفة والعلماء الذين رأوا معارضة الآلية والجبرية بهذا الإنكار البات, فقلبوا آية "العلميين" رأسًا على عقب. ج- وقد كان بوترو أستاذًا ممتازًا لتاريخ الفلسفة، ورائده مذهبه هذا. ففي المقدمة التي مهد بها لترجمة كتاب تزلر في الفلسفة اليونانية " 1877 " يؤيد هذا المؤلف ضد هجل في القول بالإمكان في التقدم التاريخي الذي هو تاريخ العقل. وكذلك الحال في دروسه على كنط "وقد نشرت أولًا في "مجلة الدروس والمحاضرات" ثم جمعت في مجلد ظهر سنة " 1926 " وفي مقدمته لمونادلوجيا ليبنتز، وفي "دراسات في تاريخ الفلسفة" " 1897 " و"دراسات جديدة في تاريخ

الفلسفة" " 1927 " و"دراسات في تاريخ الفلسفة الألمانية" و"دراسات في الأخلاق والتربية"، وفي كتبه: "بسكال" " 1900 " و"نفسية التصوف" " 1902 " و"العلم والدين في الفلسفة المعاصرة" " 1908 " و"وليم جيمس" " 1911 ". وطريقته في تأريخ الفلسفة مثال يحتذى، فهي موضوعية تعرض المذاهب على الصورة التي وضعها عليها أصحابها، وتعقب عليها تعقيبًا مقتصدًا, في أسلوب ناصع رصين. 187 - ألفريد فويي " 1838 - 1912 ": أ- بعد أن صنف كتابًا في "فلسفة سقراط" "في مجلدين" وآخر في "فلسفة أفلاطون" " في أربعة مجلدات" شرع ينشر مذهبًا خاصًّا مؤداه أن من المستحيل اعتبار الظاهرة الوجدانية عرضا طارئا على التغير العصبي كما يقول الماديون, فإنها لو كانت كذلك لكانت عديمة النفع للحياة وانقرضت وظيفة التفكير, وإن قليلا من التأمل يرينا أن الفكرة "أي: الظاهرة الوجدانية" هي قوة تبعث فكرات أخرى وتدفع إلى العمل. أجل إن كل فكرة فهي قوة وميل إلى الحركة يتحقق من تلقاء ذاته إذا لم تعارضها فكرة أخرى. فلا ينبغي التمييز بين عقل وإرادة، أو بين فكرة معلومة فحسب وفعل يحققها, والفكرة التي هي قوة, وهذا اسم نظريته " ldee-force" تسمح لنا بإنقاذ القيم الروحية التي يتهددها المذهب المادي كما يبدو في نظرية التطور إذ يضع القوة في الطبيعة الخارجية ويجعل النفس تابعة لها منفعلة بها. فمسألة الحرية مثلا تحل بأن الموجود الذي يعتقد نفسه حرا تختلف سيرته عن سيرة الذي يعتقد نفسه مجبرًا, فإنه يغير من شأنه، وهذه خاصية الموجود المشارك في الحياة الروحية بينما خاصية المادة الجمود ومطاوعة القوانين الآلية. فما علينا إلا أن نؤمن بالحرية حتى تصير الحرية أمرًا واقعًا "كتاب "الحرية والجبرية" 1872 ". ب- ثم طبق فويي نظرية الفكرة التي هي قوة على الوجود بأسره. فذهب إلى أن كل موجود فهو متقوم بفكرة هي قوة تبدو صورتها الأولية في النزوع الغامض إلى البقاء, ثم تنمو بالتطور من اللاشعور في الجماد إلى الشعور الواضح في العقل الإنساني, حتى إذا ما بلغت إلى هذه الدرجة كانت كفيلة بتحقيق

فكرات روحية صرف بمجرد أن تؤمن بها إيمانًا وطيدًا, فرغبتنا في تنظيم حياتنا وتوحيدها تؤدي بنا إلى توكيد الحرية والأنا الشخصي؛ ورغبتنا في توحيد العلم ورغبتنا في نصب مثل أعلى للأخلاق, تؤديان بنا إلى توكيد وجود الله لكي نجد في فكرة الله التفسير النهائي للوجود والمثل الأعلى الذي ننشده. فالفكرات الروحية من خلقنا وتتحقق موضوعاتها بفعلنا. طبق فويي نطريته هذه في الكتب الآتية: "تطور الأفكار التي هي قوات" " 1890 " و"علم النفس والأفكار التي هي قوات" " 1893 " و"الأخلاق والأفكار التي هي قوات" " 1907 " و"محاولة في تأويل للعالم" "نشر في العام التالي لوفاته". وله كتب أخرى في نقد المذاهب المعاصرة من وجهته هو، وكتب في معالجة المشاكل الاجتماعية القائمة. وقد كان كثير التأليف فضفاض الأسلوب قليل الجدوى. 188 - جان ماري جيو " 1854 - 1888 ": أ- تلميذ فويي. اهتم بالأخلاق وبالفن, عرض "أخلاق أبيقور" عرضًا لطيفًا, وعرض "الأخلاق الإنجليزية المعاصرة" ونقدها نقدًا عسيرًا, وفصل مذهبه في كتابين: أحدهما "الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء" والآخر "إلحاد المستقبل" وعالج "مسائل الفن المعاصر" ونظر في "الفن من الوجهة الاجتماعية" ونظم "أشعار فيلسوف". ب- مذهبه أن فلسفة الأخلاق يجب أن تبنى على العلم وحده، فتستمد مبدأها من التجربة، ويكون "الأمر" فيها أخف مما هو في الأخلاق المرعية، بل لا يكون فيها أمر. أما الشرط الأول فلا يتوفر في المذاهب التي تنصب "الخير" مثلا أعلى وقاعدة، فإن فكرة الخير ميتافيزيقية؛ ولا في المذاهب التي تتخذ "السعادة العامة" مبدأ, فإن هذه المذاهب تعرض على الفرد منذ البداية هذه الغاية التي تسمو عليه، في حين أن الأخلاق العلمية يجب أن تبدأ بغاية فردية؛ ولا في المذاهب التي تقوم على طلب اللذة، إذ إن "طلب اللذة ما هو إلا نتيجة المجهود الغريزي لصيانة الحياة وتنميتها". فالمبدأ الحق هو "غريزة الحياة" هذه التي هي غريزة كلية والتي هي "أعمق ما في الوجود والمثل الأعلى الذي لا محيص عنه". وعلى ذلك "يكون المثل الأعلى النشاط بمختلف مظاهره, أو على الأقل

بالمظاهر التي لا تتعارض، أو التي لا تسبب خسارة ذات بال من القوة". وإذا تعمقنا هذا المبدأ حققنا الشرط الثاني للأخلاق العلمية؛ فبلغنا إلى أخلاق خلو من الإلزام والجزاء. ج- ذلك بأن الحياة ليست بقاء فحسب, ولكنها ميل إلى النماء والفيض واندفاع إلى بذل الذات. ولنا شاهد على ذلك في الولادة التي هي جود بالذات, وفيما يبين عنه ترقي الأنواع الحيوانية وتعقدها من حياة متزايدة متنوعة. "الحياة هي الخصب والخصب هو الوجود الحق". "أما الأنانية فتضييق لدائرة نشاطنا ينتهي إلى إفقار هذا النشاط نفسه وإفساده"؛ فالأنانية في الواقع بتر الحياة وانتقاصها. وهكذا تجاوز وجهة النظر الفردية، فإن الفرد لا يستطيع أن يحيا تمام الحياة إلا في المجتمع وبالمجتمع، وهو يجد في الروابط الاجتماعية واللذات الفنية والحياة الخلقية بما فيها من بذل وتضحية، مصادر عواطف رفيعة جميلة قوية لا تقاس إليها عواطف الحياة الحيوانية, بدليل أن الذي يتذوقها يحس باستحالة الاستغناء عنها, فالإنسان القوي الحيوية يرى نفسه مدفوعًا نحو هذه الحياة العالية وما تتطلبه من مغامرة ومخاطرة, بغير إلزام من خارج ولا جزاء يرجى. يسقط الأمر الخلقي إذن ولا يبقى إلا "معادلات له" هي: الشعور بقدرتنا الباطنة على أن نعمل أعظم فأعظم، وتأثير الفكر على العمل, والتعاطف المتزايد والصفة الاجتماعية المتزايدة للذاتنا وآلامنا، وحب المغامرة والخطر ولذة الجهاد، وحب الفرض الميتافيزيقي الذي هو ضرب من المغامرة في الفكر. وأما الجزاء ففكرة منقودة من نواحٍ عدة، وهي لا تفهم إلا من وجهة المنفعة الاجتماعية لا من الوجهة الخلقية. د- وعلى هذا النسق ينهج جيو في معالجة المسألة الدينية، فإنه يكرر الاعتراضات على وجود الله الواردة في تاريخ الفلسفة, ويلح في الاعتراض المأخوذ من وجود الشر في الطبيعة وفي الإنسان. ثم يقول: إن العاطفة الدينية تظل قائمة بعد الإلحاد, فما هي إلا الشعور بتبعيتنا ماديا وخلقيا واجتماعيا للكون ولمنبع الحياة المتدفقة فيه. ولكنه في الواقع يبدد الدين والأخلاق جميعًا. أين الخلقية في مذهبه؟ إن صاحب اللذة يبذل من ذاته وماله بذلًا عنيفًا في سبيل غايته، وما من أحد يعتبر سيرته خلقية. فإن قيل: إن الحياة الرفيعة هي الجديرة بأن تحيا، قلنا: وإذن فليس المثل الأعلى مطلق الحياة ومطلق البذل، بل لا بد من قاعدة

تتوخى لبذل الحياة. وإن القاعدة، وإن المفاضلة بين حياة رفيعة وحياة دنيئة، ليستا من "العلم" في شيء, ولكنهما تعتمدان على الميتافيزيقا التي لا يريدها جيو. فإذا ما سلمنا بتفضيل الحياة الرفيعة فإنما نسلم لأننا نراها الجديرة بالإنسان من حيث هو إنسان. وهذه الصلة بين الماهية الإنسانية وضرب من الحياة يلائمها دون سواه، هي "الوجوب العقلي" الذي تحدث عنه رنوفيي والذي هو أصل الإلزام الخلقي كما قلنا في الموضوع. كذلك الجزاء ما هو في الحقيقة إلا أثر العمل. أما إذا كانت الأفعال صادرة عن مجرد فيض من باطن تصاحبه لذة معينة، دون غاية مفضلة وقاعدة محترمة, فقد عدنا إلى مذهب اللذة وقد ساوت أفعالنا سائر الأفعال التلقائية, وبطلت أن تكون خلقية. وإن جيو ليحاول أن يوجد نوعًا من الإلزام بقوله: إن الفرد لا يحيا تمام الحياة إلا بالمجتمع, ولكنه يقع في نفس الخطأ الذي ألحف في مؤاخذة النفعيين عليه, إذ يريدون الفرد على أن يفضل المنفعة العامة بعد أن يقولوا: إن المنفعة الخاصة هي الأصل والمبدأ, ولم ير أن الأناني المسترشد بمذهب الأنانية في حل من استغلال المجتمع والإفادة منه ما استطاع إلى الإفادة سبيلًا. هذا عن الأخلاق, أما عن الدين فإن الشعور بالتبعية للكون لا ينقلب عاطفة دينية بمعنى الكلمة إلا إذا اعتقدنا أن وراء الكون أو فوقه إلهًا شخصيًّا هو خالقه ومنبع الحياة المتدفقة فيه. وفي هذه الحالة لا يتصور الدين بغير عقيدة تشتمل على صفات لازمة للإله وعلاقة بيننا وبينه، وجيو لا يريد عقيدة لأنه أراد "العلم" دون العقل والميتافيزيقا، وهذا عيب مشترك بين هذه المذاهب التي تصدت لإثبات الحرية والروحية بالتجربة فحسب، وليست التجربة بذاتها برهانًا إذا لم تستمد من العقل مبدأ البرهان.

المقالة الثالثة: الفلسفة في ألمانيا

المقالة الثالثة: الفلسفة في ألمانيا مدخل ... المقالة الثالثة: الفلسفة في ألمانيا 189 - تمهيد: أ- شغلت ألمانيا بفلسفة كنط وفلسفة هجل، فقام فيها لكل منهما أشياع شارحون مؤيدون، وآخرون أحرار بعض الشيء, كما قام معارضون. ولن نقف هنا عند تاريخ الحركة الكنطية، فإنها لا تتضمن شيئًا جديدًا. ولن نقف عند تاريخ الهجلية بأكثر من القول بأن فريق التلاميذ الأمناء دعوا بحزب اليمين أو المحافظين لتمسكهم بالنتائج التي وصل إليها هجل واعتبرها مطلقة بالرغم من قوله بالصيرورة، وهذه النتائج هي الفلسفة التصورية والديانة المسيحية والفن الروماني والدولة البروسية البيروقراطية؛ وأن فريق التلاميذ الأحرار وكانوا أكبر عددًا وأعظم قدرًا، دعوا بحزب اليسار أو التقدميين، وتمسكوا بالمنهج فقالوا: ليس للحقائق صفة نهائية من حيث إنها صورة مختلفة للروح المطلق وإن هذا الروح يتقدم باستمرار, وراحوا يعيدون النظر في الدين والاجتماع وفقًا لهذا المنهج. أما في الدين فقد نبتت فكرة تنافس غير واحد منهم في التدليل عليها، وهي أن المسيحية نتاج الضمير الإنساني، ففسر الإنجيل على هذا الاعتبار واعظ مشهور هو شلير ماخر " 1768 - 1834 " وزعم شتراوس " 1808 - 1874 " في كتابه "حياة يسوع" " 1835 " أن حياة المسيح أسطورة صاغتها مخيلة المسيحيين الأولين مما كان يتصوره السلف عن المسيح المنتظر، وأنه يجب أن نستعيض عن فكرة المسيح التاريخي بالفكرة الهجلية التي ترى في المسيح مثلًا أعلى هو الإنسانية مؤلهة. وشتراوس إلى ذلك يمضي بالهجلية صوب المادية, وذهب فويرباخ في كتابه "ماهية المسيح" " 1841 " إلى أن خلاص العالم يقتضي العدول عن المسيحية, بل عن كل دين يؤمن بإله مفارق، فما هذا الإله سوى خيال يخلع عليه الإنسان كمالاته الخاصة، ما هو إلا المثل الأعلى للإنسان أو الإنسان كما يجب أن يكون وكما سيكون.

ب- وفي هذه المقالة نستعرض ثلاث طوائف من الفلاسفة: الطائفة الأولى تشمل ثلاثة كان لكل منهم مذهب ميتافيزيقي ومشاركة في علم النفس، وهم: لوتزي وفخنر وفوندت. والطائفة الثانية تتألف من الماديين، وأشهرهم كارل ماركس. والطائفة الثالثة تضم اثنين عنيا بالأخلاق، وهما هارتمان ونيتشي.

الفصل الأول: ميتافيزيقا علم النفس

الفصل الأول: ميتافيزيقا علم النفس 190 - لوتزي " 1817 - 1881 ": أ- كان يجمع بين الميل إلى الفلسفة والميل إلى العلم، فحصل من جامعة ليبزج على الدكتوراه في الفلسفة والدكتوراه في الطب. وعين أستاذًا للفلسفة بجامعتي جوتنجن وبرلين. له كتاب في "ما بعد الطبيعة" " 1841 " يفسر فيه العالم بثلاث ممالك مترتبة: الأولى "مملكة القوانين الكلية الضرورية التي هي شرط لكل وجود ممكن" وهنا تنطبق نظرية كنط في المقولات، وبواسطتها يمكن وضع الأسس التي تقوم عليها العلوم، لكن لا يمكن استنباط أية ظاهرة. والمملكة الثانية "مملكة الظواهر" وهي تدرك بالحواس وليس لنا من سبيل آخر لإدراكها. والمملكة الثالثة "مملكة القيم" نرى فيها الموجودات تتوجه إلى "الخير بالذات". في هذه المملكة, أي: بهذا الخير بالذات، يصل حدسنا للعالم إلى الوحدة، فنثبت وحدة الجوهر في العالم, ونحن نثبتها أيضًا باعتبار استحالة التفاعل بين الأشياء, فإن الفعل عرض والعرض لا ينتقل بذاته. وعلى ذلك لا يؤثر الشيء المعروف في العارف؛ ولا يؤثر الجسم في النفس أو النفس في الجسم. كل تفاعل فهو وهم، والأجسام مجرد ظواهر والنفوس فيوضات من الجوهر الأوحد، والفعل الذي يبدو متعديًا هو فعل حادث بين موجودين متناهيين حدوثًا ظاهريًّا فقط، والحقيقة أنه فعل المطلق في ذاته. ب- على أن لوتزي يعدل هذا المذهب في كتاب "علم النفس الطبي" " 1852 " وكتاب "العالم الأصغر" أي: الإنسان "في 3 مجلدات: 1856 - 1864 " فإنه يبدأ بوحدة الأنا المدرك بالحدس على أنه جوهر، ويدلل على روحانيته، ويدفع عنها اعتراضات الماديين، ثم يستند إلى طموح النفس إلى الكمال فيقول بوجود روح أعظم وشخص متمايز منا, وهو الذي رتب الكل تبعًا للخير: "إن الموجود الحق الذي هو موجود, والذي يجب أن يوجد، ليس المادة وليس من باب أولى المثال الهجلي، ولكنه الله الروح الحي الشخصي وعالم

الأرواح الشخصية التي خلقها، وذلك هو مكان الخير بالذات وسائر الخيرات". كذلك يثبت موضوعية الظواهر باعتبارها موضوعات العلوم الواقعية، ويحاول أن يفسر هذه الموضوعية دون الخروج على التصورية فيعرض نطرية "العلامات المكانية". ج- هذه النظرية مقصورة على إدراك المكان باللمس والبصر، وهي ترمي إلى بيان أن التأثيرات الواردة من خارج على العين وعلى سطح الجسم متمكنة ومختلفة بعضها من بعض بأمكنتها, فكل نقطة من الشبكية أو أديم الجلد تنفعل بكيفية خاصة بها وكل تأثير يعرض للشعور له طابع متميز، وهذا الطابع هو "العلامة المكانية" وهي إحساس عضلي مصاحب للتأثير اللمسي أو البصري، وهي "نظام من الحركات" أو من الميول للحركة يبعثها كل تأثير, وهي أيضًا "موجة الإحساسات الثانوية" إذ إن كل تأثير على نقطة من الجسم فهو يحدث في المنطقة المجاورة توترا أو ضغطا يعين مكان التأثير في الجسم تعيينا دقيقا. هذا هو الحل الذي رآه لوتزي وسطًا بين التصورية القائلة: إن إدراكنا إنما ينصب أولًا وبالذات على ظاهرة وجدانية، وبين الوجودية التي تضع في الخارج مقابلات للظواهر, فيحاول هو تفسير الانتقال من الأثر الجسماني إلى الإدراك النفسي باعتبار اختلاف الأمكنة اختلافًا في الطابع أو الكيفية. 191 - فخنر " 1801 - 1887 ": أ- أستاذ بجامعة ليبزج. عرف أولا بمذهب ميتافيزيقي لم يكن ليذكر لولا غرابته في العصر الحديث وتأثيره مع ذلك في بعض المفكرين الأمريكيين, ومنهم وليم جيمس. فإنه يذهب في كتابه "زند أفستا أو أمور السماء وما بعد الموت" إلى أن الميتافيزيقا علم حق يقوم على حاجة فينا للإيمان بمبدأ عدل وخير، وأن الدليل الأقوى على وجود هذا المبدأ هو كوننا نبحث عنه ولا يسعنا إلا أن نبحث عنه. ثم إن معيار الإيمان فائدته العلمية؛ ولهذا الإيمان فائدة كبرى. ومنهج الميتافيزيقا تصور العالم على مثال وجداننا، فكما أن موضوع العلم الطبيعة المنظورة المعلومة بالملاحظة والاستقراء، فكذلك موضوع الميتافيزيقا باطن الطبيعة يدرك بالحدس الباطن. هذا الحدس يظهرنا على أن الوجدان تقدم أفعال من الماضي

إلى الحاضر فإلى المستقبل، وأنه كثرة أفعال في وحدة غير متجزئة. فالعالم من ثمة وحدة حاصلة على نفس الخصائص، إلا أنه غير محدود. العالم وجدان واحد هو وجدان الله؛ وكل وجدان، مع تميزه من غيره في الظاهر، فهو مظهر من الوجدان الكلي. والكواكب ملائكة السماء، والأرض متنفسة لأنها كل منظم بفصولها المطردة؛ وأجزاؤها نفوس الموجودات الأرضية من نبات وحيوان وإنسان, وهذه النفوس بالإضافة إليها كأفكارنا بالإضافة إلى أنفسنا. ب- لكن شهرة فخنر قائمة على أنه مؤسس علم النفس الفيزيقي، ولو أنه يضيف هذا الشرف إلى أرنست هنريخ فيبر " 1795 - 1878 " أستاذ التشريح بجامعة ليبزج الذي كان بدأ تجاربه في قياس الإحساسات سنة 1830 وبعد ست عشرة سنة أعلن القانون المعروف باسمه, وهو: "إن الزيادة في قوة المؤثر الضرورية لإحداث أقل زيادة مدركة في الإحساس، هي كسر مطرد من هذه القوة". وهذا القانون صحيح على وجه التقريب في الإحساسات المتوسطة القوة، ولكنه لا يعني أن القياس واقع على الإحساسات بما هي ظواهر وجدانية. فشرع فخنر يجري التجارب, وكان كتابه "مبادئ علم النفس الفيزيقي" " 1860 " أول كتاب منظم في علم النفس مبني على الرياضيات. ج- وهو يعرف علم النفس الفيزيقي بأنه "مذهب مضبوط في العلاقات بين النفس والجسم، وبصفة عامة بين العالم الفيزيقي والعالم النفسي". فنحن بإزاء علم تجريبي بحت يتناول الظواهر وقوانينها دون أن يعرض لجوهر النفس ولا لجوهر الجسم, ولما كان الفرض مشروعًا في العلم الواقعي افترض فخنر أن التقابل بين النفس والجسم يرجع إلى أن ما يبدو أنه النفس من الداخل يبدو أنه الجسم من الخارج، وهذا ما سمي "التوازي النفسي الفيزيقي" وقد صادفناه عند ليبنتز وسبينوزا وغيرهما كنتيجة لمذهب ميتافيزيقي، في حين أنه عند فخنر فرض علمي يشرف على علم مستقل يتخذ من قياس الظواهر الخارجية, وما تحدثه فينا من ظواهر عصبية قياسًا للظواهر النفسية التي لا تقاس مباشرة. د- وبعد تجارب طويلة وضع فخنر هذه النتيجة وهي: لكي يزيد الإحساس أقل فرق مدرك يجب أن تكون الزيادة في المؤثر 1/ 17 للمجهود العضلي و 1/ 3 للمس والحرارة والصوت، و 11/ 100 للضوء, ثم عين الحد الأدنى للمؤثر في

كل حس "وهو الحد الذي يدعى بالعتبة" ووضع بناء على ذلك جدولين للزيادات: أحدهما للمؤثرات والآخر للإحساسات؛ ولما كانت زيادة المؤثرات مقيسة تبعًا لنسبة مطردة كما تقدم، اعتقد أنه يكفي أن نفترض أن كل زيادة مدركة في الإحساس تمثل "وحدة هي هي دائمًا" فنحصل على سلسلتين متزايدتين يمكن المقارنة بينهما مقارنة رياضية، ووضع هذا القانون: "حين يزداد التأثير بنسبة هندسية يزداد الإحساس بنسبة حسابية فقط" أو "أن الإحساس يعادل لوغارتم التأثير". ولكن ليس بصحيح أن "جميع الزيادات المدركة للإحساسات متساوية الكم" أو أن للإحساس في ذاته مقدارًا يقاس مباشرة, فإن الإحساس في ذاته فعل حيوي وكيفية نلاحظ تغيراتها ولا نستطيع تقديرها تقديرًا رياضيًّا. أجل, إن السلسلتين متضامنتان، وقانون فيبر صحيح، ولكن القانون الرياضي الذي وضعه فخنر شيء آخر ولا يمكن قبوله. وقد أثارت أبحاث فخنر اهتمامًا بالغًا ومناقشات حادة وحركة واسعة للتجارب في ميدان علم النفس. 192 - فوندت " 1832 - 1920 ": أ- تلميذ العالم الطبيعي والفسيولوجي هلمولتز " 1821 - 1894 " الذي عني بدراسة الإحساسات من الوجهة الفسيولوجية. وهو يصدر أيضًا عن هربارت وفخنر فيرى أن دراسة الظواهر النفسية لا تصير علمية إلا بالاختبار المصحوب بالمقاس للحصول على قوانين مضبوطة. ونشر كتابًا في "مبادئ علم النفس الفسيولوجي" " 1874 " وعين في السنة التالية أستاذا بجامعة ليبزج، وأنشأ بها أول معمل للاختبارات النفسية " 1897 " فكان هذا حدثا مهما جذب إليه طلابا كثيرين من جميع البلدان. وقد دافع عن قانون فخنر واعتقد مثله أن الظواهر الشعورية تقاس حقا بوساطة آثارها. ولكنه وسع مجال الاختبار, فجاوز علم النفس الفيزيقي أو قياس الإحساسات بوساطة المؤثرات الخارجية، إلى علم النفس الفسيولوجي أو قياس جميع الظواهر النفسية بوساطة مقابلاتها الفسيولوجية. ب- وقد عرض للفلسفة وفروعها ودوّن فيها الكتب ناهجًا المنهج الوجداني الذي يحكم على الأشياء تبعًا للشعور. والفلسفة عنده "محاولة تفسير الظواهر التجريبية وتوحيدها". والظاهرة التجريبية هي الظاهرة الشعورية التي هي وحدة

ذات وجهتين: وجهة ذاتية فاعلية هي كونها فعلًا حيًّا خاصًّا بالوجدان, ووجهة موضوعية انفعالية هي ما تمثله، وبدراسة الوجهة الذاتية الفاعلية نحصل على علم النفس، وبدراسة الوجهة الموضوعية الانفعالية أو مختلف الوجهات الموضوعية نحصل على سائر العلوم. وتفسير التجربة مهمة الفهم بمعانيه؛ وتوحيد التجربة مهمة العقل بوساطة مبدأ السبب الكافي. وليس المقصود بالفهم والعقل ههنا ما عناه كنط، فإن فوندت يرفض التصورية ويقول: إن كل فكرة مشروعة هي إدراك موضوعي، لكن الفهم يركب العلوم الواقعية في حدود التجربة, وذلك بقوانينه أو مبادئه ومنها المثل الأعلى في الفن وفي الأخلاق, فليس فوندت حسيا أو واقعيا ولكنه على العكس يرى أن تنظيم التجربة يفتقر إلى مبدأ أعلى منها؛ ويبحث العقل عن أقصى توحيد للظواهر فيجده بفضل مبدأ السبب الكافي الذي هو قانون الوحدة المهيمن على كل بحث علمي، والذي يثبت أنه لكي تكون المعرفة معقولة تمام المعقولية يجب أن ترتبط أجزاؤها فيما بينها, بحيث تكون كلًّا بريئًا من التناقض. ج- بناء على ما تقدم يكون التفسير والتوحيد كما يلي: إذا اعتبرنا الظاهرة الشعورية من الوجهة الذاتية رأيناها تمتاز بالفاعلية، ولما كان خير مظهر للفاعلية هو النزوع أو الإرادة, كان السبب الكافي الموحد إرادة أصيلة عميقة، دون أن نفترض لها جوهرًا تقوم فيه. وإذا اعتبرنا الظاهرة الشعورية من الوجهة الموضوعية رأيناها تمتاز بالانفعال والتنوع, فيكون الموضوع الخارجي متكثرًا, ويكون السبب الكافي للموضوعات جملة وحدات مرتبطة فيما بينها. ويبدو ارتباط آحاد الإنسان في مجتمعات متفاوتة هي: الأسرة والقبيلة والنقابة والأمة والإنسانية. على أن الإنسانية الموحدة لم تتحقق بعد، ويجب على الأفراد أن يتخذوا منها غاية وقاعدة لأفعالهم الأخلاقية. بيد أن هذه الإنسانية نفسها محدودة حتمًا في المكان والزمان, فلا يمكن أن تكون السبب الكافي لإرادتنا التي هي نزوع غير محدود، فيجب أن نجاوزها إلى فكرة إله كامل غير متناهٍ هي لازمة عن مبدأ السبب الكافي لزوما ضروريا. د- وقد كانت لفوندت مساهمة كبيرة في علم نفسية الشعوب, أو تكوين

الحياة النفسية, فنشر فيه كتابًا ذا مجلدين سنة 1904 زاده إلى عشرة مجلدات للطبعة الثالثة التي صدرت بين سنتي 1911 و 1920. وهو يبحث في المظاهر الكبرى لنفسية الجماعة من لغة وفن وأسطورة ودين واجتماع وقانون وحضارة. ويستخلص فوندت من هذا العلم أصول الأخلاق، فيصل إلى هذه النتيجة: إن الضمير، سواء في الشعوب وفي الفرد, وفي جميع أوقات نموه، يعتبر أن الفعل الخلقي هو المفيد للفاعل أو للآخرين كي يستطيع هو ويستطيعوا هم أن يحيوا وفقًا لطبيعتهم ويزاولوا قواهم ووظائفهم. غير أنهم يتدرجون في فهم طبيعتهم وأخلاقهم؛ فقد كانت السيادة في الإنسانية الأولى تكاد تكون للقوة البدنية وحسب، فكانت أخلاق الفتح هي المرعية؛ ثم تقدمت الحضارة وتنظمت الجماعة وأصبح الخير قائمًا في أن يعمل الفرد لفائدة الكل، فإن الغاية القصوى للاجتماع الإنساني نمو القوى الروحية، وإن الفعل يعتبر صالحًا متى كان معاونًا على هذا النمو، ويعتبر طالحًا متى كان عائقًا له.

الفصل الثاني: مادية

الفصل الثاني: مادية 193 - لفيف من الماديين: أ- هم نفر من الأطباء وعلماء الطبيعة أيدوا المادية التطورية، وأنكروا الميتافيزيقا، وحملوا على الدين حملات شعواء، فانبرى لهم خصوم فأقاموا جميعًا ضجة هائلة. نذكر منهم: ب- مولسكوت " 1822 - 1893 " فسيولوجي هولندي علَّم بهيدلبرج وروما. قال: لا "فكر بغير فسفور". ج- كارل فوجت " 1817 - 1899 " عالم حيوان. قال: "الفكر بالإضافة إلى الدماغ كالصفراء بالإضافة إلى الكبد". د- بوخنر " 1824 - 1899 " طبيب دوَّن كتابًا دعاه "القوة المادية" حسبه الدكتور شبلي شميل الكلمة الأخيرة للفلسفة ونقله إلى العربية. وقضيته الكبرى أن المادة مستودع جميع القوى الطبيعية وجميع القوى التي تدعى روحية. هـ- أرنست هكل " 1834 - 1919 " أستاذ علم الحيوان بجامعة يينا " 1865 ". أيد مذهب التطور وأرجع الإنسان إلى الحيوان قبل دروين. وكتابه المشهور "ألغاز الكون" " 1899 " يعرض المادية الآلية، فيقول: إن الموجود الضروري الوحيد هو المادة، وإن الحياة ترجع إلى أصل واحد هو "المونيرا" التي تركبت اتفاقًا من الأزوت والهيدروجين والأكسجين والكربون، ثم تطورت على التوالي حتى تكونت جميع الكائنات الحية. ويعد هكل اثنتين وعشرين حلقة بين المونيرا والإنسان, ويصفها مستعينًا ببقايا الأحياء في طبقات الأرض، ولكي يؤيد التدرج في التطور يعدل في بنية بعضها ويسد الفراغ بتخيل كائنات حية لم توجد. ولو أن واحدًا من المؤمنين أراد أن يؤيد الدين بتزوير من هذا القبيل لما فرغ الملحدون من التهكم والسخط.

ولنجي: هجلي مادي؛ له كتاب في "تاريخ المادية" " 1866 " يعتبر مرجعًا في تاريخ الفلسفة. وهو معروف بنظرية في الانفعالات قريبة من نظرية وليم جيمس ومذكورة في كتب علم النفس. 194 - كارل ماركس " 1818 - 1883 ": أ- هو نبي الشيوعية العصرية النافخ في نارها حتى أشعلها ثورة عالمية. ولد من أبوين يهوديين كانا قد اعتنقا البروتستانتية من قبل أربع سنين. ولما درس الفلسفة أعجب بجدل هجل، ولكنه أنكر إسرافه في التصورية فاعتنق المادية. علم الفلسفة بجامعة بون، ثم زج بنفسه في العمل الاجتماعي والسياسي " 1841 " فكان صحفيا وداعية للثورة. حرر في بروكسل مع صديقه فردريك إنجلز "بيان الشيوعيين" وحاول أن ينظم الحزب الاشتراكي في ألمانيا ولكنه اضطر أن يلجأ إلى لندن " 1848 " حيث دون كتبه الكبرى, وهي: "نقد الاقتصاد السياسي" " 1859 " و"نداء إلى الطبقات العاملة في أوروبا" " 1864 " وكتابه الأشهر "رأس المال" " 1867 " وفي الوقت نفسه كان يواصل دعوته الثورية متخذًا هذه الكلمة شعارًا "أيها المعوزون في جميع البلدان اتحدوا! " فأسس في 1866 "الدولة الاشتراكية" الأولى التي ظلت قائمة إلى 1870، ولكن الحرب بين ألمانيا وفرنسا، وحبوط الفتنة الشيوعية بباريس، أضعفا نفوذها إلى حد كبير، ثم قضت عليها الخلافات بين أعضائها، فأسس الفوضوي الروسي باكونين هيئة منافسة " 1874 " وأسس لاسال بألمانيا حزبًا لاماركسيا. ومضت الحركة الاشتراكية في طريقها، ولكنها كانت تعتمد أكثر فأكثر على النقابات والجمعيات المهنية؛ وفي المؤتمر الدولي المنعقد بباريس سنة 1889 أنشأ تلاميذ ماركس "الدولية الثانية" "ومنهم الألمانيان بيل وليبنخت" وجعلوا مقرها لندن، واستمرت إلى أيامنا بينما يدير السوفييت في موسكو منذ 1917 "الدولية الثالثة الشيوعية". ب- تعتبر الماركسية أكمل تعبير عن المذهب الاشتراكي, ولها الآن النفوذ الأكبر في الحركات العمالية. وقد أراد ماركس أن يكون كتابه "رأس المال" عرضًا لعلم الاقتصاد، وكانت هذه الخاصية سببًا قويًّا في رواج الكتاب والعصر عصر اعتداد بالعلم ومناهجه المضبوطة، ولكن في الكتاب مذهبا فلسفيا

يتألف من المادية التاريخية والجدلية على طريقة هجل، ومن الشيوعية الإلحادية التي هي نتيجتها. ج- المادية التاريخية الجدلية مبدؤها أن المادة هي كل الموجود, وأن مظاهر الوجود على اختلافها نتيجة تطور متصل للقوى المادية. غير أن ماركس قليل العناية بدراسة المراتب العليا، وهو يوجه همه إلى دراسة التاريخ الإنساني, ومن هنا جاء وصف مذهبه بالمادية التاريخية. فعنده أن نمو الحياة الإنسانية، فردية واجتماعية, يتوقف كله على الظروف المادية والاقتصادية، وأن درجة الحضارة تقاس بدرجة الثروة الزراعية والصناعية, وأن نوع الإنتاج في الحياة المادية شرط تطور الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية على العموم. فليس وجدان الناس هو الذي يعين وجودهم، وإنما هو وجودهم الاجتماعي الذي يعين وجدانهم. والحياة الاقتصادية تحقق قانون الصيرورة بأوقاته الثلاثة التي هي القضية ونقيضها والمركب منهما, وهذه هي المادية الجدلية، ومظهرها الاجتماعي الراهن "تنازع الطبقات" ويعرض ماركس الدليل على هذه النظرية بدراسة الحياة الاقتصادية على ما كانت في أيامه. د- ويمكن تلخيص كتابه "رأس المال" في أربع قضايا: القضية الأولى: أن القيمة الحقة لكل سلعة تعادل كمية العمل المتحقق فيها، بحيث يعتبر العامل المصدر الوحيد لهذه القيمة؛ ومن ثمة المالك الوحيد للسلعة. وتقدر هذه القيمة بالزمن المخصص للإنتاج مع مراعاة المتوسط تفاديًا للاختلاف بين عامل وآخر، أي: مع افتراض عامل متوسط المهارة وظروف عادية. القضية الثانية: أن النظام الرأسمالي يحرم العامل جزءًا من قيمة عمله, وهذا الجزء هو الزيادة في قيمة السلعة وهو ربح صاحب المال, وهذا الربح يتكدس فيكون رأس المال. فرأس المال "سرقة متصلة وافتئات على العمل"، وهو أداة سيطرة صاحب العمل علي العامل. فإن الأول لا يدفع إلى الثاني قيمة عمله وإنما يدفع إليه ما يسد رمقه, بل أقل من ذلك إذا رضي العامل تبعًا لقانون العرض والطلب. القضية الثالثة: أن من شأن الصناعة الآلية متى استخدمها الطمع المطلق من كل قيد أن تزيد التعارض عنفًا بين رأس المال والعمل، فإن كبار الماليين يتغلبون على الضعاف من منافسيهم ويؤلفون شركات قوية تستغل المال إلى أبعد حد, وينتهي الماليون المتواضعون وأهل

الطبقة الوسطى إلى الانضمام إلى صفوف المعوزين, فتقف الطبقتان وجهًا لوجه. ولكن المعوزين يحسون تضامنهم في جميع البلدان، فيدركون شيئًا فشيئًا مصلحتهم وحقهم وقوتهم، وكارل ماركس يسهب في وصف مراحل هذا التطور. القضية الرابعة: أن الطبقة العاملة، وهي الحاصلة على الحق والعدد والقوة, ستفوز حتمًا على الماليين فتنزع الملكيات بتعويض أصحابها وتجعل من الثروات والمرافق ملكية مشاعة بين الجميع، فيتناول كل قيمة عمله كاملة ويجد فيها ما يكفي لإرضاء جميع حاجاته ويزيد. ولا يعالج ماركس طريقة تنظيم الشيوعية، ويقتصر على القول في الختام بأن التقدم الصناعي يجعل من المستحيل العود إلى الملكية الصغيرة، وأن من شأن هذه الاستحالة أن يتحقق المجتمع الشيوعي حتمًا في مستقبل قريب أو بعيد على أنقاض المجتمع الرأسمالي. ومهمة الحزب الشيوعي تكوين "عقلية الطبقة" عند العمال وتأليفهم حزبًا سياسيًّا كفيلًا بانتزاع السلطة وإقامة الدكتاتورية العمالية. هـ- هذا هو الجدل التاريخي القائم في الصراع بين الطبقات, والمنتهي حتمًا إلى المجتمع البريء من الطبقات الكامل الاشتراكية! ولكنه باطل من جميع الوجوه؛ إنه باطل في أساسه المادي وفي محاولته استخراج الموجودات على اختلاف أنواعها من المادة البحتة. وإذا كان للظروف المادية والاقتصادية أثرها في حياة الإنسان, فإن هذا الأثر لا يعدو تكييف هذه الحياة وتوجيه بعض أفعال الإنسان, وتبقى القوى الإنسانية ويبقى الوجدان. وهذا الجدل باطل في اعتماده على الإلحاد, قال كارل ماركس: إن الدين أفيون الشعب يجب منعه عنه لكي ينفض التسليم والخنوع وينهض للمطالبة بحقه؛ ولكنه لم يفطن إلى ما ينتج عن الإلحاد من الهبوط بالإنسان إلى درك البهيمة بل إلى أدنى؛ إذ إن الإنسان حينذاك يجري مع غرائزه مطلقًا من القيد الطبيعي الذي نشاهده في البهيمة والذي يقفها عند حد الاعتدال, فلا يعرف رادعًا سوى الخوف من بطش الأفراد والجماعة. وإذا كان الشيوعيون يشبعون الجسم كما يعتقدون، ويأملون أن يستغني الإنسان الشبعان عن الدين, فإنهم واهمون. إن الحاجة إلى الدين أصيلة في النفس لا يمكن اجتثاثها؛ و"ليس يحيا الإنسان بالخبز وحده, بل بكل كلمة تخرج من فم الله". ومن عجب أن تبنى الشيوعية على فكرة العدالة وليست العدالة معروفة من الطبيعة الصماء

وليس الناس متساوين قوة ونشاطًا وذكاء، والنتيجة المنطقية للمادة أن يعتبر الإنسان كائنًا اقتصاديًّا فحسب, قانونه الطمع والمنفعة وتنازع البقاء بالأسلحة الطبيعية. لا عدالة إلا في مذهب يعترف بماهية إنسانية مشتركة بين أفراد النوع، وبحياة إنسانية أرفع من الحياة المادية، وهذان ركنان لا يعترف بهما المذهب المادي. ووهذا الجدل التاريخي باطل في تعريفه لقيمة السلعة، وفي إنكاره لحق الملكية، وفيما يترتب على التنظيم الشيوعي من استبداد شنيع. ليس بصحيح أن قيمة السلعة تقاس بكمية العمل المتحقق فيها، فإن القيمة تابعة أيضًا لمقدار الحاجة إلى السلعة، أو لما يتجلى فيها من ذوق ودقة وصنع، وقد يبذل عمل كثير في مصنوعات غير قابلة للاستهلاك، كالمصنوعات الفنية, فهل نقتل الذوق في النفوس ونحرم الفنون؟ والأصل في رأس المال أنه عمل مدخر، فالملكية حق طبيعي متى استمدت أصلها من العمل نفسه، وإنصاف العامل ممكن دون ظلم غيره وقلب المجتمع رأسًا على عقب, وإذا كان للملكية مساوئ فباستطاعة الحكومة ومن واجبها أن تصحح هذه المساوئ بتشريع معقول يستبقي الملكية ومزاياها. ثم إن الشيوعيين يقدمون لنا دواء هو شر من الداء؛ فإن تحقيق مذهبهم يستلزم إخضاع الفرد للدولة في جميع الشئون وخنق كل حرية فكرية. ونحن لا نصدق أن باستطاعة حكومة أيا كانت أن تعنى بجميع الأفراد وتدبر جميع المرافق, ولكنها فتنة العقول العامة الضعيفة وغرائزهم الجامحة، نوقن أنها لن تلبث أن تخمد إلى توازن بين الطبقات.

الفصل الثالث: أخلاق

الفصل الثالث: أخلاق 195 - إدوارد فون هارتمان " 1842 - 1906 ": له كتب كثيرة في الأخلاق وفلسفة الدين وغير ذلك من المسائل الفلسفية والاجتماعية وتاريخ الميتافيزيقا, ولكنه معروف خاصة بكتاب نشره في السابعة والعشرين بعنوان "فلسفة اللاشعوري" " 1869 " يجمع فيها بين "إدارة" شوبنهور و"مثال" هجل في "مطلق" متجانس لاشعوري. إن في الكائنات الحية وظائف وغرائز تفترض عقلًا أوسع من عقلنا وأمضى عزمًا، وهو مع ذلك لاشعوري, فالحياة تكشف لنا عن لاشعور عاقل مريد يرشده المثال الهجلي. وقد يوجد شعور في الذرات أيضًا إذ لا تلازم بين الشعوري والنفس، على ما يشهد به الإلهام الفني وتطبيق المقولات كما بين كنط، وكلاهما لاشعوري. فالموجودات مظاهر لاشعور مطلق أو مطلق لاشعوري أراد أن يتحقق فأوجد العالم، وجاء العالم خير العوالم الممكنة يتألف من مراتب يتزايد فيها الشعور من أسفل إلى أعلى. ولكن الشر فيه يربي على الخير إلى حد بالغ حتى ليستحب العدم دونه. فالمثل الأعلى والغاية القصوى لتطور المطلق، طبقًا لمذهب التشاؤم، يجب أن يكون عدم العالم وعدم اللاشعوري نفسه. وإنما يتحقق العدم بنمو الشعور في المطلق، أي: في مظاهره على اختلافها وبخاصة في الإنسان، فيزداد الإحساس بالشقاء الكلي فتؤثر الموجودات عدم الوجود، وهكذا يتحطم العالم الذي يعتبره شوبنهور باقيًا أبدًا فيؤيد الشر. على أن هارتمان يستدرك قائلا أن ليس هناك ما يضمن أن يبقى العالم محطما, إذ من الممكن أن تعود الإرادة الكامنة فتستيقظ! 196 - فريدريخ نيتشي " 1844 - 1900 ": أ- أديب مطبوع حشر في زمرة الفلاسفة؛ لأنه فكر وكتب في الإنسان ومصيره, والأخلاق وقيمتها، وفكر تفكير الأديب وكتب كتابة الأديب أو النبي

الملهم، ثم لا نستطيع أن نقول: إنه مبتكر مذهبه؛ فقد أخذ أركانه عن شوبنهور وفاجنر، فلا يبقى له إلا الأسلوب الذي عبر به عن هذا المذهب. كان ابن قسيس وحفيد قسيس وأراد أن يصير قسيسًا فكان في حداثته مستمسكًا بالدين، ثم خرج على الدين والأخلاق بمنتهى الشدة وصار علمًا من أعلام الفكر. توفر على الدراسات اليونانية واللاتينية في المدرسة أولًا ثم في جامعتي بون وليبزج " 1864 - 1869 ". وقبل الفراغ من الدراسة نشر مقالات في إحدى المجلات لفتت إليه الأنظار بجامعة بال، فعرضت عليه التدريس فيها؛ فحصل على إجازاته العلمية وقصد إليها, ولكي يعين فيها اضطر للنزول عن جنسيته والتجنس بالجنسية السويسرية. فلما نشبت الحرب بين ألمانيا وفرنسا " 1870 " كان بمعزل عنها، وكان عاطفًا على فرنسا أم الثقافة مشفقًا عليها وعلى الثقافة من البربرية البروسية. ولكنه خجل من قعوده فطلب إلى السلطة السويسرية الترخيص له بالخدمة في عداد الممرضين فأجيب إلى طلبه، ولم يكن بوسعه أن يفعل أكثر من ذلك لأن سويسرا كانت محايدة. وبدلته الحرب رجلا آخر وجعلت منه ألمانيًّا فخورًا بألمانيا, يمجد الحرب لأنها تبعث القوة في الإنسان وتوجهه إلى الجمال والواجب. ولكنه أصيب بالدوسنتاريا والدفتريا، وصادف المرض في بدنه استعدادًا وراثيًّا فأوهنه سنين عديدة حتى اضطره إلى الانقطاع عن التدريس؛ فاعتزل منصبه في 1879 وبعد عشر سنين انتهى به المرض إلى الشلل الكلي والجنون. فظل على هذه الحال عشر سنين حتى وافته منيته. وقد قالت أخته: إن السبب الرئيسي في مرضه الأخير إدمان الكلورال استجلابًا للنوم. ب- وهو في ليبزج وقع له كتاب شوبنهور "العالم كإرادة وتصور" فأعجب به واعتنق المذهب ودعا صاحبه "أباه". ومنذ ذلك الحين أقبل على الفلسفة إذ وجد أنها تنظر في الإنسان والعالم مباشرة بينما الأدب يظهرنا على العالم والإنسان خلال الكتب. وما إن دب فيه المرض حتى ثار عليه وعلى تشاؤم شوبنهور واعتنق مبدأ "الحياة" فكان المرض شاحذًا لإرادته موحيًا إليه بالشجاعة دافعًا به إلى توكيد حياته بالرغم مما كان ينتابه طول حياته من آلام في الرأس والعينين والمعدة. وقد قال في ذلك: "لم يستطع أي ألم ولا ينبغي أن يستطيع أن يحملني على أن أشهد زورًا في حق الحياة كما تبدو لي! " وكان يتقبل الألم كامتحان ورياضة

روحية، وينكر على المريض أن يكون متشائمًا، وقد قال: "إن حياتي عبء ثقيل، ولقد كنت تخلصت منها منذ زمن طويل لو لم أر أني وأنا في حالة الألم والحرمان هذه كنت أقوم بأكثر الملاحظات والتجارب فائدة في الميدان الروحي والخلقي. إن الشره إلى العلم يرتفع بي إلى أعمال أنتصر فيها على كل ألم وكل يأس" وهذه ناحية تثير العطف عليه وتقوم عذرًا له. ومنذ ذلك الحين انحصر تفكيره في نقطتين: إحداهما نقد القيم الأخلاقية والدينية, والأخرى قلب هذه القيم أو عكسها بوضع "إرادة القوة" في المحل الأول. ج- ومن بال قصد إلى رتشارد فاجنر، فإذا بهما متفقان على الإعجاب بشوبنهور. وتوثقت الصلة بينهما، ثم فصمها نيتشي وقد حاول أن يثني صديقه العظيم عن تشاؤمه فلم يفلح. وهو مدين له بفكرة من أهم أفكاره، وقد وجدها في كتيب مخطوط بعنوان "الدولة والدين" يقول فيه فاجنر: إنه كان اشتراكيا، لا بمعنى أنه كان يريد المساواة بين جميع الناس، بل كان يريد أن يراهم محررين من الأعمال الدنيئة يرتفعون إلى فهم الفن؛ ولكنه أدرك أنه أخطأ وأن العامة لا ترتفع إلى المستوى الذي كان ينشده، وأن المسألة التي يتعين حلها هي هذه: كيف نقود العامة إلى أن يخدموا ثقافة مقضيا عليهم أن يجهلوها، وإلى أن يخدموها بإخلاص ونشاط حتى التضحية بالحياة؟ إن جميع الموجودات تخدم غايات الطبيعة, فكيف تحصل منهم الطبيعة على الاستمساك بالحياة وخدمة غاياتها؟ إنها تحصل منهم على هذا الغرض بخداعهم. وذلك أنها تضع فيهم الأمل في سعادة دائمة ترجأ دائمًا، وتضع فيهم غرائز تضطر أدنى البهائم إلى أعمال شاقة وتضحيات طويلة. كذلك يجب تعهد المجتمع بخدع تستبقي كيانه, أهم هذه الخدع الوطنية، فإنها تكفل بقاء الدولة والملك؛ ولكنها لا تكفي لضمان ثقافة عالية؛ إنها تفسر الإنسانية وتعمل على نمو القسوة والبغض وضيق العقل. فثمة خدعة أخرى تصبح ضرورية هي الخدعة الدينية, فإن العقائد ترمز إلى الوحدة الوثيقة والمحبة العامة, ويجب على الملك أن يؤيدها في شعبه. فإذا تشبع الساذج بهاتين الخدعتين استطاع أن يحيا حياة سعيدة شريفة. بيد أن حياة الأمير ومشيريه أعظم شأنا وأكثر خطرا. إنهم ينشرون الخدع، فهم إذن يعلمون قيمتها، ويعلمون أن الحياة في الحقيقة تراجيدية، وأن الرجل العظيم يجد نفسه كل يوم تقريبًا في الحالة التي ييأس

فيها الرجل العادي من الحياة ويلجأ إلى الانتحار. فالأمير والصفوة المحيطة به يرغبون لأنفسهم خدعة مريحة يمالئونها على أنفسهم. هذه الخدعة هي الفن، والفن ينقذهم بأن يلطف من آلامهم ويزيد في شجاعتهم. هذه خلاصة رسالة فاجنر، وقد رأى نيتشي أن روح شوبنهور ظاهر فيها. وسوف ينسج على منوالها أو يؤيدها بشواهد من تاريخ الثقافة اليونانية. د- فعل ذلك في أول كتاب مهم له، وهو "نشأة التراجيديا". ظهر هذا الكتاب في آخر يوم من سنة 1871 , ولما أعيد طبعه بعد خمس عشرة سنة أضاف نيتشي إلى العنوان السابق عنوانًا ثانيًا هو "اليونانية والتشاؤم" لزيادة إيضاح موضوعه. وهو يذهب فيه إلى أن قدماء اليونان مروا بعهدين متعارضين: كان العهد الأول في القرن السابع والسادس. فكان اليونان مليئين حياة أصيلة وقوة ساذجة, يداخلهم شعور تراجيدي وتشاؤم, وتداخلهم شجاعة تدفعهم إلى قبول الحياة ومخاطرها. إذ كانوا يعتقدون، كما يعتقد الأوروبيون الآن، بالقوى الطبيعية, وبأن واجب الإنسان أن يخلق لنفسه فضائله وآلهته, فازدهرت التراجيديا تدور كلها على توكيد الإنسان لقوته في مغالبة القدر وتنطق بالحكمة القوية والشعر الغنائي. ولكن التراجيديا سقطت فجأة بعد سوفوكليس كأن كارثة قضت عليها، بخلاف سائر الفنون التي جاء انحطاطها بطيئًا تدريجيًّا. ذلك بأن سقراط بدأ العهد الثاني، سقراط ابن الشعب ابن أثينا، ذلك الرجل الفقير الدميم الساحر، الذي هدم بتهكمه المعتقدات الساذجة التي كانت قوة الأجداد، وحمل التراجيديا. فاضطرب أوريبيدس، وعدل أفلاطون عن شعره التمثيلي وفرض على الناس, جريًا مع أستاذه، خدعة كانت مجهولة لدى القدماء هي فكرة طبيعية معقولة يدركها العقل الإنساني ويدرك أنها مصدر النظام. فالتخريج السقراطي والدعة الأفلاطونية يحملان طابع الانحطاط، وما نتحدث عنه من فرح اليونان وصفائهم إنما كان ثمرة عصور الاستعباد. هذا بينما كان القدامى مشغوفين بالمجد والفن، وكانوا يعلنون أن العمل اليدوي شيء مخجل وأنه يستحيل على المعنى بتحصيل رزقه أن يصير فنانًا، فاصطنعوا الرق لكي ييسروا لأقلية من البشر "الأولمبيين" أن يتوفروا على الفن. فالرق ضروري للفن والثقافة, وأصل الرق القوة الحربية التي هي الحق الأول. وما من حق إلا وهو في جوهره

اغتصاب وامتلاك. فالحرب ضرورية للدولة كضرورة الرق للمجتمع. هذه الأفكار ستظل أركان مذهبه، وسيعرب عنها في صور مختلفة؛ فقد كان كثير الكتابة. وأهم كتبه من الناحية المذهبية: "هكذا قال زاردشت" " 1883 - 1891 " و"ما وراء الخير والشر" " 1886 " و"أصل الأخلاق" " 1887 ". وكان يجد مشقة كبيرة في طبعها إذ كان قراؤه قليلين وكان أصدقاؤه أنفسهم قليلي التقدير لكتاباته, وكانت الجرائد والمجلات لا تذكرها، فكان الناشرون يقبلون بعضها بعد إلحاح، ويرفضون بعضها الآخر فيضطر هو إلى تدبير نفقات الطبع. هـ- يتألف مذهبه من قسمين: أحدهما سلبي والآخر إيجابي. القسم السلبي نقد عنيف للقيم الأخلاقية ولثقافة القرن التاسع عشر أو حضارته, وهو يلخص في كلمة "العدمية الأوروبية". يقول: إن كل ثقافة فهي تفترض "جدول قيم" أي: عددًا من الخيرات تعتبر أعظم الخيرات ويتجه إليها المجتمع اتجاهه إلى مثل عليا. وهذا الجدول يجيء دائمًا صورة لخلق الناس الذين يصطفونه بل صورة لمزاجهم البدني ومن هنا نشأت ثقافتان كبيرتان: إحداهما ثقافة المنحطين المستضعفين، والأخرى ثقافة الأقوياء السادة. وجميع القيم التي اصطنعتها حضارتنا ترجع إلى ثقافة المنحطين وتعود بأصلها إلى الشعب اليهودي الذي هو شعب عبيد، وتتلخص في فوز المسيحية وانتشار عقائدها, فإن المسيحية تؤيد حياة آجلة تنسي البشر الحياة العاجلة التي هي الحياة الحقة، وتؤكد وجود إله خالق يحاسب النفس الخالدة، وهذا قول يعارضه العلم ولكنه ضروري لعقيدة الحياة الأخرى؛ وتؤكد بنوع خاص عقيدة الخطيئة الصادرة عن إرادة حرة، والحرية وهم؛ وتأمر بالتكفير عن الخطيئة بالصبر والتسليم والطاعة والاتضاع، وكل أولئك مظاهر ضعف وانحطاط يبديها القساوسة فضائل ليحتفظوا بسيادتهم على جمهور المساكين، حتى العلماء المحدثون الذين يرفضون المسيحية يحترمون هذه القيم، خذ سبنسر مثلا تجده ينكر العناية الإلهية ثم يؤمن بالتقدم المحتوم وبالتوافق الضروري بين أفعال الطبيعة والنزعات الإنسانية، فيستبقي الانسجامات المسيحية في عالم خلو من الله؛ وخذ فلاسفة وعلماء كثيرين تجدهم يقنعون بأن يضعوا "العلم" موضع الله ثم يمجدون الحرية والديمقراطية ويسوغون طلب الثراء والرخاء, وكل أولئك علامات انحطاط كانحطاط الإيمان الديني سواء بسواء. فيجب تحطيم جدول

القيم هذا, إذ إنه لا يلائم سوى المساكين. ووالقسم الإيجابي يبين ثقافة السادة، أي: مجموعة من المعتقدات والأخلاق يسمو بها الإنسان القوي. والمبدأ المهيمن على هذه المعتقدات والأخلاق هو توكيد القوة والقوة موجودة وليست بحاجة إلى التسويغ. قال شوبنهور: إن كل موجود يتوق إلى البقاء، وإن الحياة إرادة حياة. ولكن هذا قليل, يجب أن نقول: إن الحياة تتوق دائمًا إلى الازدهار والانتشار ولو بالطغيان على الغير وبسط سلطانها عليه، وإنها من ثمة مبدأ حماسة وفتح. فإرادة القوة هي الاسم الحقيقي لإرادة الحياة، وكل إرادة قوة فهي تذهب إلى حدها الأقصى؛ لأن الحياة لا تزدهر إلا بإخضاع ما حولها، ومتى وضعنا هذا المبدأ انقلبت القيم المتعارفة رأسًا على عقب، و"قلب القيم" يلزم ضرورة؛ ذلك بأن إرادة القوة فردية، فهي تحب ذاتها وتقسو على الغير، بل تقسو على نفسها إذ ترى في المخاطرة والألم ضرورة لها. يقول زاردشت: "يجب أن تحب السلم كوسيلة لحرب جديدة, وتحب السلم القصير أكثر من الطويل ... لقد صنعت الحرب والشجاعة من عظائم الأمور أكثر مما صنعته محبة القريب". والبطل الذي يقهر نفسه ويقهر الغير لا يطلب سعادة شخصية، وإنما هو يخدم غاية تعلو عليه هي إيجاد "الإنسان الأعلى" أي: صنف من الناس قوي، بينما الشفقة التي تقول بها المسيحية ويقول بها شوبنهور تستبقي الإنسانية في حال الضعف والمهانة بل تزيدها ضعفًا ومهانة. فكما أن التطور الحيوي تقدم حتى وصل إلى الإنسان الراهن، فكذلك يجب أن يذهب إلى أبعد منه. إن الإنسان الراهن حبل مشدود بين الحيوان الأعجم والإنسان الأعلى، حبل مشدود فوق الهاوية. فمذهب التطور يحتم قبول الحياة ويخلع عليها معنى ويعين لها غاية، هذه الغاية هي الحالة التي يبلغ إليها الإنسان حين ينبذ الجدول الراهن للقيم والمثل الأعلى المسيحي والديمقراطي المرعي في أوروبا لعصرنا الحاضر، ويعود إلى جدول القيم الذي كان مرعيا عند الأمم الشريفة التي خلقت قيمها ولم تتلق قيما من خارج، والإنسان الأعلى المنتظر سيفيد من مكتشفات العلم للسيادة على الطبيعة نفسها، غير أنه يجب أن يتوقع آلامًا شديدة في صراعه المستمر ضد الضعفاء الذين يستخدمهم، فقد يستطيعون أحيانًا بفضل عددهم أو دهائهم أن يقهروه، وعلى ذلك يكون شعاره "الحياة

الخطرة". ولما كانت غايته الفوز فإنه يأبى كل شفقة على المساكين؛ ولما كان يلخص الإنسانية في شخصه فإنه يسودها وهو مطمئن الضمير، ويجد في الفوز غبطته العظمى، وأخيرًا يثبت مصيره إلى الأبد بقبوله أن يعود فيحيا حياة البطولة هذه إلى غير نهاية, وفقًا لنظرية الدور السرمدي 1. ز- فلسفته هذه صورة نفسه القلقة وثقافته الرومانتية وتجربته المؤلمة. وهو يعرضها على أنها رسالة ووحي، ولا يقصد إلى إقناعنا بل إلى تعليمنا كيف نستكشف أنفسنا فنجد فيها إرادة القوة. وإذا أردنا أن نلخصها قلنا: إنها صيحة بالإنسان أن "كن ما أنت دون ضعف وإلى النهاية". وهذا ما دفعه إلى نقد شوبنهور نقدًا لاذعًا وإلى فصم صلته بفاجنر حين أدرك اختلافه معهما في معنى الحياة والغاية منها، والشبه كبير بين هذه النظرية وبين النظرية السوفسطائية التي يعرضها أفلاطون في محاورة "غورغياس" مع هذا الفارق, وهو أن "الإنسان الأعلى" يحل محل "الطاغية" وأن الحيوية النفسية تحل محل الشهوة البدنية. ولو أن نيتشي أنعم النظر في هذه المحاورة الخالدة لرأى بأي قوة يعرض أفلاطون هذه النظرية, وبأي قوة يفندها, وبأي قوة يجلو مبادئ الأخلاق 2. ليست القوة بذاتها غاية وليس لها بذاتها قيمة، ولكن قيمتها ترجع إلى قيمة الموضوع أو الغرض الذي تخدمه، فإذا كان هذا الموضوع هو اللائق بالإنسان بما هو إنسان, كانت القوة المبذولة في سبيله خيرة ممدوحة،

_ 1 هذه النظرية معروفة في الثقافة اليونانية, ونتيجتها استبعاد كل أمل في نعيم مقيم، أرضيا كان أو سماويا، واعتبار الإنسان شبحا ضيئلا في طبيعة عمياء. وكان شوبنهور يرى في العودة الدائمة وتجدد الألم إلى غير نهاية سببًا للتشاؤم والزهد؛ وكان نيتشي قد فزع من هذه الفكرة في أول الأمر وحياته مفعمة بالآلام، ثم حسبها قانونا طبيعيا واعتزم تأييدها بدراسات علمية، ولكنه لم يستطع تحقيق هذا العزم واكتفى بأن اعتنقها على أنها الفكرة الوحيدة الخليقة بأن تقابل إرادة الحياة في الإنسان الأعلى، والتي تمثل أقصى حد يقترب فيه عالم الصيرورة من عالم الدوام من حيث إن الآن الذي يتحدد إلى ما لا نهاية لا يعتبر لحظة عابرة بل يكتسب قيمة غير متناهية. وإذا كانت هذه النظرية تحرمنا كل أمل فقد كان نيتشي يرى أنها تملؤنا شرفًا وحماسة، فكان يفرضها على نفسه كما يفرض الزاهد على نفسه الحرمان والموت، ولكنها في الواقع معارضة لفكرة الإنسان الأعلى إذ إنها تعني تكرار الحياة كما هي، على حين أن فكرة الإنسان الأعلى ترمز إلى تقدم حقيقي, وإلى إمكان التحرر من الاتفاق والقدر، فتجعل الحياة مستحبة والنجاة ممكنة، على أنه قد لا ينبغي أن نطلب من أديب مثل نيتشي كثيرًا من الدقة المنطقية. 2 لخصنا المحاورة في "تاريخ الفلسفة اليونانية" ص 93 - 95 من الطبعة الثانية, القاهرة 1946.

وإذا كان معارضًا لماهية الإنسان كانت القوة تمردًا أحمق. ولو أن نيتشي دقق في تحليله لأدرك جمال الحلم والوداعة، وأنهما عبارة عن المضي مع طبيعة الإنسان العاقلة إلى النهاية، بل لأدرك أنهما يتطلبان من القوة أكثر مما يبذل في الغضب والقسوة. فإن القسوة والغضب انقياد للغريزة الحيوانية الجامحة، على حين أن كظم الغيظ أصعب من إعلانه وأن الصفح أصعب من الانتقام. وهذا هو الخلاف الدائم بين الحسية والعقلية، بين مذهب لا يرى في الإنسان سوى أنه حيوان راقٍ فيأخذ بأخلاق الوثنية القائمة على اعتبار القوة والمقسمة البشر إلى قوي وضعيف، وبين مذهب يلحظ روحانية الإنسان قبل حيوانيته, فيرسم له أخلاق العدالة والمحبة. فلم يأت نيتشي بشيء جديد من الوجهة الفلسفية، وكل الجديد عنده ذلك الضجيج الذي يقال له أدب. 197 - حاشية في الفلسفة الإيطالية: أ- لم نخصص للفلسفة الإيطالية مقالة أو فصلًا؛ لأنها في الحق لا تعدو أن تكون صدى لفلسفات معروفة. ففي أوائل القرن ساد في إيطاليا ضرب من التخير يجمع بين لوك وجساندي من جهة وبين ديكارت وكنط من جهة أخرى. ثم برزت معارضة ضعيفة من جانب روما نيوزي " 1761 - 1835 " الذي حاول أن يتخذ لنفسه موقفًا وسطًا بين الجنسية والتصورية، ومن جانب جالوبي " 1770 - 1846 " الذي يتخذ من "الأنا" أساسًا للموضوعية ويزعم أنه يلطف تصورية كنط ويصححها. ب- ثم ظهرت طائفة من أتباع مالبرانش دعوا بالوجوديين ontologistes أشهرهم روسميني " 1797 - 1855 " يذهب إلى أن معنى الوجود حاصل بالطبع في كل إنسان، وأنه يحقق على أرفع وجه خصائص المعنى المجرد التي هي الكلية واللانهاية والضرورة والدوام، وأن هذه الخصائص تمنع من الاعتقاد بأن المعاني المجردة تفسر بالإحساس ليس غير، وتحمل على الصعود إلى موجود حاصل بالذات على هذه الخصائص, وهو الله، فمعنى الوجود صورة الله في النفس. ويذكر في هذه الطائفة أيضا جيوبرتي " 1801 - 1852 ".

ج- ثم طائفة من الهجليين تأخذ من المذهب نزعته الأحادية وتعتبره بنوع خاص مبدأ تأويل للتاريخ وتركيب لسياسة عملية. أشهر رجالها: سبافنتا " 1817 - 1883 " وبنديتو كروتشي "ولد سنة 1866 وكان وزيرًا للمعارف في الحكومة الفاشية سنتي 1920 , 1921 " وجيوفاني جنتيلي "ولد سنة 1875 وكان وزيرًا للمعارف 1992 - 1924 ". د- وكذلك طائفة من الكنطيين, يذكر منهم بارزلوني " 1844 - 1917 " وكانتوني " 1840 - 1906 ". هـ- هذا فضلًا عن "المدرسية الجديدة" التي تعرض مذهب القديس توما الأكويني وتعارض بينه وبين المذاهب الحديثة، ويمثلها بخاصة سانسفرينو "توفي 1870 " وليبراتوري " 1810 - 1892 ".

الباب السادس: تقديم العمل على النظر النصف الأول من القرن العشرين

الباب السادس: تقديم العمل على النظر النصف الأول من القرن العشرين مدخل ... الباب السادس: تقديم العمل على النظر "النصف الأول من القرن العشرين" 198 - تمهيد: أ- بدأ العصر الحديث بتمجيد العقل حتى أعلى كلمته فوق كل كلمة, فجعل منه الحكم الأخير فيما يوجد وما لا يوجد, وفيما يصدق وما يكذب. ذلك كان الحال عند ديكارت ومالبرانش وسبينوزا وليبنتز, ولكن الفلاسفة الحسيين؛ لوك وباركلي وهيوم وأضرابهم، هاجموا المعاني والمبادئ العقلية هجومًا عنيفًا، فظن كنط أنه ينقذها إذ اعتبرها مجرد صيغ جوفاء لتنظيم التجربة. وجاء مذهب التطور فرأى رجاله أنه يقتضي القول بأن الحس والعقل وظيفتان من وظائف الحياة وأن المعرفة آلة للعمل وأن رأي كنط يلائمهم تمام الملاءمة. ولقد أدى هذا الجمع بين نقد كنط ونظرية التطور إلى طائفة من المذاهب "الحيوية" أو العملية غلبت فكرة الحياة على فكرة العلم, فافترقت عن كنط وعن سبنسر جميعًا. افترقت عن كنط في أن تنظيم التجربة ليس الغرض منه العلم بل المنفعة، وأن المعاني والمبادئ ليست كلية ضرورية وإنما هي عبارة عن حاجات الكائن الحي ومطالبه, فهو يستعمل الصيغ العقلية لحفظ وجوده واستكماله، ويستطيع أن يستبدل بها غيرها دون أن يفوته النجاح العملي، كما يستبدل الصانع آلة بأخرى أو جهازًا بآخر ويؤدي مع ذلك نفس العمل أو يحصل على نفس النتيجة. وافترقت هذه المذاهب عن سبنسر في القول بأن الكائن الحي هو الذي يكوّن العالم على حسب مطالبه, بينما سبنسر يرى أن هذه المطالب نتيجة تأثير العالم في الكائن الحي. فالعقل عندهم غائي في جوهره يتجه إلى العمل لا إلى النظر، والمعاني والمبادئ فروض ومحاولات يكون بها العالم لفائدته. ب- هذه المذاهب الحيوية لا تحفل إذن بتبرير العلم والميتافيزيقا تبريرًا

نظريًّا، ولا تغار على مبادئ العلم غيرة كنط، ولكنها تستمسك مثله بالمعاني الميتافيزيقية وترمي مثله إلى تحقيقها بالفعل وإقامة الإيمان بها على منفعتها العملية. فهي تمثل "العقل العملي" محولًا إلى قوة فاعلية. وأظهر ما يكون هذا الموقف في أمريكا وإنجلترا, المطبوع أهلهما على العمل والمغامرة الميالون بالفطرة إلى التجربة. وهذه أول مرة نذكر الفلسفة الأمريكية وقد أخذ العالم الجديد يساهم في جميع فروع النشاط العقلي؛ وهذه الفلسفة داخلة من غير شك في نطاق هذا الكتاب ورجالها أوروبيو الأصل واللغة. وبعد الفراغ منها نعرض للفلسفة في إنجلترا, ثم للفلسفة في فرنسا، وأخيرا للفلسفة في ألمانيا، فنرى ما انتهت إليه تلك الجهود العقلية، وما انتهت إلا إلى الشك في العقل والحيرة في مصير الإنسان.

الفصل الأول: الفلسفة في أمريكا

الفصل الأول: الفلسفة في أمريكا 199 - وليم جيمس " 1842 - 1910 ": أ- فلسفته أثر لفلسفة عصره الغالب عليها الكنطية والتطور، وصورة لمزاجه وتجربته. كان والده هنري جيمس قسيسًا بروتستانتيًّا ومن أتباع سويدنبورج الإشراقي السويدي الذي تهكم عليه كنط " 95 ج" فتأثر هو بهذه الناحية، وتابع دراسات علمية وفلسفية في معاهد وجامعات أمريكية وأوروبية إلى أن حصل على الدكتوراه في الطب من جامعة هارفارد " 1870 " فعين بعد ذلك بقليل أستاذًا للفسيولوجيا والتشريح بها، فكان أستاذا ممتازا، ثم عين بها أيضا أستاذا لعلم النفس فبرز فيه أيما تبريز، ثم اتجه إلى الفلسفة فألقى فيها الدروس ونشر الكتب, وكان أشهر أركان "البراجماتزم" أي: المذهب العملي. ب- كان كتابه الأول "مبادئ علم النفس" " 1790 " فجاء كتابًا كبير القدر بتحليله الدقيق العميق وأسلوبه الخلاب وأكسبه شهرة واسعة, وجعل منه أحد واضعي علم النفس المعاصر. ثم توالت كتبه على هذا الترتيب: "موجز علم النفس" " 1892 " و"إرادة الاعتقاد" " 1897 " و"أنحاء التجربة الدينية" " 1902 " و"البراجماتزم" " 1907 " و"كون متكثر" " 1909 " يعارض فيه الأحادية أو وحدة الوجود. ونشر له بعد وفاته: "بعض مسائل الفلسفة" " 1911 " أو "محاولات في التجريبية البحتة" " 1912 ". ج- أثره في علم النفس أنه ينكر على مذهب الترابط أو التداعي تأليف الوجدان من ظواهر منفصلة, ويبين أن الظواهر الوجدانية تجري في تيار متصل, وأن الوجدان شيء يمتنع رده إلى الظواهر الفيزيقية أو الفسيولوجية، وأن حالاته نوعان: حالات يدل عليها بأسماء كقولنا: تعقل وتخيل وإحساس وإرادة، وحالات متعدية كالعطف والاستدراك تؤلف التيار الوجداني نفسه, وعلى ذلك يجب اعتبار الدماغ "آلة نقل" تصل بالجسم قوى وجدانية مباينة للقوى الجسمية، ويجب الاعتراف بأن أعم قانون في علم النفس هو قانون المنفعة، فإن أفعالنا التلقائية مرتبة

بالطبع لخيرنا، وكذلك المراكز الدماغية العليا في مجاوبتها على التأثيرات. ولا شك أن جيمس بهذا الموقف قلب علم النفس رأسا على عقب، وشق الطريق إلى مذاهب فلسفية "حيوية" منها مذهبه هو الذي سنعرضه. على أن هذا الموقف لم يمنعه من اعتبار الانفعال النفسي "كالخوف والغضب والسرور والحزن وما إليها" مجرد الإحساس بالحالة الفسيولوجية الناشئة عن إدراك الموضوع، وبينما يعتقد الذوق العام أننا إذ نرى الذئب نخاف فنهرب، يقول جيمس: إننا إذ نرى الذئب نهرب فنخاف ويستشهد على ذلك بأننا نوجد الانفعال بإيجاد الحالة الفسيولوجية، ونلطف الانفعال أو نزيله بالسيطرة على الحالة الفسيولوجية. وهذا صحيح ولكنه لا يؤيد النظرية، فإن إرادة الإيجاد والسيطرة فعل نفسي, وإذا كان للحالة الفسيولوجية دخل كبير في الانفعال النفسي فإن هذا الانفعال ظاهرة قائمة بذاتها، ولولا ذلك لكانت الحركة الفسيولوجية غير مفهومة, إذ إن الانفعال النفسي هو الذي يبعثها. ولقد كان أرسطو أصدق تحليلا للانفعال حين قال: إنه ظاهرة واحدة نفسية وفسيولوجية معًا تنبعث تارة من جانب النفس, وطورًا من جانب الجسم المتحدين اتحادا جوهريا. د- أما البراجماتزم فمذهب يضع "العمل" مبدأ مطلقًا، وإن كانت هذه الكلمة قديمة ومستعملة بمعان مختلفة, إلا أن المعنى المعروف لها الآن ورد في مقال مشهور للفيلسوف الأمريكي تشارلس ساندرر بيرس " 1839 - 1914 " 1 بعنوان "كيف نوضح أفكارنا" " 1878 " حيث يذكر القاعدة الآتية للتحقق من دلالة المعاني التي نستخدمها فيقول: "إن تصورنا لموضوع ما هو تصورنا لما قد ينتج عن هذا الموضوع من آثار عملية لا أكثر". وهذا يعني أن علامة الحقيقة أو معيارها العلم المنتج لا الحكم العقلي، وأن العمل مبدأ مطلق كما قلنا، بحيث يلزم من ذلك أنه حر كل الحرية وأن لا شيء يعترضه، سواء العمل المادي والخلقي والعقلي أو التصور، فيلزم أن العالم مرن نستطيع التأثير فيه

_ 1 تخرج في جامعة هارفارد " 1862 , 1863 " وعلم فيها وقتا قصيرا. نشر "دراسات في المنطق" " 1883 " ومقالات كثيرة جمعت ونشرت بعد وفاته, ونشر معها كتاب عنوانه "المنطق الكبير" كان الكتاب الوحيد الذي أتمه. تأثر بكنط مع افتراقه عنه في حلول المسائل, وتأثر بدروين وكان قد وصل من جهته إلى مثل آرائه, وأخذ بقسط كبير من العلم التجريبي فاكتسب دقة في التدليل ظاهرة في جميع كتاباته، وعني عناية خاصة ببيان موضوعية العلم ومنهجه. كان تأثيره عميقا في الفلاسفة الأمريكيين الثلاثة المذكورين في هذا الفصل.

وتشكيله، وأن تصوراتنا فروض أو وسائل لهذا التأثير والتشكيل. والمذهب العملي يقوم على هذا الأساس، ويعتمد على التجربة الوجدانية الخالصة ويقتصر عليها. وهذه هي التجريبية البحتة: radical empiricism وتبدو التجربة الوجدانية متنوعة متغيرة، فهو مذهب "كثري" pluralistic يتصور "الكون متكثرًا" فيعارض الأحادية والجبرية، ويدع مستقبل العالم معلقًا يحتمل إمكانيات عدة يتوقف تحقيقها على فعل الكائنات التي تقرر مصيره، وبناء على هذه المقدمات يعرض وليم جيمس البراجماتزم على أنه نظرية في ماهية الحقيقة, ومنهج لحسم الخلافات الفلسفية. هـ- الحقيقة على نوعين؛ لأن موضوع التصور إما أن يكون شيئًا خارجيًّا أو منهاجًا عمليًّا لإرضاء حاجة نفسية؛ ففي الحالة الأولى "الفكرة الحقة عن موضوع ما هي التي تحدونا إلى إتيان أفعال تقودنا إلى ذلك الموضوع"؛ وفي الحالة الثانية "القضية الحقة هي التي يستتبع تسليمها نتائج مرضية" أي: محققة لمطالبنا. ففي الحالتين ليست الحقيقة تصورًا مطابقًا لشيء كما يعتقد عامة الناس، ولكنها التصور الذي يؤدي بنا إلى الإحساس بشيء أو إلى تحقيق غرض، وفي الحالتين الخطأ هو الإخفاق. وبعبارة أخرى الحقيقة هي التصور الذي نسيغه ونحققه فنجعله صادقًا بتصديقنا إياه. فهي ليست خاصية ملازمة للتصور كما يعتقدون, ولكنها "حادث" يعرض للتصور فيجعله حقيقيا أو يكسبه حقيقة بالعمل الذي يحققه؛ أو "على حد قول برجسون في مقدمة الترجمة الفرنسية لكتاب "البراجماتزم"" "الحقيقة اختراع "شيء جديد" لا اكتشاف "شيء سبق وجوده". وليس يعني هذا أنها تحكم وتعسف، بل يعني أنه كما أن الاختراع الصناعي إنما يتقدم بفضل فائدته العملية فقط، كذلك القضية الصادقة هي التي تزيد في سلطاننا على الأشياء. ونحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما تخترع الأجهزة الصناعية لنستخدم القوى الطبيعية". فالقضايا المنطقية والرياضية والطبيعية، والمعاني المجردة كالجوهر والعلة والجنس والنوع والزمان والمكان وما إليها، مخترعات نافعة ووسائل مفيدة في تصور الأشياء واستخدامها. "فمثلًا: دوران الأرض لا يستند على تجربة بمعنى الكلمة، ولكنه فرض مفيد في تصور الظواهر، وهو أكثر فائدة من فرض دوران الشمس.

فالحقائق المقبولة الآن عند عامة العقول كانت في البداية مخترعات لاستخدام التجربة، ثم تأصلت في العقل بمر الزمن، وهي على كل حال "بطاقات" لا تدل على شيء في الواقع، وإنما تنحصر قيمتها في إنتاجها. قال كنط: إن الحقيقة تابعة لتركيب العقل، ويضيف المذهب العملي إلى هذا القول "أو هو على الأقل يتضمن" أن تركيب العقل نتيجة إقدام بعض العقول الفردية, أي: العقول التي اخترعت المعاني والمبادئ. والمذهب العملي أوسع نطاقًا من المذهب الواقعي، فإنه يمتد إلى كل حقيقة, حتى إلى ما يسمونه حقيقة مطلقة، فيستوعب العلم والميتافيزيقا من حيث هما موضوع عمل "برجسون في الموضع المذكور". ووالبراجماتزم من حيث هو منهج, يحسم المناظرات الفلسفية التي لم يفد فيها للآن الجدل النظري ولا يرجى أن تحسم بغير هذا المنهج، فالجدل ما يزال قائمًا في هل العالم وحدة أم كثرة؟ وهل هو يخضع للجبر أم يتسع للحرية؟ وهل هو مادي أم روحي؟ إلى غير ذلك من المسائل. والمنهج العملي يؤول كل واحدة منها بحسب ما يترتب عليها من نتائج في العمل ومن فرق في حياة الإنسان, أما إذا لم ينتج فرق عملي فيحكم بأن القضيتين المتقابلتين ترجعان إلى واحد وأن الجدل فيهما عبث إذ لو كان بينهما فرق لنشأ عنه فرق في الحياة، فالمنهج العملي اتجاه أو موقف مؤداه تحويل النظر عن الأوليات والمبادئ إلى الغايات والنتائج. خذ مثلا المادية والروحية فإننا لا نرى فرقًا بينهما من جهة الماضي، إذ إن المؤمن يبين أن الله خلق العالم، ويبين المادي أن العالم تكون بفعل القوى الطبيعية؛ ولما كان العالم قائمًا ولا يمكن استعادة التجربة التي أحدثته للتحقق منها أكانت خلقًا أم تكوينًا طبيعيًّا، كانت المسألة ممتنعة الحل؛ ولما كانت الحجج تتعادل قوة فنحن نحكم بأن لا فرق بين النظريتين. أما إذا نظرنا إلى العالم من جهة أن له مستقبلًا وأنه لم يتم بعد، فإن الاختيار بين المادية والروحية ينقلب أمرًا غاية في الخطورة؛ ذلك بأن منافعنا ليست فقط حسية، ولكن لنا منافع عليا ترجع إلى حاجتنا العميقة لنظام خلقي دائم، والنهاية التي يتنبأ العلم بأن الأشياء ستبلغ إليها بعد تطورها الآلي هي فناء القوة وهي العدم، وليس للمادية غير هذه النتيجة, فنحن نأخذ عليها أنها لا تكفل لنا منافعنا العليا، على حين أن لفكرة الله أفضلية

عملية كبرى, إذ معناها أن العالم قد يهلك بالنار أو بالجليد دون أن ينالنا أذى لثقتنا بأن الله سيرعى منافعنا العليا على كل حال ويوفر لأمانينا وسائل إرضائها في عالم باقٍ، فالمذهب الروحي صادق بهذا المعنى وبهذا المقدار، كذلك نصنع في جسم الجدل القائم بين أنصار الحرية وخصومها, فنقول: إن الاعتقاد بالحرية مصدر قوة وإقدام؛ لأنه يتضمن إمكان البلوغ إلى الكمال, بينما المذهب الآلي يقول: إن العالم خاضع للضرورة, وإن فكرة الإمكان ناشئة من جهل الإنسان بأسباب أفعاله, فمعاني النفس والله والحرية ملأى بالمواعيد من جهة العمل، ولكنها تنقلب ألفاظًا جوفاء إذا نظرنا إليها مجردة؛ وإذن فليس لها من معنى غير معناها العملي. ز- والتجربة الدينية تؤيد المعتقدات الميتافيزيقية. يظن العلماء أن ليس هناك سوى تجربة واحدة هي التجربة الظاهرة التي يعولون عليها، والواقع أن العلم بعيد عن التجربة وأنه يبتعد عنها كلما تقدم، فإنه يضحي بها ويستعيض عنها بمعان تبسطها وتزعم تفسيرها, فيتجه إلى الآلية التي ترد الكيفيات المحسوسة إلى الحركة، بل يرد إلى الحركة الفكر نفسه. إن هناك نوعين آخرين من التجربة، هما التجربة النفسية والتجربة الدينية، وكلتاهما مؤكدة واجبة الاحترام. وقد رأينا أن للتجربة النفسية خصائص ذاتية مباينة لخصائص الجسم المتصلة به ولخصائص سائر الأجسام. أما التجربة الدينية على اختلاف صورها فلها خاصيتان مشتركتان بين هذه الصور؛ إحداهما قلق من الألم أو الشر, والأخرى شعور بالنجاة من الألم أو الشر بفضل "قوة عليا" تشهد بفعلها في حياة النفس نتائجه الحسنة، وكان جيمس قد انتابته وهو في التاسعة والعشرين أزمة حادة من النورستانيا، فشفي منها بقبوله فكرتي العون الإلهي والحرية الكفيلة بتغيير مصير الإنسان، وآمن بالتجربة الدينية، وقادته دراستها إلى أنها أغنى وأعمق من التجربة العلمية، وأنها تفسر إذا سلمنا أننا نشارك مشاركة لاشعورية في موجود أعظم منا نستطيع أن نسميه الله أو الألوهية, وأنها تدخلنا بالفعل في عالم تتصل فيه الأرواح وتتفاعل، لا من خارج وبوساطة ألفاظ وإشارات، بل من داخل وبدون واسطة؛ لأنها شعور قوي غير منازع بحضور إلهي يمنحنا ما لم تكن لتوفره لنا جهودنا واستدلالاتنا, وعلى هذه التجربة تقوم العقائد الثلاث التي ترجع إليها الحياة الدينية: عقيدة

أن العالم المنظور جزء من عالم غير منظور يمده بكل قيمته؛ وعقيدة أن غاية الإنسان الاتحاد بهذا العالم غير المنظور؛ وعقيدة أن الصلاة أي: المشاركة مع الألوهية, فعل له أثره بالضرورة. ح- ألا تكون التجربة الدينية حالة مرضية هي عبارة عن اضطراب عصبي واختلال التوازن الجسمي, كلا، فإنما يحكم على الشجرة بثمرها، وليست تفقد الحقيقة العلمية شيئا من قيمتها متى كان المكتشف لها مرهف الإحساس حاد المزاج، وليس يغض من قيمة العبقرية وأثرها في تقدم الإنسانية اقترانها بحالات مرضية؛ وثمرة التجربة الدينية القداسة، أي: الفقر الإرادي والمحبة والإيثار، وهذه فضائل جد نفيسة للأفراد والجماعات. وليس خصب هذه التجربة هو السبب الوحيد الذي يحملنا على اعتبارها صادقة، بل هناك أيضًا اتفاقها مع وقائع التجربة النفسية، فإن هذه التجربة تدلنا على أن تحت المجال الضيق للشعور منطقة عميقة تستمر فيها الحياة الباطنة، وأن من هذا التيار السفلي تطفر عواطف وإلهامات فجائية تبدو في الشعور. أجل, يمكن تفسير ظواهر ما تحت الشعور في الحالات المرضية بأحوال الجسم؛ ولكنّ هناك نوعًا عاليًا مما تحت الشعور يرفع النفس فوق الحياة الجسمية إلى حياة روحية ممتنعة على العقل والإرادة. إن الفنان العبقري لا يشعر أنه صاحب آياته، ولكنه يميل إلى إضافتها إلى إله يستحوذ عليه ويوحي إليه, فيمكن أن نفترض أن في المنطقة اللاشعورية يتم الاتصال بيننا وبين الله وبين سائر النفوس. وعلى هذا يلوح أن خصائص التجربة الصادقة تجتمع للتجربة الدينية, فإنها تقوم على حدس أصيل، وإن لها آثارًا نافعة, وإنها بما تحت الشعور تتصل بطائفة من الظواهر معلومة. على أن الشك يظل ممكنًا إذ إن التجربة الدينية تجربة شاذة فردية غير قابلة للتحقيق بملاحظة نزيهة. وقد نستطيع رفع الشك إذا استطعنا الخروج من الذاتية وإبراز حالات يكون فيها التصور هو الفعال، لا الاعتقاد بالتصور، أي: إذا استطعنا وصل التجربة الدينية, ليس فقط بالتجربة النفسية, بل أيضًا بالتجربة الفيزيقية والمضي من فكرة عالم الأرواح وتفاعلها إلى ظاهرة فيزيقية محسوسة من الجميع مثل الإحساس عن بعد, والتعاطف عن بعد, وحضور الأرواح, والرؤيا وقت الوفاة، وما إلى ذلك من الشواهد.

ط- والإله الذي نقبل منه المدد والعزاء ليس إلهًا مفارقًا ولا إلهًا متحدًا بالعالم. إن الإله المفارق الكامل الثابت لا يدخل في علاقة مع الإنسان؛ وإذا بدت الأحادية مقربة بين الله والإنسان فليس الأمر كذلك في الحقيقة، إذ إنها تميز بين الله بما هو لامتناهٍ والله بما هو صانع الطبيعة، أي: بين الوحدة الميتافيزيقية للوجود وكثرة الموجودات المتناهية؛ يضاف إلى ذلك أنها تعتبر هذه الموجودات مجرد ظواهر لا حقيقة لها في أنفسها, بينما تدلنا التجربة على أنها حقيقة وأنها متصلة بحياة عليا. إنما الإله الذي يحتاجه كل منا، فيتصوره البعض معزيا مقويا، والبعض منذرا معاقبا, تبعا لحالتهم وحاجتهم، فهو إله متناهٍ نحن أجزاء منه باطنة، وهو نفسه جزء من العالم، وبين كماله الخلقي ونقصنا درجات من الكمال متمثلة في أرواح أخرى. وفي القول بإله متناه تفسير يسير لإمكان الشر، وحافز لميل الحرية نحو الخير كي نعاون الله على تحقيق مصائر الكون. أما صفاته فيجب أن نغفل الصفات النظرية المعروفة من وجود بالذات وروحانية وبساطة وما أشببها؛ لأنها عديمة الفائدة ومن ثمة عديمة المعنى؛ وأن نقتصر على الصفات الخلقية بسبب فائدتها، مثل القداسة والعدالة والعلم فإنها تبعث فينا الخوف، ومثل القدرة والخيرية فإنهما تبعثان فينا الرجاء. ي- هذا المذهب يثير مشكلات كثيرة. لقد كانت نظرة جيمس إلى علم النفس نظرة صادقة فأعلن أن الحياة النفسية أصيلة وأنها حياة متصلة متدفقة وأن رائدها المنفعة, لكنه جعل منها ومن منافعها مركز الكون وصورته، فاعتبر الكون مرنًا مثلها قابلًا للتشكيل بحيث يصير تعريف الحقيقة أنها مطابقة الأشياء لمنفعتنا لا مطابقة الفكر للأشياء، وبحيث ينعكس موقف سبنسر وجميع أصحاب التطور السابقين فيقال: إن التطور نتيجة فعل الكائن الحي "وبالأخص الإنسان" في الطبيعة, لا نتيجة فعل الطبيعة في الكائن الحي، وإن الحقائق مخترعات شكلت الأشياء وتأصلت في العقول لا أنها آثار الأشياء في العقول. وقد وجد جيمس مثالًا على رأيه وتأييدًا له في بناء النظرية العلمية للعهد الأخير إذ إنها تبدو في شكلها الرياضي وكأنها محض اختراع حتى ليفسر العلماء المسألة الواحدة بنظريات مختلفة ولا يجدون في ذلك حرجًا لاتفاقهم على أن كل الغرض من النظرية استخدام الطبيعة ليس غير. ولكن هذا لا يصدق إلا على نظريات علم

الطبيعة لبساطة المادة وكثرة الإمكانات في تنوع الحركة. أما في علم الحياة وعلم النفس وعلم الاجتماع حيث الموضوع أخص وأعقد, فلا بد من ملاحظة الأشياء أنفسها لأجل معرفتها, وأيا كان نصيب الاختراع في النظريات الطبيعية فلا جدال في أن واضعيها يراعون الظواهر ويحرصون على أن تتفق معها، والظواهر أمور حقيقية وليست اختراعًا, بل إن نجاح النظرية معناه امتحانها بشيء مستقل عنها، وإلا لنجحت أية نظرية وأفادت في العمل أية وسيلة, فالحقيقة مطابقة الفكر للوجود؛ أما العمل فإنه يبين الحقيقة ولا يكونها. ك- والأمر واضح أيضًا في المسائل الخلقية التي تصدر الآراء فيها عن نزعتين، إحداهما النزعة الحسية والأخرى النزعة الروحية، فتحتمل عملين، أحدهما اللذة والآخر الواجب, فأي عمل يقصدون وأية منفعة يريدون؟ إنهم يجيبون: المنفعة العليا! فنسألهم: بأي حق ترتبون المنافع وتخضعون بعضها لبعض وأنتم تزدرون النظر وتنكرون أن يكون للأشياء حقائق وقيم؟ وما قيمة المنافع العليا بإزاء المنافع السفلى ونحن نعيش في عالم مادي والمادية مغايرة للفضيلة، فلا الطبيعة فاضلة أو مطابقة للفضيلة بالذات, ولا الفضيلة موجهة بالذات للنجاح في وسط الطبيعة, والموت في آخر الأمر واقف بالمرصاد قد يبدد المنافع جميعها؟ وليس بصحيح أن المادية مثبطة للعزيمة، فإنها خليقة أن تنفخ في صدر المؤمن بها أعظم النشاط وأجرأ الإقدام لكي ينتهب من متاع الدنيا وما وسعه الانتهاب. وإذا كان صحيحًا أن فكرة الله والخلود منشطة، فعلى شرط أن يكون الله موجودًا وأن يكون إيماننا به معقولًا؛ أما إذا لم يكن شيء من هذا فالفكرة وهم خادع وخيبة مرة، والأخذ بها وقوع في دور لعل كتب المنطق لم تذكر أبدع منه، إذ إنها تريدنا على أن نعتقد بالله وبالخلود لأن هذا الاعتقاد مفيد، والفائدة المرجوة منه لا تتحقق إلا بوجود الله والخلود, على أن جيمس يقول: إن التجربة الدينية تدلنا على وجود الله، ونحن نسلم بهذه التجربة، ونرى من المستحيل استبعاد التصوف جملة من التاريخ الإنساني كما يريد كثيرون من "العقليين" غير أننا نرى من جهة أخرى وجوب التمييز بين التجارب؛ فإن منها الصادق ومنها الكاذب, وجيمس لا يدل على محك للتمييز، بل يقبل كل تجربة، ويعد استحضار الأرواح تجربة قاطعة، ثم نقول: إذا كانت المعتقدات الميتافيزيقية

ثابتة بالتجربة، فما وجه الحاجة إلى البراجماتزم؟ إن التجربة تقطع قول كل منكر وتغني عن المحاجة, فعجز المذهب ينقض صدره. أما قول جيمس: إن الإله اللامتناهي الثابت الكامل لا يدخل في علاقة مع الإنسان، فراجع إلى اعتقاده أن هذه العلاقة تستلزم تغيرًا في الله، والواقع أن الإله المتناهي ليس إلهًا بمعنى الكلمة؛ لأنه ليس العلة الأولى، وأنه ما دام الله لامتناهيًا بالضرورة فيجب القول بأن ليس له سوى فعل واحد يتضمن جميع المفعولات, فلا تجري التغير فيه بل في المخلوقات. 200 - جوزيا رويس " 1855 - 1916 ": أ- تلقى الفلسفة عن لوتزي وتشارلس بيرس ووليم جيمس, وعين أستاذًَا بجامعة هارفارد سنة 1892. ونشر كتبًا كثيرة أهمها: "الوجهة الدينية للفلسفة " 1885 " و"روح الفلسفة الحديثة" " 1896 " و"العالم والفرد" " 1900 - 1902 ". ب- مذهبه يعتبر هجلية جديدة، فإنه يقبل الأحادية، ولكنه يقبل الفردية أيضًا. ويحاول التوفيق بينهما, فيقول من الجهة الواحدة: إن طبيعة الفكر تقتضي المطلق، إذ إن الفعل الأساسي للفكر هو الحكم، ولا قيمة للحكم إلا إذا افترضنا فكرًا أكمل من فكرنا, حاصلًا على موضوع الحكم ومنزهًا عن التساؤل والشك اللذينِ يستدعيان الحكم، فلا حقيقة إلا إذا كان هناك أنا واحد يتضمن كل فكر وكل موضوع، ويقول من جهة أخرى: إن مذهب المطلق يعتمد على مقتضيات العقل هذه لكي ينكر يقين الحياة العملية، بأفعالها وآلامها، على حين أن ليس للفكرة من قيمة عملية إلا إذا كانت متشخصة تمام التشخيص مباينة لكل فكرة أخرى، وأن الكلية علامة النقص "على ما أبدى الحسيون وأعادوا". فالمطلق كلي ناقص يتكامل على الدوام بأن يترجم عن ذاته بأفراد يصنع كل منهم مصيره بحرية. فحياة هذا الأنا المطلق قائمة في معرفة الأفراد الذين يحققونه على التوالي, وهذا يعني أن رويس يؤله المجتمع. ثم يجعل منه موضوع دين يفرض على كل فرد الإخلاص التام للجماعة، مع محاولته الإبقاء على الاستقلال الفردي.

201 - جون ديوي " 1859 - ": أ- أستاذ بجامعة كولومبيا. بدأ بأن كان هجليًّا فرأى مثل هجل أن قلق الفكر الحديث ناشئ من التعارض بين المثل الأعلى والواقع، أو بين الروح والطبيعة, فأراد أن يحقق الوحدة الروحية خيرًا مما فعل هجل. وكان كثير التأليف، كتب في الميتافيزيقا وفلسفة العلوم والمنطق وعلم النفس وعلم الجمال والدين؛ وأهم كتبه: "دراسات في النظرية المنطقية" " 1903 " و"كيف تفكر؟ " " 1910 " و"محاولات في المنطق التجريبي" " 1916 " و"العقل الخالق" " 1917 " و"الطبيعة الإنسانية والسلوك" " 1922 " و"طلب اليقين" " 1929 ". ب- أصل التعارض بين المثالية والمادية, أو بين الروح والطبيعة أن المثالية تعتبر المعرفة تأمل معانٍ فترى في العلم الطبيعي تركيبًا عقليًّا وترد المادة إلى الروح دون أن تبين كيف ولِمَ تجزأ الروح المطلق إلى محسوس ومعقول, وإلى وجدان محدود ووجدان كلي، على حين أن المادية تعتبر المعرفة مجرد ظاهرة عارضة, فترد الروح إلى المادة دون أن تبين كيف تنبعث هذه الظاهرة ولِمَ يبدو في الوجدان عالم من القيم متمايز من عالم الموجودات. فكل من المذهبين يقسم العالم إلى أجزاء ثم يحاول التوحيد بينها فيحاول عبثًا. أما إذا اعتبرنا المعرفة آلة أو وظيفة تظهر في الكائن الحي عندما يصادف عقبة, وتقوم في جهده لتذليل العقبات، بدت الفكرة فرضًا في سبيل العمل، وكانت الفكرة الحقة هي التي ترشدنا حقًّا، فالقول بأن الطبيعة معقولة ليس مبدأ نظريا ولكنه اعتقاد يتيح للنشاط المعقول أن يغير الطبيعة. فمذهب ديوي ضرب من البراجماتزم، وقد دعي lnstrumentalism و Fonctionalism لاعتباره المعرفة آلة أو وظيفة في خدمة مطالب الحياة، وقد كان ديوي داعية قوي التأثير إلى الإيمان بفاعلية الفكر وبالروح الديمقراطية. وهو في كل هذا ماضٍ مع العقلية الأمريكية المتجهة إلى العمل والحرية.

الفصل الثاني: الفلسفة في إنجلترا

الفصل الثاني: الفلسفة في إنجلترا 202 - فرنسيس هربرت برادلي " 1846 - 1924 ": أ- الفلسفة الإنجليزية في نصف القرن هذا موزعة بين تصورية هجلية وتصورية طبيعية وتصورية منطقية رياضية وحسية وبراجماتزم؛ وهي تدل على مقدرة جدلية ملحوظة، ولا تحتوي على ابتكار. كان برادلي أبرع وأعمق ممثل للهجلية وإن يكن نبذ مذهب هجل بما هو كذلك في وقت مبكر, فقد تخرج في جامعة إكسفورد, وصار أستاذًا فيها ينزع نزعتها وهو متأثر بكتب جرين وهجل ولوتزي. وإنما أقبل على الفلسفة الألمانية بعد أن رأى استحالة اعتبار الوجدان سلسلة ظواهر مستقلة، كما يرى المذهب التجريبي الإنجليزي؛ لاستحالة إدراك مثل هذه السلسلة لنفسها، وهي الاستحالة التي وقف عندها لوك وهيوم ومل كما رأينا. ويحكم برادلي على المذاهب الإنجليزية حكمًا صارمًا، فيأخذ عليها الحسية والنفعية وضيق النظر والتعصب للرأي وبخاصة في المسألة الدينية، ويرمي إلى تطهير الأذهان من هذه النزعات. فكان أول كتاب مهم له "دراسات أخلاقية" " 1877 " فيه نقد بارع لمذهب اللذة في الأخلاق، وأردفه بكتاب "مبادئ المنطق" " 1883 " حلل فيه مسائل الاستدلال والحكم وعرض نظرية المعرفة؛ وبعد عشر سنين نشر كتابه الأكبر "الظاهر والحقيقة" أجمل فيه مذهبه في الوجود, وله مقالات في مجلة "مايند". ب- في "الدراسات الأخلاقية" يعارض تصور المدرسة الحسية للوجدان، ويصف الوجدان بأنه "كل مغلق غني معًا" وأن فيه ميلا أخلاقيا وآخر نظريا: الميل الأخلاقي يدفع بالإنسان إلى تحقيق إنيته في صورة كل منسجم مغلق أي: مستقل بنفسه؛ والميل النظري يدفع بنا إلى اعتقاد الوجود كلا مترابط الأجزاء مغلقا, فإذا كنا لا نستطيع أن نصير كلا بذاتنا، وجب أن نجعل من ذاتنا جزءا من كل أوسع؛ وإذا بدت لنا متناقضات في كل صغير، وجب أن نتصور كلا أكبر. هناك إذن توافق بين طبيعتنا العملية وطبيعتنا النظرية؛ ولنا من طبيعتنا مقياس نعلم

به ما نسميه أعلى وما نسميه أسفل. ولم يكن الإنسان ليحس ألم التناقض بين نوازعه لو لم يكن هو نفسه كلا لم يعلم أنه كل، فإن التناقض يجيء من عدم الانسجام الباطن من جهة، ومن عدم التوفق مع الخارج من جهة أخرى. ج- كتاب "الظاهر والحقيقة" دراسة نقدية للتصورات التي حول بها الفلاسفة تفسير الوجود. يذهب فيه برادلي إلى أن معاني المادة والمكان والزمان والطاقة وما إليها, التي هي أركان العلم الطبيعي, لا مقابل لها في الخارج، ولكنها نافعة في تعيين الظواهر المحدودة والتعبير عما بينها من علاقات، فإذا أريدت على أن تعبر عن ماهية الأشياء أدت إلى متناقضات وجرتنا إلى التسلسل إلى غير نهاية من حيث يمكن أن نسأل دائمًا عن علاقة الأجزاء بعلاقاتها دون أن نقف عند حد, ومن حيث إن الحكم لا يصدق إلا إذا تناول جميع الشروط التي يتعلق بها صدقه. فهذه المعاني "معاني عمل" Working Ideas لا دلالة نظرية لها وإنما كل دلالتها صناعية Technical. لذا يمتنع أن نجعل من العلم الطبيعي علم ما بعد الطبيعة كما يصنع الماديون, وإنما يتعين علينا التمييز بين العلمين، ومتى ميّزنا بينهما لم يعد بينهما خلاف، كذلك لا يمكن إقامة ميتافيزيقا على علم النفس وحده. أجل, إن معنى النفس أو الذات يدلنا على ارتباط بين الظواهر الباطنة أوثق من ارتباط الظواهر الطبيعية وعلاقاتها, إذ إنه ارتباط باطن لا ظاهر؛ لذا كانت التجربة الباطنية أعلى تجربة, غير أنها تظهرنا على الأنا كأنه جملة آنية من تغيرات وعلاقات، ولا تظهرنا على ماهيته في معنى واحد مغلق، فلا تفيد في التعبير عن الحقيقة المطلقة، كما أن المادية عاجزة عن مثل هذا التعبير، إن علم النفس علم جزئي، وكل علم جزئي فهو يستخدم اصطلاحات ملائمة لغايته ويجد أنصاف حقائق, ومعنى النفس معنى مجرد كمعنى الجسم سواء بسواء، ولا يمكن أن تكون الحقيقة جسمًا ولا نفسًا؛ لأننا لا ندرك سوى أحداث تعرض علينا الوجهتين. د- على أن هذه المناقشة تفترض أن لدينا مقياسًا لما هو وجود وحقيقة. والواقع أن لنا في "معنى التجربة" هذا المقياس: في هذا المعنى شيئان مرتبطان ارتباطا وثيقا, هما الكثرة والعلاقة المنسجمة بين وحداتها. فالتجربة الكاملة تفترض محتوى واسعا جدا مرتبطا أوثق ارتباط بحيث يؤلف كلا حقا، وهذا مقياس الحقيقة. وهو أيضا مقياس القيمة في العمل؛ ذلك بأن كل ميل من ميولنا لا يجد رضاءه فهو

معنى غير تام. وكل ألم فهو تعبير عن عدم انسجام وهو حافز لرفع هذا العدم. فالنقص والقلق وعدم الانسجام, ذلك نصيب الموجود المحدود، في حين أن مثلنا الأعلى العملي يقضي بإرضاء كل ناحية من طبيعتنا بانسجام مع سائر النواحي. ولكننا عاجزون عن تصور ما يرضي المقياس تمام الرضا, وفينا تعارض مستمر بين الكثرة والانسجام. والسبب في عدم الانسجام الحد، ولا يرفع الحد إلا بمحتوى أوسع يمحو تبعيتنا للعلاقات الخارجية التي هي سبب الاضطراب الباطن. لذا كان الموجود اللامتناهي دون غيره منسجمًا تمام الانسجام وثابتًا لا يتغير لأنه كامل؛ ولذا كنا ننزع دائمًا إلى الصعود ونريد أن نفنى في المحبة كما يصب النهر في البحر, والفلسفة والدين تعبيران عن المطلق الذي نصبو إليه. الفلسفة ترينا أن العلم شيء ضئيل بالإضافة إلى غنى الوجود، ويحاول الدين تصور المطلق في ذاته بمعانٍ مستمدة من التجربة، ولكن الفلسفة علم يراجع ماهية المعاني وقيمتها, والدين لا يراجع، فمن هذه الوجهة الفلسفة أرفع؛ والفلسفة علم نظري، والدين مجهود يتجه إلى التعبير عن الحقيقة الكاملة للخير بواسطة جميع نواحي طبيعتنا، فمن هذه الوجهة الدين أرفع ومن الخاصة هذه نتبين أن برادلي تصوري لا يعترف لمعاني العقل بغير قيمة اصطلاحية، وأنه أحادي يقضي على وجود الفرد، فيتفق مع أصحاب البراجماتزم في النقطة الأولى، ويختلف عنهم في الثانية. 203 - برنارد بوزنكيت " 1848 - 1923 ": تخرج هو أيضا في أكسفورد وكان أستاذا فيها. أهم كتبه: "المنطق" " 1888 " "قيمة الفرد ومصيره" " 1913 " "ما الدين" " 1920 ". هو من رجال الهجلية الجديدة، ولكنه لا يرى أن هناك فكرًا خالصًا ومنطقًا خالصًا ومعنًى مجردًا هو كلي فحسب، وإنما الوجود عنده مركب من الكلية والتشخص، فالمنطق عنده معرفة تركيب الأشياء أو هو العلم الذي يجعل الأشياء قابلة لأن تكون معقولة. فهو يعرض لتأييد مذهب برادلي بالاعتماد على التجربة, فيرى أن الوجود موجود فردي مستوعب كل شيء معقول تمام المعقولية، وأنه وحده "موجود" وما عداه من الجزئيات، عقولا أو أشياء، فله فردية جزئية ووجود جزئي. والدليل على ذلك أن الإدراك الظاهري والتفكير والحياة الاجتماعية والأفعال الأخلاقية والتأمل الفني

والتجربة الدينية، كل أولئك يظهرنا على أن تحقيق أنفسنا معناه تسليم أنفسنا لشيء أوسع من الأنا؛ هذا الشيء هو المطلق، والمطلق هو الذي كتب الدراما العالمية وهو الذي يحققها، إنه فنان وممثل ومنطيق. فالوجود تراجيديا، وما فيه من شر فهو يشارك في كمال الكل، على ما نرى في التراجيديات التي يؤلفها البشر. وحين ينظر الفرد المحدود إلى الشر ويقبله بهذا الاعتبار, يراه وإذا به يفقد من شريته ويفيد هو منه بأن يحاربه, ويفوز عليه. 204 - صمويل إلكسندر " 1859 - 1938 ": أستاذ بجامعة مانشستر, مشهور بكتاب عنوانه "المكان والزمان والألوهية" " 1920 " يؤيد فيه الموضوعية، ولكن الموضوعية تصير عنده شيئًا شبيهًا بالمادية, فإنه يمضي في إثر إنشتين وغيره من العلماء المعاصرين، فيحول المادة التي تعطينا المكان، والحركة التي تعطينا الزمان، إلى شيء واحد هو "المكان الزماني" فيتصور الطبيعة في البدء أصلا ذا أربعة أبعاد فيه مبدأ محرك ومنه تخرج المادة والكيفيات الثانوية والحياة والفكر الذي هو عبارة عن الجهاز العصبي، وكلها تعينات مكانية زمانية. كذلك الحال في المقولات التي اعتبرها كنط غريزية في العقل توجد بها تنوعات الزمان والمكان، فما هي إلا تعينات موضوعية للوجود المركب من مكان وزمان معًا، فمن خصائص هذا الوجود تلزم جميع المقولات. فمقولة الوجود هي شغل جزء من المكان الزماني، ومقولة الجوهر تدل على مكان محدود بنطاق تتعاقب فيه أحداث، ومقولة الشيء تأليف حركات, ومقولة الإضافة هي الرابطة المكانية الزمانية بين شيئين، ومقولة العلية تدل على الانتقال من حادث إلى آخر، وفي الطبيعة ميل إلى إيجاد صور أرقى فأرقى, يعتمد كل منها على ما دونه كما يعتمد الفكر على الجسم. هذا الميل هو الألوهية، وهي بالنسبة إلى كل مرتبة المرتبة التي تبرز بعدها؛ أما بالنسبة إلى الإنسان فلم تبرز الألوهية بعد, فهذا المذهب يرجع إلى المادية التصورية. 205 - ألفرد نورث هوايتهد " 1861 - ": أ- أستاذ بكمبردج " 1911 - 1914 " وبجامعة لندن " 1914 - 1924 " للرياضيات التطبيقية والميكانيكا, وأستاذ للفلسفة بجامعة هارفارد الأمريكية.

" 1924 - 1938 ". أهم كتبه: "المبادئ الرياضية" في ثلاثة مجلدات " 1910 - 1913 " بالاشتراك مع برترند رسل؛ و"بحث في مبادئ المعرفة الطبيعية" " 1919 "، و"معنى الطبيعة" " 1920 "؛ و"العلم والعالم الحديث" " 1926 "؛ و"الدين في تكونه" " 1926 ". وهو يرمي إلى نصرة الموضوعية كما تبدو في الوجدان, فلا يقر العلماء على رد الأشياء إلى عناصر عاطلة من الكيفيات, ولا يقر الماديين على إنكار الجمال والأخلاق والدين؛ بل يرى أن للكائن أيًّا كان طبيعة معينة، وأنه عبارة عن كل أو نظام أجزاؤه وتركيبها تابعة لطبيعة الكائن. غير أن هذه الأجزاء ليست عناصر أو مركبات من عناصر, وإنما هي أحداث أو وحدات مكانية زمانية وعلاقات بين الأحداث، تجري هذه وتلك بمقتضى قوانين ثابتة، وجملة هذه القوانين تمثل الألوهية التي لم تتحقق ولن تتحقق أبدًا تمام التحقق لأن قانون الوجود التطور المتصل. 206 - فرديناند شيلر " 1864 - 1937 ": أستاذ بأكسفورد, صاحب "المذهب الإنساني" Humanism عرضه في كتابه "دراسات في المذهب الإنساني" " 1907 ". هذا المذهب هو البراجماتزم، وجاء اسمه من أن المعرفة هي الشرط الأول للعمل المنتج، وأنها أمر إنساني تابع لأغراضنا الحيوية، فإن نظرتنا إلى الأشياء تختلف باختلاف المركز الذي ننظر منه، ولا ندرك منها كل ما يمكن إدراكه بل نختار من بين عناصرها تبعًا لاتجاه انتباهنا، ونرتب العلاقات بين الأشياء تبعًا للغاية التي نتوخاها، ونؤلف تصديقاتنا في مجاميع نسميها المنطق والهندسة والحساب وما إلى ذلك من العلوم، فهذه العلوم مشبعة بالإنسانية لأنها من صنعنا ومرتبة لأغراضنا. فالأحادية مذهب خطر لأنها تعتبر التغير والعمل وهمًا فتؤدي إلى القعود، وهي مذهب خاطئ لأنها تزعم أننا لا نتصور موجودًا ما إلا كجزء من كل, بحجة أن كل حقيقة فهي متفقة مع سائر الحقائق، في حين أن المنهج الإنساني لإدراك الحقيقة يدل على أن الحقيقة أمر شخصي كما سبق القول، العالم إذن متكثر يتطور على الدوام ويستكمل ذاته بفعل أفراد أحرار كي ينتهي إلى ضرب من النجاة أو الانسجام الكلي، مع وجود إله شخصي.

207 - برترند رسل " 1872 - ": أ- أستاذ للفلسفة بجامعة كمبردج " 1910 - 1916 " وأحد أعلام المنطق الرياضي في هذا العصر. نشر كتبًا كثيرة: منها كتاب قيم عن "فلسفة ليبنتز" " 1900 " و"مبادئ الرياضيات" " 1903 " و"المبادئ الرياضية" بالاشتراك مع هوايتهد كما ذكرنا, و"مسائل الفلسفة" " 1912 " و"معرفتنا بالعالم الخارجي" " 1914 " و"المدخل إلى الفلسفة الرياضية" " 1918 " و"تحليل الفكر" " 1921 " و"تحليل المادة" " 1927 " و"موجز الفلسفة" " 1928 " و"تاريخ الفلسفة الغربية" " 1946 " وكتب أخرى في الفلسفة والسياسة والتربية كانت هدفًا لنقد المحافظين لما حوت من آراء متطرفة. وهو يذهب مع هوايتهد إلى إمكان استنباط الرياضيات من المنطق، ويعلن المنطق "المنقذ الأعظم" لأن الفلسفة تتطلب البرهان المنطقي، وليست تأليفًا تمليه المنافع الإنسانية كما يريد أصحاب البراجماتزم، والمنطق يدرس جميع العلاقات الممكنة، وهذه العلاقات تأليفات حرة تحسم بينها التجربة فيؤخذ بالعلاقات المطابقة للتجربة ويغفل ما عداها. والعالم الخارجي متكثر؛ وأصوله أو مبادئه ذرات هي أحداث, والمركبات تتألف من هذه الأصول، ولكن للمركب خواصه وفعله فلا يمكن تصوره كأنه مجرد مجموع. ب- فالفلسفة الإنجليزية كما يمثلها هؤلاء الذين ذكرناهم تنقسم إلى فرقتين: فرقة هجلية ترى أن العالم يؤلف كلا واحدا وأن الأشياء مترابطة بالذات بحيث لا يدرك شيء في ذاته مستقل عن غيره، وفرقة تقبل المعرفة كما تبدو في الوجدان وتقول: إن الأشياء مستقلة وإن العلاقات متخارجة بما فيها علاقة المعرفة بالمعروف, وإن هذه العلاقات لا تغير طبائع الأشياء، وإن موضوع المعرفة يمكن لذلك أن يكون لاذهنيا إذ إن المعرفة حضور الشيء للحدس حضورًا مباشرًا. وهذه الفرقة الثانية تدعى بفرقة الوجودية الجديدة Neo-realism ترمي إلى صيانة المعرفة الموضوعية وحياة الفرد وغاياته.

الفصل الثالث: الفلسفة في فرنسا

الفصل الثالث: الفلسفة في فرنسا 208 - إميل دوركيم " 1858 - 1917 ": أ- الفلسفة الفرنسية سائرة في وجهاتها التي صادفناها أثناء القرن الماضي: فالوجهة الواقعية وجدت لها أنصارًا في إميل دوركيم وليفي برول وغيرهما من الأساتذة الاجتماعيين, والوجهة الروحية يمثلها علماء ورياضيون يبينون ما في العلم الحديث من تركيب صناعي يدع المجال مفتوحًا أمام الحرية والأخلاق، وأشهر هؤلاء هنري بوانكاري وبيير دوهيم؛ ولكن ممثلها الأكبر هنري برجسون الذي أقام مذهبا تاما في الوجود والأخلاق والدين. أما دوركيم فيعد واضع علم الاجتماع المعاصر. أهم كتبه:"تقسيم العمل الاجتماعي" " 1893 " و"قواعد المنهج الاجتماعي" " 1895 " و"الانتحار" " 1897 " و"الصور الأولية للحياة الدينية" " 1912 " و"التربية الخلقية" " 1925 " وكان قد أصدر مجلة "السنة الاجتماعية" في 1896 وظل يصدرها إلى 1913 بمعاونة ليفي برول وموس وهوبرت وفوكوني وبوجلي وبسيميان ودافي وهلبكس وهم أركان علم الاجتماع في فرنسا الآن, وقد استؤنف إصدار المجلة سنة 1925. ب- أخذ دوركيم على نفسه أن يقيم علما اجتماعيا واقعيا يختلف عن فلسفة التاريخ, وعن النظر المجرد في ماهية المجتمع بأن يقصر غرضه على استكشاف القوانين التي تربط ظواهر اجتماعية معينة بظواهر أخرى معينة، كما يرتبط الانتحار مثلا أو تقسيم العمل بازدياد عدد السكان، وذلك باستخدام المناهج المألوفة في العلوم الطبيعية والتي ترجع إلى الملاحظة والاستقراء مع ما يقتضيه علم الاجتماع من تعديل طفيف يضيف إلى ملاحظة الحاضر ملاحظة الماضي أو التاريخ المقارن، ويجعل الاستقراء إحصاء، إذ إن المذهب الواقعي لا يعترف بوسيلة أخرى لدراسة الإنسان. والمقصود بالظواهر الاجتماعية أنحاء الفكر والعاطفة والعمل الصادرة عن الناس بما هم أعضاء مجتمع، مثل الأخلاق والأديان والأنظمة السياسية والقوانين المدنية والتقاليد القومية والبدع الفنية والنظريات العلمية، وما إلى ذلك من مظاهر

الحياة الإنسانية. هذه المظاهر اجتماعية بالذات يجدها كل فرد قائمة في بيئته ويتأثر بها تأثرًا قويًّا بوساطة فعل التربية وضغط المجتمع، حتى ليذهب هذا الضغط أحيانًا كثيرة إلى حد إكراه الفرد على اتخاذ مواقف مخالفة لرأيه الخاص، فإن معنى الحياة الاجتماعية أن يقبل الفرد هذه المظاهر ويتطبع بها؛ فيتلاءم مع المجتمع ويندمج فيه. فعلامة الظاهرة الاجتماعية أنها تفرض نفسها على الأفراد وتكرههم على الأخذ بها, كيف نفسرها؟ لقد تردد دوركيم بين قولين: أحدهما أن الأفكار والعواطف الاجتماعية صادرة عن "وجدان اجتماعي" متمايز من الوجدانات الفردية, وأعلى منها. وهذا القول يجعل للظاهرة الاجتماعية وجودا ذاتيا ولعلم الاجتماع موضوعا خاصا به لا يشاركه فيه علم آخر، ولكن هذا القول يشخص كلا مجموعيا، ودوركيم يعترف بأن ليس في المجتمع سوى الأفراد، ويعرض القول الآخر وهو أن الوجدان الاجتماعي، ولو أنه جملة الوجدانات الفردية، إلا أنه يؤلف كلا مغايرا لها كما يؤلف التركيب الكيميائي شيئًا مغايرًا للعناصر. وهذا القول يرجع إلى أن الحياة الاجتماعية تولد في الفرد ظواهر نفسية من نوع خاص، وينافي تعريف الظاهرة الاجتماعية كما ذكرناه, إذ يجعل منها ظاهرة نفسية فيرد علم الاجتماع إلى علم النفس 1. ج- على أن دوركيم يحرص على أصالة علم الاجتماع ويستمسك بتعريفه للظاهرة الاجتماعية، ويضع مذهبا فلسفيا هو إحدى صور الفلسفة الحسية أو التجريبية أو الواقعية. فيذهب في مسألة المعرفة إلى أن المعاني والمبادئ العقلية نتاج الفكر المجموعي، فإنها كلية ثابتة إلى حد ما ضرورية لتنظيم التجربة "كما جاء عند كنط وسبنسر" بينما التصورات الحسية جزئية متغيرة، فالمعاني والمبادئ تعلو على الفكر الشخصي كما يعلو المجتمع على الفرد، فمعنى النوع يتضمن معنى القرابة بين الأفراد، ومعنى الجنس يتضمن معنى القرابة بين الأنواع ومعنى ترتيبها بعضها من بعض، وليس في الطبيعة "كما يتصورها الحسيون" قرابة ولا ترتيب، ولكنهما أمران اجتماعيان، ومعنى العلة يتضمن معنى

_ 1 وبالفعل يذهب جبرييل تارد "أحد الاجتماعيين الفرنسيين المعاصرين" إلى أن ما يحدث هو أن يبتدع أحد الأفراد بدعة, فيتبعها البعض بفعل الإيحاء والمحاكاة, ويقاومها البعض بفعل اعتياد القديم، ثم تحدث ملاءمة تصير بها البدعة حالة اجتماعية.

قوة موجدة ومعنى السلطة وهما معنيان اجتماعيان، ومعنى الكلي يتضمن مجموع الموجودات أو المجتمع؛ ومعنى الواجب يتضمن ما لسلطة الجماعة من قوة إكراهية. وهكذا يزعم دوركيم، كما زعم سبنسر، أنه يفض الخلاف الناشب بين الحسيين والعقليين بقوله: إن المعاني والمبادئ مصنوعة من المجتمع, غريزية في الأفراد. د- وهو يفسر الأخلاق والدين على النحو ذاته سواء من جهة الصورة, أومن جهة المادة: فمن الوجهة الصورية نحن نعتبر الفعل خلقيا متى كان مطابقًا لقانون مفروض، وكان غيريًّا لا أنانيًّا، وكان إراديًّا. وهذه الخصائص ترجع إلى المجتمع, فإن الخاصية الأولى نتيجة النظام الذي تفرضه حتمًا كل جماعة، والخاصية الثانية نتيجة الإخلاص للجماعة الذي تفرضه الحياة فيها، والخاصية الثالثة نتيجة ما يلحظه الفرد من أن استفادته من الحياة الاجتماعية تتوقف على إرادته هذه الحياة وشروطها. ومن الوجهة المادية نرى الأخلاق مختلفة باختلاف الزمان والمكان وسائر الظروف, أي: نراها تابعة لأحوال المجتمعات التي تخترعها وتفرضها على الأعضاء، فإن لكل مجتمع أخلاقه هي مظهر أحواله، ولا محل لتسويغ الأخلاق بتركيب فلسفة أخلاقية. وأما الدين فقديم كالاجتماع, كان صورته الأولى وتطورا معا. بدأ الدين بأن تصور الناس قوة لاشخصية متفرقة في الأشياء تمنحها ما لها من قوة، ثم تشخصت هذه القوة في الطوطم أولًا وفي الإله الواحد أخيرًا؛ فكانت لنا فكرة الله كموجود شخصي مقدس. فإن هذه الفكرة ليست مستفادة مما نشعر به من قوة باطنة, ولا مكتسبة بالاستدلال، ولكنها اجتماعية. والدين أقوى مظاهر الحياة الاجتماعية وأعمها؛ إليه ترجع الصور التي انتظمت بها المعارف الإنسانية، إذ إنه الينبوع الذي تفيض منه القوة الجسمية والقوة المعنوية في أفعال الحياة المشتركة. هـ- هذا الموقف يستهدف لنفس الانتقادات التي نوجهها إلى سائر المذاهب التجريبية. إن المشابهات التي توحي بالمعاني الكلية متحققة في الجماد وفي النبات وفي الحيوان وفي حياتنا الاجتماعية, فلا يمكن أن يقال: إن الحياة الاجتماعية مصدرها الوحي, ثم إذا كانت الحياة الاجتماعية قد انتظمت على أنحاء كلية فلا يخلو إما أن يكون ذلك بناء على معان سابقة في أذهان بني الإنسان, أو بناء على مشابهات وجدوها بينهم، وفي كلا الحالين تكون المعاني راجعة إلى غير الحياة الاجتماعية.

وإذا كانت الأخلاق على ما يقول دوركيم من الاختلاف والتغير، فكيف نعلل ما يبدو لبعضها من ضرورة عند جميع الجماعات؟ ويفسر دوركيم المؤسسات والقواعد الاجتماعية طبقًا لنظرية التطور، فيبدأ بأبسط الصور ويسمي الجماعات التي تلاحظ عندها هذه الصور بالبدائية، في حين أن المنهج العلمي يقضي بالقول بأن الحالة المسماة بدائية هي أبسط ما وصل إلى علمنا من حالات، لا أنها الحالة الأولى تاريخيا، إذ قد تكون الإنسانية بدأت على حالة عقلية متقدمة، وقد تكون الجماعات التي نعتبرها الآن بدائية منحدرة من جماعات متحضرة زالت عنها الحضارة. فالاجتماعيون يعدون البسيط قديمًا وليس هذا بالضروري، ويعتقدون أنهم يؤيدون مذهب التطور وهم إنما يقبلونه مبدئيًّا. 209 - ليفي برول " 1897 - 1939 ": أ- كان أستاذًا لتاريخ الفلسفة، وله في هذا الباب كتاب عن "أوجست كونت" ودراسات أخرى. وناصر المذهب الاجتماعي بكتبه الآتية: "فلسفة الأخلاق وعلم الأخلاق" " 1903 " و"الوظائف الفكرية في الجماعات الدنيا" " 1910 " و"العقلية البدائية" " 1922 " و"الروح البدائية" " 1927 " و"الفائق الطبيعة والطبيعة في الفكر البدائي" " 1931 ". ب- في كتابه عن الأخلاق يريد أن ينظر إلى الأفعال الإنسانية على أنها ظواهر طبيعية وحسب، فينتقد فلسفة الأخلاق، ويقترح بديلا منها علمًا للأخلاق. ويرجع نقده إلى ثلاثة أمور: الأول أن فلسفة الأخلاق تزعم أنها علم معياري يعين ما ينبغي أن تكون عليه الأفعال الإنسانية، في حين أن العلم دراسة وصفية للظواهر وقوانينها، ففكرة العلم المعياري تنطوي على تناقض. الأمر الثاني أن الفلاسفة مختلفون في المبادئ متفقون مع ذلك في قواعد السلوك، وهذا يدل على أنه لا يوجد بين القواعد وبين المبادئ التي يدعون أنهم يستنبطونها منها صلة منطقية. الأمر الثالث أن الفلاسفة يضعون قضيتين لا يمكن قبولهما: الأولى أن هناك طبيعة إنسانية فردية واجتماعية هي واحدة في كل زمان ومكان ومعلومة لهم إلى حد كبير يستطيعون معه أن يعينوا لها القواعد الملائمة لكل حالةمن حالات الحياة، والحقيقة أن التباين شديد جدًّا بين الناس أفرادا وجماعات, والقضية الأخرى

أن الضمير شيء مطلق وأنه يمكن تبرير أوامره تبريرًا منطقيًّا، مع أن علم الاجتماع يقيم الدليل على أن الضمير نتاج الأيام وأن معانيه ومبادئه وليدة تجارب وعادات تختلف نشأة وقدما اختلافا شديدا جدا. أما علم الأخلاق فإنه يدرس الأفعال الإنسانية وقوانينها كما تقع عليها الملاحظة المباشرة ويوردها التاريخ، وينتهي إلى أن الأخلاق مظهر للجماعة تابع لماضيها وديانتها وعلومها وفنونها وعلاقاتها بالجماعات المجاورة وحالتها الاقتصادية. وإذن فالأخلاق تختلف باختلاف الجماعات وأحوالها والأخلاق جميعًا طبيعية، سواء في ذلك أخلاق الأقوام المنحطة وأخلاق الأمم المتمدينة. ولما كانت الجامعة لا تستقر على حال واحدة، فيلزم أن أخلاقها متطورة حتما بتطور العوامل الاجتماعية. وفائدة علم الأخلاق أنه يسمح لنا بتكوين "فن خلقي" أي: جملة من القواعد نعالج بها أحوالنا، دون أن يكون لهذه القواعد صفة الإلزام، ودون أن يكون لأفعالنا قيمة ذاتية يعبر عنها بالخير أو بالشر. ج- وفي كتبه الأخرى يذهب إلى أن المتوحشين لا يفكرون بمعانٍ محدودة يتضمن بعضها بعضًا أو يناقض بعضها بعضًا، ولكنهم يفكرون صورة خيالية ولا يراعون مبدأ عدم التناقض، وأن هذا لون من التفكير سابق على تفكيرنا المنطقي, فتفكيرنا المنطقي صناعي؛ وأن التفكير البدائي هو التفسير الوحيد للاعتقاد بما فوق الطبيعة، ذلك الاعتقاد بأن الأشياء حاصلة على قوى خفية تستطيع إحداث السعادة أو الشقاء، وما يلزم عنه من تكريم تلك القوى واحترام التقاليد والخوف الديني أن يضطرب نظام المجتمع إذا أهملت الجماعة عباداتها وتقاليدها. د- ولم يكن ليفي برول مبتكرًا في أقواله هذه، فإنها أقوال الحسيين من عهد بعيد أيدها بشواهد مستمدة من مذكرات المبشرين والسياح وهو جالس إلى مكتبه. لسنا بحاجة إلى الرد على نقده لفلسفة الأخلاق وقد طالما رددنا على مثله في سياق هذا الكتاب. أما رأيه في تفكير المتوحشين فقد خالفه فيه بعض الاجتماعيين، ورد عليه برجسون في كتابه "ينبوعا الأخلاق والدين" ص 159 - 169 من الطبعة الأولى، وانتهى هو إلى الإقرار بأن هذا التفكير يفسر بالجهل والغرض والتسرع وما إلى ذلك من أسباب الخطأ المعروفة، وأن المتوحشين لا يجهلون المبادئ الأولية ولكنهم يسيئون تطبيقها كما يسيء تطبيقها أطفالنا والجهلاء منا.

210 - هنري بوانكاري " 1854 - 1912 ": أ- هو واحد من فريق من العلماء يتابعون نقد زنوفي وبوفرو للمعرفة العلمية. وله في هذا النقد كتب مشهورة هي: "العلم والفرض" " 1902 " و"قيمة العلم" " 1905 " و"العلم والمنهج" " 1909 " و"خواطر أخيرة" نشرت بعد وفاته " 1913 ". ب- وهو يذهب إلى أن ليس للنظريات العلمية ما يدعيه لها المذهب الواقعي من قيمة مطلقة، ففي تطبيقها، ولا سيما على الظواهر المستقبلة، يوجد دائمًا إمكان للتغير، ويوجد أحيانًا كثيرة ضرب من عدم المطابقة قد يسمح بتصور تفسير آخر، فالنظرية العلمية قائمة دائمًا على قدر من الفرض، وما النظريات التي يقال: إنها "حقيقية" إلا "أنفع" النظريات أي: التي تبسط للعالم عمله وتعطيه أجمل صورة من الكون. ذلك بأن النظريات رموز مجردة يركبها العقل للتعبير عن العلاقات المشاهدة بين الظواهر، حتى إن نظريتين متعارضتين يمكن أن تكونا كلتاهما أداة نافعة للبحث، ويمكن أن تكون إحداهما أنفع من الأخرى. فبالنسبة إلى إدراكنا للأشياء نجد أن المكان الأقليدي ذا الأبعاد الثلاثة أنفع من الأمكنة المفترضة في الهندسات اللاأقليدية وليس له غير هذه الميزة, ونظرية كوبرنك مجرد فرض وهي لا تمتاز على نظرية بطليموس إلا بأنها أبسط وأنفع. وقد قلنا " 199 ي": إن السبب في هذا الموقف هو أن العلماء صاغوا نظرياتهم في شكل رياضي, ولاحظنا أن هذه الصياغة كانت ممكنة في علم الطبيعة فقط لبساطة المادة, وكثرة الإمكانيات في تنوع الحركة، ولكنها غير ممكنة في علم الحياة وعلم النفس حيث يعود العقل إلى تحري خصائص الأشياء وإقامة نظريات "حقيقية". 211 - بيير دوهيم " 1861 - 1916 ": أ- يلتقي مع بوانكاري في القول بنسبية العلم الحديث، وقد فصل رأيه وأورد عليه الأمثلة والشواهد في كتاب معروف عنوانه "النظرية الفيزيقية، موضوعها وتركيبها" " 1906 ". وفي كتاب آخر اسمه "نظام العالم, تاريخ المذاهب الكونية من أفلاطون إلى كوبرنك" "في خمسة مجلدات 1913 - 1917 " عرض هذه

المذاهب عرضًا وافيًا, فإذا بها ترجع إلى مذهبين: أحدهما أن النظرية العلمية تفسير حقيقي للظواهر، كالمذهب الآلي عند قدماء فلاسفة اليونان وعند ديكارت، وهذا يجعلها ميتافيزيقية أو يربطها بنظرية ميتافيزيقية؛ والآخر أنها مجرد تصور للظواهر وقوانينها لا يدعي النفاذ إلى جواهر الأشياء، وهذا يجعلها افتراضًا ليس غير، كالنظريات الفلكية التي نبتت في مدرسة أفلاطون وسائر النظريات الطبيعية الرياضية التي تتالت بعد ذلك. والكتاب مرجع جليل في تاريخ العلوم ومنها العلم الإسلامي, وقد وقف عليه المؤلف من الترجمات اللاتينية في العصر الوسيط. 212 - هنري برجسون " 1859 - 1941 ": أ- ولد في باريس من أسرة يهودية قدمت فرنسا من إنجلترا. وكان في المدرسة الثانوية تلميذًا نابهًا أظهر استعدادًا نادرًا للعلوم، ولكنه اختار الفلسفة. وتخرج في مدرسة المعلمين العليا على أساتذة معروفين، منهم إميل برترو، ونجح في مسابقة الأجريجاسيون " 1881 " فعين مدرسا للفلسفة في مدارس ثانوية بالأقاليم, ثم بباريس " 1889 " حيث ذاع صيته بعد حصوله على الدكتوراه، فعين أستاذا في الكوليج دي فرانس " 1901 " حيث قضى خمس عشرة سنة يلقي المحاضرات أمام جمهور عديد معجب أشد الإعجاب. ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى أرسل بمهمة إلى أمريكا، ولما كونت جمعية الأمم لجنة للتعاون الفكري مؤلفة من اثني عشر عضوًا انتخب هو رئيسًا وظل يشغل منصبه هذا إلى سنة 1925. ب- بدأ بأن كان ماديا على مذهب سبنسر، ولكن التفكير في الحياة النفسية قاده إلى إنكار قول الماديين: إنها مؤلفة من ظواهر منفصلة تتصل بموجب قوانين التداعي، وإن هذه الظواهر من قبيل الظواهر الخارجية قابلة للقياس والحساب وجاءت رسالته للدكتوراه "محاولة في الوقائع المباشرة للوجدان" " 1889 " معلنة لهذا الإنكار بقوة وبراعة لفتتا إليه الأنظار، فتنفس الكثيرون الصعداء من أولئك المثقفين الذين كانوا يرزحون تحت كابوس الآلية والجبرية، ومنذ ذلك اليوم كان هو زعيمًا من زعماء الروحية 1. ثم شرع يتعمق خصائص الروح والعلاقة بينها وبين

_ 1 رسالته الثانية محررة باللاتينية, وعنوانها "نظرية أرسطو في المكان".

الجسم فوضع في ذلك كتاب "المادة والذاكرة" " 1896 " وهو كتاب عسير الفهم في بعض المواضع, ورأى أن خصائص الحياة النفسية متحققة في الحياة التامة أيضًا وأنه يستطيع أن يطبق نظريته في الروح على الكون أجمع، فكان هذا موضوع كتاب "التطور الخالق" " 1907 " الذي كان له وقع عظيم. ثم عكف على دراسة الأخلاق والدين, وبعد ربع قرن بالتمام أخرج كتابه "ينبوعا الأخلاق والدين" " 1932 " فكان وقعه أعظم، فإنه يقيم فيه العقائد الميتافيزيقية على التجربة الروحية ويشيد بالتصوف المسيحي، وتلك هي كتب أربعة رئيسية تحوي عرضًا شاملًا للمذهب يضاف إليها كتيب في "الضحك" أو "محاولة في دلالة المضحك" " 1900 " وكتاب "في الديمومة والتقارن" " 1922 " وضعه بمناسبة نظرية إنشتين في النسبية؛ ومقالات ومحاضرات نشر بعضها بعنوان "الطاقة الروحية" " 1919 " والبعض الآخر بعنوان "الفكر والمتحرك" " 1933 " وفي هذا المجلد الثاني مقالات مهمة ضرورية لتمام الوقوف على مذهبه، وهي: "الحدس الفلسفي" "ف 4 " و"إدراك الغير" "ف 5 " و"مدخل إلى الميتافيزيقا" "ف 6 ". ج- "الوقائع المباشرة للوجدان" تشهد بأن الحياة النفسية تيار غير منقطع من الظواهر المتنوعة، أي: تقدم متصل من الكيفيات المتداخلة، بخلاف الظواهر المادية التي هي كثرة من الأحداث المتمايزة المتعاقبة. والحياة النفسية تلقائية فإنها انبعاث من باطن وخلق مستمر أو "ديمومة" duree لا تحتمل رجوعًا إلى الماضي وعودة ظروف بعينها، ولا توقعًا للمستقبل ضروريًّا، كما تحتمل الظواهر المادية. فعلم النفس المادي الذي يزعم تطبيق القياس على الظواهر النفسية وجعلها "علمية" يخلط خلطا شنيعا بين الإحساس الذي هو فعل غير منقسم وبين المؤثر الفيزيقي وزيادته ونقصانه، والواقع أن لا نسبة البتة بين الحدين. فالحياة النفسية كيف بحت مباين للكم، على حين أن المادة متجانسة في جميع أجزائها، موجودة بجميع أجزائها معا، باقية هي هي، حاضرها ومستقبلها كماضيها بغير تغيير. وإذا كنا نضيف الكم أو الشدة إلى الظواهر النفسية؛ فذلك لأننا نقرنها بالظواهر الجسمية التي تصاحبها أو تترجم عنها، وهذه الظواهر الجسمية هي المقيسة في الواقع، فنقيس السرور أو الغضب مثلا بالمساحة المنفعلة من جسمنا، وهما في الحقيقة كيفيتان خالصتان، ولا ينطبق القياس إلا على المكان المتجانس من حيث إن القياس

انطباق مكان على مكان. وإذا كان العلم يعتمد على القياس ويطلب الدقة الرياضية فذلك لأن عقلنا قوة تقيس وأن مجاله المستحب المكان والمادة، فيحاول أن يدخل على حياتنا النفسية تجانسًا يسمح بقياسها، وطريقته في ذلك أنه يسمي حالاتنا الباطنة فيتخيلها منفصلة بعضها عن بعض كالأسماء الدالة عليها ومرتبة بعضها تلو بعض كأنها على طول خط، وينقل الألفاظ المنطبقة على الماديات إلى المعنويات, فيصف ظواهرنا الوجدانية بالشدة أو بالضعف ويقارن بينها على هذا الاعتبار. ومن هنا تنجم الصعوبات في مسألة الحرية: فإننا نتصور دواعي العمل كأنها وقائع متمايزة تتظاهر على أحداث الفعل أو تتعارض، فنفرض أن الحرية قوة أخرى ناشئة من لا شيء هي التي تحدث الفعل أو تمنعه، والحقيقة أن ليس في عالم النفس آلية وجبرية, إذ إن الديمومة كيف محض وليست مركبة من أجزاء متجانسة قابلة لأن تتطابق؛ كما أنه ليس في عالم النفس خلق من لا شيء مقطوع الصلة بالماضي، ولكن الحرية عين صيرورة الأنا، والفعل الحر تقدم متصل يبدأ بضرب من العزم ثم ينمو هذا العزم وينضج مع النفس كلها إلى أن يصدر عنها كما تسقط الثمرة الناضجة من الشجرة. فالخطأ الأكبر قائم في الترجمة عن الزماني بالمكاني, وعن المتعاقب بالمتقارن. د- ولكنا لا نرى أن برجسون أفلح في إثبات الروح والحرية. أجل, إن إباء الظاهرة النفسية للقياس يدل على أنها صادرة عن مبدأ مغاير للمادة، ولا يدل على أن هذا المبدأ مفارق للمادة. إن الإحساس والانفعال والتخيل والتذكر ظواهر نفسية وفسيولوجية معًا تتم في الأعضاء وبالأعضاء, فمحال أن تصدر من غير مشاركة الجسم. وقد غلا برجسون في رفضه إضافة الشدة إلى الظواهر النفسية ظنًّا منه أن الشدة لقبولها التفاوت قابلة للقياس كالكمية، والواقع أن الكيفية تختلف شدة، يشهد بذلك الفضيلة والملكة العلمية أو الفنية, فإنها تتفاوت درجة وتمكنًا دون أن يمكن تقدير هذا التفاوت تقديرًا عدديًّا. أما أن العقل قوة تقيس وأن مجاله المكان وحسب، فنظرية سيفصل برجسون القول فيها ويبين دلائلها عنده، وسنعود إليها. وأما أن الحرية هي التلقائية فهذا خلط بين الاثنتين: إن التلقائية مشتركة بين جميع الأحياء بل بين جميع الأجسام, فلئن كان الجماد لا يتحرك إلا بفعل خارجي, فإنه متى تحرك كانت حركته بفعل باطن ذاتي، إذ يمتنع أن

تكون الحركة شيئًا ينتقل من المحرك إلى المتحرك ويعمل فيه. وعلى ذلك ليس القول بأن الفعل الحر فعل تلقائي بمميز له من الفعل الآلي، ولا بمفيد معنى الحرية الذي هو الاختيار المروي لفعل مع استطاعة عدم اختياره أو استطاعة اختيار ضده، ولكن مثل هذا الاختيار يقتضي جوهرًا ثابتًا مغايرًا للظواهر متحكمًا فيها، وقد ارتضى برجسون نظرية في العقل تبطل الاعتقاد بالجوهر كما سنرى. هـ- لما عاد إلى مسألة الروح في كتابه "المادة والذاكرة" عرف الروح بأنها ديمومة وذاكرة، وميز بين نوعين من الذاكرة: ذاكرة هي عادة مكتسبة بالتكرار ولها جهاز محرك في الجهاز العصبي، مثل الذاكرة التي تعي شعرا أو نثرا محفوظا عن ظهر قلب؛ وذاكرة بحتة هي تصور حادثة انطبعت في الذهن دفعة واحدة، واحتفظت بخصائصها وتاريخها، مثل تذكري أني حفظت قصيدة. الذاكرة الأولى تردد الماضي والثانية تتصوره، وهي الذاكرة الحقة، وهي لا تحفظ في الجسم. ونحن نحفظ جميع الصور ونحمل ماضينا بأكمله في أدق تفاصيله. فالذاكرة هي الروح نفسها بما هي حياة وديمومة، ولكن الذكريات محفوظة في حالة أشباح غير منظورة؛ إذ إن الشعور خاصية الحالات النفسية الماثلة الآن الفاعلة الآن فحسب، وما ليس يفعل فلا يخص الشعور وإن كان لا ينقطع عن الوجود على نحو ما. وحياتنا الشعورية موجهة إلى العمل، ويبقى ماضينا وراءها في حالة ذكريات بحتة غير مشعور بها، عديمة الصلة بالحاضر, عديمة الفائدة العملية. ويتضح هذا بالنظر في الأحلام، فإنها تتناول ماضينا كله ولا تقتصر على حالة حاضرة معينة يحدها الانتباه والاهتمام كما يحدث في اليقظة. وتظهر الصور في مجال الشعور كلما أحوجنا إليها العمل، ومهمة الجسم هي أن يجيء بها إلى هذا المجال, فيحول الصور التي بالقوة إلى صور بالفعل، فإن الجسم "مركز عمل" هو "ممر الحركات الصادرة والواردة، وأداة الوصل بين الأشياء المؤثرة فينا وما نؤثر فيه من أشياء" ليس بوسعه أن يحفظ صورًا ولا أن يبعث صورًا، ولكنه يوفر للصور الوسيلة كي تصير مادية وتعود إلى الشعور. وفي حالة فقدان الذاكرة ليست الروح هي المعتلة بل الدماغ، وليس هناك محو للذكريات بل اضطراب في الأجهزة المحركة، وتبعًا لذلك يقلب رأي الماديين رأسًا على عقب, فإنهم يعتبرون الجسم هو الموجود حقا ويعتبرون الشعور

ظاهرة عارضة ويعتبرون الطرفين متوازيين، والحقيقة أن الشعور في المحل الأول وأن الجسم آلته. تلك أهم قضايا الكتاب، وهي تدل على أن برجسون ثنائي كديكارت يضع الروح والجسم الواحد بإزاء الآخر ولا يفطن إلى جسم الحي يحيا ويشترك في الإحساس والانفعال والتخيل والتذكر كما أسلفنا، وأن تمايز الروح والجسم لا يستتبع انفصالهما واستقلال الواحد عن الآخر في الوجود والفعل. وخصائص الحياة النفسية متحققة في الحياة النامية أيضًا. وكتاب "التطور الخالق" يحوي دفاعًا متينًا عن هذا الرأي وتفسيرًا للآراء الواردة في الكتابين السالفين. يقول برجسون: ليس الكائن الحي مجرد مركب من عناصر سابقة كما يرى الآليون, ولكن الحياة شيء غير العناصر وشيء أكثر من العناصر، إن الكائن الحي "يدوم" ديمومة حقة، فإنه يولد وينمو ويهرم ويموت، وهذه ظواهر خاصة به لا تبدو بأي حال في المادة البحتة. وليست الأنواع الحية ناشئة من أصول متجانسة نمت وتحولت بتأثير القوى الفيزيقية والكيميائية ما شاءت الصدفة العمياء. هذا وهم من الآليين، فإنهم ينظرون إلى الكائنات الحية فيحللونها بالفكر إلى بسائط ويجعلون من هذه البسائط المعقولة أصولا تاريخية، على حين أن العضو في الكائن الحي "وحدة مركبة من آلاف الخلايا المختلفة مرتبة ترتيبا معينا" فكيف انضمت هذه الخلايا العديدة بالترتيب المطلوب؟ ثم إن الكائن الحي, من جهته، وحدة مركبة من أعضاء تتكون بالنمو من الداخل, فكيف يمكن الادعاء بأن الكائن الحي تكون بالإضافة من الخارج على ترتيب معين في أزمنة متطاولة؟ ثم إننا نلاحظ في سلاسل مختلفة من الأحياء منفصلة منذ عهد بعيد وحدة تركيب في أعضاء معقدة غاية التعقيد، كالشبكية مثلا, فكيف اتفق لمثل هذه السلاسل أن تنتهي إلى نتائج متشابهة في نقط مختلفة من المكان والزمان؟ بيد أن هذا النقد موجه إلى التطور الآلي كما تصوره دروين وسبنسر, لا إلى التطور إطلاقًا ونحن نشاهد الأحياء مراتب بعضها فوق بعض, فكيف نفسر ظهورها إلى الوجود؟ إن في بعض النبات تطورًا فجائيًّا يسمح لنا أن نتصور أن كل نوع من الأنواع الحية قد صدر دفعة واحدة عن "نزوة حية" من وجدان شبيه بوجداننا وأعلى منه "في وقت ما وفي نقط ما من المكان نبع تيار حي واجتاز أجسامًا كونها على التوالي وانتقل من جيل إلى جيل وانقسم بين

الأنواع الحية وتشتَّت بين الأفراد دون أن يفقد شيئًا من قوته, بل إنه يزداد قوة كلما تقدم" ويزداد شعورًا, فهو في النبات سبات وخمود, وفي الحيوان غريزة, وفي الإنسان عقل، وهذه طبقات مختلفة بالطبيعة لا بالدرجة فقط. أما المادة فقد نشأت من وهن التيار الحيوي أو توقفه، فما هي إلا شيء نفسي تجمد وتمدد، كما نشاهد في أنفسنا حين ندع فكرنا يجري اتفاقًا؛ فيتبدد في الآف من الذكريات تتخارج وتنتشر فتتراخى شخصيتنا وتتنزل في اتجاه المكان؛ أو كما نشاهد الماء يندفع من النافورة ويرتفع خطا كثيفا دقيقا ثم يهبط على شكل مروحية, وقد انفصلت نقطه المتراصة وتباعدت وتساقطت في مساحة أوسع. فالمادة شيء نفسي متراخٍ صار متجانسًا وقابلًا محضًا وحدًّا أدنى من الوجود والفعل, والعالم أجمع ديمومة أي: اختراع وتجديد وخلق وتقدم متصل. ز- الآن نستطيع أن نفهم حقيقة المعرفة الإنسانية, فمتى كانت الصيرورة عين الوجود وعين نسيج الأنا، كان الثبات ظاهريا أو نسبيا، ولم يعد هناك أشياء أو جواهر بل عاد الوجود أفعالا وحسب, وعادت الأشياء والأحوال مشاهد يجتزئ بها عقلنا من الصيرورة، وكانت معانينا ناشئة من هذه التجزئة، ونحن نميل طبعا إلى تجميد مشاعرنا لنعبر عنها باللغة، وما المعنى الكلي إلا اسم يطلق على ذكريات تؤلف موقفًا معينًا بإزاء طائفة من الأشياء هي التي يطلق عليها الاسم. إن العقل عاجز عن تصور الحركة وعن تفسيرها, وهو لا يفهم حق الفهم إلا الجامد القابل للقياس, وحالما يتناول الزمان والكيف يترجم عنهما بلغة المكان والكم. وهو يستخدم معاني محدودة ثابتة لا تصيب شيئًا من إنية الموضوع أو فرديته ولا تساوق الموضوع في ديمومته. هو قوة التفكير المجرد المستدل، هو منبع حجج زينون المنكرة للحركة والكثرة، وقلما يعجز عن التدليل على قضيتين متناقضتين. فالمعرفة الحقة حدس يدرك الموضوع في ذاته، ولكننا لا نزاول هذا الحدس إلا نادرًا بسبب ما يقتضيه من توتر النفس في مجهود شاقّ مؤلم للنفاذ إلى باطن الموضوع ومتابعته في صيرورته. أما العقل فقد خلقه التيار الحيوي للعمل لا للنظر كما خلق الغريزة في الحيوان. الغريزة قوة استخدام آلات عضوية بل قوة تكوينها, والعقل قوة صناعة آلات غير عضوية. الغريزة إحساس لا استدلال، وهي تعمل دون تردد ولا تربية، وتعمل على نحو معين؛ والعقل

بحاجة إلى التربية والتروية، ولكن مجاله أوسع بكثير. من هذه الأقوال نتبين أن برجسون يتصور العقل على طريقة ديكارت, فيظن وظيفته مقصورة على إدراك معانٍ واضحة متميزة على مثال المعاني الرياضية, وأنه لا يدرك القوة والحركة والحياة فيرد النبات والحيوان وجسم الإنسان مجرد آلات، فإذا ما رأى برجسون بطلان هذه النتيجة اتهم العقل ذاته واصطنع مذهبًا لاعقليًّا والتمس المعرفة الحقة في حدس لا ندري ماذا يحدس, والوجود صيرورة محضة خلوّ من ماهيات تدرك. ح- التيار الحي الخالق للروح والمادة هل يكون الله؟ إنه لشبيه بالله، وكثير من عبارات برجسون يؤدي هذا المعنى إلى ذهن القارئ، منها قوله: "إن فكرة الخلق تغمض بالكلية إذ فكرنا في "أشياء" مخلوقة و"شيء" يخلق؛ أما أن يتضخم الفعل كلما تقدم وأن يخلق كلما تقدم، فهذا ما يشاهده كل منا حين ينظر إلى نفسه وهو يفعل" وقوله: "إذا كان الفعل الذي يتم في كل مكان من نوع واحد, فإني أعبر تعبيرًا مختصرًا عن هذا الشبه الغالب حين أتحدث عن مركز تنبع منه العوالم كما تنبع الصواريخ من باقة عظيمة، على ألا أقصد بهذا المركز "شيئا" معينا بل أقصد به نبعًا متصلًا, فالله على هذا التعريف، ليس حاصلا على شيء تام، ولكنه حياة غير منقطعة وفعل وحرية. وخلقه على هذا التصور لا خفاء فيه، فإننا نحسه في أنفسنا حالما نعمل بحرية". على هذا يكون برجسون من أصحاب وحدة الوجود, ولكنه أعلن إلى أحد النقاد أنه في العبارات المذكورة وأمثالها "يتحدث عن الله باعتباره الينبوع الذي تخرج منه على التوالي، بفعل حر، التيارات التي يكون كل منها عالمًا، وأن الله من ثمة متمايز منها". هذا الإعلان ينسخ قوله أن ليس هناك شيء خالق وشيء مخلوق، ولا يتفادى وحدة الوجود من حيث إن الخلق عنده نبع وصدور عن ذات الله؛ فيكون المخلوق من عين ماهية الله، ولكن برجسون، منذ ذلك التاريخ، يذكر الله كأنه موجود مفارق للتيارات والعوالم، ونحن مضطرون أن نسلم بهذا القصد مع ما نجد من صعوبة الملاءمة بينه وبين المذهب. ط- ولكن مسألة تقوم حينئذ وهي هذه: كيف نعلم أن الله موجود وأنه متمايز من العالم؟ لا مجال للتدليل العقلي على وجود الله في فلسفة تنكر على العقل قيمة النظرية في معانيه ومبادئه. والواقع أن برجسون ينتقد الأدلة السلفية ويرفضها

رفضًا باتًّا؛ فدليل المحرك الأول مستبعد من جراء مبدأ المذهب أن ليس يوجد سوى حركة بغير محرك ولا متحرك؛ ودليل العلل الغائية يتنافى مع المذهب كذلك. فأولا الغائية تعين صورة المستقبل ونحن نعلم أن الديمومة خلق متجدد؛ ثانيا الغائية تشبه عمل الطبيعة بعمل الصانع الإنساني يركب قطعا وأجزاء ليحقق نموذجا, بينما الطبيعة تكوّن أو تعضون وتخرج الكائن الحي بأكمله من خلية تتكثر, والدليل المستمد من نظام العالم ساقط هو أيضًا: أين النظام؟ إذا دققنا النظر في العالم "بدا الفشل كأنه القاعدة، وبدا النجاح كأنه الاستثناء وكان دائمًا ناقصًا"؛ "إن النوع والفرد لا يفكران إلا في ذاتهما, فينشأ من هنا خلاف مع سائر صور الحياة، فليس يوجد التناسق في الواقع". ثم إن النظام ليس شيئًا حادثًًا ممكنًا مجرد الإمكان حتى يطلب تفسيره, بل من الضروري أن يوجد نظام ما، والاضطراب المطلق غير معقول. ي- هذا النقد للأدلة على وجود الله ليس بأقوم من النقود الكثيرة التي سبقته. إن دليل المحرك الأول لا يستبعد إلا في مذهب ينطوي على التناقض, إذ يقول بحركة صِرفة دون شيء يحرك ولا شيء يتحرك ولا شيء إليه يتحرك. ودليل الغائية قائم, إذ لولا الغاية لما كانت الحركة أو وقعنا في التناقض المذكور الآن؛ لذا دعا أرسطو الغاية علة العلل، والشيء المنظم مفتقر إلى منظم سواء أحدث بتركيب أجزاء أو بتعضون، ففي الحالتين الأجزاء "أو الأعضاء" تابعة لنظام الكل, والكل مع ذلك لا يوجد إلا بها, فلا بد من سبق وجود فكرة الكل في عقل ما، أَوَلَيس يستخدم برجسون مبدأ الغائية في مناقشة التطور الآلي؟ وأي التصورين أمعن في البطلان: تصور الموجود يركب من أجزاء تضاف شيئًا فشيئًا، أو تصوره يخرج كله دفعة واحدة دون غرض سابق، وكيف يرد دليل النظام بعد ما تقدم؟ إن انتظام الكائنات, كل على حدة, أمر لا شك فيه، وانتظامها فيما بينها هو الغالب، وليس ينهض الاضطراب أو ما يبدو كذلك حجة على النظام حيثما يوجد النظام. وكيف ينكر فيلسوفنا وجود النظام ثم يقول: إن النظام ضروري؟ إما هذا وإما ذاك. ك- إذا كانت الأدلة على وجود الله غير ناهضة, فكيف نعرف الله؟ لا يبقى لدينا سوى التجربة. والواقع أن برجسون يدعي إقامة ميتافيزيقا تجريبية

مبدؤها أن كل موجود بالضرورة موضوع تجربة حاصلة أو ممكنة، ويرى أن لدينا تجربة إلهية فيقول: "إن حدس ديمومتنا يصلنا بديمومة تتوتر وتتركز وتزداد اشتدادًا حتى تكون الأبدية في الحد الأقصى". وأبدية الله ديمومة كذلك. وهنا يفترق برجسون عن الفلاسفة الذين يرون أن الله ثابت مستكفٍ بنفسه فيقول: "ولكن الموجود الكافي نفسه ليس غريبًا عن الديمومة بالضرورة" و"إن في الحركة لشيئًا أكثر مما في الثبات". إن إله الفلاسفة وليد العقل ونتاج فعله المجرد المجمد! وهكذا يطبق برجسون فلسفة الصيرورة إلى النهاية, ويستعيض عن الإله الثابت بإله متغير, أي: إن الله عنده موجود نسبي مركب من فعل وقوة، موجود ناقص "يتضخم كلما تقدم" ويكتسب شيئًا جديدًا بلا انقطاع، وليس هذا شأن الله أو العلة الأولى، كما ذكرنا غير مرة. يظن برجسون أن الثبات معناه الجمود، والواقع أن الفلاسفة يثبتون أن الله حي بل الحياة بالذات ويريدون بثباته أن حياته هي هي دائمًا، كما يجب للعلة الأولى. ل- بعد ظهور كتاب "التطور الخالق" الذي لخصنا نقطه الأساسية، كان الاعتقاد العام أن هذه النظرية لا تسمح بإقامة فلسفة أخلاقية، على اعتبار أن هذه الفلسفة تستلزم معاني ومبادئ ثابتة تدبر السيرة الإنسانية, وأن الصيرورة لا تحتمل شيئًا ثابتًا. بيد أنه لم يكن من الممكن أن تظل فلسفة تدعي أنها روحية بغير أن تعرض للأخلاق وللدين، ففكر الفيلسوف وقدر ربع قرن وأخرج لنا "ينبوعا الأخلاق والدين" فأتم بهذا الكتاب مذهبه دون أن ينبذ, أو يغير شيئًا من المعاني والمبادئ التي سبق له عرضها. "الينبوعان" هما الغريزة والحدس، وقد صادفناهما. وكل من هاتين الوظيفتين يوجد أخلاقًا معينة ودينا معينا، فيكون هناك نوعان من الأخلاق ونوعان من الدين. أحد نوعي الأخلاق أخلاق ساكنة مغلقة، والآخر أخلاق متحركة مفتوحة. يتقوم النوع الأول في جملته من عادات تفرضها الجماعة ابتغاء صيانة كيانها, بحيث يعتبر خيرًا ما يكفل هذه الصيانة, ويعتبر شرًّا ما ينال منها فيبدو الواجب "رباطا من قبيل الرباط الذي يجمع بين نمل القرية الواحدة أو خلايا البدن الواحد" "ومن هذه الوجهة يفقد الواجب خاصيته النوعية "أي: الخلقية" ويتصل بأعم الظواهر الحيوية" غير أن هناك فارقًا، وهو أن الإنسان حاصل على عقل وحرية، وحينئذ "يبدو لنا الواجب بمثابة الصورة التي تتخذها الضرورة في

مجال الحياة حين تقتضي في سبيل تحقيق غايات معينة العقل والاختيار ومن ثمة الحرية". فهذا النوع من الأخلاق صادر عن الغريزة وعن الضرورة الاجتماعية؛ والأخلاق هنا في مستوى أدنى من مستوى العقل، هي أخلاق الجماعات المغلقة على أنفسها. م- أخلاق النوع الآخر تجاوز حدود الجماعة, وترمي إلى محبة الإنسانية قاطبة بل الخليقة بأسرها. تظهر في بعض الأفراد الممتازين يسمعون في أنفسهم نداء الحياة الصاعدة فيتملكهم انفعال خالص غير ذي موضوع فائق لمستوى العقل شبيه بالانفعال الموسيقي الذي "لا يتصل بشيء". هؤلاء هم "الأبطال" أمثال أنبياء بني إسرائيل أو سقراط، يجذبون الناس بالقدوة لا بالاستدلال، ومجرد وجودهم نداء، وأخلاقهم هي الأخلاق الكاملة المطلقة، لا تعرض قانونًا ينفذ بل مثلًا يحتذى. "إن الفعل الذي تنفتح به النفس يوسع ويرفع إلى الروحانية الخالصة أخلاقًا سجينة مشخصة في عبارات". وذلك هو المعنى العميق لما في "العظة على الجبل" من معارضات، حيث يقول المسيح: "قيل لكم, وأقول لكم". أخلاق الإنجيل أخلاق النفس المتفتحة, غير أنه يجب أن نذكر دائمًا "أن الضغط الاجتماعي وفورة المحبة مظهران للحياة متكاملان" أي: إن نوعي الأخلاق مظهران طبيعيان للتطور الحيوي ومرحلتان في تقدمه. الأخلاق المتحركة انفعال بحت عند "البطل" ومثال يحتذى عند الجمهور، وليست قانونا خلقيا ملزما في صميم الضمير؛ فالإلزام الخلقي مفقود في الأخلاق بنوعيها. ن- كذلك الحال في الدين؛ فهناك دين ساكن وآخر متحرك. نشأ الأول من إرادة اتقاء ما قد يكون العقل من أثر مرهق للفرد ومفكك للجماعة إذا ما فكر العقل في الموت وفي مخاطرات المستقبل وفي أسس الحياة الاجتماعية. هذه الإرادة تبعث في الإنسان "الوظيفة الأسطورية" فتنهض هذه تصور حياة آجلة, وتخترع قوات فائقة للطبيعة خيرة أو شريرة، وتروي "قصصًا كالتي تروى للأطفال" فتضع عقيدة وتثبت سنة. هذا الدين شأنه شأن الغريزة في الجماعات الحيوانية "يحمل الإنسان على التشبث بالحياة ومن ثمة على التشبث بالجماعة". أما الدين المتحرك فهو امتداد القوة الحيوانية، وهو انفعال صرف "مستقل عن السنة وعن اللاهوت وعن الكنائس" يظهر في بعض الأفراد الممتازين الذين هم المتصوفون.

"إن الله محبة، وهو موضوع محبة، هذا ما يجيء به التصوف" و"نهاية التصوف اتصال جزئي بالجهد الخالق الذي تتكشف عنه الحياة, هذا الجهد هو في الله إن لم يكن نفسه". لقد حاول الفكر اليوناني أن يرتفع إلى هذه القمة فلم يبلغ إليها؛ وذلك لأن التصوف التام فعل وقد اتبع فلاسفة اليونان طريقًا عقلية صرفة واعتقدوا أن العمل أدنى من النظر، أو أنه "تضاؤل النظر". وقد كان للهند تصوفها، ولكن التشاؤم منع هذا التصوف من المضي إلى غاية شوطه. وقد أعوزت البوذية الحرارة وأعوزها الإيمان بفاعلية العمل الإنساني والثقة به، والثقة هي التي تستطيع أن تصير قوة تنقل الجبال. التصوف التام هو تصوف كبار المتصوفين المسيحيين. ومحاول أن يشبهوا بالمرضى فإنهم ذوو صحة عقلية متينة نادرة, من علاماتها ميلهم إلى العمل وقدرتهم على التكيف مع الظروف. أنهم أشباه أصليون ولكن ناقصون، لما كانه على وجه التمام مسيح الأناجيل. وعلى ذلك فالتصوف "يوفر لنا الوسيلة لتناول مسألة وجود الله وطبيعته على نحو تجريبي". س- هذه النظرية تجمع بين النظرية الاجتماعية والنظرية الروحانية بأن تجعل للدين صورتين طبيعيتين على السواء, إحداهما سفلى متأصلة في الحياة البيولوجية والأخرى عليا راجعة إلى ما في التيار الحيوي العام من قوة انتشار وصعود. بيد أننا نرى أن الدين أيا كان يقوم في علاقة يدركها الإنسان بينه وبين الله، وهذا هو الدين الطبيعي أي: العقلي الذي يمكن استخلاصه من القصص والخرافات وتسويغه بالعقل؛ وأن لا حاجة إلى افتراض وظيفة أسطورية وهبتنا الطبيعة إياها خصيصًا لتحقيق غايات حيوية، فما هي إلا المخيلة تكسو الأفكار ثوبًا من الصور المحسوسة، ونرى أن التيار الحيوي قاصر عن أن يصلنا بالله لعلو الله عن كل مخلوق علوا كبيرا، وأن "تجربة الله" شعور بالحضور الإلهي سببه تنزل من قبل الله وإشعار لنا من لدنه. ومن الغريب أن برجسون بعد أن أعلن أن التصوف وسيلتنا لمعرفة الله معرفة تجريبية، عاد فقال: إن النفس إذا ما وصلت إلى حال التصوف "لا تسأل نفسها إذا كان المبدأ الذي تتصل به هو العلة المفارقة للأشياء أو وكيلا أرضيا عنها، ولكنها تكتفي بأن تحس أن موجودًا أقدر منها بكثير يتغلغل فيها دون أن تفني فيه شخصيتها". وإذن فالتصوف لا يعطينا الله، بل إن برجسون يقول: إن التصوف لا يعنى بالأمر. كيف إذن قرأ برجسون

المتصوفين المسيحيين؟ لقد قرأهم خلال آرائه ومقاصده تحدوه رغبة خفية في استخدامهم لا في الأخذ عنهم. إنه يضعهم في رأس المتصوفة, ولكن لأي سبب؟ لميلهم إلى العمل، ونجاحهم في العمل، والعمل جوهر الوجود عند فيلسوفنا، أما عقيدتهم فلا يحفل بها، وهو يقول أن لا أهمية للعلم إن كان المسيح إلهًا وإنسانًا. على أن تصفح كتبهم يبين لنا بوضوح أنهم أصحاب عقيدة معينة يؤمنون بها ويحيون بها ولها، وأن العمل، عند الذين زاولوه منهم, امتداد للنظر غايته نشر ملكوت الله, وأنهم إنما يطلبون الله ويدعونه, وأنهم يجدون الله, لا وكيلا عن الله أيا كان هذا الوكيل. والمتصوف المسيحي الذي يتصوره دينه على الطريقة البرجسونية يخرج على المسيحية، أي: الذي يبتر العقائد من الدين ويبتر "القصص" القائمة عليها هذه العقائد ليقنع بطلب انفعال صرف يجهل مصدره. لقد كان على الفيلسوف أن يأخذ التجربة كاملة، ولو اقتضته مراجعة فلسفته، تلك الفلسفة التي تنتهي في الواقع إلى نفس النتائج التي انتهى إليها المذهب "العقلي" الآلي الذي يعارضه برجسون, إذ إن مذهب الصيرورة لا يسمح بإثبات نفس دائمة، ويتصور الحرية مجرد تلقائية، والفعل الخلقي إما فعلا ضروريا أو انفعالا بحتا بغير اختيار ولا إلزام، والدين مجرد انفعال أيضًا خلوا من الإله الحق. ع- وقد نقول: إن آراء برجسون معروفة فيما سبق من الفلسفة, فالصيرورة وردت عند هرقليط وهجل، وتلقائية الحياة وردت عند شلنج ومين دي بيران ورافيسون، وصدور الموجودات عن النزوة الحيوية شبيه بصدورها عن النفس الكلية عند أفلوطين، والاسمية ونقد العقل ركنان أساسيان في المذهب الحسي، والآراء في الأخلاق والدين ورد مثلها كثيرًا في العصر الحديث، ولكنا نقول: إنه بالرغم من هذا يعد أكبر فيلسوف ظهر في فرنسا من عهد بعيد لما بذله من براعة في الجمع بين هذه الآراء والتجديد في عرضها؛ ولعله أكبر فيلسوف على الإطلاق في هذا النصف الأول من القرن العشرين. وقد كان نفوذه واسعًا عميقًا، فقد أذاع لونا من التفكير وأسلوبا من التعبير طغيا على سائر فروع المعرفة العلمية وتجاوزاها إلى الأدب. وكانت دلالته التاريخية أنه قصد إلى إنقاذ القيم التي أطاحها المذهب المادي، فهو يبدو من هذه الوجهة وكأنه واحد من أولئك "الأبطال" الذين أشاد بهم، أولئك الذين يقومون في الإنسانية ليعلنوا إيمانهم بالروح وينبهوا إخوانهم

على أن الكون المادي ليس وطنًا لهم وإنما "الكون آلة لصنع آلهة" 1. وقد مضى هو بكل إخلاص في طموحه وتفكيره حتى بلغ إلى المسيحية الكاثوليكية, ولولا الاضطهاد المعروف الذي شن على اليهود لاعتنقها ولكنه أراد أن يظل بين المضطهدين، وتمنى لو أن قسيسا كاثوليكيا يسير في جنازته ويصلي على جثمانه 2 , كيف اجتمعت في عقله عقائد المسيحية وفلسفة الصيرورة والاسمية؟ لا ندري. ولكن الذي ندريه هو أن الفلسفة شيء لا يذكر بالقياس إلى هذا التوجه إلى الله, في الوقت الرهيب الذي يسبق الخروج من هذا العالم. 213 - أندري لالاند " 1867 ": أ- أستاذ المنطق بالسوربون. ولما أنشئت الجامعة المصرية طلبت إليه أن يدرس بها فتخرج على يديه الفوج الأول من طلاب قسم الفلسفة، ثم عادت فاستقدمته مرتين فتخرج على يديه فوجان آخران. وجميع الذين عرفوه، من أساتذة وطلاب, يحفظون له أجمل الذكرى لسجاياه العالية، وعنايته الأبوية بالطلاب بالقاهرة وبباريس، ومشاركته الفعالة في إقرار التقاليد الجامعية في الجامعة الناشئة على العموم, وفي كلية الآداب على الخصوص. ب- آمن بالأخلاق منذ أن شرع يفكر لنفسه, وكان مذهب التطور هو السائد حينذاك في العلم والفلسفة، وكان هربرت سبنسر حامل لوائه في الميدانين، إذ كانت كتبه عبارة عن تلخيص العلوم تبعًا لقانون التطور، وقد بلغ ضجيج الأشياع والخصوم أقصى حد. فأراد الأستاذ لالاند أن يدير الرسالة التي يتقدم بها للدكتوراه على "الأخلاق والتطور" وهو يشعر شعورًا قويًّا بتعارض أساسي بين مدلول هذين اللفظين. وأخذ ينعم النظر في المسألة، فإذا هي تتشعب إلى مسائل متصلة بها، وإذا هو يلاحق هذه المسائل، حتى انتهى بعد سنين سبع " 1892 - 1899 " إلى كتاب ضخم جعل عنوانه هكذا: "في الفكرة الموجهة للانحلال ومعارضتها للفكرة الموجهة للتطور في منهج العلوم الطبيعية والأخلاقية". لكل من لفظي الانحلال والتطور معنى جرى به استعمال سبنسر:

_ 1 آخر جملة في كتاب "ينبوعا الأخلاق والدين". 2 ورد كل هذا في وصيته المؤرخة 8 فبراير 1937 , والتي أذاعتها زوجته بعد وفاته.

التطور Evolution ترقي الكائن من التجانس إلى التنوع وتكامله على هذا النحو، وإن يكن اللفظ في حد ذاته لا يدل على غير التحول أو الانقلاب من حال إلى حال أيا كانت, والانحلال Dissolution عكس التطور، أي: تفرق العناصر المؤتلفة، بل عودة العناصر المتنوعة إلى التجانس. غير أن الأستاذ لالاند وجه لفظ الانحلال إلى معنى إيجابي مختلف عن هذا المعنى السلبي. فدل به على ارتداد المتنوعات المتنازعات إلى وحدة عليا هي ترقّ وتقدم، على ما سيتبين بعد حين، ولكن الناس كانوا قد ألفوا المعنى السلبي وحده كمدلول للفظ الانحلال، فكان هذا اللفظ مدعاة لشيء كثير من التردد وسوء الفهم لدى قارئي الرسالة. ثم إن الرسالة كانت مثقلة بشواهد مستمدة من علوم الطبيعة والحياة والاجتماع، وكان تقدم هذه العلوم يبطل كثيرًا من هذه الشواهد. وكان الأستاذ لالاند دائب التفكير في كل ذلك بالطبع؛ فلما آن الأوان عاد إلى رسالته بالتنقيح والحذف والإيجاز، مع محافظته على الفكرة الأساسية، وأخرج طبعة ثانية بعنوان "الأوهام التطورية" Les illusions evolutionistes " 1930 في 460 صفحة" وهو عنوان أضيق من محتوى الرسالة، إذ إنها لا تقتصر على تبديد بعض أخطاء وقعت فيها فلسفة التطور، ولكنها تشتمل على قسم تركيبي هو مذهب المؤلف وهو إذن القسم الأوهم. في هذه الطبعة الثانية أبدل كلمة Dissolution التي تعني الانحلال بكلمة Assimilation أي: التمثيل أو التحول من الاختلاف إلى التشابه، كتمثيل الكائن الحي غذاءه، وبكلمة lnvolution وهي تستعمل بالإنجليزية منذ منتصف القرن التاسع عشر بمعنى مضاد لمعنى Evolution وبنوع خاص بمعنى اضمحلال الكائنات المنوعة وانحطاطها، لكن الأستاذ لالاند يريد بها المعنى الذي أراده في الأصل وهو ارتداد المتنوعات إلى ضرب من التجانس العالي أو تراجعها إلى وحدة عليا. وقد أضاف هوامش عديدة تناول فيها نتائج مؤلفات أحدث عهدًا، وبين موقفه الخاص. وتعد رسالته من أهم المصنفات في الفلسفة المعاصرة؛ لما امتازت به من سمو المقصد ودقة التحليل وقوة الحجة وبعد المرمى في نصر الروحية على المادية. ج- يعتبر الأستاذ لالاند مذهب التطور مجرد فرض؛ ثم يسلم بأنه الآن أقرب الفروض إلى الحقيقة، وأن تاريخ الحياة على وجه الأرض يتلخص في أنها

قوة تعمل على إيجاد كائنات أكثر فأكثر تركزًا وملاءمة مع البيئة, وأنها منذ أدنى صورها وأبسطها توكيد للفردية واجتهاد في تنميتها على حساب المادة البحتة وحساب سائر الأحياء، ومن ثمة تنازع مستمر للبقاء. بيد أن هذا المذهب الواسع تعوزه الدقة ويشوبه التناقض، وهو مع ذلك، أو من أجل ذلك، رائج لدى الجمهور لأنه يخاطب المخيلة. إذا كان التطور أمرًا مشاهدًا, فمشاهد أيضا أن الكائن الحي يبذل مجهودا هائلا في دفع العدوان عليه، وأنه بذلك يحافظ على كيانه فيصون نوعه من التغير. على أن هناك ما هو أعظم خطورة: إذا كان التنوع قانون الحياة، فإن لعالم الجماد قانونًا آخر لم يعره أصحاب التطور ما يستحقه من عناية. إن الطبيعة بأسرها تتقدم في اتجاه محتوم هو تناقض الاختلاف, وبوجه خاص تناقض التفاوت بين الطاقة والكتلة، أي: إنها تتقدم ببطء صوب ما يسميه العلماء موتها الطبيعي، صوب حال يتلاشى فيها الاختلاف، وتتلاشى الطاقة، ويتحقق توازن تام لا يختل من تلقاء نفسه بعد ذلك. والحياة مسوقة إلى هذه النهاية, فالقانون الأعم قانون تساوٍ وتوازن, وسير الطبيعة في جملتها تراجع لا تطور، والذي ينحاز إلى جانب الحياة، ويصطنع لنفسه مذهبًا ما تنم عليه من روح انتشار وفتح، ينحاز إذن إلى قضية خاسرة. د- هذا التراجع تنفر منه الغريزة الحيوية وتفزغ من نهايته المحتومة التي هي القضاء على الحياة. ولكن العقل يرضى عنه كل الرضا، والعقل لا يدرك إلا الماهية الثابتة, ولا يقدر أنه فسر الأشياء إلا إذا ردها إلى ضرب من الوحدة والمساواة. "من الوجهة المنطقية، كل فارق فهو أمر حادث يدعو للعجب ويتطلب تفسيرًا بل تصحيحًا. إذا رأيت برجين غير متساويين فوق بناء بعينه، وسطحين مختلفين في بقعة من الماء بعينها, وميلين متعارضين في شعب بعينه، فإن عقلي يبحث حتمًا عن سبب هذا التباين". وعلى ذلك فبين العقل والجماد الثابت المتساوي اشتراك ومماثلة، وبينه وبين الحياة المتغيرة المتنوعة تقابل ومخالفة, فإن النمو، وهو الخاصية الأساسية للحياة، شيء غامض قليل المعقولية، وإن العقل وظيفة تمثيل: إنه يعمل على تمثيل الأشياء لذاته بأن يطبق عليها معانيه ومبادئه فيجعلها معقولة، وعلى تمثيل الأشياء بعضها لبعض وبذلك يفسرها التفسير العلمي، وعلى تمثيل العقول بعضها لبعض وبذلك يحقق موضوعية العلم. فالعمل

العقلي تراجعي؛ لأن للكائن العاقل خاصية لا توجد إلا له وحده وهي أنه لا يعمل بما هو عاقل إلا إذا تصور العمل وقدر له قيمة؛ فهو في جميع أفعاله المروية يصدر عن "أحكام تقويمية" تقدر قيم الأشياء وتقرر "الأفضل" أو "ما يجب أن يكون" وتبدو في ثلاث صور: "الحقيقة" في مجال النظر، و"الخير" في مجال العمل, و"الجمال" في مجال الإحساس. فأما الحقيقة فتبدو في التمثيل الذي ذكرناه؛ وأما الخير فهو تمثيل كذلك إذ إن القاعدة الخلقية حكم يصدره العقل بالعدول عن الغريزة وعن العاطفة الخاصة إلى أمر رفيع مشترك بين الناس, وجميع المذاهب الأخلاقية تقويمية بالضرورة، وأما الجمال أخيرًا فهو تمثيل وتقويم أيضا مهما يظن بأن قوامه الذوق الشخصي والأصالة الحرة, إذ إن الفن يرمي دائمًا إلى التعبير عن فكرة كلية أو عاطفة مشتركة. هـ- ويظهرنا التاريخ على أن العقل قد عمل على توجيه التقدم الإنساني في الفرد والمجتمع، وجهة معارضة تمام المعارضة للغريزة والتطور المتنوع. أجل, لقد كان هذا العمل ضعيفًا بطيئًا متفاوت الحظ من النجاح، ولكنه كان مستقيما متصلا في تصميم وعناد. إن مذهب التطور يثير الغريزة ويبرر جموحها من حيث إنها مظهر القوة الحيوية، ويحاول أن يرد إليها استعداداتنا العقلية والخلقية على أن هذه الاستعدادات نماء الغريزة وازدهارها, فيخلط بين دائرتين لا اشتراك بينهما، ويتجاهل ثنائية الإنسان بالرغم من إلحاح الأخلاقيين فيها. ولما كان لا يميز بين الاخلاق والبيولوجيا، فإنه ينظر إلى الفتح والاستعمار كأنهما مظهران سائغان من مظاهر الحيوية، ويقدس الأنانية القومية، ويعد تقدمًا ورقيًّا تنظيم المجتمع على غرار التنظيم البيولوجي وما ينطوي عليه من تفاوت الأجزاء وإخضاع بعضها لبعض، فلا يرى سبنسر من غاية قصوى سوى ازدياد الحياة، ولا يرى دروين من وسيلة لتحسين الإنسان سوى مصلحة الفرد وانتخاب الأصلح كما في الحيوان. ومن هنا نشأت أخطاء أو أوهام هي أبلغ أخطاء عصرنا ضررًا. أما العقل فقد اتجه دائمًا إلى التقريب بين الناس؛ وإلى تكوين مجموعة من الحقائق تؤلف تراثا مشتركا بين الجميع وإلى الاستعاضة عن العلاقات القائمة على القوة بعلاقات صادرة عن العدالة؛ وإلى سن قوانين تستطيع الإرادات جميعا قبولها وتنفيذها طوعًا؛ وإلى إعلاء قدر الخيرات العقلية والروحية، وهي التي

تحتمل المشاركة فيها دون نقصان أو زوال، بل إن حظ كل فرد منها يتعاظم كلما تكاثر عدد المشاركين فيها، وإلى تحويل ما في الحياة من شهوة عمياء ونزوع نهم للفتح والتملك إلى محبة مستنيرة لإخواننا في الإنسانية. بتأثير العقل انتشرت فكرة المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات القانونية والسياسية، فدبّ الوهن في الطبقات الاجتماعية وتحللت رويدا رويدًا في الهند ومصر وروما، في العصر القديم والعصر الوسيط. وبتأثير العقل استحال نظام الأسرة من السلطة إلى الحرية، وتدرجت حال المرأة من الانزواء والخنوع إلى المساواة بالرجل، وشاعت فكرة السلام العام والاتحاد بين الدول من المثقفين إلى الجمهور. فليست الأفكار الأخلاقية مجرد أفكار، ولكنها قوى تعمل في الواقع وتكيف الطبيعة الإنسانية والمجتمع الإنساني بالرغم من مقاومة الأنانية البيولوجية. وهكذا يوجد الفكر المروي في هذا الميدان نوعًا جديدًا من التراجع، أو هو يدفع بالتراجع إلى الأمام على نحو خاص به هو وبوسائل جديدة, فإذا بالتراجع هو في حقيقة الأمر القانون العام للطبيعة, وإذا بمذهب التطور, وقد ظن أنه يجد في دائرة الحياة خير ميدان لتأييد مبادئه، يفوت أهم ما في الدائرة الإنسانية وأدعى ما يستدعي النظر. وبعد هذا الوصف للعقل والدفاع عنه، قضى الأستاذ لالاند حياته في تعمق وجهة نظره وتأييدها, يحدوه الإيمان بخطرها البالغ في بناء العلم وتوجيه الحياة وتدبير السيرة, فنشر كتابًا في "نظريات الاستقراء والتجريب" " 1929 " La theorie de linduction et de lexperimentation هو سجل نفيس للغاية يعرض هذه النظريات ويمحصها، وينتهي إلى أن أساس الاستقراء التعميم، وأن التعميم خاصية أولية للفكر الإنساني, وأن التمثيل أو التراجع قانونه. ونشر أخيرًا كتابًا عنوانه "العقل والمعايير" " 1948 " La raison et les normes كان قد ألقاه دروسا قبل عشرين سنة، يرد فيه على الفلاسفة التجريبيين الذين يذهبون إلى أن المعقولات الرئيسية, كالزمان والمكان والعلة والقانون وما إليها، وحتى العلوم الرياضية مستفادة من التجربة، وأن تاريخ المعرفة يدل على أن مفهوم هذه المعقولات قد تغير باستمرار, ويخرجون من هذا إلى إنكار قيمة العقل، فيسلم الأستاذ لالاند بالمقدمتين وينبذ النتيجة, وذلك بملاحظة أن تغير مفهوم المعقولات يسير سيرا تراجعيا, وأن التراجع إذن هو القانون الأساسي, وأنه

يجب أن يرد إلى مبدأ ثابت هو الذي يسمى عقلا أولا بالذات، أو عقلا مكوِّنا Raison constituante " بكسر الواو" لأنه المبدأ الواضع للقيم وللقواعد في النظر والعمل، والمنتج للمعقولات، والمشرف على تطورها، في حين أن جملة المعقولات، التي يظنها التجريبيون كل العقل، أحرى بها أن تسمى بالعقل المكوَّن "بفتح الواو" القابل للتغير دون مساس بجوهر العقل " Raison constituee". ز- وللأستاذ لالاند، في المجلات الفلسفية، من فرنسية وإنجليزية, مقالات عديدة فيها توجيهات جديدة ومراجعات على الكتب المعاصرة، وكلها ترمي إلى الغرض نفسه. ولعل أعظم جهوده شأنًا وأبعدها أثرًا ذلك "المعجم الفلسفي" الذي أخرجه لأول مرة في سنة 1926 , وأخرج طبعة خامسة له منقحة ومزيدة في سنة 1947. فقد اضطلع به سعيًا إلى التوحيد الفعلي بين العقول بإيجاد لغة يتخاطب بها المفكرون وهم آمنون سوء التفاهم، مما يقتضي من كل أن يعدل عن عادات وآراء خاصة إلى عادات وآراء مشتركة، فتتفق العقول، ومن ثمة تتفق الإرادات, كأن يحرر التعريفات، ويضع عليها الملاحظات، ثم يعرضها على أعضاء "الجمعية الفرنسية للفلسفة" ومراسليها في الخارج, فيتلقى تعقيباتهم، ويعيد تحرير التعريفات والملاحظات، حتى بلغ بها الغاية في الدقة والإحكام, وجاء معجمه أداة لا يستغني عنها مشتغل بالفلسفة عن قرب أو بعد. فالأستاذ لالاند كان في جميع أدوار حياته داعية للتمثيل والتوفيق, عاملًا لهما. 214 - الفلسفة الوجودية: أ- إلى جانب التيار البرجسوني والمدارس المعروفة توجد في فرنسا الآن محاولات ثانوية، وإن لم تخل من مقدرة, تجمع تحت اسم "الوجودية" لاتفاقها على أن الإنسان محور تفكير الإنسان، وأن منهج هذا التفكير النظر في الإنسان على ما "يوجد" لا تحليل ماهيته المجردة 1. أجل ليس هذا المنهج جديدًا؛ فقد نعد سقراط وأفلاطون والقديس أوغسطين وبسكال وجوديين؛ ومن قبيلهم موريس

_ 1 ويسمى هذا المذهب Existenti lisme وهو غير المذهب الذي صادفناه في العصر الوسيط وسميناه بالوجودية Realisme لقوله بوجود واقعي للماهيات المجردة، بل إنه معارض له منكر للمجردات.

بلونديل " 1861 " الأستاذ بجامعة إكس في كتابه "العمل" وجبريل مرسيل " 1869 "؛ وكلهم يؤمنون بالعقل وبموضوعية المعرفة ويفسرون الإنسان طبقًا للمبادئ العقلية. أما الوجودية الجديدة فقد نشأت احتجاجا على الإسراف في العقلية كما يشاهد عند هجل الذي يرد الموجود إلى الماهية المجردة, فيغفل كل ما فيه من إنية أو فردية؛ فهي لاميتافيزيقية، تنكر أن يكون الوجود عين الماهية، وتنفر من المذهب والمذهبية وتقتصر على وصف الظواهر النفسية، فلا تعين قيمة المعرفة بالإضافة إلى "الحقيقة" بل طبقًا لما يبدو من قيمة حيوية في ظواهر الشعور الخالصة من الانفعالات والإرادات والآراء المكتسبة من المجتمع. ومع اتفاق الوجوديين المعاصرين على هذا المنهج نراهم يختلفون في نقطتين رئيسيتين: إحداهما خاصة بالمعرفة، والأخرى خاصة بتفسير الإنسان. ففي النقطة الأولى يأخذ بعضهم بالتصورية فلا يجعل فرقًا بين العالم الخارجي والعالم الداخلي بحجة أن كل ظاهرة طبيعية فهي في الوقت نفسه ظاهرة نفسية وأن "وجودها" كله قائم في كونها حالة نفسية، بينما البعض الآخر يري أن الظاهرة الطبيعية يقارنها في الوجدان شعور بالخارجية فيميز بين المجالين, ويحاول تبرير موضوعية المعرفة. وفي النقطة الثانية ينظر بعض الوجوديين بنوع خاص إلى ما سماه بسكال بعظمة الإنسان المتمثلة في عقله وفي طموحه إلى المثل الأعلى، فينتهي إلى الإيمان؛ وينظر البعض الآخر إلى ما سماه بسكال بحقارة الإنسان المتمثلة في أهوائه ورذائله وأمراضه الجسمية والنفسية، فينتهي إلى المادية والإلحاد. ولعل هؤلاء يبدءون بالإلحاد, ويبدأ أولئك بالإيمان تبعًا لمزاجهم الجسمي والعقلي، ثم يستخدمون المنهج الوجودي للوصول إلى ما يريدون. وهذا المنهج كثير الشيوع في العصر الحاضر, عليه عوّل فوندت وكولبي وهوفدنج وتيتشنر في علم النفس، وتشارلس بيرس ووليم جيمس في البراجماتزم، وجون ديوي في اعتباره المعرفة أداة في خدمة الحياة، وشيلر في مذهبه الإنساني، وغيرهم ممن يحذون حذوهم 1.

_ 1 ومن الوجوديين البارزين "سورن كير كجارد" الدنماركي " 1813 - 1855 " الذي ترجمت كتبه أخيرًا وشاعت أفكاره بعد أن ظل تأثيره قاصرًا على بعض الأوساط السكندينافية والألمانية. كان سوداويا مرهف الحس منطويا على نفسه شديد التدين. صار قسيسًا بروتستانتيًّا وهاله ما وجد في بيئته من تناقض ورياء, إذ تدعي أنها مسيحية ولا تعمل بتعاليم المسيح، ورجال =

ب- وأشهر الوجوديين الفرنسيين الآن، أي: أكثرهم إنتاجًا وضجيجًا؛ جان بول سارتر الذي يعرف الوجودية بأنها مذهب إنساني، ويلح في تحليل النواحي القذرة البشعة من الإنسان في قصص تلقى رواجًا كبيرًا 1 , وهو مادي ملحد يظن أن الإلحاد يستلزم القول بأن الوجود في الإنسان سابق على الماهية، أو أن "الإنسان يوجد أولًا ويعرف فيما بعد" من حيث إنه لا يوجد إله يتصور الماهية الإنسانية ثم يحققها كما يتصور الصانع ماهية الآلة ثم يصنعها أو كما يتصور كنط الماهية الإنسانية "سابقة على الوجود التاريخي الذي نصادفه في الطبيعة". هذا موقفه الميتافيزيقي, وهذا الموقف يعود إلى القول بأنه يجب البدء من "الذاتية" لأجل دراسة الإنسان فينظر إليه كما هو موجود في بيئة معينة, وفي كل فرد على حدة دون اعتبار للمعنى الكلي الذي يقال: إنه يمثل الماهية والذي يدرجون تحته "إنسان الغابات وإنسان الطبيعة والبورجوي" على السواء. ومتى كان الوجود سابقًا على الماهية لم يبق في الإنسان شيء يعين سلوكه ويحد حريته بل كان حرا كل الحرية يعمل ما يشاء ولا يتقيد بأي شيء, إذ إن الوجودية "لا ترى أن بوسع الإنسان أن يجد معونة في علامة على الإرض تهديه السبيل؛ لأنها ترى أن الإنسان يفسر الأشياء بنفسه كما يشاء، وأنه محكوم عليه في كل لحظة أن يخترع الإنسان". فما الإنسان "إلا ما يصنع نفسه وما يريد نفسه وما يتصور نفسه بعد الوجود". بهذا يظن سارتر أنه يحقق الغرض الذي يرمي إليه وهو إنقاذ الحرية من الجبرية، فيصف الوجودية بأنها مذهب تفاؤل لأنها تضع مصير الإنسان بين يديه "فتجعل الحياة الإنسانية ممكنة".

_ = الدين فيها يرددون هذه التعاليم ويعيشون كسائر الناس, فتبقى أقوالهم عديمة الأثر لانعدام الحياة منها. فألم وحزن وثار على الكنيسة الرسمية والفلسفات السائدة وبخاصة الفلسفة الهجلية التي توحد بين الوجود والماهية المجردة. أما هو فينظر في الإنسان "أو في نفسه هو" على أساس أن المطلوب مذهب يستولي على الإنسان في إنيته، فوجد أن النظر العقلي لا يسفر إلا عن مفارقات، وأن الإنسان أناني، ومن المحتوم أن يقع في اليأس، وأن الأخلاق والفن قاصران عن الوفاء بالغرض لأنهما ينصان على قواعد عامة لا تمس النفس، وأن المسيحية وحدها تضع علاقة شخصية بين الفرد والله، فيجب اعتناقها من صميم النفس مهما تبد معارضة للعقل "في عرفه" وللعالم والزمان. وقد بلغ كير كجارد في التحليل والتعمق شأوًا بعيدًا جعل بعض النقاد يضعونه في صف بسكال. 1 كتبه الفلسفية: "المخيلة" "الخيالي" "الوجود واللاوجود".

ج- هذه الوجودية ما هي إلا لون من ألوان المذهب الحسي، فإنها تنكر المعنى الكلي وتغلو في الإنكار حتى تأبى أن تقيم وزنًا لوجوه الشبه بين أفراد النوع الواحد، وهي وجوه بادية للعيان، فلا تنظر إلى الجزئي إلا بما هو كذلك فتعتبر أن الماهية هي الإنية أي: جملة الأعراض المخصصة للجزئي، فتقول: إن الوجود سابق على الماهية بهذا الاعتبار، ولا يفطن القائل إلى أن الوجود هو بالضرورة وجود شيء أي: ماهية, وأن الإنية تعيين الماهية الحاصلة بالفعل من نواحٍ وبالقوة من نواحٍ أخرى، فإن الإنيات وجوه مختلفة لما في الماهية من قوى مختلفة، وقديما قال أرسطو: إن القوى النطقية غير معينة إلى واحد ولكن في مقدورها الميل إلى ناحية أو إلى أخرى، وهذا أصل الحرية التي هي القدرة على العمل في نطاق الماهية وعلى حسبها، ولا وجه للإغراب بعد هذا بوضع الوجود قبل الماهية!

الفصل الرابع: الفلسفة في ألمانيا

الفصل الرابع: الفلسفة في ألمانيا 215 - فلسفة الظواهر "فينومنولوجيا": أ- الجديد في ألمانيا لعهدنا الحاضر مدرسة نشأت من التفكير في أصول العلم، فما برحت هذه المسألة تشغل المفكرين العصر الحديث، والمذهبان المسيطران على العقول منذ أمد بعيد، وهما التصورية والواقعية، يتفقان في تحليل المعرفة إلى طائفتين من العناصر: إحداهما تشمل عناصر محسوسة هي مادة العلم، والأخرى تشمل عناصر هي صورة العلم؛ وتقول التصورية: إنها حاصلة في العقل ابتداء, بينما تقول الواقعية: إنها ناشئة في الفكر بفعل قوانين التداعي؛ فتفصل التصورية بين صورة المعرفة وبين علم النفس المكتسب بالحس الباطن، وتجعل الواقعية من حالاتنا الباطنة موضوع علم واحد شامل هو علم النفس, ينطوي على المنطق كأحد أجزائه، على حين أن علم النفس يقتصر على وصف الحالات الشعورية ويستخلص قوانين واقعية, وأن المنطق يفحص عن قواعد التفكير الصحيح ويصل إلى قوانين ضرورية معيارية. فكيف السبيل إلى التمييز بين هذين العلمين وما نوع العلاقة بينهما؟ ب- عالج فانتز برانتانو " 1838 - 1917 " هذه المسألة فيمن عالجوها، فكان طليعة المدرسة الجديدة. عالجها على طريقة المدرسية الأرسطوطالية فقد كان قسيسًا كاثوليكيًّا ثم صار أستاذًا بجامعة فورتزبورج. كان المدرسيون يميزون بين المنطق وسائر العلوم بقولهم: إن موضوعات هذه العلوم مقصودات أول للفكر يتجه إليها أولا, وإن موضوعات المنطق مقصودات ثوانٍ يحصل عليها الفكر برجوعه على نفسه والنظر في مناهج التفكير دون مادته. فقال برانتانو: إن ظواهر الشعور تنقسم إلى ثلاث صور هي: التصور والحكم وظاهرتا المحبة والكراهية، وإن هذه الصور الثلاث حالات ثلاث للقصد أي: للإضافة إلى موضوع مقصود؛ ومتى كانت الأحكام بينة بأنفسها وصفت بأنها صادقة، ومتى كانت المحبة متجهة إلى موضوع ملائم والكراهية إلى موضوع غير ملائم وصفتا بأنهما على صواب, فعلى الصدق

والصواب يمكن إقامة نظرية في الحقيقة والقيمة؛ ولكل تجربة فكرية وجهان: أحدهما الموضوع "سواء أكان حقيقيا أم متخيلا" وهو طرف إضافة وهدف قصد، والآخر نفسي وهو مجرد "فعل" التصور والحكم والمحبة والكراهية، وعلى "الأفعال" يقوم علم النفس. ج- وأعظم أركان المدرسة إدموند هوسرل " 1859 - 1938 " الأستاذ بجامعة جوتنجن ثم بجامعة فريبورج "الألمانية". كان رياضيًّا أول الأمر؛ نشر كتابًا في "فلسفة الحساب" " 1891 " وقادته الرياضيات إلى الفلسفة كما كان شأن كثيرين من المحدثين، فقد استوقف نظره دقة الرياضيات ومتانتها واتفاق العقول عليها, بينما العقول مختلفة على النظريات الفلسفية وعلى منهج معالجتها، فأراد أن يجد للفلسفة أساسًا لا يتطرق إليه الشك ويسمح بإقامتها علمًا بمعنى الكلمة أي: برهانيا، وتوسل إلى غرضه باصطناع فكرة القصد كما بينها برانتانو، وشرع يبني مذهبه, فنشر كتابًا "في المنطق" في مجلدين " 1900 , 1901 " وكتابًا "في الفينومنولوجيا" " 1913 " وآخر في نفس الموضوع " 1928 " و"تأملات ديكارتية أو المدخل إلى الفينومنولوجيا" " 1931 " وهو مجموعة محاضرات ألقاها في السوربون. د- إنه يضع مبدأين: أحدهما سلبي والآخر إيجابي. المبدأ السلبي أنه "يجب التحرر من كل رأي سابق، باعتبار أن ما ليس متبرهنًا ببرهان ضروري فلا قيمة له". والحالة النفسية المطلوبة هنا تشبه حالة الشك الكلي عند ديكارت مع هذا الفارق وهو أن هوسرل لا يستند مثل ديكارت إلى أسباب للشك, فلا ينكر العالم الخارجي ولا يرتاب في وجوده ولكنه يطلب إلى العقل أن "يضع بين قوسين" الوجود الواقعي للأشياء لكي يحصر نظره في خصائصها الجوهرية كما هي ماثلة في الشعور، ومع اعترافه بأن هذا الموقف غير طبيعي وأنه مؤقت يتيح للعقل أن يتناول الموضوع بريئًا من كل واسطة مشوهة فينظر فيه نظرًا صافيًا. والمبدأ الإيجابي يدل على ماهية هذا الموضوع إذ يقول: إنه "يجب الذهاب إلى الأشياء أنفسها" أي: إلى الأشياء الظاهرة في الشعور ظهورًا بينًا، مثل اللون الأزرق أو الأحمر والصوت والحكم وما إلى ذلك من ماهيات ثابتة مدركة بحدس خاص. هذا على حين أن لوك وسائر الحسيين يصفون كثيرًا من الظواهر بأنها تتكون بالمضاهاة

والتأليف، وأن الآليين يعتبرون الإحساسات جملا لاهتزازات تقع على الأعضاء الحاسة، وأن كنط يعتبر الموضوع المحسوس مركبًا من كيفية آتية من الخارج, ومن صورتي المكان والزمان, ويعتبر الحكم مركبًا من موضوعين محسوسين ومن مقولة يطبقها عليهما العقل. إن الماثل في الوجدان ماهيات معينة, وليس للوجدان أي علم بالعناصر أو الاهتزازات التي يقال: إنها جملتها. هذه الماهيات هي الظواهر البينة بأنفسها أي: "المدركة مباشرة في جميع وجهاتها" وهؤلاء الفلاسفة وأضرابهم يشوهون موضوع الفلسفة لصدورهم عن آراء سابقة لا مسوغ لها. هـ- ويجب ملاحظة نقطتين بنوع خاص: الأولى أن الظاهرة موضوع معروف, وأنها في الوقت نفسه المعرفة بهذا الموضوع أي: فعل نفسي؛ وهذه الإضافة الجوهرية إلى الموضوع التي هي "قصد" إلى الموضوع هي عين طبيعة المعرفة، أي: إن المعرفة والمعروف متضايفان. النقطة الثانية أن الموضوع المعروف يجب أن يستمد من الواقع ويدرك بالحواس الظاهرة والباطنة جميعًا كما يحدث في الإدراك الظاهري، وأن تترك له خصائصه التي تتبين للعقل دون محاولة الكشف عن أصله وتكوينه, إذ إن كل ما يقصد إليه الفكر هو معنى أو "موضوع" أصيل لا يرد إلى عناصر. وعلى ذلك يتعين دراسة الموضوعات كما تبدو في الشعور, وهذه مهمة "فلسفة الظواهر" وقد كان هوسرل أول من أطلق هذا اللفظ علمًا على فلسفة بأكملها 1. هذه الفلسفة نقد جديد للمعرفة يقصد إلى توخي الدقة أكثر مما فعل ديكارت ولوك وهيوم وكنط، فتأخذ على نفسها أن تصف الظواهر بكل دقة وترتبها بكل إحكام، وخصوصًا المعاني الأساسية في العلوم، بغية توضيحها وتعريفها، وحينئذ تكون معرفتنا واقعة على "ماهيات" بخصائصها الثابتة كفيلة بتأسيس علوم بمعنى الكلمة كالرياضيات. ووكان لهوسرل تلاميذ نابهون، أبرزهم مارتن هيدجر " 1889 " وماكس

_ 1 ورد هذا اللفظ عند الألماني لمبرت في كتابه "الأورغانون الجديد" " 1764 " للدلالة على نظرية الظواهر الأساسية للمعرفة التجريبية، وعند كنط للدلالة على مثل هذا المعنى ولكن في حد أضيق كتابه "ميتافيزيقا الطبيعة" " 1786 "؛ وعند هجل "فينومنولوجيا الروح" " 1807 " للدلالة على المراحل التي يمر بها الإنسان حتى يصل إلى الشعور بالروح، وعند هملتون ""دروس في الميتافيزيقا" 1858 " للدلالة على فرع من "علم الفكر" هو الذي يلاحظ مختلف الظواهر الفكرية ويعممها.

شلر " 1874 - 1928 " ونكولاي هارتمان " 1882 " لا يضعون العالم الخارجي بين قوسين، بل يقولون بوجوده بتطبيق مبدأ القصد إلى الموضوع والشعور بوجود الموضوع، ويحللون الإنسان تحليلًا "وجوديًّا" على طريقة كيركجارد, فيصفون الانقباض والحفيظة وخوف الموت وما إلى ذلك من الانفعالات 1. وقد تغلغلت هذه الطريقة في علم النفس وعلم الاجتماع والأخلاق وفلسفة الدين, فبعد أن كان المنهج المتبع في هذه العلوم رد المركب إلى البسيط وتفسير التركيب بالنشوء التدريجي، قام أنصار "فلسفة الظواهر" يضعون الظواهر الباطنة والمؤسسات الاجتماعية والقيم الأخلاقية والدينية بمثابة أمور أصيلة لأنهم يجدونها هي هي خلال مظاهرها المختلفة, بحيث تبدو هذه الفلسفة كأنها في الأكثر منهج للتحرر من التصورية والحسية والرجوع إلى موقف العقل العام الذي طالما عارضه الفلاسفة وسخروا منه. 216 - خاتمة الكتاب: أ- نقف عند هذا الحد ولو أنه قد يوجد بين الفلاسفة المعاصرين من يكونون حقيقيين بالذكر. ولكن القارئ قد شعر من غير شك, وقد شعرنا نحن أثناء تحرير الكتاب شعورًا قويًّا أن المذاهب الكبرى معينة منذ زمن طويل يرجع إلى اليونان، وأن الفلاسفة الذين جاءوا فيما بعد بذلوا مجهودهم في تمثيلها والتفكير على غرارها، فالقول بتمايز الموجودات جوهرًا وماهية، يقابله القول بوحدة الوجود؛ واعتبار الوجود ماديًّا خاضعًا للآلية، يقابله توكيد لوجود الروح والحرية؛ والاعتقاد بموضوعية المعرفة، يقابله الاعتقاد بأن المعرفة لا تقع إلا على الصور والمعاني الماثلة في الذهن، والاعتقاد بأن معرفتنا قاصرة على ما يجيء عن طريق الحس أو يبدو أنه يجيء عن طريقه، يقابله الاعتقاد بأن معرفتنا تنتظم

_ 1 ومن الوجوديين الألمان كارل ياسبرس " 1883 " الأستاذ بجامعة هيدلبرج، وهو يصدر عن كير كجارد ونيتشي في تحليلهما النفسي، ولكنه يرمي إلى منهج علمي دقيق، فيحلل المواقف الممكنة للإنسان من العالم، وما ينبغي أن يتخذه الفرد من قرارات في الحالات المحتومة كالموت والصراع، ومختلف الطرق التي يواجه بها هذه الحالات. وهو يجنح إلى الدين. والفلسفة الوجودية وفلسفة الظواهر متصلتان متداخلتان عنده وعند غيره، وقد صارتا إلى الأدب أقرب منهما إلى الفلسفة.

أيضًا معاني مجردة ومبادئ ضرورية. هذه المذاهب تعود خالصة، أو تختلط فيما بينها بمقادير مختلفة، كأن يكون مذهب وحدة الوجود ماديًّا أو أن يكون روحيًّا معتمدًا على التصورية العقلية؛ أو كأن يكمل المذهب الحسي بشيء من المذهب العقلي كما نرى عند كنط وأشياعه؛ وهكذا مما مر بنا أمثلة كثيرة عليه. ب- فتطور الفلسفة عبارة عن تداول هذه المذاهب وما تنطوي عليه من مسائل وحلول، تداولًا خاضعًا للبيئة العقلية والعوامل التاريخية وأمزجة الفلاسفة. ألم نر أن لكل أمة عقلية خاصة تغلب على تفكير أبنائها وتلون فلسفتها؟ وأن مذهب الفيلسوف يفسر بتكوينه العقلي والخلقي بل الجسمي أيضًا؟ وتداول المذاهب هذا يجعلنا نقول: إن تقدم الفلسفة قد حدث في الفروع والتفاصيل منذ عهد اليونان دون الأصل واللب، وإن مذاهب الفلاسفة المحدثين تأليفات جديدة لعناصر كانت معروفة. فلا نطلب من تاريخ الفلسفة تطورًا مستقيمًا يمضي من الناقص إلى الكامل ومن الخطأ إلى الصواب. إن مثل هذا التطور لم يحدث إلا في الفلسفة اليونانية حتى اكتملت على أيدي أفلاطون وأرسطو، ثم تناولتها العقول وتصرفت فيها على أنحاء شتى. فكل ما يقدمه لنا تاريخ الفلسفة صور هي أشبه ما تكون بتلك التي يقدمها لنا تاريخ الأدب، حتى لقد صارت الفلسفة فنًّا من الفنون تابعًا للذوق الشخصي والتجربة الذاتية، وذاع الشك في إمكان الوصول إلى حقيقة مشتركة مطلقة. ولكن ما لهذا فكر العقل، وما بهذا يمكن أن يقنع، فتنوع المذاهب أدعى إلى حفز الهمة للبحث عن الحقيقة منه إلى القعود واليأس، لا سيما أن مصيرنا في الميزان: فما فكر الإنسان إلا ليعلم أي طريق يسلك في الحياة. وإن عصرنا الحاضر، على تضارب الآراء فيه، توَّاق إلى فلسفة تكفل الأخلاق والدين, ولكنه لا يملك لمثل هذه الفلسفة إلا أسبابًا واهية متداعية، وما من ريب في أنه قد استنفد محاولات البناء بهذه الأسباب؛ ولا يتسنى البناء إلا بعد الإيمان بالعقل إيمانًا صريحًا قويًّا، والفكر الحديث متردد بين إنكار للعقل وقناعة بالحس فقط، وبين إيمان بعقل مقطوع الصلة بالوجود, ولعل إخفاق التجارب ونفاد الحيل يعودان به إلى الحق يومًا ما.

مراجع

Brehir "Emile", Histoire de la philosophie, 2 vol. 1927 - 1932 المجلد الثاني يدور على الفلسفة الحديثة. وفيه ذكر مراجع كثيرة. ونحن نقتصر هنا على بعض الكتب الإفرنجية المخصصة لكبار الفلاسفة، وبعض الكتب العربية الحديثة العهد. Liard (Louis) , Descartes, 1882 . Hamelin (Octave) , Le Systeme de Descartes, 1911 . Bouillier (Francisque) , Histoire de la philosophic cart^sienne, 2 vol., 3 c eait. 1868 . Boutroux (Emile) , Pascal, igoo. Gouhier (Henri) , La philosophic de Malebranche et son experience religieuse, 1926 . Dc bos (Victor) , Le probleme moral dans la philosophic de Spinoza, 1893 . Delbos (Victor) , Le Spinozisme, 1916 . Russell (Bertrand) , A Critical exposition of the philosophy of Leibnitz, 1900 . — Trad. Franc.. 1908 . Couturat (Louis) , La Logique de Leibnitz, 1901 . Boutroux (Emile) , Editions de la Monadologie, et dcs Nouveaux Essais sur 1 'entendement humain, avec Introd. et notes. Gibson (J.) , Locke's theory of knowledge and its historical relations, Ollon (H.) , La philosophic generate de Locke, 1908 . Joussain (A.) , Expose critique de la philosophic de Berkely, 1920 . Baladi (Naguib) , Lapensee religieuse de Berkely et l'unite de sa philosophic, Le Caire, 1945 . Hendel (Ch. W.) Studies in the philosophy of D. Hume, 1925 . Leroy (Andre 1) , La Critique et la Religion chez D. Hume, 1930 .

Delbos (Victor) , La philosophic pratique de Kant. 1905 . Ruyssen (Th.) , Kant, 1909 . Boutroux (Emile) , La philosophic de Kant, 1926 . Ward (J.) , A Study of Kant, 1922 . Ldon (Xavier) , Fichte et son temps, 3 vol. 1922 - 24 - 27 . Bre"hier (Emile) , Schelling, 1912 . Roques (P.) , Hegel, sa vie et ses ceuvres, 1912 . Ruyssen (Th.) , Schopenhauer, 1911 . LeVy-Bruhl, La philosophic d'Auguste Comte, 1900 . Hamelin (Octave) , Le Systeme de Charles Renouvier, 1927 . Lichtemberger (Henri) , La philosophic de Nietzsche, ue. ed., 1908 . Maritain (Jacques) , La philosophic bergsonienne, 2 e. ed., 1930 . Le Roy (Edouard) , Une philosophic aouvelle, H. Bergson, 1922 . Janke"levitch, Bergson, 1930 . Tonque'dec (J. de) , La notion dc ve'rite dans la philosophic nouvelle, 1908 . Sur la philosophic bergsonienne, 1936 . Boutroux (Emile) , William James, 1912 . Wahl (J.) , Les philosophies pluralistes d'Angleterre et d'Ame'rique, 1920 . Parodi (D.)} La philosophic contemporaine en France, 1926 . Lc probleme moral et la pens^e contemporaine, 1930 . Wolf (A.) , Recent and Contemporary Philosophy, in Outline of Modern Knowledge, ch. V. عباس محمود العقاد: فرنسيس بيكون. القاهرة 1944. عثمان أمين: ديكارت. طبعة ثانية مزيدة ومنقحة. القاهرة 1946. الدكتور أبو العلا عفيفي: فلسفة المحدثين والمعاصرين. ترجمة مقال A. wolf المذكور آنفا. القاهرة 1936.

قاموس الأعلام, وبإزاء كل علم رسمه الإفرنجي: أمرسون Emerson أنجلز Engels "Frederich" أوستفالد Ostwald "Wilhelm" برادلي Bradley براسلس Paracelse براون "توماس" Brown "Thomas" برتلو Berthelot "Rene" برجسون Bergson "Henri" بركلي Berkeley "Georges" برنتانو Brentano "Frantz" برودون Proudhon برونو "جيوردانو" Bruno "Giordano" بساريون Bessarion "Cardinal" بسكال Pascal "Blaise" بك دي لاميراندول Pic de la Mirandolle بلوندل Blondel "Maurice" بتنام Bentham "Jeremias" بوانكاري Poincare "Henri" بوترو Boutroux "Emile" بوخنر Buchner بوزانكت Bosanquet بونالد Bonald "de" بونبوناتزي Ponponazzi بوهمي Boehme "Jacob" بيرس Peirce "Charles" بيريل Berulle "Cardinal de" بيشا Bichat بيكون Bacon "Francis" بيل Bayle بين Bain "Alexander" تولاند Toland تين Taine "Hyppolite" جساندي Gassendi جليليو Galileo جيو Guyau "Jean Marie" جيوبرتي Gioberti جيمس "وليم" James "William" دروين "إراسم" Darwin "Erasme" دروين "تشارلس" Darwin "charles" دريش Dreiesch

دستو دي تراسي Destut de Tracy دوركايم Durkheim "Emile" دوهيم Duhem "Pierre" ديدرو Diderot ديكارت Descartes "Rene" ديوي Dewey رافيسون Ravaisson "Felix Ramus" راموس "أو" دي لارامي Ramus "ou Pierre de la Ramee" رسل "برتراند" Russell "Bertrand" رنان Renan "Ernest" رنوفيي Renouvier "Charles" روايي كولار Royer-Collard روسميني Rosmini روسو Rousseau "Jean Jacques" رويس Royce سارتر Sartre سان سيمون Saint-Simon سبنسر Spencer "Herbert" سبينوزا Spinoza "Baruch" ستوارت Stewart "H. F." سكرتان Secretan "Charles" سنتانايا Santanaya سويدنبورج Swedenborg شفتسبري Shaftesbury شلنج Schelling شوبنهور Schopenhauer فختي Fichte فخنر Fechner فوريي Fourier "Charles" فونتنيل Fontenelle فويبي Fouillee "Alfred" فجنر Wagner "Richard" فولتير Voltaire فولف Wolf "christian" فوندت Wundt فيبير Weber "E. H." كابانيس Cabanis كبلر Kepler كردان Cardan "Jerome" كرليل Carlyle كريمونيني Cremonini كمبانيلا Campanella كنط Kant كوبرنيكس Copernic كورنو Cournot كوزان Cousin "Victor" كوسا "كردينال دي" " Cardinal de" Cusa كوفيي Cuvier كولردج Coleridge

كونت "أوجست" Comte "Auguste" كوندورسي Condorcet كوندياك Condillac لكيي Lequier "Jules" لوتزي Lotze لوك Locke "John" ليبنتز Leibniz ليتري Littre ليفي بريل Levy-Bruhl ليوناردو دافنشي Leonardo da Vinci مالبرانش Malebranche مرسيليو فيتشينو Marsilio Ficcino مرسين Mersenne مركس "كارل" Marx "karl" مل "جيمس" Mill "James" مل "جون ستوارت" Mill "John-Stuart" ملتوس Malthus منسل Mansel مولسكوت Moleschott مونتسكيو Montesquieu مونتني Montaigne مستر "جوزيف دي" Maistre "jOSEPH DE" مين دي بيران Maine de Biran نيوتن Newton نيومان Newman نيتشي Nietzsche نيفو Nifo هارتل "ديفيد" Hartley "David" هارتمان Hartmann هارفي Harvey هتشسون Hutcheson هجل Hegel هكسلي Huxley هلفسيوس Helvetius هلمولتز Helmoltz هملتون Hamilton هوايتهيد Whitehead هوبس Hobbes هوسرل husserl هيكل Haeckel هيوم Hume "David" لاروميجيير Laromiguiere لاشيليه Lachelier "jules" لالاند Lalande "Andre" لامارك Lamarck لامتري La Mettrie "de" لامني Lamennais "Felicite de" لنجي Lange

§1/1