تاريخ الفكر الديني الجاهلي

محمد إبراهيم الفيومي

مقدمات

مقدمات مقدمة الطبعة الرابعة ... مقدمة الطبعة الرابعة: لقد نفدت طبعات ثلاث من هذا الكتاب: "في الفكر الديني الجاهلي"، أما هذه الطبعة الرابعة فتأتي في ثوب جديد، فغير في عنوانها بعد أن استوفى الكتاب موضوعات تاريخية، كنت قد اشرت إليها إشارات سريعة، ظننت القارئ تكفيه تلك الإشارة. ولكن تبين لي في مراجعاتي أنها موضوعات حرية بالبحث والدراسة، تغلقها الإشارة ولا تفض معناها، فأخذت في عرضها وتقصيها. وشأن البحث؛ تتابعت المسائل مسألة إثر مسألة، وتداعت القضايا، وتجددت زوايا، وامتدت آفاق أبعادها، وتغيرت رؤيتين فما كنت أحسبه بالأمس داخلا في عداد القضايا الزائدةن لم يعد الحال كما كان يخيل إلي قبل. من هنا توسعت النظرة المنهجية في إعادة النظر إلى موضوع الكتاب من جديد، على ضوء ما نشرته المطابع جديدا من المصادر القديمة، وما ترجم من دراسات حديثة، وما تكشفت عنه بعثا الآثار، والبحث عن اللقى والخفايا المطوية في باطن الأرض، وشواهد باقية للأمم الخالية. لذلك جاءت تلك الطبعة تحمل عنوانا جديدا يتناسقب مع ما استوفاه من زيادة وتحرير ومراجعات، وهو "تاريخ الفكر الديني الجاهلي". وهو على هذه الصورة الجديدة التي حاولنا أن نستوفي فيها الدقة والتحرير ما زال يحمل في ثناياه صفات النقص البشري وضعف مسعاه والله نسأل أن يتجاوز عن أخطائنا ويجعله مقببولا وبالله التوفيق. د. محمد إبراهيم الفيومي تحريرا في 10 يونيو 1994م غرة المحرم 1415هـ.

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدمة الطبعة الثالثة: طرح العرب قديما قضية "علاقة الرسول بالأديان السابقة" على بعثته إبان دعوته التي دونها القرآن ورد عليها وكان أهم ما يبغون من ورائها دعوى: "بشرية القرآن". وتعني بشرية القرآن من حيث السند التاريخي: عزوه إلى تاليف محمد أي أن القرآن من وضع بشري. وليس من قول إلهي، وتعني القضية أيضا أن محمدا ليس برسول لكنه هو مفكر استطاع أن يؤلف القرآن. هذه هي جوانب قضية "بشرية القرآن". سجلها القرآن، على أنها دعوى مفتراه من العرب على الرسول في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1، هذه الآية على قصرها تناولت القضية شكلًا ومضمونًا، دعوى وردًّا عليها حين قالت: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} هذه هي الدعوى، أما الرد عليها فجاء تاليا بعدها مشارًا إليه في الآية ذاتها في قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . فالدعوى والرد عليها من قبل القرآن أفادانا من حيث الجانب التاريخي: أنها قديمة منذ أن بلغ الرسول رسالته وقام بعبء الدعوة إليها. كذلك تفدينا من جانب آخر أن القضية حين سجلها القرآن -ونحن نعلم أن القرآن كتاب عالمي، لا يختص بزمان ولا بمكان ولا بأمة- كان معنى ذلك أن تسجيلها إنما هو تسجيل للرد على تلك القضية، قضية "بشرية القرآن"، وعلى العقل الإنساني -أنى وجد وحيثما اتفق- أن يدرس تلك الدعوى على الرسول، فالقرآن سجلها؛ ليعين المسلم وهو بصدد التيارات الفكرية على أن يدفع تلك القضية؛ لأن القرآن دافع عنها، ثم هي في النهاية تصيب صميم دينه هذا ما تعنيه قضية بشرية القرآن بشكل عام. أما شكلها التفصيلي -وهو موضوع الدراسة- فإنه يحتاج إلى تسطيح القضية

_ 1 الآية 103 من سورة النحل.

بعد تحليلها تاريخيا من جانب، وواقعيا من جانب آخر مع الاهتمام بالجانب المنطقي في مناقشة بعض القضايا الموضوعية التي سوف نعرض لها فيما نعرض؛ ليطرح العقل سؤاله من خلال إثارة دعوى بشرية القرآن. وحقيقة إن هناك أسئلة كثيرة لكن من الممكن أن ترتد إلى سؤال واحد يقول: إذا كان الرسول ألَّف القرآن وهو الآن بين أعيننا وبين أيدينا فيا ترى متى تعلم الرسول؟ وفي أي مدرسة من المدارس القديمة انتظم فيها؟ وهل ترى -عندما ألف القرآن- استمده من المسيحية؟ أو من اليهودية؟ أو تلك الصابئة؟ أو من المجوسية؟ أو من الوثنية؟ وهل كانت هذه الأديان أو تلك الملل منتشرة في الجزيرة العربية؟ وبأي لغة كانت، ونحن نعلم أن هذه الأديان ليست ناشئة في مكة وإنما نشأت بعيدا عن الجزيرة العربية، وحقيقة كانت بلسان أعجمي. فالمسيحية لم تكن بلسان عربي وإنما كان لسانها لسانًا سريانيًّا. واليهودية لم تكن بلسان عربي وإنما كان لسانها لسانًا عبرانيًّا. والمجوسية كذلك لم تكن بلسان عربي وإنما كان أعجمية وباللسان الفارسي. وكذلك الصابئة لم تكن بلسان عربي وإنما كان لسانها لسانًا آراميًّا. وكذلك الوثنية الفكرية لم تكن باللسان العربي وإنما كان لسانها إغريقيًّا رومانيًّا على أساس أن الفلسفة اليونانية كانت لا تعتقد بعقيدة دينية وإنما كانت تؤمن فيما تؤمن بالعقل الإنساني وفكره فحسب، فإذا ما تكلمنا عن الوثنية الفكرية فلا بد للذهن أن يتجه نحو اليونان. أما الوثنية المنتشرة في العرب فإنها كانت وثنية ساذجة ليس لها مضمون فكري. وهي أيضا -كما تذكرة الرواية العربية- وفدت إلى العرب على يد عمرو بن لحي حينما جاء "بهبل" من بلاد "البلقان" أيام الإسكندر الأكبر هكذا جاء في المراجع العربية. فالوثنية العربية -على الرغم من أنها وفدت إلى العرب- كانت وثنية لا تخرج

عن عبادة الحجر من غير شكل فني أي من غير صورة يخلعها العربي على هذا الحجر نحتا أو تصويرا ولكنه كان يكتفي من الحجر بعبادته فحسب. وواضح مما قدمناه سابقا أن الأديان التي انتشرت في الجزيرة العربية ومكة منها والتي جمعها الله في قوله تعالى1: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى آخر الآية. هذه الأديان -كما عرضنا سابقا- كانت أعجمية وفق ما قال القرآن: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ، فتسجيل القرآن لتلك الأديان يعني من وجهة النظر التاريخية أن العرب كانوا يعلمون شيئا أو أشياء عن تلك الملل والنحل "الأديان والمذاهب" المنتشرة في أجواء الجزيرة العربية. فهل ترى أي شيء تعلَّم منها محمد؟ وما اللغة التي قدر لمحمد أن يتعلمها؟ قطعا الإجابة سوف توجه بشكل تحليلي، بمعنى أننا سوف نسير بخطوط متوازية مع تلك الأديان وعلاقة الرسول بها. وذلك موضوع الكتاب. وليس في هذه الطبعة جديد أضفناه سوى تحرير ما رأينا تحريره وتنقيحه فهي الطبعة الثالثة التي تزيد كثيرا على الطبعة الثانية. والله من وراء القصد مصر الجديدة يوم الاثنين محمد إبراهيم الفيومي 7 صفر سنة 1402 2 أكتور 1982

_ 1 جزء من الآية 17 من سورة الحج.

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية: نفدت الطبعة الأولى في العام الأول من طبعه، وكنت غير راضٍ عنها إخراجا وتحريرا؛ لأني لم أشرف عليه حال طبعه حيث سافرت إلى جامعة قطر. لذلك تأتي هذه الطبعة وقد حرر فيها وزيد عليها وتلافينا بقدر الإمكان ما انبثَّ بين سطور الطبعة الأولى من أخطاء، ولولا أن الطبيعة الإنسانية تتميز بأنها تصيب وتخطئ وهي في صوابها تعمد إليها وتتحراه وفي خطئها لا تعمد إليه ولا تتحراه إنما تندفع إليه حين تتخيله أنه صواب لولا ذلك لقلنا: إنه جاء غير منقوص. والله ولي التوفيق محمد إبراهيم الفيومي مصر الجديدة يوم الخميس الموافق: 5 رمضان 1400هـ 17 يولية 1980م

مقدمة

مقدمة: أما قبل: فمنذ أن كان للشرق تراث كان ينقسم قسمين: - قسم مقدس. - وقسم غير مقدس. أما القسم المقدس؛ فهو الذي أوحى الله به للإنسان أي: ما كان أصله الوحي الإلهي. وأما القسم الآخر: فهو ما سوى ذلك. ونعني بصفة التقديس: 1- أنها تشتمل على معنى تعبدي. 2- أن الإنسان مطالب بعدم ردها. 3- أنها محددة من حيث الاتجاه العام بأوصاف معينة: فهي من حيث الزمان: لا يُسأل عنها الإنسان إلا في سن معينة، ومن حيث المكان: يتعين على الإنسان في عبادته أن تكون نحو مكان معين. ويرتبط الإنسان بها من خلال مستوياته العامة: من مستواه العقلي إلى مستواه الوجداني وتبرز في سلوكه تطبيقًا عمليًّا. ولها أركانها المكونة لها من حيث أساس بنيانها: الركن الأول: الله، والركن الثاني: الوحي، والركن الثالث: الرسول. والتراث المقدس يرتبط بالمادة والروح معا غالبا. وتصبح الصفة العامة للتراث المقدس: أنه موضوع للعبادة أو للتعظيم مثل الكعبة والحجر الأسود؛ فإنها مثل للتعظيم وليست للعبادة. والعبادة تقتضي: عابدا ومعبودا وعلاقة: عابدا: وهو الإنسان، ومعبودا: وهو الله، وعلاقة: وهو الرسول.

والإنسان مع التراث المقدس بين أمرين: - لأنه إما مؤمن. - وإما غير مؤمن. فنلمس هنا أننا أمام أمرين: إما وإما، أي أننا في حرية من حيث الاعتقاد في التراث المقدس، ولكن حرية الاعتقاد مقرونة بالتخويف والوعيد وسوء العاقبة والطرد من رحمة الله. فعدم الإيمان على المستوى النفسي: يؤدي إلى تهويش في الرؤية نحو غد الآخرة، هذا من حيث مستوى الإنسان النفسي. ومن ناحية عضويته في الهيئة الاجتماعية: نراه -أيضا- مهددا بالطرد منها، وغير مشهود له بالعدالة، وقد تنادي بعض طبقات الهيئة الاجتماعية بحل دمه، فلا رفق ولا لين -من ناحية الهيئة الاجتماعية- مع مريض الإيمان؛ لأن هذا المرض الذي يلم بصاحبه تنتشر عدواه في المجتمع، وهو من الأمراض الخبيثة التي يرى المجتمع أنه يجب عليه مكافحتها، ويحجر على من في قلوبهم زيغ مخافة الفتنة، هذا من ناحية عضويته في الهيئة الاجتماعية. أما من حيث صلته بتراثه التاريخي: فهو بموقفه الرافض للإيمان يشق عصا طاعة تراثه، وتلك وصمات سياط قاسية يتعرض لها من يزور عن الإيمان ويجاهر بازوراره. ونرى حالات شتى لمن توقفوا بين الإيمان وعدمه؛ فنرى منهم من التزم الصمت بعدم المجاهرة مع دأبه في البحث والمطالعة مثل: الإمام الغزالي، الذي قال واصفا حاله -عندما انتابته هذه الحالة- حالة تهديد إيمانه الراسخ- "مكث على هذه الحالة قرابة شهرين بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال" أي أنه ظل صامتا دأبه على البحث عن جسر الحقيقة، ثم انتهى بعد مرحلة صمته إلى نتائجه الإيمانية التي ربطته بالهيئة الاجتماعية وبعقيدته وتراثه التاريخي، وجعلته عن جدارة يُوصف بحجة الإسلام. ويبدو أن الغزالي كان يرى وصفه بذلك اللقب حقا في نفسه، وذلك عندما قال في كتابه "المنقذ" لما رأى حالته وما هو عليه من قلق في حله وترحاله قال: وارتبك الناس في الاستنباطات وقالوا: عين أصابت أهل الإسلام.

أي أن ما أصاب الغزالي أصاب أهل الإسلام، وعلى أي حال هذا نوع من الإسراف في فهم الذات، وإلا فكيف نفهم أو يفهم الغزالي: أن ما طرأ عليه -من اضطراب أو قلق في أهل الإسلام؛ هذا صنف. وهناك نوع آخر من الناس تلابسه تلك الحال -حال التوقف في مسائل الإيمان- التي تراهم يهربون منها وبها إلى آراء فلسفية ويلبسونها ألبسة دينية، وفي النهاية لا ندري أهي فلسفة أو دين؟ وعلى أي حال هو نوع من الملق الفكري الاجتماعي يلجأ إليه صاحبه حذر التنكيل به أو اضطهاده من قبل الهيئة الاجتماعية، وقد عرف التاريخ الفكري هذا اللون أيضا وحفظ شعاره وهو: التوفيق بين الفلسفة والدين، وهو شعار طريف فيه طرافة ومتعة للعقل بيد أننا من ناحية النقد العقلي أو العلمي نراه هشًّا ومهوشًا؛ لأننا فيه نساوي بين ما هو مقدس -ونحمل أنفسنا على الدينونة به- وما هو غير مقدس نرى فيه حريتنا الفكرية وذاتيتنا وتمردنا. فهل يا ترى أي الصفتين أردنا إلباسها بالأخرى؟ هل أردنا إلباس صفة التقديس للفلسفة أم أردنا إلباس صفة البشرية للدين؟ على أي حال جانب الطرافة واضح وجانب التهويش في القضية أوضح، لذلك قلنا: إن هذا اللون من الملق الفكري للهيئة الاجتماعية وفي الوقت نفسه توسعة في مفهوم المقدس، وفي توسعة مفهومة جور على العقل والدين. بعد ما سبق نرى: أن التراث المقدس ضروري، وتظهر ضرورته في حياة الإنسان الدينية وفي المجتمع حين لا يحجر على الفرد إلا بعد مجاهرته بعدم الإيمان، وأما حقيقة العقيدة فهي تحدد في المستوى النفسي وأمام الله. على أن التراث المقدس وهو ما كان من الله أو من رسوله، وصفة التقديس تطلق حقيقة على ذلك شكلًا وموضوعًا. وأصبحت القاعدة في مصدر المقدس وغيره قولهم: كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب الروضة الشريفة. تبدُّل مفهوم المقدس: ثم تبدل مفهوم المقدس في نفس الإنسان وفي علاقته به، وكما لاحظنا أن الالتزام بالمقدس شيء ضروري، وأنه ليس بالهين ولا باليسير على الإنسان تركه،

ولا سيما أن تركه فيه ما يعرضه لمصاعب نفسية واجتماعية لا يقوى على تحملها فسوف يكون في تحملها انتحاره. وعلى الرغم من أن المقدس تكتنفه تلك الصعوبات أو كما وصفه القرآن بقوله1: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} . وقوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} 2. نقول: على الرغم من تلك التبعات وجد بجانب الأديان الصادقة والنبوءات الصادقة أديان كاذبة؛ أي: وجد بجانب المقدس الحقيقي مقدس غير حقيقي. معنى ذلك -كما يفيدنا التاريخ- أن في الإنسان جانبا يحب الالتزام ببعض المبادئ وعليه أن يرعاه بالاعتقاد المقدس، فطلبا لحاجات الإنسان الروحية تبني متنبئون كثيرون هذا الجانب وأثروه بما شاءوا له من ثروات وبما طاب لهم من قول. فالنبوءات الكاذبة توسع وتخييل في مفهوم المقدس، وقلنا: "توسع"؛ لأنها في حقيقة الأمر ليست من عند الله، لا وحيًا ولا تكليفًا، وتبين لنا في وضوح أن وجود الشيء المقدس الذي حمل الإنسان نفسه عليه كان لا يرى فيه أنه يلغي حريته؛ لأن عدم وجوده دعاه إلى طلبه وأعانه عليه شعوره بالحاجة إليه. كذلك النبوءات الكاذبة: هي التي شلت العقل الشرقي عن أن يتابع وظيفته، وكان دور العقل معها شاقًا وعسيرًا حينما عزلته عن مناقشتها أو حتى عن فهم رمزها كما عرضت الأنبياء الصادقين لمحن القتل والاضطهاد وهم بصدد تحرير الفكر البشري والتشريع الإلهي من زيف المزيفين، وقد لبست النبوءات الكاذبة ثوب الصادقين؛ لتلبي حاجة الإنسان الضرورية إلى المقدس الحقيقي، وفي ذلك كله ما يؤكد أن في الإنسان حبًّا وميلًا طبعيًّا يدفعانه إلى الالتزام بمبادئ مقدسة إن غابت يبحث عنها في نفسه ويصاب بالقلق إن لم يجدها، ويبحث عنها المجتمع إن غابت عنه؛ فهي عامل أساسي في بنائه وتوجيه علاقاته.

_ 1 الآية 5 من سورة المزمل. 2 الآية 72 من سورة الأحزاب.

ويصبح التاريخ في سيره من غير النبوءات الصادقة عاجزا عن السمو نحو الله. فالنبوءات الكاذبة شاركت في تزييف معتقدات الإنسان الدينية وألهته عن معتقداته الصادقة، ووسعت مفهوم المقدس حتى انحرفت بعبادة الإنسان الصحيحة إلى شتى الأنماط؛ كالنار والكواكب وغيرها، وعلمت الإنسان الشرقي كيف يخضع عن ذلة لغير الله، وأن الشرق -من الناحية التطبيقية- لا يحكمه إلا مستبد؟ وكيف يستبد وهو يعدل؟ وهو أيا معنى من معاني النبوءات الكاذبة التي عودت الإنسان الشرقي أن يخضع لغير الله باسم الإنسان المعصوم من الخطأ وهو العادل. بهذه الأوصاف التي ألبسها المزيفون عليه آمن الشرقي بأنه حقيقة وليس أسطورة، وبات يمني نفسه به كما منى "الفارابي" به نفسه في كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، وما زال بيننا من يعتقد في حكم المستبد العادل، وهو على أمل اللقاء به، وما زال ينتظره باسم المهدي المنتظر، أو الإمام المعصوم، أليس هذا المستبد العادل -المثل الأعلى في نظرية الشرق السياسية- يماثل نظرية الحزب الواحد في روسيا الشرقية من حيث الاهتمام بالرأي الواحد، وعدم الخوض في تصرفاته بالتعديل أو النقد، وعلى الإنسان -أخيرا- أن يقدم ولاءه للحزب فقط أو المستبد العادل، وأن ما لدى الحزب من آراء تماثل المقدس. وفي النهاية: إنها رؤية واحدة لرأي واحد، وما وراء ذلك كله من تخويف وإرهاب، وذلك عين التطرف والاستبداد المقدس فالإنسان الشرقي -هو رائد في حضارته العصرية- حكم نفسه من خلال تراث تاريخي مزيف وهو نظرية الواحد المستبد العادل، وهذا لون من التوسعة في معنى المقدس على المستوى السياسي. ووثنية الإغريق تعني من جانب الإنسان: إشباع حاجته الضرورية إلى إيجاد معنى المقدس في حياته، ورحلات فيثاغورث وأفلاطون إلى الشرق ساعدتهما على أن يرفضوا وثنيتهم؛ ليحلوا بدارهم وفكرهم فكرة: مثال المثل، أي: الذي لا يتغير ولا يتبدل، وهو المثال الأعلى الذي تتحول الإنسانية إليه محاولة العود إلى ما كانت عليه في رحاب الله. هذا توسع في مفهوم معنى المقدس، ومحاولة منهم لإيجاد صورة

طبق الأصل لما عليه الدين الحق، غير أنها في النهاية تفتقر إلى شعار خاتم النبوة؛ ليجيز معناها الحقيقي المقدس، على أي حال نرى في فكرة أفلاطون الفلسفية تمردا حقيقيا على الوثنية؛ لأنه كان يرى أن الوثنية إن صحت عقيدة شعبية، فإنها لا تصح عقيدة للفلاسفة الكبار أو حتى صغار الفلاسفة. هدف فكرة أفلاطون الفلسفية -ذات الطابع الديني الشرقي- السعي بها إلى تنزيه الله عن مستوى الفكر الفلسفي، عن مستوى العقيدة الشعبية الوثنية، وشاعت فكرة أفلاطون على يد من بعده من الفلاسفة الذين رضوا لأنفسهم أن يأخذوا بفكرته، ثم راحوا يطبقونها على القرآن، الذي أنزله الوحي الإلهي، وقالوا: إن ما فيه يلائم الحياة الروحية السائدة بين العامة وذوي السذاجة في الرأي، أما العلماء المستنيرون فيرون -من وراء استبطانه وما يعين عليه الإدراك- أن ما فيه حق وصدق، وهم أهل التأويل، ومنهم أهل التوفيق بين الفلسفة والدينن الذين يرون أنه ليس من المصلحة الدينية أن يكشف للعامة. أما من ناحية الموازنة العامة بين أفلاطون وأهل مدرسته من بعده فإنا نرى في موقف أفلاطون جدوى وله مسوغاته، وهو تمرده على الوثنية الإغريقية، أما موقف هؤلاء الفلاسفة كالفارابي مثلا: فإني رجوت نفسي أن تفهمه أو تنظر جدوى رأيه فتأبى عليها أن تفهمه، وتحصل لها من البحث في جدواه أن فيه من التقليد والتعصب الذي بجانب عقل الفيلسوف أو المفكر ما فيه. رُوي عن علي: وقد سئل: هل خصكم رسول الله بشيء؟ فقال: "ما عندنا غير هذه الصحيفة، أو فَهْمٌ يؤتاه الرجل في كتابه"، فعلاقة المقدس الحقيقي بالإنسان هي كما قال على: "فهم يؤتاه الرجل في كتابه" من غير مصادرة، أو تمييز خاص؛ لأن معايشة فهم كتاب الله حق للجميع بشروطه. على أي حال شاركت نظرية أفلاطون في مجال السياسة، فخلقت حرية الرأي واحترامه، أو الرأي ومعارضته، فلا يكافح أحدهما الآخر. وكان هذا معنى من معاني الديمقراطية اليونانية. ومن الذين توسعوا في "مفهوم المقدس" أولئك الذين دعوا إلى عبادة الوثنية في شتى أشكالها:

فمنهم الذين دعوا إلى عبادة الكواكب، وربطوا مصير الإنسان بمطالعها وإن ميلاده مرتبط بالمصادفة، فهو إن صادف ميلاده سعودًا في طالعه فهو سعيد، وإن صادف نحوسًا في طالعه فهو نحس أو شقي، فعبادة الكواكب خلفت: مشاكل الجبر، والتسيير، والمصادفة، والحظ، وفيها مصادرة حقيقية لحرية الإنسانية، وأصبح الوجود معها يشكل حرجًا في الوجود الإنساني، ومع ذلك عبدها الإنسان، واستلطف الارتماء في أحضانها، واستعذب شقاءه في عبادتها، فجبلته على رضا فيه معنى المذلة حين منحها الإنسان معنى المقدس الذي لا رد فيه ولا مراجعة. ومع ذلك وجد من الإنسان من ثار على ذلك النوع من العبادة، ورد للإنسان حريته واعتباره، فاستحدث السحر؛ ليلغي به سيطرة الكواكب عليه وعلى مصيره. وبالسحر استطاع الإنسان أن يعلن سيطرته على الأرواح ومدى قدرته على تسخيرها، ألهمته عرفانا بالغيب وأعانته على قضاء حوائجه، فغير بها من مستقبله ورفع بها من عظمته، وألغى من حياته سيطرة الكواكب عليه، وبوساطة السحر استبانت قدرة الإنسان في تمرده على عبادته. ولأول مرة تقع دولة الأرواح مستعمرة للإنسان، يجندها لخدمته، ولا تقوى على النفور منه إلا برسالة إلهية، قام بها نبي الله موسى، وذلك حينما بات الناس في خوف وعدم أمن من كيد السحرة، فرهبهم الناس، أي وقع الناس -وهم يفرون من سيطرة الكواكب- في أسر السحرة، ودخل الإنسان مرة ثانية تحت سيطرة الإنسان وهو من نوعه وجنسه، خوفا من سحر السحرة وألاعيبهم، وبه اقتناع أن عبادة الأرواح أصبحت غير مجدية إلا عن طريق سحرة وإرضاء أهوائهم فأصبح السحر يؤدي إلى نوع من الاستعباد للإنسان. ومن ثم اقتضت الحكمة الإلهية -وهي دائما تقف بجانب الحرية الإنسانية- أن ترسل رسولا؛ ليبطل كيد السحرة ويحقق الحرية الإنسانية التي لا تدين لغير الله. ودائما رسالة الله ترعى الإنسان في حريته وفي عبادته وما توحي به لا سيطرة لأحد عليه، وليس عليها قيم سوى كتاب، وأما من يدعي القوامة على كتابه فإنه يدفعه إلى ذلك حبه النفسي لأن يكون شيئا في الهيئة الاجتماعية.

وفي عبادة الحجر والشجر وأشكال الوثنية المختلفة توسع من الإنسان في معنى المقدس، ونلاحظ من وراء توسع الإنسان في الرمزيات المقدسة شيئا جوهريًّا يدفعه؛ ليحدث هذا التوسع؛ ذلك هو: شعور الإنسان بإرادته وحريته وخوفه من الكون وليس حبه له. وعلى رداءة الوثنية في مظهرها نجد أن معنى الحرية الإنسانية كامن فيها، فالإنسان الوثني شاء أن يقدس، فصنع إلهه، واختار حجره، ومثل شكله، وحدد مكانه، فأقامه، ثم إن شاء أن يستبدل بحجر آخر أو بشكل أحسن، ثم إن شاء الإنسان الوثني أن يسخر من إلهه، فعل غير مبالٍ لمعنى تقديسه فهنا سيطرة للإرادة الإنسانية على ما صنعت من رمزيات المقدس. لكنها حرية وجلة ذليلة حين منحت عظمتها لرمزيات ضئيلة لا تغني عنها شيئا ولكن لماذا فعلت ذلك؟ نرى -من وجهة نظرنا- أن التوسع في مفهوم المقدس يرتبط أيضا بمعنى الخوف المتزايد عند الإنسان الشرقي، وذلك حينما عجز الإنسان عن فهم الكون، ثم خافه فقدسه، فصفة الخوف من الكون استغلها دعاة الأديان الوضعية المتعددة في الشرق؛ فالديانات الوضعية المتعددة وراءها نزعة الخوف الناشئة من عدم تعقل الوجود. فالإفراط في المظهر التقديسي للأشياء مظهر من مظاهر الخوف. والتوسع في مفهوم المقدس: فيه راحة لوجدان الشرقي، وإلغاء لعقله وإلا فلماذا توسع في المقدس وهو يعلم أن التوسع ليس من مصلحة العقل. لذلك نقول -ومن غير إفراط- فيما نقول: إن الشرقي عندما يعجز عن فهم الشيء يخافه، ثم لا ينصرف عنه حتى يخلع عليه أثرا من آثاره النفسية، وهو التقديس، ومن خلال نزعة الخوف الكامنة في نفسه من الوجود تسهل قيادته، كذلك يتميز الشرقي بالإسراف في فهم ذاته، وذلك من خلال نصوص مقدساته فلا يكف عن نجوى ذاته بها. فاليهودية تقول: نحن أبناء الله وأحباؤه، نحن شعبه المختار. والمسيحية تقول القول نفسه مع اعتقادهم بأنهم أمة الخلاص.

والمسلمون على حالهم هذا يقولون: "خير أمة أخرجت للناس" من غير أخذ بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم. فهو لا يحب أن يفهم ذاته من خلال واقعها ويواجه أخطاءه، وهو لا يحب أن يفهم ذاته فقط إنما يتعالى على فهمها ويعتبر كل من يشير إلى خطئه متحسسا العورات. فالتعالي عن فهم واقع الذات خلق له من الأسباب ما يسوغه مثل: تسويغ الأخطاء، كأن يسوغ الشعب أخطاء الحاكم وهو يعلم أنه ينافقه. وإلقاء المعاذير أسلوب لازم للمنطق التسويفي. ومن ذلك كله الإفراط في أساليب المجاملات. كل هذه خصال وادعاءات، تخدم التعالي وترفع من شأن الفردية في نفس الشرقي؛ لأنها أساليب نابعة من نزعة الخوف، تشيع في نرجسية الذات غرورة واستبدادًا، دون أن تساعدها على فهم أخطائها، وليس ذلك يعني أن الإنسان الشرقي ليس عنده طاقة تمييز الخطأ من الصواب، قطعًا لا نعني هذا، إنما نعني أن عنده قدرة التمييز، إنما يغلب أسلوب التسويغ والمعاذير والمجاملات على مواجهة المخطئ بما أخطأ فيه، ولذلك نراه فيما بعدُ يحكى العمل نفسه ثم يصفه بالخطأ -الذي سوغه من قبل- على شكل رواية تاريخية، وبعد أن يزول عامل القهر مصدر خوفه. فإذا قدر للشرقي أن يفهم قبل أن تحتويه نزعة الخوف تمرد وغلب وسيطر، وذلك كان منه على حِقَبٍ متطاولة في تاريخه، وسوف أسوق مثالًا شاهدًا على ذلك وهو منهاج الإسلام. تعثَّر الشرقي كثيرًا وهو يبحث عن ذاته من خلال الديانات المتعددة، وبينما هو يتعثر عثر على حقيقته في نظام الإسلام ومنهاجه، ووجد فيه ما يجيب على أسئلة شتى، استغلق عليه فهمها، خلال رحلته الطويلة في البحث عن حقيقته، وفيه ألفى ما تتجاوب معه النفس الإنسانية من حيث هي نفس إنسانية؛ لأنه -وهو الصيغة النهائية لسلسلة الوحي الإلهي- قدم المزيد مما يساعد الإنسان على تفهم حقيقته من خلال واقعة وجوده، وعلاقاته بالله. وأن شرعية مبدأ التوبة في حد ذاته ألغى تصوراتنا عن

الإنسان الملائكي وإمكانية وجوده، ومعنى ذلك أن على الإنسان أن يفهم ذاته من خلال بشريته أو من خلال قول الرسول: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". لذلك نرى أن الإسلام ركز على أمور نبرز منها: أولا: حدد مفهوم المقدس من غيره، وحدد مصدره وهو الله وما أوحى به إلى رسله، وبذلك التحديد كفل للعقل مجاله وحريته. ثانيا: سد الطريق على كل متنبئ بقوله عليه السلام: "أنا العاقب فلا نبي بعدي". وقوله تعالى1: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} . وتلك مكرمة الإسلام الحقيقية؛ لأن هذا المبدأ الذي قرره الإسلام حمل العقل الإنساني مسئولية الكفاح ضد الذين يحاولون أن يعوقوا من مسيرة العقل الإنساني باسم التنبؤ أو باسم الأوصياء الشرعيين من قبل الله، وأبطل قول كل من يدعي العصمة، ولا يفيد معنى انتهاء النبوة انتهاء الدين؛ لأن الحياة الدينية باقية ببقاء الوحي الإلهي وهو القرآن وسنة نبيه. ثالثا: دعا الإسلام العقل إلى أداء وظيفته، ووظيفة العقل في نظر الإسلام: أن يقوم بعبء وظيفته الشرعية، وهي الفهم، والتدبر، والتفكر، وألا يدع وظيفته هذه لأي مضلل ينهاه عنها. قال تعالى2: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} . بذلك أرشد العقل إلى أخص وظائفه: وهو الفكر، حتى ولو كان في القرآن أو في مصدره. وكان هذا الوضع طبيعيا من دين ألغى طريقا طويلا ازدحم فيه متنبئون كاذبون، وإنها لدعوة استجاب لها التاريخ نفسه على مستواه العالمي.

_ 1 جزء من الآية 3 من سورة المائدة. 2 الآية 82 من سورة النساء.

رابعا: ألغى الخوف الذي يدفع الإنسان؛ ليتوسع في المقدسات بقوله تعالى1: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} . بذلك رفع عن كاهل الإنسان عبء الخوف الدافع إلى الذلة؛ ليحل محلها الخشية لله فقط، فرد بذلك إلى الإنسان اعتباره. خامسًا: يعتبر الإنسان في نظر الإسلام "خليفة الله"، وصور الرسول مهمة هذا الخليفة بقوله: "لو تعلقت همة ابن آدم بما وراء العرش لنالته"، ومعنى ذلك أن على الإنسان أن ينهض بعبء خلافته، وأن عليه في سبيل ذلك: الأخذ بمبدأ الشورى الذي قرره الإسلام، فإن سلك سبيل الإسلام ألغى الحكم الفردى من طريقه وكل تصوره عن المستبد العادل. والله -وهو حقيقة العقيدة الإسلامية- ليس جبارًا ولا متحيزًا للمسلمين، كإله اليهود أو أي إله في أي دين؛ إنما الله في الإسلام هو من تتحدث عنه آياته في الكون حديث العقل تارة وحديث الوجدان تارة أخرى، وفي ذلك كله ما يؤكد المعرفة في النفس الإنسانية، ويعين الإنسان على تفهم وجوده في واقع الوجود. فعقيدة المسلم قوة من الحب، وليست ضعفا من الخوف، فجعلها الإنسان حين حملها مما يتفتح بها عقله ويطمئن إليه وجدانه. أما حين تخلى عن رسالة الإسلام -وكفاه منها انتسابه الأسمى إليها- فإنه تردى إلى طبيعة الخوف، فجبن دون مسئوليته أمام الإسلام، وانقاد مع الخرافة التي تسللت إلى مخاوف، وأعانته على توسعة معنى المقدس مرة ثانية، وتلك مرحلة يقاسيها دعاة الإصلاح. بذلك كان الدين الإسلامي بما قدمه للعقل الإنساني -من بين سائر الأديان التي حفلت بها المنطقة العربية- هو الصورة الوحيدة في التاريخ التي تجاوبت معها الإرادة العربية.

_ 1 من الآية 37 من سورة الأحزاب.

أما الآن فإن الإرادة العربية متخلفة كثيرًا عن فكرها لعوامل كثيرة ترجع -في نظرنا- إلى نوع الولاء والحكم، فبعض هذه الدول محكوم بعصبية الزعامة الأسرية، والبعض الآخر، محكوم بعصبية الزعامة الثورية، وفي الشكلين معًا كان ولاء الحاكم لنوع عصبة انتمائه، أما الولاء للشعب فغير متبادل بينهما إلا بما تحتمه ضرورة المجاملات، وإذا كان الفكر لا يعرف ولاءً غير ولائه الإنساني، فإن نظم الحكم عاقت تجاوب الإرادة معه، وفي هذا كله ما يعوق النهضة العربية الإسلامية عن بعضها الحقيقي، لكن متى تتجاوب الإرادة العربية؛ لتقوم بعبء رسالتها مرة ثانية؟ دكتور/ محمد إبراهيم الفيومي مصر الجديدة في 10/ 11/ 1399هـ. 1/ 10/ 1979م.

الباب الأول: الشرق السامي وحدة حضارية ودينية

الباب الأول: الشرق السامي وحدة حضارية ودينية مدخل ... الباب الأول: الشرق السامي وحدة حضارية ودينية مفهوم الشرق وأهمية دراسته: إن التصورات حول انقسام المعمورة إلى غرب وشرق، قد تشكلت -على ما يبدو- في غزو الإسكندر للشرق، ثم أخذت تظهر مع عصر الحروب اليونانية- الفارسية، وبدأ الصراع يزداد مع الصراع الثقافي، وسيطرت على العقل اليوناني فكرة تصارع الهلينية والبابرة: الغرب والشرق، ثم أخذ الصراع بينهما يزداد في الاهتمام بتغير الفروق الحضارية من خلال الاختلافات الجغرافية والظروف الاجتماعية والتاريخية والثقافية. ومع تطور البحوث عن الشرق القديم ازدادت الحاجة إلى تحديد مفهوم الشرق في صيغة دقيقة متعارف عليها جغرافيا ويكون مفهوما تاريخيا حضاريا، وذلك في إطار قضية أوسع، وهي قضشية العلاقات بين الشرق والغرب. ولم يكن مفهوم الشرق في تصور العلماء المعاصرين قد تحدد جغرافيًّا ولا زمنيًّا بقدر ما هو مفهوم حضاري، ولم يكن بعدُ قد حصل على صيغة دقيقة متعارف عليها لدى المختصين بشئون الشرق القديم. فمفهوم الشرق بالنسبة للرومان، يعني كل ما يقع شرق إيبريا ثم أصبحوا في عصر الإمبراطورية يقصدون: مصر والأقاليم الواقعة في آسيا الأمامية، وكذلك جزء من تراقيا، ثم انحصر المفهوم بسورية فقط، ثم بدأ يتحدد مع بداية القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى شمل المجتمعات القديمة كمصر، وبلاد ما بين النهرين، وفلسطين، وإيران، ثم توسعت نتيجة الاكتشافات الأثرية التي جرت، وأصبحت تضم هضبة الأناضول والجزيرة العربية، ثم مجتمعات الهند والصين؛ وذلك تبعا للظواهر الاجتماعية المتشابهة. وإذا كانت عادة المؤرخين قد جرت على اعتبار أن التاريخ في المعنى الحقيقي للكلمة يبدأ بظهور النصوص الكتابية الأولى، أي في تخوم الألفين الرابع والثالث ق. م. وكل ما يسبق ذلك التاريخ قبل هذا الزمن فيطلق عليها ما قبل التاريخ، ولذلك فإن كل ما يتسنى معرفته حول هذه المرحلة يندرج اندراجا عضويا في نطاق تاريخ الشرق القديم.

وفي بدايات اللقاءات بين الشرق والغرب في العصر الحديث اصطلحت أوربا على تسمية الشرق القديم بالشرق الأدنى، وبصورة غير محددة على الجزء الجنوبي الغربي من آسيا المتاخمة لأوربا، ثم اقتبسته الولايات المتحدة وأضافت إلى رقعته بلدانا هي أقرب إلى الشرق الأقصى منها إلى الشرق الأدنى، وقد ظل هذا المصطلح الجغرافي -الشرق الأدنى- شائع الاسعمال حتى الحرب العالمية الثانية، وذلك كما يقول فيليب حتى: عندما أنشأت الحكومة البريطانية منطقة عسكرية تمتد من إيران إلى ليبيا وأطلقت عليها اسم الشرق الأوسط، وهو مصطلح كان حتى ذلك الحين يضم عادة الهند والبلدان المجاورة لها، ثم أنشئ بعد ذلك في القاهرة مركز تموين الشرق الأوسط، الذي أصبح فيما بعد مشروعا إنجلو أمريككانيا، وهكذا أصبح هذا المصطلح الجغرافي: الشرق الأوسط مصطلحا شائع الاستعمال، وتبرز أهمية دراسة الشرق الأوسط من عدة وجوه؛ من حيث موقعه الجغرافي: فهو يقع في المنطقة الذي يجعل منها مركزا للمواصلات الدولية التي تربط القارة الإفريقية بأوربا وآسيا. - إنه مهد أعرق حضارة توصل فيها الإنسان إلى أقدم الاكتشافات وأعظمها خطورة، وأبعدها أثرا في تقدم الحضارة الإنسانية. - وفيه أيضا نشأت ثلاث ديانات سماوية موحدة. - وأنه منطقة تضم أقدم الوثائق التاريخية حول حياة الإنسان القديم وأطولها بقاء في الزمن. لذلك خلف الشرق القديم للأجيال التالية تراثا غنيا من العلم والفن والأدب والفلسفة، وليس هناك رقعة جغرافية أخرى تناظره في حضارته توفر لنا سجلا حضاريا حرص الإنسان القديم على تدوينه؛ ليكون سجلا مطردا مثله استمر أكثر من خمسة آلاف سنة. لذلك تذهب الدراسات التاريخية الحديثة إلى أن تاريخ الشرق القديم هو: أول فصل من تاريخ البشرية الحضاري لما له من فضل السبق الحضاري الديني، والثقافي. كما أظهرت الدراسات التاريخية الحديثة أيضا أن لحضارات الشرق القديم أعظم التأثير على الحضارة الإغريقية الرومانية والحضارات العربية الإسلامية.

وليست دراسة الشرق القديم وليدة اليوم أو الأمس، فمنذ أن عرف الإنسان سبيله إلى كتابة التاريخ وظهر مؤرخون وحديثهم عن الشرق لا ينقطع، فقد تضمنت أعمال المؤرخين: اليونان والرومان القدماء معلومات قيمة حول تاريخ وحضارة وديانات المصريين القدماء والبابليين والفرس والهنود والعرب وشعوب أخرى، ولكن الدراسات العلمية الحديثة للشق القديم لم تبدأ في أوربا إلا عصر التنوير، وطوال القرن التاسع عشر بدأ العلماء يتجهون إلى أعمال البحث والتنقيب عن معالم الحضارات الدراسة فيما يظهر لهم من اللقى والآثار والنقود وما عليها من رموز كتابية، ويعكفون على فك ما يظهر لهم من كتابات حضارات الشرق القديم من الهيروغليفية، المصرية القديمة، والفارسية، والبابلية، والآرامية. ولقد أحدثت البحوث، التي جرت في مصر وبلاد ما بين النهرين وإيران والجزيرة العربية، نجاحًا جديدًا في مجال دراسة حضارات الشرق القديم؛ إذ تطورت طرق وأساليب القيام بالحفريات الأثرية، وارتقى المستوى النظري للدراسات والبحوث المكتبية، وأصبح علماء الآثار والمؤرخون، وعلماء اللغة، يستعملون طرقا جديدة تماما لمعالجة المصادر الأثرية والتاريخية، ويستخدمون بصورة واسعة منجزات العلوم الطبيعية وغيرها مما أتاح لهم تناول المادة على نحو جديد، واستخلاص معلومات غزيرة من أدلة الماضي التي لم تؤخذ سابقا بعين الاعتبار إطلاقا؛ فإن علم النباتات القديمة -مثلا- يتيح استرجاع الظروف البيئية التي كانت تعيش فيا القبائل الزراعية الباكرة، كما أن استخدام الوسائل التكنيكية الحديث لدراسة الأدوات تطورت تبعا لدرجة رقة أطرافها القاطعة. كذلك وتشكّل معطيات علم تاريخ اللغات أهمية فائقة بالنسبة لبحث بعض مراحل ما قبل التاريخ البشري، وهنا تجدر الإشارة بشكل خاص إلى بعض الفرضيات الهامة جدا التي طرحها العلماء السوفييت وإلى المشاريع التي يقومون بتحقيقها، وربما كانت أهم هذه الأعمال وأنجحها؛ البحوث المتعلقة بعلم اللغة التاريخي المقارن، وخاصة في مجال التشبيهات اللغوية البعيدة.

ومما تجدر الإشارة إليه: الإشارة إلى اكتشاف ما يسمى بمخطوطات البحر الميت في عداد أهم المكتشفات العلمية في القرن العشرين؛ ففي عام 1947 عثر الفتى البدوي محمد الديب من عشيرة "تعامره" على لفائف جلدية مليئة بمختلف الكتابات في إحدى مغارات الشاطئ الشمالي الغربي للبحر الميت في منطقة مقفرة بوادي قمران "الأردن" التي أسفرت عن اكتشاف 40 ألف قطعة من المخطوطات تمثل بقايا لحوالي 600 من المؤلفات المختلفة التي تتضمن الكتب المقدسة والأسفار والمؤلفات الدينية التي وضعها أفراد طائفة دينية سكنت في هذه الأماكن المعزولة في أواخر القرن الثاني ق. م. واصطلح على تسميتها حاليا بجماعة قمران، إن مقتطفات كتب التوراة المكتشفة في وادي قمران تتيح تتبع تاريخ النصوص المقدسة، وهذه الكتب أقدم بخمسمائة سنة تقريبا من المخطوطات المعروفة، وتفتح فصلا جديدا في ميدان نقد التوراة، إن المؤلفات الهامة لجماعة قمران: الميثاق، والوثيقة الدمشقية، ملف الحرب، والأناشيد وغيرها، تعبر عن أيديولوجية هذه الطائفة الدينية المعارضة لليهودية الرسمية وعن نظرتها الاجتماعية، ومبادئها التنظيمية، وكان مؤسس هذه الجماعة وزعيمها الروحي شخص مجهول الاسم لقب بالمعلم الصالح، وكان القمرانيون يعتقدون أن الإله أودعه الأسرار المجهولة حتى للأنبياء. إن النظرات الثنوية والمهدوية والأخوية لجماعة قمران ومبادئهم الاجتماعية والتنظيمية قد مارست على ما يبدو تأثيرا كبيرا على تشكل الجماعات المسيحية المبكرة في القرن الأول الميلادي، من هنا كان اختراع الكتابة من أعظم منجزات العصر القديم، ولا يمكن المبالغة في تقدير أهمية هذا الاختراع، وكان القدماء أنفسهم يدركون هذه الحقيقة تمام الإدراك، فليس عبثًا أنهم اعتبروا الكتابة هبة من الآلهة فقد كان الإله طوط عند المصريين خالقا لفن الكتابة وراعيا له، وعند البابليين الإله نايو، وعند الهيليين الإله هرميس. ولم تصبح الكتابة مجرد وسيلة لحفظ وتخزين المعلومات وأداة لمساعدة الذاكرة البشرية المحدودة الإمكانيات فحسب، بل غدت كذلك قوة فعالة وعاملا من أهم العوامل لتحويل حياة المجتمع وثقافته، ومن المعروف أن ممارسة الكتابة والقراءة تغير طابع تفكير الإنسان المرتبط بها، ومع ظهور الدولة والكتابة يفصل العصر القديم

عن العصور البدائية ويشير إلى فجر الحضارة وبداية تاريخ البشرية الحقيقي، وتعتبر كتابة ما بين النهرين أقدم كتابة في العالم، كما اكتشفت في مغارات الصحراء اليهودية بعض المخطوطات التي تعود إلى القرنين الأول والثاني الميلاديين والمدونة باللغات الآرامية والنبطية واليونانية، ونتيجة لأعمال التنقيب التي جرت خلال العامين 1952، 1953م في "ضربة مرد" وقعت في أيدي العلماء مخطوطات باللغتين السريانية واليونانية، وكذلك مخطوطات عربية تعود إلى القرون 4-8 الميلادية، ومقتطعات من المؤلفات الإنجيلية والأسفار الدينية والوثائق العملية، بل وحتى مقطع من مسرحية "يوريدبيدوس" اندروماخا -القرن السادس. إن مخطوطات البحر الميت ذات أهمية عظيمة بالنسبة لفهم العمليات التاريخية المعقدة التي كانت تجري في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط في أواخر القرن الأول ق. م، ومطلع القرن الأول الميلادي، فهي تلقي ضوءًا ساطعا على الوضع والظروف الاجتماعية والمناخ الديني والأخلاقي والفكري، الذي كان يكتنف عملية تكون المسيحية ولقيام لجنة دولية من العلماء أنشئت خصيصا لهذا الغرض1. ويبرز لنا من خلال نشاط علماء الآثار أن الشرق الأوسط يشكل وحدة حضارية ودينية يتسع مداها مع التاريخ، ويقوي تفاعلها الديني بين شعوبه، ويعتبر هذا الإرث الروحي يفوق هذه التقدمات المادية خطورة وأهمية وإن بدا ذا مظاهر وثنية فهو ينبئ عن عراقة الجانب الديني والعقدي في الإنسان وقوته في البناء الحضاري وتوجيهه.

_ 1 الجديد حول الشرق القديم بإشراف العضو المراسل في أكاديمية العلوم للاتحاد السوفيتي السابق، بونجارد لينين، دار التقدم، موسكو

الشرق وحدة حضارية ودينية

الشرق وحدة حضارية ودينية: نسوق بعضًا من نماذج كثيرة ليتبين أن أعرق شيء في الأساس الحضاري هو الدين؛ من حيث هو حقيقة موجهة إلى الله، وإن كانت الطفولة البشرية تدنسه بمظاهر الوثنية. أ- حفائر البحرين: - خلال الفترة الواقعة بين أواخر الخمسينيات وبداية السبعينيات عملت في البحرين والساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية بعثة أثرية إنجليزية وهولندية مشتركة بإشراف ج. بيبي، والمعروف لدى علماء الآثار أن البحرين "ديلمون أو تلمون" كانت تشغل مكانا خاصا في التصورات الميثولوجية والتاريخية لسكان ما بين النهرين القدماء، ففي النصوص السومرية القديمة كانت هذه الجزيرة تسمى أرض السعداء وتعتبر بمثابة الجنة السومرية، وقد تسنى للعلماء أن يبرهنوا على أن البحرين لم تكن عند السومريين مركزا هاما للعبادة فحسب بل كانت أيضًا منطقة عبور هامة للتجارة البحرية التي كان يمارسها التجار السومريون والبابليون في الألفين الثالث والثاني ق. م. وعن طريق البحري كانت تعقد الصلات مع "مالوه" حضارة حوض السند، وعثر علماء الآثار في البحرين على بعض المعابد الضخمة لشعوب ما بين النهرين التي شيدت في الآلاف 3-1 ق. م كما اكتشفوا عند الشاطئ الشرقي لشبه الجزيرة العربية عدة حضارات أثرية شبيهة بحضارة ما بين النهرين يرجع عهدها إلى الألف الرابع ق. م. كما أن لقايا الأختام المنبسطة الطلاسم من طراز "حرابا" تسترعي اهتماما خاصًّا؛ لأنها تشهد على الصلات النشيطة القائمة بين الحضارات القديمة للهند وسومر. 2- حفائر جورجيا: - إن حفريات علماء الآثار الجورجيين في مدينة فاني -مدينة صغيرة تقع عند ثغر سولوري الرافد الأيسر لنهر فازيس القديم الذي يسمى حاليا ريوني- لا تزال مستمرة، ولا شك في أنها ستغني العلم بشواهد وأدلة جديدة وهامة حول الحضارة القديمة والفريدة لشعوب القوقاز، وقد أتاحت أعمال علماء التاريخ والآثار إعادة النظر في تقييم مساهمة منطقة ما وراء القوقاز في تطور حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية الكلاسيكية. 3- حفائر تركستان: - وفي عام 1954 بدأت دراسة الحضارات القديمة لتركستان الجنوبية لمعهد الآثار التابع لأكاديمية العلوم التركمانية برئاسة ف. ساسون، منذ عام 1965م تجري دراسة شاملة للمركز الضخم لحضارات آسيا الوسطى القديمة، وقد أدرجت الآثار

المكتشفة في مدار المقارنات الحضارية الواسع مع معطيات الشرق الأوسط وهندستان التي تعكس الاحتكاكات والعلاقات الثقافية والاقتصادية القديمة، قد أتاحت إظهار عملية تطور الحضارة منذ المشاعة الزراعية المبكرة القديمة، وحتى المنظومة المعقدة ذات الطابع الديني، ففي ذلك الوقت كان هناك مركز عبادة ذو برج مدرج أقيم على غرار الزقورات السومرية، كما شهدت السنوات الأخيرة اكتشافات هامة في أراضي أوزبكستان أيضًا حيث إن بعثة معهد حمزة لتاريخ الفن طشقندة قد ساهمت بقسط كبير في دراسة تاريخ هذه المنطقة، وضمن الاكتشافات الجديدة يمكن الإشارة إلى المعبد البوذي الثاني الذي يقع داخل المدينة. 4- حفائر: داريكا، أوزبكستان، طاجيكستان، أفغانستان: - لقد أطلق المؤرخون الإغريق على بالكتريا التي كانت تضم شمال أفغانستان وجزءا من منطقة سرحان داريكا أوزبكستان، وكذلك جنوب طاجيكستان -اسم بلد الألف مدينة، وخلال عشرة مواسم حفرية تم بصورة كاملة الكشف عن المعبد الذي يمثل تصميمه مخططا كلاسيكيا متطورا لمعبد النار الشرقي، وتتصل بإيوان المعبد من الشمال والجنوب حجرات خزانات للنار المقدسة وكانت تملأ بالرماد والفحم، وقد ساعد اكتشافه على توضيح الجوانب المبهمة أو المفاهيم الخاطئة حول التراكيب الهندسية لبعض معابد النار، وإن الكتابات اليونانية القديمة المنقوشة على أحد مذابح المعبد العديدة لتشير إلى أن المعبد كان يحمل اسم إله وكسوس الذي كان يقع على ضفته، وعلى مذبح آخر بقيت في صورة واضحة حروف يونانية، واستنادا إلى كمية كبير من المعطيات الميدانية تسنى للعلماء أن يبرزوا على نحو واضح دور التقاليد المحلية في نشوء الحضارة الهلينية البالكترية وإبراز شتى جوانب العلاقات بين شعوب هذه المنطقة ومختلف مناطق الحضارات القديمة الممتدة من الهند إلى البحر الأبيض المتوسط. وهكذا تبدو بوضوح تام العناصر المكونة للفن اليوناني البالكتري في ضوء المواد الأثرية المكتشفة في معبد أوكسوس التي تضم تقدمات الأهالي والسلاح والأدوات المستخدمة في الطقوس الدينية، وهي العنصر الشرقي الأصلي والعنصر الهليني.

المستورد والعنصر الغانداري المنصهر في بوتقة واحدة ضمن التركيب اليوناني-الهندي، ومن السمات المميزة الهامة لهذا العصر انتشار البوذية في بالتيريا، وبعض مناطق آسيا الوسطى. 5- معطيات حفائر آسيا: - وتشير معطيات العلم المعاصر إلى أن آسيا كانت تضم ثلاثة مراكز أولية هامة للاقتصاد المنتج القديم كانت تقع في آسيا الأمامية وجنوب شرق آسيا وشرقها، وظهر في إفريقيا مركز واحد على الأقل "شمال شرق إفريقيا" كما نشأت مراكز ثانوية فريدة للزراعة القديمة ذات طابع خاص في أفغانستان وإيران وشبه الجزيرة الهندية وبعض المناطق الأخرى لقد كان مركز آسيا الأمامية من أقدم مراكز الزراعة المبكرة، وهو يمتد من آسيا الصغرى إلى الحدود العراقية الإيرانية. "جبال زجروس" ومن فلسطين حتى ما وراء القوقاز، وفي العديد من مناطق آسيا الأمامية كانت تنمو بعض أصناف الحبوب البرية والنباتات القرنية. وفي الألف السابع ق. م. مارس مركز الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط "فلسطين وجنوب غرب سورية"، والمراكز الواقعة في شمال سورية وجنوب شرق الأناضول وجنوبها وزجروس من شمال العراق حتى جنوب غرب إيران ومركز ما وراء القوقاز، بعض التأثير على المنطقة الإفريقية المجاورة له، وقد تشكل في جنوب شرق الأناضول وشمال سورية مركز مبكر للزراعة القديمة فريد من نوعه، وينقسم هذا المركز من وجهة النظر التاريخية للحضارة إلى منطقتين: جنوب شرق الأناضول، وشمال سورية، وكان سكان شمال سورية في العصر الحجري الحديث يجرون تبادلا تجاريا نشيطًا مع أهالي الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إن هذه المناطق كانت تقع ضمن منطقة انتشار الزراع السوريين الشماليين، وأنه تشكلت هنا بالذات في النصف الأول للألف السادس الوحدة البشرية التي أرست بداية سكن واستقرار الزراع في مختلف أرجاء بلاد ما وراء النهرين.

أما المركز الصغير الثالث فقد كان يقع في جنوب الأناضول، وفي مطلع العصر الحجري الحديث تقاربت الجماعات القاطنة في هذه المنطقة حضاريا مع سكان جنوب شرق الأناضول وتأثيرهم. 6- حفائر شبه الجزيرة العربية: - لقد كان مناخ الجزيرة خلال الآلاف 6-3 ألطف بكثير مما هو عليه الآن، وتوفرت هنا في العديد من الأماكن الظروف الملائمة لتطور الزراعة والرعي، وللأسف لا يزال تاريخها المبكر جدا غير مدروس حتى الوقت الحاضر، ولكن من المعروف أن مستوى مجتمعات الجزء الشرقي من الجزيرة العربية لم يكن أدنى إلى حد ملحوظ من مستوى حضارات ما بين النهرين، وكانت تزرع هناك آنذاك أشجار النخيل، وبعض النباتات الأخرى، وفي المناطق الداخلية للجزيرة العربية كان السكان يمارسون الرعي، ومع مرور الزمن استطاعوا تدجين الجمل ذي السنام الواحد. 7- حفائر مصر: وفي مصر اكتسبت مراقبة الفيضانات وضبطها أهمية بالغة بالنسبة للزراع القدامى عندما بدأ المصريون بناء الأقنية وإقامة السدود والجسور والقناطر لمجابهة نزوات نهر النيل الهائج، وتنظيم منسوب مياه النهر، وأصبحت مصر العليا ضمن منطقة التأثير المباشر أو غير المباشر لمركز آسيا الأمامية، لكن أعمال الري الضخمة لم تبدأ إلا في عصر الفراعنة، وبفضل الانتقال إلى الزراعة والرعي أرسيت المقدمات المادية الثابتة لتشكيل الحضارة. 8- دراسة تاريخ الكتابة: - منذ زمن طويل يعكف العلماء على دراسة تاريخ الكتابة، وبالرغم من أنه لم تتضح بعد أشياء عديدة في هذا المجال قد تسنى تحقيق الكثير فيه، فقد استطاع العلماء أن يبينوا كيفية نشوء بعض الأبجديات، وأن يتقصّوا أصل العديد من الأنظمة اللغوية وطرق تطورها، وأن يظهروا الترابطات والتعاقبات القائمة بينها، وهم يفترضون أن

أقدم الكتابات قد ظهرت بمعزل عن بعضها البعض، وذلك في عدة مراكز في مصر وبلاد ما بين النهرين "جنوب العراق" ثم في الصين خلال فترة لاحقة؛ ويبدو أنه كانت ثمة مراكز أخرى مبكرة لتشكل الكتابة في أوربا بشمال شبه جزيرة البلقان وفي شبه الجزيرة الهندية، بمنطقة وادي الهندوس. 9- كتابة ما بين النهرين: - وتعتبر كتابة ما بين النهرين أقدم كتابة في العالم، وأغلب الظن كما يذهب علماء الآثار أن الفضل في اختراع هذه الكتابة يعود إلى السومريين، وهم شعب كان يعيش في جنوب العراق خلال الألفين الرابع والثالث ق. م. وفي أوقات لاحقة استخدمت هذه المنظومة الكتابية أيضا شعوب آسيا الأمامية القديمة الأخرى كالأكاديين والعيلاميين والإييلائيين والحيثيين والأوغاريتيين والأورانيين والفرس، وذلك بعد تبسيطها وتكييفها مع حاجات لغاتها، وقد استمر استعمال الكتابة السومرية أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وترجع آخر النصوص المعروفة المدونة بالخط السومري إلى منتصف القرن الأول الميلادي، أما أقدم هذه النصوص فتعود إلى حوالي عام 3100 ق. م، وعلى هذا النحو فقد بدأ تاريخ الكتابة السومرية الأولية على تخوم الألفين الرابع والثالث ق. م، وبلغ خمسة آلاف سنة. - ويرى بعض علماء الآثار والتاريخ أن اكتشاف أواني بلاد ما بين النهرين في منطقة بعيدة يتيح الحديث عن وجود تجار سومريين في المستوطنات السورية والعيلامية، وحتى فصائل عسكرية سومرية كانت تقوم بحراسة طرق القوافل. - وعندما نقرأ الكتب نجد أنها تجسدت فيها روح العباقرة البشريين العظماء، ويجدر بنا أن نتوقف أحيانا ونذكر بالامتنان والعرفان رواد الكتابة الأوائل وأن نتصور ولو مرة واحدة يوما قائظا وبرجا مستديرا لعنبر يجلس تحت ظلاله نفر من الشيوخ شبه عراة يكومون الكرات الطينية بأصابعهم.

10- ديانة مصر القديمة: - وضع العالم السوفيتي كورستوفتسيف وهو عالم أثري تخصص في مجال المعربات كتابا عنوانه: "ديانة مصر القديمة"، ويتسم هذا العمل بالأصالة من حيث الاستنتاجات ويتميز بمستوى علمي رفيع وتحليل للنصوص، وقد أدخل الكثير من الأمور الجديدة على علم المصريات العالمي. ويتناول الكتاب بالبحث مختلف أوجه المعتقدات الدينية عند المصريين القدماء مثل عبادة: الرقى والطوطمية، واللاهوت، والكونيات، والتصورات حول الحياة الآخرة، ويؤكد المؤلف على أن نشوء الأديان هو عملية تاريخية، وأن الدين ذاته، وفي مصر بالذات هو بناء فوقي إيديولوجي يرتفع فوق القاعدة المادية للمجتمع، إلا أنه يكتسب بعد ظهوره نوعا من الاستقلالية تجاه النباء التحتي، ويبين المؤلف أنه لم تكن في مصر أبدا عقائد دينية واحدة لكل بلد، فقد كانت الديانة المصرية تمثل ظاهرة معقدة جدا تتجلى في المجتمع بين معتقدات متناقضة غالبا، ومتعارضة أحيانا، وقائمة في أوقات مختلفة وفي شتى البلاد. 11- حفائر تل مرديخ: - في منتصف الطريق بين المدينتين السوريتين: حلب وحماة، تنتصب هضبة كبيرة تسمى "تل مديخ"، وفي مطلع القرن الحالي قامت بعثة أثرية فرنسية بحفريات اختيارية في موقع تل مرديخ، واتضح أن أهالي تلك المدينة الرئيسية لهذه الإمبراطورية التي قامت في آسيا الأمامية كانوا يتكلمون باللغة الكنعانية القديمة، التي تعتبر سلف اللغتين؛ الفينيقية والعبرية القديمة، وضمن الأديان التي كانوا يعبدونها كان الرب باوم يشغل مكانًا خاصًّا، كما تبين أن أحد ملوك المملكة المكتشفة حديثا كان يدعى إيبريوم، مما حدا ببعض العلماء إلى مقارنته بجد الساميين عبر، ونصادف في النصوص أسماء أعلام مثل: دل أو دو "داوود" وميكائيل وإسرائيل، وكذلك تسميات العديد من المدن الفلسطينية، وحتى مدينتي سدوم، وعمورية، ويبدو أن شعب إيبلا كان أول من استخدم الكتابة السومرية لتدوين لغته، ولقد

برع الإييلاثيون في استخدام هذه الكتابة إلى حد لا يقل عن السومريين والأكاديين ذاتهم، وكان شعب إييلا يعبد آلهة متعددة، وكان مجمع الأرباب يضم الآلهة الكنعانية القديمة مثل بعل وكيموش، وتذكر لوحات الأرشيف في إييلا حوالي 500 من مختلف الأرباب، ويبدو أن "دجن" كان أهم رب عندهم والذي ظل يتصدر لائحة مجمع الأرباب الكنعانية، ويعني اسم "دجن": الغيمة أو المطر، أما زييش إله الشمس فكان شأنه شأن إله الرعد حدد عدا، والإلهان كورا وكاكاب كانا يظهران بصفة شاهد وكفيل لدى توقيع المعاهدات وعقدها، والإله كاشارو، والإله الكنعاني المشترك بعل، وهناك إلهان: رب الأنهار، وكانوا يعتبرون الرب دابر حاميا لمدينتهم، وهو الرب الذي يرد ذكره في التوراة، ولكن ليس كإله وإنما بمعنى "وياء الإله عقابه" من هنا يظهر أن العديد من الظواهر الحضارية والتاريخية التي عرفتها سورة وفلسطين إلى حضارات النيل والفرات مما يشكل معنى التزاوج الحضاري، ولا سيما وحدته الدينية. 12- بابل: - وإن السمة الأساسية لبابل كما يرى "دنداماييل" كانت تكمن في عدم غرس روح التعصب الديني تجاه معتقدات الشعوب الأخرى، وكان الغرباء المقيمون في بابل يتخذون أسماء بابلية مركبة تتضمن أسماء الآلهة مثل: ندنتو بعل هبة الرب بعل، وبعل ابن مخلوق الرب بعل، وقد كان البابليون يسمون أولادهم بأسماء مركبة من أسماء آلهة الشعوب مثل: متريدات عطية الرب مترا، نسبة إلى اسم الرب الإيراني، وإلى جانب ذلك فإن الشرق القديم لم يعرف الخلافات والصراعات القائمة على أساس ديني أو الحقد العرقي أو الشعور بتفوق شعب على شعوب أخرى، وكان الغرباء يندمجون بسهولة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية لوطنهم الجديد، وكان ذلك مثار إعجاب المؤرخ اليوناني هيرودت، فعلى سبيل المثال كان السورميون والأكاديون؛ وهما شعبان مختلفان من النواحي العرقية واللغوية والحضارية يعيشان جنبا إلى جنب في سلام في منطقة واحدة، وعلى قرون عديدة

إلى أن خرجت اللغة السومرية من حيز الاستعمال الواسع إلى لغة العبادة، والأدب والعلوم. أما السومريون أنفسهم فقد اندمجوا بالأكاديين في عملية تاريخية طبيعية، وكذلك عندما أنشأ الآشوريون إمبراطوريتهم الضخمة في القرون 9-7 ق. م أخذوا ينتقلون بالتدريج إلى استعمال لغة القبائل الآرامية، ثم اندمج الآشوريون بالآراميين، ويغدو تمازح وتفاعل عناصر الثقافات الشرقية واليونانية من أهم ملامح الحضارة الهلينية، ولكن بابل لم تقطع تقاليدها المحلية في عهد ملوك الفرس واستمرت الحضارة. 13- حفائر الشرق الأدنى: البابلية القديمة في تطورها الذي لم يتوقف بعد احتلال المقدونيين. بعد الاكتشافات التاريخية الأثرية العظيمة التي جرت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في بلدان الشرق الأدنى ومصر وإيران والهند والتي جعلت الآثار الرائعة للحضارات القديمة في هذه البلدان في متناول العلم العالمي والحضارة العالمية، وساعدت على إعادة رسم لوحة التاريخ البشري في مراكزه الرئيسية، وأصبحت دراسة الجزيرة العربية تكتسب أهمية أكبر فأكبر باعتبارها واحدة من أبرز قضايا العلوم التاريخية المعاصرة، مهد الإسلام وأحد مراكز الحضارة البشرية غير المدروسة وتحولا من بلاد غامضة إلى بلاد معروفة، وتحديد مكانتها الحقيقية في المسار العام وللتاريخ العالمي، وإن الفحص التاريخي الأثري للقسم الشمالي الشرقي -البحرين- والقسم الجنوبي الغربي -اليمن- والبحوث التي تجري في أواسط الجزيرة العربية؛ قد بينت وجود مراكز قديمة للحضارات البشرية هناك أسهمت منجزاتها بقسط كبير في تاريخ الحضارة العالمية، وقد لعبت هذه المناطق من الجزيرة العربية دورا هاما في إقامة الاتصالات البرية والبحرية بين دول الشرق القديم، وفي عملية تبادل المواد الطبيعية والمصنوعات الحرفية والإنجازات الحضارية والتكنولوجية بين شعوب حوض البحر

الأبيض المتوسط والشرق الأدنى والأوسط والهند وشمال شرق إفريقيا في العصور القديمة، وكذلك في القرون الوسطى جزئيا، مثل هذه الصلات كانت عاملا هامًّا من عوامل الحياة الاقتصادية والثقافية خلال العصور القديمة والوسطى التي أعطت زخما لعملية التقدم العام، وأخيرًا فإن الجزئين الشمالي الشرقي والجنوبي الغربي من الجزيرة العربية لم يقعا على مفترق الصلات التجارية الدولية فحسب بل كانا -ومنذ أوائل العصر الحجري- حلقة وصل تارة ونقطة انطلاق تارة أخرى لحركات النزوح الكبيرة التي حددت في نهاية المطاف الملامح العامة للخارطة الحضارية واللغوية للشرق الأدنى والبلدان المتاخمة له، ولقد أسفرت الكشوف البحرينية: معبد مكرس لإلهة الخصب عشترم، ومعبد آخر لإله الشمس، ومعبد لإلهة الأمومة والحب، وتشير بعض النقوش إلى أن التقرب للآلهة تجزى وفاء النذر أو توسلا لغفران الذنوب المقترفة، وهذه النقوش تسمى "المسند"، وتعتبر مصدرا هاما جدًّا لمن يشتغل في تاريخ ولغة وحضارة جنوب الجزيرة العربية، وهي المادة الأساسية اللازمة لإعادة السند التاريخي لهذه المنطقة، ويرى علماء الآثار أن هناك تقاربًا بين لغة أقدم نصوص الكتاب المقدس للفرس القدامى أفيستا، والكتاب المقدس للهنود القدامى الفيدا، وكذلك بين ديانتيهما من حيث: التصورات، الجنة والنار، ومصطلحات الطقوس، وتقديم النبيذ للآلهة، والمشعل، والمذبح، والخلود، وعبادة الآلهة، والالتزام ... يذهب فان وديل -وهو من أوائل الذين عملوا في فك الرموز- إلى أن السومريين والآراميين في عصر الفيدي هم شعب واحد على أساس أنه قرأ أسماء الآلهة السومرية وأبطال ملاحم هندية من خلال ما عثر عليه من أصول سومرية لكلمات من مختلف اللغات الهنداوريين اليونانية والسنسكريتية والهندوسية.

نظريات ومذاهب في تحديد موطن الساميين الأصلي

نظريات ومذاهب في تحديد موطن الساميين الأصلي: اختلف المؤرخون حول موطن الساميين الأصل اختلافا كبيرا يدور على عدة مذاهب: أولا: المذهب الإفريقي يرى: أن الساميين نشأوا في بلاد أفريقية أول الأمر وأقاموا بها زمنا طويلا، ولما ضاقت بهم هاجروا إلى الأماكن التي استقروا فيها فيما بعد، ويبين أصحاب هذا الرأي رأيهم على أسس جسمانية فيقولون: إن هناك تشابها في الخلقة بين الحاميين، أو سكان أفريقيا، والساميين، وبخاصة من كانوا يسكنون جنوبي بلاد العرب. وينقسم أصحاب هذا الرأي إلى طائفتين: فطائفة تقول: إن الساميين كانوا مع الحاميين يسكنون شمالي أفريقيا في مصر وما حولها، وأن هجرتهم إلى آسيا كانت بطريق برزخ السويس. وطائفة أخرى تقول: إنهم كانا معا في بلاد الحبشة وإن هجرتهم منها إلى بلاد العرب كانت بطريق بوغاز باب المندب، هذا رأي دلت الدلائل على أنه ضعيف مردود؛ لأن التاريخ يذكر لنا أن أول هجرة للساميين كانت من آسيا إلى أفريقيا لا العكس، وأما ما عرف من تشابه بين الحاميين وبعض الساميين في بعض الصفات الجسمانية؛ فسببه أن الساميين سكان جنوب الجزيرة العربية اختلطوا هناك بالكوشيين المنحدرين من أصل الحاميين، لأنكوش من أبناء حام وتصاهروا معهم1.

_ 1 يراجع "الأمم السامية مصادر تاريخها وحضارتها": حامد عبد القادر عضو مجمع اللغة العربية، مراجعة د. عوني عبد الرءوف طبعة دار النهضة.

ثانيا: المذهب الأرميني يقول: إن المواطن السامي الأصلي هو قاطن ببعض جهات أرمينية، ويرى أصحاب هذا الرأي، وفي مقدمتهم -أرنست- صاحب كتاب تاريخ اللغات السامية، الذي كتبه بالفرنسية؛ يذهب فيه إلى أن الساميين هاجروا أولا من جهات في مقاطعات أرمينية الواقعة حول إقليم أرمينيا الجبلي في شمال الكردستان الحالية، الواقعة شمال العراق، ويستدلون على ذلك بأدلة مستقاة من روايات التوراة، ومما نقل عن بعض أحبار اليهود. فهذا الرأي يوصف بأنه رأي نقلي؛ لأنه مأخوذ عن الغير، وليس له أي دليل، وهذا الرأي لا يمكن الأخذ به؛ لأنه أصبح من المؤكد الآن، أن مؤلف سفر التكوين، الذي هو مصدر تلك الروايات لم يستند فيما كتب إلى أدلة علمية يقنية، بل كان يأخذ المعلومات من أفواه الرواة والقصاصين، الذين ذهبوا في رواياتهم مذاهب شتى، غير يقينية فيما يتعلق بموطن الساميين الأصلي. يقول نولدكه المستشرق الألماني: قل أن يوجد عالم محقق الآن يعتقد أن موطن الساميين الأصلي هو الشمال الأقصى من بلاد العراق1. ثالثًا: الرأي التركستاني يذهب إلى هذا الرأي طائفة كبيرة، من مستشرقي أوربا، وفي مقدمتهم "فون كريمر"، يقوم هذا الرأي على نتيجة هامة؛ وهي: أن الساميين قبل تفرقهم، وتفرق لغاتهم الأصلية إلى لهجات مختلفة، كانوا يستعملون اسما مشتركًا فيما بينهم، ولكن لم يكن لديهم اسم عام مشترك للنخيل، ولا للتمر، ولا كلمة واحدة تدل على النعامة؛ أي أن الكلمات التي تدل على نخل، وتمر، ونعامة لا

_ 1 راجع مقالًا عن اللغات السامية في دائرة المعارف البريطانية.

توجد بصورة واحدة، ولا بصورة متقاربة في جميع اللهجات السامية، أما الكلمات التي تدل على جمل، فهي كلمة واحدة تقريبا في جميع اللهجات، واستنبط فون كريمر من هذه الظاهرة حقيقة جغرافية هامة، وهي: أن موطن الساميين الأصلي، لا بد أن يكون بيئة قد استوطنها الجمل منذ أقدم العصور؛ وفي الوقت نفسه لا تعيش فيها النعامة، ولا يوجد فيها نخل. ويوصف هذا الرأي بأنه رأى لغوي؛ لأنه يقوم على أساس لغوي بحت، ومن ثم يصعب على الباحث، المحقق أن يجعله القول الفصل في هذا البحث المشكل؛ فإن هناك أسبابا قوية تدعونا إلى الشك فيه، وتحول دون قبوله، وعده نهائيًّا في حل المشكلة. ومن بين هذه الأسباب: ما ذكره نولدكه شيخ المستشرقين، وهو: أن من الممكن أن نجمع عدة ألفاظ، تعد من الألفاظ العامة المشتركة، التي ورثتها جميع اللهجات السامية، والتي لا تنطبق مدلولاتها على أشياء واحدة في البلاد، التي يقول أصحابها هذا الرأي، أنها كانت موطن الساميين الأول، ولا في بلاد بابل، والتي يقال إنها موطن الساميين الأول. رابعا: الرأي العربي يتلخص هذا الرأي: في أن جزيرة العرب هي الموطن الأصلي للساميين؛ أول من قال بهذا الرأي هو: سايك الإنجليزي Sayce فقد ذكر في كتاب ألفه في قواعد اللغة الآشورية، وظهر في سنة 1862 العبارة التالية: "إن جميع التقاليد السامية تدل على أن جزيرة العرب هي موطن الساميين الأول؛ فإنها البلاد الوحيدة التي تدل على أن جزيرة العرب هي موطن الساميين الأول؛ فإنها البلاد الوحيدة التي بقيت؛ أي لم يؤثر فيها نفوذ أجنبي يخرجها عن طبيعتها، وأن مميزات الجنس السامي؛ التي منها: القوة في العقيدة الدينية، والشجاعة الخلقية، وقوة الخيال؛ لا بد أن يكون مصدرها الصحراء، وفي سنة 1873 أعلن شريدر الألماني الرأي نفسه في مجلة "تاس أو سلاند" بحث فيه العلائق الدينية، والجغرافية، والتاريخية، واللغوية، التي كانت تربط الأمم السامية بعضها ببعض، ثم وصل إلى النتيجة نفسها، وهي: أن بلاد العرب كانت مهد هؤلاء جميعًا قبل أن يتفرقوا، وفي سنة 1875 نشر

سبرنجر الألماني Sprnger جغرافية بلاد العرب القديمة، يذهب إلى نفس الرأي. ولقد أيد "رايتر" الرأي القائل: بأن الهجرات السامية خرجت من قلب الجزيرة العربية إلى ما جاورها؛ فقد هاجرت جموع من العرب إلى سوريا، وما بين النهرين، واستولوا عليها؛ وقد حدث في القرون المسيحية الأولى أن استولى فريق من تجار العرب على مملكة "تدمر" غرب بلاد العرب، وأخضعوها لسلطانهم؛ وكذلك اقتسمت سهول سوريا الجنوبية ثلاث دويلات عربية هي: دويلات الغسانيين، والحيريين؛ وفي إبان الصراع مع الفرس، والروم كان الأكاسرة، والقياصرة يعتمدون على العرب المناذرة، حكام الحيرة، والغساسنة حكام الشام. ولهذه الهجرات يذهب المؤرخون إلى تمييز الساميين إلى: - الساميين الجنوبيين: بلاد العرب وأثوبيا. - الساميين الأواسط: يسكنون كنعان. - الساميين الشماليين: الآراميين في سوريا. - الساميين الشرقيين: في بابل وآشور. ولكن كلهم على السواء كانوا أولاد بيت عربي واحد وأواصرهم المتبادلة تبرز في وضوح في اللغة والدين، والثقافة1. وخرجت هذه الهجرات بسبب تصدع سد مأرب في الركن الجنوبي من الجزيرة العربية، الذي ترتب على تصدعه إغراق جميع الأراضي الجنوبية، وهجرة كثير من القبائل القحطانية إلى الشمال في العراق، والحجاز، والشام، وكان منهم المناذرة والغساسنة، والأوس، والخزرج. يقول فيليب حتى: والحجة الجغرافية بالنسبة للجزيرة العربية تقوم على أن البلاد صحراوية يحيط بها البحر من ثلاث جهات؛ ولذلك فإنه عندما يزيد السكان عن قدرة الأرض المأهولة الضيقة لإعاشتهم؛ فإنهم

_ 1 تراث العالم القديم ص45.

يميلون إلى البحث عن مجال حيوي متيسر فقط في الأراضي الشمالية الخصبية التي تجاورهم؛ ويؤدي ذلك إلى الحجة الاقتصادية التي تقول: إن أهل الجزيرة الرحل كانوا دومًا يعيشون على ما يقرب من الجوع، وإن الهلال الخصيب كان أقرب مكان يزودهم بما يحتاجون إليه1. خامسًا: الرأي الديني يذهب المؤرخون القدماء إلى تقسيم الأجناس البشرية إلى ثلاثة أجناس: 1- الجنس السامي. 2- الجنس الحامي. 3- الجنس اليافثي. وذلك نسبة في رأيهم إلى أبناء نوح -عليه السلام- الثلاثة، سام، حام، يافث على حسب ما ورد في الفصل العاشر من سفر التكوين، وقد قرروا أن أي جنس آخر لا بد أن يكون متفرعا من أحد هذه الأجناس الثلاثة؛ يقصدون بذلك أن جميع سكان الكرة الأرضية هم من نسل نوح؛ وقد بنوا رأيهم هذا على ما يستفاد من التوراة، من أن الطوفان الذي حدث في عهد نوح كان طوفانا عاما، شمل الأرض جميعا. وهذا الرأي الذي يستند إلى مصدر ديني؛ يتضمن حقيقتين؛ هما: أولا: أن جميع لغات العالم انحدرت من لغة واحدة، هي اللغة التي كان يتكلم بها أبناء نوح بعد الطوفان. ثانيا: أن جميع الشعوب البشرية، التي تسكن جميع أنحاء الأرض، قد انحدرت من أصل واحد، هو نوح -عليه السلام- وقد ظل هذا الرأي سائدا حتى عصر النهضة الأوربية. سادسا: الرأي المتطرف وجاء عصر إحياء العلوم، والمعارف في مستهل العصور الحديثة، التي تقدمت فيها العلوم الطبيعية، وانتشرت المباحث البيولوجية، وتعددت المصادر التاريخية بالنقوش وغيرها من الآثار التي خلفها القدماء، فتغيرت وجهة الباحثين في هذا الموضوع، وكان من نتائج تلك البحوث أن أنكر فريق من العلماء هذه القصة من أولها إلى آخرها، وعدوها من الأساطير الموضوعة، والأحاديث المختلفة، التي وضعها قدماء

_ 1 تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ص67.

القصاص من الأمم السامية، وخاصة بني إسرائيل؛ ثم أخذوا يعلنون آراءهم، التي تخالف ما ورد في تلك القصة النقلية في جملتها وتفصيلها. سابعا: يتوسط بينهما غير أن فريقا من العلماء الذين يحرصون على القديم، هبوا يقولون: إن كل أسطورة لا بد أن يكون لها أصل تاريخي تستنند إليه، وإن قصة خلق العالم كما ذكرت في سفر التكوين، وفي بعض آثار بابل القديمة على فرض أنها غير مقبولة في تفصيلها، لا بد أن تنطوي على شيء من الحقيقة، وعلى هذا الأساس أخذوا يوفقون بين المذهبين: الديني والعلمي، وأقبلوا يؤولون ما يقبل التأويل من النصوص المدونة في الكتب المقدسة خاصة بهذا الموضوع؛ كان تفسيرهم لحادثة الطوفان، المروية في سفر التكوين أنها حصلت بالفعل؛ ولكنها كانت حادثة محلية، ويرجح أن منشأها هو فيضان دجلة والفرات، وما يتصل بهما من نهيرات فيضانا خارقا للعادة؛ وكانت حادثة مروعة لم يعهد لها التاريخ نظيرا من قبل. نظريات حديثة في تقسيم الأجناس: لقد ظهرت آراء كثيرة مستنبطة من العلوم، التي تبحث في شئون الإنسان، يستفاد منها أن النوع الإنساني ينقسم على أساس اختلاف بنيته؛ واختلاف ألوان بشرته إلى أربعة أقسام: أولا: الجنس الأبيض: الذي يوصف أحيانا بأنه الجنس القوقازي؛ وقد انتشرت منذ آلاف السنين في أوربا؛ ثم في حوض البحر المتوسط الشمالي، والجنوبي، وغرب آسيا. ثانيا: الجنس الأصفر: الذي يوصف بأنه الجنس المغولي أو الطوراني، وقد انتشر في شرق آسيا، وبعض جهات أمريكا1. ثالثا: الجنس الأسود: الذي يوصف بأنه الجنس النوبي، وقد انتشر في أفريقيا، واستراليا.

_ 1 الأمم السامية ص61.

رابعا: جنس رابع: ليست له مميزات خاصة، بارزة، كان يسكن بعض جهات استراليا، وغينيا الجديدة. وهذا التقسيم تقريبي؛ وليس معناه أن هذه الأجناس عاشت مستقلة بعضها عن بعض، بعيدة عن الاختلاط بغيرها. ويرى العلماء أن الجنس الأبيض القوقازي ينقسم إلى ثلاثة أقسام فرعية: 1- الجنس الأصهب الشمالي. 2- الجنس الأسمر الجنوبي. 3- جنس بين هذين الجنسين. ومن بين هذه الشعوب التي تنتمي إلى الجنس الأسمر الجنوبي، المنتشر حتى الآن في جنوب آسيا الغربي، وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبية، شعوب خاصة اصطلح المؤرخون من القدم أن يسموها الشعوب السامية1. كذلك نرى أن الجنس العربي أو السامي الأصلي قد فقد شخصيته، ومميزاته بالاختلاط بالأجناس والشعوب الأخرى؛ وذلك لأن الإسلام لم يمنع من اختلاط العرب بالعجم، والمصاهرة بين الجنسين، ومن ثم نرى أن القبائل العربية التي تركت الجزيرة العربية، وانتشرت في بقاع الأرض بانتشار الإسلام امتزجت بالشعوب المختلفة، وأصبح من الصعب في كثير من الأحيان تمييزهم من الأجانب2. ويرى فيليب حتى: أن هذه التسمية من وجهة علمية هي تسمية لغوية، وتطلق على الذين يتكلمون أو تكلموا لغة سامية، واللغات السامية كما هو معترف بها اليوم هي مجموعة لغوية خاصة تضم اللغة الآشورية، والبابلية، الأكادية، والكنعانية "الفينيقية"، والآرامية، والعبرية، والعربية، والحبشية، وأهم خواص التشابه ضمن هذه المجموعة اللغوية؛ هي وجود فعل ثلاثي كمصدر

_ 1 الأمم السامية ص63. 2 الأمم السامية ص63.

أساسي، ووجود زمنين للفعل كما في الماضي، والمضارع؛ وتصريف الفعل يتبع نفس الأسلوب؛ وفي جميع لغات المجموعة السامية؛ نجد تشابهًا بين الكلمات الأساسية؛ كالضمائر الشخصية، والأسماء التي تدل على الغرابة، والأعداد، وأعضاء الجسم الرئيسية؛ هذه القرابة اللغوية بين الشعوب التي تتكلم اللغات السامية هي أهم رابطة تبرر ضمهم تحت اسم واحد، ولكنها ليست الرابطة الوحيدة؛ فإذا ما قارنَّا مؤسساتهم الاجتماعية، وعقائدهم الدينية، وصفاتهم النفسية، وأوصافهم الطبيعية؛ اتضحت لنا نواحٍ هامة للتشابه؛ وعندئذ لا بد من الاستنتاج بأن بعض أسلاف الذين تكلموا البابلية، الآشورية، والكنعانية، والعبرية، والآرامية، والعربية، والحبشية، كانوا غالبا يتكلمون جماعة واحدة، قبل أن تحصل بينهم هذه الاختلافات؛ وأن هذه الجماعة كانت تتكلم اللغة نفسها، وتعيش في المكان نفسه1.

_ 1 تاريخ سورية ولبنان وفلسطين جـ1 ص66، 67.

الأمة السامية بطونها وتراثها الحضاري والديني

الأمة السامية بطونها، وتراثها الحضاري والديني: أولا: السومريون توحي العناصر المشتركة بين حضارات الشرق الأوسط بأن عوامل نشوئها متشابهة؛ وتتضمن كلمة الشرق الأوسط: مصر، الأناضول، سوريا، لبنان، فلسطين، العراق، إيران، الجزيرة العربية كلها، وكان وادي نهر الهند وأرض الرافدين ووادي النيل خلال 3200 ق. م. نهاية مطاف أولئك الرعاة من البدو الذين يتحركون في أعماق التاريخ إلى تلك الروافد الخصيبة في اندفاع كالموج الهادر يشق مجراه، ومع مصبه يكون ظعنهم وإقامتهم. ومن هنا يرجع المؤرخون حضارة ما بين النهرين إلى السومريين، الذين عبروا بالعراق إلى خصائص العصور التاريخية بما تركوه من آثار عبرت عن حضارتهم التي بدأت في القرن الثلاثين ق. م، وتعدد مراكز التجمع والتحضر حينذاك في النصف الجنوبي من سهول النهرين؛ وبهم عرف التاريخ باسمهم السومريين؛ ثم استخدمه الساميون خلفاؤهم في قولهم: "مات شوميرين" بمعنى أراض شومير؛

نزحوا من المناطق الجبلية للهند، التي تسمى بلوشيستان؛ واستولوا على مقاليد الحكم في أرض الرافدين؛ وسموا بالسومريين؛ وظلوا إلى أن نزحت الأمة السامية، أو العربية القاطنة في الجزيرة العربية العربية إلى أرض الرافدين وبلاد الشام. ويرى علماء الأجناس أن وجود ملامح تشابه بين وجوه السومريين، وسكان وادي نهر الهند؛ دعا كثيرا من علماء الأحفار إلى القول بأن السومريين كانوا من الأصل الهندي، نزحوا من المناطق الجبلية التي تسمى ببلوشستان؛ واستولوا على مقاليد الحكم في أرض الرافدين. ثانيا: الأمة السامية يقول سفر التكوين: وسام أبو كل بني عابر، أخو يافث الكبير، وله أيضا بنون: يوسام، عيلام، آشور، أرفكشاد، آرام1. ويعلق الفقيه اللغوي حامد عبد القادر على النص فيقول: قال النص: إن سام هو أبو كل بني عابر مع أنه أبٌ لجميع من تناسل من أبنائه المذكورين "عيلام، آشور، أرفكشاد، آرام"، وعبر هذا من أحفاد أرفكشد؛ لأنه ابن شلح بن أرفكشد؛ عبر أيضًا هو الجد الخامس لإبراهيم؛ وإلى عبر هذا ينسب إبراهيم، فيقال: إبراهيم العبري فالظاهر أن النص خص عبر بالذكر دون غيره من أحفاد سام لما يروى من أنه كان نابها ذا منزلة اجتماعية عظيمة عرفها التاريخ2. 1- عيلام: عيلام اسم مملكة كانت تقع في المناطق الجبلية لإيران، وعلى مقربة من أرض الرافدين، شرق بابل، وكانت عاصمتها "سوسة" الوارد ذكرها في التوراة "شوشان"، وهي بلاد مجدبة تكثر فيها المرتفعات، والمعروف تاريخيًّا أن سكانها لم يكونوا ساميين، بدليل أن لغتهم كانت من النوع الإلصاقي؛ وأدخلوا في الساميين؛ لما كان بينهم وبين الساميين من علاقات اجتماعية وسياسية.

_ 1 سفر التكوين: إصحاح 10، آية21. 2 الأمم السامية مصادر تاريخها وحضارتها ص29.

اقتبس عيلام حضارته من الحضارة السومرية؛ وتعلم منها الكتابة بالخط المسماري، ووفق ماجاء في سفر التكوين "14-10" أن ملكا عيلاميا اسمه:كرد لعومر" استعبد البلاد الكنعانية فترة قصيرة1. 2- الآشوريون: أما الآشوريون؛ فكانوا ساميين لغة ونسبا، ولغتهم قريبة الشبه تماما بإخوتها اللغات السامية، وخصائص الآشوريين الخلقية، والعقلية هي نفسها الخصائص التي يذكرها المؤرخون على أنها خصائص الجنس السامي. وينسب الآشوريون إلى بلادهم: آشور، وآشور أكبر مدنها، وعاصمة بلادهم مرتفع على مقربة من التقاء نهر دجلة ونهر الفرات الأسفل؛ ويمكن القول: بأن الآشوريين شعبة من البابليين، هاجروا من بابل، التي هي جنوب العراق بعد أن ضاقت بهم؛ وذلك للتشابه بين اللغتين: الآشورية والبابلية بشكل عظيم، ولم يكن الفرق بين اللغتين يجاوز كثيرًا الفرق بين لهجتين للغة واحدة؛ كذلك أخذ الآشوريون أبجديتهم المسمارية، وعلومهم، وتقاليدهم الاجتماعية؛ وكانت آلهة كل فريق: هي عينها آلهة الفريق الآخر؛ ما عدا إله آشور الأكبر، الذي اختص به الآشوريون، وهو إله الشمس "أشور"، ثم أطلق على المدينة. يرى حامد عبد القادر أن السبب في إغفال ذكر البابليين في قائمة الأنساب، التي يتضمنها الفصل العاشر من سفر التكوين؛ هو أن هؤلاء البابليين لم يكن لهم نفوذ سياسي، ولا كيان اجتماعي يعتد به عند تدوين ذلك السفر، ولم يكن سكان بابل ساميين دائمًا؛ بل إن سكانها الأقدمين كانوا ينتمون إلى شعب آخر، ولم تكن لغة هؤلاء الأقدمين من الفصيلة السامية اللغوية، بل كانت لغة إلصاقية2، ولكن حتى يرى أنهم الآشوريون بعد ما اندمجوا بالسكان الأصليين، وهؤلاء هم الآكديون بعدما اندمجوا بالحوريين، الوارد ذكرهم في التوراة، الذين ورثوا عنهم الملامح الآرمينية3.

_ 1 الأمم السامية ص26. 2 يراجع الأمم السامية ص27، ص28، حامد عبد القادر. 3 خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الأوسط جـ1 ص67، فليب حتى.

ولعل السبب الذي مال إليه حامد عبد القادر لا يتأيد تاريخيا؛ لأن خليفة آشور ناصر، وهو شلمناصر الثالث 859-824 ق. م. واجه تحالفا عسكريا في وادي نهر العاص، على رأس هذا التحالف العسكري "بن-هدد" ملك دمشق الآرامي، والتحالف يضم جيش آحاب ملك العبرانيين، وجيش جندب، وهو شيخ من شيوخ العرب، وفي هذه المعركة ذكر لأول زعيم عربي في التاريخ، يذكر اسمه بوضوح. 3- البابليون الآشوريون: ورد في سفر التكوين "وكان سفرهم إلى الشرق -أي أبناء نوح- أن وجدوا بقعة من الأرض، في أرض شنعار فأقاموا هناك"1 شنعار: هي بلاد بابل، وهي جزء من بلاد حوض دجلة والفرات يقع جنوب مدينة بابل القديمة، ويمتد إلى الخليج الفارسي، ولم يطلق اسم بابل على هذا الإقليم إلا بعد أن استولى عليه "سرجون الأول" في القرن الثامن والثلاثين ق. م. وأقام هناك معبدا جديدا للإله "صردوح"، ثم أطلق على المدينة التي أقام بها ذلك المعبد اسم "باب إيل" وأصبحت فيما بعد بابل؛ على أنه قد ورد في سفر التكوين "11-89" تعليلا آخر لهذه التسمية؛ فقد قيل هناك: إنها سميت كذلك؛ لأن قوما من الأقدمين بَنَوْا هناك هيكلا كانوا يجلسون عند بابه للفصل في قضاياهم، وفيما يحدث بينهم من خلافات، فسميت المدينة باسم "باب إيل" أي باب الله؛ لأن ذلك هو الاسم الذي أطلقه هؤلاء القدماء على باب الهيكل. يقول أرسطو: إن بابل أمة أكثر منها مدينة2. يقول يردسوس: إن بلاد بابل كانت مقرا لجموع من الناس ينتمون إلى شعوب أجنبية، كانت قد أقامت في بلاد الكلدان فترات متعاقبة قبل أن يسكنها الساميون3. وكانت كلديا تنقسم إلى مقاطعتين؛ الأولى في الشمال وهي مقاطعة آكد.

_ 1 "بابل": نجيب إبراهيم جـ3 ص186، "الأمم السامية" ص31. 2 "تراث العالم القديم" ص45. 3 "السياسة" جـ3.

والثانية في الجنوب؛ وهي مقاطعة شنعار، أو شومر، وكانت آكد أسبق المقاطعتين إلى الخروج من أيدي الشومريين إلى أيدي الساميين، الذين سموا فيما بعد بالبابليين، وهم الذين أسسوا أول إمبراطورية سامية، بلغ أوج عظمتها في عهد سرجون الأول في القرن الثامن والثلاثين قبل الميلاد؛ أما المقاطعة الجنوبية وهي شومر، أو شنعار، فلم تخضع للساميين إلا في عصر متأخر. 4- الآكديون: كان الآكديون فرعا من هجرات سامية متوالية، تكاثرت أعدادها بوادي العراق، والشام قبيل منتصف الألف الثالث قبل الميلاد؛ ثم تشعبت فروعًا كثيرة؛ فكان منها ما انتشر في نواحي الشام، واتجهت آمالها نحو المناطق الخصبة بالعراق؛ والشعبة الثانية عرفت باسم الأموريين، أطلق عليهم "السومريون" بمعنى أهل القرب؛ وإن كان هناك بعض نصوص بابلية تذكر أن إحدى آلهتهم الكبرى تسمى "باحور" مما يرجح نسبتهم إليها. وكانت الجماعة الثانية تعرف "بالآكديين"، الذين اكتسبوا اسمهم بالانتساب مؤخرا فيما يحتمل إلى العاصمة "آكد" التي أصبحت مركزًا لنشاطهم السياسي والحربي، بعد فترة من استقرارهم بالعراق، وبعد أن انتظمت أمورهم وعز شأنهم فيه. وحين استقر شأنها ونجحت في تكوين دولة كبيرة في العراق، دعت إلى نوع من تعظيم أولي الأمر الكبار فخطر لدى بعض أهل العراق فكرة تقديس الحكام، أو نعتهم بنعوت الربوبية، وإن جمعتهم هذه الفكرة على السواء، وأدخلت معها ألفاظ ومسميات سامية، وجدت سبيلها إلى لغة العقائد، والآداب، والأسماء؛ فأدخلت إلى الدين اسمي: سينن وشمس "القمر والشمس" إلى جانب اسميهما السومريين القديمين، "وأوتو" اسم المعبود الزهرة؛ وهي عشتار عند الساميين الأموريين التي شابهت "أنانا" السومرية، كما أدخلت معها بضع صفات ربانية مثل "بعل" بمعنى: سيد وإيل "أو إل" بمعنى إله، وذلك فضلا عن لقب "شارو" بمعنى ملك، وقد حل محل لقب "لوحال" السومري القديم؛ وألقاب كهنوتية مثل "شيبو" بمعنى كهنة الطقوس، وعدد كبير من أسماء الأفراد من أطرفها اسم يقرب من اسم "إسماعيل" أو "يشع ال" وله دلالة بالغة الأهمية؛ إذ إن ظهوره منذ أكثر من أربعة آلاف عام يدحض دعوى بعض غلاة اليهود ممن أرادوا أن يشككوا العرب الشماليين فيما تواتر

عن نسبهم إلى إسماعيل -عليه السلام- بدعوى أن اسم إسماعيل لم يعرف مثيل يسبق ظهور الإسلام1. ويذهب حتى: إن أول شعب سامي هام بحثًا عن موطن له في البلاد السورية، وأقام فيها هو الشعب الذي سماه جيرانه السومريون في الشرق: بالأموريين. يقول حتى: ولا ندري الاسم الذي كان يطلقه على نفسه، وهذه كلمة سومرية، وهي من جهة الاشتقاق شبيهة باسم البلاد "وماشوا" أي بلاد الغرب؛ وكان هذا أيضا إلههم القديم هو إله الحرب والصيد؛ والأموريون لم يقتصروا على تأسيس دولة في منطقة الفرات الأوسط، واجتياح سورية، وإنما اجتاحوا بلاد ما بين النهرين؛ وفي هذا السهل يبدأ التاريخ السوري المستمر، وأول ممثلي الساميين هم الأموريون. ويقول: وتظهر أول إشارة إلى أرض الأموريين من عصر سرجون حوالي "225 ق. م"، وقد أسسوا عدة سلالات من آشور في الشمال وأهم هذه السلالات كانت سلالة بابل؛ وهي أول سلالة ظهرت في هذه المدينة، وانتسب إليها حمورابي2. 5- الكنعانيون الفينيقيون: كان الكنعانيون الذي سماهم اليونان بالفينيقيين ثاني جماعة سامية لعبت دورا هاما في التاريخ؛ والكنعانيون والآموريون ينتسبون إلى موجة الهجرة نفسها، والاختلاف الحضاري بينهما ناشئ عن أن مركز الآموريين الأصلي كان في شمال سورية فتعرضوا لتأثيرات سومرية بابلية، بينما كان مركز الكنعانيين الجغرافي في الساحل، ولذلك كانوا متجهين نحو مصر. وقد أطلق اسم كنعان في أول الأمر على الساحل، وغرب فلسطين ثم أصبح الاسم الجغرافي المتعارف عليه لفلسطين، وقسم كبير من سورية؛ وكان هذا أول اسم لفلسطين؛ وفي وثائق العهد القديم الأول أطلق اسم كنعاني بمعناه الواسع على جميع سكان البلاد بدون أي مدلول عرقي، سادت الديانة واللغة الكنعانيتان بالظهور

_ 1 "الشرق الأدنى القديم، مصر والعراق": دكتور عبد العزيز صالح طبعة الأنجلو المصرية طبعة ثانية 1982. 2 تاريخ سورية ص74، 75.

من غياهب العصور السامية القديمة حوالي مطلع الألف الثاني ق. م. غير أن أسلاف الذين سمو كنعانيين كانوا غالبا يحتلون البلاد قبل ذلك بألف سنة أو أكثر. الوجه الثقافي والديني للحضارة الفينيقية: كان الفينيقيون أول أمة بحرية في التاريخ، وكان البحر لا يخيفهم والعالم المجهول يفتنهم بدلا من أن يلقي الرعب في قلوبهم، وكان الفينيقيون أول من قدم أربع موادٍّ هامة مفقودة في كثير من بلاد البحر المتوسط وهي "الأخشاب، والقمح، والزيت، السكر" وأصبح البحر المتوسط بحيرة فينيقية قبل أن يكون بحيرة يونانية أو رومانية بوقت كبير، وفي بلاد اليونان يشهد وجود أسماء سامية للمواقع، والآلهة إلى جانب وجود الأساطير الخرافية الكثيرة بنشاط فينيقي، ومن الجزر اليونانية التي لها صلة بالاسعمار الفينيقي ساموس، وكريت، وكانت لهما مكانة بارزة في هذه الناحية، إن السفن كالقوافل -فوق ما تحمل ن شحنات البضائع- تحمل أمورا غير ملموسة تساويها في أهميتها إن لم تفقها بالنسبة للتقدم البشري، وهذه الأمور غير المادية هي المؤثرات الحضارية المتنوعة، التي أتى بها التجار الفينيقيون، ونشروها بين الشعوب التي احتكوا بها، وبخاصة اليونان الذين أصبحوا تلامذتهم في شئون الملاحة؛ وأخذوا عنهم أشياء مختلفة في ميادين الأدب والدين، والفن الزخرفي، وكان الفينيقيون يلعبون دور الوسطاء من الناحيتين الفكرية، والروحية؛ كما كانوا من الناحية التجارية. يبدو أن الفينيقيين الذين كانوا أول من استعمل نظامًا أبجديًّا راقيًا في الكتابة، ونشروه في العالم، قد أخذوا أساس أسلوبهم من مصادر مصرية هيروغليفية بطريق سيناء؛ والرموز الهيروغليفية كانت في الأصل صورا للأشياء التي أرادت الدلالة عنها، ولكنها أنشأت من وجهة صوتية أربعين إشارة كانت حروفا ساكنة؛ غير أن المصريين المحافظين لم يذهبوا إلى حد استخدام هذه العلامات الساكنة وحدها؛ ولذلك فإن العلامات ظلت بدون أهمية حتى حوالي نهاية القرن السابع عشر حين اتفق لأحد الأسر الكنعانية، أو لأحد العمال في مناجم الفيروز في سيناء -كما يظن- أن يتجاهل الرموز الهيروغليفية المصرية؛ لعدم تمكنه من حل ما فيها من تعقيد، وأن يستعمل العلامات الساكنة، وكان المكان الذي ربما حصل فيه ذلك -هو سرابيط الخادم؛ وقد أعطيت للعلامات الساكنة أسماء سامية، وقيم سامية؛ فقد اتخذ الساميون مثلًا علامة

رأس الثور بدون أن يهتموا ماذا يعني رأس الثور في اللغة المصرية، سموا العلامة "ألف" باسمها السامي؛ ثم طبقوا المبدأ الذي بموجبه يعطى الحرف الصوت الأول في اسم الشيء الذي يمثله؛ وفي هذه الحالة استعملوا علامة الألف لأجل صوت "أ"، وعملوا الشيء نفسه بالنسبة للعلامة الدالة على "بيت" فسموها "بيت"، واستعملوها لأجل صوت "ب"، وعلى ذلك فإن العامل في سيناء استخدم فقط الفكرة الأبجدية، الموجودة في العلامات الساكنة المصرية، وشكل لنفسه مجموعة بسيطة من العلامات التي يمكن أن تتهجى بها الكلمات؛ والفينيقيون الذين كانت لهم علاقات تجارية مع سيناء اقتبسوا على الغالب هذه الإشارات وأضافوا إليها، وجعلوا منها نظاما أبجديا تاما مؤلفا من اثنتين وعشرين علامة، بدون حروف صوتية، بسبب تأثير الهيروغليفية المصرية؛ وهكذا حصل ما سموه بحق أعظم اختراع أتى به الإنسان، ونظام الكتابة الأبجدية الخطية بحروفها الاثنين والعشرين، والمكتوبة من اليمين إلى اليسار، كانت غالبا من عمل الفينيقيين في بيبلوس؛ وقد اخترع فينيقيون آخرون، وهم الذي عاشوا في أوغاريت نظاما أبجديا آخر على أساس مختلف فقد كتبوا الأبجدية بقلم على ألواح من الطين؛ ولذلك اتخذت شكل علامات مسمارية أو اسنينية1. ومثل هذه الأبجدية، وتطور الكتابة على يدي الفينيقيين لا تترك مجالا للشك، بأن العصر كان عصر تنوع، وتلقيح حضارات تمازجت فيه بحرية الأفكار العلمية، والدينية من بلاد الرافدين، ومصر وسورية، وجرى التبادل فيما بينها؛ وظلت اللغة الفينيقية في شكلها المعروف بالبوني تستعمل حتى العصر الإسلامي. ديانة الكنعانيين: ديانة الخصب الأمر الأساسي في الديانة الكنعانية كما تظهره لنا المكتشفات الأثرية الحديثة هو عبارة عن قوى النمو، والتوالد التي يعتمد عليها كيان مجتمع زراعي يهتم بتربية الماشية في أرض أمطارها قليلة، وغير مؤكدة، ويصدق هذا إلى حد كبير على جميع الديانات السامية القديمة؛ والصفات البارزة في ديانة الخصب السامية هذه هي الحزن على موت إله النبات وإجراء طقوس للتمكين من الفوز على خصمه "إله الموت"، و"العالم الأسفل"، حتى يضمنوا كمية كافية من المطر الضروري لإنتاج موسم العام الجديد، والفرح عند عودة الإله الذي يموت، ثم يبعث تصبح جزءا هاما

_ 1 تاريخ سورية ص118، ص119.

من الأعراف المسيحية؛ ويتصل بفكرة جفاف النبات الدوري بسبب حرارة الصيف، وعودته إلى الحياة في الربيع عنصر القوة المتجددة للشمس المنتصرة، عندما تظهر في الشتاء؛ وسمى الكنعانيون هذا الإله "أدون" بمعنى سيد1، ثم اقتبس اليونان هذا الاسم، وجعلوا منه "أودنيس" وجعل فيما بعد معادلا للإله المصري "أوزيريس"، وأصبح "أودنيس" أشهر الآلهة السورية؛ وأقيمت عبادته في اليونان في القرن الخامس، وجعل الفينيقيون حادثته مع "عشتار"، أو سيدة "بيبلوس" عند منبع النهر الذي يسمى اليوم: نهر إبراهيم في لبنان2. وأما الختان الذي الذي كان عادة سامية قديمة، فقد كان بمثابة علامة قبلية، والديانة الكنعانية تؤكد على دورة الحياة أي تتابع الحياة، والموت؛ ونتج عن ذلك التأكيد على الناحية الجنسية من الحياة؛ وقد تجلى ذلك في البغاء المقدس، الذي كانوا يمارسونه، بمناسبة إقامة الطقوس في الأماكن المقدسة وبعض مظاهر هذه الطقوس، استعارها العبرانيون كما يظهر، وكان لديهم ما يسمى "بمومسات المعبد"3. الآلهة: إن ديانة كنعان القديمة، وبقية العالم السامي، باعتبار أنها بالدرجة الأولى تقوم على عبادة الطبيعة، كانت تضم إلهتين رئيستين تعرفان بأسماء مختلفة؛ ولكنهما في جوهرهما الجو الأب الأرض الأم. وفي أوغاريت، كان إله الجو يعرف باسم "إيل"؛ بينما الإله الأعلى للعالم الكنعاني العبراني؛ وبعده يأتي عليان الذي أصبح كبعل له مكان معين، واعتبر حاميا لإحدى المدن؛ وكانت الأمطار والغلال تحت مراقبته؛ والأعياد كانت تقام؛ لإرضائه، والتقدمات تعطي؛ لاستعطافه؛ والذبيحة، أو التقدمة كانت بجوهرها احتفالا يشترك فيه العابد، والمعبود، أو حفلة اشتراك، ولعدم وجود أية صورة محفورة؛ كانوا يرمزون إلى الإله بعمود أو

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص123. 2 سفر حرفيال 8: 14. 3 تاريخ سورية جـ1 ص127.

حجر، والإله "ملخ" الذي تقدم له الأولاد كضحايا يعتبر أنه نفس "ملقارت" أي سيدة المدينة "مدينة صور" كانت رفيقة "إيل" تسمى "عاشرة" وكانت توجد الإلهة الأخرى اسمها "عشتارت"؛ وعند اليونان "أسنارت" ودمجها اليونان "بأفروديت" فأصبحت أشهر إلهات الخصب وصارت باعتبارها بعلة، أو سيدة متصلة بمكان معين، وأصبحت حامية المدينة؛ وكان اسم "عشتار" هو الذي تتسمى به الإلهات المحلية، المقرونة "بالبعليم" في الأماكن المرتفعة، الكنعانية التي كان لها تأثيرها، وجاذبيتها الخاصة بالنسبة للقوم العبرانيين؛ حتى إن الأنبياء اضطروا لمهاجمتها مرارًا1، وبالإضافة إلى لقب "بعلة" فقد كانت "عشتار" تلقب "ملكة" وتظهر "عشتار" كشقيقة "عليان بعل"، وتعطي لقب عذراء؛ وكانت لإلهة "عنات عشتار" تهب الحياة، وتبيدها، ومن أوصافها البارزة: الحب، الحرب. الهياكل: كانت الفكرة الأساسية في بناء الهيكل: تزويد الآلهة بمسكن لها؛ فهناك كان الإله يسكن كما يسكن أي كائن بشرى في بيته الخاص وبواسطة الهيكل كان يتاح مجال للاتصال بينه وبين البشر، بحيث يتمكن الكائن البشري من تأسيس علاقات شخصية مع الكائن الإلهي، وأقدم الهياكل الكنعانية، المكتشفة ترجع إلى مطلع الألف الثالث، وكانت في "أريحا، ومجدو" وكان هذا النموذج القديم يتألف من غرفة واحدة، لها باب على الجانب الطويل من البناء، ويصبح البناء متكاملا أكثر بعد منتصف الألف الثاني، وأهم صفات هذا الهيكل كما ظهرت في الأماكن المكتشفة كانت: المذبح الصخرى، والنصب المقدس، والعمود المقدس، والغرف تحت الأرض، وكان المذبح الذي تقدم عليه الذبيحة، أهم هؤلاء بدون شك2.

_ 1 سفر القضاء 2: 13؛ أرميا 32: 35، الملوك الثاني 23: 13. 2 تاريخ سوريةجـ1 ص128.

النصب أو الحجر المقدس: كان يمثل الإله المذكر، وربما كان لأصله علاقة بعضو التناسل؛ وبجانبه كان العمود المقدس، أو الشجرة المقدسة، وكانت تمثل النبات الدائم الخضرة، الذي تسكنه إلهة الخصب، وفي بيت "شأن" كان هذا العمود يقوم في مدخل الحرم الداخلي؛ والغرف الكائنة تحت الأرض كانت غالبا تستخدم؛ لتلقي النبوءات؛ وكانت الأواني المستخدمة في إراقة السوائل، والمزخرفة بالحيات، وطاسات البخور والمباخر التي وجدت تشير إلى الأعمال التي استخدمت لأجلها هذه الأشياء؛ وتفيد بقايا المعابد، التي كانت لها مصاطب يغسل عليها العابدون أقدامهم قبل الصلاة؛ إن الوضوء الذي يشكل جانبا لا بد منه في الصلاة عند اليهود، والمسلمين لم يكن مجهولا عند الكنعانيين، والمباخر الكنعانية اقتبسها اليونان، وفي "بيت شأن" كان يقوم مكان مرتفع في مؤخرة المعبد؛ حيث كان يوضع غالبا تمثال الإله؛ ويدل على بدء المكان المعروف "بقدس الأقداس". الأصنام: اكتفى الكنعانيون عامة بالنصب، والعمود المقدس؛ واستغنوا بها عن صنع الأصنام، والصور، والتماثيل الصغيرة البرونزية التي تمثل بعل واقفا يلوح بالصاعقة بيده اليمني، المرفوعة؛ كانت شائعة، والآلهة كانت عارية، ويداها على جانبيها، أو تمسكان بثدييها، كما لو كانت تعطي الغذاء؛ وقد وجدت تماثيل صغيرة، متعددة من هذا النوع، مصنوعة من المعدن أو الطين؛ ولكنها كلها تبدو أنها كانت تستخدم في المنازل، وليس في الهياكل، وكانت تحترم بسبب قدرتها السحرية، وكان المتعبد المتعلم يعتبر التمثال مسكن الآلهة؛ أما العامي فربما اعتبر التمثال نفسه هو الإله، وكانوا يمثلون الإلهة السورية "أتارغاتس" عادة في أواخر الألف الثاني بشكل امرأة عارية أيضا، وترفع إحدى يديها ممسكة بساق نبات الزنبق، أو الحيات؛ وهناك إلهة سورية أخرى وهي: "قادش" تتخذ شكل امرأة عارية واقفة على أسد، وكان الأسد، أو الثور رمزا للحيوية والقوة، أما لماذا اتخذت الحية رمزا للخصب فإن ذلك غير واضح؛ كانت عبادة الحية شائعة في مصر القديمة، وكريت، وغيرهما من بلاد الشرق، "وبيت شأن" التي كان التأثير المصري ظاهرا في هياكلها الأربعة المكتشفة، كانت من مراكز عبادة الحية1.

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص132.

التأثيرات الدينية بين مصر وسوريا والرافدين: كانت الدول الكبرى في غرب آسيا في الألفين الثالث والثاني ق. م. ثلاث دول هي: مصر، بابل، الحيثيون. وتبعها أربع دول أخرى؛ وهي: دولة الآشوريين، الدولة البابلية الحديثة، دولة الكلدانيين، دولة الفرس، قامت بينها علاقات متبادلة بدأت هذه العلاقات في بادئ الأمر تجارية؛ ثم تنوعت وكانت أول مدينة احتلت مكانة كبيرة ورئيسية في العلاقات المصرية السورية مدينة جبلة "جبيل"، وقد نقش خوفو "2600ق. م." باني الهرم الأكبر اسمه على آنية من الألباستر، وأرسلها كهدية إلى سيدة "جبيل"، واعتبرت هذه الإلهة من قبل المصريين مساوية لإلهتهم "هاتور" التي بذلك أصبحت بالنسبة لهم سيدة البلاد، وكان أبو الهول الذي يمثل إمنمحت الثالث "1642-1633" يقوم عند مدخل هيكل بعل في هذه المدينة، وتدل أسماء الأماكن على اللوائح المصرية، أنه في حوالي نهاية حكم إمنمحت كانت فلسطين، حتى حلفاد في الشرق، وفينيقية حتى وادي النهر الكبير في الشمال، وحوران، ودمشق ومعظم البقاع؛ جزءًا من الإمبراطورية المصرية1. وعندما وصل أمنحوتب الرابع إخناتون "1371-1358" العرش، وكان من أكثر شخصيات التاريخ القديم جاذبية، ولم يكن اهتمام إمنحوتب موجها نحو قضايا الدولة؛ وإنما نحو القضايا اللاهوتية، متأثرا بزوجته السورية. الديانة الحيثية: تظهر أفكار هذه الديانة متعلقة بعبادة الأرواح، فالينابيع، والأنهار والأشجار والجبال كانت تعتبر مقدسة، وكان أشهر الآلهة "نيشوب" إله العاصفة، وإلهة المدن كانت مظاهر محلية لهذا الإله، وكان اسمه "تلبنش"، وهو يقابل الإله السوري "حدد" ورفيقته تسمى "عشتاروت" وعبادة "نيشوب" عشتاروت تقابل عبادة "تموز عشتاروت" عند السوريين، وأصبحت في الغرب عبادة "أدونيس" والزهرة "فينوس"، وفي آسيا الصغرى لدى الفريجيين أصبحت عبادة "أتيس"، "سبيل" وكان

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص172.

يمثل "نيشوب" عادة بشكل رجل يقف على ثور، ويمسك الصاعقة؛ وأقوى إلهة أنثى كانت إلهة الشمس، والتي أصبحت إلهة الحرب، واتخذت بعض صفات الأرض الأم، ولباس الإله كان رداء قصيرًا، وقبعة مخروطية الشكل، وأما لباس الإلهة فكان ثوبا طويلا، وقبعة أسطوانية مرتفعة1. التأثيرات الدينية بين مصر وغرب آسيا: وكما كان تأثير الحضارة المصرية على سورية بارزًا، فإن هنالك دلائل تستلفت النظر بصورة أوسع عن التأثير السوري في مصر، ويتضح التأثير السوري في أقدس قصة مصرية، وهي: قصة آلام أوزيريس، الذي قطع جسمه إربا، ووضع تحت شجرة الأثل في جبيل، وقد تكون عبادة "أوزيريس" برمتها مأخوذة من الساحل السوري في تاريخ قديم جدًّا، وقد أدخل الإله "حورون" وهو الإله الرئيسي في بينة إلى معابد مصر أيام أمنحوتب الثاني، ويمكن الاستدلال على عبادة "عشتاروت" في منتصف القرن الثالث عشر؛ من أن اسم أحد أبناء "رعمسيس" الثاني كان يدعى "استروت" أي محبوب "عشتاروت"2. دامت فترة السيطرة المصرية السياسية على سورية مدة أطول من فترة سيطرة بلاد الرافدين، غير أن تأثير بلاد الرافدين الحضاري كان أعظم بكثير من تأثير مصر، وكان السوريون أقرب إلى الآشوريين البابليين منهم إلى المصريين، من وجهة عرقية، ولغوية وجغرافية. كان السومريون -وهم الشعب غير السامي الذي أبدع حضارة وادي الفرات- يمثلون طيلة الألف الثالث ق. م. أهم جماعة حضارية في غرب آسيا كلها، وأصبحت الكتابة المسمارية التي اخترعوها، والأفكار الدينية، والروحية التي طوروها، والآداب التي أنشأوها جزءا من تراث سورية، بما فيها إسرائيل3.

_ 1 سفر أخبار الأيام الثاني: 26: 6. 2 تاريخ سورية جـ1 ص146. 3 تاريخ سورية جـ1 ص146.

التأثيرات الدينية المتبادلة بين مصر والكلدان، وسورية، والفرس: ادعى الكلدانيون أصحاب دولة بابل الجديدة، السيطرة على سورية كورثة الإمبراطورية الآشورية، وفي عام 587-ظهر "نبوخذ نصر" بنفسه في شمال سورية، وأقام معسكره في "ربلة" في وادي العاصي، ومن هناك أرسل قسما من جيشه إلى الجنوب للتغلب على المدن الفينيقية، وفتح بلاد اليهودية نهائيا، وكانت المستعمرات اليونانية في هذه الفترة قد حلت محل المستعمرات الفينيقية الأصلية وبذلك انتهى العالم الفينيقي، الذي اشتهر بنشاطه وعلمه؛ ولكن الشعب الفينيقي حافظ على شخصيته حتى فتوحات الإسكندر. كتاب الموتى: يقول فيليب حتى: ومن المصادر الأولية الفريدة للاطلاع على الفكر الديني القديم في مصر وصف الدينونة أو الحساب الذي يؤديه الميت في العالم الثاني، فقد خلف لنا المصريون في -كتاب الموتى- تفاصيل دقيقة عما يجري يوم الحساب مما لا نجد له مثيلا في حضارات أخرى في هذا الكتاب، وهو أفضل كتاب أدبي يعني بناحية الدين في مصر القديمة، وصف لطقوس الدفن بلغة رمزية خفية المعنى؛ ووصف للمغامرات الخطرة التي سيمر بها الميت؛ وأفضل نسخة من هذا الكتاب هي نسخة مزينة بالرسوم على ورق البردي يملكها المتحف البريطاني الذي يعرضها في غرفة تعرف "بالغرفة المصرية"، وقد وضعت هذه النسخة من كتاب الموتى في منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد لأحد الكتاب وزوجته في ثيبة، واسمه آني؛ وأروع ما في المشاهد المصورة في هذه النسخة تلك المشاهد التي تمثل يوم الدينونة. يدخل الميت قاعة الدينونة بخشوع تتبعه زوجته توتو، وعندما يتقدم نحو الديان يتلو صلاة ندامة على اثنين وأربعين خطيئة أمام اثنين وأربعين قاضيا يحق لكل قاض منهم أن يحاسبه على خطيئة تقع ضمن دائرة اختصاصه، يبدأ الرجل بسلسلة من الاعترافات السلبية، كأن يقول: لم أسرق ولم أكذب، ولم أتآمر ولم أُبك أحدا ولم أغتصب أرضا، ولم أزْن ولست بقاتل، ولم أتلاعب بالموازين ولم أخدع، ثم يلي هذه الاعترافات السلبية اعترافات إيجابية فيبدأ قائلا: إني طاهر نقي، أطعمت الجائع

وسقيت العطشان، وكسوت العريان، ونقلت الرجل الذي لم يكن عنده مركب ينقله1. وبعد أن تغفر خطايا آني وزوجته -وهو وزوجته واحد- يحضرونه؛ ليقف أمام الإله أوزيريس الجالس على عرشه في محراب تحيط به زوجته إيزيس وأختها نفتيس كما كانا في الحياة الدنيا. مما لا شك فيه أن فكرة الخلود بعد الحياة الدنيا التي يتوقف الفوز بها على تصرف المرء وسلوكه في المجتمع قللت من أهمية الطقوس والشرائع ورفعت من شأن الحياة العملية الفاضلة التي يحياها الإنسان على الأرض، كما أنها قللت من شأن العبادة والقيام بشعائرها ورفعت من شأن السلوك والتصرف الاجتماعي، ولكن النظرة إلى الخطيئة أنها تخلف المرء عن المحافظة على الشعائر والطقوس الدينية ظلت النظرة الشائعة التي كان أهل العراق القديم ومصر وإيران يأخذون بها. وقد تحدرت إلينا من عصر بناة الأهرام أقوال حكمية تتضمن تعاليم اجتماعية عن طريق الاعترافات التي كان الميت يعترف بها يوم الدينونة، وعن طريق النقوش الكتابية على القبور والتوابيت والمراسيم المتعارف عليها في أمور الدفن؛ هذه الأقوال الحكمية وهذه المبادئ الاجتماعية تشير كما يقول المؤرخ برستد2 عنها "إلى انبلاج فجر الضمير الإنساني" وإلى نشوء نظام أخلاقي، ففي سياق إسداء النصح إلى ولده سيزوز ستريس الأول يقول الملك الطاعن في السن أمينمحات الأول "حكم في حدود 2000 ق. م: "تصدقت على السائل وأطعمت اليتيم وأذنت للوضيع أن يدخل إلى مجلسي كما كنت أُدخل النبيل"3.

_ 1 خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدني جـ1 ص92 ص93 تأليف فيليب حتى طبعة الدار المتحدة للطبع والنشر والتوزيع 1982م. E. A Wallis Budge, The Bood of the Dead The: papyrus of ani london 1913. pp. 537. 2 خمسة آلاف سنة جـ1 ص93. James H. Brearted the Daum of conscince pp. 183. seg p.p 203. 3 خمسة آلاف سنة جـ1 ص94. ونفس المرجع السابق.

ولم يكن للآراميين، الذين أتوا حديثا، ولا الإسرائيليين، والفلسطينيين تأثير كبير على هذه الشخصية؛ لقد أفادت الحضارة الآشورية البابلية شعوب الشرق الأدني إفادات كثيرة مثل: المحراث، الذي كان؛ لاستنتاج الأرض نسبيا عما كانت عليه قبل، وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهرًا، وإلى أسبوع مؤلف من سبعة أيام، وأول يوم في الأسبوع اكتسب اسمه من زحل، واليوم الثاني كرسي لإله القمر، والثالث لعبادة الشمس؛ وتاريخ الاحتفال بعيد "الفصح" لا يزال متصلا بالتقويم الغربي، والساعات الشمسية ونظام التنبؤ بالخسوف والكسوف، وعلامات الأبراج الاثني عشر، وكثيرًا من أنظمة المقاييس والموازين1. 6- الآراميون: ينسب سفر التكوين الآراميين إلى آرام بن سام بن نوح، وقيل: هم المقصودون في القرآن الكريم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 2، إلخ، والآراميون قبيلة من قبائل السامية، تتنقل في البادية، في الشمال الشرقي من جزيرة العرب على حدود بلاد العراق الجنوبية، إلى أن انتهى أمرهم إلى الاستقرار بعض الوقت في بعض جهات سورية؛ حيث أسسوا دولة قوية، وعاشوا عيشة حضارية4. يقول حامد عبد القادر: وكان من أشهر تلك الدويلات: 1- دويلة آرام دمشق، في منطقة "دمشق". 2- دويلة آرام صوبة في منطقة "حران"، وكانت حران على الطرق التجارية الهامة، التي تصل الشام بالجزيرة، وشمال الشام ببلاد العرب. 3- مملكة آرام راحوب، في منطقة اليرموك.

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص156. 2 سورة الفجر آية 7. 3 الأمم السامية ص104.

4- مملكة آرام -قفخا في منطقة جبل حرمون. 7- الآراميون-حران: وقد احتل الآراميون مدينة حران غالبًا، وهي أحد مراكزهم في ما بين النهرين، قبل احتلالهم دمشق، واقتبس القادمون الجدد بالتدريج حضارة الآموريين، والكنعانيين، الذين أقاموا بينهم غير أنهم احتفظوا بمظهر واحد من حضارتهم، وهو اللغة، وبخلاف الإسرائيليين والفلسطينيين؛ الذي أقاموا في أ, اخر القرن الثالث عشر في جنوب مناطقهم؛ فإن الآراميين احتفظوا بلهجتهم الأصلية، التي قدر لها أن تلعب دورا بالغ الأهمية في حياة غرب آسيا؛ وقد انقسمت إلى أقسام: 1- آرام النهري، وهم الذين سكنوا ما بين الفرات، ورافدة الخابور. 2- فدان آرام؛ وهم الذين سكنوا ما بين دجلة، والفرات، ومركزها حران، وتقع حران على طريق تجاري عظيم، وأصبحت من أعظم مراكز الحضارة الآرامية. 3- آرام دمشق؛ وقد تأسست مملكة دمشق في أواخر القرن الحادي عشر؛ وأصبحت مملكة كبرى تمتد إلى الفرات من جهة، وإلى اليرموك من جهة أخرى. الوجه الثقافي والديني للحضارة الآرامية: كان التجار الآراميون هم الذين نشروا لغتهم؛ منذ أول عهدهم في مختلف البلدان؛ وهي فرع من مجموعة اللغات السامية الشمالية الغربي؛ وكان فوزها على شقيقاتها اللغات السامية الأخرى، بما فيها العبرية؛ وأصبحت لغة المسيح وشعبه، والإشارة الثانية إن لم تكن الأولى للمسيحيين وجدت مكتوبة بالآرامية بحروف لاتينية مشوهة على جدار مسكن؛ وربما كنيسة في بومبي، مما يجعل تاريخها قبل 79م؛ وهناك صلاة آرامية تسمى "مديش المقدس" تشبه الصلاة المسيحية، المعروفة بالصلاة الربانية في بعض عباراتها؛ وهي أقدم منها، وتبدأ بعبارة "ليتمجد ويتقدس اسمه العظيم" وأسطورة أحيناء الواسعة الانتشار تحوي بعض حكم آشورية، أو بابلية، ولكنها بالآرامية؛ وقد كتبت في القرن السابع أو ما بعده؛ ولم يقتصر انتشار الآرامية

على المناطق السامية؛ ففي عهد "داربوس" الكبير 52-86 جعلت الآرامية اللغة الرسمية بين مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، وهكذا أصبحت حتى فتوحات الإسكندر اللغة المتداولة في إمبراطورية تمتد من الهند حتى الحبشة، وإن مثل هذا الفوز الذي حققته لغة لا تدعمها سلطة إمبراطورية من أهلها ليس له مثيل في التاريخ، ومع انتشار اللغة الآرامية انتشرت الأبجدية الفينيقية، التي كان الآراميون أول من اقتبسها، واستعملت في لغات أخرى في القارة الآسيوية؛ وحصل العبرانيون على أبجديتهم من الآراميين بين القرنين السادس، والرابع، وكانوا قبل يستعملون الأجدية الفينيقية القديمة مدة من الزمن، والحروف المربعة التي تطبع اليوم بها كتب التوراة العبرانية نشأت من الكتابة الآرامية وأخذ عرب الشمال أبجديتهم التي كتب بها القرآن الكريم من الآرامية التي استعملها الأنباط؛ وكذلك حصل الأرمن، والفرس، والهنود على أبجديتهم من مصادر آرامية، وحروف البهلوية، والسنسيكريتية إلى قلب الصين، وكوريا، وهكذا وصلت الحروف الفينيقية شرقًا بطريقة الآرامية إلى الشرق الأقصى، وغربًا بطريق اليونان إلى الأمريكتين مطوفة العالم كله1. وقد تفرعت اللغة الآرامية مع الزمن إلى مجموعتين هما: 1- المجموعة الشرقية، في وادي الفرات، وتمثلها المندعية والسريانية. ب- المجموعة الغربية، وتمثلها الآرامية التوراتية، والترجوم، ولهجات الشمال، وحماة، والتدمرية والنبطية؛ ثم أصبحت السريانية وهي لغة "أوديسا" لغة الكنائس في سورية، ولبنان وبلاد الرافدين مع بعض الاختلافات المحلية، حتى حلت العربية محلها؛ عندما اتخذ المسيحيون الآراميون لهجة أديسا، وجعلوها لغة الكنيسة، والأدب، والتعامل الثقافي، وصاروا يعرفون باسم سوريين. الديانة الآرامية "حدد الراعد": والإله الذي كان يوجه الآراميون أعظم اهتمام لعبادته كان "حدد" إله الزوابع والرعد، ويسمى أيضًا "أدو أو: أدو" وكان مفيدا حين يرسل المطر الذي يخصب

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص182، ص183.

الأرض، وكان مفيدا حين يرسل السيول، وكان من ألقابه "ريمون" الراعد؛ وقد يطلق عليه الاسمان معا "حدد ريمون" وكان أهم معبد للإله "حدد" في هيرابولس "منبج" أي المدينة المقدسة. ولكن له معابد في مدن سورية أخرى كثيرة، وفي لبنان، وكان محبوبا بصورة خاصة بين المزارعين في سورية، وامتزجت عبادته فيما بعد بعبادة الشمس وزخرف راسه عند ذلك بالأشعبة كما في بعلبك، وفي الغالب يعتبر "جوبتر" هليوبولينانس، الذي عبد في بعلبك معادلا للإله "حدد" الذي تبدل فيما بعد، فأصبح "جوبيتر الدمشقي" وعرف الآراميون عادة تسمية أبنائهم "بار حدد" أي "ابن حدد" أو ابن آلهة أخرى، وعبدت رفيقة "حدد" أو زوجته في هيرابولس وفي مراكز سامية أخرى باسم "أتارغاتس"، ويتألف رمزها من الهلال مع قرص الشمس؛ كان لها معبد في كرنيون في جلفاد، وكانت عسقلان في فلسطين مركزا لعبادتها، حيث اعتبرت غالبا معادلة لأفروديت. كذلك انتشرت عبادة "أتارغاتس" بين اليونان، وكان كهنتها عموما من الخصيان الذين اعتادوا القيام برحلات اليونان وإيطاليا؛ لنشر عبادتها بواسطة التنبؤات، والرقص الروحاني، ولجمع تبرعات الأتقياء لأجل معبدها، وكان التشريع الآشوري يطلب من نساء الرجال الأحرار، وبناتهم أن يغطين رءوسهن حين يخرجن إلى الشارع، وكانت مجموعة الآلهة الآرامية تضم فيما سوى الزوج الإلهي "حدد وأتارغاتس" عددا من الآلهة الأخرى، ذات المكانة الثانوية، بعضها محلي والبعض الآخر مستعار من الأمم المجاورة، وكانت الآلهة: حدد، وإيل، وركاب، وشمس؛ وهي التي أعطت الملك بناموا الأول الصولجان في الكتابة الأثرية التي تركها، ومنحته الأشياء التي صلى لأجلها ركاب، أو سائق المركبات هو إله مستورد إلى سورة مع إله الشمس الآشوري؛ وشمس الأشوري هو اسم إله الشمس، الذي كان يعبد في العالم السامي كله؛ ورشوف هو الإله الفينيقي "رشف" الذي كان كثيرا ما يمثل بشكل جندي مسلح، وفي كتابة ذاكر ملك حماة يرفع هذا الملك يديه لبعل شمين "سيد السموات" ورد فيها: فإن بعل شمين وإيلن وبرو شمشن وسهر، وإله السماء وإله الأرض مستهلكة، ويتضح أن بعل شمين هو "حدد" وهو "غيل وير" في الغاب وسهر هو إله القمر؛ وكانت حران مركزا الإله القمر الذي يسمى "سين" عند الأشوريين.

ويرد ذكر هذا الإله "سين" القمر على حجر تيماء، وهي واحة في شمال الحجاز، التي ترجع كتابتها إلى القرن الخامس ق. م. والإلهان المذكوران على هذا الحجر هما: سلم، ويشير إلى بعل المحلي، والثاني عاشرة. تشريعات حمورابي: استولى "ساموابي" أولا على شمال بابل نحو سنة 2460 ق. م. وكان جنوبها يومئذ في حوزة ملك عيلامي، وخلف ساموابي ابنه "ساموليلا" وانتقل إلى بابل فاتخذها كرسيًّا لمملكته، وهو أول من فعل ذلك؛ وتوالي بعده خلفاؤه من أسرته كما سيأتي حتى أفضى الملك إلى حمواربي؛ وهو سادسهم، فناهض العلاميين في الجنوب وعليهم ملك اسمه في آثار بابل "كرد لا قمر" وهو "كرد لا عومر" التوراة، وكانت بابل عاصمة غربي آسيا لا يثبت أمير علي إمارته إلا بعد أن يشخص إليها وينال التصديق من أنه "ابن بعل". وفي أواسط الألف الثالث قبل الميلاد دخل الآراميون في دور جديد؛ فتدرجوا في الرقي بما امتازوا به من النشاط، فحازوا الأرضين وملكوا الإقطاع، وفي جملة المالكين "سموا أبي" جد عائلة حمورابي فاستعان بأبناء قبيلته في توسيع دائرة سلطته وفي أثناء هذه الدولة ظهر إبراهيم الخليل، وهاجر من أور الكلدانيين1. تمدن دولة حمورابي: كان السومريون قبل هذه الدولة قد اتخذوا دينا ووضعوا شريعة واخترعوا كتابة، ولهم لغة خاصة، فلما غلبهم الحمواربيون اقتبسوا تمدنهم، ونظمهم، وكان الحمورابيون في أول دولتهم يستخدمون اللغة السومرية في المكاتبات، ثم أهملوها بالتدريج حتى ذهبت وذهب معها العنصر السومري، وبقى العنصر السامي. ولكن الحمورابين استبقوا الخط السومري، وهو القلم المسماري؛ لأنهم استخدموه في تدوين لسانهم، وزادوا فيه أحرفا لم تكن في السومرية.

_ 1 العرب قبل الإسلام جـ1 ص40، ص41، ص42.

أما تمدن السومريين فاقتبسه الحمورابيون ورقوه وزادوا فيه كما فعل المسلمون بتمدن الروم والفرس وأكثرهم عناية في ذلك حمورابي؛ فإنه جمع الشرائع ونظمها وبوَّبها فعرفت باسمه، وقد رتبها في 282 مادة، وجدوا نسخة منها 1901 في بلاد السوس منقوشة بالحرف المسماري على مسلة من الحجر الأسود الصلب طولها سبع أقدام وتدل تلك الشريعة على تقدم تلك الأمة في سلم الاجتماع إلى أرقي ما بلغت إليه تلك العصور ولا سيما في شروط الزواج والتنبي والإرث وإليك خلاصة ذلك. نظام الاجتماع، طبقات الناس: كان الناس في ذلك العصر ثلاث طبقات: الأحرار، العبيد، طبقة متوسطة بينهما، عبرنا عنها بالموالي على نحو ما كان عليه العرب في صدر الإسلام؛ فإن الموالي عندهم أرقى من العبد وأدنى من الحر، فإذا صح أن هذه الدولة عربية كان العرب أسبق أمم الأرض إلى سن الشرائع، وتنشيط العلم وأهم بلغوا في نظام الاجتماع ما لم يبلغ إليه معاصروهم، وما زالت الدولة البابلية الأولى -الحمورابية- قائمة حتى غلبت على أمرها، فخرج بعض أهل الدولة فرارًا من ذلك الغالب إلى إخوانهم في جزيرة العرب وأنشأوا في اليمن دولة عربية عرفت بدولة المعينيين، كان لها شأن كبير في تاريخ اليمن قبل دولة سبأ وحمير1. هل دولة حمورابي عربية؟: لا خلاف في أن دولة حمورابي سامية الأصل، ولكنهم اختلفوا في نسبتها إلى فرقة من الفرق السامية؛ وعندنا أنها من بدو الآراميين، وهم عرب ذلك العصر أو العمالقة، والأدلة على ذلك: 1- أن بروسوس مؤرخ الكلدان ذكر بين الدول التي حكمت بابل دولة سماها: عربية، وذكر عدد ملوكها وسنى حكمها ودولة حمورابي أقرب دول بابل عهدا من الزمن الذي عينه بروسوس للدولة العربية.

_ 1 تاريخ العرب جـ1 ص49 ص51.

2- أن سكان بادية العراق كانوا يعرفون عند أهل بابل باسم عمورو -أي أبناء المغرب- وهذا الاسم يشمل كل من سكن غرب الفرات من الأمم السامية، وفيهم الآراميون في الشام، وبدوهم في باديتها، وفي التاريخ القديم أن الكنعانيين اكتسحوا فلسطين في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وأخرجوا أهلها الأصليين، ويوافق ذلك نزول بدو الآراميين بابل وأنشأ تلك الدولة فيها واسمهم عمورو كما تقدم، ثم سموهم عريبي ومعناها أهل المغرب أيضا، والطبري يسمي جدَّ العمالقة عريب1. 3- أن معبودات البابليين كثيرة الشبه في أسمائها وأسماء الذين ينتسبون إليها بأقدم آلهة العرب في اليمن وغيرها مثل "إيل، ويل، وشمس وأشتار، وسين، وسمدان، ونسر". 4- أن الحمورايين اتخذوا بابل قصبة لمملكتهم على حدود البادية قرب المكان الذي اختاره اللخميون كرسيا لدولتهم الحيرة بعد ذلك بنحو ثلاثين قرنًا، والمكان الذي اختاره العرب المسلمون في أيام بداوتهم "الكوفة" عملا برأي عمر حتى لا يكون بينه وبين المسلمين ماء، فإذا أحب أن يركب راحلته إليهم ركبها2. 8- العبرانيون: كان دخول العبرانيين إلى كنعان نتيجة ثلاث هجرات: الأولى: هجرة إبراهيم من بلاد الرافدين، تتصل بالهكسوس. الثانية: هجرة إسرائيل، وتتصل بالآراميين. الثالثة: قد أتت من مصر، والجنوب الشرقي، بقيادة موسى في أوخر القرن الثالث عشر. من خلال تلك الهجرات أتى الشعب الذي عرف فيما بعد، بالعبرانيين متجولين، ومغامرين ومرتزقة، وجنودا لا ارتباط بينهم، ثم استقروا بالتدريج بين السكان الذين سبقوهم، وفاقوهم في مدنيتهم، وتعلموا منهم حرث الأرض، وبناء المنازل،

_ 1 تاريخ العرب جـ1 ص49. 2 تاريخ العرب جـ1 ص51.

وممارسة فنون السلم، وأهم من ذلك القراءة، والكتابة، ويضاف إلى هذا كله، أن العبرانيين تركوا لهجتهم السامية القديمة، واتخذوا اللغة الكنعانية لغة لهم، واللغة الفينيقية، واللغة العبرانية القديمة، كما هي مدونة في العهد القديم، لا تختلفان إلا من ناحية اللهجة، وأصبح العبرانيون القدماء بوجه الإجمال، ورثة المظاهر الأساسية للحضارة، الكنعانية المادية؛ وأتباع كثير من العبادات والعادات، والصفات الدينية الكنعانية. هجرة إبراهيم وإسرائيل: تقول المرويات العبرانية: إن إبراهيم1 جدهم الأكبر، أو قبيلتهم الأصلية أتى "أور" في بلاد الرافدين، بطريق حران؛ وقام مؤقتا قرب حبرون "الخليل"، وترك وريثه إسحق2 ابنا اسمه يعقوب3، وبعد أن قام يعقوب في فدان آرام عدة سنوات، وقع عليه الاختيار ليكون صاحب الشأن؛ تفضيلا له على أخيه "عيسو"4 وتغير اسمه، فأصبح "إسرائيل"5 وحصل عيسو على اسم آخر وهو: "آروم" أي أحمر؛ وحل ورثته فيما بعد محل كل سكان منطقة جبل سعير، وعرفوا باسم الأروميين؛ وهكذا أزيل عيسو من حياة العبرانيين وتفكيرهم؛ كما أزيل قبلا إسماعيل بن إبراهيم من جاريته المصرية هاجر، وفضل عليه إسحق، وبين أولاد يعقوب الاثني عشر كان يوسف6 الحادي عشر وهو الابن الأكبر لراحيل؛ وقد باعه إخوته لجماعة في مصر، وارتفع شأنه في الدولة المصرية، وبعد أن أقام ورثة يوسف وإخوته أجيالا عديدة في مصر عادوا إلى فلسطين. الخروج من مصر؛ هجرة موسى: يبدأ تاريخ بني إسرائيل الحقيقي كشعب بالخروج من مصر، وفي حدين وهو القسم الجنوبي من شبه جزيرة سيناء وضع العهد القديم، وتزوج زعيم الإسرائيليين موسى، الذي يبدو اسمه ككلمة مصرية، من ابنة كاهن مدين الذي يعبد يهوة7.

_ 1 بالعبرية إبرام أي الأب. 2 بالعبرية ليتسم إبل. 3 بالعبرية ليحفظ إبل. 4 سفر التكوين 20: 23. 5 بالعبرية ليحكم إبل. 6 بالعبرية باسف ليضيف إبل. 7 سفر الخروج 3: 1، 18، 10.

والذي علم موسى هذه العبادة الجديدة قبل أن يوحى إليه، وكان هذا الإله العربي الشمالي إله الصحراء؛ والأصل إله القمر، ومقره كان خيمة، وطقوسه تشمل بعض الأعياد والتضحيات من بين القطيع1؛ وتزواج آخرون غالبا مع المدينيين، والفينيقيين وسائر سكان بادية من شمالي الجزيرة العربية؛ وفي حوالي "1250" ظهر هؤلاء البدو المنحدرون من أطلال العشار في الجهة الجنوبية الشرقية من سورية، أي من بادية شرقي الأردن؛ وكان أول فوز عبراني في شرق الأردن على "سيمون" ملك الأموريين؛ وتبعه فوز آخر على "عوج" الملك الجبار، ملك باشان، وعندما سيطر العبرانيون على البلاد كانوا يقسمونما بين القبائل الإحدى عشرة، وتركوا قبيلة "لاوي" الكهنوتية موزعة بين سائر القبائل؛ لتهتم بشئونها الدينية؛ وهكذا أسكنت قبيلتا "يهوذا، وبنيامين" في الأراضي المرتفعة حول أورشليم، بينما استقرت القبائل الأخرى في السهول الكثر خصبا في الشمال. وكان العبرانيون الشعب الوحيد بين الشعوب السامية القديمة الذي أنشأ شعورا قوميا متطرفا، كما أن العبرانيين وحدهم من بين الساميين القدماء الذين احتفظوا بصفاتهم القومية وبفرديتهم، وقد ساعدت الديانة مساعدة كبرى في توحيدهم، وتعاونهم؛ وفي عهد نبي الله "داود 1004-963 ق. م" تمت له بنتيجة فتح "أدوم" السيطرة على طريق التجارة العظيم بين سورية والجزيرة العربية؛ وفي عهده أيضا بدأ الأدب العبري، وهو من أغنى وأرفع ما تركه الشرق القديم من مظاهر حضارية؛ وقد استعاروا الكتابة من الفينقيين، ويظن أن الكهان بدوا فيما بعد بإعداد كتب مشابهة للوثائق الرسمية وأدخل جانب منها في العهد القديم؛ وأول فصلين من سفر الملوك الأول هما: أول قطع من النثر العربي، وكتابة عن ترجمة حياة داود في الفصول "9 إلى 20" من سفر صموئيل الثاني هي قطعة رائعة من الإنشاء التاريخي؛ كذلك بدأت مجموعات من المؤلفات الشرعية في عصر داود؛ وكان هو نفسه شاعرا، وله مكانته؛ وفي الواقع فإن الأثر الذي تركته مواهبه الشرعية، والموسيقية

_ 1 نفس المرجع 3، 18، 105.

كان عظيما، حتى إن الأجيال نسبت له، وضع عدد من المزامير التي بلغ من قيمتها الإنسانية العامة، وأهميتها الدائمة، أنها لا تزال تستخدم كمصدر روحي، وكوسيلة لرفع القوى الروحية1. إسرائيل: كان داود وسليمان قد وحدا بصورة مؤقتة شعبي إسرائيل، ويهوذا المنفصلين، كانت قبيلة "إفرايم" وغيرها من القبائل الشمالية التي تسكن الشمال أكثر تعرضا للتأثير الكنعاني، وكانت تفضل الزراعة، وفي مسائل العبادة الألوهية "جمع إبل" وتعبدها بطقوس شمسية مأخوذة من الطقوس الكنعانية القديمة؛ وكان أشهر ملوك إسرائيل الأوائل "عبري 885-874" ويدل "اسمه على أصل عربي أو بالأحرى نبطي؛ وكان الأثر المهم الذي تركه مدينة السامر2 التي أسسها وحصنها، ونقل إليها مركز الحكم من ترزن3 وبنى في عاصمته الجديدة قصران وسَّعه وزخرفه ابنه ووريثه "أخاب". ويذكر الرواة أن الملك "أخاب" تزوج "إيزابل" ابنة "اتبعل" ملك صور، وكانت ذات شخصية، وسيطرت على زوجها، وحاولت فرض عبادة "بعل صور" على إسرائيل؛ وأدى ذلك إلى نزاع مرير وطويل للسيادة على حياة إسرائيل الدينية بين عبادة البعل، وعبادة "يهوه"، وظل النزاع إلى أن استولى "باهو" على العرش في "842 ق. م" وأعاد عبادة يهوه كعبادة وحيدة في إسرائيل4. السامريون: وفي عهد "سلمناصر الخامس" وعلى يديه تلاشت مملكة إسرائيل إلى الأبد، ولم يشكل المسبيون سوى قسم صغير من سكان المملكة الشمالية غرب الأردن،

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص204، ص205. 2 سفر الملوك الأول 16: 24. 3 ترزن لم يعرف موقعها بعد. 4 سفر الملوك الأول 16: 31.

وهكذا فإن الأسباط العشرة المفقودة؛ إنما المسببون منهم اندمجوا بغيرهم؛ ثم أضاف "سرجون" وخلفاؤه إلى سياسة السبي، ونقل الذين كانوا شوكة في جانب دولة "آشور" شيئا آخر، وهو: فقد أتوا بقبائل من بلاد بابل، وعيلام، وسورية، وبلاد العرب لتحل محل الإسرائيليين المسببين، وأسكنوها في السامرة. وقد امتزج المستوطنون الجدد بين إسرائيل؛ ليشكلوا السامريين، واتخذت معتقداتهم الدينية أيضا مع عبادة "يهوه" وبعد عودة "عزرا" و"نحميا" من السبي حيث دافعا عن فكرة النقاوة العنصرية وطردوا من أورشليم حفيد الكاهن الأعلى؛ لزواجه من ابنة الحاكم السامري، ويبدو أن ذلك الكاهن المطرود أصبح كاهن السامريين، وبنى هيكل "لاجل" على جبل "جريزيم"؛ لينافس هيكل أورشليم"؛ وكان كتاب اليهود المقدس حينذاك يتألف من الكتب الخمسة فقط؛ ولذا فإن هذا القسم من العهد القديم، ظل منذ ذلك الحين الكتاب المقدس الوحيد للسامريين، وقد نقلوه في نوع قديم من الحروف العبرية "وجريزيم" وليس "صهيون" هو المكان المقدس بالنسبة لهم؛ وازداد العداء بين اليهود والسامريين مع الزمن، ولم يكن التزاوج بينهم مسموحًا في أي وقت؛ ومن أطراف أحاديث المسيح حديثه مع امرأة سامرية تعجبت كيف يطلب منها أن تعطيه؛ ليشرب مع أنه يهودي1؛ واختار المسيح في مثل من أبدع أمثاله رجلا سامريا؛ ليكون بطل قصة، ويلعب فيها دورا نبيلا2، وفي أثناء اضطهاد أنطيوقس تألم السامريون، كما تألم اليهود3، بالرغم من موافقتهم بالظاهر على التساهل وتكريس هيكلهم على جبل "جريزيم" للإله "زفس4" ولغة السامريين هي العبرية5.

_ 1 إنجيل يوحنا 4: 9. 2 إنجيل لوقا 10: 30، 37. 3 سفر المكابيين الثاني 5: 23. 4 المرجع السابق 6: 2. 5 تاريخ سورية جـ1 ص214.

يهوذا: وكانت قبيلتا يهوذا، وبنيامين في الجنوب تفضلان "يهوه" الذي مسكنه هيكل "أورشليم"، والذي كانت عبادته أكثر بساطة، وشهد عرش "يهوذا" عددا من الملوك يشبه عدد ملوك إسرائيل؛ وهو تسعة عشر ملكا، غير أن هذه المملكة الجنوبية دامت نحو قرن وثلث، أكثر من مملكة إسرائيل في الشمال. وفي عهد "بوشيا" توسعت المملكة في أيامه نحو الشمال، وحاولت إعادة توحيد إسرائيل مع "يهوذا" ثم اكتسب "بوشيا" شهرة خالدة كمصلح ديني حين تعاهد مع شعبه على عبادة "يهوه" وحده، وأحرقوا أواني بعل، والأجرام السماوية المؤلهة، التي كانت في الهيكل، وهدموا بيوت المابونين المجاورة، وخربوا المرتفعات في بلاد "يهوذا" في بلاد إسرائيل1. الوجه الثقافي والديني للعبرانيين: اتبع العبرانيون في مراحل حياتهم الأولى في فلسطين النموذج الحضاري للشرق الأدنى، الذي كان يمثله الكنعانيون، وقد أعطت كنعان لإسرائيل لغتها وأبجديتها. ويعني ذلك: أنهم اقتبسوا دفعة واحدة تقريبا مجموعة من الطقوس، والمشاهد، والمراسيم القديمة، التي تضم الأعمدة الخشبية، والأماكن المرتفعة، وعبادة الحية2، والعجل الذهبي3 والتحريمات المتصلة بالطقوس في الأسفار الخمسة تفيد ضمنا أن هذه العادة كانت قبل تحريمها قد اقتبسها العبرانيون من جيرانهم، ثم اعتبرها الرؤساء غير متفقة مع اتجاهات الديانة العبرانية، والاعتراف بـ"يهوه" كالإله الرئيسي -بحق الفتح- لم يمنع اعتبار الآلهة المحلية مسيطرة على

_ 1 الملوك الثاني 23: 1-25. 2 سفر الملوك الثاني 18: 4. 3 السابق جزءا وصفحة.

خصب البلاد؛ وكانت سلطة "يهوه" على الدولة؛ بينما شئون الحياة العادية من زراعة وتجارة لم تكن من صلاحياته الرئيسية، وكان "يهوه" يكتسب كثيرا من صفات "بعل" مما جعله سيد السماء وباعث المطر، والمسيطر على العواصف، وكان الأهل كثيرًا ما يسمون ابنهم البكر بالنسبة ليهوه؛ بينما يسمون صغارهم بالنسبة "لبعل"، وتزداد نسبة الأسماء العبرانية المؤلفة من اسم "بعل" باطراد في الفترة الأولى، "وشاول" يسمى ابنه "إيش بعل ورجل بعل"، و"يوناثان" يسمى ابنه "مريد بعل- بعل ينازع"، ولقد سبق أن بعل فرضته "إيزابيل"1. يقول فيليب حتى: لم يصلنا مؤلف يشبه العهد القديم في أهميته من العصور التي سبقت المسيحية، والعهد خلال العصور قوة فعالة في حياة الرجال والنساء، ومرت مادته نفسه بأطوار كثيرة من الانتقاء والحذف، والتحقيق والضبط قبل أن تتخذ شكلها النهائي، وهناك نوع من الوحدة تتخلل العهد القديم2. الكهنة: كان الكهنة يشكلون طبقة خاصة بين الأمم القديمة. أما الكهنة عند العبرانيين، فكانت تنحصر في أسرة هارون بصورة وراثية، والكاهن هو الذي كان يعلم الشريعة، ويعمل أكثر مما يعلم، ويقوم بالمراسم عند المذبح، ويجري سائر الطقوس، ويعمل كوسيط بين الإنسان والله، وتفسيرات الكهنة يطلق عليها الحكمة، والحكمة بخلاف الشريعة، فالأولى مصدرها الإنسان نتيجة اجتهاده واختياره وتعاليمه، وكتب الحكمة العبرانية الكبرى هي: أسفار أيوب، والأمثال، والجامعة، وأعظم كتب الحكمة بدون شك سفر أيوب، وكان الحكيم العبراني يخاطب الفرد وليس المجموع، ورسالته كانت إدراك النجاح أكثر منها الحصول على رضى الله3.

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص222. 2 سفر الخروج 28: 1. 3 تاريخ سورية جـ1 ص231.

النبوة الإلهية عربية لفظا ومعنى: ويؤكد المرحوم الأستاذ العقاد أن الإسرائيليين "اليهود" تعلموا النبوة الإلهية بلفظها ومعناها من شعوب العرب، ولم تكن لهذه الكلمة عند الإسرائيليين "اليهود" لفظة تؤديها قبل وفودهم على أرض كنعان ومحاورتهم للعرب المقيمين في أرض مدين. فيقول: "إن كلمة نبي عربية لفظا ومعنى؛ لأن المعنى الذي يؤديه لا تجمعه كلمة واحدة في اللغات الأخرى، والعبريون قد استعاروها من العرب في شمال الجزيرة بعد اتصالهم بها؛ لأنهم كانوا يسمون الأنبياء القدماء بالآباء، ولم يفهموا من كلمة النبوة في مبدأ الأمر إلا معنى الإنذار فكانوا يسمّون النبي بالرائي1 أو الناظر أو رجل الله، ولم يطلقوا عليه اسم نبي إلا بعد معرفتهم بأربعة من أنبياء العرب المذكورين في التوراة، وهم: ملكي صادق، وأيوب، وبلعام، وشعيب الذي يسمونه يثروب، وهو معلم موسى الكليم"2، وقد سمى إبراهيم الخليل برئيس الآباء3، ويستشهد العقاد ببعض علماء الأديان الغربيين الذين ذهبوا إلى تأييد اقتباس أتباع موسى كلمة النبوة من العرب مثل الأستاذ هولشر والأستاذ شميدت اللذين يرجحان أن الكلمة دخلت اللغة العبرية بعد وفود القوم على فلسطين، فتشير التوراة إلى أن عاموس اغتاظ وغضب لما أطلق عليه اسم نبي، وقال: "لست أنا نبيًّا ولا أنا ابن نبي بل أنا راعٍ وجاني جميز"4. فأخذني الرب من وراء الضأن، وقال الرب: اذهب تنبأ لشعبي، ويعطي نص عاموس دلالتين؛ على خلاف ما يذهب بعض المستشرقين في تأويله في أنه اغتاظ أو غضب إنما أراد من إطلاقه عليه دلالتين: الدلالة الأولى: أنه تنبأ من الله. الدلالة الثانية: أن النبوة كانت تورث.

_ 1 عا 7: 12. 2 العقاد، "الثقافة العربية" ص71. 3 عب: 7: 4. 4 عا 7: 14-15.

ولما كانت النبوة لها إطلاقات شتى فهي تطلق في التراث العبراني على الكهنة والعرافين والسحرة وعلى الأنبياء الكذبة إلخ، فإن عاموس حددها على أن الله نبأه من عنده وليست نبوته من قبيل تلك المعاني ولا من قبيل الإرث. تعقيب: من هنا نلاحظ أن: معظم الدوات التي تعبر عن العقائد يتشابه بعضها مع البعض، والديانات تضم: 1- الآلهة الأنثى أكثر من الذكور. 2- الآلهات الأنثى مزينة بالحلى الجميلة، وفي بعض الأحيان تحمل أطفالا في بطنها. 3- وهناك تماثيل للآلهة تعبر عن تقديم الناس النذور والطلبات والحاجات. 4- وللثور مكانة بارزة بين تلك الآلهة، شأنه في ذلك شأن أرض الرافدين، وسوريا ومصر. 5- كما وجدت بين تلك الآلهة والتماثيل: أصنام وصخر طويل عريض. وكذلك تشير إلى لوحات عديدة إلى آلهة كثيرين، وهناك لوحات تصف تدفق النهرين من رحم الآلهة، ولوحات أخرى رسمت آلهة الأشجار، وهذه الآلهة كلها رسمها الهنود بكل براعة، ودون غموض؛ وهي تختلف بطبيعتها وصفاتها وملامحها عن آلهة أرض الرافدين كل الاختلاف؛ وكذلك عن آلهة مصر. وكذلك نرى من بين آلهتهم بطلين عظيمين؛ واحد منهما يصارع الأسود بكل شجاعة؛ والآخر نصف جسمه يشبه إنسانا والنصف الآخر يشبه حيوانا متوحشا بشعا، ممسكا بيديه ثورا وأسدا؛ وهو يشبه أنكير، والبطل السومري في أرض الرافدين من بعض الوجوه، كما تصفه أسطورة الطوفان السومرية، وهناك رموز دينية وسحرية كثيرة مثل الصليب، والنقاد. الكتفان نقشت على الطوابع، والأدوات المعدنية شأنها في ذلك شأن رموز بابل، وعيلم، وهناك صورة تصوره جالسا رسم بقرن وثلاثة وجوه، وهذا الإله: هو

الذي سمي لدى الآراميين "سيفا" وهو إله عظيم جليل القدر ملك الغابات والوحوش له عدة وجوه، ومما لا شك فيه أنه أقدم الآلهة الهندية، وقد وجد في وادي نهر الهند منذ القدم، وهو يملك السلطات الواسعة في الكونفإنه يشبه "براهما" إله الخلق في الشكل، وكذلك الإله "فشنوا" الحارس المحافظ؛ وقد اجتمعت فيه صفات في مصر ومع أنه كان يتخلق بصفات هامة مثل الهدم والتخريب، فقد تحلى أيضا بصفات بناءة، مثل منح الحياة، وجلب الخصوبة وفق عقيدتهم، ولقد أدخله الآراميون في عقائدهم. ومن شيدت له المعابد، ووضعت له التماثيل، ولم تزل هذه الظاهرة معروفة وموجودة في عابد الهندوس، وكانت العبادة تؤدي لكل من الإله "سيفا" ورمزه الفروج جنبا إلى جنب؛ وبهذا تكون الآلهة الثلاثة، أي الآلهة: "الأمن والإله سيفا، وإله الفروج" من أهم آلهة سكان وادي نهر الهند. تكاد تتشابه العقائد الوثنية في كل عصر وزمان من حيث صفاتها: كل صفة من صفات الله صورة إنسانية أو حياونية وهذه هي الآلهة. وإن قدرة الله وجبروته قد تجسدت في صورة إله في كل أمة من الأمم مثل: بعل عند الساميين. أندرا عند الآراميين. جوبتر عند اليونانيين. أما "فشنوا" عند الدراوديين؛ فهو شخصية بطل تاريخي أضفوا عليه صفات الألوهية، وهذه الشخصيات "كراما، كرشنا" وهذا أساس نظرية التفحص أو التجسد، وأخذ بهذه النظرية المسيحيون في: تجسد المسيح، وبعض الفرق الإسلامية كالإسماعيلية والبهائية، والقديانية. كذلك عقيدة سيطرة الجن، والعفاريت على الإنسان وتغلغلهما فيه، وتعذيبهما إياه، أو إخضاعه ليتحدثوا على لسانه مظهر من مظاهر التجسد للقوى الخفية الشريرة، ولطردها ألفت التمائم والتعاوبذ، والكلمات السحرية في أرض الرافدين في حضارة

بابل والهند الآرية، وإذا استطاع الجن السيطرة على الأشرار من الناس، فإن الآلهة أقدر منهم على التجسد في الناس الطيبين، فمن الصعب أن يتبين علماء الآثار والتاريخ أين تكمن بداية تلك الشعوب في مجراها ومرساها، وما هو موطنها الأصلي. فلم يقع أي انقطاع في تيار الحضارة في البلاد القديمة في الشرق إيران سورية بلاد ما بين النهرين مصر، بل اتصلت وشائج الحضارة البيزنطية الساسانية: الإطارات الذهنية، طرق التفكير، والطرق التقنية والأفكار السائدة والأشكال الفنية.

مراجع هذا الباب

مراجع هذا الباب: 1- القرآن الكريم. 2- الكتاب المقدس. 3- الأمم السامية. مصادر تاريخها وحضارتها تأليف حامد عبد القادر -عضو مجمع اللغة العربية. مراجع د. عوني عبد الرءوف. طبعة دار النهضة للطبع والنشر. 4- تراث العالم القديم: تأليف: د. ح. دي بورج، ترجمة زكي سوس مراجعة دريحي الخشاب د. صقر خفاجة. طبعة دار الكرنك. 5- تاريخ سوريا: تأليف فيليب حتى، ترجمة جورج حداد، عبد الكريم رامق. طبعة دار الثقافة. بيروت. 6- الشرق الأدنى القديم، مصر والعراق: تأليف د. عبد العزيز صالح. طبعة مكتبة الأنجلو المصرية. 7- العرب قبل الإسلام: تأليف جورجي زيدان. مطبعة الهلال 1905. 8- خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدنى: تأليف فيليب حتى، طبعة الدار المتحدة. 9- الجديد حول الشرق القديم: تأليف نخبة من المستشرقين وهم: أ- المقدمة: كلوتشوف. بونفارد. ليفين.

أ- الفصل الأول: بدايات الزراعة والرعي: كاوتشوف ج- الفصل الثاني: الجديد حول أصل الكتابة: بيلوفا د- الثالث: منجزات علم المصرويات. بونفارد. ليفين هـ- الرابع: تل مرديخ: إيبلا القرعة. و الخامس: الجديد حول المجتمع البابلي الألف الأول ق. م. ز- السادس: تاريخ حضرموت وحضارتها؛ قضايا دراستها والبحوث الأخيرة: سافروتوف. ح- الفصل السابع: الفرضيات القديمة والجديدة عن موطن الأجداد الهندأوربي. ط- الفصل الثامن: الردافيديون: موطن أجدادهم وزمان ومراحل انتشارهم. ي- الفصل التاسع: الألفوئيون: اكتشافات جديدة ومسائل جديدة. ك- الفصل العاشر: مرغوش أومرو. كوشيلينكو. ل- الفصل الحادي عشر: موطن البارتيين تاريخه وحضارته. غامكر يليرزه. م- الفصل الثاني عشر: كنوز طلابته. كوشيلينكو. ن- الفصل الثالث عشر: المخطوطات تتكلم. غريازنيفكي. س- الفصل الرابع عشر: مواد جديدة عن التاريخ القديم والحضارات العريقة فيما وراء القوقاز. كوسيليتكو.

الباب الثاني: العرب في طورهم التاريخي والسياسي

الباب الثاني: العرب في طورهم التاريخي والسياسي "عرب" ومدلوله التاريخي: إذا أطلق لفظ العرب بعد الإسلام، أردنا سكان جزيرة العرب والعراق، والشام، ومصر، والسودان، والمغرب. أما قبل الإسلام؛ فإنه يختلف عما بعد الإسلام من حيث: مفهومه وجغرافيته؛ ففي التاريخ الفرعوني، والفينيقي والأشوري كان يراد بالعرب: أهل البادية في القسم الشمالي من جزيرة العرب، وشرق وادي النيل في البقعة الممتدة بين الفرات في الشرق والنيل في الغرب، ويدخل فيها بادية العراق والشام، وشبه جزيرة سيناء، وما يتصل بها من شرق الدلتا والبادية الشرقية بمصر بين النيل والبحر الأحمر1. وكان المصريون يسمون الجبل الشرقي الذي يحد النيل في الشرق جبل العرب، وكان لفظ العرب في التاريخ القديم يرادف لفظ "بدو" أو بادية، وهو معنى هذا اللفظ في اللغات السامية، ومنها في اللغة العبرانية "البادية" يقابلها في اللغة العربية "العرابة" في وادي موسى، والأعراب سكان البادية خاصة ولا مفرد لها، ولما تحضر بعض قبائل العرب قديما وأقاموا في مدن اليمن والحجاز وحوران وغيرها لم يعد لفظ العرب محصورا في "البدو" فتنوع معناه كما تنوع مسماه. يقول جورجي زيدان2: فاضطروا إلى كلمات تميز بين الحالين فاستعملوا لفظ "الحضر" لأهل المدن. و"البدو" لأهل البادية ولم يبقَ للفظ "العرب" من معنى البداوة إلا في مثل ما اصطلح عليه العرف في قولهم "أعرابي". وكان النسابون إذا ذكروا بعض قبائل الحضر وبدوها؛ قالوا: القبيلة الفلانية و"أعرابها" ويعرف العرب عند السريانيين باسم: "طاية" نسبة إلى طيء إحدى قبائلهم.

_ 1 معجم البلدان جـ3 ص633. 2 العرب قبل الإسلام جـ1 ص36 طبعة 1908.

وكان الساميون في أعالي جزيرة العرب، وقد خيم بعضهم في البادية بين العراق والشام، فمن تحضر منهم هناك خدم دولتها في الحروب، فكان سكان تلك المدن يسمونهم "آراميين" أي أهل الجبال، وأهل ما بين النهرين يسمونهم "عمورو" أي أهل الغرب؛ لأن بلادهم واقعة غرب الفرات وهو اسمهم القديم في بابل. وقد يراد بالعمورو أهل غرب الفرات من بدو وحضر إلى البحر المتوسط ثم سموهم "عريبي" أو عرب، ومعناها في اللغة السامية الأصلية "الغربيون" وكانوا يسمون بلادهم "حات عربي" أي بلاد الغربيين أو بلاد العرب. يقول جورجي زيدان: وبما أن تلك البلاد صحراء بادية صار لفظ "عرب" في اللغات السامية يدل على البادية كما في العبرانية والعربية، ويقول جواد علي: وترى علماء العربية حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فبينما يذهبون إلى أن "يعرب" كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي، ثم يقولون: ولذلك عرف هذا اللسان باللسان العربي، تراهم يجعلون العربية لسان أهل الجنة ولسان آدم؛ أي أنهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة، وقد كانت الخليقة قبل خلق "يعرب" بالطبع بزمان طويل، ثم تراهم يقولون: أول من تكلم بالعربية ونسى لسان أبيه إسماعيل. ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاما، وكان أول من فتق لسانه بالعربية المبينة وهو ابن أربع عشرة سنة، وإسماعيل هو جد العرب المستعربة على حد قولهم1.

_ 1 الفصل جـ ص14، تاج العروس جـ2 ص352، اللسان جـ2 ص72.

رأي المستشرقين وعلماء التوراة

رأي المستشرقين وعلماء التوراة: أما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون، فقد تتبعوا تأريخ الكلمة وتتبعوا معناها في اللغات السامية، وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين والبابليين واليونان وغيرهم، فوجدوا أن أقدم نص وردت فيه لفظة عرب هو نص آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" ملك آشور، وقد تبين لهم أن لفظة عرب لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة -مشيخة- كانت تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية، كان حكمها

يتوسع ويتقلص في البادية تبعًا للظروف السياسية ولقوة شخصية الأمير، وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي جندب -كانت صِلاته سيئة بالآشوريين؛ لاشتراكه في تحالف عسكري مع ملك دمشق الآرامي "وأحاب" ملك العبرانيين؛ لضرب ملك آشور، وهذا أول نص فيه ذكر واضح لزعيم عربي1. ووردت في الكتابات البابلية جملة "ماتو أربي" Matu Arabaai ومعنى "ماتو" "متو" أرض فيكون المعنى أرض عربي. أي أرض العرب أو بلاد العرب أو العرب أو العربية أو بلاد الأعراب -بعبير أصدق وأصح؛ إذ قصد بها البادية، وكانت تحفل بالأعراب2- ومراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من العربية أو بلاد العرب البادية التي في غرب نهر الفرات الممتدة إلى تخوم بلاد الشام3، وبهذا المعنى أي معنى البداوة والأعرابية والجفاف والفقر وردت اللفظة في العبرانية وفي لغات سامية أخرى، ويدل ذلك على أن لفظة "عرب" في تلك اللغات المتقاربة هو البداوة وحية البادية أي معنى "أعراب" وإذا راجعنا المواضع التي وردت فيها كلمة "عربي، وعرب" في التوراة نجدها بهذا المعنى تماما، ففي كل المواضع التي وردت فيها في سفر "أشعياء" مثلا نرى أنها استعملت بمعنى بداوة وأعرابية كالذي جاء فيه: "ولا يخيم هناك أعرابي"، و"وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الردانيين"، فقصد بلفظة عرب في هذه الآية الأخيرة البادية موطن العزلة والوحشة والخطر، ولم يقصد بها قومية وعلمية لجنس معين بالمعنى المعروف المفهوم4. ويرى بعض علماء التوراة أن كلمة "عرب" إنما شاعت وانتشرت عند العبرانيين بعد ضعف "الإسماعيليين" وتدهورهم وتغلب الأعراب عليهم، حتى صارت اللفظة مرادفة عندهم لكلمة "إشماعيليين"، ثم تغلبت عليهم فصارت تشملهم مع أن "الإشماعيليين" كانوا أعرابا كذلك أي قبائل بدوية تنتقل من مكان إلى مكان؛ طلبا للمرعى وللماء. وكانت تسكن أيضا في المناطق التي سكنها الأعراب أي أهل البادية، ويرى أولئك العلماء أن كلمة عرب لفظة متأخرة اقتبسها العبرانيون

_ 1 تاريخ الشرق الأدنى ص120 فيليب حتى. 2، 3، 4 المفصل جـ1 ص17، ص18، الإصحاح الثالث عشر آية 20 والإصحاح الحادي والعشرون آية 13.

من الآشوريين والبابليين بدليل: ورودها في النصوص الآشورية والبابلية، وهي نصوص يعود عهدها إلى ما قبل التوراة؛ ولشيوعها بعد لفظة "إسماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة ربط بينهما وبين لفظة "إسماعيليين" وصارت نسبا، فصير جد هؤلاء العرب "إشماعيل" وعدوًا من أبناء "إسماعيل"1. وأول من ذكر العرب من اليونان هو: "إسكيلوس" "أشيلس" 525-4526 ق. م. - من أهل الأخبار منهم ذكرهم في كلامه على جيش "أحشويرش" وقال: إنه كان في جيشه ضابط عربي من الرؤساء مشهور، ثم تلاه "هيرودتس" شيخ المؤرخين نحو "484-425 ق. م." فتحدث في موضوعات من تأريخه عن العرب حديث يظهر منه أنه كان على شيء من العلم بهم، وقد أطلق لفظة "ARABAR" على بلاد سيناء وما بعدها إلى ضفاف النيل في بلاد العرب، فلفظة العربية عند اليونان والرومان هي في معنى بلاد العرب، وقد شملت جزيرة العرب وبادية الشام وسكانها هم عرب على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم على سبيل التغليب؛ لاعتقادهم أن البداوة كانت هي الغالبة على هذه الأرضين فأطلقوها من ثم على الأرضين المذكورة2، أما النصوص العربية الجنوبية فقد وردت فيها لفظة "أعرب" بمعنى "أعراب" ولم يقصد بها قومية أي علم لهذا الجنس المعروف الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو ومن حضر فورد: "وأعرب ملك حضرموت" أي "وأعراب ملك حضرموت"، وورد: "وأعرب ملك سبأ" أي: "وأعراب ملك سبأ"، وكالذي ورد في نص "أبرهة" نائب ملك الحبشة على اليمن؛ ففي كل هذه المواضع ومواضع أخرى وردت بمعنى أعراب، أما أهل المدن والمتحضرون فكانوا يعرفون بمدنهم أو بقبائلهم، وكانت مستقرة في الغالب، ولهذا قيل "سبأ" و"همذان" و"حمير" وقبائل أخرى بمعنى أنها قبائل مستقرة متحضرة تمتاز عن القبائل المتنقلة المسماة "أعراب" في النصوص العربية الجنوبية مما يدل على أن لفظة "عرب" "العرب" لم تكن تؤدي معنى الجنس والقومية، وذلك في الكتابات العربية الجنوبية المدونة والواصلة إلينا إلى قبيل الإسلام بقليل "449م-542م".

_ 1 المرجع السابق جـ1 ص20. 2 المراجع السابق جـ1 ص21.

يقول جواد علي: والرأي عندي أن العرب الجنوبيين لم يفهموا هذا المعنى من اللفظة إلا بعد دخولهم الإسلام، ووقوفهم على القرآن الكريم وتكلمهم باللغة التي نزل بها وذلك بفضل الإسلام بالطبع، وقد وردت لفظة "عرب" في النصوص علما لأشخاص1. وقد عرف البدو -أي سكان البادية بالأعراب في عربية القرآن الكريم، وقد ذكروا في مواضع من كتاب الله، وقد نعتوا فيه بنعوت سيئة تدل على أثر خلق البادية فيهم. وقد ذكر بعض العلماء أن الأعراب بادية العرب وأنهم سكان البادية2، والنص الوحيد الذي وردت فيه لفظة "العرب" علما على العرب جميعا من حضر وأعراب؛ ونعت فيه لسانهم باللسان العربي، وهو القرآن الكريم، وقد ذهب "د. هـ. ملرا" إلى أن القرآن الكريم هو الذي خصص الكلمة وجعلها علما لقومية تشمل كل العرب، وهو يشك في صحة ورود كلمة عرب علما لقومية الشعر الجاهلي كالذي ورد في شعر لامرئ القيس، وفي الأخبار المدونة في كتب الأدب على ألسنة بعض الجاهليين، ورأْي "ملر" هذا رأي ضعيف لا يستند إلى دليل؛ إذ كيف تعقل مخاطبة القرآن قوما بهذا المعنى لو لم يكن لهم سابق علم به؟ وفي الآيات دلالة واضحة على أن القوم كان لهم إدراك لهذا المعنى قبل الإسلام، وأنهم كانوا ينعتون لسانهم باللسان العربي، وأنهم كانوا يقولون للألسنة الأخرى ألسنة أعجمية؛ قال تعالى: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44] ، {هَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف: 12] . إلخ هذه الآيات؛ ففي هذه الآيات وآيات أخرى دلالة على أن الجاهليين كانوا يطلقون على لسانهم لسانا عربيا، وفي ذلك دليل على وجود الحس بالقومية قبيل الإسلام. ونحن لا نزال نميز الأعراب عن الحضر ونعدهم طبقة خاصة تختلف عن الحضر، فنطلق عليهم لفظة "عرب" في معنى "بدو وأعراب" أي المعنى الأصلي القديم،

_ 1 المفصل جـ1 ص23، ص24. 2 المفصل جـ1 ص24.

ونرى أن عشيرة "الدولة" وعشائر أخرى تقسم سكان الجزيرة إلى قسمين حضر وعرب، ونقصد بالعرب أصحاب الخيام أي المتنقلين؛ وتقسم العرب -أي البدو- إلى: "عرب القبيلة"، "عرب الديرة" وهم العرب المقيمون على حافات البوادي والأرياف؛ أي في معنى "عرب الضاحية" وعرب الضواحي في اصطلاح القدماء -"القدامى"1. وخلاصة ما تقدم أن لفظة "ع. ر. ب"، "عرب" هي بمعنى البداوة والأعرابية في كل اللغات السامية، ولم تكن تفهم إلا بهذا المعنى في أقدم النصوص التاريخية التي وصلت إلينا؛ وهي النصوص الآشورية وقد عنت بها البدو عامة مهما كان سيدهم أو رئيسهم، وبهذا المعنى استعملت عند غيرهم، ولما توسعت مدارك الأعاجم وزاد اتصالهم واحتكاكهم بالعرب وبجزيرة العرب توسعوا في استعمال اللفظة حتى صارت تشمل أكثر العرب على اعتبار أنهم أهل البادية وأن حياتهم حياة أعراب، ومن هنا غلبت عليهم وعلى بلادهم فصارت علمية عند أولئك الأعاجم على بلاد العرب وعلى سكانها، وأطلق لذلك كتبة اللاتين واليونان على بلاد العرب لفظة "Arabae"؛ أي العربية بمعنى البلاد العربية بلاد العرب2.

_ 1 المفصل جـ1 ص24، ص25. 2 المفصل جـ ص25، ص26.

الجاهلية

الجاهلية: اصطلاح مستحدث ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال العرب قبل الإسلام تمييزًا وتفريقًا لهذا عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة على النحو الذي يحدث عندنا وعند غيرنا من الأمم من إطلاق تسميات جديدة للعهود القائمة، والكيانات الموجودة بعد ظهور أحداث تزلزلها وتتمكن منها؛ وذلك لتمييزها وتفريقها عن العهود التي قد تسميها أيضا بتسميات جديدة، وفي التسميات التي تطلق على العهود السابقة مما يدل ضمنًا على شيء من الازدراء والاستهجان للأوضاع السابقة في غالب الأحيان1.

_ 1 السابق جـ1 ص37، المزهر ص176.

"الجاهلية" أي أيام الجاهلية أو "زمان الجاهلية"؛ استهجانًا لأمر تلك الأيام الذي هو ضد الحلم، الأنفة والخفة والغضب، وما إلى ذلك من معانٍ، وهي أمور كانت جد واضحة في حياة الجاهليين، ويقابلها الإسلام الذي هو مصطلح "مستحدث أيضا ظهر بظهور الإسلام"، وعماده الخضوع لله والانقياد له، ونبذ التفاخر بالأحساب والأنساب والكبر وما إلى ذلك من صفات نهى عنها القرآن والحديث1. وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم في مواضع منه، منها آية سورة الفرقان قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] ، وآية سورة البقرة: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] ، وآية الأعراف قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} [الأعراف: 198] . وفي كل هذه المواضع ما ينم على أخلاق الجاهلية؛ وقد ورد في الحديث: "إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل" 2، وورد أيضا: "إنك امرؤ فيك جاهلية" 3 وبهذا المعنى تقريبًا وردت الكلمة في قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا4 وازدراء بجهل أصحابها لحالة الوثنية التي كانوا عليها، ولجهالة الناس إذ ذاك وارتكابهم الخطايا التي أبعدتهم في نظر النصرانية عن العلم وعن ملكوت الله، "وقد أعفى الله عن أزمنة هذا الجهل، فيبشر الآن جميع الناس في كل مكان إلى أن يتوبوا"5. وقد وردت لفظة الجاهلية في القرآن الكريم، وردت في السور المدنية دون السور المكية؛ فدل ذلك على أن ظهورها كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة؛ وأن إطلاقها بهذا المعنى كان بعد الهجرة، وأن المسلمين استعملوها منذ هذا العهد فما بعده6.

_ 1 المفصل جـ1 ص38، ص39. 2 بلوغ الأرب جـ1 ص16. 3 ذيل أقرب الموارد جـ3 ص115، فجر الإسلام جـ1 ص16. 4 بلوغ الأرب جـ1 ص16، محيط المحيط ص309، أساس البلاغة جـ1 ص145. 5 المفصل جـ1 ص37، ص38 وأعمال الرسل والإصحاح السابع عشر آية 30. 6 المفصل جـ1 ص38.

وقد فهم جمهور من الناس أن الجاهلية من الجهل الذي هو ضد العلم، أو عدم اتباع العلم، ومن الجهل بالقراءة والكتابة، ولهذا ترجمت اللفظة في الإنكليزية بـ The time of igmorace، وفهمها آخرون أنها من الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين وباتباع الوثنية، والتعبد لغير الله، وذهب آخرون إلى أنها من المفاخرة بالأنساب والتباهي بالأحساب والكبر والتجبر وغير ذلك من الخلال التي كانت من أبرز صفات الجاهليين، ويرى المستشرق "جولدزيهر" أن المقصود الأول من الكلمة "السفه" أي لا يسفه قوم علينا فنسفه عليهم فوق سفههم؛ أي: نجازيهم جزاء يربى عليه، واستعمال هذا اللفظ بهذا المعنى كثير1. وجاء في سورة المائدة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون} [المائدة: 50] ؛ أي أحكام الملة الجاهلية وما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام والتفريق بين الناس في المنزلة والمعاملة2. وأطلقوا على "الجاهلية الجهلاء" والجهلاء صفة للأولى يراد بها التوكيد وتعني "الجاهلية القديمة"3 وكانوا إذا عابوا شيئا واسبشعوه قالوا: "كان ذلك في الجاهلية الجهلاء"4 وهي: الوثنية التي حاربها الإسلام، وقد أنب القرآن المشركين على حميتهم الوثنية فقال: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 5 [الفتح: 26] . يقول جواد علي: والرأي عندي أن الجاهلية من السفه والحمق والخفة والغضب، وعدم الانقياد لحكم وشريعة وإرادة إلهية، وما إلى ذلك من حالات انتقصها الإسلام6.

_ 1 بلوغ الأرب جـ1 ص16. 2 المفصل جـ1 ص40، تفسير الخازن جـ1 ص516. 3 محيط المحيط ص309. 4 أقرب الموارد ص147. 5 عن الجاهلية والجهل وما ورد بهذا المعنى في القرآن الكريم، راجع تفصيل آيات القرآن الحكيم: تأليف جون لابوم ونقله إلى العربقية محمد فؤاد عبد الباقي ص621. 6 المفصل جـ1 ص40.

ونحن نرى هذا الرأي الذي يرى: أن الجاهلية وصف لمرحلة تاريخية مليئة بالسفه والحمق وعدم التروي فيما ينبغي التروي فيه، والتاريخ الجاهلي الذي رواه الإخباريون مليء بالشواهد والأخبار التي تؤيد هذا الرأي من غير تعسف في البحث عن شواهد تؤيده، فما التاريخ الجاهلي إلا تاريخ حروب بين القبائل من حرب "البسوس" و"داحس والغبراء" وهما معًا من أفتك الحروب شراسة بأهلها وأشدها هولا وأطولها زمنًا، وما ذلك إلا نمط من أنماط نزق العقل العربي الذي بجانب كل المجانبة ما أُثِرَ عن العرب من مرويات الحكم: فحياتهم تتردد بين مأثور من القول الجميل الموزون المقفى ونثر ذي فواصل من الحكم والأمثال الحميدة، وبين سلوك فاضح سفيه كتلك الحروب التي ذهبت بالأجيال وقد طال مداها أربعين عاما بسبب ناقة أغراها الكلأ فهامت على وجهها من غير إذن رعيانها، فتاريخ الحروب الجاهلية تاريخ سفاهات وحمق وثارات ظالمة.

أقسام العرب لدى الإخباريين

أقسام العرب لدى الإخباريين مدخل ... أقسام العرب لدى الإخباريين: اصطلح مؤرخو العرب أن يقسموا تاريخ العرب قبل الإسلام إلى قسمين: - العرب البائدة: وهي التي بادت قبل الإسلام. - العرب الباقية: وعندهم قسمان: 1- العرب القحطانية: من حمير من أهل اليمن وفروعها. 2- العرب العدنانيون: في الحجاز وما يليها. العرب البائدة: يرى مؤرخو العرب أن العرب البائدة تطلق على: عاد، وثمود، والعمالقة، وطسم، وجديس، وأميم، وجرهم، وحضرموت ومن ينتمي إليهم، ويسمونها العرب العاربة، وأنهم من أبناء سام. قال ابن خلدون: وكان لهذه الأمم ملوك ودول في جزيرة العرب.

وامتد ملكهم فيها إلى الشام ومصر في شعوب منهم، ويقال: إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام فسكنوا جزيرة العرب بادية مخيمين، ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور إلى أن غلب عليهم بنو يعرب بن قحطان1. يقول جورجي زيدان: وإذا تدبرت ما نقله ابن خلدون عن العرب البائدة، رأيت مورخي العرب يقسمونهم إلى قسمين: الأول: عرب العماليق من نسل "لاوذ بن سام". الثاني: سائر القبائل البائدة من نسل "أرم بن سام" كان يقال "عاد إرم" فلما هلكوا قيل "ثمود إرم" فلما هلكوا قيل: "سائر ولد إرم". ويرى جورجي زيدان: والصحيح في اعتقادنا أن"إرم" اسم القبيلة فقالوا "عاد إرم" كما قالوا "ثمود إرم" وقبائل العرب البادئة من نسل "إرم" ويعرفون بالأرمان.

_ 1 تاريخ ابن خلدون جـ1 ص18.

العمالقة في العراف وفي مصر

العمالقة في العراف وفي مصر ... العمالقة في العراق وفي مصر: يريد المؤرخون بالعمالقة قدماء العرب، وخصوصًا شمال الحجاز مما يلي جزيرة سيناء الذين فتحوا مصر باسم "الشاسور البدو أو الرعاة" ويسميهم اليونان "هكسوس". وأصل لفظ العماليق أو "العمالقة" مجهول والغالب: أنهم نحتوه من اسم قبيلة عربية كانت مواطنها بجهات العقبة أو شمالها حيث كان العماليق على قول التوراة، ويسميها البابليون "ماليق" أو "عم مالوق" فقال العرب: "عماليق" أو "عمالقة" ثم أطلقوه على طائفة كبيرة من العرب القدماء. وأقدم من ذكر سيادة العرب على العراق كاهن كلداني اسمه بروسوس من أهل القرن الرابع ق. م. عاصر الإسكندر وبعض خلفائه، كان عالما باللغة اليونانية فنقل تاريخ بلاده إليها، وجعل كتابه هدية إلى "أنطيوخوس" ملك سوريا، وقد ضاع ذلك الكتاب، وإنما عرفه الناس من نصوص نقلها عنه "بولودوروس" وبوليسنور من أهل القرن الأول قبل الميلاد، وعنهما نقل "أوسايبوس، وسنسلوس".

بدأ "بروسوس" تاريخه بالخليقة حتى أيامه، فأخذ بعدد في مؤلفه عدد الدول قبل الطوفان، ودول ما بعد الطوفان حتى دولة العرب العماليق عدد ملوكها 9 وسني حكمًا 245 سنة. يقول جورجي زيدان: فهذا القول على اختصار يوافق خلاصة ما وصلنا إليه بعد النظر في ما اكتشفه العلماء في بابل وآشور من النقوش، أو قرأوه في كتب اليونان وغيرهم1. أما مصر فقد نزح الساميون إليها من عهد قديم جدًّا، ويؤخذ من الاكتشافات الأثرية الأخيرة، أن العصر الحديدي بمصر يبدأ بدخول الساميين إليها، وأن المصريين قبل دخول الساميين لم يكونوا يعرفون الآلات الحديدية، فأتاهم الساميون بالحدادة في أقدم أزمنة التاريخ المصري، ولعلهم حملوا إليهم ذلك من وادي الفرات عن تمدن سومري الأصل اكتسبه الساميون بالمجاورة قبل فتح بابل وحملوه إلى مصر، ومما يستند به الأثريون على أقدم نزوح الساميين إلى مصر أن أقدم آلهة المصريين "فتاح" سامي الأصل. جاء الساميون مصر من الشرق؛ إما بطريق برزخ السويس أو بالبحر الأحمر، ولذلك ما برح المصريون منذ القدم يسمون بلاد العرب "الأرض المقدسة" أو "أرض الآلهة". وبعد عرض هذه المعلومات عن العرب البائدة -ينتقل النسابون العرب للحديث عن الجدين اللذين ينحدر منهما العرب وهما "قحطان وعدنان"، وبما أن جميع الناس ينحدرون من آدم فإنه لا بد من وجود قرابة -ولو بعيدة- بين هذين الجدين؛ ومسألة القرابة بين قحطان وعدنان تتوقف على ما إذا كان قحطان هذا من نسل إسماعيل الذي هو جد عدنان، وتكاد تجمع كلمة النسابين على أن قحطان هذا ليس من نسل إسماعيل، ويعيدون نسبه إلى سام بن نوح عليه السلام.

_ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام جـ1 ص37، 1908.

والعرب الذين انحدروا من نسل قحطان هم الذين يطلق عليهم النسابون اسم "العرب العاربة" أو "العرب العرباء" أي العرب الحقيقيين، وأما نسل عدنان فهم العرب المستعربة أو المتعربة -أي الذين لم يكونوا عربا واستعربوا1. إن نسل قحطان هم عرب الجنوب "قبائل اليمن" الذين نشأوا في الزاوية الجنوبية الغربية من الجزيرة في حين أن نسل عدنان هم عرب الشمال الذين ظهروا أول ما ظهروا في القسم الشمالي من الجزيرة2.

_ 1 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص36 تأليف درنية عاقل طبعة دار الفكر -بيروت- الطبعة الثالثة 1975م. 2 المرجع السابق ص37.

إبراهيم عليه السلام مؤسس البيت العبرى والعربي

إبراهيم عليه السلام مؤسس البيت العبري والعربي: كانت آخر مرحلة من مراحل فتوحات حمورابي في إقليم ما بين النهرين هي هزيمته لغريمه القوي "رم-س-Rim-Sin" ملك لارسا، وكانت مدينته تقع إلى الجنوب شرق "لجش" وشمال "أور" بل إن مدينة "أور" أعلنت عن نفسها بأنها تحت حماية ملك بابل، ولقد كان بين رعايا "رم-س" رجل ما زالت أعظم ديانات العالم تتطلع إليه على أنه شيخها الجليل الوقور، والأب الروحي لعقيدتها، ذلك هو نبي الله إبراهيم الخليل، يقطن مدينة ذكرها الكتاب المقدس على أنها مدينة "أور الكلدانيين" وأنه طبقا لما جاء في سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر1 "فخرجوا معا" في صحبة أسرته كلها؛ "ليذهبوا إلى أرض كنعان"، وكانت هذه الرحلة واحدة من أعظم الرحلات أهمية قام بها إنسان2. وطبقا لما جاء من بيان في "سفر التكوين" كان أول مكان استقر به إبراهيم عليه السلام في رحلته إلى أرض كنعان هو: حران، وهي مدينة تقع الآن جنوب تركيا بالقرب من الحدود السورية، وكان إبراهيم ينتمي إلى قوم يسمون بالعبيرو، وهم أنفسهم العبرانيون، وفي سفر التكوين: إن إبراهيم عليه السلام نفسه يوصف على أنه إبرام العبراني، ثم بعد ذلك يفتون على أنه سوري أو آرامي، ولا شك كما يذهب

_ 1 آية 31. 2 فلاسفة الشرق ص109 تأليف: "أوف توملين" ترجمة عبد الحميد سليم، مراجعة: علي أدهم. طبعة دار المعارف.

المؤرخون أن الآراميين قبيلة مماثلة تماما أو لها علاقة بالآموريين. أما عن الآموريين فقد تمتعوا بنفس الشهرة التي تمتع بها العاييرو في عهد "رم-س" معنى ذلك أن العابيرو كانوا مقرونين بمجموعة من الناس وكان يلصق بهم اسم شامل هو الآراميون، وأن هذه المجموعة كانت تحيا حياة مماثلة لحياة البدو، وطبقًا لما جاء من بيان في "سفر التكوين" كان أول مكان استقر به إبراهيم عليه السلام في رحلته إلى أرض كنعان هو: حران يؤكد الكتاب المقدس "يشوع"1 أن عائلته توافرت على خدمة آلهة أخرى -آلهة سومر، بنوع خاص آلهة "أور"، وكان الإله القومي وقتذاك لمدينة "أور" هو "نانار" إله القمر، وكانت تلك المدينة هي: "حران" وكذا كان والد نبي الله إبراهيم2. وطبقا لما جاء في الكتاب المقدس: تلقى إبراهيم أول رسالة مباشرة موجهة إليه من "الإله"، وكانت الرسالة في هذه الحالة قد اتخذت صيغة الأمر؛ إذ كان على إبراهيم أن يقود قومه إلى أرض كنعان، وأن ينشئ مجتمعا جديدا هناك. وإله إبراهيم هو إله: إسحق ويعقوب وإسماعيل، بعد هذا الأمر نبذ إبراهيم آلهة "أور" القومية؛ وآلهة "سومر" الوطنية. ثم قيل لإبراهيم3: "اذهب من أرضك" يعني ما بين النهرين، فخرج إبراهيم مع قومه العابيرو يدعو إلى عقيدة التوحيد؛ ومع كل معركة صحراوية كانت تقوى الوحدة القلبية. وازدادت شهرة إبراهيم، وعظم قدر إله إبراهيم -خلال رحلته من "أور" إلى "حران" ومن "حران" إلى "فلسطين"، صان إبراهيم العهد إلى أن أقام هاجر زوجته بجوار عين ماء في الصحراء4؛ وأسس نبي الله إبراهيم عقيدة التوحيد لإله ليس للطبيعة، وإنما للتاريخ الديني كانت عين الماء: زمزم والصحراء حمى مكة؛ قال تعالى: {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} ... [إبراهيم: 37] .

_ 1 إصحاح 14 آية 13. 2 فلاسفة الشرق ص112. 3 سفر التكوين 12-1. 4 سفر التكوين 16-7، 13،

عرب الشمال عرب عدنان-الإسماعيليون الحجاز

عرب الشمال عرب عدنان -الإسماعيليون: الحجاز يصطلح كتاب العرب أن المراد بعرب الشمال على الإجمال: الإسماعيلية أو العدنانية، ومنازلهم شمال بلاد اليمن في تهامة والحجاز ونجْد وما وراء ذلك شمالا إلى مشارف الشام والعراق، وهم يرجعون بأنسابهم إلى إسماعيل بن إبراهيم. ويرجع تاريخ هجرة إبراهيم بابنه إسماعيل إلى ما ذكرته التوراة والقرآن. وحكاية إسماعيل في التوراة لا تختلف كثيرا عما جاء في القرآن فقد ذكرت التوراة إخراج إسماعيل وأمه هاجر إلى برية بير سبع وسكناه بقرية فاران، وأن أولاده آباء القبائل التي أقامت ما بين "حويلة" إلى "شورة"، وكانت شورة عند برزخ السويس وحويلة وخولان في شمال اليمن وبينهما الحجاز، ونجد وتهامة وجزيرة سيناء. أما التاريخ العربي فقد بنى روايته في أصل عرب الشمال على ما جاء في القرآن الكريم. فأصل المكان الذي قام فيه إسماعيل وأمه فهو: مكة بدل برية فاران. ويقول المؤرخون: إن إسماعيل أقام بمكة، وتوَّج امرأة من جرهم أصحاب مكة في ذلك العهد، فولدت له اثني عشر ولدًا. والروايتان متفقتان في أن إسماعيل ربِّيَ في البادية، وأنه كان راميًا بالقوس شأن أهل البادية؛ وأنه خلف اثني عشر ولدًا أسماؤهم تطابق أسماء بعض قبائل الشمال؛ وإنما اختلفوا في المكان الذي أقام فيه إسماعيل، فالتوراة تقول: إنه برية فاران أو جبل فاران، وكلاهما عند العقبة شمال جزيرة سيناء، ومؤرخو العرب يقولون: وفقا للقرآن إنه مكة بالحجاز. يقول جورجي زيدان: ويسهل تطبيق الروايتين متى علمنا أن جبال مكة أو جبال سيناء تسمى أيضا فاران، فيكون المراد أن "البرية" التي أقام فيها إسماعيل "برية" الحجاز وأنه أقام حينًا في سيناء، ثم خرج إلى الحجاز وسكن هناك وتزوج، ولم تذكر التوراة إسماعيل بعد خروجه من بيت أبيه إلا عند حضوره دفنه على عادتها من الاختصار في ما يخرج عن تاريخ أمة اليهود أو ديانتها.

قال المقدسي: اختلف الناس في نسب العرب، فقال بعضهم: كلهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقال آخرون: ليست النمر من ولد إسماعيل ولكنها من ولد قحطان بن عابر فهم أنسب وأقدم من غيرهم، ولذلك تفخر أعراب اليمن على غيرهم من العرب. وقال ابن إسحق: لم أجد أحدا من نساب اليمن له علم، إلا وهو يزعم أنهم "ليسوا" من ولد إسماعيل، ويقولون: نحن العرب العاربة كنا قبل إسماعيل، وإنما تكلم إسماعيل بلساننا لما جاورته جرهم إلا هذين الحيين: الأنصار، وخزاعة؛ فإنهم زعمون أنهم من ولد إسماعيل. قالوا: وأخو قحطان وبقطر من عامر بن عابر فولد بقطر جرهم وجزبلا فلم يبق في جزيل بقية فنزلت جرهم مكة فنكح فيهم إسماعيل. وقال رجل من قحطان بن هميسع: والنساب على أن قحطان بن عابر وقحطان بن عامر ونزار جرثومتان؛ لأنه نسبة ولد إسماعيل من نزار ونسبة اليمن من قحطان هذا هو الأصل. ثم قال المقدسي: ونزار نزاران فهذا نزار بن معد بن عدنان، والثاني: نزار ابن أنمار، ثم اختلفوا في نسب عدنان. وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم انتسب فلما بلغ عدنان وقف وقال: "كذب النسابون". وقد روى ابن إسحق عن يزيد بن رومان عن عائشة أن النبي قال: "استقامت نسبة الناس إلى عدنان". والعرب مختلفون في عدد الآباء بين إسماعيل وعدنان فقال بعضهم: إنهم أربعون أبا، وقال آخرون: إنهم عشرون، أو خمسة عشر أو أقل من ذلك -ومن عدنان تناسل عرب الإسماعيلية فعندهم أن عدنان ولد بمكان، ومعدا هو أبو القبائل العدنانية أو الإسماعيلية، وأقدم ما علمناه من أخبار هذه القبائل وصل إلينا عن طريق التوراة؛ فقد جاء في سفر التكوين بأنباء قصة يوسف بعد أن طرحه إخوته في

البئر قوله: ثم جلسوا يأكلون، ورفعوا عيونهم ونظروا فإذا بقافلة من الإسماعيليين مقبلة من جلعاد وجمالهم محملة نكعة وبلسانا ولاذنا وهم سائرون؛ لينزلوا إلى مصر1. وكان ذلك في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وكان الإسماعيليون يحملون التجارة إلى مصر، وهم الذين اشتروا يوسف وباعوه في مصر، ثم جاء ذكرهم في سفر القضاة2 بعد ذلك الحين بخمسة قرون وهم يحاربون الإسرائيليين، ويسمون هناك تارة "بني المشرق" وطورا "الإسماعيليين" وبعد ذلك بخمسة قرون أخر ذكر أولئك العرب في سفر "أشعياء باسم قيدار" وهو في التوراة: ابن إسماعيل فيراد باسمه قبيلة الإسماعيلية على الأقل، وهو يتنبأ بقرب زوال مجدهم3. وأصبح الإسماعيلية في عرف التوراة من ذلك الحين قبيلتين قيدار ونبيت، وظن بعضهم أن المراد بالنبيت أو الضبط الأنباط أصحاب بطرا. وبعد أشعيا بقرن وبعض القرن في: القرن السادس ق. م. "جاء نبوخذ نصر" الذي يسميه العرب بختنصر، واكتسح شمال جزيرة العرب، وغلب على الإسماعيلية أو بني قيدار أو بني المشرق في البادية. وكانت العرب العدنانية بادية أقامت في تهامة والحجاز ونجد إلا قريشا، فقد تحضروا في مكة، وتقسم العدنانية إلى "عك"، و"مضر" أما "عك" فنزلت في نواحي زيدة وجنوب تهامة، وقد ذكرها اليونان في كتبهم فسموها Acchitae وليس لهم تاريخ يذكر. أما معد فهو البطن العظيم ومن تناسل عقب عدنان كلهم، وإذا قال العرب: "معد" يريدون القبيلة لا الرجل، وانقسمت إلى فرعين كبيرين: "نزار"، "قنص" الكثرة والنسل في نزار وهم عدة فروع؛ أشهرها خمسة: قضاعة، ومضر، وربيعة، وإياد، وأنمار، وكانت لهم منازل في تهامة والحجاز ونجد4.

_ 1 سفر التكوين: 37 عدد25. 2 القضاة ص6 عدد 23، 7، 33. 3 أشعيا ص21 عدد 16، 17. 4 البكري ص13.

كانت مساكن قضاعة ومراعي أنعامهم جدة من شاطئ البحر الأحمر فما دونهما شرقا إلى منتهى ذات عرق وهي الحرتان: نجد وتهامة إلى حيز الحرم من السهل والجبل، وكان لقضاعة بطون أقامت في أماكن مختلفة من جزيرة العرب في البحرين ووادي الغرب واليمن. وقبائل مضر: أقامت في حيز الحرم إلى السروات وما دونهما من الغور وما والاها من البلاد، وأقامت ربيعة في مهبط الجبل من غمر ذي كندة "بينه وبين مكة مسيرة يومين". وبطن ذات عرق وما صاحبها من بلاد نجد إلى الغور من تهامة. وأقامت إياد وأنمار معا ما بين حد أرض مضر إلى حد نجران وشعابها وجبالها وما صاحبها من البلاد. وكل قبائل عدنان بدو رحل إلا قريشا؛ فإنهم تحضروا في مكة. ويرى المقدسي: فأما "عك" فأول من تبدي في البادية والعدد في "معد" ويرى أن "معد" و"عك" تبادلا الأسماء "فعك" ولد "معد" و"معد" من أولاده من تسمى "بعك" كما يرى أيا أن "خثعم" وبجيلة، من أنمار صار إلى اليمن، ونقل "قمعة" ابن إياس: أنهم في اليمن ومن خندف وقس وولد مدركة بن إياس هذيل، وولد سعد تميم بن معاوية، وولد خزيمة بن مدركة أسد بن خزيمة؛ فمنه تفرقت بطون العرب إلى أن صارت الصلت إلى اليمن، ورجعت قريش إلى مكة على يد قصي مجمع قريش.

عرب الجنوب عرب قحطان: اليمن

4- عرب الجنوب عرب قحطان: اليمن يقول ابن خلدون: وفي أنساب التبابعة تخليط واختلاف لا يصح منها ومن أخبارها إلا القليل. يرى المؤرخون: أن عرب اليمن ينتسبون إلى يعرب بن قحطان، ويُعرَفون العرب المتعربة؛ لأنهم اقتبسوا اللغة من العرب البائدة كما يذهب مؤرخو العرب: أن بني قحطان لما نزلوا اليمن كان فيها بقية من العرب العاربة والدولة فيهم، وهم من العماليق فأبادوهم، وكان أول ملوك الدولة القحطانية يعرب بن قحطان غلب على قوم عاد باليمن والعمالقة بالحجاز.

الدور المعيني

الدور المعيني: أول من ذكر اسم معين: مورخ يوناني "استرابوان" قال في معرض حديثه عن اليمن: يشغل القسم الجنوبي من جزيرة العرب أربعة شعوب: 1- الدور الأول: المعيني، عاصمتها قرنا. 2- الدور الثاني: السبئي، عاصمتها مأرب. 3- الدور الثالث: القتبي، عاصمتها تيماء. 4- الدور الرابع: الحضرمي، عاصمتها شكوة. بعد هذه الإشارة التاريخية ظلت معلومات المؤرخين عنها ضئيلة، فكانوا يظنون نسبه إلى بني يعرب -مكة- حتى وفق المستشرق "هاليفي" إلى اكتشاف أنقاض معين، وقرأ اسمها على المسند، وبجانبها راقش. فتوجهت النظار إليها، ومع كثرة النقوش المعينية عثروا عليها وقرأوها وليس ثمة أثر تاريخي يساعد على تنسيق حوادثها أو مبدأ أمرها. ويلقب ملوكها بلقب "فرواد؟ " وامتد نفوذ المعينيين في إبان دولتهم إلى شواطئ البحر المتوسط، وشواطئ خليج العجم، وبحر العرب، أي أنها شملت كل جزيرة العرب؛ ولغتها كثيرة الشبه باللغة السبئية غير أن ثمة ملاحظة تشكك في نسبة المعينيين إلى قحطان وهي: أن المشهور في تاريخ العرب، وما جرى عليه المؤرخون: أن دولة اليمن بعد قبائل البائدة ترجع بأنسابها إلى قحطان، فإذا صح هذا على دولتي "سبأ، وحمير" فإنه لا يصح على دولة معين؛ لأنها أقدم كثيرا من بني قحطان. كذلك ورد ذكر المعينيين في سفر الأخبار الثاني1. وأعانه الله "عزيا" على الفلسطينيين وعلى العرب المقيمين بجوار بعل، وعلى المعينيين. كذلك جاء ذكر هذه الأمة مع أمة "ماليق" في آثار بابل 2500 ق. م. والأرجح أنهم جاءوا اليمن بعد نزولهم العراق، واقتباسهم شيئا من تمدن السومريين أو البابليين، وديانتهم مع وقوع التغيير في لسانهم بتوالي الأجيال، وقد

_ 1 الإصحاح الثاني 26، 7.

لاحظ بعض الباحثين، ومنهم "وينكلر، وهومل، ودوفرتي" أن: بعض مظاهر الحضارة المعينية تشبه حضارة البابليين، فالإلهان "شماش، وعشتروت" البابليان يشبهان الإلهين: "شمس، وعشتر" اليمانيين. كما أن النقوش والأختام المعينية تشبه بعض ما وجد في العراق القديمة1. ويعتبر المعينيون بحق أقدم الشعوب التي حملت لواء الحضارة في بلاد العرب الجنوبية، ويعتبر الأستاذ "فريتز هومل" أن اللفظ الصحيح لاسمهم هو "معان" وليس "معين" وأن "معان" هو النطق القديم جدا للكلمة. والمعينيون شعب عربي قديم كان يسكن منذ أن ظهر على مسرح التاريخ بلاد العرب الجنوبية، ولكنه ما لبث بعد أن استقر وثبت أقدامه كشعب متمدن تاجر ما لبث أن انسرح داخل بلاد العرب وخارجها، فهاجرت جاليات منه إلى مصر والجزر اليونانية وغيرها، ويذكر نقش عثر عليه في مصر، ويعود إلى العام الثاني والعشرين من حكم الملك "بطليموس السادس" أي حوالي عام 159 ق. م" أن جالية معينية كانت تسكن مصر، وأنها كانت تتاجر بالطيب والبخور، هذه التجارة التي كانت رائجة في ذاك الزمان؛ نظرًا لأهمية هذه المادة في المعابد والقصور2. ويحدد "ألبرايت" في بحثه هذا فترة حكم الملوك المعينيين بين سنتي "400-100 ق. م" أما العالم "ملاكر" فيرى أن حكم معين يمتد بين القرنين الثامن والثالث قبل الميلاد. وهناك قضية أخرى ترتبط بتاريخ دولة معين، وهي قضية الحكم في "حضرموت" وما إذا كانت "حضرموت" مستقلة لها أسرة حاكمة خاصة لها أم أنها كانت تتبع معين، والواقع أن بين المؤرخين من يعتقد أن "حضرموت" كانت تابعة في فترة من تاريخها لحكم المعينيين بدليل أن بعض الملوك المعينيين كانوا يتلقبون بلقب ملوك "حضرموت" إلى جانب معين؛ واشتغل المعينيون بالزراعة، والتجارة، وكان بعضهم بدوًا يرعون الماشية ويعيشون حياة تنقل وارتحال، وكان مجتمع معين مؤلفا من عدة طبقات فيه الأرستقراطيون، والعبيد، وبين الطبقتين طبقات أخرى،

_ 1 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص83. 2 المرجع السابق ص84.

وهم بوجه عام متدينون يعيرون الدين أهمية كبيرة، وللمرأة بينهم مكانة محترمة ومقام رفيع، ومن آلهة معين "ود، ونكرح"، وترد أسماء هذه الآلهة الثلاثة في الكتابات المعينية على هذا الترتيب "عشتر، ود، نكرح" في الغالب، وترد بعدها في بعض الأحيان جملة "الالت معن" أي "آلهة معين" أما "نكرح" فيظهر أنه رمز إلى الشمس، وهو يقابل "ذات حمم، ذات حميم" في الكتابات السبئية: وأما "ود" فقد ظلت عبادته معروفة في الجاهلية إلى وقت ظهور الإسلام، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم سورة نوح آية 23، وقد تحدث عنه ابن الكلبي: في كتابه -الأصنام- أن قبيلة كلب كانت تتعبد له بدومة الجندل، ووصفه فقال: "كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، وقد زَبُر1، عليه حلتان متَّزَر بِحُلَّة، مرتدٍ بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة2 فيها نبل. وقد نعت "ود" في بعض الكتابات بنعوت مثل "الاهن" "الهن" أي "الإله" و"كهلن" "كاهن" "كهلان" أي القدير المقتدر، وكتب اسم "ود" بحروف بارزة على جدران في القرية "قرية الفاو"، وذلك يدل على عبادته في هذه البقعة. ويرمز "ود" إلى القمر بدليل ورود جملة "ودم شهرم"، "ودم شهران" أي "ود الشهر" في بعض الكتابات، ومعنى كلمة "شهرم": "شهر"، "والشهر": القمر، وتمثل هذه الآلهة المعينية ثالوثا يرمز إلى الكواكب الثلاثة: الزهرة، والشمس، والقمر3.

_ 1 زَبُر: أي عظم جسمه. 2 الوفضة: وعاء من الجلد كالجعبة، أسفلها مستوٍ، يحمل فيها الراعي زاده وأدائه. 3 الأصنام ص5، 10، 55.

الدور السبئي

الثاني: الدور السبئي: يرد ذكر سبأ في النقوش الآشورية التي تذكر أن كلا من "تغلات فلا صر 745-727 ق. م"، "سنا شريب - سنحاريب"، "أسر صون 715-685 ق. م" أخذ الجزية من "يثعمر وكرب أيلو" من ملوك سبأ. كما يرد ذكرها في سفر التكوين في التوراة "بلقيس التي تزوجت سليمان كانت ملكة سبأ"، ويمتد عصر سبأ بين: 950-115 ق. م. على وجه التقريب1. ولا تذكر المصادر التاريخية شيئًا واضحًا عن أصل السبئيين، وتقول المصادر العربية:

_ 1 تاريخ العرب ص92، 93.

إنهم يعودون في أصلهم إلى: "عبد شمس بن يشجب" الذي يقولون أنه لقب بسبأ؛ لأنه أكثر من الغزو في البلد وسبا خلقًا كثيرًا، وهو أول من سن السبي عند العرب فالسبئيون في نظرهم من سلالة القحطانيين. ويمكن تقسيم حكم سبأ في اليمن إلى ثلاثة أدوار، وذلك حسب الأسماء التي كانت تطلق على الملوك السبئيين. ففي الفترة الأولى كانوا يطلقون على رؤسائهم لقب "مكرب" وهي كلمة دينية تعني المقدس، ثم تلتها الفترة الثانية التي أصبح رؤسائهم فيها يلقبون بـ "ملوك سبأ" وفي الفترة الثالثة كانوا يلقبون رؤساؤهم بلقب "ملك سبأ وريدان"1. وكان أول من أطلق عليه لقب "مكرب" سبأ هو: "سمح علي" حوالي "800-780 ق. م"، ولا نعرف عن حكمه سوى أنه قدم هدية من البخور والمر للإله "المقه" الذي أرشد القبيلة بعد تجوالها إلى أرض فيها اللبن والعسل، وقد خلفه ابنه "يدع إبل ضريح"، وهو الذي بنى معبدًا آخر "للمقه" في "صرواح" عاصمة "مكارب سبأ" كما بنى معبدا آخر "للمقه" وكذلك "لعثر" في مأرب. وهذه أول إشارة لمأرب مما يدل على أنها كانت مدينة كبيرة آنذاك، وقد تلا هذا المكرب "يثعمر" "ونز" الذي بنى معبدا للإله القمر "حوباس" وخلفه ابنه "يدع إبل" الذي حصن مدينة "نسق" في الجنوب2. وقد ولى بعد "كرب إبل بين" ابنه -أو ابن أخيه "زمر على ونز" وهو الذي قام بتشييد سد مأرب، الذي يعتبر أعظم سد شيد في الجزيرة، ومن أعاجيب العالم القديم؛ ويرد ذكر هذا السد في القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} ... إلخ إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: 15-19] . وقد ترك لنا الهمذاني في كتابه: الإكليل، وصفا للسد كما زاره "أرنو وهاليفي وغلازر من الأوروبيين"3.

_ 1 تاريخ العرب القديم ص93. 2 المرجع السابق نفس الصفحة. 3 المرجع السابق ص94.

الدور الحمير الثاني

الدور الحمير الثاني ... الدور الحميري الثاني: حوالي سنة "300م" لَمَّتْ دولة حمير شعثها للمرة الثانية وضمت إليها القبائل المجاورة، وأخضعت "حضرموت"، وسائر بلاد اليمن وأصبح لقب ملوكها: "ملك سبأ وذوريدان وحضرموت ويمنات"، ثم أضيف إلى هذا اللقب قسم آخر: "عربهم في الجبال وفي التهامة"، ويفهم من هذا أن الدولة الحميرية الثانية أصبحت ذات حدود متسعة وتخضع بلاد كثيرة لسلطانها، وقد عرف العرب هذه الدولة الثانية باسم "دولة التبابعة" وحديث المؤرخين عن ملوكها حديث أقرب إلى الخرافة1. وفي الدور الحميري الثاني: بدأت الديانة المسيحية واليهودية تتسرب إلى اليمن وتحل محل الديانة الوثنية، التي كانت تدور حول عبادة النجوم والكواكب والشمس. وكان انتشار المسيحية تدريجيًّا، وقد قام بالدعاية لها المبشرون المسيحية، وخاصة اليعاقبة أتباع مذهب الطبيعة الواحدة الذين جاءوا من الحبشة، وأنشأوا لهم كنائس في عدن وظفار ونجران، ومن الجائز أن إرساليات مسيحية نسطورية من الحيرة وسورية أيضًا قامت بالدعاية للديانة المسيحية وكسبت المسيحية بعض الأتباع في اليمن، وقد انتشرت اليهودية أيضا في اليمن في عهد الدولة الحميرية الثانية. ويبدو أنها دخلت شمال الجزيرة قبل هذا العهد وربما كانت ذلك على أثر: خضوع فلسطين "لاوريانوس وتيتوس" وتدمير "بيت المقدس" على يد هذا الأخير "2" سنة 70م. الثالث: الدور الحبشي والفارسي حوالي سنة 340م هاجم الأحباش اليمن واستولوا عليها، فوجدت المسيحية فيهم سندًا قويًّا؛ غير أن الحكم الحبشي لم يتح له أن يعيش طويلًا؛ لأن رجال الدين المتعصبين لوثنيتهم تعاونوا مع أهل البلاد اليمنيين على مقاومة الحباش النصارى واستطاعوا إخراجهم سنة 378م، وعادت الوثنية تتربع المكانة الأولى وكانت أهداف هذه الحملة الحبشية الأولى على اليمن انتزاع السيادة التجارية من اليمنيين، وبث

_ 1 السابق ص101. 2 المرجع السابق ص102.

الدين المسيحي، وقد كانت هذه الحملة الأولى بمثابة حملة استطلاعية مهدت السبيل للحملات التي أتت بعدها، ففقدت المسيحية بخروج الأحباش سندا قويا لها، كما أن ملوك حمير الذين لجأوا إلى يثرب إبان العزو الحبشي تأثروا بالديانة اليهودية التي كانت منتشرة فيها آنذاك1. ويذكر نقش: أن ملك كرب الذي طرد اليهود كان يعبد "ذي سماوى بعل السماوات والأرض" مما قد يستنتج منه أن اليمنيين في هذه الفترة كانوا يؤمنون بإله عظيم هو: "ذي سماوي" رب السماوات والأرض إلا أنهم لم يتركوا آلهتهم الأخرى، كما أنهم لم يدينوا باليهودية التي تسمى إلهها "يهوه" لا بعل كما يدعوه هذا النقش2. ويبدو أن: "أبو كرب" قد وصل لنوع من السيادة على يثرب، ومن غير البعيد أنه كان يتعاون مع اليهود من سكانها ضد الأحباش والنصارى. وقد خلفه: شرحبيل يعفر، الذي بنى بعض الأجزاء الخربة من سد مأرب سنة 450م، ثم تعاقب على حكم اليمن ملوك ليس لهم أعمال هامة حتى جاء "ذو نواس" الذي كان شديد التعصب على المسيحية وأراد اجتثاثها من اليمن، فطلب من النصارى ترك دينهم، ولما رفضوا أحرقهم في أخدود حفره لهم، وهذه الحادثة مذكورة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} إلى {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد} 3، وكان الكثير من المؤرخين حتى فترة قريبة يرون أن سبب اضطهاد "ذي نواس" للنصرانية هو: تعصبه الديني؛ إذ إنه كان يدين باليهودية وهو متعصب لها؛ قد يكون هذا التعصب أحد الأسباب التي دعت "ذا نواس" لفعل ما فعل؛ ولكن هناك أسباب أخرى لاضطهاده للنصارى منها: أن المسيحية في الشرق كانت تحت حماية "بيزنطة" والحبشة وانتشارها يعني ازدياد نفوذ هاتين الدولتين في

_ 1 السابق ص102. 2 السابق ص103. 3 سورة البروج 4-8.

اليمن مما لا يرضى اليمنيين بينما لم يكن يرافق انتشار الديانة اليهودية أي خطر سياسي؛ لأنه لم تكن هناك دولة تحمي اليهود. بل يقال إن اليهود هم الذين حرضوا "ذا نواس" على اضطهاد النصارى؛ لأن أبناء دينهم في بيزنطة كانوا يعاملون معاملة سيئة إلى أبعد الحدود، ورغم قسوة "ذي نواس" اليهودي على النصارى فلا يعرف عنه أنه قسا على الوثنيين اليمنيين، بل ظلت الوثنية قائمة في اليمن حتى ظهور الإسلام؛ مما قد يستدل منه أيضا أن قسوته على النصارى لم تكن بدافع العصبية اليهودية. بل بدوافع وطنية؛ لأن الوثنية أحرى بنقمة اليهودي المتدين من النصرانية. أثار اضطهاد "ذي نواس" للمسيحيين بيزنطة، فأوعزت إلى حليفتها الحبشة بالهجوم على اليمن فجهز الأحباش حملة بقيادة "أرباط" استطاعت أن تقضي على الدولة الحميرية، وتشد من ساعد النصارى، وقد اتبع الأحباش سياسة لينة مع اليمنيين، واعتمدوا على لأمراء المحليين في الإدارة. وقد جرد "أبرهة" حملة للاستيلاء على مكة ولكن لم يكتب لهذه الحملة النجاح، ومات أبرهة" وهذه هي الحادثة المعروفة بحادثة الفيل التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة الفيل. وإذا أردنا تلخيص ما توصلنا إليه عن آلهة العرب الجنوبيين قلنا: إنهم تعبدوا كما ذكرنا لثالوث سماوي تألف من "القمر والشمس وعثتر" وهو الزهرة في رأي معظم الباحثين. وقد عرف القمر بـ"ود" عند المعينيين، وبـ"المقه" عند السبئين، وبـ"سين" عند حضرموت، وعرفت الشمس بـ"نكرح" عند المعينيين، وبـ"شمس" عند السبئيين، وبـ"شمس" عند أهل حضرموت وأوسان. وعرف "عشتر" بـ"عشتر" عند المعينيين والسبئيين وعند قتبان وأهل حضرموت والأوسانيين.

الفروق بين القحطانية والإسماعيلية

الفروق بين القحطانية والإسماعيلية: أهم الفروق بين هذين الشعبين نظام الاجتماع واللغة والدين. وأسماء الأعلام كما يأتي: 1- نظام الاجتماع: قد رأيت في كلامنا عن العرب أن لفظ العرب أريد به في الأصل سكان بادية جزيرة العرب في الشمال، ثم أطلق على سائر سكانها؛ وقلنا إن لفظ العرب باللغات السامية يرادف لفظ البدو عندنا؛ فالعرب هم البدو، وهذا التعبير يصدق على عرب الشمال، الذين نحن في صددهم فهم في الأكثر أهل خيام وإبل ورحلة وغزو لا يستقرون في مكان؛ لأن معاشهم من كسب الإبل، والقيام عليها في ارتياد المرعى، وانتجاع المياه والنتاج والتوليد، وغير ذلك من مصالحها، والفرار بها من أذى البرد عند التوليد إلى القفار ودفئها وطلب التلول في المصيف للحبوب وبرد الهواء لا يبنون بيوتا، ولا ينشئون مدنا بخلاف أهل اليمن فأكثرهم أصحاب قصور، ومحافد ومدن، وأسوار ومفارش وحدائق.

اللغة-الأسماء

اللغة-الأسماء: إن لغة اليمن أو عرب الجنوب تعرف بلغة حمير، هي تختلف كثيرا عن لغة عرب الحجاز أو الشمال، وإن كانتا من أصل واحد، ولكن الفرق بينهما يدل على تباعد أصحابها في العادات والأخلاق فهما يختلفان في الإعراب، وفي الضمائر، وفي كثير من أحوال الاشتقاق والتصريف1. لكل من الطائفتين أسماء خاصة لا تشاركها فيها الطائفة الأخرى ولا يخفى ما للأسماء من الدلالات الاجتماعية؛ وأسماء اليمنيين في الدولتين: المعينية، والسبئية تشبه الدولة الحمورابية أو البابلية: كقولهم "أب يدع"، والينع، ويثع إيل، ومعدي كرب، وأبو بكر، وعلهان، وكرب إيل" ونحو ذلك مما لا شبيه له عند عرب الشمال في الطور الثاني. ويختص هؤلاء باسماء لا تجدها عند اليمنيين؛ لأنها من مقتضيات البداوة، ولذلك رأيت بينها كثيرا من أسماء الحيوانات؛ لكثرة وقوع أبصارهم عليها فألفوها، وأصبح لكل منها رمز عن خلق أو خصلة فسموا أبناءهم بها، وليس ذلك من بقايا الطوطيمة كما توهم بعضهم2 فمن أسمائهم من هذا القبيل "أسد، ونمر، وثعلبة،

_ 1 العرب قبل الإسلام: ج1 ص165، ص116. 2 راجع كتاب أنساب العرب لجورجي زيدان.

وكلب، وثعبان" ونحوها، وبعض أسمائهم تنسب إلى آلهتهم. كعبد اللات، وعبد العزى وعبد مناة، وبعضها مقتبس من الأمم المجاورة لهم كاليونان والسريان، وقد حرفوها، فامرؤ القيس مثلا نظنه تحريف "ماركوس" "مرقس" وربما تعمدوا تحريفه؛ ليكون له صبغة عربية، كما حرفوا: "سامرا" فجعلوها "سر من رأى" وكما جعلوا "وسارس" المعبود اليوناني "ذو الشرى" يؤيد ذلك: أن هذا الاسم "امرؤ القيس" لم يكن معروفا عند العرب قبل النصرانية، أو قبل مجاروتهم اليونان، وقد يتسمون بأسماء اليونان بعد ترجمتها "فالحارث" يجوز أن يكون ترجمة "حيور جيوس" اليونانية ومعناها العامل في الأرض، وصخر ترجمة "بطرس" ونحو ذلك. وبعض أسماء أولئك البدو مأخوذ من الأوصاف أو المناقب مثل "سعيد، عامر، حسان، محمد" ونحوها، ولا عبرة بما أدخله العرب منها بين أسماء ملوك حمير مثل الحارث وعمرو فإنه قليل ولم نجد له ذكرا في الآثار المنقوشة. 4- الأديان: يشترك هذان الشعبان في كثير من ضروب العبادة وفي عبادة بعض الأصنام، ولكنهما يختلفان في الإجمال؛ فآلهة اليمن أقرب إلى معبودات البابليين، وعندهم "عشتار، وإيل، وبعل" وغيرها، وأما الشماليون فيشتركون في عبادات تختلف عن تلك: "كاللات والعزى، ومناة، وهبل" وغيرها. والعداء بين قحطان وعدنان قديم، تمتد جذوره إلى الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، وقد استمر هذا العداء بعد ظهور الإسلام وتمثل في العداء بن الأنصار من سكان المدينة، والقرشيين من سكان مكة، وقد كان لهذا العداء أثره البين على سير الحوادث في الإمبراطورية الإسلامية، وامتد حتى وصل الأندلس.

دول العرب قبل الإسلام

دول العرب قبل الإسلام مدخل ... دول العرب قبل الإسلام: لقد قام قبل ظهور الإسلام قيام ثلاث دول عربية، وسقوطها على حدة وهي: دولة الأنباط في الجنوب. دولة تدمر في الشمال. دولة الغساسنة بينهما. وقد اشتركت هذه الدول ببعض أوصاف عامة في تاريخها المتعاقب، ويرجع أصلها إلى تحضير القبائل البدوية أو المتنقلة كما يرجع ازدهارها إلى المرور التجاري، وتحالفت كل منها لبعض الوقت باعتبارها دولة حاجزة مع الدولتين العالميتين؛ وهما: "روما وفارس" وتلقت المساعدات منها. وقد قضت روما على الدولتين "النبطية والتدمرية"، وقضت بيزنطة وفارس على دولة الغساسنة، ثم قامت المناذرة والكنديون، وهم من القبائل الدبوية التي تحضرت. يختلف الرواة ومؤرخو العرب في نسبة مؤسس الدول التي ظهرت قبيل ظهور الإسلام في شمال جزيرة العرب؛ فبعضهم ينسبهم إلى بني قحطان من حمير وكهلان أو معد أو العمالقة؛ وأهمها: دول الغساسنة في الشام، والمناذرة في العراق، وكندة في نجد.. وعلى أي حال فإن دليل قحطانية هذه الأمم يرجع إلى أقوال النسابين لكن هناك دليل يشير إلى عدنانية هذه الدول، وأنهم من عرب الشمال، وهو: معبوداتهم؛ فمعبوداتهم ترجع إلى عرب الشمال، ولو كانوا من عرب اليمن لوجدنا بين معبوداتهم اسم "عشتار أو إيل" أو نحوهما. وكذلك يقال في: أسمائهم؛ فليس فيها رائحة الأعلام السبئية أو المعينية بل هي مثل أسماء سائر عرب الشمال قبلهم: كالأنباط ونحوهم، ومنها: "الحارث وثعلبة وجبلة والنعمان وغيرهم" ولا يعترض بما ذكره العرب بين أسماء ملوك حمير من أمثال هذه فإن أكثرها مبدل بأسماء شمالية وعدم تنافي ما ذكرناه على الأسماء التي وقفوا عليها في الآثار المنقوشة. أما الدليل على قحطانية هذه الأمم: فقول النسابين وهو أضعف من أن يعول عليه، وما أغنى القحطانيين عن الرحلة إلى بادية الشام والعراق والرجوع إلى البداوة، وهي شاقة على من تعود الحضارة والرخاء.

كذلك يزعم نسابو العرب أن الغساسنة لم يرحلوا من اليمن إلى الشام رأسا؛ بل أقاموا حينا في تهامة بين "بلاد الأشعر وبين عكٍّ على ماء يقال له: غسان فنسبوا إليه"، ذكرها "بطليموس" في أواسط القرن الثاني للميلاد، قال: إنهم يقيمون على شواطئ جزيرة العرب الغربية نحو ما هو الآن: "تهامة"، لكن يرى جورجي زيدان: أنهم كانوا بالحقيقة من عرب تهامة العدنانيين؛ وأنشأوا لأنفسهم دولة تحت رعاية الروم في ما هو الآن: "البلقاء وحوران عرفت بدولة الغساسنة، أو بني غسان بصري في حوران"، وتعرف أنقاضها الآن "بابكي شام شام، وفيما كان دير "بحيرة الراهب"1. وانتشر أهل البادية في بادية الشام والعراق والجزيرة، والحجاز والبحرين، ونجد قبائل كثيرة من البدو أهل الرحلة أكثرهم من: عدنان "عك" يتولاهم، أمراؤهم أو مشائخهم بلا دولة أو جند ولا حصون أو قلاع إلا نادرًا؛ وإنما قلاعهم: شجاعتهم وبداوتهم، كانت الدول المتحضرة تستعين بهم في حروبهم؛ فتسابق المناذرة والغساسنة إلى إدخالهم في رعايتهم، وكل منهما تنتمي إلى دولة كبرى: الغساسنة للروم، والمناذرة للفرس، ونشأت في أثناء ذلك دولة "كندة" وهي تنتمي إلى "حمير"، وكانت تنازعهما تلك السيادة، فأصبح عرب الشمال يتنازع السيادة عليهم ثلاث دول عربية تتناوب الفوز في ذلك على مقتضى الأحوال. وكانت قبائل البدو من الجهة الأخرى ترغب في الدخول تحت حماية إحدى تلك الدول لما فطر عليه أهل البادية من التنازع والتخاصم؛ فكانت كل قبيلة تسعى في الانضمام إلى دولة تستنجدها أو تلجأ إلى جندها عند الحاجة؛ وقد يتسابق بعضهم إلى التقرب منها للتفاخر بخدمتها كما كان بنو يربوع يتفاخرون بردافة ملوك الحيرة؛ ومرت برهة من الدهر كان فيها الانتماء إلى إحدى تلك الدول كالفرض الواجب فمن لا ينتمي إلى إحداها سموه "الأحمس" والجمع "حمس"، وأشهر الحمس في الجاهلية: "حمس قريش" فكانوا لقاحًا لا يدينون للملوك2؛ ويزداد العرب قربًا وبعدًا من إحدى الإمارتين تبعًا لسطوة الفرس أو الرومان وكانت الغلبة لهما.

_ 1 العرب قبل الإسلام جـ1 ص184. 2 تاريخ العرب قبل الإسلام جـ1 ص165.

الأنباط عاصمتها بتراء

أولا: الأنباط، عاصمتها بتراء: فريق من الساميين أسسوا لهم دولة كانت تمتد من الجزء الجنوبي الشرقي في فلسطين إلى رأس خليج العقبة، وهو ما يسمى اليوم بشرق الأردن، وقد أطلق مؤرخو اليونان على بلادهم "أديبيا بترا" أي بلاد العرب الصخرية. يقول حامد عبد القادر: والمرجح أن الأنباط يرجعون إلى أصلين: الأول: أرامي، وهو الفريق المحتل أو الدخيل. الثاني: عربي، وهم سكان البلاد الأصليون الذين اختلط بهم الآراميون الفاتحون. وعلى مر الزمن أخذ العرب الأصليون يتغلبون على الآراميين حتى قضوا عليهم، ولكن العنصر الآرامي في اللغة النبطية ظل متغلبًا على العنصر العربي، وقد انتشرت اللغة النبطية في تلك البلاد إلى أن طغت عليها الآرامية بعد أن أصبحت اللغة الرسمية في العالم الشرقي كله. وقد اندمج هؤلاء السكان فيما بعد بالاتحاد النبطي ومعهم قبائل ثمود ولحيان في شمال الحجاز، وكان النباط لا يزالون رحَّلًا في القرن الرابع ق. م. يعيشون في خيام، ويتكلمون العربية، ويكرهون الخمر، ولا يهتمون بالزراعة؛ وفي القرن التالي تركوا حياة الرعي، واتبعوا حياة الاستقرار، وعملوا في الزراعة والتجارة. وفي أواخر القرن الثاني كانا قد تحولوا إلى مجتمع منظم جدًّا متقدم في الحضارة، ومتصف بالتطور والترقي1. إن كلمة "بتراء" وهي: اللفظ اليوناني لكلمة "صخر"، وفي العربية الفصحى: "الرقيم"2 هي ترجمة كلمة "سلع" العبرية ووادي موسى هو: الاسم الحديث للموقع بكامله؛ وكانت "البتراء" المدينة الوحيدة بين الأردن والحجاز التي توجد فيها

_ 1 الأمم السامية ص108، تاريخ سورية جـ1 ص115. 2 القرآن 18: 8، ياقوت الحموي جـ1 ص91، 728.

مياه غزيرة ونقية، وزيادة على ذلك كانت المدينة حصينة من جهاتها الثلاث: من الشرق والغرب والجنوب "وأصبحت البتراء" منذ أواخر القرن الرابع المدينة الرئيسية على طريق القوافل تربط بين جنوب الجزيرة العربية الذي ينتج التوابل واللبان، وبين مراكز الاستهلاك والبيع في الشمال، وكانت تسيطر على الطرق المؤدية إلى "مرفأ غزة" في الغرب؛ وإلى "بصرى ودمشق" في الشمال، وإلى "غيلة" على البحر الأحمر، وإلى "الخليج الفارسي عبر الصحراء"، وكانت تستبدل فيها جمال القوافل بجمال أخرى نشطة، وكانت تلك العاصمة محفورة في قلب "صخر رملي" يظهر جميع ألوان "قوس قزح"؛ ولذلك كانت تشكل مزيجا فريدا من الفن والطبيعية1، وإن موقعها كحلقة اتصال بين فلسطين وبلاد العرب وبين اليمن والآراميين مكنها من نشر الأبجدية الآرامية في بلاد اليمن وهي الأبجدية التي نشأ منها "الخط المسند" وهو الخط الذي أخذ منه "الخط العربي" بعد تعديله، وإضافة ستة أحرف، التي تسمى الأحرف الروادف التي يجمعها قولنا: "ثخذ ضظغ" وفي القرن الثالث اعتنقت "البتراء" المسيحية. ملوك الأنباط: كان الحارث "حوالي 169 ق. م" على رأس قائمة هؤلاء الملوك، ويدعى "آرتياس Aretas" وقد تسمى بهذا الاسم كثير من ملوك الأنباط كما تسمى به ملوك الغساسنة، وكان الحارث معاصرًا لمؤسس الأسرة "المكابية" ويعتبر الحارث الثالث المؤسس الحقيقي حوالي 57-62 لسلطة الأنباط، وهو الذي فتح الباب على مصراعيه للتأثيرات اليونانية والرومانية، وأدخل مملكته ضمن المحور التام للحضارة "الهيلينية"، وكسب ثوب مجد "الهلينية" وكان أول من سك نقودا نبطية، اقتبس لها النموذج المعروف عند "البطالمة"، وعلى يد الحارث الثالث بدأت "البتراء" تتخذ مظاهر "مدينة، هلينستية نموذجية"، فكان فيها شارع رئيس جميل وعدة أبنية دينية وعامة؛ ومن هذا العهد أخذت دولة الأنباط تقوم بدور موالٍ حليف لرومة؛ وبلغت المملكة ذروتها في عهد الحارث الرابع "9 قبل الميلاد- 40م" الذي كان حكمه طويلا

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص418.

مزدهرا، وقد تابع عملية نشر الحضارة الرومانية، وكان من ولاته ذاك الذي حاول القبض على بولس في دمشق1. وقد تزوج الحاكم "هيرودس" بن "هيرودس الكبير" ابنة الحارث هذا وطلقها؛ ليتزوج راقصة كانت السبب الرئيسي في مقتل "يوحنا المعمدان"2، وكانت المملكة تضم في أقصى اتساعها جنوب فلسطين، وشرق الأردن، وسورية الجنوبية وشمال الجزيرة العربية. ويمكن أن يرجع تاريخ الأماكن المرتفعة التي لا تزال قائمة في "البتراء" والقبور الجميلة التي تمثلها "قبور الحجر-مدائن صالح" في الحجاز إلى زمن حكمه وكانت "الحجر" مركزًا لقبيلة ثمود3. ومن الحقائق المستخرجة من الكتابات الأثرية المحلية والنقود ومنذ حكم "عبيدة الثالث حوالي 28-9 ق. م" أخذت تظهر صورة الملكة مع الملك، واستمرت التماثيل النصفية المزدوجة للزوجين الملكيين حتى نهاية الملكية، وهناك كتابات أثرية على تمثال "لعبيدة الثالث تدعوه الإلهي"، ذلك مما يدل على أن الأنباط كانوا يؤلهون ملوكهم بعد الموت، وبموت "مالكو" ينتهي عصر الأنباط الذهبي الذي بدأ في عام "50 ق. م." ثم أصبحت بلاد الأنباط جزءًا من الولاية العربية الرومانية التي كانت "بصرى" فيها المدينة الرئيسية وكانت ملتقى هامًّا لطرق القوافل الذاهبة إلى دمشق والبحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج الفارسي، وبذلك أصبحت "البتراء" في ذمة التاريخ من حيث أتت وظهرت تدمر".

_ 1 رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنشوس 11: 32. 2 إنجيل متى 14: 16-11. 3 القرآن سورة 10 آية: 8.

مملكة تدمر

مملكة تدمر مدخل ... مملكة تدمر: وبينما كانت شمس "البتراء" آخذة بالغروب كانت تشرق "شمس تذمر"، وهي: مدينة أخرى للقوافل، وكان الذين استقروا فيها بضع قبائل عربية بفضل نبع غزير يقوم في قلب الصحراء، وتصلح مياهه للشرب وكانت مملكة في واحة في صحراء الشام في الشمال الشرقي من دمشق، وتنسب هذه المملكة إلى عاصمتها "تدمر"

وكانت مدينة عامرة ذات شهرة واسعة في العصور القديمة بنيت لها الهياكل والمعابد الضخمة، وشقت الطرق الفسيحة وأقيمت الأسواق الواسعة وتظهر بهذا الاسم لأول مرة "حوالي 1800 ق. م." وتعود في الظهور إلى وثيقة أشورية لاصقة تقول: "إن: تيجلات فلاسر" حوالي 1100 ق، م. طارد أعداءه البدو حتى هذا الملجأ الصحراوي، ولا يزال الاسم السامي القديم يظهر في كلمة تدمر العربية. والمؤرخ العبراني: "أخبار الأيام الثاني 8: 4" يروى: أن سليمان بني "تدمر"، والاسم باليوناني يعني مدينة النخيل؛ وهي: المدينة التي ذكرها القرآن، واستعمل سليمان الجن في بنائها؛ وكانت "تدمر" تقوم بين هاتين الإمبراطوريتين العالميتين، وساعد موقعها المنعزل في قلب الصحراء على عدم تمكن الرومانية من سهولها؛ للاستيلاء عليها1. واستفاد تجارها من وضعها الفريد كمحطة رئيسية لنزول القوافل عند نقطة التقاء الطرق التي تعبر الصحراء من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، وحصل الزعماء التدمريون من شيوخ القبائل في الصحراء على إذن بمرور قوافلهم بسلام، وكان الأدلاء يقودون هذه القوافل عبر المنطقة الجرداء كما كان يحميها ركب الرماة من غارات البدو، واستعيض بالتدريج عن أكواخها الطينية ببيوت من "الحجر الكلس" وأنشئت شوارع عريضة، وكان الشارع الرئيسي يؤدي إلى معبد "بعل" وقد أقيمت الأعمدة في الشوارع واتخذت المدينة مظهر مدينة رومانية يونانية مزدهرة، لم يكن سهلا لمدينة الصحراء أن تحافظ على سيادتها التامة في وجه النفوذ المتزايد للإمبراطورية الواقعة في غربها، وفي أوائل العصور المسيحية كانت قد اعترفت بسيادة "روما" وبدأ "تدمر" والدول التي تدور في فلكها عهدًا جديدًا من الازدهار الذي دام أكثر من قرن ونصف بعد أن أصبحت تابعة "لدومة"، وأخذ المواطنون البارزون في "تدمر" يضيفون أسماء "رومانية" إلى أسمائهم؛ كان التدمريون آراميين وإن كان بعض حكامهم يرجعون إلى أصل عربي، وقد تأثروا بالحضارة

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص433.

اليونانية ودخل لغتهم كثير من الكلمات اليونانية، ومن ثم كانت اللغة التدمرية لهجة آرامية لم يدخلها من العربية إلا بعض أسماء أعلام، ويرجع الفضل إلى الآراميين في تعديل الأبجدية الفينيقية ونشرها1.

_ 1 الأمم ص108.

من ملوك تدمر

من ملوك تدمر: ارتقت أسرة "أذينة" التي كان يتصدر اسمها "سبتموس" إلى مركز الزعامة في "تدمر" في منتصف القرن الثالث؛ والتمثال الذي شيد في عام "251 على شرف عميد الأسرة سبتيموس حيرن بن أذينة يدعوه زعيم رأس تدمر" ويبدو أنه كان أول "تدمري" أضاف لقب "راس" إلى رتبته الرومانية كعضو في مجلس الشيوخ. ويرجح أن: حيران هذا والد أذينة" المشهور باليونانية "أوديناتوس" ويستدل من أسماء الأعلام بأن: الأسرة كانت من أصل عربي، ويدعو المؤرخون اليونان "أذينة" هذا "حاكم العرب" وفي زمن "حيران" كان الجيش الفارسي أوقع هزيمة مخجلة بالجيوش الرومانية قرب "أديسا" حتى أن إمبراطورها "فاليران" وقع أسيرًا وتوفي في الأسر، في هذه الأثناء قد خرج "أذينة" في هذه المعركة على رأس جيش كبير من السوريين وقبائل البدو لإنقاذ "فاليران" فهزم الفرس، غير أنه لم يتمكن من فك أسر "فاليران"، وكوفئ أذينة في 262 على ولائه للإمبراطور الجديد "فالينوس" فمنح لقب زعيم، الذي منه ما يشبه نائب الإمبراطور على الجناح الشرقي من الإمبراطورية. في ذروة نجاح "أذينة" اغتيل وريثه في أحوال غامضة في "266-267" وكانت من تدبير "رومة" ومهما يكن فإنه يتضاءل كشخصية تاريخية أمام أرملته التي حكمت بعده باسم ولدها القاصر "وهب اللات"، وكانت "زنوبيا" التي تذكرها الكتابات الأثرية التدمرية باسم "تبت راباي" ابنة "العطية" وهي "الزباء" وقد ادعت القربى بزميلتها السابقة "كليوباترا" في مصر، ورعت الثقافة اليونانية وكانت هي نفسها تتكلم الآرامية اليونانية وبعض اللاتينية، وبلغ منها أنها جمعت تاريخ الشرق وكانت زينة المفكرين، بين رجال بلاطها الفيلسوف "لونجينوس"، وهكذا استطاعت "ملكة البادية أن تشكل لنفسها ولابنها" إمبراطورية انتزعتها من الرومان1.

_ 1 تاريخ سورية جـ1 ص439، ص440.

وتعتبر آثار "تدمر" من أكثر المناظر جلالا في الصحراء، وقد تحول معبد "بعل" الذي يقوم على سطح مرتفع إلى ما يشبه المتحف، ووجدت فيه أشكال نساء محجبات وهن يساهمن في احتفال ديني؛ وكانت الحضارة "التدمرية" حضارة غريبة فهي مزيج من عناصر سورية ويونانية وفارسية، ولا شك أن السكان الأصليين كانوا قبائل عربية وقد تبنوا في كلامهم وكتابتهم اللغة الآرامية السائدة، وبقيت أكثرية السكان عربية رغم امتزاجها بالآراميين، ولا شك أن الطبقة المثقفة كانت تتكلم اليونانية زيادة على الآرامية، ويظن أن رجال الأعمال كانوا يفهمون اللغة العربية كما كان يستعملها بعض "التدمريين" كلغة دارجة1.

_ 1 السابق ص444.

فيلسوف تدمر لونجينوس

فيلسوف "تدمر" لونجينوس: لم ينبغ في "تدمر" أحد من رجالها ورجال الفكر المتميزين سوى: "دبونيسيسوس كاشيوس لونجينوس" ويرجح أنه من مواطني حمص، وقد درس أولا في الإسكندرية ثم في أثينا حيث كان من تلامذة "فيرفريوس"، وكانت أمه سورية وعرفت اللغة السوريانية؛ وكان من معاصريه "أميليوس الأنامي"، ويعتبر هذا الفيلسوف التدمري فريدًا في عصر كثر فيه الثرثارون الخياليون، وبلغ من سعة معلوماته أن وصفه أحد معاصريه بأنه مكتبة حية ومتحف متنقل. "ولونجنيوس" هو الذي علم "زنوبيا" الأدب اليوناني، وأصبح مستشارها بعد ذلك، ولسوء الحظ لم يبق من مؤلفاته سوى بعض الفقرات والمقتطفات، وترينا هذه بأنه قد بقي وثنيا رغم أنه لم يكن مناوئا لليهودية والمسيحية وتحمل القتل على يدي الرومان برباطة جأش وبشاشة وجه حريتين بجعله كسقراط.

دولة الغساسنة-عاصمتها بصري

دولة الغساسنة، عاصمتها بصرى: تؤكد الروايات أنه حوالي نفس الوقت الذي كانت فيه الدولة "التدمرية" آخذة بالزوال كانت إحدى القبائل العربية تشق طريقها إلى "حوران" وهؤلاء هم "بنو غسان" الذين ينسب سبب رحيلهم عن اليمن إلى تصدع قديم في "سد مأرب" وتنصر "الغساسنة" خلال القرن الرابع. وكان مؤسس سلالتهم شخص يسمى: "جفنة بن عمرو مزيقياء" الذي لا يعرف تاريخه بوجه التأكيد، وفي التواريخ العربية يختلف عدد الملوك بين أحد عشر، واثنين وثلاثين. ويسمى الغساسنة أيضا بآل "جفنة" أو "بأولاد جفنة" وذلك لأن: أول ملوكهم هو: "جفنة بن عمرو مزيقيا بن عامر"، ويفسر الإخباريون سبب تسمية "عمرو بن عامر" بـ: "مزيقياء" بتفاسير عدة: منها "قول حمزة الأصفهاني": وتزعم الأزد أن عمرا إنما سمي "مزيقياء"؛ لأنه: كان "يمزق كل يوم من سني ملكه نميرة فسمي هو مزيقيا" وسمي ولده "المزاقية" وقيل: إنما سمى "مزيقيا"؛ لأن الأزد تمزقت على عهد كل ممزق، عندما تهدم سيل العرم. ويعتقد نولدكه: أن هذا هو التفسير الصحيح، وهو يرى أنه مأخوذ من الآية الكريمة من قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سورة سبأ: 18] . وهناك من يسمي الغساسنة بآل ثعلبة؛ نسبة إلى جد آخر يسمى ثعلبة1. ملوك الغساسنة والنصرانية: كان "الحارث بن جبلة -حوالي 526-569" أول هؤلاء الملوك، وأعظمهم الذي يظهر لأول مرة عام 528، وهو يحارب "المنذر" الثالث اللخمي ملك الحيرة. واللخميون أصلهم أيضا من جنوب الجزيرة العربية كانوا يسكنون على طول الحدود الغربية للإمبراطورية الفارسية، واستخدموا كدولة حاجزة بنفس الطريق التي استخدم البيزينطيون بها الغساسنمة، واعترافا بخدمات "الحارث" فقد عينه الإمبراطور "يونستنيان" في العام التالي سيدا على كل القبائل العربية في سورية، ومنحه لقب "فيلارك" رئيس قبيلة وبطريق. وفي عام 544 أسر "المنذر" أحد أبناء "الحارث" وقدمه ضحية للآلهة "العزى" التي تقابل "أفروديت"، وانتقم "الحارث" لنفسه بعد عشر سنوات في معركة حاسمة جرت قرب "قنسرين" حين قتل غريمه اللخمي وقام "الحارث" في

_ 1 تاريخ العرب القديم وعصر السول ص153.

عام563 بزيارة لبلاط "بوستنيان"، حيث ترك تأثيرا عميقا على أفراد الحاشية كشيخ بدوي مهيب، وحصل أثناء وجوده في القسطنطينية على تعيين "يعقوب البرادعي" أسقاف على الكنيسة المونوفيزية السورية؛ وقد انتشرت العقيدة الجديدة في سورية كلها أثناء حكمه وحكم ابنه، ويقال: إن يعقوب البرادعي رسم مائة ألف كاهن، ونصب تسعة وثمانين أسقفا في تلك البلاد، ووصلت المملكة حينذاك ذروة اتساعها؛ وإذا كانت تمتد قرب "البتراء" إلى "الرصافة" شمال "تدمر"، وتشتمل على "البلقاء" والصفا وحران، ولكن حماسته للمذهب الذي تعتبره بيزنطة غير متَّفق مع الديانة الرسمية باعدت بينه وبين "بوستين" الذي بلغ منه أن ارتاب في ولائه السياسي، وبذلك توطد هذا المذهب في سورية، ويرى بعض المؤرخين أن مدة حكمهم نحو ستمائة سنة، وعدد ملوكهم 32 ملكًا؛ أي من أوائل القرن الميلادي إلى ظهور الإسلام.

دولة المناذرة-الحيرة والأنبار-اللخميون في العراق

دولة المناذرة- الحيرة والأنبار-اللخميون في العراق: كان اللخميون عمال الفرس على أطراف العراق، كما كان الغساسنة عمال الروم على مشارف الشام. وتسمى هذه الدولة: دولة آل نصر، وآل لخم، وآل عمرو بن عدي، أو ملوك الحيرة، أو المناذرة على السواء. وتاريخ هذه الدولة أوضح من تاريخ آل غسان؛ لأنه كان مدونا في كتب الحيرة ومثبتا في كنائسهم. وكانت الحيرة على ثلاثة أميال من مكان الكوفة في موضع يقال له: النجف على ضفة الفرات الغربية، في حدود البادية بينها وبين العراق، وتقع الآن في الجنوب الشرقي من مشهد علي. وبعض المؤرخين يذهب إلى أن لفظها سرياني، والبعض الآخر يذهب إلى أنه عربي. أهل الحيرة عرب يقسمهم الإخباريون إلى طبقات ثلاث:

"تنوخ، العباد، الأحلاف". تنوخ: وهؤلاء في نظرهم من قبائل متعددة فيها القحطانيون والعدنانيون، والتنوخيون وغيرهم. قبائل سكنت بيوت "الشعر والوبر" غرب الفرات بين الحيرة والأنبار"، وهي قبائل عرب من الجنوب، التي تركت اليمن على أثر تصدع "سد مأرب". وأما العباد: فهم الذين سكنوا رقعة الحيرة فابتنوا بها، فهم إذن حضر مستقرون، ويقول أغلب الإخباريين عنهم: إنهم كانوا من النصارى، وأصل كلمة العبادة على ما يقولون: مختلف فيها فبعضهم يرى: أنهم سُموا بالعباد؛ لأن وفدا منهم وفد على كسرى، ولما سألهم عن أسمائهم وجد أنها كلها تبتدئ لكلمة "عبد" فقال لهم: أنتم عباد كلكم، فسموا بالعباد. ويقول آخرون: إنهم إنما سموا بهذا الاسم؛ لأنهم: كانوا يعبدون الله1. ويقول جواد علي: إن هذا الاسم لم يكن يعني قبيلة أو بطنا، وإنما يعني جماعة من القبائل شتى جمعت بينها وحدة الدين ووحدة الوطن، لذلك لا يطلق إلى على النصارى من أهل الحيرة؛ أما غيرهم من نصارى العرب فلم يشملهم اسم العباديين، ويمكن أن نقول استنادا إلى روايات الإخباريين في تحديد مدلول الكلمة، واقتصارها على نصارى الحيرة دون غيرهم من نصارى العرب: "إن هذه الكلمة أطلقت في الأصل على من تنصر من أهل الحيرة؛ لتميزهم عن غيرهم من سكان المدينة "أي مدينة الحيرة" من الوثنيين، ولم يكن أولئك النصارى في بادئ أمرهم بالطبع إلا فئة قليلة، ثم توسعت من بعد، فلما انتشرت النصرانية في الحيرة لازمت هذه التسمية جميع نصاراها كائنا من كانوا، وصارت علما لهم لم تميزهم عن الوثنين فحسب؛ وإنما ميزتهم أيضا عن بقية النصارى العرب من غير أهل الحيرة2. وأما الأحلاف: فهم بقية سكان الحيرة ومن نزل فيها من العرب ولم يكن في الأصل لا تنوخيًّا ولا من العباد، وكان بين سكان الحيرة جماعات من: "النبط، والفرس، واليهود"

_ 1 تاريخ العرب القديم ص171 نبيه عاقل. 2 تاريخ العرب قبل الإسلام جـ4 ص14، 15 جواد علي.

أما الأنبار: فقد زعم الإخباريون أنها بنيت أيام "بختنصر"، وقد لعبت دورا هاما في المعارك التي جرت بين "فارس، وبيزنطة" زمن الإمبراطور "جوليان" سنة 363. من ملوك المناذرة والنصرانية: يكاد ينعقد إجماع المؤرخين العرب على أن أول من حكم من بني تنوخ كان: "مالك بن فهم" وهو في نظرهم من الأزديين، ثم انتقل الحكم إلى: "جذيمة الأبرش" المعروف "بجذمة الوضاح"، وتولى "عمرو بن عدي" الإمارة على العرب؛ عرب الحيرة والأنبار بعد "جذيمة". وقد اتبع سياسة خاله "جذيمة" في التحالف مع الفرس فساعده هذا على تقوية نفوذه على القبائل النازلة في العراق. ولم يزل "عمرو بن عدي" ملكا على الحيرة حتى مات؛ وتولى الملك بعد وفاة "عمرو" ابنه "امرؤ القيس" وكان عاملا للفرس على "فرج العرب" أي موضع المخالفة من العدو المجاور من ربيعة ومضر، وبادية العراق والحجاز، والجزيرة. وفي نهاية القرن الرابع ومطلع القرن الخامس يطلع علينا اسم ملك لخمي هو: "النعمان الأول بن امرئ القيس 390-418". وهناك روايات تنسب تنصره، منها: أنه تنصر بتأثير القديس "سمعان العمودي" الذي كان يقوم بالتبشير للمسيحية بين أهل الحيرة؛ وإن "سمعان" هذا شفاه من مرض كان به فتنصر1. وفي أيام "المنذر بن امرئ القيس" المعروف "بماء السماء" وقع الاحتلال الحبشي لليمن فاتسع بذلك نفوذ الروم في بلاد العرب؛ وذلك لما يربط الأحباش بالبيزنطيين من روابط، وأساسها تدينهما بدين واحد. وكما يذهب المؤرخون: أن ملوك الحيرة تولوا الملك 364 سنة وكلهم من نسل "عمرو بن عدي" من آل "نصر" أو "لخم" إلا ستة من الدخلاء وهم: "أوس بن قلان، والحارث بن عمرو بن حجر الكندي، وعلقمة بن يعفر، وإياس بن قبيصة، وفيشهرت، وزادية الفارسي" وقصبة ملكهم جميعا: الحيرة".

_ 1 تايخ العرب قبل الإسلام جـ4 ص41.

حضارة الحيرة

حضارة الحيرة: كانت الحيرة في عهد "المناذرة اللخميين" من المراكز الحضارية الهامة في مختلف الميادين، فقد كان لموقعها بين العراق والشام وبلاد العرب أثر كبير في احتكاك أهلها بغيرهم من الشعوب؛ فتأثروا بالثقافات العالمية آنذاك كالفارسية واليونانية والسريانية، وكان لمعرفة أهلها باللغة الفارسية أثر كبير في نقل آداب الفرس إليهم؛ وساهم بعض أسرى الروم الذين وقعوا في قبضتهم في نقل علوم اليونان وآدابهم إليهم؛ وكان ملوك الحيرة يشجعون الشعراء ويغدقون الهبات والعطايا عليهم، وغدا بلاطهم مقصد مشاهير شعراء الجاهلية "كالمرقش الأصغر والمتلمس وطرفة بن العبد والمرقش الأكبر وحسان بن ثابت وعمرو بن كلثوم وغيرهم" وكانت الحيرة تزخر بمعاهد العلم ومدارسه؛ فقد تلقى "إيليا" الحيرى مؤسس "دير مار إيليا" في الموصل دراسته الدينية في مدرسة بالحيرة، كما تلقى "مار عبد الكبير" دراسته في إحدى المدارس فيها. ويذكر ياقوت أن الصبيان في الحيرة كانوا يتعلمون القراءة والكتابة في كنيسة قرية من قراها اسمها "النقيرة"1. وأما الأديرة والكنائس: فقد كانت كثيرة أيضا في الحيرة والمنطقة المجاورة لها، وكان لتنصر المناذرة أثر كبير في دفعهم لبناء العديد منها. وتحفظ لنا كتب الديارات وتقاويم البلدان أسماء عدد كبير منها، ويعتبر دير "هند الكبرى" من أشهر الأبنية التابعة لهذه الزمرة، وقد بنت هذا الدير "هد أم عمرو بن هند" وهناك دير "هند الصغرى" الذي بنته "هند ابنة النعمان بن المنذر" وأقامت فيه حتى ماتت ودفنت فيه. وعدد كبير آخر غيرها. وقد وصفت الحيرة عند الإخباريين بالبياض فقالوا عنها: الحيرة البيضاء تعبيرا عن حسن عمارتها وطغيان هذا اللون على سائر أبنيتها، وكان أهل الحيرة مللا ونحلا دينية كثيرا فقد كان بينهم الوثنيون الذين يعبدون الأصنام، والصابئة الذين يعبدون الكواكب، والمجوس الذين يعبدون النار، وهذا فضلا عن أتباع النصرانية واليهودية، وكان معظم ناصارى الحيرة نساطرة، ومنهم قلة

_ 1 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص201.

من اليعاقبة، وكان بدء التبشير بالمسيحية فيها ببطء أو الأمر، ولكنها ما لبثت أن وجدت الكثير من الأنصار. ويدعي الطبري: أن امرأ القيس كان أول من تنصر من ملوك الحيرة، وقد يكون هذا الخبر غير مؤكد، وكل ما يمكننا الجزم به: "أن المنذر بن ماء السماء" كان نصرانيًّا وتزوج "بهند" وهي نصرانية؛ أيضًا، وقد بنت الدير المعروف، باسم "دير هند الكبرى" وقد حدث صراع بين النساطرة واليعاقبة حول اجتذاب الحيريين إلى مذهبيهما، وقد تفوق النساطة في هذا الصراع واجتذبوا عدد كبيرا من نصارى الحيرة إلى مذهبم1. ديانة مناذرة الحيرة: واختلفوا في ديانة ملوك الحيرة فمن قائل: إنهم تنصروا على عهد "امرئ القيس" الأول ابن عمرو في أوائل القرن الرابع. وقائل: إن أول من تنصر "النعمان بن المنذر" في آخر القرن السادس. وبينهما أقوال كثيرة لا سبيل إلى تحقيقها؛ لاختلاف القائلين فيها مثل اختلافهم في عدد ملوكهم وفي تعاقبهم وسني حكمهم2. ويبدو أن ملوك الحيرة لم يتنصروا عقيدة؛ إنما تنصروا سياسة أي تبعا لولائهم السياسي للرومان لما غلب الرومان على الفرس ودارت الحيرة في فلكهم فترى في سجل الكنيسة الشرقية أن الحيرة كان عليها أسقف لسنة 410م، وأن ملكها حمى النصرانية سنة 420، وترى في الجهة الأخرى: أن النساطرة واليعاقبة اشتد جدالهم في أوائل القرن السادس للميلاد، وتنافسوا في الرئاسة ففاز النساطرة، وملوك الحيرة كانوا إلى أواسط القرن الاد على الوثنية؛ وإن المنذر امرئ القيس بن ماء السماء" كان يقدم ذبائح من البشر إلى العزى، وكان بين نسائه امرأة من غسان اسمها "هند الكبرى" أم عمرو بن هند" كانت مسيحية فبثت مبادئ النصرانية في ابنها فنشأ نصرانيا، يؤيد ذلك ما نقشته على ديرها. ولما ماتت رجع خليفته "قابوس أو المنذر بن

_ 1 تاريخ العرب القديم ص203، 204. 2 العرب قبل الإسلام.

المنذر" إلى الوثنية، ونشأ ابنه النعمان فيها يذبح للأصنام حتى تنصر أطلاجاثليق" على يد "حبر يشوع" وفي التاريخ العربي أنه: "تنصرعلى يد عدى بن زيد". وقد اتفق القولان: بأن يكون عدي رغبه في النصرانية والجاثليق عمده.

مملكة كندة

مملكة كندة: كندة في عرف النسابين العرب: قبيلة عربيةجنوبية تنسب إلى "ثور بن عفير بن عدي بن الحارث" وبنتهي النسب إلى يعرب بن قحطان1. وعلى قول العرب بطن من كهلان، عرب الشمال. وأصلهم فيما رواه الثقاة: من البحرين والمشقر وأنهم أجلوا عنها إلى حضرموت: وأقاموا في بلد يعرف باسمهم "كندة" مرتفع من الأرض يشرف على حضرموت، وتصب أوديته فيه ثم إلى مهده وقصبته الكبرى "أدمون". وأقام الكنديون هناك دهرا وهم على وفاق مع الحميريين بين حكام تلك البلاد. وهناك خلاف بين الإخباريين حول أسباب نزوح كندة إلى الشمال، فاليعقوبي: يشير إلى حرب قامت بين "كندة وحضرموت" طال أمدها وأدت إلى جلاء "كندة عن حضرموت". يقول اليعقوبي: وكان بين "كندة وحضرموت" حروب أفنت عامتهم، وطالت الحرب بينهم، وأفنت رجالهم ودامت حتى ضرستهم وكثر القتل في كندة وصارت كندة إلى أرض "معد" فجاروتهم. وهناك فريق آخر من الإخباريين: يرجعون نزوج كندة من حضر موت إلى نجد إلى وجود قرابة بين "حجر بن عمرو" سيد كندة و"تبع" صاحب السلطان آنذاك على نجد والحجاز وغيرها من بلاد العرب؛ فولي "تبع حجرا" على قبال "معد" كلها؛ لأنه قريبه من جهة ومن أتباعه المخلصين من جهة أخرى2. ويذهب فيليب حتى: إلى القول بأنه كما كان الغساسنة عمالا للبيزنطيين واللخميون عمالا للفرس؛ فقد كان كذلك ملوك كندة في أواسط الجزيرة العربية

_ 1 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص205. 2 تاريخ العرب القديم ص205.

عمالا لتبايعة اليمن المتأخرين؛ ويحدد حتى تاريخ تولي "حجر على معد" بسنة 480م؛ وهو أول زعيم من زعماء كندة تمكن من توحيد صفوفها وفرض سيطرتها على القبائل الأخرى، وتوسيع رقعة أرضها حتى بلغت حدود مملكة اللخميين1. وكان "الحارث" أقوى ملوك كندة وأشهر رجل نعرفه من أسرة آكل المرار؛ وقد تولي الإمارة على بكر" وكما مد نفوذه على بكر فقد نجح "الحار" في مد نفوذه على الحيرة في الفترة ما بين 524-58. ويرجع نجاحه في بسط نفوذ "كندة" "على الحيرة" وانتزاع السيادة عليها من المناذرة إلى سببين؛ كما يذكر حمزة الأصفهاني: وإلى هذين السببين أن الملك الفارسي "قباذ" أهمل شئون مملكته، وتغاى عن سياسة رعيته ورعاية أمورهم. كما أنه أخذ بزندقة "مزدك" وقد أدى كل هذا إلى صدام بين "قباذ" و"المنذر بن ماء السماء" الذي رفض الدخول في: المزدكية ولم يرضخ لضغط "قباذ" وهرب "المنذر" من دار مملكته بالحيرة، ومضى حتى نزل إلى الجرساء الكلبي وأقام عنده2. ولما ملك فارس "كسرى أنو شروان" وأعاد المنذر بن ماء السماء" إلى ملك الحيرة. كان "الحارث بن عمرو" يومئذ في "الأنبار" فلما بلغته عودة المنذر إلى عرش الحيرة" خرج هاربا في أصحابه وماله وولده؛ فتبعه المذر بالخيل من "تغلب وإياد وبهرا"، فلحق بأرض كلب ناجيا بنفسه؛ ولكن "بني تغلب" انتهبوا ماله، وهجائنه وأسروا ثمانية وأربعين شخصا من أفراد أسرته وقدموا بهم على المنذر فضرب رقابهم. حضارة الكنديين: لم يكن الكنديون أصحاب حضارة رقاقية تشبه حضارة المناذرة أو الغساسنة، فقد حافظوا على النظم والحياة البدوية؛ ولم يقيموا في حضارة ثابتة، بل كانوا يتنقلون بين الجنوب والشمال، واستعملوا الخيام كمساكن، ولم يعرف عنهم بناء المدن والقصور3.

_ 1 السابق ص209. اليعقوبي جـ1 ص216. ابن خلدون جـ2 ص569. 2 السابق ص213. العقد الفريد جـ6 ص78 تحقيق محمد سعيد العريان. 3 المراجع السابقة.

أما ديانتهم: فكانت وثنية ومن أصنامهم المشهورة "ذو الخلصة" الذي انتقلت عبادته إلى عرب الحجاز فيما بعد. وقد تسربت الديانة اليهودية إليهم فاعتنقها بعضهم، ويبدو أنها جاءتهم بسبب مجاورة اليهود "لبني كنانة" في يثرب وخيبر؛ وبسبب اتصال الكنديين "بالتباعة الحميريين" في عنودهم الأخيرة وتبعيتهم لهم. أما المسيحية: فكانت أكثر انتشارا في: نجد من اليهودية واعتنقها: "بنو تغلب، وجماعة من بني أسد" وقد انتقلت إليهم عن طريق الغساسنة وعباد، الحيرة وأحباش اليمن، ولعل أهم ما يجب أن نذكره عن الكنديين أنهم كانوا زعماء اتحاد قبل يم قبائل مختلفة تعترف بزعامتهم وتدين بالولاء لهم1.

_ 1 المراجع السابقة

مراجع هذا الباب

مراجع هذا الباب: 1- القرآن الكريم. 2- كتب السنة. 3- الكتاب المقدس. 4- معجم البلدان: ياقوت الحموي. 5- البدء والتاريخ: طاهر المقدسي. 6- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: جواد علي. 7- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: الألوسي 8- نهاية الأرب: النويري. 9- تفسير الخازن. 10- تفسير الزمخشري: جار الله الزمخشري. 11- فجر الإسلام: أحمد أمين. 12- تاريخ العرب قبل الإسلام: د. نبيه عاقل. 13- العرب قبل الإسلام: جورجي زيدان. 14- الأمم السامية: الأستاذ حامد عبد القادر 15- تاريخ سورية: فيليب حتى.

الباب الثالث: العرب وروافد الفكر الديني

الباب الثالث: العرب وروافد الفكر الديني العلاقات التجارية والدبلوماسية: لم يكن العرب قبل الإسلام في عزلة عما حولهم: فكريًّا او اجتماعيًّا، أو اقتصاديًّا، وليس ثمة داعٍ لها، فلم يؤثر تاريخي، أنه ضرب عليهم سور يعوق من حركات الدخول في الجزيرة العربية أو الخروج منها، وليست الجزيرة العربية بالأرض الخصبة، التي تكفل لقاطنيها وفرة في العيش، وخصوبة في الرزق حتى يكره العربي في حبها السعي عن تحصيل ضرورات عيشه، وإنما كانت طبيعتها قاسية جافة، وأرضها جرداء مقفرة، ترغم أهلها أن يضربوا بإبلهم في أفناء الأرض شهورًا؛ ليصيبوا منها أقواتهم، وضرورات عيشهم، ونرى في القرآن الكريم تسجيلًا لهذه الرحلات في سورة كاملة -سورة قريش- قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} . هذا من ناحية حركات الخروج منها. أما من ناحية حركات دخول الناس فيها -أي الجزيرة العربية- فله من الدواعي العدد الكثير: ففيها الكعبة: وهي من البيوت السبعة القديمة مما يجذب إليها الرائي أو السائح للتعرف عليها، وهناك روايات تاريخية تذكر أن الفرس قصدوها كثيرا1. كما دخلها جيش أبرهة الحبشي2، ورحل إليها قديمًا نبي الله إبراهيم، وأقام ابنه إسماعيل فيها وجددا معا بناء الكعبة وأسسا حولها دين التوحيد.

_ 1 يراجع المسعودي -مروج الذهب "1: 188" قال: وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام، وتطوف به تعظيما له ولجدها إبراهيم. 2 وكتب غير واحد من اليونانيين المؤرخين: أن أبرهة زحف على مكة في مركب يجرها أربعة من الفيلة وأن جيشه لم يعد منه إلا القليل لكثرة من مات منه بالوباء. "أبو الأنبياء: العقاد"، كما لجأ إليها النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة وكلا المذهبين اضطهدا سياسيا، ودينيا.

يذكر القرآن ذلك فيقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وهي وإن كانت من حيث طبيعة جوها لا يطمع فيها طامع، تعد بمعزل عن أطماع السياسيين، وأصبحت بذلك كأنها منطقة حيادية، ولهذا السبب -وهو عزلتها- رغب فيها اللاجئون السياسيون الذين وقعوا فريسة للاضطهاد السياسي، أو الديني، فكانوا يفزعون إليها؛ لأنهم يجدون فيها الملجأ الآمن المطمئن، وكذلك جاليات اليهود، والنفر من النصارى، الذين ما دخلوا تلك البلاد إلا فرارا من حملات الاضطهاد الروماني التي وقعت عليهم. لذلك لم يكن بعيدا علينا أن نجد فيها -كما ذكر القرآن- بعضا من اليهود والنصارى، والمجوس، والصابئين، والذين أشركوا، ونجد فيها: الأصنام، والأوثان، ومصطلحات دينية غير عربية مثل: الجبت، والطاغوت. ومعلوم أن اليهودية لم تنشأ فيها، ولا النصرانية، ولا المجوسية، ولا الصابئة، ولكنها وفدت إليها تحت قسوة الاضطهاد السياسي أو الديني. وسنعرض بالتفصيل لتلك الأديان والمذاهب فيما بعد. كل هذا وغيره يعطينا أن العربي لم يكن في عزلة عما حوله، سواء من ناحيته؛ لأنه خرج منها متاجرا، أو من غيره فلم يكن في عزلة عنها؛ إذ وجدنا من يمم وجهه شطرها. ومن العوامل الأساسية في التوسع ودعم النفوذ الروماني وتوطيده في الشرق أمور كان قوامها: - الدبلوماسية. - والتجارة. ولكنها كانت مؤيدة بقوات حربية عظيمة، ونشاط حربي مضنٍ، وفي مصر وفي بلاد العرب وشمال إفريقية اتبعت هذه السياسة بعينها. فالبلاد العربية جرى فيها حركات حربية وتجارية ودبلوماسية.

ويرى م -رستوفتزف: أن الدبلوماسية والتجارة هما من أسس التوسع الروماني في بلاد العرب. وهذا معناه -في نظرنا- أن العربي كان له اعتباره الفكري منذ القدم. ويقول: ولم تكلل حملة إبليوس جالوس على بلاد العرب بالنجاح التام، ولكنها على أي حال ضمنت للتجار الرومان الحصول على مرافئ آمنة وهم في رحلتهم من مصر إلى موانئ الهند. ويقول: وكان التجار من الأعراب يقومون بدور الوسيط بين التجار المصريين وزملائهم في الهند، وكانت هذه التجارة إلى حد كبير تقوم على الكماليات1. وليس الأمر بحثا في دوافع الخروج، أو الدخول فيها فحسب، بل يرى علماء التاريخ: أن شبه الجزيرة العربية هي أصل الهجرات السامية لتلك المنطقة2. وحجتهم في ذلك أنها بلاد صحراوية، يحيط بها البحر من ثلاث جهات، لذلك كان السكان عندما يزيد عددهم عن قدرة الأرض المأهولة الضيقة عن إعالتهم يميلون إلى البحث عن مجال حيوي، فيجدونه فقط في الأراضي الشمالية الخصبة التي تجاورهم. ويؤدي ذلك إلى الحجة الاقتصادية التي تقول: إن أهل الجزيرة الرحل كانوا دوما يعيشون على ما يقرب من الجوع، وإن الهلال الخصيب كان أقرب مكان يزودهم بما يحتاجون إليه. يقول سبتينومو سكاني3: "فالساميون يظهرون في أقدم المصادر على أنهم بدو صحراء العرب يدفعون بأنفسهم دائما إلى الخارج، ويتغلغلون في المناطق المحيطة، ويوطدون أقدامهم فيها فهناك: - الأكاديون الذين نراهم في أرض الرافدين في الألف الثالثة قبل الميلاد.

_ 1 تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعية والاقتصادية، صفحات 92، 145. 2 العرب واليهود والتاريخ "1: 189" د/ أحمد سوسه، وتاريخ سورية: فيليب حتى جـ1 وقصة الحضارة "2: 264". 3 يراجع كتابه في الحضارة السامية ص225.

- ثم الأموريون الذين أسسوا في بداية الألف الثانية سلسلة من الدول في فلسطين وسورية وأرض الرافدين. - ثم العبريون والآراميون الذين جاءوا بعد ذلك بقرون قليلة؛ ليسدوا الفراغ التاريخي الذي خلفه انسحاب "شعوب البحر" في فلسطين وسورية. ثم العرب الذين خرجوا من صحرائهم بعد ذلك بعدة قرون في حركة فتح عظيمة نقلتهم إلى أقصى البقاع، وهؤلاء جميعًا ليسوا سوى أسماء مختارة برزت في الحركة المستمرة التي كانت في كثير من الأحيان خفية مجهولة الأبطال، والتي وجهت ودفعت سير الأحداث في الشرق الأدنى. ثم يقول: ولم يكن بد من أن يتنقل البدو ومعهم آثار أحوالهم الأولى، ومن هنا كان بحثنا في النظام الاجتماعي القديم لصحراء العرب عن الخطوط التقريبية. وحاولنا أن نقوِّم على وجه التقريب أيضًا الصور السياسية للشعوب المختلفة في معتقداتها وطقوسها وفي قوانينها بل في فنها أيضًا، وليس التراث البدوي لتلك الشعوب كافيا وحده لتغيير ذلك الطور وهو العنصر الذي وصفناه بأنه سام. ويضيف نتنج قوله1: "المحاولات الناضجة في القرن التاسع عشر في فك رموز الكتابات التي تعود إلى العصر السابق على ظهور المسيحية كشفت عن تشابه بين لغات البابليين والأشوريين والآراميين والكلدانيين والفينيقيين والعموريين والعبرانيين والعرب والأحباش، وهو تشابه لافت للنظر بحيث يوحي بأن هؤلاء الناس جميعا لا بد أنهم ينبثقون من الأصول نفسها". ومن هذا ثبت أن أسلافهم المشتركين كانوا العرب الأصليين -أو الساميين من قبيلة سام- إذ إن اسم "عربي" هو التعبير السامي عن ساكن الصحراء- وأن

_ 1 ترجمة: دكتور السيد يعقوب بكر. مراجعة: دكتور محمد القصاص. ص5 العرب نتنج ترجمة د. راشد البراوي. الأنجلو.

أول استيطان للعرب على نطاق شامل إنما كان في اليمن على عهد مملكة مأرب وهي الجيل الخامس من نسل سام. وقد تأيدت الفروض بشواهد تاريخية منها: - القرابة اللغوية بين الشعوب التي تتكلم اللغات السامية. - عقائدهم الدينية. - مؤسساتهم الاجتماعية. هذا فضلًا عن خصائص أخرى نضرب صفحًا عنها. وهذا التشابه جعل من السهل استنتاج: أن الأسلاف الذين تكلموا البابلية والأشورية والأمورية، والكنعانية، والعبرية، والآرامية، والعربية والحبشية، كانوا غالبا يشكلون جماعة واحدة في الأصل. لعوامل: سياسية واقتصاديةن ومع التاريخ، حصل بينهم خلافات، وكان من آخر الهجرات القديمة حوالي 500ق. م. هجرة الأنباط إلى شمال شرقي جزيرة سيناء؛ حيث كانت عاصمتهم البتراء. هذا عدا هجرات الفتح الإسلامي، وهذه الهجرات الأخيرة هي الحجة التاريخية التي يؤيد بها أصحابها نظريتهم التي تجعل من شبه جزيرة العرب المواطن الأصلي للساميين، ويضيفون إلى ذلك حجة لغوية مؤداها: أن اللغة العربية قد احتفظت في نواحٍ كثيرة بأشد تشابه باللغة السامية الأم التي كانت جميع اللغات السامية من لهجاتها. وكذلك لديهم حجة سيكولوجية: ترى أن سكان شبه جزيرة العرب وبخاصة سكان البادية قد احتفظوا بأنقى الصفات السامية. ومما نحب أن نشير إليه أن عقائدهم الدينية كانت تقوم على عبادة الطبيعة في شكلها البدائي، وكانت هذه العبادة شائعة بين الرحل من بادية الشام وبلاد العرب، وكان يوجد بجانب إله القبيلة إله أعظم يطلق عليه: هبل أو بعل أو اللات. وكانت اللات أو هبل الآلهة الرئيسية في الجزيرة العربية. فدعوى أن العرب حجزهم عن العالم القديم وثقافته عُزْلتهم عنه -غير واردة، ولا تثبت أمام التاريخ الحديث الذي أصبح يتكلم عن العرب ودورهم في التاريخ القديم، من خلال علوم الحفائر والنقوش التاريخية القديمة، ومما ينبغي أن يقال: إن

ما يستكشفونه من حفائر تاريخية في تلك المنطقة، يعطي ما أشار إليه القرآن الكريم، وهو عدم عزلتهم، وما تعاقب في المنطقة العربية على حقب متتالية في التاريخ من مراكز حضارية عربية يشهد بذلك فضلا عن المركز الديني الثابت وتلك المراكز هي: - مكة: عاصمة دينية قديمة، تقع في وسط الحجاز. - البتراء عاصمة دولة تجارية عربية، ورئيسها عربي، وكانت في الجنوب. - تدمر عاصمة تجارية عربية، ورئيسها عربي في الشمال. - بصرى: عاصمة دولة الغساسنة، وهي عاصمة تجارية عربية ورئيسها عربي، وتقع بين "البتراء" و"تدمر". ويجمع بين هذه الدول الثلاث بعض المظاهر العامة وفق تاريخها المتعاقب من حيث: - أصلها: الذي يرجع إلى تحضير القبائل البدوية أو المتنقلة. - وازدهارها: الذي يرجع إلى تجارة المرور. - وقد تحالفت كل منها مع إحدى الدولتين العظيمتين لبعض الوقت باعتبارها دولة حاجزة بين تينك الدولتين العالميتين وهما: فارس والروم، وتلقت المساعدات منهما. - ونهاية كل منها كانت على يد إحدى الدولتين. فرومة قضت على الدولتين: الدولة النبطية، والدولة التدمرية "الزباء"، وقضت فارس وبيزنطة على دولة الغساسنة. وأنها جميعا كانت وسائل جيدة للتزاوج بين حضارات الغرب: رومة، واليونان، وبين حضارات الشرق: فارس والهند وبيزنطة، فنقلت من الهند إلى الغرب ونقلت من الهلينية، وكانت مع مرفئها التجاري عاملا مهما في ظهور التراث الهلينستي، وظهرت مدارس اشتغلت بالفكر الشرقي والهليني في ربوع تلك الدول منها: - مدرسة أنطاكية. - مدرسة نصيبين. - مدرسة الرها. - المدائن.

- جنديسابور. فتلك المدارس: كانت روافد صالحة لنشر الهيلنستية في الشرق والغرب، ونشر تراث الشرق والغرب أيضا في المغرب الروماني، وسنعرض لتلك المدارس ووظائفها:

البتراء

البتراء: 1- فالبتراء: من الدويلات المهمة التي قامت في العصر السلوقي وأهلها من الأنباط "من العرب المتكلمين باللغة الآرامية"، وازدهرت طوال ثلاثة قرون من القرن الثاني ق. م. إلى القرن الثاني الميلادي، وفي القرن نفسه ضمها الامبراطور الروماني تراجان1 إلى الامبراطورية، وظلت إلى أواخر القرن الرابع وهي المدينة الرئيسية على طريق القوافل تربط بين جنوب الجزيرة الذي ينتج التوابل ومراكز البيع في الشمال. وكانت تسيطر على الطرق المؤدية إلى مرفأ غزة في الغرب وإلى بصرى ودمشق في الشمال وإلى آيلة "إيلات" على البحر الأحمر وإلى الخليج الفارسي عبر الصحراء. وكانت تستبدل فيها الجمال النشطة بجمال القوافل. واستطاع الحارث الثالث العربي النبطي2: أن يدخل مملكته ضمن المحور التام للحضارة الهلينستية: وكسب بذلك لقب محب الهلينية. وبدأت البتراء -وهي جزء من الولاية الغربية الرومانية- تتخذ مظاهر هلينستية نموذجية. يقول فيليب حتى: كانت حضارة الأنباط عربية في لغتها، آرامية في كتابتها، سامية في ديانتها، يونانية ورومانية في فنها وهندستها المعمارية، وهي لذلك

_ 1 يراجع: مقدمة تاريخ الحضارات القديمة: طه باقرص 598 منشورات دار البيان. 2 كان المؤرخون القدامى يرون أن العرب غير الأنباط فترى المسعودي في كتابه مروج الذهب "1: 182" يقول: وقد تنازع الناس في ملوك الطوائف: أمن الفرس كانوا أم من النبط أم من العرب؟ غير أن هذا الخلاف يشير إلى أن هناك أصلا لهذا الاختلاف. يقول فيليب حتى: وقد أصاب "سترابو" و"بوسيفوس" و"ديوروس" بإطلاق اسم العرب على الأنباط؛ إذ إن أسماءهم الشخصية وأسماء آلهتهم وأثر التحريف العربي في كتاباتهم الآرامية لا تدع مجالا للشك بأن لغتهم الوطنية كانت لهجة عربية شمالية وظهر في الكتابات الأثرية أسماء مثل: علي، حبيب، سعيد ... إلخ. وبلغ من كثرة استعمال كلمات عربية صرفة في إحدى الكتابات الأثرية المتأخرة "268م" أن النص كل يكاد يكون عربيًّا، راجع: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين ص "1: 426، 327" ترجمة د/ جورج حدَّاد وعبد الكريم رافق، ومراجعة د/ جبرائيل جبور. دار الثقافة بيروت.

حضارة مركبة: سطحية في مظهرها الهليني ولكنها عربية في أساسها وبقيت كذلك.

تدمر

2- تدمر: وأما تدمر "زنوبيا" فيرجع بناؤها إلى نبي الله سليمان، وكانت تقوم بين هاتين الإمبراطوريتين العالميتين، وساعدها موقعها هذا على عدة ميزات؛ منها: - عدم تمكن الفرق الرومانية والفرق الفارسية من سهولة الاستيلاء عليها. - استفاد تجارها من وضعها الفريد كمحطة رئيسية لنزول القوافل عند نقطة التقاء الطرق التي تعبر الصحراء من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. - استغل رجال السياسة بذكاء موقعها الاستراتيجي من حيث إنها بين دولتين كبيرتين متنافستين، فكانوا يقفون مرة بجانب رومة، ومرة بجانب الفرس، مما جعلهم يحافظون على ميزان القوة ويستفيدون من الحياد. وحصل الزعماء التدمريون من شيوخ القبائل في الصحراء على إذن بمرور قوافلهم بسلامة، وكانت النتيجة أن أصبحت "تدمر" من أكثر المدن ثروة في الشرق القديم. وأصبح رئيسها "أذينة زوج زنوبيا" يحوز لقب "زعيم الشرق" ونائبا للإمبراطور غالينوس الروماني؛ غالينوس في الشرق، وذلك بعد أن خاض معركة ضد الغرب؛ ليخلص "فاليران" الإمبراطور الروماني، الأسير لدى الفرس، فهزم الفرس، ولم يستطع تخليص الإمبراطور الأسير، ثم اغتيل في ظروف غامضة. تولت زنوبيا أو الزباء من بعده، وكانت طَموحة، فوسعت من دولتها حتى أصبحت تشمل سورية، وجزءًا من أسيا الصغرى، وشمال الجزيرة العربية، ويقول المؤرخون: كادت تكون إمبراطورية، ورعت الثقافة اليونانية وجمعت تاريخا للشرق. يقول فيليب حتى: وكانت حضارة تدمر: حضارة غريبة؛ فهي مزيج من عناصر سورية ويونانية وفارسية، ولا شك أن السكان الأصليين كانوا قبائل عربية وبقيت أكثرية اللسان عربية.

ويصف م. رستوفثزف قوة دولة تدمر فيقول1: وكانت الحال في المشرق أسوأ منها في المغرب فقد غزا الفرس سورية وهددوا آسية الصغرى فسار فاليران لصدهم، وبالقرب من أديسا "الرها" هزمه هزيمة نكراء ووقع في أيدي أعدائه "260م"، ونجت آسية الصغرى وسورية من قبضة فارس، وأنقذ الأولى "آسية الصغرى" كاليسنوس -أحد قواد الرومان- الذي طرد الفرس وأنقذ الأخرى: "سورية" أوديناثوس شيخ تدمر الذي أنزل الهزيمة بالغزاة عندما حاولوا عبور الفرات في عودتهم إلى فارس. لذلك اعترف جالينوس بأوديناثوس الذي استمر يحكم سورية وجزاء من آسية الصغرى، وبقي يحمل لقب الإمبراطور حتى قتل 226-267م، فخلفه على العرش ابنه فابالاثوس وقد قامت أمه زنوبيا بأعباء الحكم نيابة عنه وكانت إمبراطورية تدمر في الشرق أكثر رخاء وأشد تماسكا تحت حكم زنوبيا وابنها ابلاثوس وقد لاحت بالتدرج لزنوبيا فكرة إنشاء إمبراطورية رومانية شرقية مستقلة يحكمها أغسطس مستقل. ولكن أوريليانوس -الذي تولى زمام الأمور بعد كلوديوس- الذي لقي حتفه ضحية طاعون عصف مرة ثانية بصفوف الرومان سنة 270م- وبعد أن هزم القوط سار إلى الملكة زنوبيا واستطاع بعد حملة اكتنفتها الصعاب من كل جانب أن يعيد سيادة رومة على الشرق وأن يفتح مصر مرة ثانية وأن يستولي على مدينة تدمر ويأسر حكام الإمبراطورية التدمرية على الرغم من المدد الذي جاءهم من الفرس.

_ 1 تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي "1: 527".

دولة الغساسنة

3- دولة الغساسنة: ودولة الغساسنة: "الحارث بن جبلة بن الأبهم" التي قامت في خلال القرن الرابع الميلاد إلى أن جاء الإسلام. منح الحارث من قبل "بوستنيان" لقب "فيلارك" أي رئيس قبيلة، واستطاع أن يهزم المناذرة في معركة قنسرين التي تعرف بـ "يوم حليمة". وقام الحارث في عام 563 بزيارة بلاط يوستنيان حيث ترك تأثيرا عميقا على أفراد حاشيته كشيخ بدوي مهيب.

ويقول المؤرخون: وكان موظفو البلاط بعد سنوات من هذا الحادث حين يريدون أن يهدئوا الأمير المعتوه "يوستين" وهو ابن أخ يوستنيان ووريثه يتفوهون بالقول: اسكت: وإلا استدعينا الحارث. وحصل الحارث أثناء وجود بالقسطنطينية على تعيين يعقوب البرادعي1 أسقفًا على الكنيسة فكان يعقوب من أتباع نسطور ومذهبه القائل بالطبيعة الواحدة للمسيح. وأصبحت بصرى -التي بنيت كاتدرائيتها في عام 512- العاصمة الدينية في المنطقة، ووصلت المملكة حينذاك ذروة اتساعها؛ إذ كانت تمتد من قرب البتراء إلى الرصافة شمالي تدمر وتشتمل على البقاع، والصفا، وحران.

_ 1 وكان الحارث مسيحيا يعقوبيا، وقد دافع عن مذهبه بحماسة وتوفيق عظيمين في وقت كان التعلق بأهداب هذا مجازفة خطيرة، كما كان لا يدخر وسعا في الدفاع عن أصحاب الطبيعة الواحدة وتحريرهم من الاضطهاد أن يقع عليهم، وبفضله توطدت دعائم الكنسية اليعقوبية بعد أن كانت مهددة بالخطر. نولدكه: أمراء غسان ص14 ترجمة دابندي جوزي ود قسطنطين زريق.

دويلة المناذرة

4- دويلة المناذرة: وقامت في بداية القرن الثلاث الميلادي في البادية المحاذية للفرات في منطقة الكوفة دويلة عربية مهمة هي مملكة الحيرة، وأصل أهلها وملوكها من عرب اليمن، عرفوا بالمناذرة واللخميين، وتقع الحيرة، عاصمتها على بعد نحو 3 أميال جنوب الكوفة، وكان أهلها نصارى على المذهب النسطوري وكان ملوكها موالين أو محالفين لملوك الدولة الساسانية، ومن ملوكها الأوائل امرؤ القيس الأول "القرن الرابع الميلادي"، والنعمان الأول ابن امرئ القيس، والمنذر الأول "418-462" ابن النعمان، وقد عظم في زمنه شأن الحيرة، والمنذر الثاني "505-554" وهو الذي سماه العرب "ابن ماء السماء"، وأعقبه ابنه المسمى: عمرو بن هند "554-569" الذي خلده شعراء العرب من الجاهلية مثل: طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم، وانتهى حكم السلالة في حكم النعمان الثالث الذي يكنى "أبو قابوس" "580-602"، صاحب النابغة الذبياني، حيث صار الملوك الساسانيون

يتدخلون في شئونها وأخيرا انحاز عرب الحيرة إلى خالد بن الوليد في فتحه العراق "633"1. وقد بذلت داخل الصحراء نفسها محاولات للتنظيم السياسي كدولة كندة التي وحدت تحت حكمها عدة قبائل من وسط الجزيرة. ولكن ظل البدو في جملتهم أحرارا من مثل هذه التنظيمات السياسية فلم يطلبوا وحدة فوق قرابة الدم التي وحدت بينهم في قبائل، وإنما كانوا يجوبون بلادهم الرملية الشاسعة مستقلين بعضهم عن بعض، وقد حكت لنا الرواية الإسلامية ذكريات تنافسهم وتصارعهم، "فأيام العرب" مملوءة بحروب وثارات نشأت في الأصل عن نزاع على الماشية أو المراعي، أو عيون الماء، وهنا تبرز شخصية البدوي حية نابضة بصفات الشجاعة والكبرياء والإصرار والحيلة وهي صفات كان لها دور لا يستهان به في النظام العظيم الذي انبثقت عنه أحداث الجزيرة العربية فيما بعد، وقد قامت مدن في واحات الحجاز خاصة، وكان طريق القوافل المتجه إلى الشمال يسيطر عليه مركزان يغلب عليهما طابع التجارة هما: يثرب التي سميت المدينة فيما بعد، ومكة إلى الجنوب منها، وكانت تحكم مكة حكومة قلة قواما التجار. وكانت تفد عليها في أيام الأسواق والمواسم الدينية أفواج العرب من جميع أنحاء الجزيرة، فلم يكن في وسط الجزيرة رقعة تضارع مكة مركزًا لاجتماع القبائل واختلافها بعضها ببعض2. من هنا يتبين لنا أن المنطقة العربية تعرضت لتيارات؛ من الرومان تارة، والفرس أخرى، وبيزنطة الثالثة الأخيرة، وفي هذا ما ينفي القول القائل: إن العرب كانوا في عزلة عن التاريخ، ويثبت لنا: أن المنطقة شهدت حضارات تعاقبت عليها، وشاركت في أحداثها السياسية، والاقتصادية ومظاهرها الاجتماعية، أيضا؛ غير أن هذه التأثيرات بتياراتها لم تستطع أن تلغي شخصيتها العربية، إنما كانت طلاء ظاهرا لم يلبث أن انجلى عنها؛ أما لماذا انجلى عنها؟ فسوف نعرض له.

_ 1 مقدمة من تاريخ الحضارات القديمة، طه باقرص 611 منشورات دار البيان. 2 يراجع الحضارات السامية القديمة ص204.

وبعدما كانوا يرون أن العرب حجزهم التاريخ عن حضارته، أصبحوا يرون من خلال ما استجد أمامهم من وثائق تاريخية وصلوا إليها عن طريق الحفائر والآثار أن المنطقة تعرضت للتيارات المختلفة: من غزو يوناني، إلى روماني، إلى فارسي، إلى بيزنطي، وبالتالي "أصبحت قادرة على العطاء، وأصبح الإسلام -في نظرهم- هو ثمرة هذا العطاء"، وتلك قصة سنعرض لها فيما بعد. وأصبح الإسلام يتكون -في نظره- من عدة تراثات: - التراث الهلنيسني: أي التراث الشرقي الغربي الذي ألفت بينه مدرسة الإسكندرية حاضرة البحر المتوسط. - التراث الديني: العبري: اليهودي والمسيحي. نبدأ بالتراث الهليني وموقف الشرق منه. مراكز الثقافة الهللينسية: لقد عرضنا للأحداث السياسية التي تعرض لها المنطقة العربية والدويلات التي قامت بها على أزمان متعاقبة من التاريخ وكيف كانت تحتويها إحدى الدولتين العالميتين حينذاك؛ إما الفرس أو الروم. وكان الهدف الذي كانت ترمي إليه الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية هو العمل على الحيلولة دون قيام أي نظام سياسي قوي في الشرق يخشى أن يكون خطرا على إحدى الدولتين، وكلما زادت القلاقل والمتاعب في الشرق كان هذا أفضل لصالحها، وكلما تضاعف عدد الدول المستقلة كان هذا أجدى وأنفع لرومة، وكلما زادت الابتكارات وتعقدت الأمور في الشئون الداخلية لكل دولة من دول الشرق تضاعف أمل كل من الإمبراطوريتين في أن تصبح سيدة الموقف والقوة المتحكمة في مصير الشرق بأسره1. وإن أهم ما يقال عن هذه الدويلات من حيث مظهرها السياسي: أنها كانت دويلات تزدهر بازدهار مرفئها التجاري، وتندثر باندثاره، وكانت ترى تبعيتها لإحدى

_ 1 تاريخ الدولة الرومانية الاجتماعي والاقتصادي "1: 24" تأليف م رستوفتزف ترجمة: زكي علي، محمد سليم سالم. مكتبة: النهضة المصرية.

الدولتين ولاء سياسيًّا واجبًا، وكان هذا الولاء يتغير من حين لآخر، وعامل التغير الأساسي في ذلك: هو الظروف الدولية للدولتين الكبيرتين، وأما هذه الدويلات فعليها أن تشكل ظروفها تبعا لهذا التغير دون إعلان رغبتها في شكل التبعية. وترتب على ذلك -من وجهة نظرنا- أن أصبحت ميول هذه الدويلات العربية مرتبطة يميول الإمبراطور الشرقي، أو الروماني، وبدلا من أن يكون الولاء للوطن أصبح الولاء للإمبراطور، وفي هذا ما جعل الأسر الحاكمة لهذه الدويلات تسعى -نفاقًا سياسيا منها- إلى التشبث بمظاهر حضارية ذات غشاء رقيق، لم يلبث أن تكشف عن بداوة وسعي إلى حياة الترف بشتى أشكاله وألوانه وصنوفه. وفي هذا ما صرفها عن دراسة مكوناتها الحضارية، وعن إبراز عوامل شخصيتها الإنسانية، وعن الدعوة إلى توظيف لغتها، ورفع أدبها، ومناقشة قضايا وطنها والبحث عن حرياتها الإنسانية، وحريتها في العلاقات السياسية. لذلك كنا نراها دويلات متعاقبة في سلسلة التاريخ الإنساني، تظهر "دولة البتراء" ثم تغيب مع غياب الأسرة التي حكمت، فإذا ما أخطأت سبيل ترضية الإمبراطور، كان عليه أن يغطي عليها، دون أن يغيب نجم الإمبراطور السياسي، ولأول مرة رأينا دويلات تنتحر انتحارا سياسيا نتيجة القلق السياسي الذي انتابها. ثم تظهر دولة "تدمر"؛ لتعيد التاريخ نفسه والأسلوب نفسه ويقضَى عليها بالوسيلة السابقة نفسها. إلى أن جاء الإسلام فاحتوى الدولتين العالميتين: سياسيا، وفكريا، ودينيا، وشفى ما بهما من علل القلق السياسي، وكان الإسلام بما أحدثه من تغيرات، على المستوى العالمي قد أظهر بمبادئه الرفيعة حقيقة الإنسان عندما ضل عن فهمها من خلال ما حوله من أفكار دينية ماجت بها منطقته، فنلاحظ أنه كان في المنطقة تغييرات سياسية، ولكن غير محددة من الوجهة السياسية. فتارة إلى الشرق وتارة أخرى إلى الغرب، فإذا نادت دولة الشرق الكبرى فارس بثقلها على هذه الدويلات تغير

مجرى علاقاتها إلى الرومان وهكذا، فهناك حقيقة تغييرات سياسية طرأت على المنطقة غير ثابتة الهدف السياسي، والوجهة الحضارية، ويضاعف ذلك عدم وعي الأسرات التي حكمت فيها بهدفيها السياسي، والحضاري، وذلك مما عجل بانتحارها السياسي. وحال العرب اليوم مثله بالأمس، دويلات ظهرت في المنطقة العربية وازدهرت لعامل اقتصادي لا دخل للعبقرية العربية فيه، وسيطرت عليه، إحدى الدولتين العالميتين، فظهرت المنطقة بمظهر حضاري غربي، ورجع العربي من غير أن يدري إلى بداوته، فكره العمل، وبات على ذلك منعم البال بثرائه المادي، فشلَّ بذلك من عبقريته، ومن تفهمه لمستوى حضارته، وكذلك أسرات حاكمة يرى فيها أنها مسئولة عن توجيهه لما تحب وترضى، فمفهوم التعاون العربي نراه لا يخرج عن معناه القبلي: وهو الأسرة لا الوطن وهو الأحق بالرعاية والتقديس. وفي ذلك ما يشير إلى مستقبلها إن ظلت على هذا الحال كلقمة طيبة المذاق يعفها الذوق عندما يتغير مذاقها أو يتغير مذاقه على حد سواء، لذلك كان على العربي أن يبحث عن شخصيته وأصالته، وأن يرصد أموال البترول لصالح رعاية السلوك الحضاري النابع حقيقة من الإسلام، وعليه يتحدد مظهرنا الحضاري اللائق بعبقريتنا ومنهجنا الإسلامي. وإن وضعنا -عربا ومسلمين- في حضارتنا الحديثة لمؤسف؛ إذ ما زلنا بعيدين عن المشاركة في بناء الحضارة، وإن ما يبدو علينا من مظاهر هو مظهر استهلاكي لا بنائي، وفي ذلك تدهور وتدلٍّ، والعربي -تاريخيا- محسود حينما حباه الله برسالة الإسلام -وحْيًا مقدسًا- لا مظهر لعبقرية العربية في تأليفه، وهو العامل الجوهري للحضارة الإنسانية، وحينما منحته أرضه -وستمنحه- بترولها وهو عامل جوهري في قوة الحضارة المادية -لم يكن فيه مظهر للعبقرية العربية إنما هو منحة إلهية أيضا. وفي كلتا الحالتين: استحق العربي دوره التاريخي والحضاري لكن هل قام بعبء هذا الدور، إنه ما زال يتسول التكنولوجيا من الغرب!!

ولنرجع إلى حديثنا عن المدارس الهلينستية التي انتشرت في المنطقة فنقول: ما عرضناه كان مقصورًا على الجانب السياسي فقط، ترى هل يكون ثمة تغيير من الناحية الثقافية؟ أو بمعنى آخر: هل اطردت الحياة الثقافية غير متأثرة بالتغيير السياسي؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال: نقدم بين يديه شيئا عن المراكز الثقافة الهلينية في المنطقة العربية، ولون الثقافة التي غزت هذه المنطقة، ونلاحظ من مقتضى الأحداث السياسية أن الشرق أصبح -والمنطقة العربية فيه- خاضعًا إلى حد كبير للنفوذ الثقافي الإغريقيين، وكما نشأت عواصم سياسية نشأت أيضا بجانبها عواصم ثقافية. يقول م. رستوفتزف: ويمكن أن نصف المظهر الذي كان عليه العالم القديم قبل نشوب الحروب الأهلية في رومة وإيطالية على الوجه الآتي: ففي أثناء المدة التي يطلق عليها اسم العصر الهلينستي أخذ مركز الحضارة في التحول تدريجيًّا من الغرب إلى الشرق، فحلت الإسكندرية في وادي النيل وأنطاكية على نهر العاصي وفرغانة على نهر كيكوس Caicus محل أثينا في الصدارة والأسبقية في المدنية"1، وكان من أولى العواصم الثقافية مدرسة الشرق الكبرى. مدرسة الإسكندرية -حاضرة البحر- نظام فلسفي جديد: وكما هو واضح من اسمها، أنها تحمل اسم ذلك الفتى الإغريقي بانيها ومؤسسها، الذي خضعت لنفوذ الدنيا، وهو لما يزل في عقده الثالث ذلك هو: الإسكندر الأكبر، الذي أسسها سنة 323ق. م وقد ظل اسمه عليها إلى الآن. وقد أنشأ خلفاؤه من بعده -فيها: أكاديمية يونانية تناظر بزهوها العلمي المدارس الأثينية، بل وتتفوق عليها؛ لما احتوت عليه من تراث يوناني،

_ 1 يراجع تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي "1: 16"م ستوفتزف. ترجمة ومراجعة: زكي علي، محمد سليم سالم. مكتبة النهضة العربية.

وأصبحت موئلا للعلماء والمفكرين الذين وقع عليهم الاضطهاد، ولا سيما بعد ما أغلقت أثينا فانتقلت إلى الإسكندرية بتراثها وفلاسفتها، مع اهتمام حكماء مصر بها أيضًا، فانتقلوا من معابدهم إليها لما لقيته من حفاوة وتقدير، استطاعت بهما أن تكون وريثة عين شمس ووريثة أثينا الحضاري بين الحضارتين: الإغريقية والسامية الذي بدأه الإسكندر المقدوني بفتوحاته، عن نشوء حضارة جديدة تعرف بالحضارة الهلينستية تقابلها الحضارة الهلينية والإغريقية الخالصة، وأصبحت الهلينستية الحضارة التي تميزت بها بلدان الشرق الأدنى في القرون الثلاثة التي سبقت المسيحية وبعدها، ومن هنا جمعت بين خصائص الثقافة الشرقية، وخصائص الثقافة الإغريقية، وأصبح من الصعب أن يحتفظ الفكر اليوناني بخصائصه، أو أصالته، كذلك أصبح الفكر الشرقي يميل إلى الاندماج في الطابع الهليني، والهليني في الشرقي، وبذلك أصبح فكرها عالميًّا، ومع ذلك فالمحيط اليوناني في الإسكندري فقد الأصالة التي كان يتميز بها الفكر الأثيني، واتخذ طابعًا عالميًّا وظهر فيه ميل ظاهر نحو الفكر الشرقي، وعلى الرغم مما كانت تدعيه الثقافة اليونانية القديمة من الأصالة لم تكن خالية تمامًا من المؤثرات الشرقية، ويمكن أن نرجع الكثير من مظاهر الحياة والفكر اليونانيين إلى أصول مصرية وبابلية، هذا وينبغي أن نلاحظ أنه: على الرغم من أن الإسكندرية كانت ذات أثر بارز جدًّا في تحول الفكر اليوناني في العصر المتأخر، لم يكن مثل هذا التحول وقفا عليها، ولم يكن محليا، بل لم يكن قوميًّا أيضًا، وإنما كان تحولًا عالميًّا. وقال أوليري: إن الحياة اليونانية العالمية الجديدة التي ازدهرت بعد عهد الإسكندر كانت جوانب متعددة أنتجت نوعًا من الأدب خاصًّا بها، وأخرجت نقدا أدبيا، وسارت قدما بالفلسفة منتهجة في أكثر الأحيان سبلا جديدة، كما أنتجت بحوثا جديدة في الطب، والفلك، والرياضيات والفروع الأخرى من العلم، فكل هذه متداخل بعضها في بعض؛ لأنها كلها ذات منزع متماثل، وكلها تتحول تحولًا طبيعيًّا من ثقافة اليونان القديمة. وفي النهاية يكفي القول: أنها ألفت بين التراثين، وأصبح ما يعرف في تاريخ الفكر الفلسفي: بالهلينستية يرجع إلى نشاطها العلمي تاريخا واصطلاحا.

الأفلاطونية المحدثة

الأفلاطونية المحدثة: وفي القرن الثالث الميلادي انتقل المركز الفكري العالمي من أثينا وروما إلى الشرق، كما انتزع زعامة الفكر الفلسفي جماعة من أصحاب الثقافة الهلينية في الأناضول وسوريا ومصر وغيرها من بلدان الشرق الأدنى، وهكذا شهد القرن الثالث انحلال الأنظمة الفلسفية القديمة وتقهرها بمثابة تمهيد السبيل؛ لبروز أنظمة جديدة توفق بين الفلسفة الإغريقية والفكر الشرقي كما مهدت السبيل أيضا أمام انتصار المسيحية الحاسم. كانت الأفلاطونية المحدثة نظامًا من هذا النوع، وكانت محاولة للتوفيق بين نظريات أفلاطون، وأرسطو من جهة، وبين بعض الآراء الدينية الشرقية، وفي ذلك الجو الفكري الذي كان شائعا في منطقة الشرق الأدنى استطاعت الأفلاطونية المحدثة أن تكون من ثنائية أفلاطون التي تنطوي على "المثال" "والمادة" الفكرة القائلة بأن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الإنسان والكون المادي ليسا يسوى مظهر من مظاهر الذات الإلهية، وهو المذهب المعروف بمذهب "وحدة الوجود" .وكان من أنصار الأفلاطونية المحدثة: أربعة من سكان الشرق الأدنى: 1- ساكاس "أمونيوس". يقول عن نفسه: إنه من أهل الإسكندرية، ونشأ مسيحيا، وتفقه في الدين على يد والديه، ولكنه عندما بدأ يدرس الفلسفة تحول عن دينه وصار وثنيًّا. 2- أفلوطين: وأفلوطين من أسيوط، ولد حوالي 200-270م، ولأفلوطين عدة مؤلفات كتبها على حقب: الحقبة الأولى: كتب واحدا وعشرين كتابا من تاسوعاته. الحقبة الثانية في روما: كتب في أثنائها أربعة وعشرين كتابا. الحقبة الثالثة والأخيرة: كتب تسعة من الكتب. وانتهت أعمال أفلوطين المصري بتلمذة "فورفوريس" الصوري له.

3- فرفوريوس: توفي 305، وهو الذي شرح نظريات أفلوطين وأشاعها، فيكون بذلك المؤسس الأول لنظام فلسفي ظل قرونا يستأثر بالفكر الأوروبي الفلسفي. 4- يمبلنجوس توفي: سنة 333، تلميذ بارز لفرفريوس سوري المولد، ولم يسر "يمبلنجوس" على خطى الفلاسفة من قبله الذين كانوا يشدون الرحال سعيا وراء العلم، بل بقي يعلِّم في موطنه أتباعه الفلسفة الفيثاغوريسية، أخذ "يمبلنجوس" يعزو إلى الأعداد معنى أسمى من المعنى الذي لها في علم الرياضيات، كما أنه عدَّل كثيرا في آراء معلمه بالنسبة للصوفية، هذه الأفكار والأراء المجموعة بعضها مهلهل لقيت في مدينة الإسكندرية من يأخذ بها وينظمها كي تصبح نظاما فلسفيا تبعا لميول هذه المدرسة في جعل الفكر الإغريقي على أنواعه فكرا شرقيا، لقد اصطحبت هذه المدرسة في هذه الفلسفة كثيرا من الآراء التي تعزى إلى "فيثاغورس" وإلى أتباعه، وأضفت عليها تفسيرا صوفيا، وإلى "فيثاغورس" يعزى مذهب التقمص، والمذهب القائل بأن الحياة الأرضية ليست سوى وسيلة لتطهير النفس.

فيلو الإسكندري ونشأة الفلسفة الدينية والأصول العرفانية

"فيلو الإسكندري" ونشأة الفلسفة الدينية والأصول العرفانية: إن تفاعل الهودية مع الفلسفة الإغريقية يجسدها "فيلو" اليهودي الإسكندراني حوالي 20 ق. م إلى 40 بعد الميلاد، الذي كان من أوائل وأعظم الفلاسفة اللاهوتية اليهود، كان يضع نصب عينيه الدفاع أمام فلاسفة الإغريق عن الوحي الإلهي، وأن كتب التوراة الخمسة كتب موحى بها من الله؛ وكان هذا المبدأ مجهولا لدى فلاسفة الإغريق، كذلك كان "فيلو" يقول بثنائية الإنسان أي "أنه مادة وروح" التي نادى بها أفلاطون؛ وأن الجسد هو سجن الروح، التي تتوق أبدا إلى الخلاص منه والرجوع إلى الله؛ والله في نظر "فيلو": لا يحده عقل، وهو أسمى من كل معرفة؛ أما المادة فلها حدود ولها نهاية؛ ولذا وجب أن يكون هناك وسيط بين المحدود واللامتناهي، وهذا الوسيط بين الله وبين العالم هو: "الكلمة" التي وصفها بأنها أول مولود لله: إنها الإله الثاني، لقد كان "لفيلو" أثر عميق في "اللاهوت" المسيحي والفكر المسيحي. وعلى منهج "فيلو" الإسكندري هيأت مدرسة الإسكندرية الذهن البشري لتقبل النظام الفلسفي الجديد وانصرافه عن نظام الفلسفة الإغريقية

القديم، الذي كان يعتمد على العقل وحده، وكان سببا من أسباب خذلانه؛ وعلمت المدرسة الإنسان بأنه: لا يستطيع أن يعيش بالعقل وحده، ومن هنا أقبل الإنسان على النظام الفلسفي الجديد الذي كان يعتمد على احتضان الديانات الشرقية التي تكتنفها الأسرار والروحانيات؛ ومن أهم هذه الديانات الشرقية: - عبادة سبيل؛ وهي أصلا: الإلهة الأم لفريجيا. - وعبادة إيزيس في مصر. - ومترا في فارس. مثل هذه الديانات تنطوي على أسرار لا يمكن تفسيرها ولا تعليلها، فقد اقتضى الأمر أن يكون أتباع هذه الديانات من الخلص الذين كرسوا أنفسهم لدخول حظيرة الأسرار؛ والمبدأ الأساسي الذي ترتكز عليه الديانات الروحية هي: أن التوصل إلى معرفة الله لا يتم عن طريق العقل ولا عن طريق الحواس العادية بل عن طريق الإيحاء والتأمل والإحساس؛ والغاية القصوى التي تسعى إليها هذه الديانات هي: الاتحاد بالله المخلص. وتعد جميع الأديان الروحية الغيبية أتباعها بنيل السعادة على الأرض، كما تضمن لهم دخول الجنة في الحياة الأخرى. وتختلف المسيحية عن الأديان الروحانية في أن تلك الديانات كانت وقفا على فئة خاصة مؤهلة للاطلاع على أسرارها؛ لكنها غير مأذونة بالبوح بأسرارها، وكان دخول التابع إلى حظيرة الأسرار يقتضي إعداده إعدادا دينيا خاصا؛ لأن الممارسة الدينية كانت سرًّا، فمن العسير أن تعرف شيئا عن الطقوس والشعائر التي كانوا يتبعونها عندما يدخلون عضوا جديدا إلى حظيرة الأسرار، فقد كان الكهنة يحتفظون بتلك الأسرار ويغالون في الحفاظ عليها. ونذكر على سبيل المثال: كان الدخول في ديانة "مترا" يتم على سبع مراحل: فكان على طالب الدخول إلى دين الجماعة: أن يمر في دور تطهير، إما بالماء أو الدم، وهذا له ما يقابله بالمسيحية وهو: العمادة، ثم يتلو هذا الاتحاد بالإله في إشراك المريد في حفلة طعام دينية، يتبع ذلك

تزويد المريد ببعض أسرار المعرفة، التي كانت تقوده إلى الرؤيا؛ كانت "إيزيس" تظهر للعباد وتتكلم معهم، وكان الإغريق يقومون بطقوس العربدة التي كانوا يمارسونها على شرف الإلهة الأم "سبيل" وعشيقها. كما أخذوا عن الفينيقيين أعباءهم الصافية التي كانوا بها؛ تكريما "لعشتروت" وعشيقها "أدونيس"، ثم أصبحت هذه الإلهات وعشاقها إلهات إغريقية رومانية؛ فحنان الأمومة الذي كان يتجسد في "إيزيس" جعل من هذه الإلهة إلهة محببة إلى نفوس الناس رجالا ونساء على السواء. وقد انتشرت عبادة "إيزيس" و"أوزيريس" في العهد الروماني، وراقت للناس أكثر مما انتشرت في العصر الهليني ففي أثناء القرنين الأولين للميلاد كان للإلهة "إيزيس" مزارات وهياكل منتشرة في صقلية وسردينيا وإيطاليا؛ ومنذ القرن الثاني للميلاد وما بعده كانت ملة "إيزيس وأوزيريس" من ألد خصام المسيحية، وفي الفترة القصيرة التي انتعشت فيها الوثنية في روما 394، كانت "إيزيس" أم الآلهة، و"ميترا" يحتلان المرتبة الأولى. يقول حتى: وفي النهاية أصبحت "إيزيس" بمثابة "مريم العذراء" كما صار "هورس" قرين "المسيح"، فكانت عملية دمج أكثر منها عملية تنحية وإزاحة، وفي القرن الثالث كان الناس يتأرجحون في إيمانهم بين الإلهة "ميترا" والسيد "المسيح". ولكن المسيحية ما فتئت أن انتصرت في القرن الرابع انتصارا حاسما على دين "ميترا"، ونجمل فيما يلي خصائص الفكر الإسكندري ما دام هو الذي كان يغذي المراكز الثقافية، وهو فيما يلي: أولا: تتميز هذه الخصائص بالاتساع الفكري، واتساعها الفكري وإن كان ميزة أبعدت عنها تهمة التعصب لثقافة دون أخرى جعلها لا تتعمق في القضايا بقدر ما حملت عبء التوفيق بين القضايا المتنازعة. ثانيا: ركزت على المنهج التوفيقي أو التلفيقي: فربط أولا: بين المدارس الفلسفية القديمة، ثم ثانيا: بين أفكار الفلفسة القديمة وفكرها الحديث، هذا من جانب موقفها الفلسفي، ثم من ناحية موقفها من الدين حاول بعضهم -مثل فيلون الإسكندري- أن يوفق بين توحيده الديني، واتجاه الفلسفة، ثم غالى في اتجاهه عندما

أخذ يؤكد اتجاه الفلسفة اللاهوتي وحملها على تأكيد قضايا الدين الذي كان يعتنقه وهو الدين اليهودي1. ثالثا: أبرزت ثنائية الوجود إبرازا منطقيا، وجهتها إليه الروحية الشرقية من جانب، والمادية الهلينية من جانب آخر، فعندما كانت تحاول المزاوجة بين تراث يتميز بالروحية، وتراث يتميز بالمادية صادفتها هذه الثنائية فأبرزتها. رابعا: التأكيد على الحقيقة المطلقة التي وافقت ميلها إلى الطابع اللاهوتي، فحولت الفكر إلى تلك الغاية. خامسا: الملاءمة بين اليهودية والفلسفة التي حمل عبئها فيلون. سادسا: الملاءمة بين المسيحية والفلسفة وقد حمل عبئها أفلوطين ورجال الكنيسة، وكانت تلك المحاولة بدء الانشقاقات الحقيقية في المسيحية. هذه الخصائص -وإن كانت تبين المسئولية الجديدة التي حملتها مدرسة الإسكندرية- كانت تتسم بسعة الأفق، غير أن منهجها هذا -وهو المنهج التوفيقي- شغلها بقضايا عسيرة الحل، وحقيقة الأمر: أنها شاركت وأعطت الكثير من الحلول التي تتسم بالطرافة والمتعة العقلية، غير أنها لم تكن على درجة عقلية مقبولة، لا من جهة الدين ولا من جهة الفلسفة. وعلى الرغم من هذه المهمات نراها بدت عاجزة مقعدة عن نواحٍ أخرى: وذلك عندما صرفتها تلك القضايا عن مشاكل واقعها، وعن تحمل مسئولية وطنها، وقضايا تاريخها، وأصبحت مع هذا الازدهار التاريخي: توصم بالعزلة وهي حاضرة الفكر والثقافة. وما انتهت مدرسة الإسكندرية إلا بعد أن خطت منهج خلط الدين بالفلسفة، أي المقدس بغيره، وكانت المسيحية باستسلامها لهذه الخطة نموذج هذا الخلط، وتقبلها الرومان على أنها أقرب الصور لوجهة نظر "أنطيوخوس" عندما أراد أن يحكم الشرق بسياسة واحدة، ودين واحد، ودين واحد؛ حيث تبنت مدرسة الإسكندرية وجهة نظره هذه

_ 1 تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها في الفصل الثالث عشر من الأفلاطونية المحدثة وللاستزادة راجع: "الفكر العربي ومكانته في التاريخ": دالاس أولير في ترجمة تمام حسان، و"الفكر العربي": للأستاذ إسماعيل مظهر وهو يعتبر ترجمة لديلاس أوليري ترجمة فيها تصرف أدبي كذلك، "الآراء الدينية والفلسفية": لفيلون الإسكندري تأليف إميل برتبة ترجمة د. محمد يوسف، ود. عبد الحليم النجار.

وراحت تنسج بخيوطها تلك الصورة، بيد أن صورة المحاولة باتت على شاكلة "أبي الهول": صورة إنسان على جسم حيوان رابض، إنها تصورات مدرسة عين شمس عن الوجود نفسه، وعن دين "إخناتون" أصبحت المسيحية تحمل اسم الدين من غير جوهره، وتحمل اسم الفلسفة من غير منهجها، وكان ذلك من أخطر نتائج مدرسة الإسكندرية ومن أشيع مناهجها. يقول جيبون: لقد أهمل الأفلاطونيون المحدثون المعرفةَ التي تتناسب مع وضعها وقدرتها، كما أهملوا حقل علم الأخلاق، والطبيعة، والرياضة، وذلك في الوقت الذي أجهدوا فيه قوتهم في المناقشات اللفظية في الميتافيزيقا، وحاولوا: أن يكشفوا عن أسرار عالم الغيب، ودرسوا أرسطو، وأفلاطون؛ ليوفقوا بين آرائهما في موضوعات لم يكن أحد هذين الفيلسوفين أقل جهلا بها من بقية بني آدم. هذه هي الصورة العامة لنوع الثقافة التي تسلمتها المراكز الثقافية العربية، فما الصفة العامة لمراكز الثقافة التي انتشرت في المنطقة العربية.

مدرسة إنطاكية

مدرسة إنطاكية مدخل ... مدرسة إنطاكية: كانت إنطاكية بمثابة حلقة الاتصال بين العالم القديم والعالم الحديث، لذلك كانت مركز التقاء الحضارتين؛ الإغريقية، والشرقية، وكانت تزخر بالإغريق والمستشرقين، والشرقيين المتأغرقين من جميع الطبقات، وعلى مختلف درجات التعليم، فقد أصبحت تشتمل ليس على مجرد المذاهب الدينية الإغريقية القديمة الراسخة لعبادة "زيوس"، "أبولو" وباقي جمهرة هذه الآلهة، بل كانت تشتمل كذلك على المذاهب السورية لعبادة "بعل" Baal والإله الأم، فضلا عن الديانات ذوات الأسرار بعقائدها عن الخلاص وعن الموت والبعث وعودها لما بعد الحياة. كذلك شهدت التغييرات التي عرفت بها الحقبة الأخيرة من العصر الهلينستي حينما كانت المذاهب الدينية والفلسفية القديمة آخذة في التحول إلى معتقدات فردية تبعًا لانصراف الناس إلى التماس العزاء الديني عن مشاكلهم ومطامعهم

الشخصية وأصبح مثلها مثل المراكز الأخرى التي كانت قد ازدهرت فيها الديانة والفلسفة الهلينستيتان وكان من دعاتها الأُوَل القديسان: نيقولاوس، وبرنابا.

نيقولاس وظهور الهرطقة في أنطاكية

نيقولاس وظهور الهرطقة في أنطاكية ... نيقولاوس وظهور الهرطقة في أنطاكية: وطبقا لعبض المصادر كان نيقولاوس الأنطاكي وهو الذي كان من أوائل المهتدين وأحد الشمامسة السبعة في القدس "أعمال الرسل 6: 5" ابتدع هرطقة باكرة عرفت باسمه. والظاهر أن هذه الحركة المنسوبة إلى نيقولاوس كانت ترمي إلى إيجاد حل وسط بين المسيحية والعادات الاجتماعية السائدة، وذلك بالتوفيق بين ممارسة عادات وثنية معينة والانخراط في سلك الطائفة المسيحية. والهرطقة المنسوبة إلى نيقولاوس كانت -من بعض الوجوه- الطليعة لمذهب الغنوسطية الذي كان يفوقها إلى حد بالغ من حيث بعد الأثر وخطورة الشأن وهو مذهب القائلين: بأن الخلاص يتم بالمعرةف دون الإيمان. ازدهر هذا المذهب في جو ديني وفكري في أنطاكية، حيث كان الاختلاط بين جماعات أفريقية وشرقية متباينة الجنس والدين يهيئ مجالا واسعًا لدراسة ونشر مذاهب جديدة دينية، وفلسفية ولما كان مذهب الغنوسطية مذهبا يتوسط بين الفلسفة الوثنية والدين، وكانت أصول إغريقية، إلا أنه اقتبس بعض الآراء المسيحية، وبعض الآراء اليهودية، وكان ذلك المذهب في وضع يهيئ له منافسة العقيدة المسيحية، فقد كان يَعِدُ بمعرفة التدبير الإلهي للكون وبالخلاص، بما في ذلك الأمان من قوى الشر على الأرض وضمان حياة سعيدة في العالم الآخر. وقد بدأ ظهور هذا المذهب في الشرق، ثم انتشر في جميع أنحاء الإمبراطورية وتعددت صوره المتباينة إلى ما لا سبيل إلى حصره، وتفاوتت تعاليم كل قطب من أقطابه، ما بين أنظمة غير مسيحية قطعا، وأنظمة كيِّفت على نحو بدت معه على هيئة هرطقات مسيحية.

ومذهب الغنوسطية الذي وصل إلى أنطاكية كان سليل تعاليم "سيمون بمبلخوس" من سماريا، وهو الذي كان في عهد الحواريين يدعو بين الناس بأن ثمة ربًّا أعلى يوزع القوى ذو الفيوض التي كان سيمون نفسه من بينها. وقد ادعى سيمون أنه صِنو المسيح وعرض على الأنظار ضروبا من السحر جذبت إليه كثيرا من الأتباع1.

_ 1 أنطاكية القديمة. جلانقيل داوني. ترجمة د. إبراهيم نصحي ص167. النهضة المصرية.

برنابا في أنطاكية

برنابا في أنطاكية: أرسل شيوخ القدس: برنابا إلى أنطاكية -وكان من القبارصة مثل بعض أوائل المبشرين في أنطاكية؛ لكي يتفقد ما كان جاريا فيها وينهي إليهم مدى نجاحه وما ينتظر له مستقبلا، وكان خليقا ببرنابا بوصفه من القبارصة أن يشعر وهو في أنطاكية بأنه في موطنه تمامًا، كما أن أهل المدينة كانوا خليقين بأن يروا فيه فردا من أبناء طائفة مجاورة تربطهم بها روابط الألفة، ولقد تم على يديه المزيد من حالات الهداية، ولما رأى أن النجاح كان حليف الدعوة ذهب إلى طرسوس حيث كان بولص يقيم إذ ذاك، ودعاه إلى المجيء إلى أنطاكية؛ للمعاونة في بث الدعوة. وقد مكث برنابا وبولص في أنطاكية لمدة سنة وهما يقومان بالوعظ فآمن عدد كبير من الناس وذلك حوالي سنة 40م. وكانت النتيجة التي أسفر عنها هذا العمل هي ظهور طائفة تختلف عن الزمرة الأصلية من أتباع السيد المسيح في القدس، وقد تمثل التغيير في ظهور التعبير الجديد، تعبير "المسيحيين" الذي ظهر في مستقل الأربعينيات من القرن الأول للميلاد. وليست لدينا أية بينة عن حجم الطائفة المسيحية في أنطاكية عندئذ، وأما عن نظامها فإنه يروى لنا أنه كان ثمة "رسل" "ومعلمون" ذكرت أسماؤهم على وجه التحديد بأنهم كانوا: برنابا وسيمون نيجر، "ولوكيوس القوريني" و"ماناين" و"بولس"

ولقد كان هؤلاء الرجال ورفاقهم في رابطة الإخاء بأنطاكية هم الذين وضعوا الخطة لحملات التبشير المنظمة التي قام بها بولس وزملاؤه وتولَّت الطائفة تدبير الوسائل التي بدأت بفضلها رحلات التبشير1.

_ 1 المرجع السابق ص106.

من أهم جهود برنابا

من أهم جهود برنابا: جدت مشكلة "تطبيق ما تقضي به طقوس الشريعة اليهودية على المهتدين غير اليهود، وذلك أنه في الأصل عندما كان كل المهتدين من اليهود لم يكن ثمة مجال للبحث في مراعاتهم لمقتضيات تلك الشريعة؛ إذ لم يكن هناك مشكلة إلا بعد ما بدأت العقيدة الجديدة "المسيحية" تتخذ وضعا واضحًا متميزًا؛ حيث ظهر نزاع من اليهود المتأغريقين مؤداه: أنه ليس من الضروري المحافظة على تلك الشريعة اليهودية. وعندما بدأ غير اليهود في الإقبال على اعتناق المسيحية، دخلت المشكلة مرحلة دقيقة بصدد الختان والأحكام الخاصة بالأطعمة والمشاركة في الواجبات بين المسيحيين من اليهود وغير اليهود. كان بولص يرى أنه لم يكن أمرًا عمليًّا تطبيق الشريعة على غير اليهود، وأن من يعتنقون المسيحية منهم يجب إعفاؤهم من طقوس الختان، فقد كان من شأنها أن تعني في نظر المهتدين منهم أن يصبح أحد أفراد الأمة اليهودي مسيحيا، وأنه نزل عن تراثه الإغريقي الروماني، وقد توصل برنابا وبولص إلى الاتفاق مع أقطاب القدس -جيمس وبطرس ويوحنا- على أن تكون الدعوة إلى الهداية الموجهة إلى غير اليهود طالقة غير مقيدة بأحكام الشريعة اليهودية1. أنطاكية تحت حكم تدمر: بعدما هزم الفرسان الرومان 260 ووقع فالريانوس نفسه أسيرا في يد الفرس، وفي صيف ذلك العام بعينه اجتاحت سورية قوات الملك سابور من جديد واستولت على أنطاكية مرة أخرى. وقد هبطت سطوة الرومان ومكانتهم إلى الحضيض، واغتنم

_ 1 نفس المرجع السابق ص162.

حكام تدمر هذه الفرصة؛ لتحرير مملكتهم من سيطرة الرومان وسرعان ما وجدت أنطاكية نفسها في داخل نطاق نفوذ تدمر الآخذ في الاتساع. في ذلك الحين كانت أبرز شخصية في أنطاكية هي شخصية أسقفها بولص من سميساط، وكان بولص ينتمي إلى الشطر السامي من أهل سورية ويمثل مصالح العنصر السامي أكثر من مصالح العنصر الإغريقي الروماني من السكان، وقد أسند إليه الاضطلاع بمهام دينية ومهام معاشية، وكان يتمتع بتأييد "تدمر" ويؤدي مهام المندوب المفوض عنها في حكم أنطاكية، وأصبح بولص السميساطي شخصية لها أهميتها أيضا من الناحية اللاهوتية؛ فإن تعاليمه التي كانت تدعو بإصرار إلى أن الله واحد والمسيح بشر مهدت هذه الأفكار السبيل للمذهب الأريوسي وأنشأت فيما بعد عرفا تقليديًّا في مذهب المدرسة اللاهوتية بأنطاكية. يرى جلانفيل أن هذه التعاليم المبسطة قد أعدت إرضاء لزنوبيا ملكة تدمر التي كان يظن أن لها ميولا يهودية، ومن المحتمل أن تكون وجهة نظر بولص فيما بعد تتعلق بوحدانية الله وقدرته تأثرت باعتقاد اليهود اعتقادًا جازمًا في التوحيد وأما إنكار ألوهية المسيح أو متبوعيتها فإن ذلك كان فكرة نبتت في عهد مبكر جدًّا حالما أصبحت طبيعة المسيح موضوعًا للدراسة والمناقشة المفصلة، وكانت إنطاكية -عندما حل عهد بولص- مكانًا خليقًا بأن تلقى فيه مثل هذه الفكرة تأييدًا ولا سيما بعدما أصبحت معقلا من معاقل المذهب الأريوسي الذي كان في جوهره يشايع هذا التفسير، وارتبط تاريخ الطائفة المسيحية في أنطاكية بمجرى النزاع الأريوسي حول طبيعة ألوهية المسيح، وهو ذلك النزاع الذي أحدث انشقاق الكنيسة إلى معسكرين في الجزء الشرقي من الإمبراطورية، وظل هذا الانشقاق إلى سنة 325م موعد مجلس نيقية، وفيه تمت الموافقة على حل أدمج بموجبه في العقيدة النص على وحدة الأب والابن مادة وجورها وتسوية وضع جماعة المنشقين. ولا نرى في أنفسنا ميلًا نحو تحليل "جلانفيل"؛ لدعوة بولص إلى التوحيد بأنها كانت ترضية لملكة تدمر، وفي نظرنا أن الأمر ليس كذلك؛ لأن التوحيد ظاهرة تغلب على الديانات السامية ولنذكر خاصة "ال" وهو إله سامي مشترك:

ال: لدى الأكاديين. وال: لدى الكنعانيين. والوهيم: عند العبريين. والله: عند العرب. وقد عرف اليمنيون أيضا هذا الاسم واستعملوه في الغالب اسما عاما بمعنى إله وهو مدلوله الأصلي حقا، ولكنهم استعملوه أحيانا علما على إله خاص ويكثر وردوده في أعلام الأشخاص. وفي هذا الجو الفكري ذي الطابع المسيحي أنشأ بسطاثيوس Bustathius أسقف أنطاكية مدرسة بها، على نمط مدرسة الإسكندرية ولم يسر تاريخها على وتيرة واحدة، ففي أوائل عهدها نُفي بوسطاثيوس سنة 331م، وترك المدرسة في رعاية فلافيان Flavain وقد أشرك معه الناسك ديودروس Diodorus. وهؤلاء الثلاثة جميعا وهم: الأسقف بوسطاثيوس، وفلافيان وديودوروس كانوا من زعماء الخصومة1 من أتباع أريوس، وهذه الزعامة: هي السبب فيما تعرضت له مدرسة أنطاكية من عنت، فقد كان لأتباع أريوس في هذا الوقت قوة سياسية كبيرة، وزادت قوتهم بعد موت قسطنطين سنة 337م ومع ذلك استمرت المدرسة إلى سنة 379 عندما صار دودوروس أسقفا لطرسوس. وقد كان في سنة 381م أحد الأساقفة الذين رسموا فلافيان على كرسي أنطاكية، ولما ارتقى ديودوروس غلى كرسي الأسقفية: شتت المدرسة. وكان بين أنطاكية ومدرسة الإسكندرية تنافس لم يكن كله وديا وذلك عندما اتهمت مدرسة الإسكندرية الأسقفين: ديودوروس أسقف طرسوس، وثيودور أسقف مصيصة، بأنهما بذرا -دون قصد منهما: بذور المذهب النسطوري.

_ 1 الحضارة السامية القديمة ص195.

مدرسة نصيبين، مدرس الرها، المدائن-المانوية216

مدرسة نصيبين، مدرس الرها، المدائن-المانوية216 ... مدرسة نصيبين، مدرسة الرها، المدائن-المانوية216: تقع نصيبين: في الرقعة التي تخلت عنها فارس لروما سنة 298م، ولما كانت حينذاك مدينة من مدن الحدود تشرف على الطريق الرئيسي بين شمال ما بين النهرين وبين دمشق، فإن الرومان حصنوها أحسن تحصين، ولعله كان فيها بعض مسيحيي ما بين النهرين. وفي حوالي سنة 300-301 عدت نصيبين كرسي أسقفي وكان أول أسقف لها هو بابوا ثم خلفه الأسقف يعقوب الذي أنشأ بها مدرسة على غرار مدرسة أنطاكية وكان فيها قبل أن تقع في أيدي الرومان، مدرسة يهودية، أنشأها الحبر يهوذا ابن بنثيا، هو راوية، وقد ورد باسمه سبعة عشر فصلا في "المشنه"، والمرجح أن استيلاء الرومان على المدينة قضى على مدرستهم فيها، وعلى أية حال فلا ذكر للمدرسة بعد هذا التاريخ، وبعد يعقوب أقيم شيخ اسمه إبراهيم على رأس هذه المدرسة. عندما وقعت نصيبين مرة ثانية في يد الفرس 343م فر إبراهيم رئيس مدرسة نصيبين فهرب إلى الرها، ولا شك أنه كان هناك لاجئون كثيرون مثله، فالتفوا حوله. وهكذا أنشئت مدرسة مسيحية في الرها، ويمكن أن تعد مدرسة الرها بعثا لمدرسة نصيبين، وكما هو واضح كانت مدرسة الرها في أول أمرها جماعة ليس لها صفة رسمية، وكذلك ليس لها سند قانوني أو رسمي مثل: مدرسة نصيبين وأنطاكية. كان ماني يعلم في مدينة كتسيفون "المدائن" دينا يجمع بين "الزرادشتية" و"المسيحية" كما أعلن نفسه رسول السيد المسيح، وكان يفسر الأناجيل بحسب عقيدة العرفان التي كانت تنطوي على تحرير الأعضاء الذين اعتنقوا مذهبه من تسلط المادة بواسطة المعرفة؛ ونظرا لتطرفه وخروجه على عقيدة "زرادشت" حكم عليه الكهنة المؤدبون بالموت؛ إلا أن أتباعه وتلامذته حملوا الرسالة، وانتشرت انتشارا واسعا

حتى بلغت شمال إفريقيا واعتنق القديس "أوغسطين" قبل تنصره المانوية مدة تسع سنوات.

جنديسابور

جنديسابور: كان دين الدولة الساسانية الرسمي طوال حكمها: الدين الزرداشتي إلا أن التركيز على سيادة "أهورا مزدا" إله النور والخير، كان أكثر من التركيز على النظام الثنائي، وحين أنشأ كسرى الأول في 555 مدرسة جنديسابور في الطب والفلسفة، دعا أساتذة مسيحيين؛ ليتولو أمر التعليم فيها، وكانت لغة التدريس اللغة السريانية، وقاموا بترجمة المؤلفات اليونانية إلى لغتهم السريانية، وترجمت أساطير "بيدبا"، ثم وجدت طريقها إلى "أسبانيا" عبر ترجمة عربية قديمة من أسبانيا انتشرت في سائر الأقطار الأوروبية، كما قامت في أحيان كثيرة بالتوفيق بين الأديان وتوحيد العقيدة، وكانت تميل للنسطورية كمل كان "الساسانيون" يعطفون على "النسطوريين" ويتسامحون معهم، ولعل ذلك يرجع -من وجهة نظرنا- إلى اتجاه الأساتذة المسيحيين الذين انتدبوا للعمل في المدرسة ومعاداة الفرس للروم، ولما كانت النسطورية وقعت تحت الاضطهاد الروماني فقد تعاطف معها الساسانيون، ثم هم نظروا إليها من حيث دعوتها للتوحيد. هذه صورة عامة عن المدارس التي قيل عنها: إنها حملت تراث مدرسة الإسكندرية إلى المنطقة العربية على الرغم من أن تاريخها ما زال مجهولا نرى أن ما علم منه يفيدنا؛ إذ إن هدفها الأول هو: نشر أصول الدين الوثني بين المسيحيين الذين كانوا يتكلمون بالسريانية. يقول ديالاسي: "فقد كانت عقائدهم اللاهوتية ونظام كنائسهم، كما بين "أسترزيجوفسكي" غير مطابقين للأصول المعتمدة في الكنيسة الكاثوليكية". وكما نلاحظ أن رؤساءها أساقفة مسيحيون؛ أي رجال دين، لكنهم لم يكونوا رجال دين فقط، لكنهم رجال دين منشقون بعضهم على بعض فحملت هذه المدارس طابع هذا الانشقاق. فالمدارس كانت ذات طابع ديني، وكانت القضية

المسيطرة عليها: قضية طبيعة "المسيح"، والرأي، ومنهجه حول طبيعة "المسيح" لم يكن واحدا، إنما كان يتغير تبعا للولاء السياسي، كما كانت غالبية هذه المارس يرجع الفضل في إنشائها إلى: بعض المضطهدين من: السياسة، والكنيسة. وهذا مما أدى إلى: فشل الهلينية في المنطقة العربية، لأن هذه المدارس كان رؤساؤها: رجال الدين مضطهدين فحولوها إلى غايات دينية غير متفق عليها؛ وكثيرا ما كان يستعدي عليها رجل السياسة، فيشتت شملها ويبعثرها، أضف إلى ما سبق: أن بعدهم عن الإغريقية جعلهم ينعزلون داخل المادة السريانية المترجمة، فانقطاعها عن الهلينية صيرها إقليمية خالصة، وحامت فلسفتها حول الدين، واللاهوت، ولئن كانت قد نشرت بعض أفكار فلسفية عن المسيحية في بلد جديد فإن هذا الفكر لم يساعد على التحول، وأصبح حال هذه المراكز الثقافية ليس بأحسن من حال العواصم السياسية للمنطقة العربية، فما تكاد تظهر وتتماثل للازدهار حتى يطويها ليلها الطويل. يقول دلاسي أوليري: إن الثقافة اليونانية لم تنتقل إلى العرب عن طريق هذه الاتصالات الأولى، ولقد تحقق انتقال العلوم اليونانية إلى العرب عندما استقرت الخلافة العربية في مدينة بغداد التي كانت حديثة البناء بالقرب من "جنديسابور".

آراء فلسفية للمستشرقين حول الهلينستية والسامية

آراء فلسفية للمستشرقين حول الهلينستية والسامية ... آراء قلقة للمستشرقين حول الهلينستية والسامية: بعد عرضنا عن الهلينية في الشرق والمنطقة العربية فيه -رأينا أن نعرض بعض آراء استشراقية مغالية، ونلاحظ أن هذه الآراء مهما تنوعت أهدافها ووسائل مناهجها فإنها ترجع في نهايتها إلى موقفين: الأول: موقف من يصم العقلية السامية بعدم الفهم الطبعي للأمور. وهذا الموقف كان من نتائجه: أن ميز بين عقليتين: الأولى: علقية آرية، خصائصها: جمع وتحليل. الثانية: عقلية سامية، خصائصها: التجزيء. الثاني: موقف من يرى: أن الشرق لا يحب الثقافة ذات النزعة الإنسانية؛ وبين خلاف جوهري مؤداه:

أن الرأي الأول: يرد العجز العقلي إلى علة فطرية. والرأي الثاني: يرد العجز العقلي إلى عوامل كسبية أي تخلف حضاري، وهما معا -على اختلافهما في تفسير علة إخفاق الهلينية- يتفقان على أن عدم تجاوب الشرق مع الهلينية هو السبب في ذلك؛ إما: لعلة مرضية أو لعلة مزاجية. وغاب عن الفكر الاستعماري المعادي للسامية أن السببب الذي أدى إلى عدم تفاعل الهلينية مع التراث الشرقي ليس خاصا بالعقلية السامية، إنما يرجع إلى عوامل دولية تخص الصراع الثنائي بين الإمبراطوريتين؛ ذلك أن التيارات الثقافية التي غزت المنطقة بعضها هب من فارس، وهي دولة كانت عالمية، فترى في تراثها هذه الصفة العالمية نفسها، فكانت تكافح رومة سياسيا وثقافيا؛ لإحلال سياستها وثقافتها في كل بلد تدخله. ورومة أيضا كانت دولة عالمية، وتراثها كذلك أيضا؛ أي كانت ترى فيه هذه الصفة العالمية؛ فكانت تكافح الفرس سياسيا وثقافيا من أجل إحلال ثقافتها في كل رقعة يمتد نفوذها عليها، والمنطقة العربية التي كانت مرة في حوزة الفرس، ومرة في حوزة الروم، فكان من الصعب أن تستقر على تراث ثقافي ذي طابع واحد؛ ولا سيما أن الذين قاموا به -وهم من آباء الكنيسة- مضطهدون سياسيا ودينيا، فكان المواطن يعزف عن هذا اللون من الثقافة الحرجة، ولم تكن في المنطقة العربية دولة ذات طابع استقلالي تبنت الدعوة إلى هذا اللون من الثقافة، أضف إلى كل ذلك: أن المادة الهلينية التي ترجمت جاءت عن الإسكندرية بعدما أتخمتها بالمباحث اللاهوتية، فلو لاحظ المستشرقون هذه الاعتبارات، وأخذوا في اعتبارهم ضعف المادة الهلينية حين فسروا إخفاقها في الشرق لما انتهوا إلى هذه النتائج من جانب. أما موقف الذين يصمون العقلية السامية بالعجز؛ لعوامل وراثية دون النظر إلى العوامل التاريخية التي أحاطت بالتراث الثقافي وذلك من جانب آخر؛ فإن النظريات العلمية المعاصرة ذهبت به بددا. يقول ديلاسي أوليري: بتتبع التاريخ في تحول البنية الاجتماعية التي يوجد المجتمع اليوم فيها ثلاثة عوامل رئيسة تعمل في هذا التحول وهي:

- العنصر القومي. - اتجاه تيار الثقافة. - انتقال اللغة. وأول هذه العوامل فسيولوجي، وأهم عامل في تقدم البنية الاجتماعية هو: تناقل الثقافات، والثقافة ليست من الأمور الوراثية، ولكن تناقل الثقافة يعود إلى الاتصال؛ لأن الثقافة تعلّم وتستفاد بالتعليم والدراسة والبحث، ولكنها لا تورث. يقول أوليري: وليس في هذا ما يتصل بمسألة العنصر؛ فالثقافة لا تورث باعتبارها من الميراث "الفسيولوجي" الذي يرثه الطفل من أبيه، وإنما يجري تعلمها بالاتصال الناشئ عن الاختلاط بالتقليد، والتعليم، وما أشبه ذلك. وأما الموقف الثاني: الذي يرى أن: الشرق لا يحب الثقافة ذات النزعة الإنسانية فذلك ما نحب أن نعرض له، ونفسح له المجال من خلال كتاب: "الشرق وتراث اليونان" "هانزهينرش" ترجمة د. عبد الرحمن بدوي تحت عنوان: روح الحضارة العربية؛ وفيه يذهب المؤلف إلى آراء ينقض بعضها بعضًا، ويجعل نقطة بدايته غزو الإسكندر فيقول: كان غزو الإسكندر الأكبر وما تلاه من تكون إمبراطورية يونانية في غرب آسيا هو الحدث الفاصل في تاريخ تطور الروح الشرقية، والسبب المباشر في وقوع الشرق تحت تأثير الثقافة اليونانية التي ساعدته على أن تدب فيه حياة جديدة من الحضارات المختلفة؛ التي تتكو منها الحضارة الشرقية عامة، والتأم شملها في ودة جديدة تحمل طابع الروح اليونانية؛ وتلك الوحدة هي التي يطلق عليها اسم الهلينستية. ثم يرى المؤلف: أنه تحت تأثير الثقافة اليونانية دبت في الشرق حياة جديدة، وتحت التأثير نفسه ترقت الروح الشرقية؛ وأن الوحدة الحضارية التي ظهرت في الشرق تحمل طابع الروح اليونانية. ونتيجته التي استهدفها: أنه حصل في الشرق تغير، مصدره الحضارة اليونانية، ثم أخذ يشرح وجهة نظره، من بين رؤيتين للتاريخ يوضح بهما الأثر الزمني للسيطرة الهلينية؛ فيقول:

- هناك رؤية المؤرخ السياسي: وهي موقوتة بدءًا من الإسكندر، ونهاية بقيام ما يدعى بالإمبراطورية الرومانية، ثم يقول: "وللمؤرخ السياسي الحق، حينما يريد أن يفهم معنى الهلينية، وتلك الحقبة التي استمرت حتى قيام الإمبراطورية الرومانية من أسوس، حتى أكتيوم وحدها". - هناك رؤية للمؤرخ الفكري، أو الروحي، وهي تمتد حتى أعتاب العصر الحديث كل الحداثة فيقول: لكن الدارس للتاريخ الروحي للشرق القريب، لا يستطع الاقتصار على هذا التحديد؛ لأنه يجد أمامه هذه الواقعة؛ ألا وهي: أن ثمة أفكارًا يونانية هي التي أنشأت الحياة الروحية الشرقية، ووهبتها القوة الدافعة المولدة، لا في عصر خلفاء الإسكندر الاثني عشر وحدهم فحسب، بل وأيضا في العهدين الروماني، والبيزنطي، إلى العهد الإسلامي. والحضارة الروحية التي أسستها الهلينية قد امتدت حتى بلغت في الشرق أعتاب العصر الحديث كل الحداثة؛ أي إلى نفوذ المدنية الأوربية والعلم منذ الأجيال الثلاثة الأخيرة. والنتيجة كما يقول -وفق نظره: وعلى هذا: نرى أن نقطة ابتداء الحضارة الشرقية، التي بلغت كمالها في الإسلام، هي بعينها نقطة ابتداء الحضارة الغربية. ثم بعد ذلك طرح سؤالا جعله مقدمة لدراسة مقارنة، ممهدا له بقوله: لكن أقل مقارنة بين الخصائص الروحية للشرق الإسلامي الحديث، ولعالمنا الغربي، تدلنا على تباين في الموقف ينتظم كل شيء العام عنه والخاص، حتى أبسط الجزئيات، فنرى أنفسنا أمام سؤال يطرح على البحث قضية بشكل آخر، وهي المقارنة بين خصائص الشعوب وهو: كيف أدى قبول قوة روحية واحدة بعينها ونعني بها الثقافة اليونانية -إلى نتائج مختلفة كل الاختلاف هناك كما هي الحال ها هنا؟

من هنا أخذ المؤلف يمهد لإجابته على ما طرحه من سؤال: يتيح له بيان خصائص الشرق الفكرية؛ وهكذا كانت صياغته سؤالا وإجابة تلخيصا لوجهة الغرب في الشرق والإسلام منذ بدأ الغرب تاريخه الثقافي فيقول: في الحضارة الشرقية نشاهد الشعور بالسنة والتقاليد وشدة التمسك بهما قد بلغا أوجهما. بيد أن كليهما يبدو هناك في تركيبه متميزا بطريقة خاصة من فكرة التقاليد عند الغرب، فالتقاليد معناها في الشرق: المحافظة على ما هو أصلي وقديم. والتقدم الروحي لا يمكن أن يتم عنده إلا في التفسير والتكيف مع الأوضاع الجديدة، لا في التحويل والصياغة من جديد لما ورثوه ونقلوه. والعلة الرئيسية في هذا إنما هي: الرابطة الدينية، والتي في داخلها يتم تطور الروح في الشرق. والتقليد -أو السنة- لا يمكن نقضها؛ لأنه ينظر إليها على أنها من الوحي وما هو من الوحي ليس في مقدور المتأخرين ولا من شأنهم أن يمسوه؛ لأنه مما بلغ للإنسان من قبل على أنه الحقيقة. ثم رجع المؤلف متسائلا مرة ثانية عن عدم نجاح التراث الهليني في الشرق مرة ثانية: كيف أمكن إذن ألا يغير اقتحام الفكر اليوناني للشرق، منذ نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، هذا الموقف الروحي عند الشرقيين؟ وبالجملة، ولصياغة المسألة هنا في صيغة موجزة نتساءل: كيف أمكن ألا يكون الشرق حتى العصر الحديث قادرا على إيجاد نهضة أو نزعة إنسانية؟ يقول مجيبا: ولقد قدر للشرقيين حينما اتصلوا باليونان أن يجدوا أنفسهم مالكين لثقافة روحية دخلت دور التحجر؛ تبعا لموقفها المحافظ من السنة التقليدية الذي لم يتبدل تبديلا كافيا. فلم يكن ثم ما يتعلمونه من اليونان بل "على العكس من هذا" لم يكن لهم أن يتعلموا شيئا؛ لأن تقاليدهم قد قدسها الوحي، وفضلا عن هذا قد استغرقت الغاية بعدهم الروحي، فبينما أحس الرومان في اتصالهم باليونان أن المثل الأعلى للفضيلة

والمروءة، يمكن أن يسمى به إلى أعلى صورة، صورة الدراسات الإنسانية، ومن أجل هذا أقبلوا على اليونان برغبة في العلم غير محدودة تمتاز بالحرية الباطنية والتفتح، اتجه الشرقيون لا إلى الإنسانية وإنما إلى الظفر بالقداسة وبالنجاة. ولهذا نرى أن المثل الأعلى ذا الطابع الديني المرتبط بالعقائد الثابتة عند الشرقيين لم يسْمُ حينما انكشف له الفكر اليوناني إلى استهداف غايات جديدة، وإنما اشتد في حركته -هو- الخاصة. ولم يكن هذا فحسب: فإن الإمكان الحاسم، الجديد الذي تبدى آنذاك أمام الشرقيين: كان هو استغلال التراث اليوناني من أجل "توكيد" نوازعهم الخاصة. لذا لم يكن طبع الحضارة الشرقية بطابع الهلينية، حركة نهضة أو ميلادا جديدا، وبعثا لقديم، وإنما كان استمرارا في المحافظة عليه وتخليده. فاستفاد القوم في "الشرق" من القوى اليونانية، بإمكان تنظيم هذا الخليط العديم الصورة من المنقولات الأسطورية، والنبوية، والتشريعية، والمثلية، وترتيبه تحت وجهات نظر رئيسية موحدة يسيرة، ثم جعلها تتواتر في صورة أثبت، وقبل كل شيء: جعل فهم تقاليدهم الخاصة وقيمتها مفتوحا أمام غيرهم ممن هم خارج نطاق جماعتهم الحضارية. وفي رأيه أن العلة التي جعلت الأثر اليوناني عقيما في الشرق هي كما يقول: وهكذا نرى العلة الرئيسية أن التراث اليوناني في الشرق، قد كان ذا عقم بالغ حتى الأعماق، وإن لم يكن هذا التراث أقل نفوذا وتعبيرا منه عند الرومان، وهذا العمق لا يمكن أن ننعته إلا بأنه كان مؤلما فما تعلمه الشرقيون من اليونان: أفادهم في الاستغلال العربي له، لا في الظفر بتنشئة جديدة وترقٍّ في الثقافة. ومن ناحية أخرى يتبدى جليًّا الآن: لماذا كان السؤال -الموجه إلى الحضارة الروحية الشرقية- عن العلة في أنها لم تستطع إيجاد نزعة إنسانية تتجدد من جيل إلى جيل؟

يقول- أي المؤلف: لماذا كان هذا السؤال ليس سؤالا صادرا عن خارج أو عن وجهة نظر لا تقوم في طبائع الأشياء نفسها، بل هو سؤال له أساس في جوهر الأمور عينها؟ والنتيجة النهائية هي كما يقول: إن كل من يدخل مع اليونانيين في صلة حيوية يوضع أمام الاختيار بين إحدى خصلتين: - إما أن يتتلمذ لهم -أي لليونانيين- عن وعي وإرادة. - وإما أن لا يفعل. يشرح المؤلف ذلك فيقول: فإن تأثير يونان له من الصولة، وكذلك قوة عقلهم المفكر، المنظم لمجموع الواقع المطلق لنفسه، هو من الإقناع بالنسبة إلى كل إنسان يكون على علم به بحيث لا يوجد ثَم مندوحة عن هذه القوة وذلك التأثير، فمن يلق اليونانيين لا بد أن يتعلم منهم، والمسألة: هي فيما إذا كان سيحول هذه الضرورة إلى إرادة حرة ويعرف كيف يشكر اليونانيين من أجلها أم لا. نلاحظ أن المؤلف بدا يظهر بوضوح ألمه من عدم استفادة الشرق من التراث الهليني، وأخذ يوطئ لذلك بما قاله عن الشرق وهو: إن عدم نجاح رسالة التراث اليوناني في الشرق راجع بالدرجة الأولى إلى تمسك الشرق بتقاليده وتراثه، فما أحب الشرق أن يكون تلميذا، ولا أحب أن يفعل، وإذا كان اليونان أحب أن يكون معلما مسيطرا فإن الشرق قد نبذه. ثم يقول: والشرقيون اعتقدوا الثقة بتقاليدهم، واعتقدوا أنهم لا يستطيعون أن يأخذوا عن اليونانيين إلا ما ينتسب إلى الصناعة الفنية، وليس عليهم أن يتعلموا منهم توجيها روحيا جديدا، ولم يستطع الشرقيون أن يرتفعوا إلى مستوى الاعتراف الخليق بالنفس العالية الحرة؛ الاعتراف بالرسالة اليونانية، التي يشير بها "هوراس" للرومان في قوله: "يونان مقهورة تقهر المتبربر الظافر". وبعد أن انتهى الباحث إلى هذه النتيجة؛ وهي أن الثقافة اليونانية رفضها الشرق، وما أخذ منها كان بمثابة الاستفادة، أو ما أدخلوه على صناعتهم الفنية. فالشرق لم

يتتلمذ على اليونان بوعي وإرادة، لذلك عجز التراث اليوناني أن يترك أثرا للنزعة الإنسانية في الشرق. ولقد كان من الملاحظ حقيقة، ونطمئن إليه، وهو ما أفزع الباحث واقلق عليه باله: هو أن حروب الإسكندر استطاعت أن تغلب الشرق سياسيا، غير أن ثقافته اليونانية لم تستطع أن تقهر الشرق، ولا أن تتغلب عليه، ثم بعد ذلك بدأ منه تجاهل -في حنق وفي عصبية- لا مسوغ له، وليس في طرحه سؤاله؛ إنما في الإجابة عليه، الذي أراد أن يقارن فيما بين ثقافتين: ثقافة روحية يصطبغ بها الشرق اصطباغا، وثقافة عقلية يصطبغ بها الغرب الإغريقي اصطباغا؛ لكن المؤلف يقلق من تلك النتيجة فهو يقول: ومن ثم تتضح الصعوبة غير العادية التي تكمن في مسألة ما إذا كان على المرء أن يرد مركز الثقل في الإنتاج الروحي -وخصوصًا منه الديني والفلسفي- الذي أبدعه الشرق إلى الهليني أو العنصر الشرقي؟ فالمؤلف يستكثر على الشرق أن يكون مبدعًا للروحية تلك التي جعلها منقصة ثقافية، ثم يتابع شرحه فيقول: وتلك مسألة تعرض نفسها بإلحاح خاص في كل درجة من درجات التحول الروحي للمسيحية، وبالنسبة إلى تلك الحركة التي اقتحمت نطاق اليهودية، التي انكفأت على نفسها وغلقت أبوابها باطراد متزايد منذ عهد المكابيين ضد العالم الهليني المحيط، ولكنها في أصولها لم تظهر بعد صورة روحية راسخة، بل ظفرت بها أول مرة بفضل التوغل في أرض هلينية حقًّا. إن هذه المسألة يجاب عنها بصورة جلية منذ القرن الثالث بعد الميلاد لما أن نما المذهب المسيحي في مدرسة الإسكندرية إلى نظام فلسفي استقصيت فيه الذرائع، وهذا الجواب هو أنه ما من أحد يماري في سيادة الفكر اليوناني في علم اللاهوت المسيحي من ناحيته التنظيمية المذهبية بيد أن الإجابة عن هذه المسألة تترجح وتتردد، حينما يتصل الأمر بنشأة تاريخ المسيحية، وأكثر من هذا حينما يتصل بالحركات ذوات الصلة الماسة بها؛ من حيث: التوجيه في النظرية الكونية وتسير موازية لها، وكذلك أيضا حينما يتصل الأمر بالنظرة الإسلامية في الحياة والوجود التي أتت بعد ذلك.

نقول: إن إجابة تتردد وفقا لكون المرء في أحكامه هنا: هل يبدأ من الأسس العقلية التنظيمية لهذه النظرات في الوجود والحياة؟ أو يبدأ -وهذا أقرب بكثير- إلى هذا المستشرق الذي آراؤه سبقت مقدماته من الموقف الذاتي. ونحن نلاحظ عليه تردده عندما أخذ يبين الأثر الهليني على المسيحية واليهودية والإسلام، رأيناه متحيزا كما يظهر تردده، حين أراد أن يقومه؛ حيث تساءل: هل يرده إلى العنصر اليوناني أو العنصر الشرقي؟ ثم بعد تردده نراه يقول: الإنتاج الروحي -وخصوصًا- الديني والفلسفي الذي أبدعه الشرق يرجع إلى الهلينية. أي أن في الشرق ثمرات إبداعية غير أنه أضافها إلى الهلينية، وإذا كان الأمر كذلك؛ أي أن التراث الهليني نجح؟ أليس في هذا ما ينقض نتيجته السابقة وهي أن التراث الهليني لم ينجح في الشرق، ويصبح ما أحصاه على الشرق من نقائص عاقت نموه الثقافي غير حقيقية؛ لأنها إن كانت فيه كامنة فلماذا استجاب لسنة التطور؟ لا شك أنه اعتراف قلق، ذلك الذي جعل المستشرق يعترف "أن في الشرق إبداعا" غير أن حيرته في تساؤله هل هو إبداع راجع إلى العنصر الهليني الذي أعلن أنه فشل في الشرق؟ أو راجع إلى الشرق الذي فيه نقائص تعوق نموه الثقافي؟ حية تنم عن تعصب وتعيننا على وصف نظراته بأنها تحتاج منه إلى مراجعة متأنية مُتَرَوِّيَةً. ثم راح المؤلِّف بعد ذلك يبين الأثر اليوناني في الشرق، واختار في سبيل إظهار ذلك قضية الكون والوجود. فقال: ولشق طريق علينا على الأقل خلال هذه المرحلة لا بد أن يتساءل المرء: أين مجال التاريخ الروحي الحقيقي؟ وإلى أي نقطة يجب أن يتجه انتباهه، حتى يتبين بوضوح: تطور النظرة الكونية، ويقدر على إيضاحها؟ ومن ذا الذي يمكن أن يشك، وهو يضع السؤال على هذا النحو في أن الأسس التصورية للنظرة الكونية وأطوارها هي بعينها التي يمكن تعرفها بيقين، وتعرف درجاتها في تاريخ طور الفكر والتحرر

الذاتي للعقل، بينما التدين الفردي حينما يكون عامرًا بالقوة، والمميزات الخاصة يكون بمعزل عن التحول، بل عن الارتباط الزمني إلى حد أن انتظام أصحابه في خط التحول يصطدم بعقبات لا تكاد تذلل. ولهذا: لا تكاد توجد إمكانيات أخرى للتأمل التاريخي الروحي عند الشرق غير ابتداء هذه الواقعة؛ ألا وهي: أن الكلم اليوناني، والفكر اليوناني -وهذا الأخير يكون ممثلا في صفوة محدودة- بحاجة إلى مزيد من الوصف، وقد أثر كلاهما في الشرق، وحَيَا هناك وما زال يحيا حتى العهد الحديث. وتاريخ الفكر اليوناني في الشرق يقدم لنا الخيط الأحمر، الذي يعين المرء على ضم كثرة من صور النظرة الكونية تحت لواء مركَّب تحولي واحد مليء بالمعاني، وفضلا عن هذا يسمح بربطه ومقارنته بالتاريخ الروحي للغرب. وهذه المصادرالذاتي للعقل، بينما التدين الفردي حينما يكون عامرًا بالقوة، والمميزات الخاصة يكون بمعزل عن التحول، بل عن الارتباط الزمني إلى حد أن انتظام أصحابه في خط التحول يصطدم بعقبات لا تكاد تذلل. ولهذا: لا تكاد توجد إمكانيات أخرى للتأمل التاريخي الروحي عند الشرق غير ابتداء هذه الواقعة؛ ألا وهي: أن الكلم اليوناني، والفكر اليوناني -وهذا الأخير يكون ممثلا في صفوة محدودة- بحاجة إلى مزيد من الوصف، وقد أثر كلاهما في الشرق، وحَيَا هناك وما زال يحيا حتى العهد الحديث. وتاريخ الفكر اليوناني في الشرق يقدم لنا الخيط الأحمر، الذي يعين المرء على ضم كثرة من صور النظرة الكونية تحت لواء مركَّب تحولي واحد مليء بالمعاني، وفضلا عن هذا يسمح بربطه ومقارنته بالتاريخ الروحي للغرب. وهذه المصادرة لا شيء أبلغ في تحقيق صحتها من مجرى التحول الحقيقي للفكر الشرقي تبعًا لكونه قد خضع بكل إذعان: لتأثير العقل اليوناني منذ اللحظة التي تعارفوا فيها، وليس في تاريخ النظرة الكونية في الشرق قوة عقلية واحدة، يمكن أن تقارن في أهميتها وجلال شأنها: بالقوة اليونانية، بل يستطيع المرء أن يذهب إلى أبعد من هذا، ويقول: إن اتجاهات النظرة الكونية -لدى الشرقيين منذ الهلينية- تبلغ في كل حالة، درجة من الوضوح العقلي، وقابلية التعليم والفاعلية، إلا حينما عملت فيها: نظم التطورات العقلية اليونانية، والاستثناء الوحيد في هذا الباب هو: الديانة التشريعية اليهودية. ثم يقرر المؤلف -وهو بصدد بيان الأثر الإغريقي على الشرق: إن نظرات الشرق في الوجود، أثر إغريقي؛ لأنها خضعت في أطوارها: للفكر والتحرر الذاتي للعقل، واستبعد المؤلف أن تكون هذه النظرات، وليدة التدين؛ لأن التدين -في نظره- حينما يكون عامرا بالتقوى، والمميزات الخاصة، يكون بمعزل عن كل طور، ة لا شيء أبلغ في تحقيق صحتها من مجرى التحول الحقيقي للفكر الشرقي تبعًا لكونه قد خضع بكل إذعان: لتأثير العقل اليوناني منذ اللحظة التي تعارفوا فيها، وليس في تاريخ النظرة الكونية في الشرق قوة عقلية واحدة، يمكن أن تقارن في أهميتها وجلال شأنها: بالقوة اليونانية، بل يستطيع المرء أن يذهب إلى أبعد من هذا، ويقول: إن اتجاهات النظرة الكونية -لدى الشرقيين منذ الهلينية- تبلغ في كل حالة، درجة من الوضوح العقلي، وقابلية التعليم والفاعلية، إلا حينما عملت فيها: نظم التطورات العقلية اليونانية، والاستثناء الوحيد في هذا الباب هو: الديانة التشريعية اليهودية. ثم يقرر المؤلف -وهو بصدد بيان الأثر الإغريقي على الشرق: إن نظرات الشرق في الوجود، أثر إغريقي؛ لأنها خضعت في أطوارها: للفكر والتحرر الذاتي للعقل، واستبعد المؤلف أن تكون هذه النظرات، وليدة التدين؛ لأن التدين -في نظره- حينما يكون عامرا بالتقوى، والمميزات الخاصة، يكون بمعزل عن كل طور،

بل من الارتباط الزمني، إلى حد أن انتظام أصحابه في خط التحول، يصطدم بعقبات لا تكاد تذلل. وواضح من اتجاهه أنه يميز بين نظرتين بالنسبة إلى الكون والوجود: - النظرة الدينية: ومميزاتها عدم التطور، والتحير في مصدرها. - النظرة العقلية: ومميزاتها التطور، ويرجع أصلها: إلى اليونان. والمؤلف: إذ يضع هذا التمييز بين نظرتين، نراه لا يبني حكمه عليهما ولا يراعيهما في منهجه فضلا عن أننا نلمح تعسفا منه: حينما أسند نظرات الشرق في الوجود إلى الهلينية، في الوقت الذي حاول فيه -سابقا كما بينا- أن يطعن الشرق بعدم قدرته على التطور والعجز عن متابعة الهلينية كما عجزت الهلينية من وجهة نظره -أن تكون دواء لداء الشرق القعيد عن التطور، فكيف ترقى -بعد ذلك- في نظراته حول الوجود؟ ثم يرجع فيقول: ولهذا نرى المثل الأعلى، ذا الطابع الديني المرتبط بالعقائد الثابتة عند الشرقيين: لم يسمُ حينما انكشف الفكر اليوناني إلى استهداف غايات جديدة، وإنما اشتد في حركته هو الخاصة، ولم يكن هذا فحسب، بل إن الإمكانات الحاسمة الجديدة التي تبدَّت آنذاك أمام الشرقيين: كانت هي استغلال التراث اليوناني: من أجل "توكيد" نوازعهم الخاصة. ولذا لم يكن طبع الحضارة الشرقية بطابع الهلينية حركة نهضة، أو ميدانا جديدا، أو بعثا لقديم، وإنما كان استمرارًا في المحافظة عليه وتخليده". بعدما قرر المؤلف هذا التقرير: نراه ناقضه، وناهضه، وذلك عندما رد "نظرتهم" إلى الكون والوجود إلى الأثر الإغريقي، واستبعد أن يكون وليد تدينهم". ولنا بعد ذلك سؤال يقول: وترى هل تراث الشرقيين الخاص بالوجود والكون يدخل تحت وصف المؤلف لتراث الشرق "أنه خليط عديم الصورة"، "أو أنها نظرات على مستوى فكري عظيم" فينحلها إلى اليونان؟ فإذا كانت الأولى فهي وليدة الشرق، وإذا كانت الثانية فهي أثر يوناني وهذا لعمري قسمة ضيزى.

حقيقة الأمر أن المؤلف يتحامل على الشرق حينما ينحل إليه "كل خليط عديم الصورة". ونراه لا يرى في ذلك استثناء واحدا سوى اليهودية، فيقول: والاستثناء المميز الوحيد في هذا الباب هو -كما سنبين- "الديانة التشريعية اليهودية"، فبهذا الاستثناء بدأ المؤلف يعطى بعضا من الأصول الثابتة للشرق والأساس له في تكوين تراثه وخصائصه، حينما رأى ذلك في الدين اليهودي وهذا أقدم دين شرقي بلغة السماء نعرفه بكتابه. إذا كانت اليهودية مستثناة -وليست كلها بل شريعتها- فما المقابل الذي يقدمه المؤلف ويظهر فيه الأثر اليوناني؟ يقول: وفي مقابل هذا نشاهد مثلا أن الديانة القائمة على عبادة النجوم، ومنشؤها من البابليين، وليست -مطلقا- نتاجا أصليا للتحول الروحي البابلي، وإنما هي بالأحرى نتيجة تعمق في علم النجوم البابلي، والقياسات الفلكية، بمعاونة التصورات اليونانية، والفلسفة اليونانية، وبخاصة: الراقية منها. وقوة النفوذ الهائلة التي كانت للنظرة الكونية النجومية في العصر الهليني لا يجب أن تفهم إلا إذا اتضح للمرء أن اللوغوس اليوناني هو الذي نظم تلك النظرية، وبعث فيها قوة الإقناع. والأمر على هذا النحو -أيضا- فيما يتصل باستمرار تأثير النظرة الكونية الإيرانية الأقدم في الشرق القريب وما وراءه، فالتفكير الإيراني يتضمن بعض الأطوار التوجيهية، ذات القوة الرمزية العظمى، ومضمونها الرمزي الواسع قد جعلتها تبدو أكثر قابلية للتعبير عن الميول الخاصة للثقافة الشرقية بنظرتها الكونية فيها عن غيرها، لذلك كان لا بد لهذه التصويرات الأسطورية المقيدة بالتفكير الأسطوري؛ لكي تصبح رموزًا كلية مفهومة لدى الجميع فعالة، يقول المؤلف: إنه كان لا بد من دخول العقل اليوناني فيها؛ لينظمها على هيئة مذهب محكم في تفسير العالم والتاريخ.

فما قدمه من نموذج، وهو الديانة القائمة على عبادة النجوم؛ أي الديانة الوثنية، واعتبره أثرا يونانيا: نوافقه عليه، بل نوافقه على أن الوثنية التي غزت الشرق، وغزته كان أصلها يونانيا. ثم يقول: ولا سبيل -بعد كل ما قلناه- إلى إيضاح المهام الملقاة على عاتق التاريخ الروحي الشرقي، إلا بالتأمل في أهمية الفكر اليوناني بالنسبة إلى الشرق، ووجوهه الخاصة، أي بالتأمل في ظاهرة انعدام النزعة إلى الشرق، ووجوهه الخاصة؛ أي التأمل في ظاهرة فقدان النزعة الإنسانية في الشرق. ويحاول المؤلف في النهاية أن يبين بوضوح أن السبب في عدم نجاح التراث اليوناني الشرقي: هو عدم اهتمامه بالنزعة الإنسانية، لماذا؟ فيقول: ذلك أن الفكر الشرقي لا يقوى على إدراك عالم محكم إحكاما لا يوصف، منظور إليه بقوة بصيرة دقيقة واضحة، وفيه لكل شيء مكانه، وتدبير الآلهة وفعل بني الإنسان كلاهما: يجرى على نظام واحد طبعي، إن جاز القول؛ إذ إن الفكر الشرقي يوجه كل همه نحو الحاجة للنجاة بالنسبة إلى الذات المفردة الخاصة، ونحو أحدية الله وعلوه على الكون، وقوته وقدرته التي تهيمن على كل الأفعال الإنسانية. وكذلك لن يستطيع أن يفهم هذه اليقينية التي وصل إليها سقراط؛ ألا وهي: أن الحياة الإنسانية الخلقية لا تملأ معناها عن طريق التفكير العقلي الخلقي، أو التأملي النظري الميتافيزيقي، ولكن عن طريق تحقيق مضمون الحياة كله داخل نطاق الجماعة، بينما عند الشرقيين، في العصر القديم، قد أصبح التفكير والحديث عن الأمور الخلقية موضوعا للأحاديث الوعظية، وبهذا فقد القوة الدافعة إلى العمل. ولو شاء المرء أن يعبر في صيغة موجزة عن الحد الذي عنده يقف فهم الشرقيين لليونانيين، لاستطاع أن يقول: إن هذا الحد هو الفكر الكوني عند اليوناني؛ أعني: تصور العالم: على أنه كل محكم الأعضاء، جوهره يقوم في انسجام أجزائه.

فانبعاث الفكر الشرقي لا يهدف إلى تأمل الكون المنظم، وإنما يهدف إلى جمع الصلة بين النفس المفردة والمحتاجة إلى النجاة، وربها. ذلك أنه إذا اقتصر كل الاهتمام على النجاة الشخصية، وعلى التوتر بين الكمال الإلهي، والنقص الإنساني أصبحت العين عمياء عن العالم الخارجي عن الذات الخاصة، ولم يعد ثَمَّ تفكير في نظم العالم الموضوعية. ثم قال: وهنا نشير كذلك إلى وجهة نظر أخرى يجب ألا نغض النظر عنها في السؤال عن عدم تقبل الشرق لتراث اليونان. عاد؛ ليجيب: فإن أتباع الأديان الشرقية التي أثمرا الفكر اليوناني رأوا أنفسهم منقادين إلى هذه النتيجة؛ وهي: أن مضمون الوحي الذي كان من نصيبهم: هو الحقيقة المطلقة بالضرورة. ولبلوغ هذه الحقيقة: كان لا بد أولا من "تأويل" وثائق الوحي في صورتها الأسطورية المنقولة، تأويلا بوجهتين: - وجهة تصور الآلهة وأضدادها ونشوئها وخصوماتها ونسبتها إلى ظواهر كونية. - ووجهة تعدها بمثابة رموز خلقية وتسبغ عليها خيرية النفس وبشريتها وما بينهما من صراع. بعد ذلك نقول: إن المؤلف لا يحاول أن يتراجع، بعدما قدم من شواهد تثبت عقم التراث اليوناني في الشرق؛ سواء أكان هذا التراث لا يتفق معه، أم كان لعدم ميله إلى الأخذ بالنزعة الإنسانية. قلنا: لا يحاول أن يتراجع على الرغم من أنه بات متحيرًا في حكمه على تراث الشرق؛ ليعيد النظر من جديد في تراث الشرق وسيكولوجية التقابل وبين الهلينية؛ على أنه لا يؤخذ من وجهة النظر العامة للمؤلف أن الشرق لم يحتفل بتراث اليونان.

أما سؤال المؤلف الذي بدأ به بحثه: وهو أن نقطة مبدأ الحضارة الشرقية هي اليونان، فكان غرضًا منه إلغاء بحثه. وليس معنى عدم تقبل الشرق للتراث اليوناني تخلفا في الشرق، بل قد يكون كما قلنا: راجعا إلى نوعية الثقافة التي ترجمت كما قلنا. وقد يحلو لنا أن نزكي ثقافة على ثقافة، ولكن من المكروه أن نجعلها المقياس الأمثل، أليس محاولة فرضه هي عين الاستدباد في الرأي؟ والاستبداد مرض يوصم صاحبه بالأثرة ولا يرجي له العلاج منها. وفي ذلك ما يفيد -من خلال منهج بحثه- تورطه في معنى التعصب بشامل معناه: - تعصب وطني. - تعصب ديني. - تعصب لليونانية. لذلك جاء البحث سابقة لا توطِّئ لها مقدماته. ثم نراه يعيب علينا أن نأخذ من الوحي في الوقت الذي نراه يستشهد بسقراط فعاب على الشرق بما أخذ به؟ ثم نأخذ عليه: أنه خلط بين الدين الإسلامي، والدين الوضعي1، وهو يعلم جيدا ما يعني مبدأ التفريق بينهما. وفي النهاية أحب أن أشير إلى نقطة جوهرية بين الثقافة، والحضارة. وإذا كانت الثقافة اليونانية حقيقة كما يتفق الباحثون: لم تتقدم، وكانت نمت نموًّا بطيئًا في الشرق عنه في الغرب، وكانت هي العامل الأول -كما يقولون- لكل تحوُّلٍ حضاري، فكيف نفسر إذن الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها؟ هذا ما لم يُثِرْه المؤلف ولم يتعرض له.

_ 1 فيقول: ... إن خطب كليما نثنس Hone lies clementince هي التي حددت الشعور بالرسالة لدى مؤسسي الدينين اللذين ظهرا في الشرق بعد المسيح؛ ألا وهما: ماني ومحمد.

نقول: إنه قد تنتقل ثقافة إلى حضارة فتتقدم الحضارة ولا تتقدم الثقافة الوافدة، ومنها الحضارة الإسلامية التي قد تكون حددت الثقافة بغايتها الحضارية. فالحضارة افسلاميةن كانت بعد الوحي: عواملها ذاتيةن وخارجية استفادت من الثقافات الأخرى ما وسعها الاستفادة، فتقدمت الحضارة الإسلامية: لغة وفكرا وتاريخا، وجغرافية، وما زال الإسلام مزدهرا، إن كان المسلمون في ضعة وضعف. واصبح لها وزن خاص وخصائص حضارية خاص. إذا أخذنا هذا في الاعتبار لأصبحت دعى "هانز هيترش شيدرط يشوبها روح التعصب لليونانيةن لأن الحضارة ليست مهمتها تنمية التراث الوافد لتعيده مرة أخرى إلى حيث أتى، إنما مهمتها الاستفادة التي تيسر لها مسيرتها وتخدم غاياتها، حتى تحدث آثارها ذكرا بينا فيما يأتي من حضارات. ولذلك كان لابد للثقافة أن تتغير، وأن تكيف نفسها بكيفية الظروف المتغيرة، وأن تلبي المطالب الجديدة، ولذلك لا يمكن أن تظل وفية لماضيها دون حاضرها، غلا حين تكون حياتها غير حقيقية أو تكون ثقافة لا وظيفة لهان وعندما يكون حالها هكذا، تصبح وظيفة المجتمع: رفضها، لأنها أصبحت، لا تتناسب مع وضعه وقدرته. على أية حال: لم تكن الهلينية من أقوى المؤثرات في الشرق والمنطقة العرية فيه: إنما كانت الأديان السماوية: هي الأثر الوحيد والحقيقي للشرق، وأثره البارز على الغرب، أو بمعنى آخر: الأديان -وهي تراث شرقي- آثر تركة الشرق على الغرب، أما مناهجه العقلية فهي اثر يوناني في بعضه. والنتيجة النهائية التي يجب أن يصل إليان غير أن بحثه لم يمهد لها هي كما يقول: "وأتى العرب معهم بإرادة الغزو، وكلمة دينية جديدة لكنهم لم يأتوا بحضارة خاصة يمكن أن تحل محل تلك التي وجدوها في البلاد التي فتحوها، وبقدر ما توغل في المقاطعات القديمة ذات الحضارة وبقدر ما نقلت مراكز سلطانهم من مواطنهم الأصليةك إلى سورية، ومنها إلى العراق، وجاء العرب عيالا على الحضارة العتيقة الراسخة في نفسها ذات الطابع الموحد الذي كان عند من أخضعوهم. وهكذا بدأت تبرز، منذ نهاية القرن الثامن: وحدة الحضارة الإسلامية التي لم تكن شيئا آخر

غير تحول عمره ألف سنة، وكانت القوى الروحية المقومة فيها: هي قوة التراث الهليني. على أي حال بعد أن عرضنا للمد السياسي الهليني ومراكزه الثقافية في الشرق والمنطقة العربية فيه، ثم عرضنا لبحث "هانز شيدر" تبينَّا أن المؤلف مذعور من عدم نجاح الهلينية في الشرق، وكان هذا في نظره ظاهرة مرضية -كما بينا- أنه يتحامل على الحضارة الإسلامية، وعلى الوحي الذي عده عائقًا دون نهضة الشرق، وعده أيضًا من الحواجز الأساس دون قيام النزعة الإنسانية في الشرق، لذلك صار العرب عيالا على الحضارة العتيقة الراسخة. ويقول: وكانت القوة الروحية المقومة فيها هي قوة التراث الهليني. إذا كانت هذه نتائج طبعية ساقه إليها بحثه فلماذا يقول متسائلا: كيف أمكن ألا يكون الشرق حتى هذا العصر قادرا على إيجاد نهضة أو نزعة إنسانية؟ ومعروف على أية حال: أن محاولة الطعن في الشرق، أو الإسلام، كانت رسالة قديمة، قام بها الجيل القديم من المستشرقين، وأصبح الجيل الحديث والمعاصر، يؤدي خدمات جليلة للتراث الإسلامي والعربي. يقول م. رستوفتزف: "وعلى ذلك نرى أن حضارة العصر الهلينستي لم تصبح في أي وقت مزيجًا من الحضارة الشرقية اليونانية وإنما بقيت أو كادت تكون إغريقية صميمة في جوهرها مع إضافة شيء قليل جدًّا من العناصر الشرقية إليها، ولم يكن المظهر الرئيسي الجديد لتلك الحضارة الإغريقية في العصر الهلينستي هو طابعها الشرقي الإغريقي وإنما كان طابعها العالمي، وهذا ما جعلها مستساغة مقبولة لدى مختلف الحكومات الوطنية الجديدة التي ظهرت في كل من الشرق والغرب. ومع ذلك لم تتقمص إحدى الدول الجديدة في الشرق -ومنها بارثيا- باكتريا -والهند- أرمينيا وغيرها- الثقافة الإغريقية تماما، بل بقيت العادات والأفكار الإغريقية طلاء رقيقا يسكو بناء محليا ذا طابع شرقي صميم، وبالإضافة إلى

ذلك نرى الأثر الإغريقي في الشرق قد اقتصر وجوده على المدن وعلى الطبقات العليا من السكان، ولم يكن له أي أثر على الإطلاق على سواد الناس وعامتهم. وكان تغلغله أعمق في حياة الأمم الغربية من الإيطاليين والكلديين وأهل أيبريا والتراقيين ولكن الحضارة اليونانية بقيت هنا أيضًا وفية لنشأتها الأولى ولطابعها الحقيقي، فكانت هي حضارة المدن وساكنيها واستمرت محتفظة بهذا الطابع. وعلى ذلك كانت الحضارة الهلينستية لا تعدو أن تكون مظهرًا جديدًا في تحويل حضارة المدنية الإغريقية فحسب، بل إنه في الممالك الهلينستية التي قامت في آسيا الصغرى وفي سورية ومصر وعلى ضفاف البحر الأسود لم تتأثر الجماهير المقيمة في الريف بالحضارة الإغريقية مطلقا وإنما حرصت على التمسك بعاداتها القديمة وسجاياها وعقائدها الدينية الموروثة1. يقول ديلاسي أولير: إن الثقافة اليونانية لم تنتقل إلى العرب عن هذه الاتصالات الأولى2. ويقول فيليب حتى: ولكن الواقع هو أن الشرق الهيلني كان شيئًا مصطنعًا، فديانة اليهودي: احتفظت بتقاليدها القديمة في وسط هذا الشرق الهليني: وبالإضافة إلى ذلك ترى أن السلوقيين تبنوا العبادات المحلية باشكال هلينية، وأظهر أكثرهم احتراما للآلهة المحلية3. ولكن هذا لا يعني جعل الشرق هلينيا بقدر ما يعني جعل العالم الهليني شرقيا، وأصبح أفراد الجاليات اليونانية بالتدريج: أكثر تأثرا بالحياة السامية من تأثر الوطنيين بالحياة اليونانية، ونجحت الحضارة في سورة الآرامية، وفلسطين اليهودية، بأكثر من المحافظة على مكانتها بوجه عام، فأعطت أكثر مما أخذت. والذي حصل نتيجة إدخال الهلينية: هو تمزيق البنيان الأساسي والفكري الذي كان ساميا صرفا، والسماح للتأثيرات الرومانية بالدخول فيما بعد4.

_ 1 يراجع تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي "1: 23". 2 علوم اليونان ص90. 3 أصبح بعل يسمى: زفس واقيم في معبد أبولون ذلك الإله اليوناني في "وقته" وسط غابة من الشجر حيث تكثر المياه "بيت الماء" وأصبح كمركز للخلاعة فيما بعد. 4 تاريخ سورية ولبنان وفلسطين جـ1 ترجمة: جورج حداد، وعبد الكريم رافق، أشرف على مراجعته د/ جبريل جبور- دار الثقافة بيروت.

اليهود في بلاد العرب

اليهود في بلاد العرب مدخل ... اليهود في بلاد العرب: أ- الهلينستية واليهودية: لقد بدأ شتات اليهود -بعد تخريب أورشليم- على يد البابلين1 عام 588 ق. م. ولجأ كثير منهم إلى مصر، وأفناء المنطقة العربية -وعندما سمح "قورش" بإعادة بناء أورشليم بعد هزيمته للبابليين 538 فتحها لهم، غير أن بعضهم فضل الاستقرار خارجها، ولا سيما بعد أن بنى الإسكندر الأكبر: مدينة الإسكندرية، وهم مع شتاتهم ظلوا يحافظون على دينهم وقوانينهم حتى عهد "أنطيوخوس إبيفانيس 475-164 ق. م"، وقد حاول هذا الملك أن يشربهم الثقافة الهلينية، وأن يدخل عبادة الآلهة اليونانية في أورشليم، وصفتها التوراة "آلهة الغرباء"، يقول البيروني: ولولا أن التوراة حظرت عبادة كل ما دون الله والسجود للأصنام، بل ذكرها أصلا، وخطرها على البال؟ كان يتصور من هذه اللفظة أن المأمور به هو: رفض الآلهة الغرباء دون التي ليست بعبرية2. وأدى صنيعه هذا من جانب اليهود إلى قيام ثورة بزعامة المكابيين، ولم يستطع "أنطيوخوس" أن يقمعها حتى خلع وقتل في سبيلها الكاهن الأعظم "أونياس" الثالث وهرب أيضا: "أونياس" الخامس ابن الكاهن القتيل؛ لينجو من الرجس والفوضى اللتين أشاعتهما سياسة أنطيوخوس. غير أن "بطليموس" أحسن وفادتهم وأعطاهم مبعدا مصريا مهجورا في: "ليونتوبوليس"3؛ حيث أقاموا هيكلا يدعي "أونياس" ربما نسبة إلى "أونياس" الكاهن، على صورة هيكل أورشليم، ولعل الترجمة4 اليونانية للعهد القديم

_ 1 وذلك على يد بختنصر البابلي فكان من أموره على بني إسرائيل وإثخانه فيهم وهدمه لبيت المقدس وغحراقه للتوراة وقتله لأولاد الأنبياء واسترقاقه لنساء ملوكهم ولذراريهم. روجع -الروض الأنف للسهيلي جـ1 ص188. 2 تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أومرذولة ص30 لأبي الريحان البيروني. 3 ليونتوبوليس هي: نيتو على عهد الفراعنة ومحلها الآن -كفر مقدام- بالقرب من مركز ميت غمر من أعمال محافظة الدقهلية وما زالت آثاره للآن تشاهد. قال الشهرستاني ف يالملل والنحل -جـ1 ص199- السامرة فرقة من اليهود هؤلاء قوم يسكنون جبال المقدس وقرية من أعمال مصر. وقال: ولغتهم غير لغة اليهود، وزعموا: ان التوراة كانت بلسانهم وهي قريبة من العبرانيين فنقلت إلى السريانية. نقلو: لعل هي لينتوبوليس. 4 كان يقرؤها يهود مصر أيام فيلون الإسكندري واليهود الذين انشقوا على الربانيين.

وهي التي تعرف باسم السبعينية1 قد وضعت على مراحل متتالية من أجل هذا الهيكل المحلي. أما "كاليجولا" الذي نودي به إمبراطورا في 38 ق. م فقد زينت له أوهامه أنه فوق البشر فطالب رعاياه بتأليهه وإقامة تماثيله في مختلف المعابد، ولعله قد تأثر في حداثة بفكرة تأليه الملوك الأحياء وهي فكرة كانت شائعة في ممالك الشرق الهلينستي ولا سيما في مصر، ولكنها كانت غريبة على الرومان فلم تلق بينهم رواجًا كبيرًا. رفض اليهود الامتثال لأمر الإمبراطور الخاص بإقامة تماثيله في جميع المعابد، ولم يكن من المعقول أن يقبل اليهود تدنيس معابدهم بتماثيل البشر مهما جلَّ قدرهم وهم يؤمنون بإله واحد، فاقتحم الإسكندريون معابدهم ونصبوا فيها تماثيل كاليجولا بالقوة فلما قاومهم اليهود اتهموهم بعدم الولاء للإمبراطور. وكان من البدهي ألا يسكت اليهود على ما أصابهم من هوان تجاوز حد الاحتمال في تلك الفتنة. ففي شتاء 38/ 39/ 40 على الأرجح أوفد اليهود إلى رومة سفارة من خمسة أعضاء على رأسهم "فيلون"، وأوفد الإسكندريون سفارة مثلها على رأسها "أبيون"؛ لكي يعرض كل من الفريقين قضيته على الإمبراطور، وشاء حظ اليهود التعس أن يتلقى كاليجولا وقتئذ نبأ تدمير الجالية اليهودية لمعبد إقامه الإغريق في بلدة "بامنيا" على ساحل فلسطين، فتثور ثائرته ويبعث إلى بترونيوس حاكم سورية يطالبه بصنع تمثال له وتنصيبه في معبد اليهود الكبير بأورشليم. وقد تضمنت مطالب اليهود -فيما يبدو- حرية العبادة وفقا للشريعة الموسوية وتحديد وضع جاليتهم في المدينة أو بالأحرى اكتساب حقوق المواطنة السكندرية، وقد صدموا عندما ابتدرهم كاليجولا بأنهم قوم كفرة لا يؤمنون بألوهيته.

_ 1 وفي مدرسة الإسكندرية التي كانت تتميز بميزات خاصة أتى اتصال الثقافة الشرقية والثقافة الغربية بالثمار في إصدار الترجمة Septugint النسخة الإغريقية لأسفار العهد القديم، وقد أطلقت عليها هذه التسمية؛ لأنه يظن أن سبعين مترجما قاموا بوضعها في القرنين الثالث والثاني، أو ربما تنتسب إلى مجلس الشيوخ Gerousia البالغ عدده واحدًا وسبعين عضوًا لموافقته عليها وقد حرفت الكنيسة المسيحية "العهد القديم" عن طريق هذه التسمية على الأرض "تراث العالم "1: 22".

أجاب الوفد اليهودي بأنهم نحروا الثيران من أجل الإمبراطور مرة عند اعتلائه ومرة أخرى بعد شفائه من مرضه، ومرة ثالثة ابتهاجا بانتصاره في حملته على الرين. وعندئذ قال كاليجولا: قد يكون صحيحًا أنكم قدمتم القرابين من أجلي ولكنكم قدمتموها لإله آخر فما فائدة ذلك، إنكم لم تقدموا القرابين لشخصي1. ولم يفز اليهود منه بطائل؛ إذ صرفهم قائلا: يبدو لي أن من تبلغ بهم الغباوة إلى الحد الذي لا يؤمنون معه بألوهيتي هم أجدر بالرثاء منهم بالعقاب. وبعد أن خلفه بعد اغتياله كلوديوس تراءى ليهود مدينة الإسكندرية أن الفرصة قد حانت لتسوية حسابهم مع الإغريق فتقدموا بمطالبهم وهي حقوق المواطنة الكاملة بها. غير أن مطلب اليهود كان يظهرهم بمظهر المتناقض ذلك أن المدينة اليونانية كانت مدينة وثنية تؤمن بأكثر من إله واحد، وكان الدين فيها مرتبطا بالحياة الاجتماعية والسياسية ارتباطا وثيقا فكان خليقا باليهود أن ينأوا بأنفسهم عن هذه الحياة أو أن يتنازلوا عن دعاواهم بأنهم عبدة الإله الحق الأوحد. لذلك يرجح كثير من الباحثين الآن أن اليهود كانوا منقسمين إلى: - فريق متزمت. - وفريق متحلل بعض الشيء من قيود الشرعية الموسوية ومتأثر بأساليب الحياة اليونانية. ولعله كان هناك حزبان بين الإسكندرانيين: - حزب المتهورين أو المتطرفين. - وحزب المتزمتين أو المعتزلين. وعندما أرسل اليهود بمطالبهم أرسلوا بعثتين إحداهما تمثل الطائفة المحافظة والأخرى تمثل الطائفة المتحررة التي تأثرت بالثقافة وأساليب الحياة اليونانية.

_ 1 مصر والإمبراطورية الرومانية في ضوء الأوراق البردية ص100 د. عبد المطلب أحمد علي -دار النهضة العربية 1974.

وظلت هذه الاشتباكات بين اليهود والإغريق من ناحية وبين الرومان واليهود من ناحية أخرى، إلى أن قامت ثورة اليهود الكبرى وهي أكبر ثورة نشبت بين اليهود في مصر منذ الفتح الروماني في آخر عهد مكسيموس. أخذت علاقة اليهود والرومان في التدهور السريع بعد ثورتهم في فلسطين سنة 66 وتدمير معبدهم الريسي بأورشليم سنة 70، وقد زادها سوءا ذلك القرار الذي أصدره فسبسيان بإرغام اليهود على دفع ضريبة الدينارين لمعبد الإله جوبيتر في روما بدلا من دفعها لمعبد أورشليم، وقراره الآخر بتدمير معبد أونياس في لينتو بوليس بمصر وهو "تل مقدام" الذي ارتابت فيه الحكومة في أنه مركز لنشاط الحركة اليهودية الأخيرة، وصارت أملاكه وهو معبد كان قد شيد حوالي 160 ق. م؛ لمنافسة معبد فلسطين، لذلك قام اليهود وتعمدوا بالذات بهدم معابد وتماثيل الآلهة اليونانية: أبولون، وزيوس، وهكاتي، وغيرهما من المعابد كمعبد إيزيس والمعبد القيصري ودمروا حمامات المدينة وأروقتها المسقوفة وأنديتها وملاعبها وعاثوا في الحقول فسادا حتى أصبحت جدباء، وامتد لهيب الثورة إلى قبرص حتى أن مواطنيها أصدروا فيما بعد قرارا يحرم على اليهود أن تطأ أقدامهم أرض الجزيرة، وتنتهي بوقوف الإمبراطور هدريان في صف اليهود بعد ثورتهم الأخيرة وقضائه بمعاقبة زعماء الإغريق. وكانت ثورة المكابيين على صنيع أنطيوخوس تعني: - عدم إحلال الوثنية محل الدين اليهودي وإقامتها مكانه في معبد أورشليم، هذه الوثنية أراد أنطيوخوس من تطبيقها إخضاع الشرق له سياسيًّا ودينيًّا، ووصف اليهود صنيعه هذا "بالرجس المخرب"1. - عدم سيطرة الهلينية من حيث اللغة والثقافة على لغتهم وثقافتهم. - قيام حركة يهودية قوية تدعو إلى رعاية تقاليدهم العبرية واستعمال لغتهم ضد سيطرة الهلينية وثقافتها. - تضمين دعوتهم أنهم خير الأجناس وعليهم الانفصال عن "الشعوب" غير اليهودية وما فيها وحولها من تطرف.

_ 1 سفر أعمال الرسل.

- لازم قيام هذا التطرف: قيام حركة اليهود الربَّانيين، ويبدو أنها كانت ذات قدرة؛ لأنها تحملت من جانبها عبء دعوة تطبيق الشريعة اليهودية على جاليات اليهود في أي مكان، من مراعاة جميع الطقوس وسائر السنن الشرعية إلى الختان، وفرضًا لازمًا. ثم أصدرت عدة فتاوى تتسم بالجرأة وتخدم الروحين الوطنية والدينية معًا منها: - تحريم قراءة الأسفار المقدسة في البيعة اليونانية. - تحريم قيام أي صلات ودية مع الوثنيين أو غيرهم من المختونين. أصبحت الشريعة الموسوية أكثر صرامة، وازدهارًا بفضل شروح الربانيين. وبهذه الروح القومية الدينية استطاعت اليهودية أن تعمل -وهي في شتاتها مبعثرة- على إحياء دينها، ولغتها، وثقافتها، وترابط جنسها، وهذا من الأمثلة النادرة في التاريخ الإنساني. وبلغ من موقفهم أن الأسفار التي أثر فيها الفكر اليوناني تعتبر لدى اليهود محذوفة؛ لأنها في نظرهم تحمل طابعا رواقيًّا1. ثم أخيرًا كانت الأسفار التي تنسب إليهم وهي -أي: أسفارهم التي تنسب إليهم- أربعة: الأول: وهو أهمها من الناحية التاريخية: يروي الأحداث التي جرت في إقليم يهوذا judee منذ حكم أنطيوخوس الرابع حتى موت سيمون "175 إلى 135 ق. م". الثاني: يتناول قسمًا من الحقبة عينها بصورة موجزة. الثالث: يروي أحداثًا عجيبة خاصة بالملك بطليموس الرابع فيلوباتر، ويعني خصوصا ببيان كيف أن العناية قد أنقذت يهود الإسكندرية من بين أيدي ذلك الحاكم.

_ 1 نلاحظ عندما نقرأ ما كتبه الشهرساني عن اليهودية أو فرقها: عدم وجود مسحة من التراث الفلسفي اليوناني على اليهودية، وينسب الشهرستاني تحيرهم وتفرقهم إلى دعوة موسى عليهم، كذلك لا نجد من قريب ولا من بعيد قضية من قضايا الفلسفة، إنما الذي لاحظناه أن الاختلاف يدور حول الأخذ بالنص أو التأويل، ووراء ذلك كله حبهم لعزلتهم القومية.

الرابع: هو بحث فلسفي ينسب إلى المؤرخ يوسفوس وفيه يجري الحديث عن الشهداء الشباب الذي يطلق عليهم خطأ اسم المكابيين السبعة الذي حكم أنطيوخوس إبيفانوس بإعدامهم لأنهم رفضوا الأكل من لحوم ذبحت للأصنام1. وهذه الحركة الإصلاحية التي قامت ضد الهلينية ووثنيتها، كان من ىثارها عند اليهود: أن خلقت لديهم ميلا طبعيا إلى العزلة القومية منعت بها السيطرة القومية اليونانية، ومما لا يمكن إنكاره: أن سياسة العزلة المصطنعة قوت الإخلاص الديني وأوجدت سموا خلقيا يناقض الانحلال السائد في العادات الإغريقية الرومانية، والإغريقية الشرقية، وكلها أبعدت الأمم عن أي نصيب من الميراث الروحي، هذا من جانب، ومن جانب آخر: أن سياسية العزلة جعلتهم يرون: أن الالتزام بتبشير الأميين بعقيدة موسى لا يعتبر مبدأ من مبادئ ناموسهم كما أنهم لم يميلوا إلى فرضه على أنفسهم باعتباره واجبًا يتطوعون لأدائه. واليهودية بعزوفها عن التبشير؛ لتتفق تمامًا مع تعاليمها التي تقضي بأنها دين للعبرانيين فقطن غير أنها: راحت تبشر بنوع غريب كالسحر، وعلم التنجيم، كان لديهم كتبهم الخاصة في السحر، وتعاويذه ورقاه2. هذا الموقف الصارم، أو التطرف اليهودي أفسح مكانًا لوجهة نظر نقدية عامة معاصرة، تصف الدعوة بالتطرف حين قيامها فتقول3: إن الثقافة اليهودية لا تعدو أن تكون منقولة عن الغير، وإنهم لا يشاطرون مَن حولهم أي شعور بالأُخُوَّة البشرية، بل ينطوون على أنفسهم، وإنهم في الحقيقة ملحدون؟؛ لأنهم يقولون بأن لا وجود في الحقيقة لأي إله إلا "يهوه"، وهي تهمة كانوا هم أنفسهم السبب في إثارتها، بإصرارهم على أن ما تعبده الشعوب الأخرى هو الصورة والتمثال الفعلى، وليس -كما هو الواقع- الله الذي لم يكن التمثال إلا رمزًا له4.

_ 1 الشرق والتراث اليوناني هامش ص32 ترجمة د. عبد الرحمن بدوي. 2 يراجع علوم اليونان ص58. 3 الحضارة الهلينية ص248. 4 كانت العقيدة اليهودية في القرن الأول ذات وضع عجيب: فهي من ناحية نظام يرفض تقبل الأفكار الإغريقية، في حين أنه يفتح الباب على مصراعيه لتقبل مؤثرات الشرق -كعلم التنجيم، وعلم مس الشياطين، والسحر- ذلك أنها كانت تأمل أن تحصل بفضل هذه الأمور على خدام يخدمون روحها. الحضارة الهلينية ص249.

على أية حال كافحت اليهودية كثيرا ضد وجهة نظر "أنطيوخوس" غير أنها وقعت -وهي إذ تحاول الاحتفاظ بمفهوم "المقدس الحقيقي" تحت تأثيرات تصوراتها الذاتية عن سمو جنسها: فضيقت معناه تضييقا جنسيًّا.

عوامل هجرة اليهود إلى الجزيرة العربية

عوامل هجرة اليهود إلى الجزيرة العربية: إن اليهود يرغبون عن الدعوة إلى دينهم على أساس: أن اليهودية للعبرانيين أولاد يهوذا بن يعقوب جنسا، وأتباع موسى دينا، وليست دينا لغيرهم من الأجناس، وأن إلههم وهو: "يهوه"، هو الإله الحقيقي، وغيرهم من الآلهة إنما هو مثل له، وأن كل نداءات التوراة خاصة "بيهود" فهي ليست دينا تبشيريا، لذلك لم يقم الأحبار بالدعوة إليها، وجانب آخر: هو أن عدم استقرارهم السياسي ساعدهم على عدم التبشير، زادهم تمسكا بدينهم. من هنا تعلم أن الديانة اليهودية، التي دخلت في بلاد العرب لم تكن للتبشير، وإنما كانت لمجرد الهجرة عندما انتقلت جماعات اليهود الذين فروا من اضطهاد الرومان في القرن الأول الميلادي "ولا شك أنه كانت هناك أسباب دعت اليهود إلى ترك أوطانهم والنزوح منها إلى البلاد العربية وأهم هذه الأسباب: 1- زيادة عدد اليهود في فلسطين زيادة مطردة، فقد قيل: إنهم بلغوا أربعة ملايين1. 2- اضطهاد الرومان لليهود في القرن الأول قبل الميلاد، ولجوءهم إلى أرض الجزيرة العربية، التي كانت أحب إليهم من غيرها؛ لأنظمتها البدوية الحرة؛ لوجودهم في أقاليم رملية بعيدة، تعوق سير القوات الرومانية المنظمة وتمنع توغلها2. 3- بعد حرب اليهود والرومان سنة 70م التي انتهت بخراب بلاد فلسطين ودمار هيكل بيت المقدس وتشتت اليهود في أصقاع العالم قصدت جموع كثيرة أخرى من اليهود بلاد العرب3.

_ 1 تاريخ الإسلام العام ص163 دكتور علي إبراهيم حسن. 2 "1: 24". 3 تاريخ الإسلام العام.

فاليهودية وجدت في بلادت العرب نتيجة اضطهاد اليهود، وترتب على ذلك أن العرب المجاورين لهؤلاء الأقوام تهودوا دينا أو ثقافة؛ تبعا لمجاورتهم تلك الجموع اليهودية، وكان أصل اليهود باليمن -كما يذهب كُتَّاب السيرة- يرجع إلى الحبرين الذين رافقا تُبَّعًا في رحلته إلى اليمن وهدما البيت المسمى برئام. ومعنى هذا الرأي: أنه يذهب إلى أن اليهودية دخلت وفق دعوة تبشيرية. ولا مانع لدينا أن تكون اليهودية في عصرها الأول كان لها دعوة تبشيرية أو أنها أرادت أن ترد على الاضطهاد الوثني لها، فبشرت؛ لتهدم البيت الوثني المسمى "رئام" وهذا كله إن صحت الرواية. يقول السهيلي صاحب الروض الأنف: غير أنه وجد في الأوس والخزرج من قد تهود، وكان من نسائهم من تنذر إذا ولدت أو عاش ولدها أن تهوِّده؛ لأن اليهود عندهم كانوا أهل علم وكتاب. ورأي يرى أن يهودية اليمن ترجع إلى أجدادهم الذين ظعنوا إلى ذلك القطر منذ عهد سليمان. ومع ذلك لم تستطع اليهودية أن تتغلب على الوثنية في بلاد العرب؛ لأن كثيرا من أحكامها مبني على المشقة فضلا عن الرفض اليهودي للاندماج بالأمم، ثم أخيرا انصراف العرب عن تحصيل مواردهم الثقافية وعدم ميلهم إلى مثل هذا التغيير.

اليهودية في جزيرة العرب

2- اليهودية في جزيرة العرب: وردت لفظة "يهود" معرفة في القرآن الكريم "اليهود". وردت في مواضع من سورة البقرة آية 134، 140، في سورة المائدة آية 18، 51، 64، 82، في سورة التوبة آية 30. وكلها سور مدنية، ولم ترد في سورة من السور المكية، كما وردت لفظة "يهوديًّا" في سورة آل عمران، في شرح ديانة إبراهيم. قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا} ... إلخ، وهي من السور المدنية كذلك. وعبر القرآن عن: "اليهود" وعن مقتضى "اليهودية" بـ {الَّذِينَ هَادُوا} ، {مَنْ كَانَ هُودًا} ، {كُونُوا هُودًا} ، {كَانُوا هُودًا} ، وسورتا: الأنعام، والنحل من السور

المكية، وبناء على ذلك تكون جملة {الَّذِينَ هَادُوا} قد نزلت قبل نزول لفظة "اليهود" في القرآن الكريم. ومن صور المنهج الرفيع في القرآن الكريم: استعمال اسمين عند التحدث عن العبرانيين، فهم تارة: "اليهود"، وتارة أخرى "بنو إسرائيل"، وتقوم عبارة: {الَّذِينَ هَادُوا} في بعض المواضع مقام لفظ "اليهود"، والقرآن الكريم حينما يستعمل الاسمين لا يفعل؛ لأنهما مترادفان، كما يقول مثلا: "المسيح"، و"عيسى بن مريم" بل يطلق عليهم "اليهود"، {الَّذِينَ هَادُوا} في مواضع السخط أو التنديدي بسيئ أعمالهم، أو عند حكاية ما أصابهم من الذلة والعبودية؛ لفساد طويتهم، وسوء نيتهم. أما إذا جاءت في مواضع من القرآن الكريم: تذكر بفضل الله تعالى على هؤلاء القوم ذواتهم، أو اصطفاء الله تعالى لهم، وإسناد الرسالة إلى رجال منهم، وإسباغ الحكمة والنبوءة عليهم ... إلخ فإنه يطلق عليهم عبارة: "بني إسرائيل"، واستعمال هذين الاسمين: مقصود، ولم يأتِ عفوًا، فإسرائيل هو: "يعقوب"، و"يعقوب" نبي من أنباء الله تعالى، ورث عن أبيه "إسحاق" وعن جده "إبراهيم" رسالة الدين الحنيف. ومن هنا لا يتحدث القرآن عن أولاد "يعقوب" -أي بني إسرائيل- إلا بالخير والرضا، فإذا صدر منهم ما يغضب فالقرآن يسميهم اليهود. أما الشيء الذي لم يرد في القرآن: فهو مصطلح "عبري وعبراني" فإنه لم يرد في القرآن مطلقا، وهذا يدل في نظرنا على أن "العبري أو العبراني" ليس خاصا "باليهود" من حيث هم جنس. ولما كانت فلسطين امتدادا طبيعيا للحجاز، كان من الطبيعي اتصال سكانها بالحجاز، واتصال سكان الحجاز بفلسطين، وذهاب جاليات "يهودية" إلى العربية الغربية؛ للاتجار وللإقامة هناك، خاصة بعد فتوح الدول الكبرى لفلسطين، واستيلائها عليها، وهجرة اليهود إلى الخارج فكانت العربية الغربية؛ لاتصالها بفلسطين من الأماكن الملائمة المناسبة لهجرة اليهود إليها وإقامتهم فيها، ولا سيما عند مواضع

_ 1 المفصل جـ6 ص512، 513.

المياه، وفي الأرضين الخصبة الغامرة، غير أننا لا نستطيع التحدث عن هجرة اليهود هذه إلى هذه الأنحاء حديثا علميا معززا بالكتابات والتواريخ، ولم يترك يهود جزيرة العرب لهم أثرا مكتوبا يتحدث عن ماضيهم فيها، وكل ما عثر عليه منهم نصوص معدودة وجدت في اليمن لا تفصح بشيء ذي بال عن "اليهود"، و"اليهودية"، كذلك لم يصل إلينا أن أحدا من المؤلفين والكتبة العبرانيين ذكر شيئا عن يهود الجاهلية، وليس لنا من تأريخ اليهود في جزيرة العرب إلا ما جاء في القرآن الكريم، وفي الحديث وكتب التفسير والأخبار والسير فمادتنا عن تأريخ "اليهودية" في العربية لا ترتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام. ويتبين من روايات المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس" أن: "اليهودية" كانت قد وجدت لها سبيلا بين العرب، وأن بعض ملوك مملكة "حدياب" كانوا قد دخلوا فيها، ويذكر المؤرخ "سوزومين" أن اليهود كانوا ينظرون إلى العرب الساكنين شرق الحد العربي على أنهم: من نسل "إسماعيل" وأنهم كانوا يرون أنهم من نسل "إسماعيل" و"إبراهيم". فهم من ذوي رحمهم، ولهم بهم صلة قربى؛ وكانوا يرجون لذلك دخولهم في دينهم، واعتقادهم دين "إبراهيم" جد "اليهود" و"العرب"، وقد عملوا على تهويد أولئك العرب. ويظهر من مواضع من التلمود أن نفرا من العرب دخلوا في اليهودية، وأنهم جاءوا إلى "الأحبار" فتهودوا أمامهم، وفي هذه المرويات التلمودية تأييد أهل الأخبار التي تذكر أن "اليهودية" كانت في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة وغسان. وذكر اليعقوبي: أن ممن تهوَّد من العرب: اليمن بأسرها، وكان تُبَّع حمل حبرين من أحبار يهود إلى اليمن، وأبطل الأوثان وتهود من باليمن وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن؛ لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام1. وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} أنها نزلت

_ 1 المفصل جـ6 ص514.

في الأنصار، وكانت المرأة في الجاهلية تنذر إن عاش لها ولد أن "تهوده" فتهود قوم منهم؛ فلما جاء الإسلام أرادوا إكراهم عليه فنهاهم الله عن ذلك حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام، أو أنهم لما بقوا على يهوديتهم، وأمر اليهود بالجلاء وفيهم من شق على آبائهم نزول أبنائهم يذهبون مع اليهود، فقالوا: يا رسول الله أبناؤنا وأخواتنا فيهم، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} ، فقال رسول الله: "قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم". وذكر العلماء أيضا: أن ناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني قريظة وغيرهم من "يهود فتهودوا"، وأن من الأنصار من رأى في الجاهلية أن "اليهودية" أفضل الأديان فهودوا أولادهم. فلما جاء الإسلام، ودخلوا فيه أرادوا إكراهم أبنائهم الذين تهودوا على الدخول فيه فنزل الوحي بالآية المذكورة. ويرى بعض المؤرخين اليهود: أن يهود جزيرة العرب كانوا في معزل وانفصال عن بقية أبناء دينهم؛ وأن اليهود الآخرين لم يكونوا يرون أن "يهود العربية" مثلهم في العقيدة، بل رأوا أنهم لم يكونوا "يهودا"؛ لأنهم: لم يحافظوا على الشرائع "الموسوية"، ولم يخضعوا لأحكام التلمود، ولهذا لم يرد عن "يهود" جزيرة العرب شيء في أخبار المؤلفين العبرانيين1. يقول جواد علي: إن عدم ورود شيء عن "يهود الحجاز" في أخبار المؤلفين العبرانيين لا يمكن أن يكون دليلا على عزلة يهود الحجاز عن بقية اليهود فقد أهمل غيرهم أيضا، ولم يشر إليهم؛ لأن التأليف والنشاط الفكري عند العبرانيين كانا قد تركزا في هذه العهود على المستوطنات "اليهودية" في "العراق" وعلى فلسطين وعلى "طبريا" بصورة خاصة، ولم تشتهر الجاليات "اليهودية" التي انتشرت في مواضع أخرى بالتأليف؛ فكان من الطبيعي أن تنحصر أخبار "اليهود" في هذا العهد في هذين القطرين، ولهذا لم يشر إلى يهود الحجاز وإلى يهود بقية جزيرة العرب2. يقول إسرائيل ولفنسون في بيان سبب إغفال ذكر "يهود العرب" في مؤلفات اليهود: "وهناك شهادات من يهود مدينة دمشق وحلب في القرن الثالث ق. م. أنهم كانوا يستنكرون وجود يهود في الجزيرة العربية؛ ويقولون: إن اليهود في جهات

_ 1 المفصل جـ6 ص514، 515، الطبري جـ3 ص10 وما بعدها. 2 المفصل جـ6 ص515، ص516.

خيبر ليسوا يهودا حقًّا؛ إذ لم يحافظوا على الديانة الإلهية التوحيدية، ولم يخضعوا لقوانين التلمود خضوعا تاما" ويقول: "كان العالم "شير" يعتقد أن اليهود في بلاد العرب كانت لهم صبغة خاصة وكانت يهودية في أساسها، ولكنها غير خاضعة لكل ما يعرف بالقانون التلمودي؛ يقول معلقا: وبقيت هذه البطون العربية على أديان آبائها القديمة ولم تعتنق اليهودية، فعدَّت من موالي اليهود. وإذا وفقنا إلى أن نميز بين يهود الحجاز والعرب من وجهة الدين والعقلية، فإن من المتعذر أن نوفق إلى التمييز بين العنصرين من وجهة الأخلاق والعادات والنظم والتقاليد الاجتماعية حتى أصبحوا كأن يكونوا من جنس آخر ير الجنس العربي". ويقول: ولا أعلم في تاريخ اليهود القديم إقليما تأثر فيه اليهود بأخلاق وعادات وتقاليد أبنائه إلى هذا الحدث سوى إقليم الجزيرة العربية1. ويرى بعض الإخباريين: أن ابتداء أمر اليهود في الحجاز، ونزولهم وادي القرى، وخيبر وتيماء، ويثرب؛ إنما كان في أيام "بختنصر" فلما جاء "بختنصر" إلى فلسطين هرب قسم منهم إلى هذه المواضع، واستقروا بها إلى مجيء الإسلام، وليس في الخبر ما يحملنا على استبعاده، فهروب اليهود إلى أعالي الحجاز ودخولهم الحجاز أمر سهل يسير؛ فالأرض واحدة وهي متصلة، والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد أي مانع يمنع اليهود أو غير اليهود من دخول الحجاز؛ ولا سيما أن اليهود كانوا خائفين فارِّين بأنفسهم من الرعب؛ فهم يبحثون عن أقرب ملجأ إليهم يحميهم من فتك بابل بهم، وأقرب مكان مأمون إليهم هو الحجاز. وفي رأي البلاذري: أن اليهود نزلوا يثرب قبل الأوس والخزرج فيقول: رواية عن العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده محمد بن السائب قال: لما هدم "بختنصر" بيت المقدس، وأجلى من أجلى وسبى من سبى من بين إسرائيل لحق قوم منهم بناحية الحجاز، فنزلوا وادي القرى ويثرب، وكان بيثرب قوم من جرهم،

_ 1 تاريخ اليهودية في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام ص13 لجنة التأليف والترجمة.

وبقية من العماليق قد اتخذوا النخل والزرع، فأقاموا معهم وخالطوهم فلم يزالوا يكثرون، وتقل جرهم، والعماليق، حتى نفوهم عن يثرب واستولوا عليها وصارت عمارتها ومراعيها لهم، وبقى اليهود خارجها إلى أن هاجر إليها الأوس والخزرج1. وعن الطائف يقول: كان بمخلاف الطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب، فأقاموا بها للتجارة فوضعت عليهم الجزية. ونقل البلاذري أن أهل "مقنا" كانا يهودا صالحهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ربع عروضهم خشب يصطاد عليه -وربع ثمارهم، وقال: وأخبرني بعض أهل مصر أنه رأى. أما ما ورد في روايات أهل الأخبار عن هجرة بعض اليهود إلى أطراف يثرب، وأعالي الحجاز على أثر ظهور "الروم" على بلاد الشام، وفتكهم بالعبرانيين، وتنكيلهم بهم مما اضطر ذلك بعضهم إلى الفرار إلى تلك الأنحاء الآمنة البعيدة عن مجالات الروم، فإنه يستند إلى أساس تاريخي، فالذي نعرفه أن فتح الرومان لفلسطين أدى إلى هجرة عدد كبير من اليهود إلى الخارج فلا يستبعد أن يكون أجداد يهود الحجاز من نسل أولئك المهاجرين، ومن هؤلاء المهاجرين على رأي الإخباريين بنو قريظة وبنو النضير؛ ساروا إلى الجنوب في اتاه يثرب، فلما بلغوا موضع الغابة وجدوه وبيا فكرهوا الإقامة فيه، وبعثوا رائدًا أمروه أن يلتمس لهم منزلا طيبًا وأرضا عذبة إذا بلغ العالية وهي: بطحان، ومهزور؛ واديان من حرة على تلاع أرض عذبة بها مياه وعيون غزيرة، رجع إليهم بأمرها وأخبرهم بما رآه فقرَّ رأيهم على الإقامة فيها، فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، ونزلت قريظة ومن معها على مهزور، فكانت لهم تلاعه، وما سقي من بعاث وسمورات2. وقد عرف بنو قريظة، وبنو النضير من بين اليهود، بـ"الكاهنين" نسبوا ذلك إلى جدهم، الذي يقول له "الكاهن"؛ وهو الكاهن بن هارون بن عمران على زعم أهل الأخبار، فهم على هذه النسبة من أصل رفيع، ومن نسب حسيب يميزهم عن بقية طوائف يهود، ولهذا كانوا يفتخرون بنسبهم هذا، ويرون لهم السيادة والشرف على من سواهم من إخوانهم في الدين. ويرى نولدكه: احتمال كون بني النضير وبني قريظة من طبقة الكهان في الأصل، هاجروا من فلسطين على أثر الحوادث التي وقعت فيها فسكنوا في هذه

_ 1 فتوح البلدان ص29 للبلاذري -مراجعة: رضوان محمد رضوان. 2 المفصل جـ6 ص517، ص518 الأغاني جـ19 ص94.

الديار، وهناك عشائر وأسر يهودية تفتخر بإلحاق نسبها بالكاهن "هارون" شقيق "موسى" النبي. كذلك يرجع أوليرى كأمثاله من المستشرقين أصل بني قريظة وبني النضير إلى اليهود؛ ويرى أنهم غادروا ديارهم وجاءوا إلى هذه المنطقة في الفترة الواقعة ما بين خراب الهيكل في عام 70 للميلاد، وتنكيل "هدريان" باليهود في عام 132 للميلاد؛ يرجع بعض بقية يهود جزيرة العرب نسبهم إلى الكاهنين وإلى الأسباط العشرة1. ويرى المقدسي أن سبب لجوء اليهود إلى المدينة هو الهروب من الاضطهاد الروماني فيقول: جاءني في الخبر أن طسطوس بن استينانوس الرومي الكافر لما خرب بيت المقدس إحدى المرتين، وتفرقت بنو إسرائيل جاءت قريظة والنضير وهما من صريح ولد "هارون بن عمران أخي موسى بن عمران" حتى نزلوا يثرب وذلك في الفترة؛ وكان نزول الأوس والخزرج إياها زمن سيل العرم لا شك؛ ويقال: إن مسقط يهود إليها من عهد "موسى بن عمران"؛ وذلك: أنه بعث جيشا إلى يثرب وأمرهم أن يقتلوا كل من وجدوا على قامة السوط. قال: فقتلوا إلا غلامًا لم يروا أحسن منه؛ فإنهم استبقوه وانصرفوا إلى الشام. وإذا "موسا" قد ملك، وتبرأت بنو إسرائيل من هذه الطبقة؛ لمخالفة أمر "موسى" واستحيائهم من هذا الغلام، فأقبلوا راجعين إليها واستوطنوا بها فإن كان هذا حقا فقد سبقوا الأوس والخزرج إلى يثرب2. وكان بنو "قينقاع" أول اليهود الذين ناصبوا الرسول العداء، وكانوا يسكنون في أحياء يثرب، وكانوا أغنياء على غير وفاق ووئام مع بقية أبناء قومهم بني قريظة وبني النضير، وقد اشتركوا في يوم "بعاث". ويرى أوليرى احتمال كون بني قينقاع من أصل عربي متهود أو من بني "أدوم"، وقد تكون بعض القبائل اليهودية التي ذكر أسماءها الإخباريون قبائل يهودية حقا أي من الجماعات اليهودية التي هاجرت من فلسطين في أيام القيصر "طيطوس" أو "هدريان" أو قبل أيامها أو بعدها؛ ولكن بعضا آخر منها لم يكن من أصل يهودي؛ إنما كانت قبائل عربية دخلت في دين يهود؛ ولا سيما القبائل المسماة

_ 1 المفصل جـ6 ص524. 2 البدء والتاريخ: البلخي المقدسي مجلد 2 ص130.

بأسماء عربية أصيلة، ولبعض هذه الأسماء صلة بالوثنية تشعر أنها كانت على الوثنية قبل دخولها في دين يهود. والظاهر أنها تهودت إما بتأثير التبشير، وإما باختلاطها ودخولها في عشائر يهودية جاورتها فتأثرت بديانتها. وقد ذكر البكري أن بني حشنة بن عكارمة وهم من بلى قتلوا نفرا من بني الربعة ثم لحقوا بتيماء، فأبت يهود أن يدخلوهم حصنهم وهم على غير دينهم فتهودوا، فأدخلوهم المدينة فكانوا معهم زمانًا، ثم خرج نفر إلى المدينة فأظهر الله الإسلام، وبقية من أولادهم بها وهنالك بطون أخرى عربية الأصل كانت على دين يهود. وقد اشتهر يهود خيبر من بين سائر يهود الحجاز بشجاعتهم، وخيبر موضع غزير المياه كثيره، وقد عرف واشتهر بزراعته ويكثرة ما به من نخيل، وزعم أن يهود خيبر هم من نسل -ركاب- المذكورة في التوراة وأن -يونادب- Jamadeb جندب ابنه تبدى مع أبنائه ومن أتباعه، وعاش1 عيشة تقشف وزهد وخشونة، وأن نسلهم هاجر بعد خراب الهيكل الأول إلى الحجاز حتى بلغوا خيبر فاستقروا بها، واشتغلوا بزراعة النخيل والحبوب، وأنهم أقاموا فيها قلاعا وحصونًا تحميهم من غارات الأعراب عليهم2، وذهب المستشرق أن كلمة خيبر كلمة عبرانية الأصل Kheber ومعناها الطائفة والجماعة، وذهب بعضهم أن معناها الحصن والمعسكر3 وقد ذهب بعض المستشرقين استنادا إلى دراسة أسماء يهود الحجاز عند ظهور الإسلام إلى أن أولئك اليهود لم يكونوا يهودًا حقًّا بل كانوا عربًا متهودين تهودوا بتأثير الدعاة اليهود، ولكن الاستدلال من دراسة الأسماء على أصول الناس لا يمكن أن يكون حجة للحكم على أصولهم وأجناسهم؛ فالفرس والروم والهنود وغيرهم ممن دخل في الإسلام تسموا بأسماء عربية، وبعضها أسماء عربية خالصة4.

_ 1 المفصل جـ6 ص524، ص525، الملوك الثاني الإصحاح العاشر الآية 15-18. 2 المفصل جـ6 ص526. 3 المفصل جـ6 ص526، ص527. 4 المفصل جـ6 ص530.

وتسمياتهم هذه لا تعني أن من تسمى بها كان عربي الأصل، ثم إن كثيرًا من اليهود في الغرب وفي أمريكا وفي البلاد العربية والإسلامية سموا أنفسهم بأسماء غير عبرانية، ولكنهم كانوا وما زالوا على دين يهود؛ والأسماء وحدها لا تكفي في إعطاء رأي علمي في تعيين الأصول والأجناس، ولا سيما في المواضع الكائنة على طرق التجارة والمواصلات وفي الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط. وللمستشرق "ونلكر" رأي في هذا الموضوع، خلاصته: أن أولئك لو كانوا يهودا حقا هاجروا من فلسطين إلى هذه المواضع لكانت حالتهم وأوضاعهم ومستواهم الاجتماعي على خلاف ما كان عليه هؤلاء اليهود1. ولكن اليهود مع ما كان لهم من قلاع وآطام وقرى عاشوا فيها متكتلين مستقلين لم يتمكنوا من بسط نفوذهم وسلطانهم على الأراضي التي أنشأوا مستوطناتهم فيها، ولم يتمكنوا من إنشاء ممالك وحكومات يحكمها حكام اليهود، بل كانوا مستقلين في حماية سادات القبائل يؤدون لهم إتاوة في كل عام مقابل حمايتهم لهم ودفاعهم ومنع الأعراب من التعدي عليهم، وقد لجأوا إلى عقد المحالفات معهم فكان لكل زعيم يهودي حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب المتحضرين2، وكان جل اعتماد اليهود في هذه المنطقة عند ظهور الإسلام على التجارة ومعاطاة الربا والزرع، وبعض أنواع الصناعة كالصياغة، وتربية الماشية والدجاج، وصيد الأسماك في أعالي الحجاز على ساحل البحر الأحمر، واشتهروا بالاتجار بالبلح والبر والشعير والخمر، وكانوا يجلبون الخمر من بلاد الشام، وكانوا يبيعون بالرهن، يرهن المشترون بعض أمتعتهم عندهم؛ ليستدينوا منهم ما يحتاجون إليه، وقد ورد أن الرسول رهن درعا له عند يهودي من أهل يثرب في مقابل شعير كان به حاجة شديدة إليه

_ 1 المفصل جـ6 ص530، ص531. 2 المفصل جـ6 ص532، ص533.

ومن الصناعات التي اشتغل بها اليهود -النسيج وهو من اختصاص نسائهم على الأكثر، والصياغة وقد اختص بها بنو قينقاع، والحدادة وهي صناعة يأنف منها العرب ويزدرونها ويرونها من الحرف الممقوتة الحقيرة1. ويذكر أهل السير والأخبار: أن يهود يثرب كانوا إذا تضايقوا من الأوس والخزرج هددوهم بقرب ظهور نبي يستعلون به عليهم. ففي رواية عن بعض الصحابة أنهم قالوا: كنا قد علوناهم في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون لنا: إن نبيا يبعث الآن نتبعه، قد أطل زمانه نقتلكم معه قتل عاد وإرم، ولما ذكرهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور ونفر آخرون بدعواهم تلك، وبظهور النبي العربي بقولهم لهم: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا؛ فقد كنتم تستفحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته. فكان جواب يهود لهم ما جاء على لسان سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكره لكم، وقد أشير إلى ذلك في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2 [البقرة: 89] . قد ذكر المؤرخ النصراني فيلوستورجيوس Philostorgius في حوالي سنة 425م أن أهل سبأ كانوا يتبعون في السبت سنة إبراهيم، ولكنه ذكر أيضا أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وأن بعضا منهم كان على دين يهود، وأنه

_ 1 أيضا المفصل جـ6 ص535، ص536 وأيضا صحيح البخاري جـ2 ص16، ص45. 2 المفصل جـ6 ص536، ص537.

قاوم رسالة "ثيوفليس" الذي أرسله القيصر قسطنطين 340-361م للتبشير بين الحميريين وذكر المؤرخ -ثيودوروس Theodoruslector وهو من رجال النصف الأول للقرن السادس للميلاد. إن الحميريين كانوا في بادئ أمرهم على دين يهود، دخلوا فيه أيام ملكة سبأ المعروفة بقصتها مع سليمان، بدعوتها إياهم إلى هذا الدين، ولكنهم كما يقول هذا المؤرخ عادوا فارتدوا إلى الوثنية، ثم دخلوا بعدئذ في النصرانية في أيام القيصر أنسطاس Anastasius، ولم يشر هذا المؤرخ إلى وجود اليهودية بين الحميريين كما أنه لم يشر ولا المؤرخ الآخر إلى تهود أحد من ملوك حمير1، وورد في أخبار الشهداء الحمريين أن أحبارا من فلسطين من طبريا كانوا قد جاءوا إخوانهم في الدين يهود اليمن وسكنوا معهم، ومعنى هذا أن الصلات بين يهود اليمن ويهود فلسطين كانت موجودة، وأن يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطينن، ويجب أن يقال مثل ذلك عن يهود الحجاز؛ إذ لا بد أن يكون ليهود الحجاز اتصال بيهود فلسطين وبيهود اليمن، وكيف لا يكون لهم اتصال بهم، وهم جيران فلسطين ولهم تجارات معهم، ثم إنهم على طريق اليمن وفلسطين، فإذا أراد يهود فلسطين الذهاب إلى اليمن أو يهود اليمن الذهاب إلى فلسطين فلا بد من المرور بأرض يهود الحجاز والنزول بهم، وقد كانت نجران من المستوطنات المهمة التي نزل بها اليهود في اليمن وهي مكان خصب، وقد عاش اليهود فيها مع غيرهم من العرب من نصارى وعبدة أصنام، ووجدوا اليهود في مواضع أخرى من جزيرة العرب، وكان بالبحرين قوم من اليهود صالحوا المسلمين مثل النصارى على دفع الجزية عن رؤوسهم2. بدأت خصومة اليهود للإسلام خصومة فكرية؛ هم يرفضون الاعتراف بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن دعوته موجهة إليهم، ويرفضون نبوة في غير بني إسرائيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإيمان بالله وإلى الدخول في دعوته المبنية على الإيمان

_ 1 المفصل جـ6 ص539، ص540. 2 المفصل جـ6 ص540، ص542، وأيضا المعجم جـ1 ص327

بالله رب العالمين، رب العرب وبني إسرائيل والعجم، وعلى الإيمان بنبوته وبنبوة الأنبياء السابقين، ثم تطورت هذه الخصومة إلى معارك وحروب، والحروب كما نعلم تبدأ نزاعا في الآراء والأفكار ثم تتحول إلى صراع ونزاع وقتال1، وعمد اليهود إلى استغلال الأحقاد والبغضاء الكمينة التي كانت كانة في نفوس أهل يثرب من الأوس والخزرج من أيام الجاهلية فأثاروها كما استفادوا مما كان بينهم وبين رجال من المسلمين من الحلف والجوار في الاهلية للاحتماء بهم وللاتِّقاء بهم مما قد يلحق بهم من أذى2، وقد كانت لليهود مواضع يتدارس فيها رجال دينهم أحكام شريعتهم وأيامهم الماضية، وأخبار الرسل والأنبياء، وما جاء في التوارة والمشنا وغير ذلك عرفت بين الجاهليين بـ "المدارس، وبيت المدارس، المدارش" وأطلق الجاهليون على الموضع الذي يتعبد اليهود فيه "الكنيس"؛ كنيسة اليهود تمييزًا لهذه الكنيسة التي هي لفظة خاصة بموضع عبادة3. وقد أخذ الجاهليون مصطلح المدارس من العبرانيين من لفظة مدارش التي هي من أصل درش Dorash التي تقابل درس في العربية، وتؤدي هذه الكلمة المعنى المفهوم من لفظة درس العربية تمام الأداء، قال ابن عباس: دخل رسول الله بيت المدارس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: "على ملة إبراهيم ودينه"، فقال: فإن إبراهيم كان يهوديًّا؟ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبوا عليه"، ويظهر أن هذا المدارس كان من بيوت مدارسهم بيثرب4. وعرفت مساجد اليهود أي المواضع التي كانوا يصلون بها بالمحاريب جمع محراب، وعرف علماء اليهود ورجال دينهم بـ "الأحبار" جمع "الحبر"، وبـ "الربانيين"، وقد وردت الكلمتان في القرآن الكريم؛ المائدة آية 44، 63، وللفظة حبر أهمية كبيرة تشير إلى العلم والمعرفة وإن كانت لا تصل إلى درجة رابي -ربي Rabbi

_ 1 المفصل جـ6 ص545. 2 المفصل جـ6 ص548. 3 المفصل جـ6 ص550. 4 المفصل جـ6 ص550، ص551 وأيضا الطبري جـ7 ص145.

أما الربانيون فهم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي على رأي بعض العلماء الإسلاميين: وقال بعض آخر: الرباني العالم الراسخ في العلم والدين، أو العالم العامل المعلم، أو العالي الدرجة في العلم، وفرق بعضهم بين الربانيين وبين الأحبار بأن جعل الأحبار أهل المعرفة بأنباء الأمم وبما كان ويكون، وذهبوا إلى أنهما من الألفاظ المعربة العبرانية أو السريانية، وهي من الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم في أثناء الكلام على علماء يهود1. وذكر القلقشندي أن المشهور من ألقاب أرباب الوظائف عند اليهود ثلاثة ألقاب؛ الأول: الرئيس وهو القائم فيهم مقام البطرك في النصارى، والثاني: الحزان وهو فيهم بمثابة الخطيب يصعد على المنبر ويعظهم، والثالث: الشيلحصبور وهو الإمام الذي يصلي بهم. وقد أطلق القرآن الكريم على أسفار اليهود أي كتبهم المقدسة "التوراة"، وعرفت بهذه التسمية في الحديث وفي كتب التفسير، وصارت علمًا لها في الإسلام، كذلك أطلقت هذه اللفظة على معابد اليهود، ولم يعرف ورودها في الشعر الجاهلي خلا بيت ينسب إلى شاعر جاهلي يهودي اسمه سماك. ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في أصل كلمة التوراة حتى ذهب بعضهم إلى أنها عربية، ولكن أكثريتهم ترى أنها عبارنية؛ لأن لغة موسى كانت العبرانية، وبهذه اللغة نزلت التوراة، ثم هم يختلفون في تعيين حدود التوراة، فيرى بعضهم أنها خمسة أسفار ويرى بعض آخر أنها أكثر من ذلك وأنها تشمل الزبور ونبوة أشعيا وسائر النبوات لا يستثنى إلا الأناجيل2. والمراد من الكتاب الذي أنزل على موسى والمذكور في مواضع من القرآن الكريم التوراة؛ أي هذه الأسفار الخمسة التي نتحدث عنها، وهو تعبير قرآني لا نستطيع أن نقول: إنه كان من مصطلحات الجاهليين، كما أننا لا نستطيع نفي

_ 1 المفصل جـ6 ص551 ص552، وأيضا تاج العروس جـ1 ص260. 2 المفصل جـ3 ص553، وأيضا اللسان جـ2 ص265 وما بعدها، وأيضًا القراؤون والربانيون 179، المفردات الأصفهاني ص74.

ذلك؛ إذ يجوز أن يكون الجاهليون قد أطلقوه على تلك الأسفار أو على العهد القديم كله بمعنى هذه الأسفار وبقية ما ورد فيها من أخبار الأيام والملوك والأنبياء، وقد ورد في الأخبار عن أبي هريرة أنه كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله". أما الزبور والذبر فقد وردتا في القرآن الكريم ويراد بـ "الزبر" في بعض الآيات مثل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} الكتب المنزلة، وقد وردت الكلمتان في بعض الشعر المنسوب إلى الجاهليين كامرئ القيس والمرقش الأكبر وأمية بن أبي الصلت، وذكر علماء اللغة أن معنى زبر كتب ونقش، ويرى بعض المستشرقين احتمال كونها من الكلمات العربية الجنوبية، ويرى بعض آخر أنها من أصل مزمور Mazmor العبراني، ومزمور في اللهجة السريانية، ومزمور في الحبشية، أخذت الكلمة وأجري عليها بعض التغيير حتى صارت على هذا الشكل1. وقد قال أبو هريرة: الزبور ما أنزل على داود من بعد الذكر من بعد التوراة، وذكر بعض العلماء أن الزبور خص بالكتاب المنزل على داود. وقد ذهب الشعبي إلى أن الزبور الكتاب المنزل على داود، أما الذكر فما نزل على موسى، وذهب آخرون مذاهب أخرى في تفسير المراد من الزبور ومن الذكر ولكن الرأي الغالب أن المراد من الزبور مزامير داود؛ وذلك لنص القرآن على ذلك. وقد تعرض ابن خلدون لموضوع علم اليهود العرب وثقافتهم فقال: إذا تشوقت العرب إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسالون عنه أهل الكتاب قبلهم وهم أهل التوراة من اليهود وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك2.

_ 1 المفصل جـ6 ص554، ص555 صحيح البخاري كتاب التفسير جـ3 ص198. 2 المفصل جـ6 ص556، ص557 واللسان جـ4 ص315، والمقدمة جـ1 ص439.

ولما كانت اللغة العبرانية لغة الدين عند العبرانيين، وبها نزل الوحي على موسى فلا بد أن يكون لعلمائهم ورجال دينهم في جزيرة العرب علم بتلك اللغة وفقه بها، ولكن هذا لا يعني ضرورة كونهم كعلماء طبرية أو قيصرية في فلسطين أو بعض المواضع التي اشتهرت بعلمائها في التلمود بالعراق، ولست أستبعد أن يكون لهم علم بلغة بني إرم أيضا؛ لأن هذه اللغة كما نعلم كانت لغة العلم والثقافة قبل الميلاد وبعده، وبها كتبت كتب عدة من التلمودين، ثم إنها انتشرت بين سواد الناس حتى صارت لغة سواد يهود يتكلمون بها ولو برطانة وبلهجة خاصة هي اللهجة التي يمتاز بها سواد اليهود في كل قطر يعيشون فيه1. ولم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر وإلا لاشتهر أمره وذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر، ولا يمكن أن تكون عزلتهم عن بقية يهود الأقطار المذكورة سببًا كافيًا في تعليل عدم شيوع اسم أحد من هؤلاء، إن قضية عزلتهم عن بقية إخوانهم في الدين هي نفسها تحتاج إلى سند يثبت وجود تلك العزلة، فمواضعهم في أعالي الحجاز على اتصال ببلاد الشام وهي لا تبعد كثيرًا عن مساكن إخوانهم في فلسطين، ثم إنهم كانوا على اتصال مستمر بهم بالتجارة، وقد كانوا يشترون حاصل بلاد الشام من خمور وحبوب وما شاكل ذلك، وينقلونه إلى يثرب، يذهبون إليها للتعامل والاتجار، فكيف يكون يهود جزيرة العرب في معزل عن غيرهم مع وجود الإسفار والتجارة، لا سيما أن أحبار طبرية كانوا يأتون إلى يهود اليمن؛ ليلقنوهم أمور الدين، ولا يستبعد أن يكون من بين أولئك الأحبار من ذهب إلى يهود يثرب أو خيبر أو تيماء. فالقضية -على ما يظهر- ليست قضية عزلة يهود جزيرة العرب عن بقية يهود وانفصالهم بذلك ثقافيًّا وعلميًّا عن بني دينهم انفصالا يؤثر في مستواهم الثقافي والعلمي فيجعلهم دون غيرهم من إخوانهم في العلم والثقافة؛ إنما يظهر هنالك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد فيهم، فيهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم الاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما إليها في العراق أو فلسطين أو مصر، كما أن حالتهم المادية لم تكن على مستوى عالٍ

_ 1 المفصل جـ6 ص558.

بحيث يمكن أن تقاس بالحوال المادية التي كان عليها اليهود الآخرون في الأراضي المشار إليها أو أصحاب تلك الأراضي من غير يهود، ثم إن عددهم مهما قيل فيه لم يكن كبيرًا وقد رأينا أن رجالهم المحاربين لم يكونوا يتجاوزون كلهم في الحجاز كله بضعة آلاف، وفي مثل هذا العدد والظروف والأحوال لا يمكن بالطبع أن تتوافر الإمكانيات المساعدة على البحث والتتبع والتعمق في العلم1. وقد عُرِفَ يهود يثرب بمعرفتهم السحر والاتقاء منه، وبعلمهم بالتعاويذ، فكان المشركون يلجئون إليهم إذا احتاجوا إلى السحر أو إذا اعترضتهم مشكلات يرون أنها لا حل إلا بقراءة التعاويذ عليها، وقد ذكر المفسرون أن اليهود عملوا السحر للنبي وعمله رجل اسمه لبيد بن الأعصم أو بناته من يهود يثرب، وقد أشير إلى سحر اليهود في الحديث2. وقد لجأ العرب إلى اليهود يأخذون منهم الرقى والتعاويذ؛ فقد ورد في الأخبار أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبوبكر رضي الله عنه: ارقيها بكتاب الله يعني بالتوراة والإنجيل، وقد حافظ يهود جزيرة العرب على حرمة السبت، ويوم السبت من الأيام المقدسة التي يجب مراعاة حرمتها، فلا يجوز ليهودي الاشتغال فيه والقيام ببعض الأعمال، ومن خالف حرمة هذا اليوم ودنسه بالاشتغال فيه يكون قد ارتكب جرما عظيما، وقد وردت إشارات إلى يوم السبت في القرآن في معرض الكلام على بني إسرائيل، وأشير في بعضها إلى أخذ موسى العهد منهم بوجوب مراعاة حرمة هذا اليوم، وإلى نقضهم له وعدم مراعاتهم جميعا لهذا العهد وإلى أنهم اعتدوا فيه3. وفي هذه الإشارات دلالة على أن من اليهود عامة من خالف حرمة هذا اليوم فلم ينفذ ما ورد في أحكام شريعه عنه.. ولكن هذا عام غير خاص بيهود العرب الجاهليين، وإنما يشير إلى خروج بعض بني إسرائيل على أحكام دينهم وعدم مراعاتهم لها، وهذا اليوم من أقدس

_ 1 المفصل جـ6 ص559. 2 صحيح البخاري باب السحر، عمدة القارئ 21/ 279 الحديث رقم 77 وما بعده. 3 الأعراف آية 162، النحل آية 124، البقرة آية 65، النساء آية 46 وأيضا التفاسير الآتية: روح المعاني 1/ 256، الطبري 9/ 65، والكشاف 1/ 218.

الأيام في نظرهم، وقد وقف العرب الذين كانوا على اتصال باليهود على بعض أحكام دينهم مثل الرجم بالنسبة للزنا، واعتزال النساء في المحيض، فذكر العلماء أن حكم الإسلام في الحيض اقتصاد بين إفراط اليهود الآخذين في ذلك إخراجهن من البيوت، وتفريط النصارى فإنهم كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، ومثل الدعاء إلى الصلاة عند اليهود بالنفخ في الشبور، ومثل صوم عاشوراء وأعيادهم. وقد اختلف يهود جزيرة العرب عن الجاهليين في الأمور التي حرمتها شريعتهم عليهم في مثل المأكولات كما اختلفوا عنهم في عبادتهم وفي اعتقادهم بوجود إله واحد هو إله إسرائيل وفي أمور عقائدية أخرى واختلفوا عنهم في بعض العادات والمظاهر الخارجية فكان اليهود مثلا يسدلون شعورهم أما المشركون فكانوا يفرقون رءوسهم. ورد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم، وكان النبي يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه. لم يُسلِم من يهود في أيام الرسول غير عدد قليل من المتبينين منهم مثل عبد الله بن سلام، ولم يتعاون معه غير عدد قليل منهم مثل يامين بن عمير بن كعب النضري، ويامين الإسرائيلي، ومخيريق، وكان رجلًا غنيًّا صاحب نخيل، وهو أحد بني ثعلبة بن الفطيون حث قومه على مساعدة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاونته في غزوة أحد1. وكان فيمن أسلم من بني قريظة كعب بن سليم القرظي، وهو من سبيهم في الإسلام ويعدُّ في الصحابة، ولكن لا تعرف له رواية2. وفيمن أسلم من يهود بني قريظة رفاعة القرظي خال صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمها برة بنت سموأل "سموال"، أما أبوها فهو حيي بن أخطب، ويعدّ زيد

_ 1 المفصل جـ6 ص56، ص561، ص562. وأيضا -إرشاد الساري جـ1 ص340 كتاب الحيض، عمدة القارئ 17/ 71. 2 المفصل جـ6 ص564.

ابن سعية "سعنة" في طبقة الصحابة، ويقال: إنه كان أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وأنه كان أكثرهم علماء ومالا، وقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهدة كثيرة وتوفي في غزوة بتوك مُقبلا إلى المدينة. ولم يظهر من يهود اليمن في الإسلام ممن عرفوا برواية الإسرائيليات سوى رجلينن؛ هما كعب الأحبار ووهب بن منبه. فأما كعب فقد أدرك زمن الرسول غير أنه لم يره، ولم يدخل في الإسلام إلا في أيام أبي بكر أو عمر، وهو أبو إسحق كعب بن مانع بن هينوع هيسوع، وقد عرف بين المسلمين بكعب الأحبار وبكعب الحبر من باب التعظيم والتقدير لعلمه. ولم ينسب أد إلى كعب مؤلفان وكل ما نسب إليه فهو مما ورد عنه بالمشافهة والسماع وهو بين صحيح يمكن أن يكون قد صدر منه وبين مشكوك في أمره وُضِع عليه، وفيه ما هو إسرائيلي صحيح أي أنه مما هو وارد في التوراة أو في التلمود أو في الكتب الإسرائيلية الأخرى وفيه ما هو قصص إسرائيلي نصراني وما هو محض افتعال وخلط.

مصادر مناقشة العرب للرسول صلى الله عليه وسلم في مصدر القرآن

مصادر مناقشة العرب للرسول صلى الله عليه وسلم في مصدر القرآن: نسوق هذا النموذج بعدما قدمنا ما تعرضت له المنطقة من اتجاهات فكرية ودينية، يتميز هذا النموذج بأنه جمع لجنة تمثل اتجاه المثقف ثقافة عقلية في مدرسة "جنديسابور"، وهو: النضر. واتجاه رجال الدين اليهودي، وذلك عندما أفلست الوثنية العربية اتجه رجالها إلى يهود يثرب ليسألوهم عن مسائل يختبرون بها الرسول، وذلك كان بعد أن اتخذ الإسلام طريقه في قبائل قريش: من الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، دعا رجال من أشراف قريش من كل قبيلة إلى اجتمع بينهم فاجتمع:

عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث، أخو: بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية والعاصي بن وائل، ونبيه ومنبه، ابنا: الحجاج السهميان، وأمية بن خلف. اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة. قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد، فكلِّموه، وخاصِموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك؛ ليكلموك، فائتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا؛ فهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء؛ وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، ودار ذلك في نفسه حديثا نفسيا حتى جلس إليهم. فقالوا له: يا محمد، إنا قد بعثنا لك؛ لنكلمك، وإنا والله، ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك؛ لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكًا: ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا نراه قد غلب عليك -وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا- فربما كان ذلك، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون".

ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا". قالوا يا محمد: فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا؛ ليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام، والعراق1. فقال لهم رسول الله: "ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتمكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه: فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وأن تردوه عليَّ: أصبرْ لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم"، وقد حكى القرآن ذلك2. قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا: فخذ لنفسك3، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك.

_ 1 وقد أنزل الله عليه قرآنا سأله فيما قومه من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث الموتى؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] . 2 وأنزل عليه في قولهم: خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لنفسه أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ويبعث معه ملكا يصدقه عما ويرد عليه: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا، تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان: 6-10] . وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] . 3 وأنزل عليه فيما قال عبد الله بن أمية: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 89-93] . ورد عليهم فيما عرضوا عليه من أموال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47] .

وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة، يغنيك بها عما نراك تبغي؛ فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم وتتلمس من المعاش، كما نتلمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله: "ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم". قال القرآن حاكيا ذلك منهم1. قالوا: "فأسقط علينا كسفا كما زعمت أن ربك لو شاء فعل، لا نؤمن لك إلا أن تفعل". فقال رسول الله: ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل. قالوا: يا محمد أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به. ثم يقولون: إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة. فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا، حتى نهلك أو تهلكنا. وقال قائلهم: فمن تعبد الملائكة أو بنات الله؟ وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قام عنهم، وقال معه: عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، بن عبد الله، بن عمر، بن مخزوم، وهو ابن عمته: فهو لعاتكة بنت عبد المطلب.

_ 1 قال الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُون} ، فقال عبد الله بن الزبعرى: أكل ما يعبد من دون الله حصب جهنم؟ قال: فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله من قول ابن الزبعرى، فقال رسول الله: كل من أحب أن يعبد من دون الله مع من عبده، إنهم يعبدون الشياطين.

فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا؛ ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك، ويتبعوك، لم تفعل، ثم سالوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله، فلم تفعل. ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم من العذاب: فلم تفعل. فوالله لا أؤمن بك أبدا، حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه، وأنا أنظر إليك، حتى تأتيها، ثم تأتي معك بصك أربعة من الملائكة، يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله إنك لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا آسفا مما كان من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه. فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى، ألا ما ترون منه من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا. وإني أعاهد الله لأجلسن له غدًا بحجر، ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته؛ لأهوي بصخرة على رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا -كما وصف- ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان رسول الله بمكة وقبلته الشام، فكان إذا صلى بين الركنين: البراني، والأسود، جعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول الله يصلي، وقد غدت قريش. فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني.

فلما قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة، فقال: يا معشر قريش إنه والله قد نزل أمر ما أتيتم بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم: غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم: كاهن.. لا والله ما هو بكاهن؛ قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر.. لا والله ما هو بشاعر؛ قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم.. مجنون؛ لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه. يا معشر قريش: فانظروا في شأنكم؛ فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم. وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم فيها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم وإسفندبار فكان إذا جلس رسول الله مجلسًا يذكِّر فيه بالله، وحذر قومه من قبلهم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم إلى: فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، وكان قد تعلم في فارس. ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأنزل مثل ما أنزل الله. وكان ابن عباس يقول: نزل فيه ثماني آيات من القرآن. قول الله عز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . وكل ما ذكر عن الأساطير في القرآن وردت فيه.

فلما قال لهم النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه: عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عنه، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله: فإنهم أهل الكتاب وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة. فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم؛ لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن: فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل: فالرجل متقوِّل، فروا فيه رأيكم. 1- سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول: ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب. 2- وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها: ما كان نبؤه؟ 3- وسلوه عن الروح: ما هي؟ فإن أخبركم فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبر أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها، فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم. فجاءوا رسول الله، فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول: قد كانت لهم قصة عجب. وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وأخبرنا عن الروح؛ ما هي؟

فقال لهم رسول الله: "أخبركم بما سألتم عنه غدا"، ولم يستثنِ، فانصرفوا عنه. فمكث رسول الله -فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة فقالوا: وعدنا محمد غدًا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وأحزن رسول الله مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، والروح في سورة الإسراء. رواية علاقة الرسول بحكمة لقمان: دعا رسول الله سويد بن الصامت إلى الإسلام. فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله: "وما الذي معك؟ ". قال: مجلة لقمان "يعني حكمة لقمان". فقال له رسول الله: "اعرضها عليَّ"، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله علي هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه. وقال: إن هذا القول حسنن ثم انصرف عنه. فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، وقيل: أسلم. ويظهر من المحاورة: يعني مناقشة الرسول في مصدر القرآن: -أن محمدًا: أعلن إعلانا ذاع بين قومه ومسجلا في القرآن: أنه لم يتلقَّ عِلما من إنسان، وسمع ذلك النضر نفسه، وغيره ممن شك فيهم العرب: أنهم يعلمون الرسول، فلم يعلن أي إنسان منهم، أو من اليهود، أو من المسيحيين أنه هو الذي يعلم الرسول فضلًا عن أنه لم يدع أحد منهم ذلك.

- وكما تفيد الرواية أن النضر بن الحارث على ما كان يدعيه من علم تلقاه من مدرسة جنديسابور كان يعلمهم أخبار الفرس فقط. - وسويد بن الصامت صاحب مجلة لقمان سمع منه الرسول وقال له: هذا كلام حسن، ثم سمع الرسول فقال له: إن هذا القول حسن، ولم يدَّعِ سويد أنه علم الرسول أو أن الرسول أخذ منه شيئا. وأن اختيار اليهود له، كان يعني: إظهار علامات النبوة وهم أعلم الناس بها وبدلائلها، وقالوا للنضر: إن أفتاكم فهو نبي مرسل، واليهودية وهي دائما ضد الوثنية الرومانية أمدت الوثنية العربية بعد أن أفلست في جدلها مع الرسول بأسلحة ماضية؛ لتختبره بها، ثم تشاء إرادة الله أن تنتهي الوثنية ومعها اليهودية بأسلحتها ويصير سفراء العرب إلى دعاة على الرغم منهم، فيظهرون علامات النبوة. علاقة القرآن بهما: خلاصة القول: إن القرآن حدد موقفه من اليهودية والنصرانية على حد سواء. أولا: من حيث المبدأ: - اعترف بهما: دينين سماويين، وموسى وعيسى رسولين أوحي إليهما1. - حض على الإيمان بهما: وأن إيمان المسلم لا يصح إلا بالإيمان بهما وبغيرهما من الرسل2. - وضح علاقة الإسلام بهما على أنها تكميل وتتميم وتصحيح3.

_ 1 قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] . 2 قال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84] . 3 قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 11] .

- قام القرآن بما اشتمل عليه من التاريخ الديني للرسالات السابقة عليه بنشر مضمون الكتب السابقة عليه، مظهرا بذلك وحدة السلسلة الدينية1. ثانيا: من حيث التفاصيل - أبدى ملاحظات اساسية عليهما منها: - نزاع بعضهم بعضا: قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} 2. - تفرقهم في العقيدة إلى فرق لكل فرقة كتابها: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 3.

_ 1 قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] . وقال: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] . وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى] . وقال: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20] . ونسوق قولا لفيليب حتى يشهد على حسن معاملة الرسول لأهل الكتاب. "و-كانت الطبقة الثالثة تتألف من أهل الذمة وهم اللذين قبل منهم علىأنه دين منزل، والمراد بين النصارى واليهود والصابئة ذلك أن الإسلام شملهم بالأمان وصانهم بالعهود والمواثيق". وقد أتاح النبي نفسه "انظر آيات سورة التوبة: 29 والبقرة: 99ن 103، وآل عمران: 62، 65 إلخ". للنصارى واليهود هذا الوضع السمح على اعتبار أنهم أهل الكتاب، ومرد ذلك إنما هو إجلال النبي للكتاب المقدس. انظر تاريخ سورية ص98 جـ2. 2 البقرة: 113. 3 الأنعام: 159.

- إهمالهم للتوراة: قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 1. - تحريفهم لكتبهم المقدسة: تحريف في العقيدة: "كقولهم المسيح ابن الله وعزيرا ابن الله"2 تحريفهم مفهوم علاقة البشرية بالله إلى بنوة له قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 3. - تحريفهم في شريعتهم: قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 4. وفي القرآن عن قضية التحريف التي منها: قوله تعالى: أ- {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 5. وقوله: ب- {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} 6. وقوله: جـ- {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 7. وقوله: د- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} 8. ثم بعد ذلك رسم القرآن للرسول الغاية النهائية من بيان ذلك قائلا: {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} 9.

_ 1 الجمعة: 5. 2 من الإنجيل 3 المائدة 4 النساء: 161 5 سورة البقرة: 75 6 النساء: 46 7 البقرة: 146 8 البقرة: 174 9 الشورى: 15

ولهذه الغاية النبيلة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} 1. ولقد كان موقف أهل الكتاب من القرآن عجيبا: فإن وجدوا بعض ما في القرآن يتفق معهم قالوا: أخذه محمد من الكتاب2، وإن وجدوا روايات لا تنتمي إلى كتبهم مع أنها خاصة بتاريخهم قالوا هذا حديث مفتري3.

_ 1 البقرة: 109. وفي عصرنا هذا أخرج يوسف إلياس الحداد سلسلة دروس قرآنية: أ- الإنجيل والقرآن. ب- القرآن والكتاب جـ1 قال الأستاذ محمد عزه دروزه عنهما في كتابه "القرآن والمبشرون": وقد كتب الخوري لكل من كتبه الأربعة، مقدمة برأيه الظاهر وفيها دعوة إلى التفاهم وتبادل الثقة بين: المسلمين والنصارى؛ لأنهم يدينون بدين كتابي متَّحد المصدر والمبادئ والأهداف، غير أنه حشا كتبه بأقوال وبيانات وروايات وتحليلات عن القرآن ومحتوياته ونظمه ولغته وترتيبه وعن شخصية النبي وسيرته ورسالته، وصلتها بأهل الكتاب وتجديد أكثر اليهودية والنصرانية وكتبهما فيها الغريب العجيب المذهل من التخرص والتعسف والتجني والمجازفة وتحريف الكلام واللعب بالألفاظ وعدم التورع عن أقوال فيها افتراء وسوء أدب نحو القرآن ورسوله وكتاب وحيه وأصحابه الأولين وتابعيهم ونسبة الدس والزيادة في القرآن ص726. 2 يقول فيليب حتى في كتابه تاريخ سورية "2: 144": لقد كانت عقيدة التوحيد ويوم الحساب من أروج المواضيع في الأدب القرآني وفي الأناجيل المرفوضة والرسائل الصوفية على السواء، ثم يقول: حتى جعلوا الإسلام من وجوه عديدة وريثا للنصرانية والسريانية. 3 يقول الأستاذ محمد عزه دروزه في كتابه القرآن والمبشرون ص39: على أن هناك أشياء كثيرة وردت في القرآن من هذه القصص ولم ترد في الأسفار المتداولة. ومنها ما ورد في القرآن والأسفار متغايرا في الجزئيات بل وفي الصور المهمة معًا، فليس في سفر التكوين مثلًا ما ورد في القرآن من أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وعصيان إبليس والموسوس لآدم وحواء في الجنة هو الحية في حين أنه في القرآن إبليس، وليس في هذا السفرما ف يالقرىن من قصص إبراهيم مع قومه وتخريب لأصنامهم ونظرته في النجوم وحجاجه مع قومه ومحاولتهم إحراقه في النار وإسكانه بعض ذريته عند بيت الله المحرم أي مكة واشتراك إبراهيم وإسماعيل في بناء الكعبة. وليس في هذا السفر ما في القرآن من محاورة بين نوح وابنه الكافر عدم ركوب هذا في السفينة وغرقه، ومحاورة نوح مع الله تعالى في ذلك، وليس في السفر ما في تمزيق امرأة العزيز قميص يوسف ولا كلام النسوة ودعوة امرأة العزيز إياهن وتقطيعهن أيديهن، وليس في أسفار الخروج والعدد وتثنية الاشتراع التي فيها موسى وفرعون وبنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر وحياتهم في سيناء ما في القرآن من خبر سحرة فرعون والتقاف الثعبان لحبالهم وعصيهم وسجودهم وإيمانهم ومحاورتهم مع فرعون وغرق فرعون وجنوده حينما خرجوا لمطاردة بني إسرائيل. والقرآن يذكر أن الشخص الثاني الذي أراد موسى أن يبطش به هو عدو في حين أن سفر الخروج يذكر أنه عبراني، قال الأستاذ دروزه: ونحن نعتقد أن ما ورد في القرآن ولم يرد في الأسفار المتداولة أو ورد فيها مباينا لما ورد فيه قد ورد في أسفار أخرى كانت متداولة بين أيدي اليهود لم يصل إلينا، وهذه ظاهرة تثبتها الأسفار المتداولة التي ورد فيها أسماء عديدة ليست بين الأسفار المتداولة".

وإذا تقدمت البحوث وعلم الحفائر وأظهرت دلائل تؤيد روايات القرآن وتثبت لهم ما حرفوا في كتبهم بالزيادة أو الحذف -وهذا ما قاله القرآن عنهم- دعوا إلى التفاهم وتبادل الثقة ما دمنا ندين بدين واحد، من حيث المصدر والغاية1. وحقيقة أن الدعوى إلى التفاهم اشتدت في عصرنا، ولكنها دعوى مغلوطة؛ لأننا نؤمن بالمسيحية واليهودية وبالأديان السماوية مع الإسلام على حد سواء، فليس بين الإسلام والتوراة والإنجيل أزمة ثقة، أما هم: فإننا نراهم يعانون أزمة الثقة بينهم كطوائف وبين اليهودية كدين، وهذا قديم تاريخيا، ثم أخيرا بينهم جميعا وبين الإسلام، أما نحن المسلمين فبراء منها؛ لماذا؟ لأن الدعوة طرحها القرآن -وما زالت مطروحة- وعليهم الاستجابة لها، وبالتالي فالمشكلة التي بيننا وبينهم هي في مدى قدرتهم على الاستجابة نحو الكلمة السواء2.

_ 1 وعجبنا عندما وقف البابا شنودة: ونادى بدعوة التعاون بين الأديان السماوية، ثم ذكر شخصيات إسلامية تاريخية ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فهل بذلك صدق مع نفسه أو صدق مع دعوته؟ أو نقض بنفسه وفي نفس دعوته ما دعا إليه؟ 2 أما عن عوائق التفاهم فهي كما ذكرها الإمام عبد الحليم محمود ردا على رسالة كان قد بعث بها إليه د. ميجل دي إيبالثا سكرتير عام الصداقة الإسلامية المسيحية "مدريد أسبانيا" والرسالتان كما يلي: السيد المحترم صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فيسر جمعية الصداقة الإسلامية المسحية في مدريد أن تتوجه إلى فضيلتكم؛ لتشرُف بإخباركم بما استقر عليه الرأي من انعقاد مؤتمر قرطبة العالمي المسيحي الثالث خلال عام 1979، إن شاء الله. وقد رأت إدارة الجمعية اختيار موضوع محمد وعيسى ملهمين للقيم الاجتماعية المعاصرة بالنسبة لمسلمي اليوم سواء برسالته وعقيدته ودعوته، أو بشخصيته وسلوكه ونفسيته المثالية. بينما يشرح المسيحيون كيف يعبر عيسى عليه السلام عن القيم الاجتماعية نفسها عند المسيحي اليوم، ورغبتنا أن يدرس هذا الموضوع مجموعة ممن يعيشون في مجتمع متكافل يفيض بالمودة والوفاق، وإن اختلفت عقائد مواطنيه وتنوعت أديانهم. وسوف يتولى عملية تنظيم وإعداد المؤتمر من الجانب المسيحي الكليات المتخصصة في علوم اللاهوت، نذكر منها خاصة كلية اللاهوت بمدريد والجامعة البابوية في روما، ويعدّ الموضوع -بمشيئة الله- من الجانب الإسلامي الجامعات المتخصصة في بعض البلدان الإسلامية ومؤسسات إسلامية وشخصيات مسلمة، يستوي في ذلك من يعيشون داخل أسبانيا ومن يقيمون خارجها. ونعتقد أنه من الممكن دراسة رءوس الموضوعات التالية في نطاق الموضوع العام للملتقى وهي: الحرية والعدالة والمساواة في مختلف مظاهرها وجوانبها المتعددة في هذا الدين أو ذاك، ولا يعني هذا -بطبيعة =

.....................................................................................................

_ = الحال أن هذه هي الكلمة النهائية، على العكس نحن نتوجه إليكم منذ الآن وفي لحظة نشأة الفكرة آملين أن أن تثروا الموضوع بما تقترحونه وأن تتفضلوا بإضافة ما ترونه مفيدا ونافعا، ولسنا نشك أنكم ستزودوننا بسديد الرأي وصائبه -بإذن الله؛ فأنتم أدرى بهذا الحقل منا، ولكم في هذا الميدان خبرة قد لا تتوفر للكثيرين بحكم احتكاككم بالمجتمعات، وجهودكم في القارات المختلفة، وقد سبق أن شرفتمونا حين تفضلتم بإيفاد وفد مثَّل بلادكم في مؤتمر قرطبة الإسلامي المسيحي الأول الذي عقد في عام 1974م. وما نبغيه في هذه المرحلة -مرحلة الإعداد والدراسة- هو النصيحة وتبادل الرأي، والاستفادة بالمشورة دون إلزام أو التزام بحضور المؤتمر، وسوف نتصل بكم في مرحلة أخرى إن شاء الله من أجل توجيه الدعوة لحضور جلسات الملتقى نفسه إذا رغبتم في ذلك. وفي انتظار كريم ردكم نرجو أن تتقبلوا خالص تحياتنا وأطيب أمنياتنا بالصحة والسعادة. وسلام الله عليكم وتحياته ورحمته وبركاته.. سكرتير عام جمعية الصداقة الإسلامية المسيحية "إمضاء" دكتور: ميجيل دي إيبالثا. مدريد. إبريل 1978م بسم الله الرحمن الرحيم السيد المحترم: د. ميجل دي إيبالثا تحية طيبة وبعد، فقد وصلني خطابكم المؤرخ: إبريل 1978م. وإني أشكر لكم هذه الرغبة في التفاهم بين المسلمين والمسيحيين وإثراء الفكر المعاصر بالحلول التي أوحاها الله تعالى إلى محمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم، وذلك فيما يتعلق بالمشاكل المعاصرة. وقد وصلني أخبار المؤتمرين السابقين. وأحب أن أنبه، في مودة، ومن أجل تفاهم عميق إلى بعض الأمور: 1- إن الإسلام -منذ أن بدأ- خالف الجو العالمي: اليهودي في أمر عيسى عليه السلام؛ لقد أعلن الإسلام مباشرة تقديره واحترامه لعيسى وأمه؛ وأما عيسى عليه السلام فهو وجيه في الدنيا والآخرة وأما أمه فهي صديقة. نبوة عيسى عليه السلام جزء من إيمان المسلم وبراءة أمه وطهرها جزء من إيمان المسلم، ولم يقف الإسلام من عيسى عليه السلام ومن موقف اليهود الذين ما زالوا على موقفهم إلى الآن من عيسى وأمه؛ لقد افتروا -وما زالوا- على عيسى وعلى أمه ورموهما ببهتان شنيع أما الإسلام فمجدهما وما زال مستمرا في تمجيده لهما. فماذا لقي المسلمون من المسيحيين في مقابل ذلك؟ 2- أنه لا بد من الاعتراف بالدين الإسلامي وبرسوله حتى ينال المسلمون في أوربا ما ينال اليهود من الاعتراف بأعيادهم وبشعائرهم وأنه لا يتأتى التفاهم بين أتباع رسول يحترمه المسلمون هو عيسى عليه السلام وأتباع رسول لا يعترف به المسيحيون وهو محمد صلى الله عليه وسلم. 3- إن المسلمين والمسيحيين يعملون على مقاومة الانحراف والانحلال والمادية والإلحاد، وكان يجب أن يسيرا في خط متعاون متساند ضد التيارات المنحرفة ولكن للأسف -يسير المسيحيون في طريق تنصير المسلمين بقوة، فهم يعملون ليل نهار على أن ينصروا المسلمين في كل مكان في العالم، وكل الدول وأمريكا ترسل إرساليات؛ لتنصير المسلمين بأسلوب مكشوف واضح أو بأسلوب خفي مستور، ويضيق المسلمون بذلك ضيقًا شديدًا، رغم ذلك فإن ملايين الجنيهات تتفق في سعة للتنصير بكل الطرق. =

.................................................................................

_ = ومما هو ملاحظ أن الدول الإسلامية ليس لها إرساليات تبشيرية وقد أرسل المسيح عليه السلام؛ لهداية خراف بني إسرائيل الضالة، ومع ذلك فإن المسيحيين تركوا أمة بني إسرائيل الضالة، وأخذوا يعملون على تنصير المسلمين تساعدهم الثروة وتساندهم وسائل الحضارة الحديثة. ولو حصروا نشاطهم على تنصير الوثنيين لما أثار ذلك ضيق المسلمين الشديد وكراهيتهم للأسلوب ولموضوع التنصير نفسه. 4- والمسلمون أقليات في بعض الأقطار المسيحية مثل الفلبين، وهذه الأقليات المسلمة ينكل بها باسم المسيحية؛ تؤخذ أرضها وييتم أطفالها وتترمل نساؤها، ولا تجد إلا ارتياحا في نفوس الأغلبية المسيحية، ونحب أن ينتهي التنكيل بالمسلمين في الأقطار التي بها الأغلبية المسيحية؛ نحن نحب أن ينتهي ذلك إنسانيا، ونحب أن ينتهي ذلك دينيا. 5- وفي المؤتمرات التي تعقد في أسبانيا وغيرها هناك أسلوبان للحديث: أ- التزام العقل، وهنا لا يتحلل المسلمون من مبادئ دينهم، فيتناولون المسيح عليه السلام وأمه بالأسلوب العقلي، فيكون موقفهم منهما موقف اليهود: يقولون على مريم وعلى ابنها ما يضيق به المسيحيون ضيقا شديدا. ويقولون على المسيحية نفسها ما يضيق به المسيحيون ضيقا شديدا. ولكن المسلمين في هذه المؤتمرات يتبعون مبادئ دينهم فيحترمون المسيح عليه السلام وأمه، أما المسيحيون فإن البعض منهم لا يبالي، فيتحدث عن رسول الإسلام بما يضيق به المسلمون، فلا تكون هذه المؤتمرات وسائل تفاهم، وإنما تكون وسائل تنافر، وذلك كما حدث في المؤتمرين السابقين من بعض المسيحيين. ب- التزام ما تمليه روح التفاهم، فلا يساء إلى المسلمين في مقدساتهم. 6- وأحب أن أقول: إن الإسلام هو العامل الأكبر في تثبيت المسيحية حين اعترف برسالة عيسى عليه السلام، احترام أمه عليها السلام.. فماذا قدم المسيحيون؟ لا شيء!! بل على العكس من ذلك لقد هاجموا وما زالوا يهاجمون رسول الإسلام ومبادئ الإسلام فهل يمكن مع ذلك التفاهم؟ 7- وأحب أن أقول: إن الإسلام اعترف بوجود المسيح عليه السلام وبرأ أمه، ومع ذلك فقد قوبل بجحود لا مثيل له، وما زال يقابل بهذا الجحود من المسيحيين على أكبر خدمة أديت للمسيح عليه السلام. وبعد؛ فإني أحب صادقا أن نتعاون في صد كل انحراف وأحب أن أقول: إنه لولا تقديري لكم لما كتبت لكم هذا وإنني يسرني أن أقرأ لكم. سأتحدث إليكم عن رأيي في موضوع المؤتمر في المستقبل إن شاء الله. ولكم تحيتي وتقديري "د. عبد الحليم محمود" شيخ الأزهر نشر في مجلة الأزهر. الجزء الثالث. السنة الخمسين رجب 1398هـ الموافق يونيو 1978م.

بيد أن موقفهم السيكولوجي ما زال كما قرره القرآن في قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} . فالحرب الصليبية -وهي تعتبر أول غزو مسلح ذي شكل ديني قامت به أوروبا لغزو الإسلام في داره- جعلت هدفها الظاهر الدعوة التبشيرية للمسيحية كما هو واضح في اسمها -وفي حقيقة الأمر كانت أطماعا في لبن الشرق وعسله- والدعوة التبشيرية لمن؟ للإسلام، وتلك دعوة في ظاهرها مغلوطة فضلًا عن رفضها من حيث المبدأ من عدة جوانب؛ لأن دين الإسلام يعترف بالأديان السماوية ويعتبر الإسلام نفسه أنه مكمل لها، وعلى هذه الأديان دراسة العلاقة التي قررها الإسلام، ومن حيث دولة الإسلام ذات السيادة؛ فإنها تعترف بالدين المسيحي وتحترم المسيحية، فغزو أوروبا لدولة الإسلام كي تحملها على الاعتراف بالدين السماوي غير وارد. وأما من ناحية علاقة الإسلام -من كونه دينًا ودولة- بالأقليات الدينية فإن حقوقهم قد كفلها الإسلام وباتوا إخوة مع المسلمين فغزوهم؛ لتأمين هذه الأقليات غير وارد أيضا كأسباب لغزو مسلح. لذلك قلنا: إن الصليبية حملت الصليب رمزا للتعذيب، ولم ترفع الكتاب رمزا للحب والسلام. وفي النهاية يقول كارلو نللينو1: التشريع عند النصارى عمل بشري ليس له ارتباط متين بأقوال الإنجيل، أما التشريع في الإسلام فلا يتصور إلا كفرع من العلوم النقلية الدينية؛ أصوله في القرآن، والسنة، والإجماع. فلهذا السبب أيضا تنطوي كتب الفقه الإسلامية على العبادات التي لا مكان لها في فقه الأمم النصرانية، وكفى ذلك برهانا على عظيم شأن القرآن في الهيئة الاجتماعية الإسلامية، ودخول أحكامه في أمور دنيوية فقط عند النصارى.

_ 1 تاريخ الآداب العربية: كارلو نلينو، ط2. دار المعارف ص99.

ومما ذكرته كتب التاريخ الإسلامي عن علاقة المسلمين بالمسيحيين -وفق التوجيه النبوي ما ذكره ابن سعد في طبقاته عن كتبه ورسائله إلى الأساقفة وديار المسيحية في العرب وما أوصى به سفراءه، يذكر ابن سعد فيروي: وكتب رسول الله لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم جوار الله ورسوله لا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته ولا كاهن عن كهنوته ولا يغير حقًّا من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه ما نصحوا أو أصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين1. وكتب إلى ضغاطر الأسقف: سلام على من آمن، أما على أثر ذلك فإن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الزكية وإني أومن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى ابراهيم وإسماعيل ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. والسلام على من اتبع الهدى ... وفي بعض كتبه لأهل نجران يقول صلى الله عليه وسلم: ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وارضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبيعهم وصلواتهم لا يغير أسقفا عن أسقفيته ولا راهبا عن رهبانيته ولا واقفا عن وقفانيته وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس ربا ولا دم جاهلية ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين. إلى أن قال: وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدا حتى يأتي الله بأمر إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم2.

_ 1 طبقات بن سعد "1: 266". 2 طبقات بن سعد "1: 266".

المسيحية في بلاد العرب

المسيحية في بلاد العرب مدخل ... المسيحية في بلاد العرب: 1- الهلينستية وآباء الكنيسة: يقول حتى: في الوقت الذي كان الناس في العالم ينتجهون بأبصارهم ناحية "روما" على أنها سيدة الدنيا ومحور نشاطها؛ وفي الوقت الذي كانوا ينظرون بدهشة وذهول إلى عرش قيصر وجلال مجده، في هذا الوقت ولد طفل في "مذود" في مدينة قابعة في زاوية من زوايا ولاية صغيرة تابعة للإمبراطورية الرومانية؛ ولكن "المذود" هذا خلد على مر الزمن؛ بينما أعمل العدم في إمبراطورية روما معوله؛ أما المولود فهو "يسوع" وهو اسم عبري معناه: "يهوه هو الخلاص". ولم يذكره مؤرخ لاتيني كلاسيكي معاصر سوى: مؤرخ واحد اسمه "تافيطس" وذلك عندما تكلم بصورة عابرة عن رجل يدعى "المسيح" وهي لفظة آرامية معناها "الممسوح بالدهن" وهي علامة على "النبة أو الملوكية". وهذا المسيح هوالذي حكم عليه الوالي "بنطس بيلاطس" بالموت في عهد "طياريوس قيصر" حوالي 27م. وقد طبق السيد "المسيح" تعاليمه، ومارسها في حياته؛ ومن أجلها مات على الصليب، وعلى وجه العموم نستطيع أن نقول: إن تعاليم المسيحية الجديدة أمدت البشر بنظرة جديدة إلى الحياة، كما أنها أكدت على ضرورة تكريس الذات تكريسا لمحبة الله، ومحبة الإنسانية، وكانت سيرة "المسيح" على الأرض خير مثال تجسدت فيه هذه المثل بصورة واقعية، وما كان للمسيحية أن تنتشر هذا الانتشار لو لم يكن في رسالتها أجوبة عن أمثلة يسألها الناس عن جوهر الحياة ومعناها، وعن الموت ومعناه: أجوبة ترضي فضول السائلين فكريًّا وروحيًّا؛ لأن العصر الذي ظهرت فيه المسيحية كان عصرا يتمخض بقلق فكري وروحي، وكان من الطبيعي أن يسأل الناس عن الحياة والموت وعن أسرار هذا الكون. أما الديانات الإغريقية الرومانية فكانت تعد بالخلود قلة من الناس هم الذين خدموا أمتهم، وأحسنوا إليها، كما أن أسرار الديانات الشرقية القديمة كانت وقفا على نخبة من الناس.

أما المسيحية فقد كانت على نقيض هذه الديانات؛ كانت ديانة للجميع بمثلها وأخلاقياتها ومعتقداتها الراسخة، وبتعاليمها عن الحياة الثانية. ولفظة "النصرانية، نصارى" التي تطلق في العربية على أتباع المسيح من الألفاظ المعربة، يرى بعض المستشرقين أنها من أصل سرياني هو نصرويو، نصرايا Nosroya-Nasroya ويرى بعض آخر أنها من Naerenes التسمية العبرانية التي أطلقها اليهود على من اتبع ديانة المسيح، وقد وردت في العهد الجديد في أعمال الرسل حكاية على لسان يهود، ويرى بعض المؤرخين أن لها صلة بالناصرة التي كان منها يسوع حيث يقال يسوع الناصرين أو أن لها صلة بـ الناصرين Nasarenes إحدى الفرق القديمة اليهودية المتنصرة، وقد بقى اليهود يطلقون على من اتبع ديانة المسيح "النصارى"، وبهذا المعنى وردت الكلمة في القرآن الكريم، ومن هنا صارت النصرانية علما لديانة المسيح عند المسلمين. ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في معنى هذه الكلمة وفي أصلها هي من قبيل التفسيرات المألوفة المعروفة عنهم ف يالكلمات الغريبة التي لا يعرفون لها أصلا، وقد ذهب بعضهم إلى أنها نسبة إلى الناصرة التي نسب إليها المسيح1. وأن قدماء النصارى حينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم كانوا يقولون. تلاميذ المسيح؛ ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى المسيح نظرهم إلى معلم يعلمهم، وكذلك نظروا إلى حوارييه، فورد تلاميذ يوحنا وقصدوا بذلك النصارى2. أما في القرآن الكريم وفي الأخبار فلم ترد هذه اللفظة اليونانية الأصل ولهذا نجد أن العربية اقتصرت على إطلاق نصارى، نصراني، نصرانية على النصارى تمييزا لهم عن أهل الأديان الأخرى.

_ 1 المفصل جـ6 ص582، 583 وأيضا غرائب اللغة ص207، أعمال الرسل الإصحاح 24 آية 5، اللسان جـ7 ص68، المفردات ص514. 2 المفصل جـ6 ص584، إنجيل مرقص الإصحاح الثاني آية 18.

أما مصطلح عيسوي، مسيحي فلم يعرفا في المؤلفات العربية القديمة وفي الشعر الجاهلي، فهما من المصطلحات المتأخرة التي أطلقت على النصارى وقد قصد في القرآن الكريم بـ أهل الإنجيل1 النصارى؛ إذ لا يعترف اليهود بالإنجيل، وقد أدخل علماء اللغة اللفظة في المعربات2.

_ 1 المائدة آية 47. 2 المفصل جـ6 ص585، ص586.

مدرسة الإسكندرية واللاهوت المسيحي

مدرسة الإسكندرية واللاهوت المسيحي: كانت الإسكندرية مهد الأفلوطوينية، وأكاديمية الإسكندرية مرضعتها، وكان من حسن طالع المسيحية التي ورثت كثيرا من الفلسفتين: "الفيثاغورية والأفلاطونية المحدثة" أن مال إليها منذ بدء عهدها جمهور من كبار المفكرين البارزين في العالم الروماني الهليني؛ ففي مدينة الإسكنرية كانت تلتقي التيارات الفكرية من: يهودية ومسيحية ووثنية فتصطرع حينًا، وتتفق حينًا آخر، تألفت مدرسة فكرية تعني بتعليم العقائد الدينية وإليها يعزى الفضل في تقدم المسيحية الفكري. بولس الرسول: بدأت عملية إدخال العناصر الهلينية بالرسول "بولس" الذي كان رجلًا يهوديًّا ارتد عن دينه، واعتنق الهلينية مذهبا فكريا، ثم جاء من بعده آباء الكنيسة الذين كانوا أيضا أتباع الهلينية، وكان "بولس" قد سعى قبل ظهور آباء الكنيسة إلى تحرير الديانة الجديدة من قيود التقليد اليهودي المتعنت. وبالتوفيق بينها وبين الفلسفة الإغريقية أعدت المسيحية نفسها؛ لتكون نواه قوة عالمية، وجعلت من نفسها جسرا يربط، بين الفكر الشرقي والغربي راحت ترسي قواعدها في حوض المتوسط الشرقي؛ ومن هناك أخذت تبث رسالتها إلى البشرية؛ وعلى يد الرسول "بولس" أخذت علاقة المسيحية بالفلسفتين: الرواقية والأفلوطينية المستحدثة علاقة أخذ وعطاء. وما إن أطل القرن الثالث الميلادي حتى كانت المسيحية قد أفلحت باللحاق بركب الرواقية، ونجحت في التوفيق بين نظرتهما والاقتباس من ملامحها. ولعل

"بولس" أبرز شهيد لاقى حتفه؛ تنفيذًا لأوامر نيرون سنة 67م، واستمرت تلك الاضطهادات عنيفة قاسية حتى أصبحت في عهد "قسطنطين" دين الدولة الرسمي.

كلمنت160م-203، أوريجين المتوفي سنة 253م، اثناسيوس المتوفي 373م

كلمنت 160م-203، أوريجين المتوفي سنة253م، اثنا سيوس المتوفي 373م: "بولس" أبرز شهيد لاقى حتفه؛ تنفيذًا لأوامر نيرون سنة 67م، واستمرت تلك الاضطهادات عنيفة قاسية حتى أصبحت في عهد "قسطنطين" دين الدولة الرسمي. يعتبر "كلمنت" مؤسس المدرسة الإسكندرانية للاهوت المسيحي، كان في بادئ الأمر وثنيا له اطلاع واسع على الفلسفة الإغريقية، وحاول -وفق منهجه- التوفيق بين أفضل ما في الوثنية القديمة من فكر، وبين الديانة المسيحية الجديدة. ولد "أوريجين" في مصر حوالي سنة 185م من أبوين وثنيين كما يدل على ذلك اسمه الذي يعني: "هبة الإلهة هورس" وهو تلميذ "كلمنت"، وبعد خصومة نشأت بينه وبين أسقف بدلته رحل إلى "قيسرية من أعمال فلسطين"؛ حيث أقام هناك ويؤلف، وفي شروحه وتعليقاته على أسفار التوراة اعتمد الأسلوب المجازي الرمزي، وعذب وأهين وسجن في الاضطهاد الذي سنه دقيانوس. ظهر في القرن الثالث للميلاد قديس ثالث من آباء الكنيسة الإغريقيين "اثناسيوس". ولد في الإسكندرية، وكان من أشد خصوصم الوثنية، ومن ألد أعداء الهرطقة، ويعتبر بحق من آباء الأرثوذكسية. وكانت خصومته للهرطقة موجهة بالدرجة الأولى لمذهب "أريوس" المتوفى سنة 336 الذي كان أحد رجال "الإكليربوس" في الإسكنرية وفي الإسكندرية نشأ هذا المذهب الذي عرف باسمه. كان "أريوس" يقول: بأن "الله" فوق إدراك البشر ومعرفتهم، وأنه منفصل عن أي مخلوق كائن، وأن "السيد المسيح" لم يكن "الله" بالمعنى الشامل؛ إلا أن تعاليم "أريوس" رفضت في مجمع "نيقيا" سنة 325 وفي مجمع "نيقيا" برز "اثناسيوس" بسبب وضعه قانون الإيمان المعروف بالقانون: "التيفانوس" وفيه تشديد على الثالوث؛

وبوصفه أسقفا لمدينة الإسكندرية رفض "أثناسيوس" تقبل الأوامر التي كان يصدرها الإمبراطور، والتي كانت تنم عن عطف على "الأربولية ومناصرة لها"، ثم نفى مرارًا وعزل، ثم في منفاه عاش مع النساك. وفي كتاب يعزى إلى: "أثناسيوس" نجد وصفًا مسهبًا لحياة ناسك كان يعرفه "أثنا سيوس" اسمه "أنطوني" مصريًّا عاش هذا المتزهد المصري المولد مدة عشرين سنة في الصحراء المصرية وبعد ذلك نشأت رهبنيات في مصر السفلى، ومن مصر انتشرت حركة الرهبنة إلى سوريا، ومنها إلى فلسطين إلى أن عمت العالم المسيحي بأسره. الرها: احتدم الجدل اللاهوتي في خلال القرن الرابع والخامس وكان من أمتع النشاطات الفكرية وأطرفها لدى علماء ذينك القرنين، كان ذلك الجدل يدور حول شخص "المسيح وطبيعته الإنسانية"، وعلاقتها بطبيعته الإلهية؛ وعلى مر الأيام انقسمت الكنيسة السريانية إلى طائفتين: السريانية الشرقية، التي تعرف بالنسطورية، وأصحابها النساطرة. السريانية الغربية: التي تعرف باليعقوبية، وأصحابها اليعاقبة. الكنيسة السريانية الشرقية: كانت الكنيسة السريانية الشرقية تفاخر بأنها تأسست في عهد الرسل، وبهذا تكون تأسست قبل عهد "نسطورا" بما لا يقل عن قرنين من الزمن وهي تعتبر نسطورا من الأباء اليونانيين، لا من الآباء السريان. ولكن بما أنها رفضت أن تصدر في حقه الحرم الكنسي، فقد ظل اسمه مقرونًا بهذه الكنيسة المعروفة بالنسطورية. احتضنت مدرسة الرها العقيدة النسطورية، وتولت الدفاع عنها، وانطلقت منها رسل التبشير إلى الصين والهند.

الكنيسة السريانية الغربية، آباء الكنيسة اللاتين، أوغسطس 354

الكنيسة السريانية الغربية، آباء الكنيسة اللاتين، أوغسطس 354 ... الكنيسة السريانية الغربية، آباء الكنيسة اللاتين، أوغسطين 354: إذا كان الفرع الشرقي للكنيسة السريانية الذي غرس جذوره في إيران يعتبر من ناحية الفلسفة اللاهوتية نسطوريا، فإن الفرع الغربي الذي تأصلت جذوره في كنائس سوريا "مونوفستيا" أي: كنيسة القائلين بأن "المسيح" طبيعة واحدة؛ أي القائلين بأن "المسيح" إنسان إله وتعظيم العذراء. وفي مطلع القرن السادس كانت قد ترسخت في سوريا وأصبحت تعرف بالكنيسة اليعقوبية وأصحابها اليعاقبة؛ نسبة إلى "يعقوب البرادعي" واضع طقوسها واسقف الرها 543م-578م ومن سوريا انتشرت عقيدة أصحاب الطبيعة الواحدة شمالًا إلى أرمينيا وجنوبا إلى مصر حيث اعتنقتها الكنيسة القبطية. يقول حتى: في الوقت الذي كان فيه آباء الكنيسة في الإسكندرية يعملون على إغناء اللاهوت المسيحي بتلقيح العقائد المسيحية بعناصر من الفلسفة الإغريقية، كان الآباء القديسون اللاتين يدخلون على سلطة الكنيسة وإدارتها عناصر رومانية في حقلي التشريع والقضاء. ولد سنة 354 في "نوميديا" غرب مدينة قرطاجة؛ ولم يعتنق المسيحية حتى سنة 387، بعد أن كان من دعاة الأفلاطونية الجديدة؛ وبعد اعتناقه بسبع سنوات رسم أسقفا على مدينة "هبو" وهي مستعمرة فينيقية ثانية في شمال إفريقيا، وبقى في هذا المنصب حتى مماته سنة 430م ومما شهره مؤلفه الموسوم بـ "اعترافات" وهو: كتاب ممتع يسر وفيه سيرة حياته؛ وكذلك مؤلَّفه "مدينة الله" الذي يتخيل فيه الكنيسة المسيحية إمبراطورية جديدة ناشئة تقوم على أنقاض روما. من هنا يظهر على سبيل المقارنة بين آباء الكنيسة الإسكندرانية وآباء الكنيسة الرومانية، بأن آباء الكنيسة الإسكندرية وارثو التراث الإغريقي الحضار الذي يؤكد الإيمان بالعقل وحب العلم وطلب المعرفة لذاتها.

هم الذين أوجدوا الفكر المسيحي القديم، وخلقوا له نظاما خاصًّا به، وكان الثلاثة: "كلمنت، وأوريجين، وأوغسطين" هم الذين وضعوا العقيدة في الثالوث، وقد أكد الآباء الإغريق على الأفلاطونية الجديدة التي نادى بها أولا "بولس" الرسول، وتمييزها بين عالم المحسوسات الذي هو عالم زائل منقلب وبين عالم الفكر الذي هو ثابت دائم سرمدي؛ وهذا التمييز من شأنه أن يوضح الفرق بين المادة والروح بين الجسد والنفس. يقول حتى: لقد أضحى العالم "وادي الدموع" الذي يأخذ بيد الإنسان إلى العالم الآخر. كما أن حياة التنسك والتقشف أصبحت في نظر الناس هي الحياة الفضلى. وعلى نقيض الآباء اليونانيين كان الآباء اللاتين وارثو التقليد الروماني يعنون أولا بتنظيم المجتمع البشري، ووضع الشرائع والقوانين التي تضبط شئونه؛ كما أنهم يعملون على تنظيم الكنيسة كمؤسسة ونظام، وذلك لأن الشعب الروماني كان واقعيًّا في نظرته أكثر من الشعب الإغريقي.

توسع الرهبنة، القديس مارون، أفرام السورياني 306-373

توسع الرهبنة، القديس مارون، أفرام السورياني 306-373: هم الذين أوجدوا الفكر المسيحي القديم، وخلقوا له نظاما خاصًّا به، وكان الثلاثة: "كلمنت، وأوريجين، وأوغسطين" هم الذين وضعوا العقيدة في الثالوث، وقد أكد الآباء الإغريق على الأفلاطونية الجديدة التي نادى بها أولا "بولس" الرسول، وتمييزها بين عالم المحسوسات الذي هو عالم زائل منقلب وبين عالم الفكر الذي هو ثابت دائم سرمدي؛ وهذا التمييز من شأنه أن يوضح الفرق بين المادة والروح بين الجسد والنفس. يقول حتى: لقد أضحى العالم "وادي الدموع" الذي يأخذ بيد الإنسان إلى العالم الآخر. كما أن حياة التنسك والتقشف أصبحت في نظر الناس هي الحياة الفضلى. وعلى نقيض الآباء اليونانيين كان الآباء اللاتين وارثو التقليد الروماني يعنون أولا بتنظيم المجتمع البشري، ووضع الشرائع والقوانين التي تضبط شئونه؛ كما أنهم يعملون على تنظيم الكنيسة كمؤسسة ونظام، وذلك لأن الشعب الروماني كان واقعيًّا في نظرته أكثر من الشعب الإغريقي. فمنذ إعلان المسيحية دينا رسميا في عهد "قسطنطين" للدولة الرومانية ولمدة قرنين ازدهر عصر "المطارنة والأساقفة" والرهبان والراهبات، والمتنسكين والزهاد، بشكل لم يعهد من قبل، فقد تضاعف عدد الكنائس والأديرة في مصر وعبر سوريا حتى آسيا الصغرى. وكان أسلوب العيش المفضل هو عيش الرهبنة التي نشأت في المسيحية بممارسة التقشف والزهد، ومن الذين أنعشوا حياة التزهد والترهبن: إن القديس "مارون" مؤسس "الطائفة المارونية" وشفيع كنيستها في لبنان راهبا ناسكا قضى حياته في البرية الواقعة إلى الشمال من أنطاكية. كان "أفرام السورياني" أولا لاهوتيا في الكنيسة السريانية؛ هو الذي دعاها إلى الرهبنة بين قومه، وهو الذي أنشأ في "الرها" مدرسة اللاهوت، أصبحت فيما بعد أول جامعة في الكنيسة السريانية.

وبهذا شاركت في دخول المسيحية الكنيسة بآبائها اليونانيين في نشر الثقافة اليونانية من جانب، وإسباغ ثوب الثقافة اليونانية على المسيحية من جانب آخر، وبلغ منها أن باتت تفضل قراءة العهد القديم في ترجمته اليونانية. ثم بدأت جهود فردية تعكف على التوفيق بين العقيدة المسيحية والفلسفة اليونانية، وظنوا أن تضافرها مع الفلسفة يعطيها قوة، ولكن خيب ظنهم انشقاقها العقدي الذي ظهر فيما بعد. وظهر الأثر الفلسفي على القديس بولس -وهو رائد التوفيق بين المسيحية والتراث الفكري عند الشعوب الداخلة فيها في رسائله التي وفق فيها بين المسيحية والفلسفة اليونانية- وظهر جليا: عندما نشبت الخصومات داخل الكنيسة أن صيغت هذه الخصومات في مصطلحات فلسفية يونانية ودارت معاركها وفقًا للأصول الفلسفية. وقد استخدم القديس بولس -وهو من أهل طرسوس أحد مراكز الرواقية المختارة: لغة تلك المدرسة؛ للتعبير عن المجتمع الروحي الذي ينتظم كل المسيحيين أعضاء، وتتردد باستمرار في رسائله: فكرة رعوية سماوية، وفي عظته في أثينا: اقتبس من أنشودة إفلينشي الرواقي لزيوسن وأعلن في ألفاظ تردد صدى العقائد الأساسية في المذهب الرواقي: أن الله لا يسكن هياكل مصنوعة بالأيدي، وأنه "صنع من دم واحد: جميع أمم الناس؛ ليسكنوا كل وجه الأرض"1 وهكذا منذ البدء أتيح للكنيسة المسيحية أن تكون مبشرة بالثقافة العقلية اليونانية، وبالعقيدة الإنجيلية معًا. ورأينا وجهة نظر يهودية معاصرة تقول: إن دخول المسيحية في الهلينية: انحراف منها إلى اليسار، وأنهم يدفعون بأنفسهم في استهانة متزايدة نحو التراخي، ويدفعون من جانبهم: الحركة الهلينية في اطراد إلى الأمام. وبسبب هذه الانتقادات اليهودية: وقعت خصومة2 بين اليهود والمسيحيين.

_ 1 "الأعمال ص9: 28" هو "لأننا أيضا ذريته" يراجع تراث العالم القديم جـ1 ص238. 2 قد سجلت الخصومة بين هاتين الطائفتين في "أعمال الرسل الحواريين". وأشار القرآن إلى نتائج هذه الخصومة بينهما، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} "البقرة: 113".

وكانت هذه الخصومة ما يفيد أن المسيحية هي وريثة الهلينية، وذلك عندما سايرت إلى حد كبير تيار الفكر الهليني في الشرق. وفي النهاية نقول: لقد حققت المسيحية توسعا دينيا، فأصبحت الدولة الرومانية مسيحية بعد وثنيتها اليونانية، وأصبح من المعالم البارزة التي طبعها الشرق على الغرب: أن دان الغرب بدين شرقي، غير أن الغرب أخذها بعد أن طبعها اليونان بطابعهم الفلسفي، مما جعلها فيما بعد إبان عصور النهضة الأوربية محل انتقاد من البعض، ورفض وإنكار من البعض الآخر. وفي هذا ما يميز الإسلام عنهما: فهو قد انتشر بلغته، وكتابه، وشمل أمما، وشعوبا، فضلوا لغته على لغاتهم، كذلك يتميز بأنه دين دعوة منذ أن نشأ، وفي حياة الرسول نفسه: أرسلت سفراء، وكتب؛ لنشر الدعوة الإسلامية، وكان له من القوة التي كفلت له حمل السيف، على من ناصبه العداء، أو في سبيل تأمين دعوته إذا تعرضت لمناورات الخصوم المعارضين. وكان من أكبر الآثار الفلسفية على المسيحية: أن صرفت النصارى عن التوحيد دين المسيح، إلى عبادة الصليب، وفي هذا التحول تغير مفهوم المقدس الحقيقي لديها؛ لأن الصلب والصليب لم يكن تشريعا منه. وعلى أية حال لقد توسعت في مفهوم المقدس حين أدخلت قضايا فلسفية إلى صميم دينها بل إلى صميم عقيدتها. يقول جيبون: وخلط الغنوصيون، بالإيمان بالمسيح: كثيرًا من العقائد، والمذاهب الغامضة، تلك اشتقوها من الفلسفة الشرقية، بل حتى من ديانة زرادشت التي تتعلق بخلود المادة، ووجود عنصرين والتسلل الغامض للعالم غير المرئي. واستطاع هؤلاء الهراطقة الغنوصيون أن يخرجوا بدلا من الناجيل الأربعة التي قررتها الكنيسة بمجموعة كبيرة من التواريخ، التي تلتئم فيها مناقشات المسيح، وحوارييه، وأعمالهم، مع أفكار كل شيعة بعينها.

كيف دخلت المسيحية مكة والجزيرة العربية

كيف دخلت المسيحية مكة والجزيرة العربية: كانت هناك روافد حملت المسيحية إلى الجزيرة العربية، بل إلى مكة ذاتها هي: 1- الاضطهاد الذي وقع على المسيحية منذ المسيح ذاته جعل أتباعها يبحثون عن أماكن في كهوف الجبار وبطون الصحرء ليتواروا عن أعين الرقباء من الرومان. 2- رحلات قريش التجارية ونظرية تقسيم الناس إلى أحرار وعبيد شاركت بدورها في إدخال المسيحية إلى مكة. 3- دخلت المسيحية الجزيرة العربية دخولًا رسميًّا على يد "الحارث الغساني". 4- دخلت المسيحية قلب مكة مع الغزو الحبشي لها. 5- ظهور جماعة يدعون بالحنفاء يرمون وراء تحنفهم سحب الثقفة الدينية من الأوثان، ثم طلبوا أديانا شتى فبعضهم طلب الحنفية وبعضهم طلب الأوثان وبعضهم طلب المسيحية. وإذا كانت المسيحية قد دخلت مكة فإلى أي حد انتشرت؟ بقيت المسيحية رهينة لغتها السريانية أو الرومانية فلم تنتشر انتشارا ملحوظا لا من قريب ولا من بعيد، وكل الذين اعتنقوها من العرب هم الذين كانوا على صلة باللسان الأعجمي فلم ينتشر كتابها المقدس؛ لأنه لم يترجم إلى اللغة العربية، كذلك شعائر صلاتها "القداس" لم تترجم. ليس معنى وجود المسيحية وانتشارها بين العرب تعلُّمَ الرسول منها وأنها كانت مصدره في تأليفه للقرآن؛ لأن الرسول ادعى النبوة وكان الوحي مصدره فيما قال وفيما يفعل، وقامت شواهد الواقع والتاريخ على صدق دعوته، ثم كان القرآن من أكبر شواهد الأدلة بيننا عليه. وأما ما بينهما من عناصر متشابهة ومثلها اليهودية فإن القرآن نفسه حسم ذلك حين قال إن ما أنزل على محمد ليس بدعا عما نزل على غيره من الرسل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} ... 1 الآية، ويصبح كل بحث يحاول أن يبرز

_ 1 سورة الشورى الآية 13.

عناصر التشابه بين ما نزل من وحي السماء، فهو من غير أن يدري يدور في فلك الآية السابقة حين أكدت وحدة وحي السماء، وفي الوقت نفسه يؤكد دعوى نبوة الرسول، وصدق ما قاله ودفع النوازع في النفوس البشرية حين تريد أن تخلق من المتجانسات تنافرًا. وأهم علامة فارقة ميزت نصارى عرب الجاهلية عن العرب الوثنيين هي أكل النصارى للخنازير، وحملهم للصليب وتقديسه، ورد أن الرسول قال لراهبَيْن أتياه من نجران؛ ليبحثا فيما عنده: "يمنعكما عن الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما: لله ولد". وورد أنه رأى عدى بن حاتم الطائي وفي عنقه صليب من ذهب؛ لأنه كان على النصرانية. أما الزمن الذي دخلت فيه النصرانية إلى جزيرة العرب فتحاول مؤلفات رجال الكنائس رد ذلك التاريخ إلى الأيام الأولى من التأريخ النصراني1. وإذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فإن دخول النصرانية إليها كان بالتبشير. وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا، وبالتجارة وبالرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة، وبفضل ما كان لكثير من المبشرين من علم ومن وقوف على الطب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم، أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم، فنسب دخول بعض سادات القبائل ممن تنصر إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم مما كانوا يشكون منه من أمراض، وقد نسبوا ذلك إلى فعل المعجزات والبركات الإلهية، وذكر بعض مؤرخي الكنيسة أن بعض أولئك الرهبان القديسين شفوا بدعواتهم وببركات الرب النساء العقيمات من مرض العقم، فأولدن أولادًا، ومنهم من توسل إلى الله أن يهب له ولدًا ذكرًا فاستجاب دعوتهم، فوهب لهم ولدًا ذكرًا كما حدث لضجعم سيد الضجاعمة؛ إذ توسل أحد الرهبان إلى الله أن يهبه ولدا ذكرا فاستجاب له، فلما رأى ضجعم ذلك دخل في دينه وتعمد هو وأفراد قبيلته، ومنهم من شفى بعض الملوك العرب من أمراض كانت به

_ 1 المفصل جـ6 ص586، وأيضا البلاذري ص71، واللسان 13/ 443 مادة وثن، النصرانية وآدابها القسم الأول للويس شيخو.

مثل -ما رايشو عزخا- الراهب ذكروا أنه شفى النعمان ملك الحيرة من مرض عصبي ألم به، وذلك بإخراجه الشيطان من جسده1. ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات التي كانوا يتعرضون لها، فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب وعاشوا عيشتهم وجاروهم في طراز حياتهم فسكنوا معهم الخيام حتى عرفوا "بأساقفة الخيام" و"بأساقفة أهل الوبر"، و"بأساقفة القبائل الشرقية المتحالفة"، و"بأساقفة العرب البادية"، وقد ذكر أن مطران بصرى كان يشرف على نحو عشرين أسقفا انتشروا بين عرب حوران وعرب غسان، وقد نعتوا بالنعوت المذكورة؛ لأنهم كانوا يعيشون في البادية مع القبائل عيشة أهل الوبر. وقد دخل أناس من العرب النصرانية باتصالهم بالتجار النصارى وبمجالستهم لهم، وروي أن رجلا من الأنصار يقال له: أبو الحصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصروا فرجعا إلى الشام معهم. ودخلت النصرانية جزيرة العرب مع بضاعة مستوردة من الخارج هي تجارة الرقيق من الجنسين، فقد كان تجار هذه المادة المهمة الرابحة يستوردون بضاعتهم من أسواق عالمية مختلفة، ولكن أثمن هذه البضاعة وأغلاها هي البضاعة المستوردة من إمبراطوريتي الروم والفرس؛ لمميزات كثيرة امتازت بها عن الأنواع المستوردة من أفريقية مثلا، فقد كان صنفها من النوع الغالي الممتاز؛ الجمال والحسن والإتقان ثم الابتكار وبالقيام بأعمال لا يعرفها من هم من أهل إفريقية. وقد كان في مكة وفي الطائف وفي يثرب وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب رقيق نصراني كان يقرأ ويكتب ويفسر للناس ما جاء في التوراة والأناجيل، ويقص عليهم قصصا نصرانيا ويتحدث إليهم عن النصرانية، ومنهم من تمكن من إقناع بعض العرب في الدخول في النصرانية، ومنهم من أثر على بعضهم فأبعده عن الوثنية، وسفه رأيها عندهم، لكنهم لم يفلحوا في إدخالهم في دينهم فبقوا في شك

_ 1 المفصل جـ6 ص587، ص58، وأيضا النصرانية وآدابها جـ1 ص35، الدبورة في مملكتي الفرس والعرب للقس بولس شيخو ص32، ص47

من أمر الديانتين يرون أن الحق في توحيد الله وفي اجتناب الأوثان لكنهم لم يدخلوا في نصرانية؛ لأنها لم تكن على نحو ما كانوا يريدون من التوحيد وتحريم الخمر وغير ذلك مما كانوا يبتغون ويشترطون1. وقد تسربت النسطورية إلى العربية الشرقية من العراق وإيران فدخلت إلى قطر وإلى جزر البحرين وعمان واليمامة ومواضع أخرى، ومن الحيرة انتقلت النسطورية إلى اليمامة فالأفلاج فوادي الدواسر إلى نجران، واليمن وصلت إليها بالتبشير وبواسطة القوافل التجارية، فقد كانت بين اليمن والحيرة علاقات تجارية وثيقة، وكانت القوافل التجارية تسلك جملة طرق في تنمية هذه العلاقات وتوثيقها. وقد قوى هذا المذهب -ولا شك- بعد دخول الفرس إلى اليمن، ولما عرف من موقف رجاله من كنيسة الروم، ولما كان لأصحابه من نفوذ في بلاط الشاهنشاه، ومن صداقته لهم2. وقد بقيت النسطورية قائمة في اليمن في أيام الإسلام. أما اليعاقبة فقد انتشر مذهبهم بين عرب بلاد الشام والبادية، وقد اصطدم هذا المذهب بالكنيسة الرسمية للبيزنطيين واعتبرته من المذاهب المنشقة الباطلة لذلك حاربته الحكومة وقاومت رجاله، كما عارضه النساطرة؛ لاختلافه معهم في القول بطبيعة المسيح وفي أمور أخرى، وهذا ما حمل النساطرة على الحكم بهرطقة اليعاقبة، كما حمل هذا الاختلاف اليعاقبة على الحكم بهرطقة النساطرة حتى صار اختلاف الرأي هذا سببا في وقوع معارك كلامية وجدل طويل عريض بين رجال المذهبيين3. واليعاقبة يدعون بالمنوفسيتين أي القائلين بالطبيعة الواحدة؛ لقولهم إن للمسيح طبيعة واحدة وأقنوما واحدا فقيل لهم من أجل ذلك أصحاب الطبيعة الواحدة، هم مذهب من مذاهب الكنيسة الشرقية نسبوا إلى يعقوب البرادعي ويسمى بجيمس أيضا، المولود في حوالي سنة 500 للميلاد في مدينة الأجمة من أعمال

_ 1 المفصل جـ6 ص588، ص589 وأيضا النصرانية جـ1 ص33، وتفسير الطبري جـ3 ص10، وتفسير القرطبي جـ3 ص280 وما بعدها. 2 المفصل جـ6 ص629 وأيضا -النصرانية جـ1 ص59 وما بعدها. 3 المفصل جـ6 ص630، وأيضا النصرانية جـ1 ص67، شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص292 وما بعدها.

نصيبين في شرقي الرها والمتوفى سنة 578 للميلاد ولد في أسرة كهنوتية، وتتلمذ لـ ساويرس الذي صار رئيسا على بطريركية أنطاكية في عام 514 للميلاد. ثم اضطر إلى مغادرة أنطاكية إلى مصر؛ لاختلافه مع رجال الدين في هذه المدينة في طبيعة المسيح؛ إذ كان يقول بوجود طبيعة واحدة فيه؛ وأخذ يعقوب رأيه هذا في المسيح. وذهب يعقوب في حوالي سنة 528 للميلاد إلى القسطنطينية لحمل القيصرة -ثيودورة- Theodora- على التأثير في الكنيسة، وحملها على الكف عن اضطهاد القائلين برأيه في طبيعة المسيح، وقد مكث في القسطنطينية خمسة عشرعاما، وسعى حثيثا في نشر مذهبه والتبشير به، وهذا ما أوقعه في نزاع مع بقية رجال الدين هناك؛ لخروجه على تعاليم المجمع الخلقيدوني الذي عين التعاليم الثابتة في طبيعة المسيح1، وكان يعقوب أسقفا على الرها في حوالي سنة 541م. وكان الحارث بن جبلة من المقدرين له، والمحبوبين عنده، لذلك كان ممن توسطوا لدى بلاط القسطنطينية للسماح له بالخروج منها، وللتوفيق بين آرائه وآراء الكنيسة البيزنطية، كما توسط المنذر لدى البيزنطيين للغرض نفسه2. وكانت في أيامه أسقفيتان على العرب: أسقفية عرفت بأسقفية العرب، وأسقفية التغلبيين، وكرسيها بـ عاقولا، وعاقولا هي موضع بالكوفة، أما كرسي أسقفية العرب فكان في الحيرة. وقد دخل أكثر الغساسنة في هذا المذهب وتعصبوا له، وطالما توسطوا لدى الروم في سبيل حملهم على الكف عن اضطهادهم والتنكيل بهم ظلوا مخلصين لهذا المذهب إلى ظهور الإسلام3. وكان لليعاقبة مشهد مقدس يحجون إليه؛ للتبرك به والنذر له هو مشهد القديس سرجيوس في مدينة سرجيوبوليس Sergigapalis وهي الرصافة.

_ 1 المفصل جـ6 ص631. 2 المفصل جـ6 ص631. 3 المفصل جـ6 ص631، ص632، وأيضا ذخيرة الأذهان جـ1 ص303.

وكانت أمراء الغساسنة يبالغون في تعظيمه والاحتفاء به ويقصدونه؛ للتبرك به على عكس نصارى الحيرة الذين امتهنوا القبر في حروبهم مع الغساسنة واعتدوا على المدينة. وقد كان نصارى الحيرة على مذهب نسطور في الأغلب كما كانوا من الوثنيين، ولذلك لم تكن لسرجيوس في نفوسهم منزلة ومكانة، وذكر أهل الأخبار أن من بين فرق النصرانية أو الفرق التي هي بين بين -بين النصرانية والصابئة دين يقال له الركوسية، وذكروا أن الرسول قال لحاتم الطائي: "إنك من أهل دين يقال له الركوسية"، ولكني أشك في صحة هذا الحديث؛ إذ كانت وفاة حاتم قبل مبعث الرسول، ولم يثبت أنه التقى به1.

_ 1 المفصل جـ6 ص633، ص634 وأيضا أسد الغابة جـ3 ص392، اللسان جـ7 ص405، تاج العروس جـ4 ص163.

المسيحية والرسول

2- المسيحية والرسول: وبعد ذلك فنستطيع القول عن الأثر المسيحي، وزعم القول به على الرسول من خلال ما سبق أن نزعة التبشير في المسيحية إلى الاضطهاد الذي تعرضت له من الدولة الرومانية، هذه النزعة ظهرت للمرة الأولى بعد استشهاد القديس أسطفانوس، وما تلاه من اضطهاد، ولم يكن الاضطهاد هو السبب الوحيد في انتشار المسيحية، ولكنه كان سببًا من أسباب انتشارها ولعله كان من أهم الأسباب: وكان من نتائج هذا الاضطهاد لجوء بعض المسيحيين -على أثره- إلى بلاد ما بين النهرين خارج الإمبراطورية الرومانية، وبذلك استطاعوا أن ينشئوا كنيسة ما بين النهرين، خصوصًا فيما حول "الرها" في هذه الكنيسة ظهرت المسيحية: بآدابها وبلغتها السريانية، والترجمة للكتاب المقدس إلى السريانية كانت عن النص العبري، وليست عن النص اليوناني. وأصبحت "الرها" بتمايزها السرياني: كنيسة، ومدرسة، مركزًا مشعا وطيد الأركان، ذا شهرة واسعة بين سكان ما بين النهرين، وفارس وممن يتكلمون السريانية باعتبارها مركزا كنسيًّا للشعوب المتكلمة بالسريانية، فإنها مثلت الجانب السرياني من الحياة العقلية، وضارعت به الإسكندرية، وانتشرت اللغة السريانية تدريسًا وتعليقًا في الرها، ونصيبين، وحران.

ومن هنا ظهر تمايز بين كنيستين في الشرق من حيث الوسائل التعليمية: - كنيسة الإسكندرية: وهي يونانية ذات شكل مسيحي. - كنيسة سريانية: مسيحية في تقاليدها1. وقد أدى هذا التمايز في الأسلوب إلى حساسية مفرطة، أخذت تزداد بفضل النعرة العنصرية، بين السريان، والهلينيين: ثقافة أو جنسًا أدى إلى تأليب الإسكندرية "الكنيسة الجامعة"، والسياسة الإمبراطورية على الكنيسة السريانية، ورأت الإمبراطورية -من وجهتها السياسية- أن في هذا تمردًا على السلطان: سلطانها السياسي من جهة، وعلى الكنيسة الجامعة من جهة أخرى، ومن هنا راحت تقضي بعنف على تلك الكنائس المحلية، ذوات الصبغة القومية، أو المنزع الاستقلالي لغة ودينا. هذا من حيث الموقف السياسي. وأما من الناحية الدينية -وهي التي تكمن وراء هذا الاختلاف بين أنطاكية والإسكندرية وما بينهما من منافسة وميول متعارضة- فإن الكنيسة السريانية كانت تنزع إلى تناول اللاهوت بما يمكن أن نسميه تناولا عقليا -مشوبا بالحذر- بقدر ما يحتاج إليه النص المقدس: من حيث الفهم، أو التأويل. وأما الإسكندرية: فكانت تميل إلى تناوله تناولا فلسفيا يوافق القوعد اليونانية، أو تناولا رمزيا، وفق رمزية الهند وفارس، وقد تعدى الخلاف الشكلي إلى انقسام حقيقي في العقيدة. فأصبحت الكنيسة السريانية تذهب إلى إنكار إمكان إطلاق لقب والدة الإله على العذراء مريم، ذاهبة إلى أنها لم تكن إلا أُمًّا لعيسى؛ باعتباره بشرًا آدميًّا، وطرد في سبيل ذلك نسطورس بقرار من مجمع أفسوس سنة 431 بزعامة كرلس، بطريرك الإسكندرية، ولكن السريان لم يقبلوا هذا القرار، ورفضوا قرارات المجمع، وانفصلوا، وعرفوا باسم النساطرة، وانبرت الرها تعضد نستوريوس2 بوجه عام، واقترن النساطرة بالرها والمنطقة العربية عموما.

_ 1 يراجع: ما كتبناه عن أنطاكية في هذا الكتاب. 2 رجع نستوريوس إلى الدير الذي جاء منه بالقرب من أنطاكية، ثم نُفي إلى البتراء في بلاد العرب وتوفي بعد عام 439 بقليل، ولعل معلومات الشهرستاني عن نسطورا غير دقيقة فيقول: النسطورية أصحاب نسطور الحكيم، الذي ظهر زمان المأمون، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه.

ومنذ أن أصبح المذهب النسطوري مضطهدًا، ونحن نلاحظ سرعة في انتشاره وإشرافا، وتوجيها، وسيطرة على الكنائس والمدارس في المنطقة العربية، وانتشر نشاط النساطرة بين العرب في الجنوب الغربي، ثم اتجه نحو الشرق عبر آسيا الوسطى إلى أن بلغ الشرق الأقصى. ومن المدن العربية الكبرى التي تنصرت: الحيرة، وذلك حوالي نهاية القرن السادس، وذلك حين تنصر النعمان ملك الحيرة، وتبع هذا تحول كثير من الأعراب إلى المسيحية، وهم من قبيلة اللخميين يؤلفون الأرستوقراطية الحاكمة في الحيرة. يقول ابن هشام: وبنجران بقايا من أهل دين عيسى على الإنجيل، أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لهم رأس يقال له: عبد الله بن تامر. يقول ديلاسي أوليري: ويبدو أن هؤلاء الذين اعتنقوا المسيحية قد أخذوا المذهب النسطوري، وارتضوا أن يقوم بخدمة القداس رجال الدين النساطرة، الذين يتكلمون السريانية. وعلى الرغم من هذا كله فشلت المسيحية في أن تمد جذورها بين العرب فلم يتأثر وسط الجزيرة العربية بالمسيحية. خلاصة القول كما يقول دوزي أن المسيحية لم تستطع بما فيها من تقاليد وعقيدة التثليث وعقيدة صلب المسيح أن تجذب انتباه العرب أو أفكارهم1. ومن وجهة النظر العامة: عجزت المسيحية أن تنتشر في الشرق مثل انتشارها في الغرب؛ وذلك للسبب الذي يقوله "رينان"؛ لأنها الوارثة بلا واسطة لآثار الآراميين من مدرسة الإسكندرية.

_ 1 حضارة الإسلام: ص28 صلاح الدين خودابخش ترجمة د/ علي حسني الخربوطلي.

أصحاب الطبيعة الواحدة

أصحاب الطبيعة الواحدة: يرجع نشر عقيدة أصحاب الطبيعة الواحدة في المنطقة العربية إلى يعقوب البرادعي، ولم يذهب إليها مضطهدا، شأن نسطورس، إنما جاء به إلى المنطقة العربية الحارث بن جبلة ملك قبيلة غسان العربية، وكان قد قدم في 543 ق. م. إلى بلاط

ثيودورا، وكانت الحكومة البزنطية تمده بالمال لقاء حمايتها للحدود السورية، وكانت تسبغ عليه لقب ملك بصفة رسمية، وحدث في هذه الزيارة أن طلب الإذن لبعض الأساقفة فأجيب إلى طلبه. فأعطى لبصرى يعقوب البرادعي. وللرها: ثيودور وأصبح أصحاب الطبيعة الواحدة مجتهدين، وموفقين في نشاطهم التبشيري، وكانوا يجوبون الصحارى في حمى قبيلة غسان العربية. قال النابغة الذبياني في وصف آل غسان: محلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيَّون بالريحان يوم السباسب1 يقول فيليب حتى: "وفي أيام البعثة المحمدية كان معظم هذه القبائل من المسيحيين، وكانت الأديرة، والصوامع، منتشرة في الوادي كله، وقد كان رهبان النساطرة ينتشرون من هذا المركز العام، فيجوبون خلال بلاد العرب كلها، ويزورون الأسواق الكبرى، ويعظون من يصيخون إليهم السمع، وقد جاء في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب إلى سورية في شبابه، والتقى بالقرب من بصرى براهب يدعى نسطورا. ثم يقول فيليب حتى: وأصبحت بصرى التي بنيت كاتدرائيتها في عام 512 العاصمة الدينية في المنطقة، كما اشتهرت كمركز تجاري كبير، وتقول المرويات الإسلامية أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم مَرَّ بها هو وقافلته. ويضيف "حتى" قائلا: وهناك اطلع على كثير مما عرفه عن المسيحية. ويقول حتى: وقبل أن يزول الغساسنة نقلوا بعض الأفكار المسيحية التي كان لها تأثير مع بعض أفكار أخرى على الإسلام.

_ 1 محلتهم: مسكنهم. ذات الإله: بيت المقدس. ويروى: مجلتهم، قال القتيبي: تقديره: كتابهم كتاب الله وكانوا نصارى وكتابهم الإنجيل. يوم السباسب: يوم الشعانين لأحد السابق لأحد الفصح عند النصارى. ديوان النابغة الذبياني ص12 دار صادر.

وهكذا زودت الحضارة السورية الإسلام ببعض العناصر المبدعة، كما فعلت بالنسبة لليهودية والنصرانية من قبل1. يقول الدكتور محمد عبد الله دراز: وسوف لا نعول كثيرا على قصة بحيرا الراهب الواردة في الأثر والتي تذكر أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قابله وهو في الثانية عشرة من عمره عندما صاحب عمه أبا طالب في سفره إلى سورية، فالصواب يمنعنا من الأخذ بهذه المقابلة العارضة، واعتبارها مصدرا لتعليم محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحادثة إما أنها أسطورية، أو أنه يتعين علينا أخذ كل الوقائع التي تذكرها في الحسبان، وحينئذ نجد أن القصة تذكر أن هذه المقابلة كانت في حضور جميع أفراد القافلة، وأن محمدا كان في دوره "مسئولا" لا مستمعا، وبانتهاء الاستجواب: خلص الراهب إلى نبوءة مضموها توقع بعثة هذا الشاب رسولا في المستقبل؛ إن الفكرة إذن تفند نفسها2. ونحب أن نعرض للرواية التاريخية التي ذكرت مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم لبحيرا الراهب، والرواية التي ذكرت مقابلة ثانية في مرحلة أخرى من العمر لنسطورا الراهب.

_ 1 تاريخ سورية ولبنان وفلسطين جـ1 ص. 2 مدخل إلى القرآن: عرض تاريخي مقارن ص134 الدكتور محمد عبد الله دراز، ترجمة محمد عبد العظيم، ومراجعة د/ السيد محمد بدوي. اقرأ مقال هوارب بالجريدة الآسيوية عدد يوليو أغسطس 1904 بعنوان: مصدر جديد للقرآن حيث ورد ما يلي في الخاتمة: لا تسمح النصوص العربية التي عثر عليها ونشرت وبحثت منذ ذلك الوقت بأن نرى في الدور المسند إلى هذا الراهب السوري إلا مجرد قصة من نسيج الخيال.

رواية بحيرا

رواية بحيرا: قال ابن إسحاق: التقى بحيرا برسول الله وهو ابن تسع سنين، وفي الطبري: ابن اثنتي عشرة سنة. وكان الرسول قد خرج مع ركب أبي طالب وهو في تجارته إلى الشام، فمر على راهب في صومعته في بصرى: هو بحيرا، فمن بحيرا؟

قال ابن إسحاق: بحيرا كان إليه علم أهل النصرانية. ووقع في سيرة الزهري: بحيرا كان حبرا من يهود تيماء. وفي المسعودي: أنه كان من عبد القيس واسمه سرجيس، تلك رواية بحيرا. ثانيا- رواية نسطورا الراهب: رآه الراهب تحت ظل شجرة، وهو في رحلته بتجارة خديجة إلى الشام. وتذكر الرواية: أنه ليس بحيرا الراهب؛ لأن هذه الرواية كانت بعد العشر. الروايتان تفيدان معا: التقاءهما بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في رحلة تجارية مع قبائل قريش، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجالسهما، وإنما تكلم في شأن مستقبله مع شيخ الركب، وأنهما نصحا بعودته خوفا عليه من الروم أو اليهود، ولم يقترحا استبقاءه معهما حتى عودة القافلة من رحلتها، فالمسيحية الأولى: قامت بالدور التبشيري لمستقبل رسالة الإسلام ونبيه. وهذا ما تقرره الروايتان: أنهما لم يتحدثا إليه، لا من قريب ولا من بعيد في شأن تعلمه. وعلى احتمال أنه تعلم منهما واستمع إليهما، فأي شيء تعلمه منهما؟ وعقيدة أي مذهب تعلم؟ هل العقيدة النسطورية؟ أو عقيدة مذهب الطبيعة الواحدة، وكلاهما كان منتشرا في تلك المنطقة؟ ثم ما المدة الزمنية التي تكفي لإحاطته بالمسيحية؟ بعض المستشرقين يرى أن وراء هذه الروايات دورا تاريخيا في صلة الرسول بالمسيحية، ومثل هذه الآراء وجدت من بحوث المستشرقين ما ناهضها، وناقضها، ووفق مناهج بحوثهم أثبتوا تفاهتها من عدة أمور منها: - عدم تعرض القرآن لمشكلات المسيحية. - تناقض ما جاء في القرآن عنها مع شعراء العرب المعاصرين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد ثبت من تحرير شعرهم أنهم كانوا على صلة بالمسيحية: كأعشى قيس شاعر

الغساسنة، وكأمية بن أبي الصلت الذي بات آسفا على نفسه وخيبة رجائه في فشل قيادته الدينية، وهم على ذلك الحال لم يتقولوا على محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنه أفاك. - الحاجز اللغوي: الذي أشار إليه القرآن بين الرهبان ومحمد يمنع ما ينتج من هذه الروايات. - يقرر هوارت: Huart: أنه مهما كان إغراء الفكرة التي تقول بأنه تفكير المصلح الشاب "محمد" -صلى الله عليه وسلم- قد تأثر بقوة عندما شاهد الديانة المسيحية بسورية، فإنه يجب استبعادها؛ نظرا لضعف الأسس التاريخية للوثائق التي كانت أمامنا، وعدم وجود روايات صحيحة غيرها. وسوف نرى رأيا لمستشرق قدم بحثا مفصلا ودقيقا في هذه الموضوعات1 قال ذاك المستشرق: ومن البهتان ما شاع من القول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم من هؤلاء قصص التي تحتل مكانا بارزا في القرآن. وقد قال أعداؤه: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُون} 2. وفي القرآن الكريم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 3 وفيه أيضا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} 4. وهؤلاء المسيحيون المستضعفون في مكة لم يكونوا هيئة منظمة، ولم يكن لهم أسقف. ويقول هذا المستشرق عن أصحاب الطبيعة الواحدة:

_ 1 علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب: دالاسي أوليري ترجمة دكتور: وهيب كامل مراجعة زكي على ص89، 90، 124 Voir it Arapic a ccidutal avant I'Hegie la mance بلاد العرب قبل الهجرة. 2 الآية 14 من سورة الدخان. 3 الآية 103 من سورة النحل. 4 الآية 4 من سورة الفرقان.

وكانت مدينة نجران، في بلاد العرب، غير بعيدة عن مكة وهي الأخرى مسيحية تدين بمذهب الطبيعة الواحدة، ولا نستطيع أن نحدد مركزا لأصحاب الطبيعة الواحدة يدّعي نقل الثقافة اليونانية إلى العرب بالثقة نفسها التي حددنا بها مركز النساطرة في جنديسابور. ومع ذلك لا يمكن إغفال هذه الصلة؛ لأن مراكز أصحاب الطبيعة الواحدة كانت في الحق أديرة، ولم تكن جامعات، كما كان الأمر في جنديسابور، ولذلك لم تكن مراكزهم وثيقة الصلة بالعرب، كما كانت مدرسة النساطرة. ويقول عن مدرسة نصيبين: وكانت مدرسة نصيبين مزدهرة إبان الفتح الإسلامي، ولكنها لم تكن فيما يبدو ذات أثر مباشر على العرب، ولعل السبب في ذلك أنها كانت لاهوتية صرفة. ثم يقول: لم تكن "في المنطقة العربية" كتب بالعربية، ولم تكن في العربية ترجمة للكتاب المقدس، ولم يكن هناك قداس باللغة العربية. ثم قال: إن الثقافة اليونانية لم تنتقل إلى العرب عن طريق الاتصالات الأولى، ولقد تحقق انتقال العلوم اليونانية إلى العرب، عندما استقرت الخلافة العربية في مدينة بغداد. ثم يقول: "إن الفتح العربي في سنة 632 لم يوقف الحياة الدينية أو الفكرية لطائفة النساطرة أو أصحاب الطبيعية الواحدة". ويتكلم صاحب تاريخ سورية عن علاقة المسلمين بالمسيحيين فيقول: "لقد فرض العرب الجزية وتركت الطوائف التي تدفع الجزية حرة تتبع قوانينها وديانتها وتقاليدها وتحيا حياتها الفكرية الخاصة1. ولقد كتب أحد بطاركة الكنيسة الشرقية يقول: إن العرب الذين أولاهم الله السلطة على العالم في هذا العهد هم -كما تعلمون- يقيمون بيننا ولا يتخذون من النصرانية موقف عداء بل هم على عكس من

_ 1 تاريخ سورية ص143.

ذلك يمتدحون ديننا ويجلون الكهنة والقديسين ويجودون بالتقدمات للكنائس والمناسك1". بعد ذلك نقول عن المسيحية في المنطقة العربية: عجزت المسيحية -قبيل الإسلام- على الرغم من تعدد مراكزها وانتشار رجالها في المنطقة العربية عن أن تكون دينا للمنطقة العربية سوى بعض قبائل اعتنقوها تزلفا سياسيا، ولعل عدم انتشارها يرجع إلى عدة عوامل كامنة في المسيحية ذاتها مثل: - التنافس بين مذاهبها. - انشقاقاتها العقدية حول طبيعة المسيح والموضوعات المتعلقة بها. - الاضطهاد السياسي للمذاهب التي تسربت من اضطهاد القيصر لها ثم اعتنقها الناس. - عدم رضا بعض رجال الكنائس عن عملية التوفيق بين المسيحية والتراث الفلسفي اليوناني الذي أظهر المسيحية من حيث معارفها الفلسفية كأنها منظمة مزيجها يوناني وروماني، ومخلخلة البينان من حيث بناؤها الديني. هذه الأمور وغيرها ساعدت الناس على أن يرغبوا عنها؛ لأن الوجه الهليني الذي ظهرت به طبع عليها أخص خصائصه: وهو الوثنية؛ إذ الفلسفة اليونانية لا تحب إلا أن تكون وثنية في جوهرها. وبات عجز المسيحية عن الانتشار واضحا في المنطقة العربية، وبلغ من عجزها أن ظهرت عبادات قريبة الشبه بها كالزرادشتية والبوذية بين الجماعات المسيحية نفسها. وظهرت المانوية وهي من أخطر العبادات الجديدة، وقد أسسها ماني حوالي 246م وقد مات ماني في السجن بسبب معتقداته.

_ 1 مدخل إلى القرآن الكريم -عرض تاريخي وتحليل مقارن: الدكتورة عهد محمد عبد الله دراز ص137.

وهذا وغيره أدى إلى انصراف الناس عنها إلى اعتناق هذه المذاهب، فكانت هذه المذاهب على خطورتها -في نظرهم- أقل تعقيدا في قضاياها، وأجمع للقلوب؛ لقلة اختلاف ذويها، ولا تُناظر المسيحية من حيث جفاف روحها الديني. يقول تايلور في كتابه "المسيحية القديمة": أما ما قابله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه في كل اتجاه فلم يكن إلا خرافات منفرة، ووثنية منحطة، ومخجلة، ومذاهب كنيسة مغرورة، وطقوسا دينية منحلة، وصبيانية، بحيث شعر العرب ذوو العقول النيرة: بأنهم رسل من قبل الله، ومكلفون بإصلاح ما ألم بالعالم من الفساد1. ويقول الدكتور شوقي ضيف: على أن هناك آفات كانت تشيع في هذا المجتمع الجاهلي لعل أهمها الخمر واستباحة النساء والقمار. ثم يقول: وأكثر من كان يتجر بها -أي الخمر- اليهود والنصارى، وكانوا يجلبونها لهم من بصرى وبلاد الشام ومن الحيرة وبلاد العراق. ويقول: إنهم كانوا يضربون خيامهم في بعض الأحياء أو في بعض القرى، ويضعون فوقها راية تعلن عنهم فيأتيهم الشباب؛ ليشربوا، وليسمعوا بعض القيان ممن يصاحبنهم2. ومن جانب المقابلة بين التراث الشرقي والتراث الغربي نقول: استطاع الشرق بعد أن هزم سياسيًّا: أن يرفض بعنف سيطرة التراث اليوناني الروماني، وحاول حصره داخل مدرسة الإسكندرية، وأن يصر بعنف بالغ -كما رأينا في موقف اليهودية- على رفض الوثنية الدينية، وتعرض اليهود من أجل ذلك إلى الشتات؛ وذلك في سبيل عقيدتهم. وهذا موقف يصم السياسة بأنها لا تستطيع تغير من عقائد الناس. هذا من ناحية الموقف الرافض للتراث الهليني من قبل اليهود.

_ 1 مدخل إلى القرآن -عرض تاريخي مقارن د/ محمد عبد الله دراز ص137. 2 العصر الجاهلي ص70.

أما المسيحية بعد ما بيَّنَّا موقفنا فإننا نلاحظ في النهاية -وهي دين شرقي- أنها سيطرت من جانبها على الوثنية الرومانية، وتشكلت الدولة الرومانية بالمسيحية، وحملت -ضمن أعبائها- عبء مشاكلها وتبعة نشرها. وليس في الأمر -كما رأينا- عجز في طبيعة العقل الشرقي أو انحطاط الشرق عن الغرب كما يزعمون، إنما كل ما في الأمر أن الورمان تبنوا -والغرب بعدهم- الثقافة الهلينية وهي ما كانت تعنيهم. أما حضارة الشرق فإن الإسكندر ما استطاع -ولا خلفاؤه من بعده- أن يقرها وإن هزمه سياسيَّا وحربيًّا غير أنه لم يقهره ثقافيًّا؛ لأنه لا يحب أن يكون منتميا إلا إلى نفسه من خلال تراثه السماوي أو الوضعي، وليس لعلة مرضية كما يزعمون حين يعللون رفض الشرق التراث اليوناني ووثنيته، وإذا كان كذلك فكيف يكون مريضًا وعنده من الوعي الحضاري الذي به فرض رسالته الدينية عليه؟ وهذا أعقد ما في المسألة.. وفي ذلك ما يفيد -من وجه آخر للمسألة- أن رسالة الشرق الدينية ضرورية للإنسانية، وذلك يفسر فيما بعد ظهور الإسلام: وإلا فلماذا أخذ الغرب بالدين الشرقي؟ ألسنا أمام مشكلة فيها تقابل الاستفهام وهو: لماذا رفض الشرق التراث الهليني؟ ولماذا قبل الغرب الدين الشرقي؟ وفي النهاية نقول: وحقيقة دور المسيحية واليهودية من خلال مصادر تاريخية أنهم كانوا وفق نصوصهم يعتقدون في "مسيا"1 جديد -أي: الممسوح بالطيب أو الذي مسحه يهوه بالطيب- وكانوا يذهبون إلى تفسير اضطهادهم بأن التاريخ -وفق تصورهم- يدور؛ ليحقق عودة مجتمعهم الذي تتحقق فيه الإرادة الإلهية واستفاضة نبوءتهم.

_ 1 تراث العالم القديم ص94.

يقول ابن سعد: كان في بني تميمك محمد بن شعبان بن مجاشع، وكان أسقفا يذكر سبب تسميته محمدا، قيل لأبيه: إنه يكون للعرب نبي اسمه محمد، فسماه محمدا1. يقول ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من فوقه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه ما كنا نسمع من رجال يهود -كنا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارَبَ زمانُ نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم2. كان اليهود دائما يبشرون بمسيا يخلصهم من وطأة ما وقع عليهم من شدائد حتى بعد مجيء المسيح3. فهذه النصوص التاريخية تفيدنا أن المسيحية أو اليهودية على حد سواء قامتا بدور تبشيري بنبي قرب مبعثه فكيف بعد مجيء محمد رسولا ينكرون عليه رسالته؟ لا أرى باعثًا على ذلك سوى أنهم كانوا يحاولون تزييف التاريخ الديني للرسالات الإلهية، وتلك قضية أثبتها القرآن حين أثارها عليهم.

_ 1 الطبقات الكبرى "1: 169". 2 المرجع نفسه "1: 169". 3 تراث العالم القديم ص94.

التنظيم الديني

التنظيم الديني: من الألفاظ التي لها علاقة بالدرجات والرتب الدينية عند النصارى لفظة البطرك، والبطريق -وقد وردت لفظة- البطريق- في شعر ينسب إلى أمية بن أبي الصلت، وقد ذهب علماء اللغة إلى أن البطرك هو مقدم النصارى، وهو في معنى البطريق أيضا. وبين البطريق والأسقف منزلة يقال لشاغلها: المطران، وقد عرف بأنه دون البطرك وفوق الأسقف.

وقد ذكر القلقشندي بأنه القاضي الذي يفصل الخصومات بين النصارى. والأسقف من الألفاظ التي تدل على منزلة دينية عند النصارى، وقد وردت في كتب الحديث. وقد ذكر بعض علماء اللغة أنه إنما سمي أسقف النصارى أسقفا؛ لأنه يتخاشع1. والقس من الألفاظ الشائعة بين النصارى، ولا تزال مستعملة حتى الآن، ويقال لها قسيس في الوقت الحاضر أيضا، وهي من أصل آرامي هو Gachicho ومعناه كاهن وشيخ، وقد جمعها أمية بن أبي الصلت على قساقسة2، وذكر بعض علماء اللغة أن القس والقسيس: العالم العابد من رءوس النصارى، وقد وردت لفظة "قسيسين" في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} [المائدة: 82] . وترد لفظة شماس في جملة الألفاظ التي لها معادن دينية عند النصارى الجاهلية، وهي من الألفاظ الحية التي لا تزال تستعمل في هذا اليوم أيضًا وتعدُّ من الألفاظ المعربة عن السريانية، وتعني خادم، ومنها البيعة، فهي إذن ليست من الوظائف الدينية الكبيرة، وإنما هي من المراتب الثانوية في الكنيسة. وورد في كتاب رسول الله إلى سادة نجران: "لا يغير أسقف عن سقيفاه ولا راهب عن رهبانيته ولا واقف عن وقفانيته" ويظهر من هذا الكتاب أن الواقف منزلة من المنازل الدينية التي كانت في مدينة نجران والظاهر أنها تعني الواقف على أمور الكنيسة أي الأمور الإدارية والمالية والمشرف على أوقافها وأملاكها3.

_ 1 المفصل جـ6 ص638، ص639 وانظر تاج العروس 6/ 296 النصرانية وآدابها، صبح الأعشى 5/ 472، اللسان 11/ 56. 2 المفصل جـ6 ص640، ص641 الطبقات لابن سعد 1/ 358. 3 لو كان منفلت كانت قساقسة يحييهم الله في أيديهم الزبرُ

الراهب

الراهب: هو المتبتل المنقطع إلى العبادة وعمله هو الرهبانية، وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة، وقد ذكرت الرهبانية في القرآن الكريم، وذكرت في الحديث. وقد نهى عنها الإسلام: لا رهبانية في الإسلام. وقد ندد القرآن الكريم كثيرًا من الأحبار والرهبان فورد: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 1، ومن عادات الرهبان وتقاليدهم التي وقف عليها أهل الجاهلية الامتناع عن أكل اللحوم والودك أبدا أو أمدا، وحبس النفس في الأديرة والصوامع والكهوف، والاقتصار على أكل الصعب من الطعام والخشن من الملبس، ولبس السواد والمسوح، وهي عادة انتقلت إلى الأحناف أيضا وإلى الزهاد من الجاهليين الذين نظروا نظرة زهد وتقشف إلى هذه الحياة، كما كانوا لا يهتمون بشعورهم فكانوا يطلقونها ولا يعتنون بها، ولذلك كانت شعورهم شعثا، وعبر عن الراهب بالأشعث؛ لأنه كان يطلق شعر رأسه ولا يحلقه ولا يعتني به2. وقد نهى الرسول بعض الصحابة -مثل عثمان بن مظعون- وهو من النصارى في الأصل من تقليد الرهبان في الإخصاء وفي الامتناع عن الزواج ومن التشدد في أمورٍ أحلها الله للناس. ويظهر أن هذا التشدد إنما جاء إليه وإلى أمثاله من وقوفهم على حياة الرهبان وعلى رأيهم وفلسفتهم بالنسبة لهذه الحياة، وفي حق هؤلاء نزل الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] . وذكر أن الرسول لما سمع بابتعاد "عثمان" من أهله دعاه، فنهاه عن ذلك ثم قال: "ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم: ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"، فنزلت الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} إلخ. يقول لعثمان: لا تجبّ نفسك فإن هذا هو الاعتداء. وورد في الحديث: "لا صرورة في الإسلام"، والصرورة التبتل وترك النكاح؛ أي ليس ينبغي لأحد أن يقول: لا أتزوج؛ لأن هذا ليس من أخلاق المسلمين بل هو من فعل الرهبان3.

_ 1 المفصل جـ6 ص643، وراجع الآيات -التوبة آية 34، المائدة آية 82، الحديد آية 57. 2 المفصل جـ6 ص644، ص645 تفسير الطبري 7/ 8، أبو السعود 4/ 141. 3 المفصل جـ6 ص645، ص646، الطبري 7/ 6 روح المعاني 7/7.

الساعور-الدير

الساعور-الدير: من أسماء المسيح وهو من أصل -سوعورو- Soouro- بمعنى زائر. وتطلق اللفظة على من يزور القرى ويطلع على أحوالها وذلك بأمر من الأسقف -والكنيس والكنيسة- موضع عبادة اليهود والنصارى فهما في مقابل المسجد الجامع عند المسلمين، والكلمة من الألفاظ المعربة عن الآرامية وتعني لفظة Knovchto كنشتو. كنشت في السريانية اجتماع ومجمع، وأطلقت بصورة خاصة على كنيس اليهود. ولهذا نجد العرب يطلقونها على معبد اليهود كذلك، ويقال في العبرانية للكنيس "كنيستا" بمعنى محل الصلاة، ونجد الكتب العربية تفرق بين موضع عبادة اليهود وموضع عبادة النصارى، فتطلق "الكنيس" على موضع عبادة اليهود، والكنيسة على موضع عبادة النصارى1. ومن الكنائس التي اكتسبت حرمة كبيرة عند النصارى العرب: كنيسة القيامة، وكنيسة نجران، وكنيسة الرصافة، وقد أشير في شعر للنابغة إلى صليب على الزوراء منصوب؛ أي على كنيسة، والصوامع والبيع هما من الألفاظ التي استعملها الجاهليون للدلالة على مواضع العبادة عند النصارى. وقد ذهب العلماء إلى أن البيعة من الألفاظ المعربة أخذت من السريانية. وقال علماء اللغة العرب: الصومعة كل بناء متصمع الرأس أي متلاصقه، والأصمع اللاصقة أذنه برأسه، وقد أشير إلى البيع في القرآن: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} 2 [الحج: 40] . لفظة الدير هي من الألفاظ النصرانية الشهيرة المعروفة بين العرب وهي أكثر اشتهارا من الألفاظ الأخرى التي لها علاقة بمواضع العبادة أو السكن عند النصارى.

_ 1 المفصل جـ6 ص649 غرائب اللغة ص187، ص204 النصرانية وآدابها. 2 المفصل جـ6 ص650، ص651 أيضًا المعرب ص81، المفردات ص288، اللسان 8/ 208.

كما كانت محلا ممتازا للشعراء ولأصحاب الذوق والكيف حيث كانوا يجدون فيها لذة ومتعة تسر العين والقلب من خضرة ومن ماء بارد عذب ومن خمر يبعث فيهم الطرب والخيال، ولذلك أكثر الشعراء في الجاهلية والإسلام من ذكر الأديرة في شعرهم حتى الشعراء النصارى مثل -عدي بن زيد العبادي- يترنم في شعره بذكر الدير؛ لأنه نادم فيه -بني علقما- وعاطاهم الخمر ممزوجة بماء السماء. ولفظة "الدير" هي مثل أكثر الألفاظ النصرانية من الألفاظ المعربة -عربت من أصل سرياني هو دير Dayr بمعنى دار- أي بيت الراهب1.

_ 1 المفصل جـ6 ص653، ص654، وأيضا غرائب اللغة ص182.

المحراب، الهيكل، قنديل

المحراب، الهيكل، قنديل: من الألفاظ التي استعملها النصارى في أمور دينهم -إذ أطلقوها على صدر كنائسهم وقد استعملت في الإسلام أيضا؛ حيث يشير إلى القبلة، ويؤم الإمام فيه المصلين. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن محاريب بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يصلون فيها، وقد وردت لفظة المحراب في أشعار بعض الجاهليين كما وردت بالقرآن الكريم2 وفي الشعر الجاهلي3. ويذكر علماء اللغة أن الهيكل بيت النصارى فيه صورة مريم وعيسى، وربما سمى به ديرهم، وأن الهيكل: العظيم واستعمل للبناء العظيم، ولكل كبير، ومنه سمي بيت النصارى الهيكل. لفظة قنديل من الألفاظ المعربة، أصلها يوناني هو Candela أي شمعة، وقد دخلت إلى العربية قبل الإسلام عن طريق الاتصال التجاري بين جزيرة العرب وبلاد الشام4.

_ 1 المفصل جـ6 ص653، ص654، وأيضا غرائب اللغة ص182. 2 آل عمران آية 37، 39، مريم آية 11، ص آية 21. 3 المفصل جـ6 ص655، ص656. 4 المفصل جـ6 ص657.

ومن أهم العلامات الفارقة التي ميزت معابد النصارى عن معابد اليهود والوثنيين الناقوس الذي ينصب فوق سطوح الكنائس وفي منائرها للإعلان عن أوقات العبادة ولأداء الفروض الدينية، وهو عند الجاهليين خشبة طويلة يقرع عليها بخشبة أخرى قصيرة يطلقون عليها "الوبيلة"، وهو في مقبال البوق عند يهود يثرب إذا أرادوا الإعلان عن مواعيد العبادة، وقد عرف هذا البوق بين عرب يثرب بـ القنع، وبـ الشبور، وقد ذكر علماء اللغة أن الشبور شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان يتقربون به1.

_ 1 المفصل جـ6 ص658، وأيضا عمدة القارئ 5/ 102، اللسان 8/ 126، 6/ 59.

أثر النصرانية في الجاهليين

أثر النصرانية في الجاهليين: وأهل نجران هم الذين كانوا يجادلون الرسول في طبيعة "المسيح" فلم يكن بمكة أو يثرب قوم منهم يستطيعون مجادلته في أمور الدين. وقد ذكر بعض المفسرين أن أهل نجران كانوا أعظم قوم من النصارى جادلوا الرسول في "عيسى" جاءوا إلى الرسول فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: "من هو؟ " قالوا: عيسى؛ تزعم أنه عبد الله، فقال: "أجل إنه عبد الله". قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به؟. ثم خرجوا من عنده غاضبين. وقالوا: إن كنت صادقا فأرنا عبدا يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه. فلما عادوا قال رسول الله: "مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون". لقد كانت النصرانية عاملا مهما بالطبع في إدخال الآراء الإغريقية، والسريانية إلى نصارى العرب، فقد كانت الكنيسة مضطرة إلى دراسة الإغريقية، ولغة بني "إرم"؛ لما للُّغتين من قدسية خاصة نشأت من صلتهما بالأناجيل.

الباب الرابع: الصابئة والمجوسية

الباب الرابع: الصابئة والمجوسية تاريخ الصابئة وجغرافيتها الفكرية مدخل ... الباب الرابع: الصابئة والمجوسية تاريخ الصابئة وجغرافيتها الفكرية: من الملل والنحل التي تحدث عنها القرآن -وهو يذكر الأديان والملل: الصابئة، والصابئة من الملل التي أثار القرآن بعض قضاياها، وعرض لها بالنقاش والجدل في أكثر من موضع، وكان من أهمها: "بشرية الرسول". كذلك عرض لها حين عرض لمقابلها وهو الحنيفية ملة إبراهيم الكبرى كما وصفها القرآن، فالصبوة -كما يذكر المؤرخون للأديان- في مقابلة الحنيفية1. فمن الناحية التاريخية: نجد أن الصابئة سابقة على الحنيفية التي جاءت مجادلة ومناقضة لها. يقول الشهرستاني: وكانت الفرق في زمان إبراهيم راجعة إلى صنفين اثنين: - الصابئة. - الحنفاء. فإن كان هذا النص يفيد: أن الفرقتين متساويتان في النشأة التاريخية، فنرى أن هناك من النصوص التي ذكرها الشهرستاني: ما تصرح بأسبقية الفكر الصابئي على الدين الحنفي، وذلك حينما ردَّ فكره -بتصريحهم- إلى "عاذيمون" و"هرمس"، ورد الحنيفية إلى رأس الحنفاء "إبراهيم"2. والصابئة كذلك أقدم من المجوسية، التي ترتد في نشاطها إلى "زرادشت"3 الذي ظهر في ملك "بختنصر" الذي جاء بعد "النيروز" بكثير وهو الذي أرسل إليه نبي الله إبراهيم على بعض الروايات التاريخية. ومن هنا كانت الصابئة من أقدم المذاهب فكرًا.

_ 1 الملل والنحل "1: 6" للشهرستاني المتوفى 548 هـ تخريج د/ محمد بن فتح الله بدران، الأنجلو جـ1، 2 وفتح الباري لابن حجر المتوفى سنة 181 جـ10. عن أبي بكر الرازي قال: وهم الذين بعث إليهم إبراهيم. والينسابوري في تفسيره على هامش الطبري المسمى غرائب القرآن ورغائب الفرقان ص301 قال: الذين جاءهم إبراهيم. 2 الشهرستاني ص "1: 10". 3 مروج الذهب للمسعودي "1: 171" المتوفى سنة 346 دار الشعب.

يروي الطبري: أنهم كانوا بجزيرة "الموصل"1 ويؤكد هذا النقل المسعودي فيقول: وديارهم بين بلد واسط والبصرة من أرض العراق2. ويقرر ابن حجر أن أهل بابل كانوا قوما صابئين3. ويقول النيسابوري: وينسب هذا المذهب إلى الكلدانيين4، ويتوسع الشهرستاني فيجعلهم يشملون النبط، والفرس، والروم، والهند5. فهذا المذهب كان واسع الانتشار الجغرافي، وأمته من الأمم الكبار. وقد اختلف فيه اختلافا كثيرا بحسب ما وصل إليهم من معرفة عن هذا المذهب. ويفيد نقل الشهرستاني: أنه شمل دولا من الشرق، ودولا من الغرب. والنقول السابقة -عدا توسع الشهرستاني- تفيد أن هذا المذهب نشأ في بلاد شرقية، وكانت الدول التي تميزت وتفردت بالسيادة في الشرق هي دولة الفرس. ودولة الفرس: هي التي حكمت تلك المناطق الجغرافية التي ذكرها الرواة تارة، وحكمتها الدولة الرومانية تارة أخرى. فالفرس أخذوا الملك من البابليين، كذلك والعراق كانت تحكم حت حكم ملوك دولتي الفرس الأولى والثانية. ويقول المسعودي: إن أنهار العراق احتفرت في عهدهم آخذة من الفرات6، فيكون أول الصابئة ظهر في إحدى ولايات دولة الفرس. ثم يتابع ويقول: ظهر في ملك "طهمورث" -من ملوك دولة الفرس الأولى- رجل وفد من الهند، يقال له: "بوداسف" وأحدث مذاهب الصابئة7.

_ 1 جامع البيان في تفسير القرآن للطبري "1: 310/ 352" الأميرية. 2 مروج الذهب الصفحة نفسها. 3 فتح الباري "10: 181". 4 في تفسيره السابق "1: 403". 5 الملل والنحل "1: 210". 6 مروج الذهب "1: 165". 7 نفس المرجع "1: 188".

ويقال إن هذا الرجل كان أول من أظهر آراء الصابئة من الحرنانيين والكيماريين. وهذا النوع من الصابئة مباين للحرنانيين في نحلتهم القديمة. وكلام المسعودي يفيد أن نشأتها الأولى كانت في حران، وما ينسب لبوداسف هو أنه أظهر آراءهم القديمة، ويرجع ظهور نشاطها بين ملوك فارس الأولى لميولهم الدينية وقد ورد في وصايا أردشير لابنه سابور: يا بني: إن الدين والملك أخوان، ولا غنى لواحد منهما عن صاحبه، فالدين أس الملك، والملك حارسه، وما لم يكن له أس: فمهدوم، وما لم يكن له حارس: فضائع. كذلك من ينظر في موضوعات عبادتها: يجد بينها وبين اهتمامات الدولة الفارسية شبهًا كبيرًا، فالمسعودي تحدث عن أعمال ملوك فارس الأولى قائلا: وتكلم هؤلاء القوم في مراتب الألوان: من الحمرة، والسواد، ومراتب الأنوار، وما وراء ذلك من أسرار الطبيعة. ثم قال: وتغلغل القوم في هذه المعاني: إلى ما علا من الأجسام السماوية من النيرين والأفلاك واختلافها في ألوانها وإلى غير ذلك من الأشخاص العلوية. وهذا التسطيح الفكري قابل لأن يجعل منه "بوداسف" مظاهر العبادة فيقول: إن معالي الشرف الكامل، والصلاح الشامل، ومعدن الحياة في هذا السقف المرفوع، وفي النجوم السيارة، وفي أفلاكها: التدبير الأكبر1. وفي المناظرة التي أوردها الشهرستاني في كتاب "الملل والنحل" ما يفيد أن صاحبها الأول "هرمس"، "وعاذيمون" لكن بعد انتهاء المناظرة استبعد2 الشهرستاني أن يكون "هرمس" من الصابئة.

_ 1 المرجع نفسه "1: 69". 2 يقول: وكان في الخاطر بعد: زوايان نريد نمليهان وفي القلم خفايا أكاد أخفيها، فعدلت عنها إلى ذكر "حكم هرمس العظيمن لا على أنه من جمبلة فرق الصابة، حاشاه، على أن حكمته تدل على تقرير مذهب الحنفاء" "2: 46".

وربما يقصد الشهرستاني من نفيه عن "هرمس": أن يكون من الصابئة ذلك النوع الذي نص عليه المسعودي -وهو متقدم على الشهرستاني- الذي ينسبه إلى "بوداسف" الهندي الذي أظهر نوعًا معينًا من "الصابئة" هذا النوع من الكيماريين. ويبدو أن "بوداسف" الهندي أظهر نوعا معينا من الصابئة "هذا النوع من الصابئة مباين للحرنانيين في نحلتهم" كما يروى المسعودي. وفي نظرنا: يمكن أن ينصرف استبعاد الشهرستاني لـ "هرمس" أن يكون من الصابئة إلى هذا النوع الذي أظهره "بوداسف" وهذا النوع الذي أظهره هو الخاص بعبادة الكواكب. ويؤكد احتمالنا ما رواه ابن النديم عن الكندى من أنه قال: إنه نظر في كتاب يقربه هؤلاء القوم: وهو مقالات لـ "هرمس" في التوحيد كتبها لابنه على غاية من التقائه في التوحيد -لا يجد الفيلسوف إذا اتعب نفسه مندوحة عنها وعن القول بها1. فهرمس يعتبر مؤسس مذهب التوحيد: في الصابئة و"بوداسف" أحدث الوثنية: في التوحيد. وعلى ذلك يكون "هرمس" و"عاذيمون" أوجدا الصابئة الأولى؛ التي تدعو إلى الروحانية، و"بوداسف" أحدث مذهب عبادة الكواكب، وذلك ما تقرره مصادر الإسلاميين2. وسواء أكان المراد هو الصابئة الأولى -تعبير الشهرستاني- أم صابئة بوداسف تعبير المسعودي، فإنهما معا نبت فكرهما في الشرق في بعض المناطق العربية من بلاد الرافدين. يقول صاحب "بلوغ الأرب"3: والصابئة قوم إبراهيم، كانوا بحران فهي دار الصابئة الأولى وكانوا قسمين هما:

_ 1 الفهرست لابن النديم المتوفى 385 هـ ص445 المكتب التجاري. 2 يقول ابن حجر في فتح الباري "1: 37" رواية عن غيره: هم منسوبون إلى صابي بن متوشلخ عم نوح، وهذا رأي ثالث يذهب بها بعيدا إلى نوح. 3 بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب "2: 24" السيد محمود شكري الألوسي البغدادي سنة 127، عني بنشره محمد بهجة الأثرى سنة 1942.

- صابئة حنفاء. - صابئة مشركون1. قال ابن حزم: وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الأرض والغالب على الدنيا ويقول: وهم المكذبون بنبوة إبراهيم2.

_ 1 يقول عمر بن الخطاب عندما سأله نعيم بن عبد الله: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا؛ هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش. قال جميل: يا معشر قريش قد صبا عمر؟ وردَّ عليه عمر: كذبت ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله يراجع ابن هشام ص219. 2 الفصل لابن حزم "1: 102".

انتقالها إلى جزيرة العرب

انتقالها إلى جزيرة العرب: ولما كانت صلة جزيرة العرب بالفرس قديمة، من حيث متاخمة الحدود والعلاقات السياسية، فإنه لمن المنتظر أن نرى انتقالا فكريًّا، يتناسب مع طبيعة عقل البدوي، وهذه العلاقات قديمة، حتى قيل: إن من ملوك الفرس الأولى من عرب الضحاك "اسمه: بيوراسب"، وزعموا أنه من اليمن، قال الشاعر العربي: وكان منا الضحاك تعبده الـ ... ـجامل والوحش في مساربها1 ويذكر المسعودي: أن الناس تنازعوا في ملوك الطوائف أمن الفرس كانوا، أم من النبط؟ أم من العرب؟ وكانت ملوك العرب من مضر بن نزار بن معد من اليمن. وقد قيل: إن أول من نزل من الملوك ببلخ وانتقل من العراق "يكادوس"، وقد كان سار نحو اليمن بعد أن كان له بالعراق -تمرد على الله- ببنيان بناه لحرب السماء. وملك اليمن الذي سار إليه "كيكاووس" في ذلك الوقت هو "شموين فريقس".

_ 1 الجامل: جماعة الجمال.

قال المسعودي: "وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام وتطوف به تعظيما له". وكان آخر من حج منهم -الفرس الأول- "ساسان" و"ساسان بن بك" أهدى غزالتين من ذهب وجواهر قذفها في زمزم. قال المسعودي: وقد ذهب قوم من مصنفي الكتب في التواريخ وغيرها من السير أن ذلك كان لجرهم حين كانت بمكة1. ثم قال معلقا: وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف لها. فمتاخمة الجزيرة لتخوم الفرس، وعلاقتها بها من الناحيتين الاقتصادية والسياسية ورحلات العرب التجارية: صيفا وشتاء، تحدث عنها القرآن فقال: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} ... السورة. وهذا يفيد أنه كما تبودلت السلع التجارية بين العرب وجيرانهم، تبادلوا معم إفرازات العقول والآراء على قدر ما لهم من حظ ف يالعقل ونصيب من الفكر والرأي. وهذا طريق طبعي لروافد انتقال الآراء الفكرية لأي أمة من الأمم، وأمة العرب ليست بدعا في ذلك. فاتصالات العرب التجارية بالعراق والشام زودت في العرب خبرة النقل التجاري والفكري بيد أن الشهور الطوال التي كان العربي يضربها بإبله عبر الصحراء قللت من اهتماماته الفكرية؛ فكان حظه من النقل الثقافي يبدو متواضعا بل وساذجا، لا يتكافأ مع نقله التجاري، كذلك كان ميلهم إلى الشعر يجعلهم ينأون عن استنباط الأمور، ومع ذلك يمكن أن نقول: من هذا الاهتمام الضئيل بالمعروف انتقلت ألوان شاحبة من الصابئة إلى الجزيرة العربية.

_ 1 المسعودي: مروج الذهب "1: 166" عن كتاب "السكيكين" ترجمة: عبد الله بن المقفع عن الفارسية الأولى ذكره المسعودي وأخذ عنه النص السابق، وقال عنه: الكتاب تعظمه الفرس لما قد تضمنه من خبر أسلافهم.

فلم يتفرغ دارس من العرب لدراستها إنما نقل منها شوائب ألم بها العربي: من تاجر عامله معاملة الصابئة، فإذا أعجبته نقلها، وإن عافها نبذها من غير سؤال عنها في الحالين. ينقل الشهرستاني "أن لهم حدودا وأحكاما" أي أن للصابئة شريعة عملية ذات كيان فكري، وإن صح ما قلناه تكون قد انتقلت إلى جزيرة العرب اسما من غير مضمون فكري؛ لأن استعمالها في اللسان العربي جعلها بمعنى: مال أو خرج، أو طلع، وليست اسما لمذهب فهو لفظ أطلقه العرب على خوارج الجاهلية، أي: الذين خرجوا عن دين الجاهلية، وعلى كل من استحدث دينا غير دينه، وهم الذين أطلق عليهم صابئة الحنفاء، هذا الإطلاق في حد ذاته يرشح رأينا في أنها انتقلت إليهم من غير مضمون فكري. أو يكون المذهب الصابئي انتقل بمضمونه الفكري منذ رحلة إبراهيم وإسماعيل، ونحن نعلم أن إبراهيم وإسماعيل استوطنا الجزيرة العربية. وهذا الفرض له من آيات القرآن ما يؤيده؛ فمنها ما ورد في سورة إبراهيم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون} 1، ومنها ما ورد في سورة البقرة في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . كذلك ذكر القرآن الكثير من مجادلات إبراهيم للصابئة. وهناك جانب آخر ذكره أنتوني نتنج2، أنه خلال فترة قصيرة حكم الكلدانيين الشام وبلاد شبه جزيرة العرب وجنوب تركيا خلفا للأشوريين.

_ 1 سورة إبراهيم آية 35، 36، 37 2 يراجع: العرب ص6 ترجمة: د. راشد البراوي، الناشر الأنجلو المصرية.

ومع هذا تكون الصابئة دخلت الجزيرة العربية منذ نبي الله إبراهيم وإسماعيل بمضمون فكري غير أنها على هذا الفرض دخلت مقابلة للحنيفية، وبناء على هذا جعل القرآن -والعرب قبله- كل من لا يعتنق الحنيفية صابئًا. فمن يوم أن دخل مذهب الصابئة العقدي شبه الجزيرة العربية دخل مضطهدا تحدوه لعنات نبي الله إبراهيم أبي الأنبياء، وبهذا نستطيع أن نفسر عدم انتشاره في الجزيرة العربية، كذلك نستطيع أن نفسير اضطهاد الذين اعتنقوه؛ لأنهم في عرف الجاهلية خارجين عن دين الجماعة. وعندما جاء الإسلام أكد نبذ هذا المذهب، ولما لم يكن له كتاب يحمل مكوناته الفكرية، ضاع صلبه ولم يبق منه سوى مسائل وقضايا عرض لها القرآن. وبسبب كل ذلك تعرض المذهب الصابئي لوسائل الضياع المتعددة الكفيلة بمحوه، من عدم كتاب له ومن اضطهاد ومكافحة إلى نبذ معتنقيه، كل ذلك لازم المذهب الصابئي منذ دعوة نبي الله إبراهيم والإسلام عندما عرض لها مناقشا كان ذلك منه؛ لخطورة قضاياها الدينية وأهمها: منعهم أن يكون النبي وسيطا يبلغ عن الله؛ لأنه بشر وأحلوا محله في الوساطة "النيرات" ثم عبدوها. والإسلام إذ يعرض لها بالنقد الجدلي لا يستقي معلوماته من صحف إبراهيم، فإنها لم تكن موجودة لدى العرب، ولا يستقيها من مصادر أصحابها؛ لأنهم لم يكونوا على علم كامل بها، إنما ذكرها له الوحي من حيث قضاياها الفكرية التي قد يثيرها العقل الإنساني، ويطيب له الجدل فيها، فما أثار القرآن من قضايا حولها كان يهم الصابئة الأولى والصابئة الأخرى، وذلك ما لم يتح للعربي الاضطلاع به والاطلاع عليه، ففكر القرآن عن الصابئة كان وحيا؛ لكونه أوسع مما كان يعرفه العرب عنها بل وأوسع مما كان يعرفه الصابئ العربي وغيره عن مذهبهم، وفي هذا ما يؤكد أن فكر القرآن عن الأديان كان فكرًا عالميًّا، أي يهم النوع الإنساني المفكر، دون نظر منه إلى مكونات العرب الفكرية خاصة.

وفي القرآن آيات تدل على أن عبادة الكواكب دخلت اليمن كما قصتها علينا سورة النمل قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 20-25] . وفي هذا يقول البلخي في كتاب "البدء والتاريخ": من قبائل الصابئة: سبا الحميرية أول من دان بها من العرب: يعبدون الشمس. وكنانة: تعبد القمر. وجرهم: المشتري. وقريش: عبدوا الشعري "الشعرى اليمانية". فقد ساد في جنوب الجزيرة العربية ثالوث من الكواكب، وفي أرض الرافدين منشأ الصابئة: - إله نجمة الصباح. هو عشتر: لدى البابليين والأشوريين. وعشترت: لدى الكنعانيين. - إله القمر: هو ود: عند المعينيين. والمقه: عند السبئيين. وعم: في قتبان. وسين: في حضرموت. وإله الشمس: اسمه في قتبان، وحضرموت: شمس، وشمش: في أرض الرافدين

فهذه الصلات تؤيد أن كثيرًا من العناصر الدينية في الشعوب السامية كان يتوقف بعضها على بعض1. ولعل في تسميتهم: بعبد شمس، وعبد اللات، وعبد الشعرى، ما يفيد عبادتهم للكواكب. لقد انبثَّت مظاهر في الوثنية العربية فارتفعت من مظاهر مادية في الأرض إلى عبادة النيرات أو أفلاكًا في السماء، فالمذهب الصابئي أثَّر كثيرًا في الوثنية العربية؛ ورضي العربي أن يأخذ منه ما يعدل به وثنيته. ففي وثنيته الكثير من العناصر الصبئية مثل عبادة الأفلاك، والحنيفية مثل عبادة الكعبة، والوثنية اليونانية مثل عبادة التماثيل، فخلطوا بينها وبين وثنيتهم وبينها وبين الحنيفية، لذلك قلنا: وإن ما لديهم من مذاهب الصابئة يعتبر ألوانا شاحبة. وينقل الرواة -كما نقلوا من قبل- أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأصنام، وينقلون أيضا: أن أبا كبشة هو أول من أتى هو بعبادة النجوم إليهم، ويصبح مفاد الروايتين أن الوثنية العربية قد وفدت إلى العرب من بلاد خارج الجزيرة العربية، كذلك الصابئة أتى بها أبو كبشة.

_ 1 الحضارة السامية القديمة: تأليف سبتينو موسكاني ترجمة: د. السيد يعقوب بدر.

العرب وعبادة الكواكب

العرب وعبادة الكواكب: وقد رأى بعض العلماء أن عبادة أهل الجاهلية هي: عبادة الكواكب في الأصل، وأن أسماء الأصنام والآلهة -وإن تعددت وكثرت- إلا أنها ترجع كلها إلى ثالوث سماوي هو: الشمس، والقمر، والزهرة، وهو رمز لعائلة صغيرة تتألف من أب هو: القمر، ومن أم هي الشمس، ومن ابن هو الزهرة، وذهبوا إلى أن أكثر أسماء الآلهة هي في الواقع نعوت لها، وهي من قبيل ما يقال له الأسماء الحسنى في الإسلام1.

_ 1 المفصل جـ6 ص50.

ونجد في حكاية كيفية اهتداء إبراهيم إلى عبادة إله واحد الواردة في سورة الأنعام تفسير لسبب تعبد الإنسان للأجرام السماوية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} 1 إلخ آية 75 وما بعدها من سورة الأنعام، فقد لفت ذلك الكوكب نظر إبراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الخالب تعبد له، واتخذه ربا -فلما أفل، ورأى كوكبا آخر أكبر حجما وأجمل منظرا منه تركه، وتعبد للكوكب الآخر وهو: القمر، فلما أفل ورأى الشمس بازغة وهي أكبر حجمًا وأظهر أثرا وابين عملا في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه جوه ومحيطه ترك القمر، وتعبد للشمس، فيكون قد تعبد لثلاثة كواكب قبل أن يهتدي إلى التوحيد هي: القمر، والشمس، والمشترى، أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين. ويشير القرآن: في مواضع أخرى إلى عبادة الجاهلين للأجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} 2 ... إلخ. فصلت آية 37. وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس، والقمر، والزهرة. واعتبر الجاهليون القمر أبا في هذا الثالوث، وصار هو الإله المقدم فيه، وكبير الآلهة، وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين، وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب3. والإله "القمر" هو الإله "المقه" عند السبئيين، وهو إله سبأ الكبير، وهو: "عم" عند القتبانيين، وهو: "ود" عند المعنيينن، وهو: "سين" عند الحضارمة، واتخذ "الثور" من الحيوانات رمزًا للقمر، ولذلك عد "الثور" من الحيوانات المقدسة التي ترمز إلى الآلهة. ونجد: هذه الصورة مرسومة في النصوص اللحيانية، والثمودية، وعند غير العرب من الشعوب السامية؛ وقد نص على اسمه في الكتابات؛ إذ قيل: له "ثور". وقد ذكر الألوسي: أن عبدة القمر اتخذوا له صنما على شكل عجل وبيد الصنم جوهر

_ 1 سورة الأنعام آية 74. 2 سورة فصلت آية: 37. 3 السابق ص51، ص52.

يعبدونه ويسجدون له، ويصومون له أياما معلومة في كل شهر؛ ثم يأتون إليه بالطعام والشراب، والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص، والغناء، وأصوات المعازف بين يديه؛ ولم يشر إلى اسم الجاهليين الذين فعلوا ذلك فعلَّه قصد عبدة القمر بصورة عامة من العرب وغيرهم1. وقد تعبد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب، وترجح عبادتها إلى ما قبل الميلاد، وفي زمن لا نستطيع تحديده؛ لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب؛ وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين، والكنعانيين والعبرانيين؛ وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم إلى عبادة الشمس بين العبرانيين، وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس، ومع ذلك عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس، فيها عرفت بـ "بيت الشمس" والشمس أنثى في العربية، فهي إلهة، أما في كتابات "تدمر" فهي مذكر، ولذلك فهي إله ذَكَر عند التدمريين. ويرى "ولهوزن": أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية، وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين، وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من "شمس" وكلمة أخرى؛ ويدل على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة2. وذكر "سترابو" أن: helios أي الشمس هي: الإله الأكبر عند النبط، ولكن الكتابات النبطية، لا تؤيد هذا الرأي. والإله الكبر فيها هي: "اللات" فلعل "سترابو" قصد: اللات؛ وإذا كان هذا صحيحًا فتكون "اللات هي الشمس" والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا بـ "عبد شمس". وقد ذكر الإخباريون: أن أول من تسمى به "سبأ" الأكبر؛ لأنه: أول من عبد الشمس، فدعي بـ "عبد شمس".

_ 1 المفصل جـ6 ص54. 2 السابق ص55.

وقد ذكر أن بني تميم تعبدت له، وكان له بيت وكانت تعبده بنو "اد" كلها، وكانت سدنته من "بني أوس بن مخاش" بن معاوية، فكره هند ابن أبي أهالة، وصفوان بن أوس بن مخاش. وذكر أن عبد "شمس" اسم أضيف إلى "شمس المساء"؛ لأنهم كانوا يعبدونها، والنسبة عبشمي1 ويلي الشمس والقمر الزهرة، وقد ذكرت في النصوص العربية الجنوبية، وتسمى "عشتر" وهو بمثابة الابن للشمس والقمر؛ وهذا الثالوث الكوكبي يدل في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين على أن عبادة العرب الجنوبية هي عبادة نجوم، وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب هي: الأب: وهو القمر، والابن: وهو الزهرة، والأم: وهي الشمس2. وعبد بعض أهل الجاهلية أجراما سماوية أخرى، وتقربوا إليها بالنذور والصلوات، ففي كتب الإخباريين أن طائفة من تميم عبدت "الدبران" وفي كتبهم أيضا: أن بعض قبائل لخم، وخزاعة، وحمير، وقريش عبدوا "الشعرى". وأن أول من سن ذلك لهم، وأدخل تلك العبادة إليهم: "أبو كبشة" وهو من خزاعة أحد أجداد النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبل أمهاته. خالف قريشا في عبادة الأصنام، وعبد "الشعرى العبور" وكان يقول: إن الشعرى تقطع السماء عرضا، فلا أرى في السماء شيئا شمسا ولا قمرا، ولا نجما يقطع السماء عرضا3. وذكر القرطبي: أن أول من عبد "الشعرى": "أبو كبشة"؛ ولذلك كان: مشركو قريش يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم، وقالوا: ما لقينا من ابن أبي كبشة، وكان الحارث -وهو غبشان ابن عمرو بن ملكان- ويكنى أبا كبشة ممن يعبد الشعرى. والشعرى: هي المقصودة في الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم آية 49] وكان ناس في الجاهلية يعبدون هذا النجم الذي يقال له:

_ 1 المفصل جـ6 ص55، ص56. 2 السابق ص57. 3 السابق ص58، 87

"الشعرى" وهو: النجم الوقاد الذي يتبع "الجوزاء" ويقال له: "المرزم" وقد كان من لا يعبد "الشعرى" من العرب: يعظمها، ويعتقد تأثيرها في العالم1. ويذكرون أن بعض "طيئ" عبدوا "الثريا" وبعض قبائل ربيعة عبدوا "المرزم" وأن كنانة: عبدت "القمر". ويتبين من بعض الأعلام المركبة مثل: "عبد الثريا" و"عبد نجم" أن "الثريا" و"نجما" صنمان معبودان في الجاهلية. وقد ذهب بعض المفسرين: إلى أن النجم المذكور في سورة النجم في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} آية 2 "الثريا" والعرب تسمي "الثريا" نجما، وقال بعض آخر: إن النجم هنا: الزهرة؛ لأن قوما من العرب كانا يعبدونها3. وعبد بعض الجاهليين "المريخ" واتخذوه إلها، كما عبد غيرهم "سهيلا" وعطارد، والأسد، وزحل". وقد ذكر أهل الأخبار: أن أهل الجاهلية يجعلون فعلا للكواكب حادثا عنه، فكانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وكانوا يجعلون لها أثرا في الزرع، وفي الإنسان. فأبطل ذلك الإسلام، وجعله من أمور الجاهلية جاء في الحديث: "ثلاث من أمور الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء" 4.

_ 1 المفصل جـ6 ص58، تفسير القرطبي 17/ 119. 2 سورة النجم. آية 1 3 السابق ص59، وبلوغ الأرب 2/ 240. 4 المفصل جـ6 ص60، ابن الأجرابي الأزمنة والأنواء ص136.

معنى الصابئة وأقسامها

معنى الصابئة وأقسامها: رأينا فيما سبق من القول: أن الصابئة نشأت أول ما نشأت في العراق. سواء أكانت الصابئة الأولى التي أنشأها "هرمس" أو الصابئة الخرى التي نسبت إلى "بوداسف" فإن: النشأة كانت في العراق وبعض من بلاد فارس. فيا هل ترى: عندما نقلت الكلمة إلى الجزيرة العربية نقلت من مصدرها إلى العربية كما هي؟ أم ترجمها العرب عن أصلها الفارسي أو الأرامي؟

لا نجد لدينا ما يرجح الاحتمال الثاني؛ لأن الكلمة مجهول نسبها إلى لغة معينة فيبقى الاحتمال الأول: وهو أنها نقلت إلى الجزيرة العربية، وأصبحت من الكلمات المشتركة بين اللغتين واللسانين العربي وغير العربي وذلك جائز. وهناك احتمال ثالث وهو أن للكلمة وضع عربي، وأصبحت علما على مذهب غير عربي، وهذا ما نراه قريبا إلى الصواب. ومما وصل إليه بحثنا عن أصل الكلمة أننا لم نجد لها أو حولها بيتا من الشعر، تناول معتنق هذا المذهب مدحا أو قدحا -قوي النسبة لشاعر أو منحول إليه- وهذا يجعلنا نميل إلى أن هذا اللفظ أطلقه القرآن اصطلاحا على مقابل من خالف وثنية الجاهلية الأولى وليس من أهل الكتاب. يقول الألوسي: اختلف في اللفظ: - فقيل: غير عربي. - وقيل: عربي1. ثم يترك الألوسي نقله "غير عربي" على عمومه من غير تعقيب يبين فيه أصل هذه الكلمة: أفارسي أم هندي أم سرياني، أعرض عن هذا ثم راح يبين اشتقاقها العربي2 فقال: - صبا معتلا بمعنى مال. قال الشاعر: إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يُصبِي - وصبأت النجوم: إذا طلعت. يقول ابن منظور: عنوا: أنه خرج من دين إلى دين، ونقل عن ابن إسحاق الزجاج قوله في الصابئين: معناه: الخارجون عن دين إلى دين.

_ 1 روح المعاني "1: 231" للألوسي المتوفي سنة 1270. 2 لسان العرب ابن منظور "108.1" يقول ابن منظور: يزعمون أنهم على دين نوح وهم كاذبون.

وفي حديث بني جذيمة: كانوا يقولون لما أسلموا: صبأنا صبأنا. وكانت العرب تسمى النبي الصابئ1. في اللسان العبري: نرى كذلك الكلمة في اللسان العبري تفيد ما يفيده الوضع العربي: ففي الأسفار: - فصبأوا على مدين2. - هصبئتم على أريئل3. - أي الصابئون على بيت المقدس. - وردت "أريا"4 بمعنى: أسد، وإل في العبرية بمعنى: الله، يعني: أن الصابئين على بيت المقدس أسد الله5. - وورد بمعنى: الحند6. - بمعنى: الجهاد أو القتال والحرب7.

_ 1 المرجع نفسه، كذلك يراجع كتاب تهذيب إصلاح المنطق شرح ابن الخطيب التبريزي لمتن إصلاح المنطق لابن السكيت قال: صبأ يصبأ: خرج من دين إلى دين. - لم نجد فيما رجعنا إليه من مصادر اللغة العربية المختلفة بيتا واحدا من الشعر الجاهلي يفيد مدح مذهب الصابئة، أو ذمه، وذلك ربما يرجع في نظرنا: إلى أنه كان مضطهدا، ولا يستبعد هذا الاحتمال؛ لأن العربي وإن اشتهر بالصلابة والاحتمال، فإن التايخ لا يروي في عصره الجاهلي: موقفا يشهد لعرب الجاهلية بحبهم للاستشهاد في سبيل عقيدتهم الدينية، وإنما تواتر إلينا التاريخ مأثورا عندما هبوا لمنازلة أبرهة، انصرفوا عنه عندما عرفوا وجهته: أنه يقصد البيت، قائلين له على لسان سفيرهم المفاوض: أما الإبل فهي لي، وأما البيت فله رب يحميه، فالعربي لا يأبه لدينه، وآثر تاريخيا أنه استشهد في سبيل الحب: مجانين الهوى، وبلغت شجاعتهم: أنهم كانوا لا يتهيبون من وعيد قومهم وإنذارهم بالبطش. 2 سفر العدد 31-7. 3 أشعيا 29-7. 4 أيوب 18-10. 5 ملتقى اللغتين العربية "1: 62"، مراد فرج سنة 1931. 6 الرجس المخرب كما جاء في دانيال "11: 31" وتجعل الرجس المخرب. 7 سفر العدد 31-3.

- وأطلق على ما بالسموات من كواكب ونجوم1. فالفعل في اللسان العبري يشمل: المعنى العربي وزيادة، فيفيد معنى: تقدموا، وتجمعوا، أعدوا أنفسهم للجهاد لله، والعمل لما يقضي به أمر الله2. "وصبأ" الأعداء: زحفوا وهجموا، فيها ما يحتمل أنها أطلقت لغويا وليس فيها ما يحتمل أنها أطلقت على نحلة، أو دين أو مذهب معين. وتقول دائرة المعارف الإسلامية: أن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري "ص. ب. ع" أي غطس، ثم أسقطت العين وهو يدل بلا ريب على المنديا، أو الصبوء وهي فرقة يهودية نصرانية تمارس شعيرة التعميد في العراق "نصارى يوحنا المعمدان"3. ويبدو أن اصطلاح صابئة: أطلق على جماعتين من اليهود: الجماعة الأولى: هم اليهود الذين خرجوا على المسيح: فهؤلاء صابئة مؤمنون. الجماعة الثانية: هم اليهود الذين وافقوا أبوللونيوس "عندما فتح أورشليم 167، وهو أحد قواد أنطونيوس، هدم السور، وبني في مدينة داود قلعة جديدة، وملأها بالجند، وجاء في أعقابه مندوب يحمله أمرا بتحريم الديانة اليهودية ووضع هيكل إغريقي: هو الرجس المخرب4 فوق المذبح اليهودي بفناء المعبد؛ ليحل الوثنية محل اليهودية، أو كما يقول المؤرخون5؛ ليوحد الديانة بالبلاد، وافق كثير من اليهود على الدخول في تلك العقيدة الوثنية -واليهودي لا يصنع تماثيل للأرباب- وانضموا للحزب المشايع للهلينستية، المناصر لأنطيوخوس، فهؤلاء صابئة وثنيون من اليهود6

_ 1 سفر العدد "4-19-27". 2 تكوين 2-1 تثنية 4-19 وأشعيا "34-4". 3 دائرة المعارف الإسلامية "14: 89". 4 جاء في سفر دانيا "11: 31" وتجعل الرجس المخرب. 5 الحضارة الهلينستية: قارن ص229. 6 يروي ابن حجر في فتح الباري "1: 310" رواية عن أبي العالية تقول: الصابئون فرق من أهل الكتاب: يقرؤون الزبور، هذا يؤيد ما ذهبنا إليه أن في اليهود صابئة. وتقول دائرة المعارف الإسلامية "89: 89" ومن الواضح أن الصابئة الذين ذكرهم القرآن وجعلهم في ثلاثة مواضع: هم من اليهود والنصارى: يعدون من المنديا، وتلاحظ أن النص يحتوي على خطأين: الخطأ الأول: أن القرآن ذكر الصابئة والنصارى من أهل الكتاب في ثلاثة مواضع ومعهما اليهود والنصارى. الخطأ الثاني: قوله أن اليهود والنصارى يعدون من المنديا، فإن القرآن لا يستنتج منه هذه النتيجة وأن ما في القرآن يفيد: أنه مذهب يغاير ما عليه اليهود والنصارى؛ لأن القرآن ذكر الصابئة معهما كما في سورة البقرة أو بينهما في كما سورتي الحج والمائدة.

فالمعنى في الوضع اللغوي لكلمة صابئ لا ينبئ من قريب أو من بعيد عن معنى مقدس، أراده العربي منها: والصابئ عند العربي -مع العبري- كلمة وصفية تعطي معنى "زنديق" في العهد العباسي أو في عصرنا. والعرف الجاهلي استعملها وأطلقها على كل من خرج عن دين الجماعة أو القبيلة، وعبر بها عن سخطه عندما أراد أن يسخط على كل من جانب دينه الرسمي أو مألوف وثنيته. وعلى ذلك يكون معناها عند العربي واسعا: يتسع لمن استحدث دينا غير دين قومه، ووسعت أيضا كل من خرج من دينه إلى غير دين. يقول الطبري: والصابئون جمع صابئ، وهو: المستحدث بسوى دينه دينا، كالمرتد في الإسلام عن دينه، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب: صابئا. ثم قال: اختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل: - فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى دين. - وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم1. وهذا يذهب إليه الشهرستاني: عندما عدها نحلة ولم يجعلها دينا2. فعندما يستعملها العربي فإنه يستعملها بمعناها اللغوي: الخروج أو الميل. قال المشركون للرسول: قد صبأ. لذلك لم يؤمن بعض العرب برسول الله؛ لأنهم وضعوا في اعتبارهم أن الرسول وأصحابه من الصابئة، أي الخارجين على دين الجماعة.

_ 1 تفسيره ص252 "جامع البيان في تفسير القرآن". 2 روح المعاني للألوسي "1: 231". - يذكر صاحب فتح الباري رواية عن ابن مردويه بإسناد حسن عن ابن عباس قال: الصابئون ليس لهم كتاب.

فلم يستعمله العربي بمعنى: مذهب معين أو نحلة معينة لجماعة معينة أو يكون قد استعمله لكننا لم نر لذلك نصًّا لكن إطلاقه كان على الخارج مطلقًا. أما الإسلام: فأطلقها على صنف ذي عقيدة، أخطأت تنزيه الله، فوسطت الكواكب بينها وبينه، إذ الكواكب في عرفهم تحتوي على النور الإلهي. وبعضهم عبد الملائكة لخاصتها الروحيانية، وكان ذلك اجتهادا منهم أو توجيها من بعض حكمائهم. يقول أبو حنيفة: إنهم ليسوا بعبدة أوثان، وإنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة1. وقيل: هم قوم موحدون يعتقدون تأثيرهم النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيى2. ولعل هذا النص ظاهر الوضع والانتحال؛ لأنهم يقولون بالوسائط الروحانية ولا يقولون بوسيط بشري مثل وساطة الأنبياء، وهذا من أهم عقائدهم التي صادمهم فيها القرآن، ويمكن حمله على صنف معين: صابئة المنديا أي: الذين اتبعوا يوحنا المعمدان وخرجوا على تعاليم اليهود وهذا ما ذهبت إليه دوائر المعارف الأجنبية واختارته لكن المصادر الإسلامية عدتهم فرقة من فرقهم. أما نص أبي حنيفة فإن القرآن يؤيده؛ لأنه عدهم وسطا بين اليهود والنصارى. ويورد الطبري نصا عن ابن وهب يؤكد ما ورد عن أبي حنيفة يقول: الصابئون ليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول: "لا إله إلا الله"3. فهم قوم يعظمون الكواكب بناء على تفسيرين: - الأول: أن خالق العالم: الله إلا أنه أمر بتعظيم هذه الأجرام.

_ 1 المرجع نفسه 2 تفسيره "1: 252". 3 غرائب القرآن ورغائب الفرقان "1: 301" للنيسابوري.

- الثاني: أنه خلق الأفلاك والكواكب وفوض التدبير إليها، فيجب على البشر تعظيمها؛ لأنها هي المدبرة لهذا العالم. يقول الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق1: "ومذهب الصابئة- على ما يحيط بتاريخه من غموض- يكاد يتم الاتفاق على أنه يقر بالألوهية، ويرى أنها تحتاج في معرفة الله ومعرفة أوامره وأحكامه إلى متوسط يكون روحانيا لا جسمانيا؛ ففزعا إلى هياكل الأرواح وهي الكواكب، فهم عبدة الكواكب". بعد ما سبق نقول: إن الكلمة في الاستعمال العربي الجاهلي أطلقت على من خرج من دينه سواء إلى دين أو إلى غير دين، ويقول أبو حيان المفسر: الصابئون: قيل هم الخارجون من دين مشهور إلى غيره. وفي الاستعمال الإسلامي تطلق على جماعة بعينها معتنقة مذهبا معينا غير الحنيفية؛ لأن القرآن عندما يذكر الصابئة يذكرها مقترنة بدعوة معتنقيها إلى الإسلام، أما الحنيفية فإن الإسلام يصف بها نفسه. وتبقى كلمة ذكرها المستشرق الألماني يوليوس فلهوزن يقول فيها: "وإذا كانت أقدم تسمية أطلقها على المسلمين من لم يدخل في زمرتهم هي تسميتهم بالصابئين فلا يمكن أن يكون لها سبب غير ذلك"2. يعلق الدكتور أبو ريدة على هذا الهامش فيقول: ربما يكون قصد المؤلف ما لوحظ من شبه بين بعض عبادات الصابئة وبعض العبادات الإسلامية3.

_ 1 تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق ص102. 2 تاريخ الدولة العربية نقله عن الألمانية، وعلق عليه دكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة ص3 راجعه د. حسين مؤنس-الألف كتاب 136. 3 سألت امرأة عربية صحابيين من صحابة رسول الله: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله، قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين، ثم لما رجعت إلى قومها قالت: العجب، لقيني رجلان: فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ ... إلى آخر الحديث. يقول ابن حجر في فتح الباري "1: 310": هناك فرق بين الصابئ: المراد في هذا الحديث، والصابئ المنسوب للطائفة المذكورة.

نقول: ربما هذا ما قصده المؤلف، أي أن الشبه بين المسلمين والصابئين هو الذي سوغ للمشركين أن يطلقوا على المسلمين صابئة بينما لو لاحظ -المؤلف- الآيات الثلاث التي تناولت الصابئين لم تعفهم من الدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح وفي الأخرى تناولتهم بالإنذار الشديد من الله فلم يهادنهم الرسول، ولم يصطنع معهم دون غيرهم لينا في القول، إنما كان موقفه يتسم بالوضوح والحسم مع سائر الأديان، ولم يؤثر أن ادعي عليه أنه افتراه من الصابئة أو ادعت عليه الصابئة هذه الفرية. أما من جهة إطلاق المشركين على المسلمين: صابئة، فإن هذا كما بينا كان من باب وصفهم بأنهم خرجوا على دين الجماعة الرسمي ومألوف عقائدها. يقول الألوسي: وأهل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون محاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا؛ فقد خرجوا عن تقييدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق1. قال ابن كثير: وأظهر الأقوال: قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين إنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقررا لهم يتبعونه ويتفهمونه. ولذا كان المشركون ينبذون من أسلم: بالصابئ، أي: أنه قد خرج من سائر الأديان، وأديان أهل الأرض إذ ذاك2.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 252" الألوسي. 2 تفسير ابن كثير "1: 103".

أقسام الصابئة

أقسام الصابئة 1: أولا- الصابئة الأولى أو صابئة الحنفاء: أصل فكر الصابئة الأولى من جهة نظرنا: القول باحتياجها في معرفة الله، ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه: إلى متوسط، والتي يقال عنها: أنها تنسب إلى "هرمس" و"أنماثاذيمون" على ما تذهب إليه مصادر الإسلاميين.

_ 1 ولعل أحسن من توسع في هذا البحث وبيَّن الفرق الصابئية مستندا إلى العقل والنقل هو ابن الإمام أبو الحسن على بن محمد المكنى بأبي علي بن سالم التغلبي الفقيه الأصولي الملقب سيف الدين الآمدي المتوفى عام 631هـ؛ فقد ذكر في كتاب خطي له يدعى "كتاب أبكار الأفكار" حقق بعضه د. أحمد المهدي. أن أشهر فرق هذه الجماعة أربع وهي: الفرقة الأولى: أصحاب الروحانيات: وقد يقال ذلك بالرفع أخذا من الروح وهو جوهر. وقد يقال بالنصب وهو حالة خاصة به. وقد زعم هؤلاء أن أصل وجود العالم يتقدس عن سمات الحدث وهو أجل وأعلى من أن يتوصل إلى جلاله بالعبودية له والخدمة من السفليات وذوات الأنفس المنغمسة في عالم الرذائل والشهوات، وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات بينه وبين السفليات وهي أمور روحانية مقدسة عن المواد الجرمانية "نسبة إلى الجرم" والقوى الجسمانية والحركات المكانية والتغيرات الزمانية في جوار رب العالمين. وهم مجبولون على تقديسه وتمجيده وتعظيمه دائما وسرمدا. قالوا: وهم آلهتنا وأربابنا ووسائلنا إلى حاجاتنا وبهم يتقرب إلى الله تعالى. وهي المدبرة للكواكب الفلكية والمديرة لها على التناسب المخصوص حيث يتبعها انفعالات في العناصر السفلية وحركات بعضها إلى بعض وانفعال بعضها من بعض عند الاختلاط والامتزاج المفضي إلى التركيب الموجب؛ لتنوع المركبات إلى أنواع المعادن والنباتات والحيوانات وتصريف موجودات الأعيان من حال إلى حال ومن شأن إلى شأن إلى غير ذلك من الآثار العلوية والسفلية. وزعموا أن الكواكب الفلكية هي هياكل هذه الروحانيات وأن نسبة الروحانيات إليها في التقدير لها والتدوير، نسبة الأنفس الإنسانية إلى أبدانها وأن لكل روحاني هيكلا يخصه ولكل هيكل فلكًا يكون فيه. وزعموا أن المعرف لهم "غارميون وهرمس" اللذان هما أصل علم الهيئة وصناعة النجامة. وهرمس هو أول من قسم البروج ووضع أسماءها وأسماء الكواكب السيارة ورتبها في بيوتها وبين الشرف والوبال والأوج والحضيض والمناظر والتثليث والتسديس والتربيع والمقابلة والمقارنة والرجوع والاستقامة والميل والتعديل، واستقل باستخراج أكثر الكواكب وأحوالها، وقيل إن غارميون هو شيث وهرمس وهو إدريس "عليه السلام". الفرقة الثانية: أصحاب الهياكل: أنهم قالوا: إذا كان لا بد للإنسان من متوسط فلا بد من أن يكون ذلك المتوسط كما نشاهده ونراه حتى نتقرب إليه، والروحانيات ليست كذلك فلا بد من متوسط بينها وبين الإنسان، وأقرب ما إليها هياكلها؛ فهي الإله والأرباب المعبودة والله تعالى رب الأرباب وإليه التوسل والتقرب، فإن التقرب إليه =

......................................

_ = تقرب إلى الروحانيات التي هي كالأرواح بالنسبة إليها، ولا جرم أنهم دعوا إلى عبادة الكواكب السبعة السيارة، ثم أخذوا في تعريفها وتعريف أحوالها بالنسبة إلى طبائعها وبيوتها ومنازلها ومطالعها ومغاربها واتصالاتها ونسبتها إلى الأماكن والأزمان والليالي والساعات وما دونها إلى غير ذلك، ثم تقربوا إلى كل هيكل وسألوه بما يناسبه من الدعوات فيما يناسبه من الأماكن والأزمان واللباس الخاص به، وبالخاتم المطبوع على صورته، والهياكل عندهم أحياء ناطقة بحياة الروحانيات التي هي أرواحها، ومتصرفة فيها. ومنهم من جعل هيكل الشمس رب الهياكل والأرباب، وهذه الهياكل هي المدبرة لكل ما في عالم الكون والفساد على ما سلف في تعريف مذهب الفريق الأول، وربما احتجوا على وجود هذه المدبرات وأنها أحياء ناطقة بأن حدوث العالم؛ إذ الكلام فيه إما أن يكون مستندا إلى حادث أو قديم، ولا جائز أن يكون مستندا إلى حادث؛ إذ الكلام فيه كالكلام في الأول، والتسلسل والدور محالان، فلم يبقَ إلا أن يكون مستندا إلى ما في نفسه قديم، وذلك القديم إما أن يكون موجبا لذاته أو بالاختبار، فإن كان الأول فإما أن يكون كل ما لا بد منه في إيجاد الحوادث متحققا معه، أو أنه متوقف على تجدد، فإن كان الأول فيلزم قدم المعلوم والقدم علته وشرطه، وإن كان الثاني فالكلام في تحديد ذلك الأمر كالكلام في الأول، وهو تسلسل، فلم يبقَ إلا أن يكون فاعلا مختارا، وليس في عالم الكون والفساد فاعل قديم مختار إلا الأفلاك والكواكب؛ ولذلك حكموا بأنها أحياء ناطقة. الفرقة الثالثة: أصحاب الأشخاص وهؤلاء زعموا أنه إذا كان لا بد من متوسط مرئي والكواكب وإن كانت مرئية إلا أنها قد تُرى في وقت دون وقت؛ لطلوعها وأفولها وظهورها وصفائها نهارا، فدعت الحاجة إلى وجود أشخاص مشاهدة نصب أعيينا، تكون لنا وسيلة إلى الهياكل التي هي وسيلة إلى الروحانيات، التي هي وسيلة إلى الله تعالى، فاتخذوا بذلك أصناما وصورا على صور الهياكل السبعة، كل صنم من جسم مشارك في طبيعته لطبيعة ذلك الكوكب، فدعوه وسألوه بما يناسب ذلك الكوكب في الوقت والمكان واللبس والتختم، بما يناسبه والتحيز المناسب له، على حسب ما يفعله أرباب الهياكل، إلا أنها هي المعبودة على الحقيقة. وهذا هو الأشبه بسبب اتخاذ الأصنام. ويحتمل أن يكون اتخاذ الأصنام بالنسبة إلى غير هذه الفرقة وتعظيمها؛ لاتخاذها قبلة لعبادتها أو لأنها على صورة بعض من كان يعتقد فيه النبوة والولاية تعظيما له، أو لأن القدماء أرباب الهياكل والأصنام وعلماءهم ركبوا فراغ طلاسم ووضعوها فيها، وأمروهم بتعظيمها؛ لتبقى محفوظة بها، وإلا فالاعتقاد الألوهية فيما اتخذوه من صور من الأخشاب والأحجار وكونه خالقا لمن صوره ومبدعا لما وجده قبل وجوده من العالم العلوي والسفلي. ومما لا يستجيزه عقل عاقل بل البداهة برده وإبطاله وإن كان وقع ذلك معتقدا لبعض الرعاع ومن لا خلاق له من العوام منه، فلا يلتفت إليه ولا معول عليه. الفرقة الرابعة: الحلولية: وقد سماها ابن بطوطة وغيره من ثقات المؤرخين بالحرنانية، وهو الأصح عندنا وزعموا أن الإله المعبود واحد، في ذاته أبدع أجرام الأفلاك وما فيها من الكواكب وجعل الكواكب مدبرة لما في العالم السفلي، فالكواكب آباء أحياء ناطقة، والعناصر أمهات، وما تؤديه الآباء للأمهات تقبلها بأرحامها فتحمل عند ذلك المواليد، وهي المركبات، والإله تعالى يظهر في الكواكب السبعة ويتشخص بأشخاصها من غير تعدد في ذاته، وقد يظهر أيضا في الأشخاص الأرضية الخيرة الفاضلة وهي ما كان من المواليد، وقد =

والحنفاء: هم الذين اتبعوا ملة إبراهيم، وعندما يرتبط الاصطلاحان بعضهما ببعض يصبح المعنى الاصطلاحي مغايرًا لكل من الاصطلاحين على حدة، وينفرد بمعنى جديد وسوف نتتبع معالمه: فالصابئة كانوا يرون في الوسيط وجوب روحانيته؛ وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها، وقربها من رب الأرباب، وروحانية الوسيط يرون فيها أنها تتنافى مع الجسماني، فجسمانية الوسيط تجعله بشرًا مثلنا، يحتاج مثل ما نحتاج إليه من أكل وشرب ويماثلنا، في المادة، والصورة. عبر عن هذا المعنى الفكري القرآن فقال عنهم حاكيا: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} 1. فهم يرون: أن بشرية الوسيط تتنافى مع وساطته وعدم الجمع بينها وبين النبوة، فبشريته تحجبه عن الاتصال بالله، يبنون ذلك على أصل فكري لديهم يقول: إن أصل وجود العالم يتقدس أن يتوسط بينه وبين عالم الأرض بشر من الأرض أو النفس الإنسانية؛ لتغلبها في عالم الرذائل والشهوات وإنما يتقرب إليه وسيط من القوى الروحانية المفارقة للمادية قالوا عنها: هي آلهتنا وأربابنا ووسائلنا إلى حجتنا وبهم يتقرب إلى الله وهي المدبرة للكواكب. ثم قالوا -من وجهة نظرهم: إن الكواكب الفلكية هي هياكل هذه الروحانيات، وإن نسبة الروحانيات إليها في التدبير لها نسبة الأنفس الإنسانية إلى أبدانها، وأن لكل روحاني هيكلا يخصه ولكل هيكل فلكا يكون فيه2:

_ = يتركب من صفوة العناصر دون كدرها واختص بالمزاج القابل لظهور الرب تعالى فيه؛ إما بذاته وإما بصفة من صفات ذاته على قدر استعداد مزاج ذلك الشخص، وزعموا أن الله يتعالى عن خلق الشرور والقبائح والأشياء الخسيسة الدنيئة كالحشرات الأرضية ونحوها بل هي واقعة ضرورة اتصالات الكواكب سعادة ونحوسة واجتماعات العناصر صفوة وكدرة. وزعموا أيضا أنه على رأس ستة وثلاثين ألف وسنة أربعمائة وخمس وعشرين سنة يحدث روحاني على رأس الدور الآخر وكذا إلى ما يتناهى، وأن الثواب والعقاب على أفعال الخير والشر كل دور واقع لكن في الدور الذي بعده في هذه الدار لا غيرها. من كتاب السيد عبد الرازق الحسيني: "الصابئة قديما وحديثا" أعطانا نسخة منه زميلنا الدكتور مصلح بيومي. 1 الآية 34 من سورة المؤمنون. 2 يراجع الصابئة: قديما وحديثا ص17 السيد عبد الرازق الحسيني تقديم أحمد زكي باشا ط 1 1925 المطبعة الرحمانية -مصر.

- فهم يومنون بالله. - ويؤمنون بالوسيط من العالم العلوي مثل: النيرات الشفافية نورها وروحانيتها، فهم يقدسونها دون العبادة. - ينكرون: أن النبوة تجامع البشرية. وهؤلاء هم الذين قال فيهم أبو حنيفة: إنهم ليسوا بعبدة أوثان إنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة، وقول أبي حنيفة: يلقى مزيدا من الفهم للوسيط حيث يجعل تعظيمهم للنجوم ليس تعظيم عبادة إنما تعظيم تقديس كما تعظم الكعبة. لكن ابن كثير قال: اختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض لها تدبير أمر هذا العالم. ثم قال: وهذا القول المنسوب إلى الحرانانيين الذين جاءهم إبراهيم رادًّا عليهم ومبطلا لقولهم. قال ابن كثير: قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكر بعض العلماء: أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فاعلة، ويبدو أن ما اختاره الرازي وما حصله القرطبي متعلق بنوع معين هم الكلدانيون1. وما قاله أبو حنيفة يصدق على أتباع "هرمس". ويرجع تقديسهم الكواكب لما يقررونه عن "روحانية الوسيط" فلما وجدوا في النيرات ونورها شفافية الروحانيات قدسوها، كما نقدس الكعبة أو كما نقدس الرسل تقدسا دون العبادة2.

_ 1 يطلق على أنصار العبادات التنجيمية اسم عام وهو الكلدانيون ويشمل المذهب الكلداني مجموعة من المعارف المختلطة نوعا ما. وأولها وأهمها: كشف الغيب بواسطة النجوم، وخاصة التنبؤ على أساس تاريخ الميلاد فالكلدانيون مجرد قراء طوالع وأطلق عليهم هذا الاسم بحكم وظيفتهم لا بحكم أصلهم. 2 قال أبو حيان في تفسيره البحر المحيط "1/ 539": وقيل: قوم يعبدون الكواكب ثم لهم قولان: أحدهما: أن الله هو خالق العالم إلا أنه أمر بتعظيم الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والتعظيم والدعاء. والثاني: أنه تعالى خالق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض. فيجب على البشر تعظيمها؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم أنها تعبد الله وهذا المذهب هو المنسوب للذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادا عليهم. البحر المحيط: "أثير الدين عبد الله محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي الغرناطي الجبائي الشهير بأبي حيان المولود في 654 والمتوفَّى بالقاهرة 745هـ.

يقول الألوسي: إنهم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم. فهؤلاء هم الصابئة الأولى أو صابئة الحنفاء قال فيهم الألوسي: صابئة الحنفاء شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية. منهم هلال بن محسن الصابئ صاحب الديوان الإنشائي والرسائل. وأبو إسحاق الصابئ كان صابئا وعرض عليه عز الدولة أن يسلم فامتنع وقيل بذل له ألف دينار على أن يأكل الفول فلم يفعل؛ والصابئون يحرمون الفول والحمام. يقول الدكتور زكي مبارك: ولكن حرصه على دينه لم يحل بينه وبين التحلي بأكرم الخصال في رعاية الإسلام، فقد كان يصوم رمضان مساعدة وموافقة للمسلمين وحسن عشرة منه لهم ويحفظ القرآن حفظا يدور على طرف لسانه وسن قلمه. حتى إنه لما مات بكاه الشريف الرضي في قصيدته، واستكثر الناس عليه في دينه وجاهه، أن يبكي رجلا صابئا بمثل هذا الشعر الحزين ولكنه أجاب بأنه إنما بكاه لفضله1. نأخذ على الدكتور زكي مبارك قوله: مساعدة وموافقة للمسلمين وحسن عشرة منه لهم؛ قد يكون هذا التعليل راجعا إلى حفظه للقرآن، وقد يكون حفظ القرآن راجعا إلى حرصه على الأدب لا على الدين الإسلامي، أما صومه رمضان فهذا يرجع إلى شريعة الصابئة الحنيفية. وأما تحليه بأكرم الخصال فهم قوم يخرجون على رذائل الخصال ودناءة الطبع إلى كريم السجايا وطهارة الطوايا: راجع قول الألوسي السابق في تسميتهم صائبين، فإسحاق الصابئ فاضلا فما ظنه الدكتور زكي مبارك فيه وحمله على محمل حسن عشرة منه للإسلام والمسلمين وهو في واقع الأمر شريعة صابئية كما قدمنا، وأما بكاء الشريف عليه فإنما هو كما قال: "بكاء لفضله".

_ 1 النثر الفني في القرن الرابع الهجري "2: 290" دكتور زكي مبارك.

ونرجع فنقول: أما تسميتهم صابئة حنفاء فمرد ذلك في نظرنا إلى أنهم وافقوا الحنيفية من حيث العقيدة في التوحيد، ومن حيث الشريعة في بعض مبادئها، لذلك صح تسميتهم بحنفاء. وفارقوا الحنيفية في إنكارهم أن يكون الوسيط "النبي" بشريًّا. وقولهم: بوسائط الكواكب لروحانيتها ونورانيتها. فيقول الألوسي: ولهذا لم تكن الصابئة من الأمم المستقلة التي لها كتاب ونبي، وإن كانوا من أهل دعوة الرسل فما من أمة إلا ولها نبي قد أقام حججه وقطع عنها حجتها؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون حجته عليهم1. فلكونهم من قوم إبراهيم وأخذوا ببعض دينه، وأعرضوا عن جانب منه أطلق عليهم "صابئة حنفاء" أي فيهم جانب من الفكر الصابئ، وجانب من الدين الحنفي. فالصابئة الأولى: كان منهم الصابئة الحنفاء، بيد أننا بعد التعرض لشرح تسميتهم نضيف بعض تمايز رأيناه تمايزا مهما هو: أن الصابئة الأولى: هي التي نشأت بعيدة عن الجزيرة العربية. ويذكر عن بعض الباحثين: "إن الصابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن سكنوا بلاد العرب ومصر قبل الإسلام، وقبل النصرانية، واليهودية، وقد انقرضوا وعفت أخبارهم فأصبح من المتعذر علينا بيان معتقدهم بالتفصيل"2. وصابئة الحنفاء يكونون هم الذين خرجوا من الحنفية العربية إلى تعاليم الصابئة التي وفدت إلى الجزيرة العربية واعتنقتها "سبأ الحميرية" ومن هنا أصبحت صابئية

_ 1 بلوغ الأرب "2: 225". 2 الصابئة: قديما وحديثا: السيد عبد الرازق الحسيني تقديم أحمد زكي باشا -ط1 المطبعة الرحمانية بمصر 1925,

الحنفاء مذهبا عربيا له مكوناته الفكرية التي من أهمها إنكار بشرية الرسول مع بقائهم على روحانياتهم وبقايا من دين إبراهيم، كذلك يفيد واقع تسميتهم أنهم جوزوا بفكرهم العقلي: الجمع بين دينهم ومذهبم الصابئ؛ أي الأخذ ببعض مبادئ الوحي -مذهبهم الوحي- ومع بعض مبادئهم الوضعية- نحلتهم البشرية- ويذكر البيروني أنه كانت لهم أصنام وهياكل كما يذكر حكاية أن الكعبة وأصنامها كانت لهم1.

_ 1 الآثار الباقية ص204 للبيروني المتوفي سنة 440هـ.

صابئة بوداسف أو الصابئة المشركون

صابئة بوداسف: أو الصابئة المشركون التراث الهندي: ظهر "بوداسف" بأرض الهند، وكان هنديا، وتنبأ وزعم أنه رسول الله وأنه واسطة بين الله وخلقه. ويفيدنا التراث الهندي: أن دعوة "براهما" من الدعوات الدينية "الوضعية" التي ليس لله فيها وجود، والتي اعتبرها الباحثون الاجتماعيون نموذجا قويا على أن الأديان ليست جميعها تدعو إلى الله. ومعتقد هذه الطائفة يصدر عن فكرة تقول: "إن أول من هبط من العالم العلوي إلى العالم السفلي "عقل سماوي" اكتسى بكسوة بشرية؛ لكي يتناسل في الأرض ويسعى في عمارها واسمه "برهما"1. فالهنود -حسب دينهم- يعتقدون أن الله جسم، وأن الملائكة أجسام، ويرون: أن عليهم تقديس علمائهم، وحكمائهم، ورفع صورهم في معابدهم تقديسا لهم دون عبادتهم فهؤلاء -حسب دينهم- مجسمة ومشبهة. قال المسعودي: وظلوا على هذا حتى نبههم بعض حكمائهم إلى أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية له، وأنها حية ناطقة، وأن كل ما يجري في هذا

_ 1 مفتاح الأبواب ص10، د: ميرزا محمد مهدي خان رئيس الحكماء ط121.

العالم: إنما هو على قدر ما تجري به الكواكب من أمر الله، فعظموها وقربوا لها القرابين1. ومن هنا يظهر لنا أن دعوة "بوداسف" الهندي أخذت منابعها من التراث الهندي، الحافل بألوان من الوثنية والشرك والزندقة، واتخذ "بوداسف" روافد لدعوته عبر السند، وسجستان، إلى أن بلغ فارس، وذلك في أوائل ملك "طهمورث". ويقول المسعودي: وهو -أي بوداسف- أول من أظهر مذاهب الصابئة. وجدد "بوداسف" عند الناس عبادة الأصنام والسجود لها، بِشُبَهٍ ذكَرَها، وقرَّب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل والخدع. فصابئة "بوداسف": صابئة مشركون، جانبوا الصابئة الأولى: في توحيدها، وإنزال الوسيط معبودا غاية، وليس وسيلة وزلفى، وفارقوا الحنيفية: في وحيها السماوي، واتبعوا وثنية "بوداسف" الهندية، ويرى المؤرخون أنها أصناف: - صابئة النبط والفرس والروم: مفزعها السيارات. - صابئة الهند مفزعها الثوابت. - صابئة فزعت إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئا. - صابئة الحرنانية. - صابئة الفلاسفة. - صابئة البطائح. هؤلاء الأصناف من الصابئة يمكن ردهم إلى مسمى واحد أطلقه القرآن ويدخلون تحته هو: {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} . وذلك عندما الوسيط في الصابئة الأولى -وكان عندهم له صفة التقديس والوسيلة- إلى غاية ومعبود، كذلك حولوا مفهوم الوسيط الروحاني:

_ 1 مروج الذهب "1: 46".

إلى أشكال مختلفة من الصور المادية، فأدى هذا التحول إلى دراسة الفلك وتكوين علم له، فالذين نزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع درسوا بيوتها ومنازلها ومطالعها ومغاربها واتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة، مترتبة على طبائعها، وتقسيم الأيام والليالي والساعات عليها ثم تقدير الصور والأشخاص والأقاليم، والأمصار عليها. واستطاعوا من خلال رصدهم لها: أن يعيِّنوا اليوم فـ "زحل" أو غيرهم مثلا ليوم السبت، وراعوا فيه ساعته الأولى، وتختموا بخاتمه، والمعمول على صورته، وهيئته، وصفته، ولبسوا اللباس الخاص به. وتبخروا ببخوره الخاص، ودعوا بدعوته الخاصة به، سألوا حاجاتهم منه، وترتب على هذا الاتجاه الديني نحو الكواكب أن تسرب إلى الدين نوع من الوثنية وأخلاط من الشرك، هذا من جانب، ومن جانب آخر، نتجت دراسة طيبة تكون منها علم الفلك، ثم النهاية: خلطوا الطلسمات المذكورة في كتب السحر، والكهانة، والتنجيم، والتعزيم، والخواتيم، وخلطوها كلها بعلم الفلك. يقول ابن حجر معللا: وكانت علومهم أحكام النجوم، مع ذلك كان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر، وينسبونها إلى فعل الكواكب؛ لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم1. وهؤلاء هم الصابئة الفرس، والنبط، والروم، والهند.

_ 1 فتح الباري "10: 181".

صابئة الأشخاص

صابئة الأشخاص: أما الصابئة الذين فزعوا إلى أشخاص، فقالوا: إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به إذا كان من الروحانيات، فإننا لا نستطيع رؤيته، ولا مخاطبته، وإذا أخذنا هياكلها وسائط، فإن الهياكل قد ترى في وقت، ولا ترى في آخر؛ لأن لها أفولا وطلوعا. لذلك كان لا بد لنا من صور أشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا نعكف عليها، فاتخذوا: أصناما "أشخاصا" على مثال الهياكل السبعة وصورها

بصورتها وراعوا في ذلك: الزمان، والمكان والساعة والدرجة الدقيقة، فإن أرادوا حاجة: تبخروا بالبخور، وتحينوا الساعة وراحوا يسألونه حاجاتهم. فأصحاب الهياكل: هم عبدة الكواكب؛ إذ قالوا بآلهيتها. وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان، وهذا النوع من الصابئة انتقل إلى الجزيرة العربية على يد عمرو بن لحي، وسوف نعرض له. وصابئة الحرانية1 قالوا: "إن الصانع المعبود واحد وكثير" أما واحد: ففي الذات، والأول، والأصل، والأزل. وأما كثير فلأنه يتكثر بالأشخاص في رأي العين وهي المدبرات السبعة. والأشخاص الأرضية ونماذجها: الخير، والعلم، والفضيلة، فإنه يظهر بها ويتشخص بأشخاصها ولا تبطل وحدته في ذاته2. وواضح أن صابئة الحرانية: أخلاط: من فلسفة اليونان، وفلسفة الهند، ففيها مثل أفلاطون، وفيها: تجسيد "برهما" الديانة الهندية. وهؤلاء هم من قال فيهم ديبور: وقد أخذوا عن حسن نية بحكم وآراء موضوعة ترجع للعصر الإغريقي المتأخر، وربما يكون بعض هذه الحكم قد وضع بين ظهرانيهم3. ويذهب ابن النديم إلى أن الصابئة ليست مذهبا للحرانيين إنما هي منحولة لهم، فيقول:

_ 1 مدينة حران ظلت مركزا دائما لثقافة اليونانية وكانت إلى جانب هذا نقطة مهمة للتبادل والاتصال، وكان جيرانهم من النصارى ينظرون شزرا إلى للحرنانيين، وكانوا يسمون مدينتهم "هلينوليس" مدينة اليونانيين؛ احتقارا لهم وتهكما عليها، وكانت الدراسات رياضية سحرية فلسفية طبية، وعند الصابئة كانت للفلك المكانة الأولى، وكانت حران مشهورة بوثنيتها في منطقة مسيحية، ووثنيتها: مزيج من الديانة البابلية والوثنية الإغريقية والأفلاطونية المحدثة. 2 الملل والنحل "2: 53" الشهرستاني، تحقيق د: محمد بن فتح الله بدران. 3 تاريخ الفلسفة في الإسلام ص25 نقله د: محمد عبد الهادي أبو ريدة.

قال أبو يوسف أيشع القطيعي النصراني في كتابه في الكشف عن مذاهب الحرنانيين المعروفين في عصرنا بالصابئة: إن المأمون اجتاز في آخر أيامه بديار مصر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس يدعون له وفيهم جماعة من الحرنانيين، وكان زيهم -إذ ذاك- لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوفرات1 كوفرة قرة جد سنان بن ثابت، فأنكر المأمون زيهم، وقال لهم: من أنتم من الذمة؟ فقالوا: نحن الحرنانيون. فقال: أنصاري أنتم؟ قالوا: لا. قال: أمجوس أنتم؟ قالوا: لا. قال لهم: أفلكم كتاب أو نبي؟ فجمجموا في القول. فقال لهم: فأنتم إذن الزنادقة، عبدة الأوثان، وأصحاب الراس في أيام الرشيد والدي؟ وأنتم حلال دماؤكم لا ذمة لكم؟ فقالوا: نحن نؤدي الجزية، فقال لهم: إنما تؤخذ الجزية لمن خالف الإسلام من أهل الأديان، الذين ذكرهم الله في كتابه، ولهم كتاب، وصالحهم المسلمون عن ذلك. فأنتم لستم هؤلاء ولا من هؤلاء فاختاروا الآن أحد أمرين: إما أن تنتحلوا دين الإسلام، وإما دينا من الأديان التي ذكرها الله في كتابه. وإلا قتلناكم عن آخركم؟ فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه فإن أنتم دخلتم في الإسلام، أو في دين من هذه الأديان التي ذكرها الله في كتابه،

_ 1 قال أبو حبان في البحر المحيط "1: 239": قال قتادة والكلبي: هم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رءوسهم ويجبُّون مذاكرهم ثم قال: إنه رأي غريب قرأته وذكرته ولم يتحقق لدي.

وإلا أمرت بقتلكم واستئصال شأفتكم، ورحل المأمون يريد بلاد الروم فغيروا زيهم وحلقوا شعورهم وتركوا لبس الأقبية، وقد قصر كثير منهم شعورهم ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة وبقى منهم شرذمة بحالهم، وجعلوا يحتالون ويضطربون حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه، فقال لهم: قد وجدت لكم شيئا تنجون به وتسلمون من القتل، فحملوا إليه مالا عظيما من بيت مالهم أحدثوه منذ أيام الرشيد إلى هذه الغاية وأعدوه للنوائب. فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره فقولوا له: نحن الصابئون فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن فانتحلوه فأنتم تنجون به، واتفق أن المأمون توفي في سفرته تلك عام 128هـ. انتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت؛ لأنه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابئة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون: ارتد كثير ممن كان تنصر منهم ورجع إلى الحرنانية، وطولوا شعورهم حسب ما كانوا عليه قبل مرور المأمون بهم على أنهم صابئون، ومنعهم المسلمون من لبس الأقبية، ومن أسلم منهم لم يمكنه الارتداد خوفا من أن يقتل، فأقاموا متسترين بالإسلام فكانوا يتزوجون بنساء حرنانيات ويجعلون الولد الذكر مسلمًا والأنثى حرانية وهذه كانت سبيل كل أهل "ترعوز" و"سلمسين" القريتين المشهورتين العظيمتين بالقرب من حران إلى نحو عشرين سنة هجرية. فإن الشيخين المعروفين: بأبي زرارة، وأبي عروبة علماء أهل حران بالفقه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر مشايخ أهل حران وفقهائهم احتسبوا عليهم ومنعوهم من أن يتزوجوا بنساء حرنيات أعنى صابئات، وقالوا: لا يحل للمسلمين نكاحهم؛ لأنهن لسن من أهل الكتاب. وبحران أيضا منازل كثيرة إلى هذه الغاية بعض أهلها حرانية ممن كان أقام على دينه في أيام المأمون وبعضهم مسلمون وبعضهم نصارى ممن كان دخل في الإسلام وتنصر في ذلك الوقت مثل: قوم يقال لهم: بنو أيلوط، وبنو قبطران وغيرهم مشهورين بحران1.

_ 1 الفهرست لابن النديم ص445، 446.

فما ذكره ابن النديم المتوفى 378هـ يفيد من ظاهر نصه أن نحلة الصابئة انتحلت لهم في عصر المأمون وهو قابل للطعن وغير قابل للرفض. أما قابليته للطعن: فإن ما ذكره الشهرستاني عند الحرنانيين "بأنهم جماعة من الصابئة"1 هذه العبارة تتيح مجالا للطعن فيما قاله ابن النديم فضلا عن كتب التاريخ الفكري التي تجعل حران مركزا مهما للتبادل الثقافي في تلك المنطقة، وتجعل أهلها وثنيين يعبدون الكواكب مما دفعهم إلى ملاحظة السماء والتعمق في الدراسات الفلكية، وهذه الدراسات لها عند الصابئة مكانتها الأولى العلمية والتقديسية، ومما يضاف إلى الطعون السابقة قول الألوسي: وهؤلاء أي الصابئة كانوا قوم إبراهيم وهم أهل دعوته وكانوا بحران2. ونرى أنفسنا أمام روايات متعددة تسند لحران مذهب الصابئة حينا وتجعلها مركزها القديم سوى نص ابن النديم الذي يقرر أن الصابئة منحولة للحرنانيين. لذلك قلنا إن النص قابل للطعن وتيار الطعن قوي. فالشهرستاني: يجعل الحرنانيين جماعة من الصابئة. والألوسي: يقول إن الحرنانيين أصل الصابئة. والمسعودي ينسب إلى بوداسف أول من أظهر آراء الصابئة من الحرنانيين والكيماريين وهذا النوع من الصابئة مباين للحرنانيين في نحلتهم. هذه أقوال يمكن أن تتيح مجالا للطعن في رواية دون أخرى. فإذا اعتبرنا قول ابن النديم منصرفا إلى هذه الجماعة بذاتها؛ فإنا نصدم بتعقيب داخل النص نفسه يقول: "وانتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت؛ لأنه لم يكن بحران ونواحيها قوم يسمون بالصابئة" فنص ابن النديم هو رواية عن كتاب ذكره على أنه حكاية في أمرهم من غير استقصاء تاريخي وعلى ذلك قد نقبلها ونصرفها إلى هذه

_ 1 الملل والنحل 2 بلوغ الأرب "2: 224" ويذكر أحمد أمين رواية ابن النديم ويأخذ بها فيقول: وهم الذين تسموا بعد ذلك في عصر المأمون وبعده بالصابئين وكان منهم كثيرون من المؤلفين ومن تولوا الترجمة: فجر الإسلام "1: 130".

الجماعة بذاتها وأنها غير صابئة، ونرفض ما فيها من تعليقات، ولا سيما أن ابن النديم نقلها من غير تعليق وأسندها إلى غيره، وبذلك تتعاون النصوص على إثبات الصابئة للحرانيين. وسواء قوى شيئا نص ابن النديم أو ضعف أمام نسبة الصابئة إلى حران فإن هناك شيئا جوهريا ينبغي التعقيب عليه وهو أن الصابئة المذكورة في القرآن ليست هي صابئة حران1.

_ 1 يقول السيد عبد الرازق الحسيني في كتابه: الصابئة قديما وحديثا ص21: من المتعذر جدا أن يوفق الباحث إلى معرفة ما بين هذه الفرق من الرابطة؛ فقد ذكر القرآن قسما من الصابئة وفسرها المفسرون بعد أن نسبوا لها أصولا تختلف كثيرا عن الصابئة الحرانية، كما أن هذين القسمين من الصابئة يختلفان كثيرا عن صابئة البطائح المبثوثين الآن في مدن العراق النهرية. والحق أن كل فرقة من هذه الفرق تختلف في أصول معتقداتها عن الأخرى اختلافا واسعا فقد سكن الصابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن بلاد العرب ومصر قبل الإسلام وقبل النصرانية واليهودية وقد انقرضوا وعفت أخبارهم، فأصبح من المتعذر علينا بيان متعقدهم بالتفصيل.

صابئة الهند

صابئة الهند: صابئة الهند منزعها الثوابت من حيث إنهم رابطوا عبادتهم بزحل وزحل من شأنه البقاء والثبوت وهم الذين قالوا بالتناسخ والحلول. 1- التناسخ: يعني لديهم أن تتكرر الأدوار والأطوار إلى ما لا نهاية ويحدث في كل دور مثل ما حدث في الأول. وأن الثواب والعقاب سيحدث في هذه الدار لا في دار أخرى لا عمل فيها. 2- الحلول: يعني لديهم أن الشخص ربما يحدث ذلك منه بحلول ذاته وربما يكون بحلول جزء من ذاته على قدر استعداد المزاج الشخصي. والهياكل تحل فيه، فينطق بلسانها ويبصر بعينها ويسمع بآذانها ويقبض بيدها ويبسط بها1، وفي هذا يقول مجاهد: هم قوم لا دين لهم ليسوا بيهود ولا نصارى.

_ 1 الملل والنحل "2: 501" تحقيق د/ محمد بن فتح الله بدران.

صابئة الفلاسفة

صابئة الفلاسفة: وهم الذين ابتدعوا عبادة الكواكب وأبراجها، وقد وصفهم المسعودي بقوله: "ألا إنهم من حشوية الفلاسفة" ويقول: إنما أضفناهم إلى الفلاسفة إضافة سبب لا إضافة حكمة. ويقول الألوسي: والفلاسفة يأخذون بزعمهم بمحاسن ما دلت عليه العقول، وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم، وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه، وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك1. ويبدو أن فلاسفتهم اتصلوا باليونان وكان بينهم وبين اليونانيين محاولات مما يسوغ إطلاق كلمة فلاسفة" على حكمائهم، ومما ينسبه ابن النديم للكندي أن له "رسالة فيما جرى بين سقراط والحرنانيين"، وبذا لا يجانبنا الصواب إن اعتبرنا أن لهم فلاسفة، ففلاسفة بمعناها اليوناني على خلاف ما يرى المسعودي. ويقول الألوسي: فهؤلاء الصابئة كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم. الأول: عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دونه من إله. والثاني: الإيمان برسله وما جاءوا به من عند الله تصديقا وإقرارا وانقيادا وامتثالا. وليس هذا مختصا بمشركي الصابئة كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات، بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم، ولكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات2.

_ 1 المرجع نفسه "2: 226" جـ2. 2 لابن تيمية بعض إطلاقات خاصة بالصابئة غير دقيقة مثل؛ قوله وهكذا تكون مناظرة الصابئة الفلاسفة والمشركين ونحوهم، وقوله: الصابئ الفيلسوف، وقوله: وهو الغالب على الصابئة المبدلين مثل أرسطو وأتباعه. ثم يقول: وعربت طائفة من كتب الأعاجم من المجوس والفرس والصابئين الروم، والمشركين الهند يراجع: الفتاوى جـ1، ص65، 77، 120، 297 وجـ4 ص113، 115

والمعتمد عند علماء الإسلام أنهم ليسوا أهل كتاب ولا نبي أي هؤلاء الفلاسفة الصابئة:

صابئة أهل الكتاب

صابئة أهل الكتاب: أ- صابئة اليهود: وهم نوعان: النوع الأول: هم الذين اتبعوا المسيح من اليهود فهم في عرف اليهود صابئة. النوع الثاني: وهم الذين وافقوا أبوللونيوس عندما أعلن الوثنية في معبدهم ووضع تمثالا لهيكل إغريقي. ب- صابئة مسيحيون: وهم الذين اتبعوا القديس يوحنا المعمدان في شعيرة التعميد "وهؤلاء هم المنديون" ولا يزال قوم منهم يسكنون إلى الآن الأغوار المحاذية لمصب الفرات1. لهذه الأصناف الكتابية يمكن أن تحمل عليها ما نذكره من آثار: - قال ابن أبي نجيح: قوم تركب دينهم من اليهودية والمجوسية لا تؤكل ذبائحهم. - قال ابن عباس: هم قوم من اليهود والنصارى لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم. - وقال أبو العالية: قوم من أهل الكتاب ذبائحهم كذبائح أهل الكتاب يقرءون الزبور ويخالفونهم في بقية أفعالهم. - وقال الخليئ: هم أشباه النصارى قبلتهم مهب الجنوب ويقرءون الزبور ويعبدون الملائكة2.

_ 1 تاريخ سورية "2: 98". 2 تفسير البحر المحيط لأبي حيان "1: 239".

صابئة البطائح

صابئة البطائح: "يعيش بين ظهرانينا في العراق قسم من الناس لهم تقاليدهم، وعاداتهم ولغتهم، ويكادون يكونون ممتازين في كل مظاهر حياتهم حتى بأشكالهم وسحنة وجوههم، ويطلق عليهم اسم "الصابئة" وقد يكون هؤلاء هم الصابئة الأصليون وقد

لا يكونون، إلا أن الشيء المحقق هو أن قسما كبيرا من عبادة الصابئة من القدماء وطقوس دينهم، بارزة بين معتقدات هؤلاء القوم وطقوسهم، فعبادة النجوم واستقبال نجم القطب وتأليه الكواكب وغير ذلك من أصول الدين الصابئ مما يتدين به هذا المجموع المتميز. وقد يتعرف الباحث من اللغة التي يتكلم بها هؤلاء ومن إسبالهم شعور لحاهم ورءوسهم، أنهم شعب غريب نزح إلى هذه البلاد واستوطنها واحتفظ بما له من تقاليد وعادات والتزم بالسكنى على ضفاف الأنهر، وبقرب المياه الجارية؛ نظرا لما يقيمه من الطقوس التي لا تتم إلا بالارتماء في الماء الجاري، لذا عرف هذا القسم من الناس بصابئة البطائح نسبة إلى بطائح العراق المشهور. فإما أن يكون هذا الشعب قد انحدر من الصابئة الحرنانية أو أنه من بقية الصابئة الأقدمين، وهذا أمر مشكوك فيه وموكول إلى فحص التاريخ الدقيق. ونظن أن أحسن رواية -وقد تكون أقربها إلى الحقيقة- هي التي أثبتها هنري يونيون في كتابه الفرنسي الموسوم بـ "الفرقة المندائية" المطبوع في عام 1898، فقد جاء في ص224 منه تحت عنوان "الفرق الدستئاية" وهي المندائية التي اشتهر بها الصابئة الحاليون ما مضمونه: أن صاحبها "أي صاحب هذه الفرقة" كان متسولا وقد جاء من بلاد ما بين الزابين إلى ميسان "أي جنوب العراق"؛ للتسول، وكان مسيحيا اسمه "دبدا" واسم أمه "أم كشطا"، ثم توطن ضفاف نهر قارون وأسس ديانة جديدة وعقائد مأخوذ معظمها من فرق المرقيونيين والمانويين والكنتيين وغيرها من الفرق الصابئة، ثم توسعت هذه الطائفة على مر السنين وسموا بالصابئة المغتسلة؛ لأن جميع طقوسهم الدينية لا تتم إلا بالاغتسال في الماء الجاري اهـ، والذي يؤسفنا كثيرا ويجعل تاريخ الصابئة مفصولا وغير مرتبط الحلقات، خلو هذا التلخيص من الزمن الذي يعين قدوم "دبدا" إلى جنوبي العراق "ميسان" الأمر الذي يوقفنا على تاريخ منشأ صابئة البطائح والصلة بينم وبين الصابئة الحرنانية. ومع ذلك لا يخلو من فائدة تاريخية تكشف لنا عن تاريخ غامض من تاريخ الصابئة1.

_ 1 يراجع الصابئة قديما وحديثا ص25، 26.

حول نسبة مذاهب الصابئة

حول نسبة مذاهب الصابئة: هرمس وعاذيمون: نسب الشهرستاني مذهب الصابئة الأولى إلى هرمس قائلا: قالت الحنفاء: بم عرفتم -معاشر الصابئة وجود هذه الروحانيات؟ والحس ما دلكم عليه، والدليل ما أرشدكم إليه؟ وقالوا -أي الصابئة: عرفنا وجودها وتعرفنا أحوالها من: "غاذيمون" و"هرمس" و"شيص" و"إدريس" عليهما السلام. هذا النص يعطي الباحث ارتياحا نفسيا لما يفيده ويكشفه عن واضع هذا المذهب، ولكن عندما يأتي الباحث على آخر المحاورة التي عقدها الشهرستاني بين الحنفاء والصابئة يرى نصا يقول فيه الشهرستاني: وكان في الخاطر بعض زوايا: نريد نمليها، وفي القلم خفايا أكاد أخفيها، فعدلت عنها إلى ذكر "حكم هرمس العظيم" لا على أنه من جملة فرق الصابئة حاشاه، بل على أن حكمه مما يدل على تقرير مذهب الحنفاء في إثبات الكمال في الأشخاص البشرية وإيجاد القول باتباع النواميس الإلهية على خلاف مذاهب الصابئة. يفيد النص استبعاد "هرمس" أن يكون واضعا لمذهب الصابئة وحاشاه كما يقول: الشهرتاني، فوقع في النفس سؤالان: من هرمس العظيم؟ ومن يكون إذا واضع مذهب الصابئة إذا لم يكن هو واضعه؟ فانتقلنا معه في كتابه؛ لنعرف من هرمس العظيم ونتعرف على سر عظمته فألفيناه يقول: عندما أراد أن يحقق شخصية "هرمس" وشخصية "عاذيمون": يقال: أن عاذيمون، وهرمس، هما: شيت، وإدريس عليهما السلام. وأسند الشهرستاني لعاذيمون وضع المبادئ الأولى وهي خمسة1.

_ 1 يقول ابن تيمية: مذهب اليونانيين يقول إن القدماء خمسة: الرب. النفس. المادة. الدهر. الفضاء. الفتاوى "1: 65" فتفصيل الخمسة فيه خلاف بين ابن تيمية والشهرستاني.

الباري، والعقل، والنفس، والمكان، والخلاء، وبعدها وجود المركبات ولم ينقل هذا عن "هرمس". ثم أسند أيضًا لهرمس طائفة من الحكم وهو -في نظر الشهرستاني- الذي وضع أسامي البروج والكواكب السيارة ورتبها في بيوتها وأثبت لها الشرف، والوبال، والأوج والحضيض، والمناظر: بالتثليث والتسديس، والتربيع، والمقابلة، والمقارنة، والمراجع، والاستقامة، ويبين: تعديل الكواكب وتقويمها، وأما الأحكام المنسوبة إلى هذه الاتصالات فغير مبرهن عليها عند الجميع. وللهند والعرب طريقة أخرى في الأحكام أخذوها من خواص الكواكب لا من طبائعها ورتبوها على الثوابت لا على السيارات. فهرمس عند الشهرستاني غير واضح في تاريخه وفي نسبه وفي موطنه وكل ما يعرفه به قول جاء على صيغة المجهول لا يلتمس من ورائه شيء سوى الدفع إلى مزيد من البحث يقول فيه: يقال هو إدريس النبي عليه السلام، فالعبارة فيها احتياطها العلمي للمتشكك في أمره أو الذي يحاول على وجه من التاريخ إثباته. وأورد الشهرتاني نصا يفيد: أنه عايش الصابئة وحمل معهم مسئولية فكرهم وهو قوله: "انظروا -معاشرة الصابئة- كيف عظم الرسالة حتى قرن طلعة الرسول -الذي عبر بالناموس- بمعرفة الله تعالى". على أي حال فإن الشهرستاني لم يتحقق شخصية هرمس لا لنفسه ولا للتاريخ وإن كان أسبغ عليه لقب العظيم، وربما كان منه؛ لكي يخفي قلقه من عدم معرفته وأن ما ذكره عنه من حكمة يبدو عليها التكلف، وطابع تأليف الشهرستاني. وأما قوله: يقال هو إدريس النبي. فإن المقارنات الحقيقية بين نصوص الشهرستاني فقط لَتستبعد هذا القول، وربما كان هذا هو ما جعل الشهرستاني يقف عند قوله "يقال" مرتين دون تعيب مريح أو غير مريح، ونأخذ على الشهرستاني عبارات تجعل هرمس في مدة تاريخية بعد الحنفاء منها: "أن حكمه تدل على تقرير مذهب الحنفاء" فلو كان هرمس معايشا

للحنفاء لكانت حكمه مؤسسة لمذهبهم أو واضعة له، فوصف حكمه بأنها مقررة لمذهب الحنفاء فيها ما يفيد بأنه وجد في فترة تالية لهم. وعبارة هو إدريس، تفيد أنه مقدم على نوح أو هو جده، والحنفاء يرجع نسبتها إلى إبراهيم. وصاحب كتاب فقر الحكماء ونوادر القدماء والعلماء1: اختار مجموعة من الفلاسفة، وذكر عنهم بعضا من حكمهم، ونوادرهم، وذكر من بينهم: "هرمس الفيلسوف"، فذكر حكمه ونوادره دون ذكر شيء عنه، وعند مطالعتنا تلك الحكم تبينا منها أنها هي الأخرى مجموعة تأليفات أخذت من حكم "لقمان" في القرآن، يقول الدكتور: عبد الرحمن بدوى: ويلوح أن المؤلف كان أديبا في غالب أمره ولم يكن من المشتغلين بالفلسفة أو علوم الأوائل إلا على سبيل الثقافة العامة. وقبل ذلك قال: على أن نقد المصدر لا يستطيع أيضا أن يعتمد على النقد الباطن لمضمون الكتاب وإنما تهجم المشاكل حين يتعرض الباحث لما فيه: وأولها مشكلة الأسماء التي نسب إليها حكما ناردة فبعضها لا نعرف بالدقة من هم؟ وهذا ينطبق على: زيمون الشاعر، وأرطيبوس، وزيموس. وعند مراجعتنا ابن النديم وجدناه يقول: قد اختلف في أمره. فقيل: إنه كان أحد السبعة السدنة الذين رتبوا لحفظ البيوت السبعة. وقيل: إنه كان إليه بيت عطارد وباسمه يسمى، فإن عطارد باللغة الكلدانية "هرمس". وقيل: إنه انتقل إلى أرض مصر لأسباب وأنه ملكها وكان له أولاد عدة منهم: طاطا وصا، وأشمن، وأثريب، وقفط، وأه كان حكيم زمانه ولما توفي دفن في البناء

_ 1 هذا الكتاب نشر للدكتور عبد الرحمن بدوي ضمن رسائل فلسفية للكندي والفارابي وابن ماجه وابن عدي من منشورات الجامعة الليبية - بنغازي جـ1 1973 ص277. يراجع الفهرست لابن النديم ص56 ذكر فيها كتبه وعددها ثلاثة عشر كتابا أو رسالة، وفي صفحة 497 ذكر أسماء الفلاسفة الذين تكلموا في الصنعة.

الذي يعرف بمدينة مصر بأبي هرمس، ويعرفه العامة بالهرمين، فإن أحدهما: قبره والآخر قبر زوجته، وقيل: قبر ابنه، الذي خلفه بعد موته، وذكر لهرمس كتبا منها: كتب في النجوم، والنيرنجات، والروحانيات، وكتاب قيلادس، تلميذ هرمس في رأي هرمس، وعده ابن النديم من بين أسماء الفلاسفة الذين تكلموا في الصنعة، فقال: وهم: هرمس وأغاذيمون. والآراء والأقوال التي ذكرها ابن النديم نراها لا تذكر ما رواه الشهرستاني بأنه قيل إدريس، فإذا أضفنا ما قاله الشهرستاني وهو، لم يذكره ابن النديم فإنه يعتبر قولا رابعا؛ لأنه لا يلتقي مع ما ذكره ابن النديم. وينبغي أن يذكر أن ابن النديم ذكر أقوالا هي في مجموعها لها علاقة باسم "هرمس"، ومن جانب آخر أن ابن النديم يجزم أنه اسم لشخص وذكر مؤلفاته وأبناءه، فالمؤلفات العربية ترى في هرمس إنسانا له دوره التاريخي. ونحن في سبيل التحقيق رجعنا إلى معجم اللغة الفارسية، واستعرضنا المادة فوجدناها تطلق على الآتي: هرماس: شيطان وأهريمن. وهرمز: اسم كوكب المشتري، واليوم الأول من كل شهر شمسي. واسم يوم الخميس ورب النوع لدى الزرادشتيين. وتلفظ: أرمزد. وأورمز. أهرامزادا. - وهرمس. وهرمزه: عطارد ورب النوع إله المصريين1. قواميس اللغة الفارسية لم تذكر أن أطلق على شخص ما لكن كل ما ذكرته أنه اسم لإله الكواكب أي يحمل معنى من معاني المقدسات. يذكر إميل برييه عن كرنوس في كتابه نصًّا يقول فيه:

_ 1 يراجع المعجم الذهبي فارسي -عربي للدكتور محد التونجي فرهنك طلائي ص602 دار العلم للملايين. بيروت.

إن هرمس: "هو اللغوس الذي أرسلته الآلهة من السماء نحونا"، ثم يقول: كلمة هرمس ترجع إلى أن اللغوس هو وسيلة دفاعنا وأنه كقلعة لنا، ثم يقول: وهرمس هو رئيس النعم. واللغوس: عن فيلون: هو رسول الآلهة. وهرمس: قائد الأرواح. وهرمس ولد عند زوس. فاتحد زوس ومليا "ابنه اطفلس ومعه عطارد" هذا الاتحاد كان منه هرمس. فهرمس غير واضح أنه إنسان لا من جهة التاريخ ولا النسب ولا الموطن والمصادر التي تكلمت عنه يناقض بعضها بعضًا فضلًا على ضعف روايتها الكائن فيها. ويترتب على ذلك ضرورة السؤال الثاني وهو: لمن ينتسب مذهب الصابئة؟ على فرض عدم نسبتها "لهرمس"، وهذا ما ذكره الشهرستاني ضمنًا في محاورة الحنفاء للصابئة عندما نفاها عنه، مع أنه نفسه لا يعرف من "هرمس" حين تكلم عنه في كتابه الذي خصصه لمثل تلك البحوث التاريخية الدينية وهو الملل والنحل، وصنعته فيه تحقيق التاريخ الديني، وسوف يظل السؤال: لمن تنتسب الصابئة؟ أما ابن النديم وهو الذي توسع في الحديث عنه توسعا يغلب عليه الإحاطة فإننا نراه خدم منهجه -وهو جمع المعلومات عن المؤلف ومؤلفاته- من حديث كونه وراقا، ليس مطلوبا منه أكثر مما قدم وهو فهرسته. ومن العناصر التاريخية -من خلال ما ذكر- ما يؤكد أن هناك ارتباطا بين هرمس وعناصر مقدسة، ويطعن في نحله الاسم لشخص. يقول الدكتور: أبو العلا عفيفي: من بين الوثائق اليونانية الهامة: مجموعة من المقالات الفلسفية الدينية كتبها متأخرو العصر اليوناني بالإسكندرية فيما بين القرنين الأول والثالث المسيحيين على وجه التقريب وتعرف هذه المجموعة باسم الكتابات الهرمسية نسبة إلى هرميس الإله

اليوناني المصري1 المعروف باسم: هرميس المثلث الحكمة أو "المثلث العظمة"2، وقد كان لهذه الكتابات أثر بالغ في تشكيل الحياة الروحية المسيحية وتشكيل العقلية الإسلامية الفلسفية والصوفية، وهذه الكتابات الهرمسية هي الحلقة المفقودة في تاريخ التراث اليوناني والفلسفة الإسلامية. ثم يقول: لا عبرة بما ذهب إليه المؤرخون القدماء وتابعهم في القول به مؤرخو العرب من أن الكتابات الهرميسية منسوبة حقًّا إلى هرميس المثلث الحكمة الذي عاش في زمن موسى أو قبله، وأنه كان مصدر علوم اللاهوت والأسرار التي اختص بها كهنة مصر منذ عصور سحيقة، فقد أظهر التحليل التاريخي النقدي بطلان هذه الأسطورة منذ أواخر القرن السادس عشر، وبرهن على أن هذه المقالات صدرت عن أقلام كتاب عديدين لا كاتب واحد، وأن الفلسفة اليونانية، الأفلاطونية والفيثاغورية -بوجه خاص- كانت أصلا لها ومصدرا على عكس ما كان يعتقد من أن فلسفة هرميس كانت الأصل الذي استقى منه الفيلسوفان اليونانيان فلسفتهما. ويختلف شرح هذه الرسائل باختلاف كتابها، فأحيانا ترى الحديث يدور بين هرميس وابنه طاط، أو بينه وبين إله الطب أسقليبوس، أو بينه وبين الملك آمون، وأحيانا يصور هرميس بصورة التلميذ الذي يتلقى الوحي أو عن الإله بويمدذريس كما هو الحال في الرسالة الأولى أو عن الإله أغاثا ذيمون. وتدل الشواهد التاريخية على أن كتابات هرميس قد وصلت إلى المسلمين لا عن طريق الإسكندرية التي هي منبعها الأصلي، بل عن طريق "حران" التي ورثت ثقافة الإسكندرية وحافظت عليها قرونا عديدة قبل الإسلام وبعده. ولكننا لا ندري

_ 1 الآراء الدينية والفلسفية "نيلون الإسكندري" تأليف الأستاذ إميل بريبهو ترجمة الدكتورين محمد يوسف موسى، وعبد الحليم النجار ص153. 2 بينما ثورة اليهود محتدمة بينهم وبين السطلات الرومانية تكتب "يودايمونيس" إلى ابنها أبوللينوس في 30 يونيو من عام 116 مؤكدة له أنه بمشيئة الإله وخاصة هرميس "إله هرموبولس" الذي لا يقهر.. لعله هو الذي لا يقهر.. ص195. يراجع مصر والإمبراطورية الرومانية في ضوء الأوراق البردية د. عبد اللطيف أحمد علي.

على وجه التحقيق كيف بدأ وصول هذه الكتابات إلى حران ولا في أي زمن بدأ ولا الرجال الذين تم على أيديهم نقل هذه الثقافة. ويحدثنا التاريخ أيضا: أن جماعة الحرنانيين الذين كانوا يعرفون باسم الصابئة. قد اتخذوا فلسفة هرمس: دينًا لهم، واعتبروا هرميس وأغاثا ذيمون وغيرهما من الحكماء الذين وردت أسماؤهم في الرسائل الهرميسية أنبياءهم، كما اعتبروا هذه الرسائل: كتابهم المقدس، وأن وثنيي حران عندما أمنوا جانب المسلمين ونال بعضهم الحظوة عند خلفاء بني العباس تدفق سيلهم على بغداد وأسسوا المدرسة الأفلاطونية الحديثة أشبه بالمدرسة الأفلاطونية الحديث التي كانت قائمة في أثينا حتى أغلقها الإمبراطور جوستنيان حوالي سنة 350م غير أن مدرسة بغداد الحرانية جعلت من أول أغراضها نشر تعاليم هرميس وإذاعتها بينما أغفلت أختها الأثينية هذه التعاليم وأهملتها1. منذ ذلك الوقت اشتهر اسم هرميس في الأوساط الإسلامية وقد استحدث عنه وعن عجائب حكمته وعلمه، وظل موضع إجلال المسلمين واحترامهم حتى نهاية القرن السادس الهجري، ورفعه المسلمون لا إلى مصاف الآلهة كما فعل اليونان والمصريون بل إلى مصاف الأنبياء مما يثبت قطعا أن الفلسفة الهرميسية لم تصل إلى المسلمين في صورتها اليونانية الخالصة بل وصلتهم بعد أن امتزجت ببعض الأفكار والعقائد الإسرائيلية، ومما يثبت تأثر الفلسفة الهرميسية التي وصلت المسلمين بالأفكار اليهودية أن الهرامسة تعددوا عندهم وأصبحوا ثلاثة: الأول: هرميس الهرامسة الذي قالوا عنه: أنه إدريس النبي أو أخنوخ، وقد ذكروا: أنه ولد بمنف، وعاش قبل الطوفان، وعنه ظهرت كل العلوم التي عرفها الإنسان في ذلك العهد. الثاني: هرميس البابلي، الذي اعتبروه من تلاميذ فيثاغورس، وقد ذكروا أنه عاش بعد الطوفان، وأنه كان عالما بالطب والفلسفة وطبائع الأعداد والكيمياء. ونسبوا

_ 1 الأثر الفلسفي الإسكندري في قصة حي بن يقظان: أبو العلا عفيفي لجنة التأليف والترجمة والنشر، بحث من مجلة كلية الآداب بجامعة فاروق الأول. الإسكندرية المجلد الثاني 1944.

إليه كثيرا من الروحانيات والطلسمات بل قالوا إنه انتقل إلى مصر وحكمها وكان له أولاد منهم طاط وأشمن وقفط وغيرهم. الثالث: هرميس المثلث الحكمة: قالوا سمي كذلك؛ لأنه ثالث الهرامسة الحكماء، ومثلث العظمة. وليس من شك في أن هرميس الأول من نسج الخيال اليهودى، وأن هرميس الثاني اسم اخترعه العرب لمؤلف المقالات الهرميسية التي تدور حول علوم الأسرار من السحر والطلسمة والكيمياء وما إليها. أما هرمس الثالث: المثلث الحكمة فلم يعرفه العرب بالاسم فقط بل عرفوا الرسائل المنسوبة إليه، يقول القفطي في تاريخه: ونقلت من صحف هرمس المثلث الحكمة نبذا من مقالته إلى تلميذه طاطي على سبيل سؤال وجواب بينهما وهى على غير نظام ووِلاء؛ لأن الأصل كان باليا مفرقا، وهناك كتاب كثيرون غير القفطي يشيرون إلى رسائل هرميس ووجودها في أصل عربي، أو ترجمة سريانية وإلى اقتباسهم منها مما لا يدع مجالا للشك في أن العرب عرفوا هذه الرسائل في صورتها الأصلية. ويرد على ذلك أن كتبا عربية وضعت برمتها ملخصة الفلسفة الهرميسية مما يساعد كثيرا على ذيوع هذه الفلسفة وشيوعها بين المسلمين، من هذه الكتب: كتابان أشار إليهما العلامة الأستاذ "سانتلانا" في محاضراته في الفسلفة الإسلامية بالجامعة المصرية القديمة وهما: - "كتاب "سر الخليقة" المنسوب لبليتوس "وهو ابن لونيوسالطيانى من أهل طيانة" الفيثاغوري من حكماء القرن الأول المسيحي. وهذا الكتاب مخطوط بمكتبة باريس وهو يحمل طابعا هرميسيا لا يشك فيه الأستاذ سانتلانا. - الثاني: رسالة "هرميس المثلث الحكمة في معاتبة النفس أو معازلة أو زجر النفس".

وقد تعرف أيضا باسم "رسالة المعانى"، وتنسب خطأ إلى سقراط وأحيانا إلى أفلاطون أو أرسطو. وقد طبع الأبواب السبعة الأولى منها الأستاذ "فلايشر" سنة 1870 وطبع الباقي منها الأستاذ "باردنهافر" سنة 1873. ونشر الرسالة بِرُمَّتها في العصر الحديث الراهب الخوري "فليمون" الكاتب أحد رهبان دير المخلص سنة 1903 ببيروت1. من كل هذا يتبين إلى أي حد انتشرت تعاليم هرميس في الشرق القديم قبل الإسلام وبعده.

_ 1 اعتمدنا في الكتابة الخاصة عن هرمس بصفة مؤكدة على البحث السابق، دكتور أبو العلا عفيفي.

بوداسف

بوداسف: ذكر المسعودي صاحب كتاب "مروج الذهب": أن الذي جدد مذاهب الصابئة "بوداسف" الذي وفد من الهند إلى فارس في حكم طهمورث من ملوك الفرس الأولى، وما ذكره المسعودي لم نره لغيره. وقد رأيت أن أتتبع تاريخه في المعاجم الفارسية ولا سيما بعد ما انتهينا من البحث عن تاريخ "هرمس" الذي ذكره الشهرستاني في المحاورة التي وقعت بين الحنفاء والصابئين، ورأينا ما وصل إليه البحث من نتائج. ولما تتبعته في المعاجم الفارسية لم أعثر له على ذكر فيها غير أنه غلب على ظني أن "بوداسف" الذي أورده المسعودي على أنه المحدث لمذاهب الصابئة ولا سيما أنه نشأ في الهند -كما ذكر أيضا- هو "بوذا" واضع الديانة البوذية. و"بوذا" "ينطق بالفارسية" بوذا، ويبدو أن المسعودى وهو الذي انفرد بذكره، نقله محرفا، أو نقله ترجمة عن الفارسية، بتلك الزيادة من بعض الرسائل القديمة. وإذا كان "بوداسف" هو بوذا، فهناك علاقة بين ما ذكره المسعودي -وتعاليم "بوذا"؟ يقول الدكتور محمد غلاب:

ليس عندنا من المصادر عن الديانة الفارسية السابقة على "زرادشت" القدر الكافى لإعطائنا عنها صورة واضحة تمكننا من تحليلها على الطريقة العلمية القيمة. ولكن ما نعرفه في هذا الصدد: هو أن نقوشًا أثرية، يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل المسيح وجدت في الشمال الغربي من بلاد فارس، ووجدت فيها أسماء آلهة هندية وهى: - ميتهرا. - أدرا. - فارنا. ولما كان من غير الممكن أن تصل هذه الآلهة الهندية إلى ذلك المكان دون أن تخترق البلاد الفارسية استنتج بعض الباحثين -ونخص منهم بالذكر الأستاذ "دينيس سوريه"- أن للديانة الهندية أثرا عظيمًا على الفارسية الأولى. ثم يقول الدكتور غلَّاب: ومهما يكن من الأمر فإن تأثر الفارسية بالهندية أمر مقطوع به؛ إذ إننا نجد مثلا في الكتاب الفارسي المقدس أسطورة تحدثنا أن "بيما" هو أول إنسان أطعم أبناءه لحما محرما، ولعله "لحم ثور"؛ ليصيرهم خالدين. ويلاحظ أن بيما الذي هو أول إنسان عند الفرس هو نفس "باما" أول إنسان في الديانة الهندية1. هذا من وجهة النظر العامة، وهو لا يبعد عما يفهم من كلام المسعودي الذي نصه: "ويقال أن هذا الرجل أول من أظهر آراء الصابئة من الحرنانيين والكيماريين، وهذا النوع من الصابئة مباين للحرنانيين في نحلتهم". ولفهم هذا النص ينبغي أن نوضح بصفة عامة: آراء الحرنانيين والكيماريين. فنقول:

_ 1 يراجع الفلسفة الشرقية: بحوث تحليلية: الدكتور محمد غلاب، مقالات نشرات بمجلة الرسالة سنة 1937 السنة الخامسة.

حران مدينة من مدن العراق عرفت مدرستها في التاريخ الفكري بأنها مدرسة وثنية، كانت ذات أهمية كبرى لمرور طرق القوافل، وأن اشتقاق اسم المدينة في البابلية هو: "حرانو" أو "حرانو" تعني الطريق. كما اشتهرت في التوراة في سفر التكوين: 24، 4، 29، 21، وقد كانت الموطن الأصلي للآباء العبرانيين الأوائل قبل ذهابهم إلى فلسطين. والمرجح كثيرًا أن إبراهيم وأحفاده كانوا من سكان أراضي هذه المنطقة كما تشير إلى ذلك التوراة نفسها1 في هذا المركز عاشت الصابئة وهي كما يقول الشهرستاني: "الحرانية هم جماعة من الصابئة". ثم يقول عن مذهبها الحلولي: "ثم من المواليد من قد يتفق شخص مركب من صفوها -أي العناصر- دون كدرها- ويحصل له مزج كامل الاستعداد فيتشخص الإله به في العالم. هذا فضلا عن فصل آخر للشهرستاني عنهم عنونه بقوله: "مزاعم الحرنانية"2. ويصفها "أوليرى" بصفة عامة فيقول: هذا وكان هناك بعض مصادر ثانوية متفرقة للعلوم اليونانية مثل مدينة حران التي كانت مستعمرة يونانية ظلت متشبثة بوثنيتها في منطقة مسيحية ويغلب على الظن أنه كان لها نصيب في نقل العلوم اليونانية إلى العرب ولو في أضيق نطاق، فمدرسة حران عرفت وتخصصت في الوثنية ولا نرى مؤلفا أو باحثا في تاريخ الفكر العربي يذكرها دون أن يصفها بالوثنية. فمدينة "حران" ظلت مركزا مهما دائما للثقافة اليونانية في المنطقة التي يتكلم أهلها اللغة الآرامية الشرقية، وكانت إلى جانب هذا نقطة مهمة للتبادل والاتصال، أما

_ 1 يراجع: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ص 493. د طه باقر. 2 الملل والنحل الشهرستاني "582".

أهلها فكانت الغالبية منهم وثنيين يعبدون الكواكب مما دفعهم إلى ملاحظة السماء والتعمق في الدراسات الفلكية1. فالآراء التي حملها "بوداسف" تتميز بوثنية كوثنية حران، وليست هي آراء حران ولكنها تتفق في الوثنية فقط مع الحرنايين. وديانة "بوذا" من الديانات التي تتميز بالإلحاد ومن أقدمها تلك التي لا تعترف بإله خارج عن عناصره. ومن هنا نتساءل: ما الإله؟ هل هو العناصر نفسها؟،.. فإذا كان ذلك فلا يكون في الأمر جديد سوى وضع اسم مكان آخر، وإذا كان غيرها ولها هذه الخواص التي نشاهدها فقد ثبت خلوه هو من بعض الخواص الثابتة للعناصر، وهو نقص فيه، وإذا كان كل خواصها لم يكن في حاجة إليها؛ لاتخاذها وسيلة لإيجاد العالم، وإذًا فنحن أمام خلاء من الألوهية يؤيده منطقها2. أخذت هذه الآراء عدة تحويرات حتى انتهت إلى "الحلولية" على يد "سانكرا" الذي قرر: أن هذا العالم الظاهر، ليس هو حقيقة الإله إنما هو كائن أدنى محدث، ولكن كل جزئية منه تشتمل على طرف من تلك الحقيقة الإلهية؛ غير أن "سانكرا" لم يكد يعلن هذه الآراء حتى وصفه البراهمة بأنه بوذي، يتقمص جسم "براهمي"، أو زنديق يرتدي ثوب متدين، وكان ذلك موافقا بالمصادفة لأوان الفتح الإسلامي، وعلى بدء تاريخ جديد يبرز للباحثين أثر الإسلام في تلك الأصقاع على صورته الحقيقية، فالإلحاد الوثني يتغلغل في البوذية وتعاليمها وهى أول ديانة -كما تزعم نفسها- تتخلى عن الله ولا تخرجه عن العناصر الكونية. يقول الدكتور ميزرا مهدى:

_ 1 علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب. دلاسي أوليرى ترجمة. د. وهيب كامل ص3. 2 الفلسفية الشرقية بحوث تحليلية: دكتور محمد غلاب.

وأهل هذا الدين، يعتقدون أن "ميرزا": هو أول من ظهر في الأرض على صورة البشر، ويجبر هذا الدين تابعيه على أن ينزهوا ملوكهم عن الغلطات ويقدسوهم عن الهفوات، فلذا نرى معابدهم: مزينة بصور سلاطينهم، وأكابر رجال كهنوتهم، وأعاظم ملتهم، وهؤلاء القوم ليس عندهم خبر نصي، أو أثري رمزي عن ظهور مجدِّد أو مصلح جديد في المستقبل؛ ليقوم ما أعوج من دعائم دين "بوذا" إلا أنهم يزعمون أن بوذا سوف يظهر مرة أخرى بنفسه عندما يرى عودته1. لاحظ "ميجاشنيس" وهو عالم يوناني في بلاط "مجاذا" وقد وضع كتابا وصف فيه الهند أن بعض الهنود كانوا يرفعون بوذا إلى مرتبة الإله. يقول أوليرى معلقا: ملاحظة لها طرافتها؛ لأنها ترينا أن البوذية في عهده كانت قد جاوزت فعلا طورها البدائي الذي كان فيه بوذا يعتبر مجرد معلم ديني، وأنها كانت في هذا الحين تنتقل إلى طورها الثاني الذي أله فيه بوذا والذي أدى إلى تصوير بوذا في صورة إنسانية2. إذا كانت هذه الديانة البوذية ترى في الإلحاد والوثنية عقيدة لها فإن وثنيتها ليست عبادة الكواكب كما كان يرى أهل حران فمن هنا حصل التباين بين عقيدتين وثنيتين كما ذكر المسعودي. هل البوذية خرجت من الهند؟ يرى المؤرخون أنها خرجت من هناك؛ بيد أنهم يختلفون حول أسباب خروجها، فبعضهم يرى ذلك عندما اغتال برهمي متعصب اسمه سنجا آخر ملوك أسرة "ماوريا" وهو بوشيا ميترا سنة 184 ثم اغتصب العرش وأخذ يضطهد البوذيين، أي أن الاضطهاد السياسي كان وراء خروجها.

_ 1 مفتاح الأبواب: زعيم الدولة الدكتور ميرزا محمد مهدى خان رئيس الحكماء الإيراني والأذرباجاني التبريزى نزيل مصر ص 8-15 الطبعة الأولى بمطبعة المنار الإسلامية بشارع درب الجماميز بمصر في غرة رجب 1321. 2 علوم اليونان ص 172.

وبعضهم يرى أن الديانة البوذية كانت في بدايتها طائفة زهدية صغيرة ولكنها فيما بعد نمت وانتشرت حتى صارت إحدى ديانات العالم الكبرى، ويرجع أصل هذا الدين -في نظر أوليرى- إلى نظام السانخيا الفلسفي الذي كان قائما من قبل والذي بدأه كامبيلا. أما الدكتور غلاب فيرى أن "كامبيلا" وبوذا متعاصران؛ إذ قد عثر في هذا المذهب، وفي المذهب البوذي: على تأثرات قوية متبادلة بين المذهبين مما يدل على أنهما متعاصران تقريبا. ثم يقول الدكتور محمد غلاب: ولكن هذه الديانة حينما أجلتها البراهمية في القرون الأولى للميلاد المسيحي لم تكن قد انتهت من الوجود، وإنما كانت قد تفرقت شمالا وجنوبا إلى الصين: واليابان وجاوه وسومطره1. أما إلى أي مدى انتشرت البوذية فعلا في العالم القديم فمسألة مستعصية، لكن يمكن القول بأن الديانة البوذية في عهد "سوكا": Asoqs ثالث ملوك أسرة "مارويا" التى اعتبرها الهندوك أسرة نجسة؛ لأنها لا تنتمى لطبقة الكهنة، أو طبقة الجند، هذا الملك اعتنق البوذية؛ لأنها لا تعير نظام الطبقات أية أهمية، فالديانة البوذية لقيت تعضيدًا قويا من هذا الملك ودعا إلى عقد مجمع بوذي ثالث في "الأسو كاراما" في ياتالى بوترا، وتلك قرية كان بوذا قد زارها في سالف الزمان. ونوقشت في هذا المجمع ثماني عشرة مشكلة مذهبية وتم التصالح بشأنها، ولكن الأهم من كل هذا أنه قد تقرر فيه أن البوذية ينبغى أن تنهج سياسة تبشيرية تدعو فيها شعوب العالم كلها إلى اعتناق ما يقضي به "قانون التقوى"، وطبقا لهذا القرار أوفدت الدعاة إلى الجنوب وإلى الغرب 2. فالقرار الذي اتخذه أسوكا: جعل الدعوة إلى الديانة البوذية دعوة عالمية. وأوجب على الداعين أن يحملوا عبء الدعوة إليها فانتشروا في أفناء الأرض، وقد زاد من انتشار أتباعها أخيرا اضطهاد البرهميين لمعتنقيها.

_ 1 الفلسفة الشرقية نفس المرجع. 2 مرجع علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب ص166.

فالعنصر البوذي الذي ظهر في شرق فارس يرجع إلى مدينة "باميان" جنوب بلخ وكان فيها مركز بوذي عام. وفي القرن الثالث عشر يصف ياقوت: صنمين كبيرين لبوذا في هذه المدينة ويقعان في بهو واسع محفور في جانب الجبل، وهما صنمان كان يعرفان باسمه: وأحدهما "سثق بد": أي بوذا الأحمر. ثانيهما "وخنج بد": أي بوذا الأشهب. وكانا قائمين في أيامه، وقد ذكرهما القزويني كما ذكرهما ياقوت. وقد دمر "جنكيز خان" مدينة باميان هذه1. فالبوذية خرجت من الهند واختلطت بتراث فارس هروبا من الاضطهاد الذي لاحقها من البراهمة، وتحقيقا لمنهجها في الدعوة التبشيرية التي قررتها لنفسها أخيرًا. ولقد أصبحت مدرسة "جند يسابور" التي أنشئت في النصف الثاني من القرن الثامن أيام الملكين خسرو وأنوشروان، وبفضل العلماء الذين طردوا من الرها آنذاك قامت بعبء المزج بين التراث اليوناني والشرقي، وفي هذه المدرسة أيضا اتصل العلماء اليونانيون والسريان والفرس بعلماء الهند، وتأثر بعضهم ببعض وزاد ازدهارها حين أقفل "جوستينيان" مدارس أثينا وتولى الفلاسفة عنها إلى جنديسابور، وجلبوا معهم كتبا في الفلسفة والعلوم الهندية، ومن تلاميذها في "جنديسابور" الحارث بن كلدة وابنه النضر. ثم لما ظهر مانى2 أو "مانيس" مؤسس الديانة المانوية والمولود في بابل 215م من أم فارسية من نسل الملوك الأشكانيين وأب من رجالات همدان هاجر إلى بابل في تلكم البلاد.

_ 1 المعجم الذهبي: فارسي-عربي د. محمد النوبخي فرهنك طلائي ص 546، ص 563 دار العلم للملايين. 2 ينقل صاحب حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي "2: 172" أن الصابئة من المانوية.

وقد ادعى ماني النبوة وسمى نفسه "فارقليط" الذي أخبر عنه المسيح وقتله أحد ملوك الفرس سنة 275 بعد المسيح، وكانت عقائده مزيجا من الهندية، والزرادشتية، واليهودية، والمسيحية، قبل وضع قواعد الكنيسة، ثم تبعه مزدك من الطرف الشرقى لنهر دجلة في بلدة اسمها "ماذارايا" في عهد الملك "قباذ" الذي حكم سنة 488 م، ودعا إلى الإشتراكية في الأموال والنساء ثم قتل هو الآخر مع ثمانين ألفا من أتباعه. ويقول ابن قتيبة: إن قباذ بنى في فارس والأهواز مدينة "أريجان" فأسكن فيها سبي "همذان" فوثب فيها "مردق" وقال بدعوته1. فبوداسف الذي أظهر مبادئ الصابئة في ملك طهمورث ربما يكون هو "بوذا".

_ 1 المعارف لابن قتيبة تحقيق د. ثروت عكاشة ص 613.

أصول فكر الصابئة الأولى

أصول فكر الصابئة الأولى: يقول المقدسي: المنائية، والديصانية، والماهانية، والسمنية، والمرقوتية والكبائبون، والصابئون، وكثير من البراهمة والمجوس، وكل من قال باثنين، أو بأكثر، أو بشيء قديم مع البارئ، وكذلك القائلون بالجنة، والجوهر، والفضاء. ويقول الصابئون: النور حيٌّ عالم، والظلمة جاهلة معمية، والمرقيون يقولون: ثلاثة أشياء قديمة: نور، وظلمة، وثالث معدل بينهما. ويقول المنائية: النور خالق الخير، والظلمة خالق الشر. ويجعل من مذاهب المجوسية: الذين يعبدون النار والشمس والقمر والنجوم. ويقول المقدسى1 عن أصل مقالات الثنوية والحرانية: أصل اعتقاد هؤلاء في الجملة أن: المبدأ شيئان اثنان: -نور.

_ 1 البدء والتاريخ جـ1 ص 142.

- وظلمة. وأن النور كان في الأصل: أعلى العلو، نورًا خالصًا. وأن الظلمة كانت أسفل السفل. وظلمة خالصة. غير مما سبق على مثال الظل والشمس فامتزجا فكان من امتزاجهما هذا العالم بما فيه. هذا الذي يجمع أصل عقائدهم. ثم اختلفوا بعد ذلك: فزعم "ابن ديصان" أن النور خالق الخير، والظلمة خالقة الشر، بعد قوله بأن: النور حيٌّ حساس، والظلمة موات؛ فكيف يصح الفعل من الموات؟ ولما رأى من فنون ما لحق المانوية، والديصانية من التناقض والفساد أحدث مذهبا زعم أن الكونين: النور والظلمة قديمان، ومعهما شيء قديم ثالث؛ وهو الذى حمل الكونين على المشابكة والامتزاج، ولولا ذلك المعدل بينهما لما كان من جوهرهما إلا التباين والتنافر. وزعم "كنان" أن أصل القديم ثلاثة أشياء: الأرض، والماء، والنار، غير أن المدبر لها اثنان: خير، وشر. وأما الحرانية: فمختلف عندهم في الحكاية؛ زعم أحمد بن الطيب في رسالة له يذكر فيها مذاهبهم أن القوم مجمعون على أن العالم علة، لم يزل. ويقولون: المدبرات سبع واثنا عشر، ويقولون: في الهيولي والعدم، والصورة، والزمان، والمكان، والحركة، والقوة. يقول "أرسطاطاليس": في كتاب سمع الكبا. وزعم "زرقان" أنهم يقولون مثل قول المانية، وقال بعضهم: إن مذهب الحرانية ناموس مذهب الفلاسفة، وما لم يكن يجرؤ أحد أن يظهر خلافهم.

وأما المجوس: فأصناف كثيرة، ولهم هوس عظيم وترهات متجاوزة الحد والمقدار، لا يكاد يوقف عليها، فبعضهم يقول بقول الثانوية. وبعضهم على مذهب الحورانية والخرمية -جنس منهم يتسترون بالإسلام- ويقولون: مبدأ العالم نور، وأنه نسخ بعضه فاستحال ظلمة. وأما أهل الصين: فعامتهم الثنوية إلى كثير ممن يليهم من الترك وفيهم المعطلة الذين يقولون: بقدم الأعيان، وأن العالم لا صانع له ولا مدبر. والهنود أصناف كثيرة: وتجمعهم البراهمة والسمنية، والمعطلة الأخرى. يقولون بالتوحيد: غير أنهم يبطلون الرسالة، ومنهم المهادرزية يزعمون أن المبدأ ثلاثة إخوة ولهم أسطورة طويلة ذكرها المقدسي. هذا من جهة الصفة العامة الغالبة على المذهب أما تفصيلاته فهى: أولا: الإقرار بالقوة الإلهية: بمعنى أن للعالم صانعا فاطرا حكيما مقدسا عن سمات الحدثان. ثانيا: الإقرار بالعجز الإنساني: في الإنسان عجز عن إدراكه؛ أى: الإله، وعلينا الإقرار بهذا العجز. وفي الوقت نفسه علينا التقرب إليه لحاجتنا إليه. فاتخذوا سبيلهم إليه بالمتوسطات المقربين لديه. ثالثا: الإقرار بإمكانية الاتصال به: أدى شعورهم بالحاجة إلى إعمال الفكر؛ لكيفية تصور إمكانية العلاقة بينهم وبين القوة الإلهية، بيد أن هذه العلاقات كما تصوروها لا يمكن أن تكون مباشرة؛ لما عليه الإنسان من دنس النفس وإظلامها بالشهوات الطبعية، ولذلك رأوا أن الوسيط يجب أن يكون روحانيا.

والروحاني -في نظرهم- هو: المقدس من المواد الجسمانية المبرأ عن القوى الجسمانية المنزه عن الحركات والتغيرات الزمانية. فللاتصال به علينا أن نطهر أنفسنا من علائق القوى الشهوانية حتى تحصل مناسبة ما بيننا وبين "الروحانيات" فحيئنذ نسأل حاجتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم. وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا عن الشهوات الدنيا. والاستمداد هو: التضرع وإقامة الصلوات وبذل الزكاة، والصيام وتقريب القرابين وتبخير البخور، وفي هذه الحالة قد لا يحتاج الإنسان إلى وسيط. لذلك رفضوا كل وساطة من البشر، فقالوا عن الأنبياء: إنهم أمثالنا في النوع وأشكالنا في الصورة يشاركوننا في المادة يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب ويشاركوننا في الصورة. أناس بشر مثلنا فمن أين طاعتهم؟ وبأية مزية لهم لزمت متابعتهم؟ قال تعالى: حاكيا ذلك عنهم: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} 1.

_ 1 سورة المؤمنون الآية 34.

أنواع الوساطات

أنواع الوساطات: والوساطة قد تكون عبادة العناصر الطبعية وقد تكون عبادات تنجمية ظهرت على أنها عبادة واحدة ثم انقسمت إلى نجوم وسماء. 1- فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها وهي هياكلها، فكل روحانى "هيكل"، ولكل "هيكل" "فلك"، ونسبة الروحانى إلى ذلك الهيكل الذي اختص به كنسبة الروح إلى الجسد فهو ربه ومدبره ومريده.

وكانوا يسمون العناصر: أمهات. وفعل الروحانيات فيها هو: تحريكها على قدر مخصوص؛ ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر لمزج المركبات فتتكون القوى الجسمانية وتركب عليها نقوش روحانية مثل: - أنواع النبات. - أنواع الحيوان. 2- والتأثير قد يكون آليا صادرًا عن روحاني كلي: فمع جنس المطرملك هو هذا الكلي. والتأثير قد يكون جزئيًّا صادرًا عن "روحاني" جزئي أى مع كل قطرة ملك وهذا هو الجزئي. 3- ومنها مدبرات الآثار العلوية: - الظاهرة في الجو مثل: الأمطار والثلوج والرعد والبرق. - الظاهرة في الأرض مثل: الزلازل والأبخرة. 4- ومنها متوسطات القوى مثل: قوى الحس. 5- ومنها: مدبرات الهداية مثل: العقل. وهذه الروحانيات لها طعامها الذى يتناسب معها وهو: التسبيح والتقديس والتهليل والتنجيد وأنسهم بذكر الله وطاعته. أعمال الصابئة كلهم: يصلون ثلاث صلوات، ويغتسلون من الجنابة، ومن مس الميت، وحرموا أكل الجزور والخنزير والكلب. ومن الطير ما له مخلب، والحمام.

ونهوا عن السكر في الشراب وعن الاختتان. وأمروا: بالتزويج بوليٍّ وشهود. ولا يجوزون الطلاق إلا بحكم حاكم ولا يجمعون بين امرأتين.

هياكلهم-رؤساؤهم

هياكلهم-رؤساؤهم: بنى الصابئة هياكلهم على أسماء الجواهر العقلية الروحانية وأشكال الكواكب السماوية فمنها: هيكل العلة الأولى ودونها: هيكل العقل وهيكل السياسة وهيكل الصورة وهيكل النفس - وكلها مدورات الشكل. وهيكل زحل: مسدس. وهيكل المشترى: مثلث. وهيكل المريخ: مربع مستطيل. وهيكل الشمس: مربع. وهيكل الزهرة: مثلت في جوف مربع وهيكل عطارد: مثلث في جوف مربع مستطيل. وهيكل القمر: مثمن. يقول المسعودى: والذي بقي من هياكلهم المعظمة في هذا الوقت وهو "سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة 332" بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف بمغليتيا هو هيكل أبي إبراهيم عندهم. رؤساؤهم: ذكرهم ابن النديم في فهرسته ومن أراد الوقوف عليهم فليرجع لها1.

_ 1 الملل والنحل للشهرستاني ص60، 61 كذلك يراجع المسعودي "1: 417" وما بعدها مروج الذهب.

تعقيب حول فكر الصابئة

تعقيب حول فكر الصابئة: وأخيرا.. لقد خلفت الصابئة أثرا شاهدا على تاريخها: وهو عبادة النجوم التي تولد منها التنجيم؛ ذلك أن النجوم وفوق كل شيء الكواكب كانت فيما يبدو وفق قوانين ثابتة تقول بالتقابل والتوافق؛ أي أن السموات من فوق والأرض من تحت شقيقتان متكاملتان فما كان يحدث في العالم النجمي كان يعاد إخراجه على الأرض، وها هو الأمر الحيوي في الموضوع. بيد أن حركات العالم النجمي ثابتة فإذا كان هناك تقابل فكل ما يحدث على الأرض يكون ثابتا، والحال بالمثل بالنسبة لأفعال الناس أيضا، فهي ثابتة وذلك الإنسان هو كون مصغر فهو الشقيق المكمل للعالم الكبير، وروحه شرارة من تلك النار السماوية التي تتوهج في صفحة النجوم. ومن هنا نشأ مذهب من أفظع المذاهب التي عذبت الإنسانية على مر الزمان وهو المذهب البابلي المسمى "القضاء المحتوم" الذي يتحكم على السواء في النجوم والأرض والناس. فحركة هذه الكائنات جميعا ثاتبة بفضل قوة باقية لا تتبدل وهي قوة لا علاقة لها بالأخلاق. قوة لا تحب ولا تكره ولكنها تواظب على مسارها بطريقة لا هوادة فيها مواظبة النجوم في مسارها عبر القبة الزرقاء. وقد استطاع التنجيم في النهاية أن يتغلغل في كثير من الديانات ويصبغها بلونه. وكان هناك أكثر من نظام للتنجيم. - عبادة الكواكب. - أبراج الفلك وعلاماتها الاثنتا عشرة. بيد أن التنجيم القائم على الكواكب كانت له قوة أعظم؛ فالكواكب السبع هي: الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشترى وزحل.

كانت في عبادتها المسيرات للقضاء والقدر وفي النهاية هي مستقر عروش "حكام هذا العالم" الذين أصبحوا فيما بعد معادين لروح الإنسان وشرا عليها بصورة قاطعة؛ لأنهم أصبحوا يجرون المقادير عليها بلا هوادة. كذلك خصص للكواكب السبعة ألوانها الخاصة المقابلة للطوابق السبعة للمعبد البابلي. كما خصص لها معادنها الخاصة ونباتاتها وحيواناتها. - أما أبراج الفلك فقد كانت تتحكم في مصائر الشعوب ومدتها المنوعة وتشهد العملية بأن أنطاكية ونصيبين كانتا تحت سيطرة برج الحمل. والرها تحت سيطرة برج الدلو. وأن سنجارا و"ريساينا" تحت برج القوس1. وإن الذي كان يهم الناس هو أن مصائرهم كانت ثابتة منذ الولادة بفضل نجومهم، كما أن المنجم المقتدر كان يستطيع أن يتنبأ لهم بالمستقبل عن طريق حسبانه لطوالعهم، وقد أسهم التنجيم في إدخال عناصر كثيرة غير منطقية مثل: - الحظ. - الفرص. ثم تحدد مسار الكفاح الإنساني ضد سيطرة النجوم عليه بثلاثة خطوط رئيسية حاول بها الإنسان الفرار من تأثير نجومه عليه، وكلها تعتمد على الاعتقاد في الله الأقوى من كل شيء أعطى الإنسان كثيرا من الحرية والإرداة، والعقل البشرى سيادته من خلال توجيهات الوحي الذي استطاع به أن يثور ضد ثقل: "الجبرية" القاهر بسبب الاعتقاد في تأثير النجوم بأفلاكها عليه وعلى مصدره. والخطوط الثلاثة هى: - الدين. - المعرفة الروحية. - السحر.

_ 1 الحضارة الهيلينستية ن. ن. تارن ترجمة عبد العزيز جاويد ص141-142.

وكفاح الدين ضد سيطرة النجوم على الإنسان سوف نعرض له من خلال محاورة نبى الله إبراهيم معهم. أما المعرفة الروحانية: فهي بكنه الأشياء وليست هي المعرفة التي تتوافر للفيلسوف. فالمعرفة الروحانية الحقة تجعل الإنسان يأمن من قضاء وقدر النجوم على أساس اعتقاده أن روحه بعيدة عن منالها، هذا من المبادئ الرفيعة للمعرفة الروحانية التي تساعد الإنسان ألا يذل لغير الله وهذا ما يتفق مع العقل. السحر: أما السحر فالفكرة الأساسية فيه: هي أنه باستخدام الوسائل الصحيحة يمكن إجبار القوى الخفية على العمل من أهداف السحر التي يراها الإنسان القديم أن يعود بالحرية إليه من سيطرة الكواكب عليه، ويعطي الإنسان مزيدًا من السيادة على القوى الخفية، وتصبح كل عبادة للنجوم التي تعطي لنفسها السيادة على الإنسان في نظر السحر والسحرة مرفوضة. فالسحر طريق اتخذه الإنسان للحصول على رغائبه المادية والروحية، وفلسفته قائمة على منح الإنسان قدرة على تغيير ما قضت به النجوم عليه، وقد أوشك السحر أن يصبح نظاما دينيا. وكانت للسحر صلات بأشكال المعرفة الروحانية السفلى. فأنت تستطيع أن تجبر القوى الروحية على أن تطلع الإنسان على ما لديها من خفايا وأسرار، بيد أن المعرفة الروحية في أسمى مراتبها تنبذ السحر، وكذلك الدين ينبذه؛ لأن السحر إذا كان يغير من قضاء المقدر من لدن الأرواح، فإن الدين يرفعك فوق قضاء التنجيم؛ إذ الهدف العام للدين هو أن يجعلك مرتبطا بالله مؤثرا كل قضاء صادر عنه.

من قضايا الصابئة وموقف القرآن منها

من قضايا الصابئة وموقف القرآن منها: من مشاكلهم التى أثارها القرآن: 1- عبادة الكواكب، وعبادة الأصنام كما في محاورة إبراهيم. 2- القول بأن بشرية النبى تمنعه من الاتصال بالله ولا تتفق معه ليكون وسيطا. المشكلة الأولى: عبادتهم للكواكب والأصنام.

إبراهيم والصابئة

إبراهيم والصابئة: ساق القرآن محاورة من الأدب الراقي بين نبي الله إبراهيم وعباد الكواكب تعتبر تأسيسًا لعلم الكلام الديني مقارنا بين علم الكلام الديني وعلم الكلام الوثني. ونلاحظ من تحاور إبراهيم مع قومه أنه علم الكلام الوثني قد نشأ بجانب علم التوحيد. وإبراهيم نبي الله إذ يهدم العبادات الطبعية التي انتشرت إبان بعثته -وهي التي ألهت العالم الطبعى- وكان بعضها من النيرات مثل الكواكب، والبعض الآخر له شكله الأدنى من حيث الإشراك أيضا مثل عبادة الأصنام التي عرض لها نبى الله إبراهيم، وهو إذ يهدم هذه المظاهر يبين لهم في النهاية أن الآلهة التي تحتوى عليها وثنيتهم ليست إلا أسماء كاذبة أطلقت على بعض أجزاء من العالم المادي. يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} 2. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} 3. {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .

_ 1، 2، 3 سورة الأنعام الآيات 74-82.

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1. الواضح أن نبي الله إبراهيم قدم سعيا تدريجيا مصحوبا بنقد حقيقي لهذا الكون من العبادة، والسعي واضح من محاورة نبى الله إبراهيم لأبيه وليست لذات أبيه -وإنما هو لكل عباد هذا اللون من العبادة- عبادة مظاهر الطبيعة، كما قدم نقدا حقيقيا للتنجيم والعبادات الكونية وذلك ليس نقدا جدليا بل هو وصف تدريجى لمنحنى النفس الداخلى آخذا نقطة بدئه من المحسنات منتهيا به إلى اللامعقول. والشك الذي أراد نبي الله إحداثه في نفوسهم حول هذه العقائد ليس إلا طريقة تمهيدية لحكمة أرفع شأنا وهي معرفة الإنسان لنفسه. هذه المعرفة هي التي تميز فينا ثنائيتنا وهي: - الروح وهي غير مرئية غير أن لها قدرة السيطرة على الجسم. - والجسم وهو مرئي وخاضع للروح. كذلك معرفة الإنسان لنفسه التي أراد نبي الله إبراهيم لفت النظر إليها هى التي تحملنا على تأمل المعقول واللامعقول، كذلك تتيح للإنسان الانتقال من الكون إلى الإنسان ثم من الإنسان إلى الكون انتقالا عن علم وبصيرة نافذة وسبيل ذلك كله: هو الوحي الإلهي أساس علم التوحيد. وقد أفادت المحاورة أن هذه الكواكب ليست شيئا من حيث عبادتها أو الاعتقاد في أنها مدبرة ولكنها كما قررها القرآن آيات كونية فقط. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2.

_ 1 الآية 73-83 من سورة الأنعام. 2 الآية 37 من سورة فصلت.

ويقول الرسول: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات لله لا ينكسفان ولا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته"؛ كذلك درأ القرآن انحرافهم بعلم الفلك إلى علم التنجيم؛ ليستطيع الإنسان من خلاله التنبؤ بمصير الإنسان، فربطوا مثلا: بين الدب الأكبر، والاتحاد بين الناس، وبين إنضاج الثمار والقمر، كذلك مبدأ قراءة المستقيل بالتنجيم: موجود لدى عبادها، ويمكن التنبؤ بالحوادث: من شروقها، وغروبها، وكسوفها، وخسوفها، وفي نظرهم إذا كانت النبوة لها قدرة التنبؤ بالمستقبل، فوسائلهم لها أيضا: قدرة التنبؤ، وهي في نظرهم: أرهف شفافية، لذلك عرض الإسلام هذا الاتجاه فقرر أنها ليست محلا للعبادة وليس لها علاقة بمشيئة الإنسان. فالإسلام لا يقرر ما يقول به علم التنجيم؛ لأنه يسند كل شيء إلى غير مشيئة الله فلا يمكن أن تجرى الحوادث طبقا لسلطان الكواكب كما يعتقد الصابئة. وأصبح هذا الرأي هو السائد بين المسلمين وعقيدتهم، فلم يعد أحد ينظر إلى الكواكب على أنها هي المسيطرة والموجهة للحوادث كما كانت في علم التنجيم الوثني بل أصبحت تعد مظاهر كونية وآيات من آيات الله. وهذه النظرة التي قررها الإسلام تخالف ما كان عليه الصابئة وما كانت عليه اليهودية والمسيحية. فاليهود يعترفون صراحة بالكواكب على أنها "حكام" استنادا على ما جاء في سفر التكوين "1، 14، 16" من الله وضع أنوار السماء؛ ليحكم الأرض. وقد جرى المسيحيون على نهجهم في هذا الصدد: وفي هذا المجال نعرض لكلمة: ديلاسى أوليرى في مقدمة كتابة "الفكر العربى ومكانة في التاريخ".. والتي يقول فيها: والحق أن هذه الفلسفة الإسلامية في أساسها وفي جوهرها جزء من المادة الهلينية الرومانية، بل إنه حتى علم التوحيد الإسلامى قد حدد وقعد بوساطة منابع هلينية.

ثم يقول: وتظهر أعظم قوة لها في أنه قد عرض المادة القديمة في شكل جديد جدة تامة، فهنا مثلا أي تشابه بين اليهودية والإسلام، أو المسيحية والإسلام في هذا المقام الذى عرضناه. ثم نقول أخيرًا: أي تشابه بينه وبين الهلينية، التي قررت الوثنية منذ أن بدأ الإنسان اليوناني يفكر من خلال مدارسه الطبعية عندما أجاب على سؤال: مم يتكون العالم؟ أمن الماء أم من التراب، أم من النار؟، حصر فكره فيها، ومن هنا تأسست الوثنية التي قررت أن مظاهر الطبيعة صالحة للعبادة حينما أسندت لها قدرة الكون والفساد أو التدبير.

الوساطة بين الإنسان والله

الوساطة بين الإنسان والله مدخل ... الوساطة بين الإنسان والله: المشكلة الثانية: أن الاتصال بالله لا يحتاج إلى وساطة الوحي: إن اتخاذ وسيط بين الله والروح الإنسانية سمة كل الأديان والمذاهب الروحية القديمة من صابئة ومجوسية ووثنية وشرك، والوساطة قد تتنوع بتنوع المذاهب المختلفة: - ففي الدين السماوى: تظهر في الوحي الإلهي في الإسلام، أو "الكلمة" في المسيحية، أو اليهودية، وهذه الوساطة لا شرك معها ولا تأثيم؛ لأنها توجه صاحبها إلى عبادة الله وتوحيده. فالوساطة هنا ليست معبودة، وإنما لها مظهر من مظاهر العبادة: وهو التقديس. - وفي الفلسفة: تظهر في العقل الفعال، وبوساطته كان الفيض الإلهي، وهذه فكرة فلسفية ترجع إلى التراث اليوناني، وهذا أول ميل فكري نحو الشرك المنزه عن المادة. - والديانات الوضعية في الشرق: تميل إلى فكرة الوساطة المجسدة، إما في شكل نار، أو حيوان، أو جمادات، ويشترك مع نزعة الشرق الفلاسفة الطبعيون الأول في اليونان وذلك حينما اعتبروا العناصر من ماء وهواء ونار وتراب أصل العالم.

فالمظاهر المادية التي رافقت الإنسان في تفسيره لله وشابت علاقته به كانت أصلا لنشأة الوثنية؛ لأنها اعتبرت مبادئ مدبرة وإلهية لا مادة للعالم. فالوساطة: إما أن تكون موجهة إلى التوحيد، وإلى السلوك الطبعي للعبادة، وذلك: كالوحي أو الكلمة فلا شرك فيها ولا ميل إلى الشرك. أما أن تكون الوساطة شركا، أو داعية إلى الشرك، وذلك إذا كان الوسيط يقوم مقام الله أو يشترك مع الله، ويقوم الإنسان بعبادته أو يعتقد فيه في حاجة إلى وسيط. واضح أن فكرة الوساطة "الشريك" نشأت بعيدا عن الدين السماوي، وليس ذلك فحسب بل إن الدين السماوي نبذها وحاربها بمختلف وسائل المحاربة. فالوساطة التي أنشأها الإنسان؛ ليعبدها تجدها نشأت إما في مجتمع خالٍ من الدين فابتدعها الإنسان تعبيرا عن ميله الفطري للعبادة، وإما أنها نشأت في مجتمع حافل بالفكر الذى يكثر القول عن السبب الاسمى، فإن استطاع الفيلسوف تصور قيمة هذه الفكرة، فإن عوام المجتمع سوف يهربون من تلك التصورات المنطقية الجافة ثم يقعون وهم يفرون من فكرة العقل الفعال في نظر الفلاسفة في حوزة الوسيط المجسد؛ لأن الوصول إليه عسير. والكائنات التي رشحها الإنسان للعبادة ليست وسطاء بين الله والعالم فقط بل بين الله والنفس الإنسانية المتعطشة للدين حتى إنها؛ لاستحالة صعودها إلى أعلى وانبهار بصرها من التأمل لا يسعها إلا الوقوف عند درجة أدنى. فمذهب الوسطاء ليس مؤداه استحالة خلق الله للعالم بل استحالة وصول النفس مباشرة إلى الله. وما نستخلصه من وراء مذاهب عبادة الوسطاء وجود الروح الدينية العميقة المتغلغلة في النفس الإنسانية وأنها سلكت الإنسان طريق العبادة وطريق الفكر الميتافيزيقي. وإذا كان فراغ المجتمع الإغريقي من الدين لم يستطع أن يلغي الإحساس بضرورة الحاجة إلى العبادة، وذلك باستحداثه أنماطا من الوساطات الدينية؛ ليدين لها. وإذا كان الفكر الفلسفي لم يستطع أن يقدم للإنسان شيئا عن الله وعن علاقته به

سوى الدعوة إلى التأمل فقط، وكان في ذلك توسعة لمعنى المقدس، فإن الدين السماوي -"الإسلام" وهو المقدس الحقيقي- هو الدعوة الطبعية والآمنة من فراغ المجتمعات من الدين ولنبذ وثنية الوساطة والشرك التي يحوم حولها عندما يمحى الدين الإلهي منها.

ملاحظات على ما أورده الشهرستاني في المناظرة بين الصابئة والحنفاء

ملاحظات على ما أورده الشهرستاني في المناظرة بين الصابئة والحنفاء: أورد الشهرستاني مناظرة بين الحنفاء والصابئة وكان لنا عليها ملاحظات: أولا: أنها خالية من تاريخ زمنها ومكانها فهل كانت أيام بعثة إبراهيم رأس الحنفاء؟ هذا الفرض لا نجد له في المناظرة ما يؤيده؛ لأن الشهرستاني ضمنها بيتين من الشعر لزهير: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل كذلك ضمنها آيات من القرآن. كما ضمنها اصطلاحات فلسفية. منها ما يرجع إلى الفكر اليوناني وما يرجع إلى أفلاطون كقوله: إن النفوس كانت في البدء في عالم الذكر ثم هبطت إلى عالم النسيان. وما يعود إلى أرسطو مثل: الهيولي والصورة والحيوانية الناطقة. ومنها ما هو منسوب إلى مدرسة الإسكندر أو التراث الهلينى مثل: العقل الفعال: ماهيات مجردة من المادة، العقل المستفاد، العقول المفارقة. ومنها ما هو منسوب إلى اصطلاحات صوفية إسلامية مثل: وما أشرق عليه من الأنوار القدسية: وحيا وإلهاما ومناجاة وإكراما. ومنها ما هو تأليفات شهرستانية مثل: النفس النبوية -الحيوان الناطق المائت، المتكلم الحنيف، المتكلم الصابئ.

فالمناظرة حوت الكثير من المصطلحات المختلفة من حيث الزمن والمكان ومن حيث الألوان الكفرية ففيها الفلسفي القديم والوسيط والديني الإسلامي وغيره والعربي وغير العربي. وهذا مما يجعلنا نميل إلى أنها ثقافة شهرستانية -صياغة وفكرًا، ويصبح الاعتماد عليها؛ لبيان أصولها الفكرية مقدوحًا فيه؛ لتصرف الشهرستاني فيها، ولقد صرح بهذا التصرف فقال: وقد جرت مناظراته ومحاوراته بين الصابئة والحنفاء في المفاضلة بين الروحاني المحض والبشرية النبوية. "ونحن أردنا أن نوردها على شكل سؤال وجواب". هذا فضلا عما يظهر فيها من التكلف المنطقي الذي يجانب الفكر الشرقي القديم. ثانيا: ومما يلاحظ -وهو شيء غريب- أن المناظرة خالية من النصوص القديمة التي تمثل صحف إبراهيم، وإن كانت اعتمدت على الجدل المنطقي. فاستوفاها الشهرستاني من كل شيء عدا نصوص من صحف إبراهيم. ثالثا: لم يذكر الشهرستاني من صاحبها ولا تاريخ نشأتها ولا مكانها وفي المناظرة ما يفيد -من خلال كلام الصابئة أنفسهم وبتصريحهم- أنها تنتسب إلى "هرمس" و "عاذيمون". غير أن الشهرستاني وحده -أي: على لسانه هو دون لسان الحنفاء- استبعد أن يكون هرمس من الصابئة، وهذا تصرف جريء لا يقدر عليه إلا إذا كانت المحاورة من تأليفاته. رابعًا: وفي المناظرة فكر يخدم الفكر الإنساني من حيث النظرة العامة وفيها: ما لا ينفع الحنفاء؛ حيث إنهم ورثة إبراهيم بل يناقض مذهبهم. وهذا وقع فيه الشهرستاني وهو يصوغ فكره معتمدًا على أسلوبه الفلسفي دون الرجوع إلى مستندهم الحقيقي.

خامسًا: ومما ينبغي لفت النظر إليه أن الشهرستاني حاول -وهو غير مسبوق إليها- أن يضع تمييزًا بين الحنفاء والصابئة. ملاحظات على ما ذكره المسعودي عن الصابئة في كتابه مروج الذهب: ذكر المسعودى أخبارا عن الصابئة في موضعين: الموضع الأول: ذكر فيه تاريخا عن أحداث مذاهب الصابئة واسم الملك الحاكم. وذلك في صفحة 168. الموضع الثاني: عاود القول عنهم فذكر البيوت المعظمة والهياكل المشرفة للصابئة وغيرها، وغير ذلك مما لحق بهذا الباب واتصل بذلك المعنى، وذلك في صفحة 467-470,

ملاحظات على ما ذكره المسعودي

ملاحظات على ما ذكره المسعودي: أنه قدم معلومات محددة ودقيقة فيها استقصاء لبعض استفهامات يحاول المسعودى وهو مؤرخ أن يثيرها مثل قولهم "هيكل العقل". يقول المسعودى متسائلا: وما أدرى أأشاروا إلى العقل الأول أم الثاني؟ وحول هذا الاستفهام الذي يدل على نزعة المسعودي الفلسفية -وهو مؤرخ- يقدم إجابات مسندة إلى مراجعها القديمة. وعندما أخذ في شرح الهياكل قدم لنا شواهد كثيرة تؤيد ما يسوقه لنا منها: - حكاية رجل من ملكانية النصارى من أهل حران يذكر اسمه فيقول: أخذ يعرف بالحارث بن سنباط للصابئة الحرنانيين، وحكى المسعودى أشياء قال عنها: امتنعنا عن ذكرها مخافة التطويل. - وقدم ما شهده من هياكلهم وحدد السنة التي شاهد فيها هيكل آزر.

- وذكر لابن عيشون الحرناني القاضي -المتوفى بعد الثلثمائة- قصيدة طويلة يذكر فيها مذاهب الحرنانيين المعروفين بالصابئة. -وروى شيئا مما أراه في وصفه فقال: ورأيت على باب مجمع الصابئة بمدينة حران مكتوبًا على مدفنه بالسريانية قولا لأفلاطون فسره مالك ابن عقبون وغيره هو: من عرف ذاته تأله. وما ذكره المسعودي من مشاهدة العيان يفيد بوضوح الأثر الأفلاطوني في مبادئ هذا المذهب. ثم تكلم عن مراجع الصابئة التى قرأ فيها أخبارًا عن مذاهب الصابئة الحرنانية. فمن ذلك كتاب رآه لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي الفليسوف صاحب كتاب المنصوري في الطب وغيره: ذكر فيه مذاهب الصابئة الحرنانيين ودون فيه مذهب الصابئة الحرنانيين منهم دون من خالفهم من الصابئة الكيماريين. ثم قال: وقد خاطب مالك بن عبقون وغيره منهم بشيء مما ذكرناه وغيره مما عنه كتبنا.. ثم قال ممتحنا ما دونه عنهم: فمنهم من اعترف ببعض وأنكر بعضًا من ذكر القرابين وغيره من الآراء مثل: فعلهم بالثور الأسود. ومن ذلك أيضا ما قدم روايات تاريخية مسندة إلى روايات سمعها بنفسه أو شاهدها لآثارهم كل ذلك وفق منهجه التاريخي. وما قدمه عن الصابئة من الناحية التاريخية أمر جديد لم يذكره الشهرستاني؛ أكبر مؤرخ ديني كتب الكثير عن الصابئة، مثل: بوداسف الذى أحدث مذاهب الصابئة في فارس وفي الهند: كذا أفاد صلة حران بالصابئة من قديم ما ذكره ابن النديم. وفي كلامه ما يفيد: صلة المذهب الصابئى بالأفلاطونية. كذلك ذكر أن للصابئة فلاسفة بيد أنهم حشوية يقول فيهم: إنما أضفناهم إلى الفلاسفة إضافة سبب لا إضافة حكمة.

وخلاصة القول: أن ما ذكره المسعودي يعتبر مصدرًا مفيدًا عن الصابئة وهو بتقدمه الزمني والتاريخي على الشهرستاني قدم مادة تاريخية تخدم الباحث في تكوين تصور ما عن الصابئة وهذا ما لم يتوافر للشهرستاني. وللمسعودي: كتب في الدين المقارن -هذا الفن الديني- نراه كثيرًا ما كان ينبه إليها ويحيل القارئ عليها ومنها: - المقالات في أصول الديانات. - الاستبصار. - الصفوة. - سر الحياة. - الدعاوي. في هذه الكتب ما يشير إلى عنايته بهذه القضايا على الرغم من أن هذه الكتب مفقودة إلى الآن، غير أننا كنا نلاحظ من خلال النصوص التي كان يذكرها المسعودي في هذه الكتب أنه كان متخصصًا في تاريخ المذاهب والديانات، واللمحات التي ذكرها؛ لتنبئ عن أصالة ثقافته في هذا المجال.

الزندقة عند عرب الجاهلية

الزندقة عند عرب الجاهلية: يقول جواد علي: إن في كلام أهل الأخبار عن الزندقة، ووصفهم لزندقة قريش إيهاما وغموضًا، وخلطًا؛ وإذا كان الزنديق هو القائل: ببقاء الدهر، وبعدم وجود عالم ثانٍ بعد الموت؛ فتكون الزندقة: الدهرية، ويكون الزنديق هو: الدهري؛ لقوله بالدهر؛ وبأبدية الكون والمادة؛ أما القول بالثنوية: بالنور والظلمة، وبالكفر والإلحاد: إنما وقع في الإسلام بسبب الخلط الذي وقع بين المعنى المفهوم للفظة في الفارسية القديمة، وفي الفارسية الحديثة، وبالمعنى الذي ظهر للكلمة في الإسلام،

والذي تحول إلى زندقة بغيضة تحوى العناصر المذكورة والتي كانت تؤدي بمن يتهم بها إلى القتل1. وقد ذكر محمد بن حبيب أسماء زنادقة قريش، فجعلهم: أبو سفيان بن حرب، وعقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف، والنضر بن الحارث، ومنبه، ونبيه ابنا الحجاج، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة. وذكر أنهم تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة؛ فربط هنا بين الزندقة وبين نصارى الحيرة. وقد ذهب ابن قتيبة أيضا إلى أخذ قريش الزندقة من الحيرة، والذى نعرفه عن المذكورين، أنهم: كانوا من المتمسكين الأشداء بعبادة الأصنام؛ وقد كان أبو سفيان يستصرخ "هبل" على المسلمين يوم أحد، ويناديه: اعل هبل.. اعل هبل؛ وقد نص على أنه كان من أشد المتحمسين لعبادة الأصنام؛ ولم يذكر أحد من أهل الأخبار أنهم كانوا ثنويين على رأي المجوس، يقولون بإلهين -بالنور، والظلمة- وأنهم تعبدوا للنار، أو تأثروا برأى "مزدك" أو "مانى" الذي أضيف إليه الزنادقة، ولا نجد في آرائهم المنسوبة إليهم- وفي حججهم في معارضة الرسول ما يشير إلى زندقة بمعنى ثنوية، لذلك: فزندقة من ذكرت لا يمكن أن تكون بهذا المعني2. وأما ما يراه أهل الأخبار من أخذ زنادقة قريش زندقتهم من الحيرة، أو من نصارى الحيرة، فإن فيه تأييدا لما قلته: من أن الزندقة لا تعني المجوسية، والثنوية، وإنما القول: بالدهر وإنكار المعاد الجمساني. ولنا ملاحظات على ما ذكره ابن قتيبه عن أديان العرب وزندقتهم: ذكر ابن قتيبه أديان العرب في الجاهلية فقال:

_ 1 المفصل جـ6 ص 146 المعرب ص 166، اللسان 12/ 12. 2 المفصل ص 147، المعروف ص 621.

كانت النصرانية في "ربيعة" و"غسان" وبعض "قضاعة". وكانت اليهودية في "حمير" وبنى "كنانة" و"بنى الحارث بن كعب وكندة". وكانت المجوسية في بني "تميم". منهم زرارة بن عدس التميمى وابنه حاجب ابن زرارة، وكان قد تزوج ابنته ثم ندم، ومنهم الأقرع بن حابس -وكان مجوسيا، وأبو سودة جد وكيع بن حسان- وكان مجوسيًّا. - وكانت الزندقة في قريش أخذوها من "الحيرة" وكان "بنو حنيفة" اتخذوا لها في الجاهلية إلها من "حيس" فعبدوه دهرا طويلا ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه فقال رجل من "بني تميم" شعرا: أكلت ربها حنيفة من جو ... عٍ قديم بها ومن إعوازِ ونلاحظ أن المادة العلمية التي قدمها ابن قتيبة غير دقيقة لا من جهة الموضوع ولا من جهة الحصر ولا من جهة تحديد القبائل التي تدين بالدين الذي نسبهم إليه. فهو أولًا لم يعد الصابئة ضمن أديان العرب. وثانيًا: أنه ذكر الزندقة في أديان العرب. فأخرج الصابئة وهي داخلة في أديانهم وأدخل الزندقة وهي خارجة عنهم. وفي نظرنا يعتبر هو الوحيد الذي ذكر الزندقة، والوحيد أيضا الذي لم يعد الصابئة. يقول الألوسي 1: والذي يظهر أن مراد ابن قتيبة من الزندقة هو الملة التى نسبها إلى بعض العرب الذين اعتنقوا الثنوية أو القائلين بالنور والظلمة بمقتضى قوله: أخذوها من الحيرة؛ فإنها من بلاد الفرس.

_ 1 بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، السيد محمود شكري الألوسي ط2 ص"2282".

وإن كان سكانها وملوكها من العرب المتدينين بدين الفرس أو دين المسيح ولو كان مراده من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية؛ لما كان لقوله: "أخذوها من الحيرة" وجه؛ فإن كثيرا من قبائل العرب كانوا كذلك فتعين أن مراده ما ذكرنا. ثم يقول في لفظ زندقة: وهو أى: الزندقة اصطلاح جديد ولا مشاحة فيه والزندقة اصطلاح فارسي يرجع إلى العصر العباسي حين اتهم به البرامكة. يقول ابن قتيبة: وكذا البرامكة يرمون بالزندقة، وفيهم قال الأصمعي: إذا ذكر الشرك في مجلس ... أضاءت وجوه بنى برمكِ وإن تليت عندهم آية ... أتوا بالأحاديث عن مزدكِ يقول صاحب لسان العرب: 1 الزنديق القائل ببقاء الدهر فارسي معرب. وليس في كلام العرب زنديق. وإنما تقول العرب: زندق وزندقي إذا كان شديد البخل. فإذا أرادت العرب بمعنى ما تقوله العامة قالوا ملحد ودهري بفتح الدال. أما معناه في المسموع فدهري بضمها. ويرجع اصطلاح الزندقة إلى "ماني" وذلك أن الفرس حين أتاهم "زرادشت" أتاهم بكتابه المعروف: "بالبستاه" باللغة الأولى من الفارسية وعمل له التفسير وهو: "الزند" وعمل لهذا التفسير شرحًا سماه "البازند"، وكان الزند بيانًا لتأويل المنزل. ومن أورد في شريعتهم شيئًا بخلاف المنزل الذي هو البستا، وعدل إلى تأويل هو الزند، قالوا: هذا زندي فأضافوه إلى التأويل وإنه منحرف عن الظواهر من المنزل إلى التأويل وهو بخلاف التنزيل.

_ 1 لسان العرب لابن منظور

فلما أن جاءت العرب أخذت هذا المعنى من الفرس، وقالوا: زنديق وعربوه، والثنوية: هم الزنادقة. قال المسعودي: وألحق بهؤلاء سائر من اعتقد القدم وأبى حدوث العالم1. ويقول الشهرستاني: ومما اتفقت حوله الأديان والملل: أن للعالم قوة إلهية مدبرة له، بيد أنها لها أسماء شتى: - تسمى عند "زرادشت" مشا سيد. - وعند الفلاسفة: العقل الفعال، ومنه في الفيض الإلهي. - وعند المانوية: الأرواح الطيبة. - وعند العرب: الملائكة. - وفي الإسلام: الله. ولعل ما لاحظه الشهرستاني: كان موضع تقدير لدى الذين حاولوا توحيد الأديان، وذلك على أساس أن الشعوب المختلفة إنما تعبد في الحقيقة الإله نفسه تحت أسماء مختلفة، وأنه يمكن بناء على ذلك توحيد الأسماء والنحل، وهذا الاعتقاد هو ما جعل أنطيوخوس الرابع يعتقد أنه لن تكون هناك صعوبة شديدة تستعصي على إدخال عبادة "زيوس" حتى في بلاد اليهودية نفسها.

_ 1 مروج الذهب ص173.

المجوسية أقدم من زرادشت: وكلمة مجوس من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة "مغوس" الفارسية، التي تعني "عابد النار"، وهي من الألفاظ التي دخلت إلى اليونانية كذلك حيث وردت لفظة "Magus". وقد دخلت إلى لغة بنى إرم أيضًا، ولا ندري اليوم على وجه صحيح من أي طريق دخلت لفظة مجوس إلى العربية؛ عند الفرس أنفسهم، أو عن اليونانية، أو عن طريق لغة بني إرم. ترتد الديانة المجوسية من حيث تشابه عناصرها إلى التراث الهندي وتناقضها مع ديانة جيرانهم الساميين وفي ذلك يقول دي بورج:

في أزمان ما قبل التاريخ ترك فرع من الأسرة الهندية -الأوربية موطنهم الأصلي في أراضي السهوب شمالي قزوين، وهاجر في اتجاه جنوبي شرقي، ولقد سار بعضه عبر ممر خيبر إلى البنجاب، بينما استقر البعض الآخر في شرق الهضبة الإيرانية العظيمة، وفي بواكير السنوات الألف الثانية، يممت هذه القبائل الإيرانية -سمت نفسها آرية ومن هذه التسمية اشتق الاسمان المحليان آريا وإيران- صوب الغرب إلى المرتفعات التى تحف سهول ما بين النهرين وكلديا، وبعد ذلك بألف سنة نجد الميديين في الجنوب من بحر قزوين، والبرتيين في خراسان، والبكتريين في منحدرات الهندوكوش الشمالية، والفرس في الجبال التي تشرف على الخليج الفارسي إلى الشمال الشرقي، وكانت سلاسل جبال الهندوكوش وسليمان تقوم حاجزا من جهة الهند.. ولقد أحضر هؤلاء الآريون معهم الحصان وهو من نتاج سهول السهوب، ولم يكن للبابليين أيام حمورابي عهد به ولكن استخدمه الأشوريون كعدة حرب1. ولقد حملوا معهم كذلك دينًا متميزًا يتناقض تناقضًا يسترعي البال مع دين جيرانهم الساميين المستوطنين السهل، وكان يختلف أيضا -على الرغم من أساس مشترك دأب على المحافظة على نفسه بين الفرس إلى يومنا- عن دين الآريين ذوي قرابتهم في الهند2، وبينما أخضعت العقيدة الهندية كل الآلهة الأخرى إلى إله أعظم أوحد وجدنا الدين الإيراني له مظاهر ثنائية3، وكان مجمع آلهتهم يأتلف حول قوتين لهما السيادة الواحدة قوة الخير وهي إيجابية ومصدر النور والحياة، والأخرى قوة الشر وهى الظلمة والموت، وهي سالبة، وكانت القوتان تسميان على الولاء، أهورا مزدا" أورمزد" وأهريمن. والصراع خارق العادة، بين هاتين القوتين الإلهيتين غدا ينعكس في مجرى تاريخ البشر. وبين الاثنين، ويقف الإنسان وقد وهب الحرية الخلقية التي

_ 1 كما يدل على هذا الاسم البابلي للحصان "جحش الشرق". 2 بين العناصر المشتركة عبادة ميترا وهو إله الشمس وذابح المارد "أندرا الهندي" وعبادة النار والاعتقاد بشرعة قدر يتوفق على الآلهة والإنسان. انظر ف. كيموم "F. Cumont" ص 1-2 "Les mysteres de" وكان وارونا أعظم إله خلقى في مجمع الآلهة الفيدية تطورا موازيا لأهور مزدا ومن أصل آري مشترك. 3 ولكن براهما الأعلى في دين التوحيد الهندي كان لا سبيل للوصول إليه وكان الناس مشتاقين إلى استرضاء إلهين أقل شأنا هما سيوا ووشنو.

يتوقف على استخدامها مصيره في العالم الذي يقع فيما يلي اللحد.. وكان الدين الإيراني ينزع إلى آداب السلوك ولم تكن آلهيته كآلهة الآريين الهنود. معاني مجردة تصورية ولكنهم كانوا شخوصًا خلقيين، ولم يكن هدف الجهد الإنساني الاندماج التألهي في مطلق وحدة الوجود ولكن سعادة أبدية في السماء حيث يحكم أهورا مزدا، وما كانت الحياة الإنسانية وما يلازمها من فروض اجتماعية وأفراح وأحزان بخدعة، ولكنها المجال للعمل في همة والقيام بالواجب الخلقى، وفي اعترافه بقيمة الثقافة الدنيوية واتجاهه إلى غاية يكون فيها الخلاص الفردي، وليس الخلاص القومي، نجد دين إيران يختلف عن دين العبريين وإن تشابه معه في تعليمه الخلقى الرفيع. وكان الفرس يتسامحون مع الديانات المحلية عندما لا تناصب دينها العداء، ومع هذا فإن عقيدتهم انتشرت صوب الغرب بتوسع إمبراطوريتهم، وفي نقاوته كما نهض به النبي زرداشت، كان دون ريب عقيدة القلة أكثر من أن يكون عقيدة الكثرة، وكان من شأنه بين أيدي المجوس، "وهم طبقة من الكهنة" أن يتدهور إلى فرائض رسمية، بينما أصبحت الجماهير تفسر تعاليمه في صيغ ديانة ما قبل زرداشت القديمة1، وكان مرجع قوته الحقيقية إلى إصراره على المسئولية الخلفية.

_ 1 عاش زرادشت على الراجح حوالي عام 650 ق. م. وتحتوي الأسفار الفارسية المقدسة التي يطلق على مجموعها لفظ أوبتا، وهي ترانيم ربما كتبها النبى نفسه، ويقرب المذهب الزرداشتي من أن يكون توحيدا، وكانت عبادة النار لها شأن عظيم؛ إذ كانت النار أنقي مظهر لأهورا مزدا، ويظهر أن المجوس الأوائل كانوا معادين لمذهب زرداشت ولم يحفل.

المجوسية أقدم من زرادشت

المجوسية أقدم من زرادشت ... يتوقف على استخدامها مصيره في العالم الذي يقع فيما يلي اللحد.. وكان الدين الإيراني ينزع إلى آداب السلوك ولم تكن آلهيته كآلهة الآريين الهنود. معاني مجردة تصورية ولكنهم كانوا شخوصًا خلقيين، ولم يكن هدف الجهد الإنساني الاندماج التألهي في مطلق وحدة الوجود ولكن سعادة أبدية في السماء حيث يحكم أهورا مزدا، وما كانت الحياة الإنسانية وما يلازمها من فروض اجتماعية وأفراح وأحزان بخدعة، ولكنها المجال للعمل في همة والقيام بالواجب الخلقى، وفي اعترافه بقيمة الثقافة الدنيوية واتجاهه إلى غاية يكون فيها الخلاص الفردي، وليس الخلاص القومي، نجد دين إيران يختلف عن دين العبريين وإن تشابه معه في تعليمه الخلقى الرفيع. وكان الفرس يتسامحون مع الديانات المحلية عندما لا تناصب دينها العداء، ومع هذا فإن عقيدتهم انتشرت صوب الغرب بتوسع إمبراطوريتهم، وفي نقاوته كما نهض به النبي زرداشت، كان دون ريب عقيدة القلة أكثر من أن يكون عقيدة الكثرة، وكان من شأنه بين أيدي المجوس، "وهم طبقة من الكهنة" أن يتدهور إلى فرائض رسمية، بينما أصبحت الجماهير تفسر تعاليمه في صيغ ديانة ما قبل زرداشت القديمة1، وكان مرجع قوته الحقيقية إلى إصراره على المسئولية الخلفية.

_ 1 عاش زرادشت على الراجح حوالي عام 650 ق. م. وتحتوي الأسفار الفارسية المقدسة التي يطلق على مجموعها لفظ أوبتا، وهي ترانيم ربما كتبها النبى نفسه، ويقرب المذهب الزرداشتي من أن يكون توحيدا، وكانت عبادة النار لها شأن عظيم؛ إذ كانت النار أنقي مظهر لأهورا مزدا، ويظهر أن المجوس الأوائل كانوا معادين لمذهب زرداشت ولم يحفل.

زرادشت

زرادشت مدخل ... زرادشت: يقول البيروني: وقد كانت خراسان، وفارس، والعراق، والموصل إلى حدود الشام في القديم على دين "الشمنية" -نحلة هندية- إلى أن نجم "زرداشت" في أذربيجان، ودعا ببلخ إلى المجوسية، وراجت دعوته عند "كشتاسب"، وقام بنشرها ابنه "إسفنديار" في بلاد المشرق والمغرب قهرا وصلحا، ونصب بيوت النيران من الصين إلى الروم، ثم استصفى الملوك بعده فارس والعراق لملتهم فانجلت "الشمنية" عنها إلى مشارق بلخ، وبقي المجوس إلى الآن -زمن البيروني 440- بأرض الهند ويسمون بها "مسك".

وهناك مدرسة واحدة من المدارس الفكرية تنادي بأنه لم يكن له وجود على الإطلاق، وأقدم تاريخ ذكر هو سنة 6000 ق. م. وقد تمسك "بيروسبوس" المؤرخ البابلي الذي عاش في القرن الرابع ق. م. بالرأي القائل بأن: زرادشت: قد ولد حوالي سنة 2000ق. م. ويميل العلماء اليوم إلى الاعتقاد بأن زرادشت لم يولد قبل 660 ق. م. واسم زرادشت Zaradstrs هو: الترجمة الإغريقية لـ "زرداثوسترا" الذي ضمنه "نيشته" في مسرحيته الشعرية المشهورة، كذلك قال: زرادثو سترا، وقد ولد زرادشت في بلاد فارس. "أفيستا" أقدم نص ديني فارسي، من هنا كان من الصعب بالطبع الجزم بالموقع المضبوط -موطن "زرادشت" وتعاليمه، هل هو "باكتريا" أم "مرغيانا"، يرى العالم السوفيتي "مستروفه": بأن مرغيانا "مرو" والبلاد المتاخمة لها هي الاحتمال الأقوى. ويرى دليله على فرضه هو: أن "أفيستا" يذكر بلدًا هو: "مرو" أي مرغوش بالفارسية، وميرغيانا باليونانية بوصفه البلد الوحيد الذي يتبع أهله قواعد قانونية "آشا" أي أساس الأسس في تعاليم "زرادشت"؛ وهذا القانون تشخيص للنظام الحقوقي الثابت، والذي ترتكز عليه كل الفضائل.. وهذا القول: لا ينسبه كتاب "أفيستا" إلى أي من البلدان التي يتطرق إليها ما عدا "مرو". وعلى أساس هذه المعطيات وغيرها يؤكد الأكاديمي "مستروفه" قائلا: لذا أرى في هذه الإشارة دليلا يعزز افتراض بأن "مرغيانا" هي أول منطقة تنبت الجماهير الشعبية فيها تعاليم "زرداشت". وفي ختام بحثه يقول: وحاولت أن أثبت بأن مرغيانا والمناطق المتاخمة لها في آسيا الوسطى كانت موطنا للزرادشتية"، وهناك أقوال أخرى لا تزال تفترض فرضيات معاكسة تقول: إن وطن زرادشت هو: بلاد "الميلابين" غربي إيران، حتى أقصى جنوب غربي أفغانستان. يذهب بعض علماء الآثار إلى افتراض أصل مشترك بين قبائل هضبة إيران الشرقية "تل تيه وبازتيه" وشبه القارة الهندية؛ وذلك أن المكتشفات الأثرية تشير إلى الثنائية الواضحة في المعتقدات المحلية، وتلك نظرية فلسفية أخلاقية تكاد تكون مطابقة لجوهرة تعاليم "زرادشت" ومن معطيات الدراسة لتلك الدراسة استنتج الباحثون الأثريون أن "زرادشت" عاش وأسس تعاليمه في فترة لا تتجاوز القرن السابع ق. م. ففي هذه

الفترة التاريخية عاش "زرادشت" وعن طريق تعاليمه نشأت الزرداشية كمذهب فلسفي وأخلاقي وديني. ويرى علماء الآثار أن مضمونها يجسد تصورات متطورة جدا للفلسفة الطبيعية، وذلك يقوي افتراضهم أنها لم تنشأ من فراغ، وأن المجتمع الذي نشأت فيه قد قطع شوطا بعيدا في تطوره الذهني فقد كان ثمة أفكار تسبق تطابق ما عليه. من هنا يرى علماء الآثار أن المبادئ الأساسية للديانة "الزرادشتية" غرفت من مناهل النظرات الفلسفية والأخلاقية المنتشرة قبلها على نطاق واسع في: "باكتريا ومرغيانا". ولما سمح له في الوقت المناسب بمصاحبة الأرواح كان في استطاعة زرادشت أن يوجه أسئلة إلى "أهورا مازاد" نفسه، فلقد تساءل: "في علم التجسيد، ما هو الشيء الأول في الكمال؟ وأيها الثاني؟ وأيها الثالث؟ " فرد عليه "أهورا مازاد" قائلا: "إن أول كمال هو: الأفكار السديدة، وثانيها: الكلمات الطيبة، وثالثها: الأعمال الصالحة"1 في بدء رسالته، يبدو أن "زرادشت" قد عاش حياة الناسك. وعلى شاكلة "يوحنا المعمداني" نزح إلى البرية، وعاش على لا شيء اللهم إلا على الجبن والجذور، ثم جاء الإغراء. قامت الشيطانة "سيندارماد" بالتغرير بـ زرادشت، ولم يتم اللقاء في البرية بل بين أشخاص عاديين قرر زرادشت أن يدرس عاداتهم: "لقد اتجه زرادثو سترا إلى العالم الذي يعيش فيه، عالم الصداقة، مستهدفا أن يراقب تماما ذلك الطريق المعبد للوجود التجسيدي. ثم تقدمت الشيطانة امرأة ذات جسد ذهبي، ناهدة الصدر. لقد طلبت صحبته كما طلبت أن يخاطبها وأن يعاونها". ولما كان على علم بأن مفاتنها خداعة تماما، طالبها بأن تدير ظهرها ولكنها ردت عليه قائلة: يا زاراثوسترا الأستبماسى، حينما نكن، تكن النساء منا جميلات من الأمام، قبيحات بصورة مخيفة من الخلف، فلا تطالبنى بأن أدير ظهرى" ولكنه

_ 1 المرجع السابق ص 148 تأليف أ. و. ف توملين ترجمة عبد الحميد سليم.

أصر، وبعد أن عارضت للمرة الثالثة، وافقت على أن تدير ظهرها، عندئذ خرجت منها سلالة كريهة من الثعابين والضفادع البرية والسحالي وأم الأربع والأربعين، والضفادع البحرية، على أن المحنة الحقيقية جاءت فيما بعد في صورة هجمات شيطانية عليه، من بينها كان إيلاج رصاص مصهور في معدته، ولكن لم يفلح شيء في زعزعة إيمانه في عدالة الإله الذى تمتع بصحبته أعني "أهورامازدا"، وأخيرا كمكافأة له على تعبده الرواقى أهداه "أهورا مازدا" شخصيا بكتاب الحكمة السماوية الذي سمي فيما بعد باسم "أفيستا Avesta" وكان هذا هو الإنجيل الذي كان يحلم به وهو صبي، وبذا صار للمبعوث الآن إنجيله، وبرغم أن تبشيره قد لقي في بادئ الأمر أذنا صماء؛ لأن الفرس كان لديهم بالفعل آلهتهم وطقوسهم الطبيعية -إلا أن "زرادشت" قد بدأ بالتدريج في اجتذاب مهتدين، وعندما قرر في النهاية أمير فارسى يدعى "فيشتاسبا Vishastspa"، أو هيستاسبس Hystspes أن يعتنق العقيدة الجديدة بدأت حركة تحول دينية قوية؛ لأن هذا الأمير أعلن على الفور عن نيته في نشر العقيدة الزارادشتية في أرجاء مملكته، ولكن خليفة "قمبيز" وكان يعتقد في آلهة الماجيين القدامى Old Magingods سعى لاستئصال شأفة الديانة الزرادشتية، ولكن باعتلاء "داريوس الأول" العرش في سنة 521 ق. م. أعلنت العقيدة الزرادشية ديانة رسمية للفرس، ويعتقد بعض المؤرخين أن الأمير "هيستاسبس" الذي كان أول من صادق زرادشت لم يكن إلا ولد "داريوس" وإذا صح هذا القول فإن هذا ينهض دليلا على أن زارادشت قد ولد في أقدم تاريخ عزي إليه1. - كانت آلهة الفرس السابقة لعصر "زرادشت" تحمل شبهًا كبيرًا لتلك الآلهة الواردة بالكتب المقدسة الهندية Vedas، وفي الواقع لقد كان كثيرا ما ينادي العلماء الهنود بأن الأفستا Avesta- تكاد تدين بكل تعاليمها الأساسية للفيداس بما في ذلك اسمها، لقد كان "البانثيون Pantheon أو مدفن عظماء الآلهة يضم إلهين عظيمين: ميثرى Mithre إله الشمس، وأنيتا Anaita إله الأرض والخصوبة، وقد تأكدت أهمية عبادة الخصوبة أكثر من ذلك بعبادة هاووما Hama الإله الثور، الذي

_ 1 المرجع السابق ص 149ص 150 تأليف أ. و. ف توملين.

كان من المفروض أن دمه يهب الخلود لمن شربه، لقد كان عشب "هاووما" أول ما حلت به روح زرادشت في رحلتها البعيدة نحو مولده. ولما كانت الهاووما موجودة بصورة خاصة في الجبال لذا كانت لها خصائص مخدرة، وكانت عبادة الإله الثور تتمثل في شرب عصير النبات باعتباره مماثلا للدم الذي يهب الحياة. ومن المحتمل أن يكون إله الهند "سوما Soma" مثل الهاووما، ونجد أيضا بين هؤلاء الناس القدامى آثارا واضحة لعبادة السلف: ديانة ترك احتفاؤها في الأزمنة المتحضرة فراغًا يملؤه مثل تلك الأمور البديلة المجردة مثل القومية، العقيدة الوحيدة التي قدمها الغرب للشرق. لقد ذكرنا أن الكتب الزرادشتية المقدسة التي بقيت أعني الأفستا والنصوص البهلوية تصعب قراءتها على الدارس الغربي، ولا شك أن السبب في هذا هو أنه لا يكاد هناك شيء في الأدب الغربي يمكن مقارنته بها. والواقع هو أن النصوص التي بقيت لا تعدو أن تكون أجزاء من مجموعة كبيرة جدا من الكتب المقدسة1.

_ 1 أ. و. ف توملين فلاسفة الشرق ص 150، ص 151.

مضمون العقيدة

مضمون العقيدة: إن ما يبدو أن "زرادشت" قد فعله هو: تنقية عبادة الخصوبة من مظاهرها الخشنة. ولا شك أن زرادشت حاول أن يمنع أبناء وطنه من عبادة "الهاووما"1. فهنا نجد أن قد ورد بوضوح ذكر جوهر علم اللاهوت الزرادشتي الذي هو صراع على مستوى العالم بين قوى الخير والشر، النور والظلمة "أهورا مازدا" وأهريمان Ahriman الشيطان الوحيد. وبدلا من كونه الطوفان قد بعث به الله كجزاء وعقاب كما جاء في سفر التكوين نجد أن الكارثة الزرادشتية قد خططتها بدقة قوى الظلمة للإطاحة بـ "أهورامازدا". ويشكل صراع الريح والماء فحسب خلفية لصراع ثنائي هائل بين أهورامازدا، وخلفائه من ناحية "وأهزيمان" من ناحية أخرى. ولم يكن إلا عن طريق ما وهب به تيستار Tistar إله النجوم من "قوة عشرة جياد قوية وعشرة جمال قوية،

_ 1 المرجع السابق ص 152، ص 154، ص 155 بتصرف.

وعشرة ثيران قوية، وعشرة جبال وعشرة أنهر" إلى أن دبرت قوى الخير أن تكون لها السيادة بالفعل1.

_ 1 المرجع السابق ص 152، ص 154، ص155 بتصرف.

الخير والشر

الخير والشر: ونجد في "زاد سبارام" رواية رمزية غامضة عن الخلاف المتأصل بين: "أهورامازدا" و"أهزيمان" ونحاط علما في كلمات تذكرنا بسفر التكوين القديم أنه في بداية الزمن "كان النور فوق والظلمة تحت، وبين هذين الاثنين فراغ مكشوف" وقد سكن "أهورامازدا" مملكة النور كما سكن "أهريمان" مملكة الظلام، وفي الوقت الذي كان فيه "أهورامازدا" على علم بوجود "أهريمان" وقدومه للصراع لم يكن "أهريمان" مع ذلك على علم بمملكة النور التى فوق رأسه، وذات يوم في أثناء تسكعه في الظلام، خرج "أهريمان" مصادفة من المناطق السفلية وإذا به يرى شعاعا من النور؛ ونظرا لاختلاف طبيعة ذلك الشعاع في اعتقاده "جاهد أهريمان للوصول إليه" حتى يمكن أيضا أن يدخل في نطاق نفوذه المطلق: عند ذلك اقترب "أهورامازدا" من الحدود1. ولو رجعنا إلى الوصايا العشر العبرية لوجدنا أن ثمانية من بنودها من النواهي والتعاليم الزرادشتية برغم ما تضمنته من النواهي والمتناقضات في لاهوتيتها، إلا أنها في مجموعها إيجابية في وصاياها2. أما عن أن هدف زرادشت الرئيسي فكان بالأحرى تنقية العقيدة التقليدية لأبناء وطنه لا الإطاحة بها، فتشير إليه عدة أصول، فقد كان "مثرى" إله الشمس، وهو أبعد من أن يطرد، يعبد على أنه نار سماوية، كما كان يمتدح في معظم الأناشيد الزرادشتية و"هاووما" الثور، وتماما مثلما لم يكن مسموحا لأتباع زرادشت بأن تكون لهم معابد، فكذلك كان محظورا عليهم أن تكون لهم أصنام3. وهنا نجد عبارة طويلة عن الإقلاع عن شيء واتجاها بصورة خاصة إلى التخلص من نفوذ الشياطين: "من بعيد أنا أنكر الشياطين وكل من تتملكهم: العرافين، وكل

_ 1 المرجع السابق ص157، ص158. 2 السابق ص159. 3 المرجع السابق ص161.

من يصدقون أساليبهم، وكل كائن حي موجود ينهج نهجهم، إننى أنكر أساليبهم، كما أنكر كلماتهم وأفعالهم، وذريتهم التي تفشي خطيئتهم، إنني أنكر رعايتهم كما أنكر رئاستهم. ويقال أحيانا بأن زرادشت في توكيد سمو أهورامازدا كان يقصد إنكار حقيقة الشياطين1.

_ 1 المرجع السابق ص 161، ص162.

زرادشت وكتاب الأفستا

زرادشت وكتاب الأفستا: إن الديانة الفارسية من حيث لاهوتها، ومن حيث المستوى الخلقي الأدبي لا تضاهيها ديانة أخرى من ديانات العالم القديم باستثناء الديانتين اليهودية والمسيحية. وهي ديانة تفضل الديانات التي كانت تدين بها بلاد ما بين النهرين ومصر واليونان، ومؤسس الديانة الإيرانية الوطنية التي كانت تدين بها السلالة الأخمينية إلى الدولة الساسانية، كان زرادشت وهو مصلح ديني من ميديا توفى حوالى600 ق. م. وقد اكتنفت حياته هالة من الأسرار والأساطير. وكان الدين الجديد الذي بشر به عميق الجذور في المعتقدات الشعبية الإيرانية التي لم تكن تختلف عن المعتقدات الشعبية عند قدامى الهنود. وكتاب الزرادشتية المقدس ويعرف بكتاب الأفستا، من أقدم الكتب الأدبية في بلاد فارس، وهو مجموعة أقوال قديمة تعزى إلى النبي زرادشت، وتراتيل دينية ترتل عند تقديم الذبائح وصلوات وشرائع كهنوتية وطقوس عبادة جوهر الديانة الزرادشتية تقوم على ثنائية تجسد المبدأين المتضادين مبدأ الخير ومبدأ الشر، أو مبدأي النور والظلام، ويمثل هذين المبدأين إلهان كبيران -أهورا مازدا "أو رمازد" وضده أهريمان؛ والمبدآن الخير والشر مبدآن يتصفان بقوى مبدعة خالقة، ويذكرنا الإله أهورامازدا بالإله العبري يهوه بوصفه إلها كلي المعرفة، كلي الوجود، غير مخلوق، مبدعا لكل ما هو نقي وحي، وأما ضد أهريمان فيذكرنا بالشيطان على ما نعرفه في العصور التالية. والزرادشتية تتصور الحياة أنها صراع دائم بين هاتين القوتين، قوة الخير وقوة الشر1.

_ 1 خمسة آلاف سنة جـ1 ص94.

وأما النصر النهائي فلمبدأ الخير، وواجب المؤمن الديني والخلقي أن يقوم بكل عمل من شأنه مساعدة قوة الخير؛ لكي تنتصر على قوة الشر، وجميع أفكار الإنسان وأعماله وأقواله مكتوبة في سجل الحياة؛ لتقابل يومًا بأعماله الشريرة وبخطاياه التي لا يمكن الإغضاء عنها أو منحه المغفرة عن واحدة منها، وعندما تفارق الروح الجسد تقاد إلى ما يسمونه -جسر الحساب- الذي يتحتم على نفس المرء أن تعبره؛ لتدخل ملكوت السماء، وإذا رجحت كفة ميزان الأعمال الصالحة التي علمها الإنسان في حياته سمح له أن يعبر الجسر، وإلا فإنه يهوي من على الجسر إلى جهنم. وفكرة الجسر تشبه الميزان عند المصريين القدماء ومن بعدهم الصراط عند المسلمين؛ لأن فكرة الحياة الثانية بعد الموت كما هي في القرآن الكريم، وكما هي في العهد الجديد والتى تتوقف على الأعمال الصالحة التى يقوم بها المرء في الحياة الدنيا أقرب إلى أن تكون فكرة وثيقة الصلة بكتاب الأفستا عند الفرس وكتاب الموتى عند المصريين، منها أن تكون فكرة مستمدة من العهد القديم؛ أما تحريم حرق الجثة أو دفنها، وتركيز العبادة حول النار المقدسة على المذابح تلك التي أصبحت فيما بعد هياكل للنار المقدسة فهي أمور دخلت الزرادشتية وتطورت في عصور تالية. أما الشهادة التي يطلب إلى معتنق الديانة أن يؤديها، فتشهد على مبلغ سمو مستوى الشريعة الخلقية في ديانة زرادشت، يقول الداخل في الدين "أقسم أني منذ اليوم أمتنع عن اللصوصية، وسرقة الماشية، والنهب وتدمير القرى التي تخص المؤمنين من عباد مزدا وأعد أرباب البيوت المقيمين مع ماشيتهم في أية بقعة من بقاع الأرض أن لا أتعرض لهم بسوء، وأن يتجولوا أنى يشاؤون ويقيموا أنى يشاؤون دون أن يزعجهم أحد، وبكل خشوع رافعا يدي إلى السماء إلى آشا -أقسم على هذا، ومنذ الآن أعد بأن لا أجلب الخراب والدمار على القرى المزدية حتى إن كان ذلك للأخذ بثأر قتيل. وأعترف أني من عباد مزدا وتابع من أتباع زرادشت ومن المؤمنين بهما، كما أومن بالأفكار النافعة والأقوال الحكيمة والأعمال الصالحة"، وآخر عبارة في هذا القسم هي شعار الديانة الزرادشتية1.

_ 1 Zenaide A.R. agazin, Medaia, Balybon and Persia, p. 111 وأيضا خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدني جـ1 ص 96.

بعد دخول الإسلام بلاد فارس في العقد الثالث من القرن السابع للميلاد، ولم يبقَ من أتباع زرادشت سوى عدد قليل جدًّا، وقد بقيت من أولئك القلائل الذين لجأوا إلى مدينة بومباي أو إلى ضواحيها جالية إلى يومنا هذا تعرف بجماعة البارسي -أي الفرس- تخلت عن كثير من المعتقدات الدينية القديمة التى تدور حول أهريمان، وبذلك أصبحوا من أصحاب التوحيد1. وهذه الديانة لا تجيز عبادة الأصنام أو احترام الأوثان مطلقا، ولا تقر إلا بإله واحد أزلي سرمدي أبدي ليس له شريك في الملك ومنه الأمر وإليه يرجع، ويسمون "الله": "أورمزيد. أو -هرمز أو هرمس" والإله "إيزد"، ويعتقدون بخلود النفس وبعالم آخر بعد الموت يكون فيه العقاب والثواب، ولكن يعتقدون بأن الله خلق مع الخلق قوتين عظيمتين: اسم أولاهما: يزدان مصدر الخير. واسم الثانية: أهرمن مصدر الشر. فجميع الخيرات والشرور في هذه الدنيا ينسب إلى هاتين القوتين ويفسرهما حكماؤهم بالعقل والنفس. وهم يبجلون ويعظمون كل الأقمار والكواكب والنجوم وجميع النيرات المضيئات بقولهم: إنها مظاهر الأنوار الأبدية ولا سيما الشمس فإنهم يتعاونون في تعظيمها؛ لاعتقادهم فيها أنها مصدر النور والحرارة، وهما أصل مادة الحياة وأعظم وساطة عند الله تعالى، وأكبر مظهر من مظاهر الله، ولولاها لما وجد كائن حي في العوالم التى تحت نظامها. ويوجد في كتبهم أخبار متعددة عن ظهور مجدد ومصلح جديد، ويوجد لهذا المصلح علامات في تلك الكتب ينطبق البعض فيها صراحة على أحوال حضرة صاحب الرسالة "الرسول"، والبعض جاء تلميحًا وتأويلًا2.

_ 1 نفس المرجع السابق جزءًا وصفحة. 2 يراجع: مفتاح باب الأبواب زعيم الدولة الدكتور ميرزا محمد مهدى خان رئيس الحكماء الإيرانى والأذربيجاني التبريزي نزيل مصر ط1 مطبعة مجلة المنار سنة 1321.

والمجوس إنما يعظمون النار لمعانٍ فيها منها: أنها جوهر شريف علوي، ومنها: أنها ما أحرقت إبراهيم، ومنها: ظنهم أن التعظيم لها ينجيهم في "المعاد" من عذاب النار. وبالجملة: هى قبلة لهم، ووسيلة وإنارة. ومن عجيب الأمر أن فارس المقدسة لو كانت في عصرنا لدلت العلماء على آبار البترول التي تغذيها، فالنار كان وراءها سر عجيب وهو البترول كم أفنت تلك النار آبارا. يقول الشهرستاني: ولقد كان في كل أمة من الأمم قوم مثل الإباحية والمزدكية والزنادقة والقرامطة وكان تشويش ذلك الدين منهم وفتنة الناس مقصورة عليهم1. ويقول فيليب حتى: عبدة النار "المجوس" من أتباع زرادشت2 هي أصفى وأطهر العناصر المخلوقة لا على أنها هي الخلاق المعبود، وقال مشيرًا إلى أن المجوسية سابقة على كون زرادشت قد استخلص من أخلاط المجوسية وسطا بين العقيدة الوثنية الأولى والعقيدة الإلهية الحديثة3. ويقول الشهرستاني فارقا بين المجوسية والحنفية: إن الحنفية هى الملة الكبرى والشريعة العظمى وذلك هو الدين القيم. والتوحيد من أخص أركان الحنفية، ولهذا يقترن نفي الشرك بكل موضع ذكر فيه الحنيفية "حنيفا" وما كان من المشركين. ويقول: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} 4.

_ 1 راجع الملل والنحل "19: 216" كذلك يراجع المسعودى مروج الذهب "1: 172". 2 تاريخ سورية "2: 99". 3 الله -للعقاد "ص 109: 110". 4 الآية 31 من سورة الحج.

ثم إن الثانوية اختصت بالمجوس الذين أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين. يقتسمان الخير والشر والنفع والضر والصلاح والفساد. يسمون أحدهما: النور والآخر الظلمة، وبالفارسية: يزدان وأترامان. ومسائل المجوسية كلها تدور على قاعدتين اثنتين: إحداهما: بيان سبب امتزاج النور والظلمة. والثانية: بيان سبب خلاص النور من الظلمة. وجعلوا الامتزاج مبدأ والخلاص معادا1. وقد أصاب الشهرستاني حين قال: إن هذه الثنوية هي ألزم سمات المذاهب المجوسية؛ لأنها تتراءى في كل مذهب منها بلا استثناء، وهي كذلك أبقى منها في مجال التفكير ومجال الاعتقاد على السواء؛ لأننا نرى منها ملامح اليونان2.

_ 1 الشهرستاني -الملل والنحل "1: 212". 2 الله: للعقاد ص119.

المجوسية والعرب

المجوسية والعرب مدخل ... المجوسية والعرب: وقد عرف علماء اللغة بأن لفظة "مجوس" من الألفاظ المعربة، وقد ذهبوا إلى أنها معربة عن الفارسية القديمة، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أصل اللفظة وفي بيان معناها؛ وذهبوا في ذلك مذاهب. وإذا صحَّ ما ورد في شطر بيت منسوب إلى الشاعر الجاهلي: التوأم اليشكري المعاصر لامرئ القيس، هو: كنارِ مجوسَ تستعرُ استعارَا فإن فيه دلالة على أن هذا الشاعر هو وامرؤ القيس كانا على علم بنار المجوس، وكان مجوس اليمن من الفرس الذين أرسلهم كسرى؛ لطرد الحبش من اليمن فهم وأبناؤهم كانوا على هذا الدين. دين الإمبراطورية الفارسية، ولما ظهر الإسلام نبذ هؤلاء المجوسية، واعتنقوا الإسلام. وأما مجوس عمان، وبقية أنحاء العربية الجنوبية فقد كانوا من الفرس كذلك، وأما مجوس البحرين فقد كانوا أكثر عددًا، وأكبر نفوذًا من إخوانهم في عمان؛ لقرب

هذه الأرضين من إمبراطورية الساسانيين، ولهجة الفرس من السواحل المقابلة، ومن طريق الأبلة الساحلي1. وقد عرف عالم المجوس ورئيسهم الروحي عند العرب بـ "الموبذان" وعرف كبيرهم بـ "موبذان موبذ"؛ وجعل بعض العلماء "الموبذان" بمنزلة قاضي القضاة للمسلمين؛ والموبذ بمنزلة القاضي. وقد فسر المسعودي لفظة "الموبذ" بمعنى حافظ الدين، ورجع أصلها إلى "مو" بمعنى دين في رأيه؛ و"بذ" بمعنى حافظ. ورأى اليعقوبي: أن "الموبذان" بمعنى عالم العلماء، وقد ذكر الألوسي أن صنفًا من العرب عبد النار، وقال عنهم: وهم أشتات من العرب، وكأن ذلك سري إليهم من الفرس والمجوس2. وإلى النعمان تشير الروايات متحدثة عن قصة تلقبه بالسائح، فتذكر أنه جلس يومًا في مجلسه من الخورنق، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان مما يلى المغرب، وعلى الفرات مما يلي الشرق وهو على متن النجف في يوم من أيام الربيع، فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط؟ فقال: لا، لو كان يدوم. قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فبم ينال ذاك؟ قال: بتركك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده، فترك ملكه من ليلته ولبس المسوح، وخرج مستخفيا هاربا لا يعلم به. وقد يكون في هذه القصة تفسير؛ لاعتناقه النصرانية وتفكره بخلق الله وعزوفه عن العبادة الوثنية. وهناك روايات تنسب تنصره إلى غير هذه القصة، فتقول: إنه تنصر بتأثير القديس سمعان العموري الذي يقوم بالتبشير للمسيحية بين أهل الحيرة، وإن سمعان هذا شفاه ببركته من مرض كان به فتنصر3.

_ 1 المفصل جـ6 ص693، غرائب اللغة ص269. 2 السابق ص695، واللسان 3/ 513. 3 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص182، ص183، الطبرى الجزء الثاني ص67، جواد على الجزء الرابع ص41.

وقد خلف المنذر الأول "418-462" أباه النعمان على العرش وكانت له متزلة رفيعة عند كسرى الفارسي يزدجرد حتى إنه على ما يذكر الطبري شرفه وأكرمه وملكه على العرب وحباه بمرتبتين سنيتين تدعي أحداهما رام أبزووذ يزدجرد وتأويلها "زادسرور يزدجرد" والأخرى تدعى بمهشت وتأويلها "أعظم الخول" وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلة. وقد فوض يزدجرد المنذر بحكم جميع الأرض -أرض العرب1. والمنذر بن امرئ القيس المعروف بابن ماء السماء "512-554" هو أول المشهورين من ملوك الحيرة المناذرة اللخميين، وماء السماء هو لقب أُمِّهِ مارية بنت عوف بن جشم ينتهى نسبه إلى النمر بن قاسط، وقد لعب المنذر هذا دورا بارزا في الحروب التى قامت بين فارس وبيزنطة في عصره؛ ففي سنة 518 قام كسرى الفارسي قباذ يطالب الإمبراطور البيزنطة جوستين الأول بدفع الأتاوة التي قبلت بيزنطة بدفعها لفارس في الصلح الذي عقد بينهما عام 506، ولما تباطأ جوستين بدفع الاتاوة قام المنذر بتحريض من قباذ بالهجوم على الممتلكات البيزنطية في سورية سنة2 519. وفي أيام المنذر وقع الاحتلال الحبشي لليمن، فاتسع بذلك نفوذ الروم في بلاد العرب، وذلك لما يربط الأحباش بالبيزنطيين من روابط ودٍّ أساسها تدينهما بدين واحد، وفي سنة 545 وقَّعت فارس وبيزنطة هدنة جديدة مدتها خمس سنوات. ولكن هذه الهدنة لم تؤد إلى توقف المناوشات بين الحارث بن جبلة -الذى كان قد عين ملكا على عرب الشام- والمنذر بن ماء السماء3، وتمكن المنذر في إحدى المرات من أسر ابن الحارث فقدمه للإله العزى. ولعل من المهم قبل أن نختم هذه الصفحة المشرقة من تاريخ دولة المناذرة التى خطها المنذر بن ماء السماء بدمه وعصبه أن نشير إلى النزاع الذي قام بينه وبين الكسرى الفارسي قباذ من أجل الذهب المزدكي.

_ 1 المرجع السابق ص183، ص184، الطبرى جـ2 ص69، جواد على جـ4 ص44. 2 نفس المرجع ص186. 3 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص187 بتصرف.

وتفصيل الأمر أن قباذ "488-531" كان يحكم في فترة اضطربت فيها الأحوال في فارس وزاد تسلط كبار المُلَّاك ورجال الإقطاع، ففكر في طريقة يضع فيها حدًّا لتسلطهم وما يمثلونه من خطر حتى على ملكه بالذات فوجد أن خير ما يفعل هو نشر تعاليم مزدك بين أتباعه وأهل مملكته فإذا انتشرت هذه المبادئ كانت كفيلة بالقضاء على الأغنياء ورجال الدين المتنفعين. وكان مزدك وأصحابه يقولون: "إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض؛ ليقسمها العباد بينهم بالتأسي، ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأنه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترض السفلة ذلك واغتنموه وكاتفوا -أي عاونوا- مزدك وأصحابه وشايعوهم، فابتلي الناس بهم، وقوي أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله لا يستطيع الامتناع منهم". وفي هذا الوصف لمذهب مزدك الذي يقدمه الطبري شرح لآرائه التي كانت تقوم على الاعتقاد بأن الغيرة والحقد والتنافس بين الناس منشؤها شيئان هما: المال والنساء، فإذا جعلنا هذين الشيئين مشاعا بين الناس زالت هذه المساوئ التى تفرقهم وتخلق الفتن بينهم. وقد تبع الكثير من العامة هذا المبدأ فقوى وازدادت قوته بانضمام قباذ إليه، وطلب قباذ من المنذر أن يعتنق المزدكية فرفض المنذر ذلك، فغضب قباذ وعزل المنذر عن ملك الحيرة، وكان ذلك على ما يقرر جواد علي بعد مناقشات طويلة في سنة ما تقع بين "515، 531". وقد لجأ المنذر بعد عزله إلى القبائل العربية في الصحراء وظل لاجئا عندهم حتى توفي قباذ وملك بعده ابنه أنوشروان الذي قاوم المزدكية وعارضها منذ حياة أبيه1، فأعاد المنذر إلى ملك الحيرة. كان قباذ حين عزل المنذر، قد ولَّى عرش الحيرة الحارث بن عمرو الكندى -من كندة- وقد عزله أنوشروان بعد وفاة قباذ، وأعاد العرش إلى صاحبه الأول، ويعلق جواد علي هذه القضية بقوله:

_ 1 نفس المرجع السابق ص188، ص189.

"وليس بمستبعد في نظري أن تكون هذه القصة قصة دخول الحارث الكندي في المزدكية، ومتابعته دين قباذ من وضع أهل الحيرة المعادين لكندة؛ وضعوها وألصقوها بالحارث الكندي؛ لتكون سبة له وعارًا عليه وعلى كندة؛ لهذا العمل الذي قام به تجاههم، وهم كما نعلم يكرهون هذا الكندي، وينكرون توليه الحيرة، ولا يدخلون اسمه في قائمة ملوك الحيرة، كما صرح بذلك ابن الكلبي. يقول ابن قتيبة: وكانت المجوسية في تميم، ومنهم زرارة بن عدس التيمي، وابن حاجب بن زرارة، وكان تزوج ابنته ثم ندم. ومنهم: الأقرع بن حابس؛ وكان مجوسيا، وأبو سودة جد وكيع بن حسان، وكان مجوسيا. قال أبوحاتم: إن المجوسية لم تكن فيهم -العرب- على ما ذكره الرواة وقالوا: سمى "دقئوس" باسم ابنة كسرى وتزوجها فعيره بذلك أهل بيته: فقال: أليست حلالا في ديني؟ ثم ندم على ذلك وأنشأ يقول: لحا الله دينك من أغلف ... تحل البنات لنا والخوات أحشت على أسرتى سوءة ... وطوقت جيلي بالمخزيات وأبقيت في عقبي سنة ... مشاتم تحيا بعيد الممات1 ثم قال: ولم يتمجس منهم أحد قبل. ويقول: ويقال: إن المجوسية كانت في بني تميم. ويقول: وروي عن أبي عمرو بن العلاء أن نسرا كان صنما لبعض حمير وكانوا فيما يزعمون مجوسا.

_ 1 وقال أبو حاتم الرازى وهو الشيخ أحمد بن حمدان الرازي المتوفى سنة 322 هـ وفي كتابه الزينة في المصطلحات الإسلامية عارضه وعلق عليه حسين بن فيض الله الهمداني البعيرى سنة 1956. وذكر مراجعة: المعارف لابن قتيبة 229. الشعر والشعراء: 446 العقد الفريد: "1/ 174". أعلام النبوة للماوردي. ص 168 سنن أبي داود في الخراج عن محمد بن المسكين والذخائر عن عبد الله بن عباس 313.

وهم الذين ذكروا في كتاب الله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: 21، 24] . ويقال أن بقايا المجوس الذين كانوا باليمن والبحرين منهم.

علاقة الإسلام بهم

علاقة الإسلام بهم: سنن أبي داود: عن عباس رضى الله عنه قال: كان رجل من الإسبنديين من أهل البحرين1 -وهم مجوس- هاجر إلى رسول الله فمكث عنده ثم خرج، فسألته ما قضى الله ورسوله فيكم؟ قال: بشر. قلت: مه؟ قال: الإسلام أو القتل. قال: وقال عبد الرحمن بن عوف: قبل منهم الجزية. قال ابن عباس: فأخذ الناس بقول عبد الرحمن، وتركوا ما سمعت أنا من الأسبندي، "الأسبنديون منسوبون إلى بلدة بهجر بالبحرين"، وقيل: الكلمة فارسية ومعناها: عبدة الفرس وكانوا يعبدون فرسا، والفرس في لغة الفرس: أسب. وفي حديث آخر عن عمر بن أوس: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ثم قال: وفرقنا بين كل رجل من المجوس وحرمه في كتاب الله. مرويات لم تحقق:

_ 1 بعث رسول الله العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي العبدي وهو بالبحرين يدعوه إلى الإسلام، وكتب إليه كتابا، فكتب إلى رسول الله يقول: وإني قد قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحب الإسلام وبأرضي مجوس ويهود ... "طبقات ابن سعد".

عن ابن عباس قال: إن أهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس كتابًا.

القدرية والمجوس

القدرية والمجوس: قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" "4: 85": من حديث أبي هريرة قال: القدرية مجوس هذه الأمة. قيل: إنما جعلهم مجوسا؛ لمضاهاة المجوس في قولهم بالأصلين وهما: النور والظلمة. يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة. وكذا القدرية: يضيفون الخير إلى الله، والشر: إلى الإنسان والشيطان، والله تعالى خالقهما معا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئة الله، فهما مضافان إليه خلقا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما: عملا وكتابا. المشركون والمجوس: "الذين أشركوا" قال الألوسى: هم المجوس، ووصفوا بالإشراك؛ لأنهم يقولون بالنور والظلمة1. النيسابوري على هامش الطبرى يقول2: ومن الذين أشركوا: عبدة النار وهم المجوس. لماذا كان حاجب بن زرارة هو الذي تمجس؟ يقول صاحب السيرة الحلبية3: لما أجدبت أرض تميم "بدعاء" النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم ذهب سيدهم حاجب بن زرارة والد عطارد رضي الله عنه إلى كسرى؛ ليأخذ منه أمانا لقومه؛ لينزلوا ريف العراق؛ لأجل المرعى، فقال له كسرى: أنتم قوم غدر وأخاف على الرعايا منكم، فقال له حاجب: أنا ضامن أن لا نفعل شيئا من ذلك، فقال له كسرى: ومن لي بوفائك؟

_ 1 روح المعانى "1: 270". 2 "1: 97". 3 ص"1: 10".

قال: هذه فرسي رهينة، فحمقه كسرى وجلساؤه وضحكوا منه، فقال له: العرب لو رهن أحدهم شيئا فلا بد أن يفي به، فكانت بنو تميم تعد ذلك القول من مفاخرها. وأورد البلاذري في فتوح البلدان، قال: أخذ رسول الله الجزية من مجوس هجر. ومجوس أهل اليمن وفرض على كل من بلغ الحلم من مجوس اليمن من رجل وامرأة دينارًا. هذه روايات تفيد أن المجوسية هي دين زرادشت في المفهوم العربي. وأما الروايات التاريخية الخاصة بتجمس حاجب بن زرارة فهي -من وجهة نظري- غير صحيحة؛ لأننا تتبعنا كلمة وفد بني تميم بين يدي الرسول فما وجدنا ما يشير من قريب أو بعيد إلى نسبة المجوسية إليهم أو نسبتهم إليها سواء أكان القول قول خطيبهم أم كان القول قول حسان بن ثابت. وإذا كنا رفضنا الرواية الخاصة بحاجب بن زرارة فإنا لا نمنع أن يكون بين قومه من تمجس، ولا سيما أنهم كانوا من غسان وهم ملوك الشام وهم وسط الأعاجم يقول حسان: فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم وجاء في كلمة وفد بنى تميم ما يفيد ذلك على لسان الزبرقان "من أسماء القمر" حيث قال: نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع يقال عن الزبرقان إنه كان يرفع بيتا من عمائم وثياب وينضحه بالزعفران والطيب، وكانت بنو تميم تحج ذلك البيت، قال الشاعر وهو المخبل السعدى وأمه كعب بن ربيعة: وأشهر من عوف جلولا كثيرة

حنفاء العرب رواد الثقافة الهلينستية: يقول خودا بخش: كان العرب -كما يبدو يقدسون آلهتهم، فيحجون إلى أماكنهم المقدسة ويقدمون الأضحيات في معابدهم، ويخضبون بدماء هذه الأضحيات الهياكل المصنوعة من الأحجار أو الخشب ويستجيرون بكهنتها في وقت الشدة ويسألونهم عما يخبئه المستقبل، ولكن كان ذلك تظاهرا وتصنعا فلم يكن هناك شعور بإيمان حقيقي. يقول دوزي: كان العربي يبدي غضبه لأقل شيء على الآلهة ويخاطبهم وكأنه يعرف حقيقتهم فيسخر منهم. ومن هذه المظاهر التي لوحظت عليهم: وضح لنا أن عرب ما قبل الإسلام كانوا في حالة قلق ديني عاجزين عن الوصول إلى ما هو أحسن بحيث يرضي حاجاتهم ومطالبهم، ويمارسون عبادة الأوثان، ولكن بدون شعور بإيمان حقيقي، ووجود المسيحية واليهودية بينهم أبرز حالة القلق الديني وأدى ببعض منهم إلى تحويل أفكارهم من الوثنية إلى أفكار أسمى وسعوا في طلبها. وسنقدم عدة نماذج من الذين سخطوا على أوثانهم، وكان وراء هذا السخط بعض الخطوات الفكرية ومن أهم ما نشير إليه من تلك الخطوات الفكرية "عدم معقولية الإله أو المعبود"، وهذا المعنى يفيده موقف الساخطين ولازم أيضا للذين تشككوا في أوثانهم ورغبوا عنها إلى ملة سماوية.

سحب الثقة من عبادة الأصنام

سحب الثقة من عبادة الأصنام: أولا: موقف الساخطين على الأوثان: 1- ذو الخلصة وامرؤ القيس: لما أقبل امرؤ القيس بن حجر يريد الغارة على بني أسد مر بذى الخلصة، وكان صنما بتبالة، وكانت العرب جميعا تعظمه، وكانت له ثلاثة أقداح: الآمر، والناهي، والمتربص، فاستقسم عنده ثلاث مرات: فخرج الناهي، فكسر القداح وضرب وجه الصنم، وقال:

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا لو كان أبوك هو الذي قتل ما توانيت عن الثأر، ثم غزا بني أسد فظفر بهم. فلما فتح رسول الله مكة وأسلمت العرب ووفدت عليه وفودها قدم عليه جرير بن عبد الله مسلما فقال له: يا جرير ألا تكفينى ذا الخلصة؟ فقال: بلى، فوجهه إليه، فخرج حتى أتى بني أحمس من بجيلة فسار بهم إليه فقاتلته خثعم وباهلة دونه، فقتل من سدنته ومن باهلة يومئذ مائة رجل وأكثر القتل في خثعم، وقتل مائتين من بنى قحافة بن عامر بن خثعم، فظفر بهم وهزمهم وهدم بنيان ذى الخلصة. وأضرم فيه النار فاحترق، وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة. 2- سعد: وكان لمالك وملكان ابني كنانة صنم يقال له: سعد، وكان صخرة طويلة، فأقبل رجل منهم بإبل له؛ ليقفها عليه يتبرك فيها، فلما أدناها منه نفرت منه وكان يهراق عليها الدماء، فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه وأسف فتناول حجرا فرماه به وقال: لا بارك الله فيك إلها نفرت عليَّ إبلي. ثم خرج في طلبها حتى جمعها وانصرف عنه وهو يقول: أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد، فلا نحن من سعدِ وهل سعد إلا صخرة بتنوفةٍ ... من الأرض لا يدعى لغيٍّ ولا رشدِ 3- وقال أوس بن حجر يحلف باللات: وباللات والعزى ومن دان دينها ... وبالله إن الله منهن أكبرُ 4- وقال بعضهم حين وجد الثعلبان بال على رأس صنمه: إله يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالبُ ويروى: "أرَبٌّ" بدل "إله" وقال شاعر: أكلت ربها حنيفة من جو ... ع قديم بها ومن إعوازِ

وقال آخر: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعهْ لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعهْ1

_ 1 الأصنام ص4 هامش، وتاج العروس مادة ث. ع. ل. ب.

المتشككون في أوثانهم

ثانيا: المتشككون في أوثانهم: الحنيفية: ما معنى الحنيف؟ في معنى الحنيف أقوال: 1- هو المائل عن الأديان كلها. قاله ابن عباس. 2- أو المائل عما عليه العامة. قاله الزجاج. 3- أو المستقيم. قاله بن قتيبة. 4- أو الحاج. قاله ابن عباس وابن الحنفية. 5- أو المتبع. قاله مجاهد. 6- أو المخلص. قاله السدي. 7- أو المخالف للكل. قاله ابن حجر. 8- أو المسلم. قاله الضحاك. 9- قالوا: فإذا جمع الحنيف مع المسلم فهو الحاج أو المختتن. 10- أو الحنف هو الاختتان وإقامة المناسك وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات. روى أبو حيان المفسر1 عشرة أقوال متقاربة في المعنى. وإنما خص إبراهيم بالإمامة لما سنه من مناسك الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام مما تبتدئ به إلى قيام الساعة. وصارت الحنيفية علما مميزا بين المؤمن والكافر.

_ 1 البحر المحيط "1: 401" وقال الراغب الأصفهاني "1: 290" على هامش النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: وسَمَّت العرب كل من حج أو اختتن حنيفا؛ تنبيها أنه على دين إبراهيم. وابن الأثير في كتابه السابق أورد حنفاء مؤمنين لم أخذ عليهم الميثاق: "ألست بربكم قالوا بلى" فلا يوجد أحد إلا وهو مقر بأن له ربا وأن الحنيف عند العرب: ما كان على دين إبراهيم.

وسمي الحنيف من ابتعد واستقام على هديه وسمي المنكث عن ملته بسائر أسماء الملل، فقيل يهودي، ونصراني، ومجوسي وغير ذلك من ضروب الملل. والآراء الكثيرة المذكورة تتجه وجهتين: وجهة الاتجاه اللغوي عند العرب، وتعني المائل أو المخالف. والوجهة الثانية اصطلاحية: وتعني من اتخذ وجهته نحو إبراهيم دينا، من حديث التوحيد أو شريعة من اختتن أو شعائر الحج. ومن حيث المنهج الإسلامى: سوَّى القرآن بين الحنيفية والإسلام والفطرة. يقرر الشهرستاني1: إن الصبوة في مقابل الحنيفية، فيقول: وكانت الفرق في زمان إبراهيم راجعة إلى صنفين اثنين: حنفاء وصابئة. ومدار مذهب الصابئة: التعصب للروحانيين. والصابئة تدعي أن مذهبها هو الاكتساب. ومدار مذهب الحنفاء هو: التعصب للبشرية الجسمانيين. والحنفاء تدعي أن مذهبها الفطرة. وكانوا يقولون: إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد فوق الروحانيات، ويماثلنا في البشرية، ويمايزنا في الروحانية. ويتلقى الوحي بطرف الروحانية، ويلقي إلى النوع الإنساني بطرف البشرية. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2، وقال: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 3، ولقد قررها: إبراهيم، وأطلق عليها: الملة الكبرى، والأنبياء بعده أطلقوا على دينهم وصف الحنيف، ولا سيما القرآن، فالتوحيد كان من أخص أركان الحنيفية، ولهذا يقترن عدم الشرك بكل موضع ذكرت الحنيفية فيه.

_ 1 الملل والنحل ص6 جـ2. 2 سورة الكهف آية 110. 3 سورة الإسراء آية 94.

قال تعالى: {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} . [سورة النحل: 123] . وقال: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [سورة الحج: 31] . والصابئة بمذهبها الروحي وعمقها التاريخي تضع أمامنا مشكلة وهي: كيف عرف الإنسان الاتجاه الروحي -وهو أعقد من الاتجاه المادي؟ أعرف بالعقل؟ أم بالوحي؟ وهل الإنسان فكر أو لا.. ماديا أو روحيًّا؟ يجيب الشهرستاني في المناظرة بين الصابئة والحنفاء: إنهم عرفوه أي الاتجاه الروحي من الأنبياء1. بعد ما قلناه عن معنى الحنيفية ترجع إلى الحنفاء الشاكين في أصنامهم فنقول: إن التعدد في الأصنام، والأنصاب، وإنشاء البيوت المقدسة لها، كي يزاحم بها الكعبة، مع نظرات الساخطين عليها، إلى وجود المسيحية، بجانب اليهود، وأشتات من الصابئة، ولاجئين من المجوس، كل ذلك: حفلت به الجزيرة العربية وله آثاره الواضحة في خلق آفاق جديدة من التفكير لدى بعض أفراد أداهم ميلهم العقلي إلى تقويم ما حولهم من وثنية، واضطلعوا بعبء مسئولية التفكير فيها. قال الشافعى في الأم: فكانت المجوس يدينون غير دين أهل الأوثان، ويخالفون أهل الكتاب من اليهود والنصارى في بعض دينهم، وكان أهل الكتاب اليهود والنصارى يختلفون في بعض أحكام دينهم. ويقول الشيخ مصطفى عبد الرازق معلقًا: وكان هذا الجدل يتناول بالضرورة شئون الألوهية والرسالة والبعث والآخرة والملائكة والجن والأرواح، ويدعو إلى الموازنة بين المذاهب المختلفة في تلك الشئون وقوي أمر هذا الجدل الديني في ذلك العهد حتى تولدت نزعة ترمي إلى تلمس دين إبراهيم أبي العرب2، وبذلك تسرب الشك في الأصنام والأوثان إلى نفوس العرب. قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوما في عيدٍ لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعطمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويدبرون به، وكان ذلك عيدا لهم في

_ 1 راجع ما سبق في باب الصابئة. 2 التمهيد ص103.

كل سنة يوما، فخلص منهم أربعة نفر نجيا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتمن بعضكم على بعض، قالوا: أجل وهم: ورقة بن نوفل، عبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل1، فقال بعضهم لبعض: "تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم. فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب، وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان مسلمة فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هناك نصرانيًّا، وكان عبيد الله بن جحش حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله وهم هناك من أرض الحبشة فيقولون: فقحنا -أي أبصرنا- وصأصأتم؛ أي تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد، وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده. قال صاحب الروض: إن قيصر الروم كان قد توج عثمان وولاه أمر مكة، فلما جاءهم بذلك أنفوا من أن يدينوا لملك، وصاحَ الأسود بن أسد بن عبد العزى ألا إن مكة حي لقاح لا تدين، فلم يتم له مراده.. قال: وكان يقال له البطريق ولا عقب له ومات بالشام مسمومًا سمه عمرو بن جفنة الغساني الملك.

_ 1 ذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب: أسماء أناس من العرب دعوا قومهم إلى الله ونبهوهم على آياته في زمن الفترة كقس بن ساعدة، ورباب السيتي وبحيرا الراهب، وكان من عبد القيس.

وأما زيد بن عمرو: فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة، وقال: أعبد رب إبراهيم ونادى قومه يعيب ما هم عليه. ثم خرج إلى الشام يسأل عن الدين، ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم وقال: إني لأحب أن أدين بدينكم فأخبروني فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أفرُّ إلا من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا وإني أستطيعه فهل تدلنى على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقى عالما من النصارى فذكر له مثله، فقال: لن تكون على دين حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أفر إلا من لعنة الله ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضب الله شيئا أبدا وإني أستطيع فهل تدلنى على غيره؟ قال: ما أعلمه أن يكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز مع ولديه قال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم. وفي حديث البخاري عن أسماء بنت أبي بكر قال: رأيت زيد بن عمر بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم على إبراهيم غيري، وكان يحيى الموءودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أكفك مؤنتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤونتها. ومن الشعر يقول زيد بن عمرو بن نفيل:

أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور فلا عزَّى أدين ولا ابنيتها ... ولا صنمي بني عمرو أزور ولا هبلا أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير عجبت وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور وبينا المرء يعثر تاب يوما ... كما يتروح الغصن العطير ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبوروا ترى الأبرار دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير وخزي في الحياة وإن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور وقال مما ذكره أبو الفرج: أدين إلها يستجار ولا أرى ... أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا ومما سبق نلحظ أن هؤلاء الأربعة خرجوا عن الوثنية، ثم بعد ذلك تفرقوا إلى وجهات مختلفة غير وجهة الوثنية، وكانت لهم وجهة نظر في اطراح الوثنية هى: أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وهم إذ يقولون هذا يخرجون عن وصف قطعة الحجر أنها كذلك، غير أنهم لم يبحثوا فيما وراء ذلك من مشكلات دينية، وعلى الرغم من أنهم لم يستهزئوا بالدين استهزءوا بالإله المصنوع من حجر وغيره، فإن من الواضح أن فكرة وجود إله مغاير لما عليه الأصنام كانت تؤرقهم غير أنهم لم يبحثوها ولو من ناحية تحقيق حاجاتهم الدينية التى كانوا يحسون أن ما هم عليه لا يحقق رغبتهم فيها ولا سيما بعد ما بدا لهم أن آلهتهم تعتبر غريبة على هذا العالم. ولقد رأوا أن عليهم اختيار دين آخر مما هو منتشر بينهم، فمنهم من اتخذ سبيل المسيحية والبحث كورقة، ومن تحير إلى أن تنصر ومات كعبيد الله بن جحش، ومن وقع في براثن السياسة كابن الحويرث، ومن قال: "كذلك يفعل الجلد

الصبور"، فتحسس المسيحية واليهودية إلى أن وقع هواه على الحنيفية دين أبيه إبراهيم، كزيد بن عمرو. "وسُمِّي هؤلاء المفكرون بـ "الحنفاء"، ولكنهم لم ينتظموا في طائفة ولم يرتبطوا برباط واحد ولم يشتركوا في عبادة واحدة معينة، ثم ظهر الصابئة الذين كانوا يسمون أيضا الحنفاء. وقد نبذ هذان النوعان من الحنفاء: اليهودية والمسيحية وآمنوا بدين إبراهيم وكانت تعاليمهم فطرية يسيرة تتفق مع سلوك العرب. ولتصبح الحنيفية دين العرب كانت في حاجة إلى تعاليم محددة وتنظيم قوي وطقوس دينية وكتاب سماوي، ولما كانت الحنيفية تعوزها الأسس السماوية التي تحذب الإنسان فإنها لم تتمكن من الانتشار بحيث تصبح دين العرب. وخلاصة القول: أن الإسلام منح العرب عقيدة التوحيد في أنقى صورها غير متأثرة بغيرها، وأشعرهم بمسئوليات الحياة وقضى على الفساد الاجتماعي من جذوره وحطم حياتهم الانعزالية وجعلهم رسل الحضارة. ولا نجد ما يعبر عن خلاصة هذا البحث خيرا مما قاله الأستاذ براون وهو: "فقد رأينا في موقعة "ذى قار" علاقات تدل على حيوية العرب العظيمة وشدة بأسهم بينما كان جيرانهم ينظرون إليهم على أنهم كميات مهملة بشكل غير مألوف كما كانوا في عصر ما قبل الإسلام1. أما الإسلام ذلك القانون الإلهى الفريد الذي لا يستطيع أي متعلم منصف أن ينكر عظمته فقد جعل العرب يأخذون نصيبا كبيرا من أسباب العظمة والمجد ويؤدون دورهم في الحضارة على خير وجه. بعد ذلك نحب أن نذكر بعض التعليقات حول بعض الأسماء التي أطلقت على ذلك النفر من بعض كتب السيرة فبعضها أطلق على هؤلاء النفر "حنفاء"، والبعض الآخر أطلق عليهم لفظة "المتحنثين". فمن ناحية كلمة "حنفاء" يجوز إطلاقها عليهم من جهة المعنى اللغوي أي الذين خرجوا على دين قومهم.

_ 1 حضارة الإسلام "ص31" صلاح الدين جودا أبخش، ترجمة علي حسنى الخربوطلي.

ومن ناحية المعنى الاصطلاحي نراه يشملهم جميعا من باب قصدهم؛ فهم قصدوا جميعا -عند ما انسحبوا من عبادة الأوثان ودين قومهم الحنيفية، أو من باب التغليب أي لما كان منهم من انتسب إلى الحنفاء سموا جميعا بالحنفاء؛ لأن الذى اعتنق الحنيفية بعد أن بحث عنها واحد منهم فقط. أما من ناحية: أهل الحنث. حنث في اليمين: أي نقضها. قال الجوهري: بلغ الغلام الحنث: أي بلغ المعصية أو الطاعة. وفيه أن الرسول كان يأتي حراء، فيتحنث فيه: أي يتعبد فيه. يقال: فلان يتحنث: أي يفعل فعلا يخرج به من الإثم والحرج. ومنه حديث حكيم بن حزام: أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية؛ أي أتقرب بها إلى الله. ومنه حديث عائشة: ولا أتحنث إلى نذري؛ أي: لا أكسب الحنث وهو: الذنب والإثم. ومنه: تكثر فيهم أولاد الحنث؛ أي: أولاد الزنا. ما عرضناه من معانٍ لكلمة "الحنث" هو معانٍ صالحة لإطلاقها على أهل الحنث، فهم حنثوا؛ أي: نقضوا ما توعدوا عليه وهو طلب الحنيفية، ثم لم يطلبها غير واحد. وبعضهم بلغ بحنثه "عبادته" المعصية، ولا سيما ما كان من بعضهم عندما ترك الحق واتبع السياسة فأهلكته، والبعض الآخر بلغ بحنثه الطاعة، وكلهم طلبوا أمورا صالحة في نظرهم لتعبدهم، وكلهم فعلوا فعلا خرجوا به من الإثم إلى الطاعة بحسب اجتهادهم. وهكذا أوقفتنا معاجم اللغة -كما رأينا- أمام حشد من المعاني دون تنبيه منها يبين متى نشأ المعنى الاصطلاحي للفظ أو متى نقل من معناه اللغوي إلى معناه المذهبي.

وقد وردت لفظة "حنيفًا" في عشر مواضع من القرآن الكريم1، ووردت لفظة "حنفاء" في موضعين منه2، وبعض الآيات التى وردت فيها: آيات مكية، وبعضها مدنية. وقد نص في بعض منها: على "إبراهيم" وهو على الحنيفية؛ لم ينص في مواضع منها على "اسمه". وقد وردت لفظة "حنفاء" في: سورتين فقط3، وهما من السور المدنية، وقد لخص الفخر الرازى، والطبرسي: آراء العلماء في الحنيفية، وأجملاها في تفسيرهما للآية الكريمة؛ قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} فقالا: وفي الحنيفية أقول: أحدها- أنها: حج البيت؛ عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. ثانيها- أنها: اتباع الحق؛ عن مجاهد. ثالثها- أنها: اتباع "إبراهيم" فيما يأتى به من الشريعة، التي صار بها إماما للناس بعده، من الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام. رابعها: أنها الإخلاص لله وحده، والإقرار بالربوبية، والإدغان للعبودية. يقول جواد على ونلاحظ أن أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة، وعلم واضح بأحوال "الحنيفية"؛ وبآرائها، وقواعد أحكامها وأصولها، وأنهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما: "رهبنة النصرانية"4، فأدخلوا فيها من يجب إخراجهم عنها؛ لأنهم: كانوا نصارى، على ما يذكره نفس أهل الأخبار في أثناء تحدثهم عنهم. ومن هؤلاء: "قس بن ساعدة الإيادي، وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث". فقد نصوا نصوصًا صريحة على أنهم كانوا من العرب المتنصرة؛ ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة "الأحناف".

_ 1 انظر سورة البقرة آية 135، سورة آل عمران آية 67، 95، والنساء آية 125؛ والأنعام آية 79، 161، ويونس آية 105؛ والنحل آية 120، والروم آية 30. 2 انظر سورة الحج آية 231. سورة البينة آية 5. 3 الهامش السابق. 4 المفصل ص451، 452، 453 مجمع البيان جـ1 ص 215، التفسير الكبير جـ 4 ص89.

وللمستشرقين بحوث في أصلها، ومعناها، وفي ورودها عند العرب قبل الإسلام، ومنهم من يرى: أن اللفظة من أصل "إرمى" وقد كانت معروفة عند النصارى؛ وأخذها الجاهليون منهم؛ وأطلقت على القائلين "بالتوحيد" من العرب - على أولئك الذين ظهروا في اليمن خاصة، ونادوا: "بالتوحيد وعبادة الرحمن" وهى: ديانة "توحيد" ظهرت بتأثير اليهودية، والنصرانية. غير أن أصحابها لم يكونوا "يهودا، ولا نصارى"؛ وإنما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين1. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل "عبراني" وهو: "تحينوت". Thinath. أو من "حنف" Tnef. ومعناه: "التحنث" في العربية. وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهاد. وقال "نولدكه": إنها من أصل "عربي"، وهو: "تحنف" على وزن "تبرر"، وهى من الكلمات التي لها معانٍ دينية، ويلاحظ أن السريان يطلقون لفظة "حنف" على "الصابئة". وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية بمعنى: "صبأ" أي: مال وتأثر بشيء ما. وعندي: أن لفظة "حنيف" هي في الأصل بمعنى "صابئ"؛ أى: خارج عن ملة قوم، وتارك لعبادتهم، ويؤيد رأيي هذا ما ذهب إليه علماء اللغة من أنها من الميل عن الشيء ونزله، ومن ورودها بهذا المعنى في النصوص العربية الجنوبية؛ وبمعنى "الملحد" -المنافق، الكافر- في لغة بنى "إرم"؛ ومن إطلاق المسعودى ابن العبري لهذه اللفظة على "الصابئة"، ومن ذهاب "المسعودي" إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة. وقد أطلقت على "المنشقين" على عبادة قومهم، الخارجين عليها كما أطلق أهل مكة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى أتباعه "الصابئ"، "الصباة"، فصارت علما على من تنكر لعبادة قومه، خرج على الأصنام. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على: نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على دين "إبراهيم".

_ 1 المفصل جـ6 ص453.

ولما كان التنكر للأصنام هو عقيدة الإسلام، لذلك صارت مدحًا لمن أطلق عليهم تلك اللفظة لازما1. وقد عدَّ بعض المستشرقين "الحنفاء" شيعة من شيع "النصرانية" وعدوهم نصارى عربا زهادا، كيفوا النصرانية بعض التكييف، وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها. وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصُّر بعضهم؛ وبما ورد في بعض الأشعار الجاهلية من مواضع يفهم منها على تفسيرهم أن المراد بهم شيعة من شيع "النصرانية"2. غير أن: "القرآن الكريم" قد نص نصا صريحا على أن الحنفاء لم يكونوا يهودا، ولا نصارى، وأنهم ينتمون في عقيدتهم إلى: "إبراهيم". ثم إن: الإخباريين وإن أدخلوا في الأحناف أناسا نصوا على أنهم كانوا نصارى إلا أنهم نصوا في الوقت نفس نصا صريحا على أن البقية كانت واقفة، لم تدخل في "يهودية"، ولا "نصرانية"، وإذا وجدت في كل ديانة من الديانتين أمورًا جعلتها تتريث، فلم تدخل في إحداهما، وبقيت مخلصة لسنة إبراهيم. لذلك: فلا يمكن اعتبار "الأحناف" "نصارى" خلصًا، أو شيعة من الشيع "النصرانية"3. وجُلُّ هؤلاء الأحناف هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة، أو فوق مستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام. ولهذا صار في إمكانهم الحصول على ثقافة، وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك؛ لنيل العلم منها. كما صار في إمكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب؛ لامتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات مثل: العراق، وبلاد الشام، وقد اتصلوا -كما يزعم أهل الأخبار- فعلا برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم، وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرأوا عليهم الكتب، وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقولات اليونان، وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة.

_ 1 المفصل جـ4 ص454. 2 السابق جزءا وصفحة. 3 السابق ص456.

وقد تكون بعض الآراء المنسوبة إليهم -والتي ترجع إلى أصل يوناني- قد قالوها من أخذهم لها من تلك الكتب، ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء في أثناء وجودهم في العراق، وفي بلاد الشام1. وقد ذهب "ولهوزن" إلى أن: الأحناف هم من النصارى، وإن حركتهم حركة نصرانية، وإنهم كانوا القنطرة التى توصل بين النصرانية والإسلام غير أن ما لدينا من معارف عن الأحناف لا يكفى لإبداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفا دقيقا، ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية؛ لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن2. وقد أدخل "المسعودي": بعض الأحناف في جماعة "أهل الفترة" ممن كان بين "المسيح ومحمد" -عليهما السلام- ومن أهل "التوحيد" ممن يقر بالبعث، ثم قال: وقد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى: أنهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك3. وقد ذكر من بينهم: "حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان العبسى، ورئاب الشنى، وأمية بن أبي الصلت، وقس بن ساعدة الإيادي، وعبد الله بن جحش الأسدي، وبحيرا الراهب". ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص المسعودي على ذلك4. والرجال الذين قال أهل الأخبار عنهم أنهم كانوا على دين، وكانوا من "الأحناف" هم "قس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبى الصلت، وزهير بن أبي سلمى، وخالد بن سنان، وكعب بن لؤي"، وغير هؤلاء كثير ذكرهم المسعودي5. وقد اقتصر محمد بن حبيب على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن أسماء الذين رفضوا عبادة الأصنام؛ فذكرهم على النحو الذي نذكر بعضه: "عثمان ابن الحويرث، ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، عبيد الله بن جحش"، وذكر منهم من تنصر ومات على النصرانية. مثل "عثمان، وورقة، وعبيد الله".

_ 1 المفصل جـ6 ص458. 2 السابق جـ6 ص460. 3 السابق جـ6. ص461، مروج الذهب جـ1 ص78. 4 المفصل جـ6 ص462، مروج الذهب جـ1 ص78. 5 المفصل جـ6 ص463. والمروج جزءا وصفحة.

وأما قس بن ساعدة، فقد رفعه الإخباريون من مصافِّ أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين، الذين عاشوا مائتين من السنين قبل سبع مئة سنة أو أقل من ذلك، غير أنه لا يقل عن ثلاث مائة سنة على كل حال1. وقس هو: مخترع؛ أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار، أحدث لهم أمورا كثيرة: فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ عند خطبته على سيف أو عصا، وأول من علا على شرف، وأول من قال "أما بعد"، وأول من قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من مثل هذه الأمور هو من صنعة قس وعمله، ثم إنه كان أحد حكماء العرب وخطيبهم كافة، كما ذكروا أن له ولقومه فضيلة ليست لأحد من العرب؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- روى كلامه وموقفه على جمله الأورق بعكاظ، وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وقال فيه: "يحشر أمة وحدة". وذهب "شبرنكر": إلى أن: قسا كان من "الركوسية"؛ وهم فرقة عرفهم أهل اللغة بأنهم: بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في أمر دينهم؛ ولذلك عمدوا إلى: السياحة، والترهيب، والإنزواء، وقد حسبهم العرب نصارى فأدخلوهم فيهم في أثناء كلامهم على هؤلاء2. وجميع هذا القصص المروي عن "قس" هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص. 1- زيد بن عمرو بن نفيل: هو: زيد بن عمرو بن نفيل بن رباح بن عبد الله، ينتهى نسبة غالب بن فهر فهو من "قريش" ولم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها، وهزئ منها، ووقف فلم يدخل في "يهودية" ولا "نصرانية" وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، ونهى عن قتل الموءودة وامتنع عن الذبح للأنصاب، ومن أكل الميتة، وما ذبح على النصب. وترجع إحدى الروايات: سبب خروج "زيد" على عبادة قومه أنه حضر يوما، وحضر معه في ذلك اليوم: ورقة بن نوفل، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث -عيدًا من أعياد قريش عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه، ويعكفون

_ 1 السابق جـ6 ص465، المؤتلف والمختلف ص338. 2 المفصل جـ6 ص467.

عنده، وينحرون له فلما خلا بعضهم إلى بعض، وتصادقوا قالوا: ليكتم بعضكم على بعض واتفقوا على ذلك؛ ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين "إبراهيم" وخالفوه؛ وما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم؛ فإنكم والله ما أنتم على شيء، فخرجوا يطلبون، ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب1. وقد زار "زيد" الشام، والبلقاء، وعاش إلى خمس سنين قبل البعثة فهو: من أولئك الرهط الثائرين على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول؛ وقد نسبوا إليه شعرًا في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقه دينهم، وما لقيه منهم، كان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه؛ حتى أكره على ترك مكة والنزول بـ "حداء" وكان الخطاب بن نفيل" عمه. وقد وكل به شبابًا من شباب قريش، وسفهاء من سفهائهم كلفهم ألا يسمحوا له بدخول البلدة ويمنعه من الاتصال بأهلها مخافة أن يفسد عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه، واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل معتزلا قومه إلا فترات كان يهرب خلالها سرًّا؛ ليذهب إلى موطنه ومسكنه؛ فكانوا إذا أحسوا بوجوده هناك آلموه وآذوه2. وقالوا إنه التقى في أثناء أسفاره هذه بأحبار من اليهود، وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادئ إبراهيم لذلك لم يدخل في ديانة ما من هاتين الديانتين حتى قتل. وهناك روايات أخرى تفيد رجوع "زيد" إلى قومه بعد عودته من الشام، ووفاته وفاة طبيعية لا قتلا بيد إنسان، ودفن بأصل حراء3. 2- عبيد الله بن جحش: هو: "عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصى". وقد بقى مرتابا في دين قومه، بعيدا عنهم وعن عبادتهم، حتى إذا ظهر الإسلام دخل فيه؛ ثم هاجر مع هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته "أم حبيبة" بنت

_ 1 المفصل جـ6 ص469. 2 المفصل جـ6 ص470. 3 المفصل جـ6 ص477 بلوغ الأرب جـ2 ص251.

أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة فارق الإسلام، وتنصر وهلك هناك1. 3- عثمان بن الحويرث: وأما عثمان هذا: فقد بقى مغاضبا قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب إليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده، وتنصر ومنحه لقب "بطريق"؛ وأراد تنصيبه "ملكا" على "مكة". ولكن قومه أبوا عليه ذلك، فلم يتم له مراده، ومات بالشام مسمومًا، سمه عمرو بن جفنة الغساني. وذكر الزبيري: أن والدة "عثمان" هي "تماضر" بنت عمير، وأنه خرج إلى قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال: "أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل وكتب له عهدًا وختمه بالذهب فهابت "قريش" "قيصر" وهموا أن يدينوا له؛ ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة فصاح، والناس في الطواف: إن قريشًا لقاح لا تَملُك، ولا تُملَك، فاستمعت قريش إلى كلامه ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله، وكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث، ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني2. 4- أمية بن أبي الصلت: وأما أمية فهو أحسن الحنفاء حظا في بقاء الذكر؛ بقي كثير من شعره؛ وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره، وسبب ذلك: بقاؤه إلى ما بعد البعث، واتصاله بتأريخ النبوة، والإسلام اتصالا مباشرًا وملاءمة شعره بوجه عام لروم الإسلام، لم يكن مسلمًا ولم يرضَ أن يدخل في الإسلام؛ لأنه كان يأمل أن تكون النبوة فيه، وأن ينزل الوحي عليه؛ فيكون نبي العرب والعالم أجمعين، فلما رأى النبوة في الرسول حسده وأثار المشركين عليه، ورثى قتلاهم في معركة بدر،

_ 1 المفصل جـ6 ص477 سيرة ابن هشام جـ1 ص243. 2 المفصل جـ6 ص476، ص477، سيرة ابن هشام جـ1 ص243.

وحرض قريشًا عليه حتى مات على حسده وعناده سنة تسع بالطائف قبل أن يسلم قومه الثقفيون؛ فهو لم يمت مسلمًا، ولم يمت على دين الوثنيين من قومه، بل مات كافرا بالديانتين1. وقد ورد في بعض الأخبار أن أمية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلا أخذ فيه سفرًا له يقرؤه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى، ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم. ولأمية ديوان ضم أكثر ما نسب إليه من شعر، وفي بطون كتب الأدب والأخبار أشعار أخرى لم يرد ذكرها في هذا الديوان، ومعظم شعره عن الدين، والآخرة، وعن الجنة والنار والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في أيامه، أو في أيام قريبة من أيامه مثل قصة الفيل. كما تضمن بعض قصصالأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحى نعت بشاعر الآخرة. ومما ذكره الإخباريون، ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب أنه استعمل: "الساهور للقمر"؛ وأنه ذكر السلطليط "اسما لله تعالى"، وأطلق كلمة "التغرور" على الله تعالى. وأنه سمى السماء "صاقورة"، و"حاقورة". ولولعه باستعمال الغريب رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره2. والساهور كلمة آرامية الأصل من أصل "سهرو" بمعنى "القمر" وذكر ابن دريد: كان بعض العلماء يقول له: لولا النبي -صلى الله عليه وسلم- لادعت ثقيف أن أمية نبي؛ لأنه قد دارس النصارى، وقرأ معهم، ودارس اليهود وقرأ كل الكتب3. وقد كسف وتألم كثيرا وأكل الحسد قلبه حين فلت الأمر منه، إذ سمع بإعلان الرسول رسالته، ودعوة الناس إلى دين الله تعالى، الذي كان أمية نفسه يدعو إليه, وقد ورد أنه لما سمع بنبوة الرسول قال: إنما كنت أرجو أن أكونه.

_ 1 المفصل جـ6 ص479، الأغاني جـ4 ص120. 2 المفصل جـ6 ص478. 3 المفصل جـ6 ص481.

ويروي أهل الأخبار أن أمية كان قد مات، وهو معتقدٌ بأن "الحنيفية حق"؛ إذ رووا أنه قال في مرض موته: قد دنا أجلى، وهذه المرضة فيها منيتى، وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك: يداخلنى في "محمد"، وقال: لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر1. ويذكرون عنه أنه: بعد أن صبأ عن قومه وتحنف لبس المسموح على زي المترهبين الزاهدين في هذه الدنيا، ورافق الكتب ونظر فيها؛ ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح؛ ثم حرم الخمر على نفسه مثل: بقية المتألهين، وتجنب الأصنام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وأنه كان أول من أشاع بين قريش افتتاح الكتب، والمعاهدات والمراسلات بجملة: "باسمك اللهم"، وهي الجملة التي نسخت في الإسلام بجملة: "بسم الله الرحمن الرحيم"2. ويروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع شعر أمية، وقال: "كاد يسلم"، وذكر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث له عنه: آمن شعره، وكفر قلبه، وإنه لما سمع شعره في الحنيفية والدين، والذي مطلعه: الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسَّانا قال: "إن كاد أمية ليسلم"3. 5- ورقة بن نوفل: هو: ورقة بن نوفل بن أسد ... يلتحم نسبه بنسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جد جده. ذكروا أنه: ساح على شاكلة من شك في دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعد في جملة المتنصرين في أغلب الروايات فقد ذكروا أنه تنصر واستحكم في النصرانية، ومات عليها؛ وهذا هو رأي أكثر أهل الأخبار.

_ 1 السابق جـ6 ص482. 2 المفصل جـ6 ص484. 3 السابق جـ6 ص485، صحيح مسلم 7/ 48.

وهو: ابن عمِّ السيدة "خديجة" الكبرى، زوج "الرسول"؛ وقد أشير إليه في خبر مجيء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في حراء، وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات1. يقال: إنه قال للرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان قد ذهب إليه مع زوجته "خديجة"؛ ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: ليتني كنت حيا حين يخرجك قومك! " وإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "أوَمُخرجيَّ هُم؟ "، قال: نعم. إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلا عودى؛ ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا. وجاء في خبر: أن ورقة كان يمر بمكة فيرى بلالًا وهو يعذب؛ يعذبه المشركون برمضاء "مكة" يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه، يريدون منه أن يشرك "بالله تعالى"، فلا يشرك، ويأبى إلا أن يقول: "أحد أحد"، فيرثي ورقة لحاله، ويقول: "أحد أحد والله يا بلال"، ولئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين2. وورد في بعض الروايات: أنه كان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب. ورود في رواية أخرى: أنه كان يكتب الكتاب "العبراني" فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب. ولما كان الإنجيل باليونانية، وبلغة بني "إرم" التي كانت لغة العلم والأدب، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الإنجيل هي: "العبرانية". وهم يتوهمون كثيرا فيخلطون بين العبرانية والسريانية، والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني "إرم" التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق، وفي بلاد الشام3.

_ 1 السابق جـ6 ص500 ص501، اليعقوبي جـ1 ص298. 2 المفصل جـ6 ص502. 3 المفصل جـ6 ص503، النصرانية 10/ 119.

6- وكيع بن سلمة: هو: وكيع بن سلمة بن زهير الريادي، زعم ابن الكلبي أنه ولي البيت بعد "جرهم". فبنى صرحا بأسفل "مكة"، وجعل فيه أمة يقال لها: "حزورة"، وبها سميت "حزورة مكة". وجعل في الصراح سلما، فكان يرقاه، ويزعم أنه يناجي الله تعالى1. 7- عمير بن جندب: كل ما عرفه أهل الأخبار عنه: أنه كان من "جهينة"، أنه كان موحدا لم يشرك بربه أحدا، وأنه مات قبل الإسلام2. 8- عامر بن الظرب العَدَوَاني: كان من الحكماء، ونسبت إليه أقوال في الحكم والدين؛ منها: "إني ما رأيت شيئا خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء"، ثم قال: "إني أرى أمورا شتى وحتى، قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيًّا ويعود اللاشيء شيئا؛ ولذلك خُلِقَت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين"3. 9- المتلمس بن أمية الكناني: ذكروا أنه: كان قد اتخذ من فناء الكعبة موضعًا يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم: "إنكم قد تفردتم بآلهة شتى؛ وإني لأعلم ما الله تعالى راضٍ به، وإن الله تعالى رب هذه الآلهة، وإنه ليحبُّ أن يعبد وحده، فنفرت كلماته هذه وأمثالها القوم منه وتجنبوه. وقالوا عنه: إنه على دين بني تميم"4.

_ 1 السابق جـ6 ص61. وما بعدها. 2 السابق جزءا وصفحة، وبلوغ الأرب جـ2 ص261. وما بعدها. 3 السابق جزءا وصفحة. 4 السابق جـ6 ص506، البيان والتبين جـ1 ص226.

10- عبيد بن الأبرص: هو شاعر جاهلي شهير، له في قتله قصة هي من ذيول قصة "الغربيين" للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب إليه: اسم الله "تعالى" يتردد في كثير من المواضع؛ ونراه من المتشائمين، المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب؛ ونراه في القصيدة البائية يتوكل على الله تعالى، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه. فيقول: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيبُ بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيبُ والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوبُ ونراه يقول في المنايا: فأبلغ بنيَّ وأعمامَهُمْ ... بأن المنايا هي الواردهْ لها مدة فنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصدهْ فلا تجزعوا للحمام دنا ... فلملوت ما تلد الوالده1 11- كعب بن لؤي بن غالب: كان على الحنيفية؛ وهو: جدٌّ من أجداد النبي -صلى الله عليه وسلم- وإليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة، فكان يعظهم، ويوجههم، ويرشدهم ويأمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام، وإفشاء السلام، وحفظ العهد، ومراعاة حق القرابة، والتصدق على الفقراء والأيتام2. خلاصة ما تقدم: يقول جواد علي: لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم -إن لم نقل: كلهم- من القارئين الكاتبين؛ ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان، يريدون بذلك الكتب المقدسة.

_ 1 السابق جـ6 ص506، البيان والتبيين جـ1 ص226. 2 المفصل جـ6 ص507، طبقات ابن سعد جـ1 قسم أول ص39.

ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان أن منهم من كان يحسن فهم "العبرانية" أو لغة بنى "إرم". ولكن الإخباريين -عفا الله تعالى عنهم- لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف، وعن محتويات مجلة لقمان، وعن الكتب المنزلة؛ ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة، أو قطع ترشد إلى المظان التى نقلت منها، فأضاعوا علينا -بعدم الإشارة إلى هذه الأمور- أشياء كثيرة مهمة بنا حاجة ماسة إلى معرفتها؛ للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام، وإبان ظهوره، ويؤكد أهل الأخبار أن بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة "إبراهيم" وشريعته؛ وإن بعضًا آخر منهم كان يتلمس كلماته، ويسأل عنها، وإنهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق، والأسفار والصعاب. وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز، وبلاد الشام وأعالي العراق أى: المواضع التي كانت غالبية أهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان، وقد أضافوا إليهم الأخبار أحيانا وذكروا أن الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين "إبراهيم" و"إسماعيل"؛ ولذلك لم يدخلوا في "يهودية"، ولا "نصرانية" بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة، مات معتقدا بدين "إبراهيم" حنيفا غير مشرك بربه أحدا. أما كيف كانت شريعة "إبراهيم"؟، وعلى أي نهج سار الحنفاء؟ وهل كان لهم كتاب، أو كتب، أو نحو ذلك؟ فأسئلةلم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة، لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة -شريعة إبراهيم- شريعة التوحيد الحق1. ويذكر أهل الأخبار: أنه كان لأتباع "إبراهيم" من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها: "الختان، وحلق العانة، وقص الشارب"، وهي

_ 1 المفصل جـ6 ص508 وما بعدها.

علامات جعلها بعض المفسرين من كلمات "إبراهيم"، التي ذكرت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] . ذهب القائلون بهذا الرأي: إلى أن تلك الكلمات هى عشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد؛ فأما التي في الرأس، فالمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، وفرق الرأس، والسواك، وأما التي في الجسد فهي: الاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط وخلق العانة، والختان، ومن سنن شريعة "إبراهيم" الاختتان، وهو من العادات القديمة الشائعة بين العرب الجاهليين الوثنيين. أما العرب النصارى فلم يكونوا يختتنون، فالحنفاء في هذه العادة والوثنيون سواء. وفي أخبار معركة "حنين" أن الأنصار حينما أجهزوا على قتلى "ثقيف" ممن سقط في هذه المعركة مع "هوازن" وجدوا عبدا عندما كشف؛ ليستلب ما عليه وجد "أغرل"، فلما تبين ذلك للأنصار نادى أحدهم بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفا "غرل" ما تختتن، فقام إليه: "المغيرة بن شعبة" -وهو من ثقيف- فأخذ بيده، وخشي أن يذهب ذلك عن قومه في العرب، فقال له: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي؛ إنما هو غلام لنا نصرانى، ثم جعل يكشف له قتلى قومه ويقول له: ألا تراهم مختتنين. ويتبين من هذا الخبر: أن العرب كانوا يعدون "الغرل" شيئًا معيبًا ومنقصة تكون حديث الناس. وهناك خبر آخر يفيد أن العرب جميعا كانوا يختتنون، وأن الاختتان كان من السمات التى تميزهم عن غيرهم، وأنهم في ذلك "كاليهود".

وقد ورد في: الموارد اليهودية ما يفيد اختتان العرب، ولعل التوارة التي ذكرت قصة اختتان "إسماعيل" أخذت خبرها هذا من تقاليد العرب الشماليين، التي كانت شائعة بينهم في ذلك العهد1، ومن جهة نظرنا أن هؤلاء الحنفاء -من بين قومهم- خرجوا يبتغون الثقافة في رحلة علمية من مراكزهم المنتشرة على مشارف الجزيرة التي أشرنا إليها سابقا وليست طلبا للتجارة، وحين رجع بعضهم إلى مكة اعتزل الأصنام وهيأ بما دعيا إليه الذهن للتوحيد فكان ورقة أول من بشر الرسول ... وأمية بن الصلت قال عنه الرسول: آمن لسانه وكفر قلبه.. وعبد الله بن الزبعرى يحاجج الرسول عندما سمع قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 2 قال للرسول: إن النصارى تعبد عيسى فهل هو كذلك.. وما ذلك كان منهم إلا من ثقافتهم.

_ 1 المفصل جـ6 ص509، الطبرى 1/ 414، روح المعانى 1/ 374. 2 سورة الأنبياء آية 98.

الباب الخامس: مكة عاصمة ثقافية ودينية

الباب الخامس: مكة عاصمةٌ ثقافية ودينية الحجاز: إن الحجاز -بعكس الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة- أمضى قرونا طويلة من حياته في القديم، وهو في شبه عزلة عن العالم المتمدن؛ اللهم إلا بعض ما كان له من نشاط تجاري. فجدب الحجاز وقساوة إقليمه، وصعوبة الوصول إليه، ووعورة مسالكه.. كلها كانت عوامل في إبعاد الفاتحين العظام في التاريخ القديم عن غزو هذه البقعة من الجزيرة العربية أو محاولة ضمها إلى إمبراطورياتهم. لهذا: كله، عاش الحجاز حياته الخاصة بعيدًا عن أضواء السياسة العالمية والاحتكاك بالدول؛ وظل أهله على بداوتهم، وارتحالهم إلا في القليل النادر، حيث نشأت بعض المدن التي كان أهمها: "مكة". وقضية البداوة لها دور هام وبارز في الإطار العام لحياة الحجاز في فترة ما قبل الإسلام. والاقتصاد البدوي القائم على الارتحال مع قطعان الماشية، من أجل البحث عن مواطن الكلأ والماء هو اقتصاد الحجاز في هذه الفترة؛ لأنه ما عدا بعض المدن "مكة، المدينة، الطائف" التي كانت كجزر صغيرة في خضم صحراوي كبير؛ كان الارتحال هو ناموس الحياة ومحورها الأساسي. وكما هو معلوم فإن الحياة البدوية تعتمد على تربية الماشية، وبصورة خاصة "الجمال" كأساس في نشاطها اليومي، وكناظم لتحركها، وأسلوب معيشتها. ولما كان تدبير الكلأ، والماء لهذه المواشي هو الشغل الشاغل للناس، فإن التنقل وعدم الاستقرار أديا إلى عدم قيام حضارة مستقرة على أرض الحجاز القديم، وما عدا بعض الواحات وبعض المنبسطات الخصبة في الجبال فإن أرض الحجاز لم تكن صالحة للزراعة، ولا تبنت إلا أعشابا، وشجيرات، تستسيغها الماشية بشكل عام، والجِمال بشكل خاصّ. وكان محصول النخيل أهم محصولات الواحات، أما في المناطق الجبلية المثمرة، كالطائف مثلًا، فقد كان الحبوب تنتج بكميات محدودة، لا تكفي للاستهلاك المحلي.

وكانت هناك مستعمرات يهودية تزرع فيها بعض المزروعات، التي تستهلك محليا، أو تنقل إلى المدن المجاورة لاستهلاك سكانها1. مكة وموقعها المتميز: تقع مكة في وادٍ منحصر بين الجبال في منطقة جافة، ذات مناخ قاريٍّ حار جدًّا في الصيف، قليل الأمطار في الشتاء، وحين تسقط الأمطار، فإنها لا تكون غزيرة، ولكنها تشكل سيولًا، تنحدر من الجبال إلى الوديان والشعاب، وكثيرًا ما جرفت "الكعبة". وإنه مما لا شك فيه أن "مكة" منذ أن ظهرت للوجود كانت مركزًا تجاريًّا هامًّا، وأن ازدهارها كمركز مرتبط إلى أبعد الحدود بوجود الحرم فيها، وهو المنطقة التي تحرم فيها كل أنواع القتل. يضاف إلى هذا موقعها الجغرافي، ووجودها على مفترق الطرق، التي تحمل التجارة من "اليمن إلى سورية"، ومن "الحبشة إلى العراق" قد ساعدا على إضفاء الأهمية التجارية عليها. وهكذا: فقد كانت "مكة" مقصد البدو الذين يرتادونها لشراء ما يحتاجون من البضائع التي تصلها من جميع الجهات، بواسطة القوافل التجارية. وأغلب الظن: أن المكيين كانوا في الأساس وسطاء تجاريين، أو تجار مفرق، ولم يكونوا من فئة المستوردين الكبار، الذين ينظمون القوافل ويسيرونها2. ويذهب التجار المكيون بالمقابل إلى الحيرة ليبتاعوا، وينقلوا ما يحتاجون من منتوجاتها. كذلك كان نشاط المكيين التجاري واسعًا مع بلاد الشام، فقد كانوا يأتون إليها حاملين بضائع الهند، ويعودون منها ومعهم الحبوب والزيت، والخمور والأسلحة، والمنسوجات والجواري. وكان الصيف هو الفضل الذي تقصد فيه قوافلهم بلاد الشام، تزور مدن "غزة" حيث دفن هاشم جد النبي -صلى الله عليه وسلم- و"آيلة": و"بصرى"، وتعود بعد أن تقوم بعملية البيع والشراء محملة بالبضائع من جديد.

_ 1 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص223، ص224. 2 المصدر السابق ص225، ص228.

أما مع الحبشة: فقد كانت تجارتهم تجري عن طريق البحر، وكذلك كانت رحلاتهم التجارية إلى اليمن تتم في فصل الشتاء، وكدليل على أهمية التجارة عند المكيين، يمكننا أن نذكر الألفاظ المتعلقة بالتجارة وهى كثيرة جدًّا "بالقرآن الكريم"، حيث نجد: كلمات تجارية مثل: "حساب، ميزان، قسط، ذرة.." تتردد كثيرا، ولم يقتصر العمل بهذه المهنة على الرجال؛ بل اشتغلت بها النساء؛ كخديجة بنت خويلد، وهند بنت عبد المطلب وغيرهما. وقد مهر المكيون بالتجارة لدرجة ضرب بها المثل، فكان يقال مثلا عن عبد الرحمن بن عوف أنه كان يحصل الذهب من الحجارة. وكان البعض يقوم بهذه التجارة مستقلًّا لنفسه؛ بينما كان آخرون، يتشاركون في تجارتهم، ويقوم عدد كبير منهم في تجهيز قافلة واحدة، ويسير أصحاب القافلة مع قوافلهم بأنفسهم، أو يرسلون أجيرا لهم أو إنسانا يستأجرونه لهذا العمل. ولتأمين حماية القوافل كانوا يعقدون الاتفاقيات مع رؤساء القبائل التي ستمر قوافلهم في أراضيها. وحين تقصد هذه القوافل بلدا معينا كانوا: يعقدون محالفات مع رؤساء أو حكام هذه الدول. وتسمى هذه المعاهدات عادة "بالإيلاف". وقد أدى هذا النشاط التجاري -عند المكيين- إلى نشوء أعمال مصرفية، ونشوء طبقة من الصيارفة يهتمون بشئون عملات الدولة التى يتعامل معها المكِّيون. كما وجد المرابون الذين يقومون بالإقراض، ويفرضون الفوائد الفاحشة على المدينين1. علاقات "مكة" التجارية: أقدم من سجل اسمه من اليونان في سجل العلاقات العربية اليونانية هو: "الإسكندر الأكبر" 356- 323 ق. م. بعد أن سيطر هذا الرجل الجبار الغريب

_ 1 تاريخ العرب القديم وعصر الرسول ص229، ص230 ص131 باختصار وتصرف.

الأطوار، الذي توفي شابًّا على أرض واسعة، وأسس إمبراطورية شاسعة الأرجاء، ذات منافذ على البحر الأحمر، والخليج العربي، وبعد أن استولى على مصر، والهلال الخصيب، فكر في السيطرة على جزيرة العرب، وجعلها جزءًا من إمبراطوريته؛ ليتم له بذلك الوصول إلى سواحل المحيط الهندي، والسيطرة على تجارة "إفريقية، وآسية"، وتحويل ذلك المحيط إلى بحر يوناني. وقد شرح الكاتب "أريان" المولود سنة 95 ب. م، والمتوفى سنة 175 ب. م الأسباب التي حملت الإسكندر على التفكير في الاستيلاء على جزيرة العرب وعلى بحارها في الكتاب السابع من مؤلفه Anabasis Alexxandri، فذكر أن هناك من يزعم أن الإسكندر إنما جهز تلك الحملة البحرية؛ لأن معظم القبائل العربية لم ترسل إليه رسلا؛ للترحيب به ولتكريمه فغاظه ذلك. أما "أريان" فإنه يرى أن السبب الحقيقي الذي حمل الإسكندر على إرسال هذه الحملة يكمن في رغبته في اكتساب أرض جديدة. وأورد "أريان"1 في كتابه قصة أخرى خلاصتها: أن العرب كانوا يتعبدون لإلهين هما: "أورانوس، ديونيسوس". وجميع الكواكب وخاصة الشمس فلما سمع "الإسكندر" بذلك أراد أن يجعل نفسه الإله الثالث للعرب. وذكر أيضا: أنه سمع ببخور بلاد العرب وطيبها، وحاصلاتها الثمينة، وبسعة سواحلها، التي لا تقل مساحتها كثيرا عن سواحل الهند، وبالجزر الكثيرة المحدقة بها، وبالمرافئ الكثيرة فيها، والتي يستطيع أسطوله أن يرسو فيها، وببناء مدن يمكن أن تكون من المدن الغنية، وسمع بأشياء أخرى. فهاجت فيه هذه الأخبار الشوق إلى الاستيلاء عليها؛ فسير إليها حملة بحرية للطواف بسواحلها إلى ملتقاها بخليج العقبة.

_ 1 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام جـ2 ص5، أ. د/ جواد علي ط. دار العلم.

ليست فتوحات الإسكندر، التي قذفت بالإغريق، والرومان إلى مساحات واسعة من آسية حدثًا سياسيًّا فحسب؛ إنما هي: فصل من فصول كتاب التأريخ البشري؛ نقرأ فيه أخبار التقاء العالمين: الشرقي، والغربي، وجهًا لوجه على مساحات واسعة من وجه المسكونة؛ ونزعة الغرب في السيطرة على الشرق وتأثر الحضارات والثقافات بعضها ببعض، وحصول علماء اليونان والرومان على معارف مباشرة عن أحوال أمم كانوا يسمعون أخبارها من أفواه التجار والسياح والملاحين، فإذا وصلت إليهم كان عنصر الخيال فيها الذي يميل إلى التفخيم، والتجسيم قد انتهى من عمله، وأدى واجبه. فصححت فتوحات "الإسكندر" هذه للهلال الخصيب ولمصر بعض تلك الأوهام، وجاءت بعلماء من اليونان إلى هذه البلاد؛ ولا سيما مصر، فأفادوا، واستفادوا وصارت "الإسكندرية" بصورة خاصة، وبعض مدن بلاد الشام ملتقى الثقافات؛ الثقافات الشرقية، والثقافات الغربية، ومركز الاتصال العقلي بين الغرب والشرق؛ وبقيت الإسكندرية محافظة على مكانتها هذه حتى ظهور الإسلام. وقد حملت فتوحات "الإسكندر"، والحروب التي وقعت بين الروم والفرس إلى الشرق الأدنى دمًا جديدًا هو: دم الإغريق، ومن دخل في خدمة "الإسكندر"، واليونان والرومان من الجنود والمتطوعة والمرتزقة من سواحل البحر المتوسط الشمالية، وما صاقبها من أصقاع أوربية. لقد بنى "الإسكندر" الأكبر مدينة Gharax- على ملتقى نهر: "كارون" بدجلة، وأسكنها أتباعه، وجنوده ومواطني المدينة الملكية كما بنى مدنا أخرى، وقد كان من المحبين المولعين ببناء المدن، وبنى خلفاؤه مدنا جديدة في الشرق، وكذلك من أخذ تراثهم من اليونان والرومان. وحمل الفرس عددًا من أسرى الروم، وأسكنوهم في ساحل "الخليج" وفي مواضع أخرى. وطبيعي أن تترك سكنى هؤلاء في الشرق أثرًا ثقافيًّا في الأماكن التي أقاموا فيها، وفي نفوس من جاوروهم أدرك قيمته المؤرخون المعاصرون1.

_ 1 المفصل جـ2 ص11، ص12.

وفي أيام "بطليموس فيلادلفوس" كذلك أسست موانئ جديدة على سواحل البحر الأحمر لرسو السفن فيها، وللمحافظة على الطرق البحرية من لصوص البحر بلغت مداها جزيرة "سقطرى"؛ حيث أنشئت فيها جملة مستعمرات يونانية؛ وقد بقي اليونانيون فيها عصورا، غير أن نزولهم فيها لا يدل على احتلالهم لها1. ويذكر الباحثون أن تسميتها جاءتها من "السنسكريتة" "دفيبا سوخنزا". وهى تسمية إن صح أنها من هذا الأصل فإنها تدل على صلة أهل "الهند" بها منذ عهد قديم. وأهلها خليط من عرب وروم إفريقيين وهنود يتكلمون بلهجات متداخلة، وهذا الاختلاط نفسه أمارة على الأهمية التي كانت للجزيرة في ذلك الزمن. وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن أكثر أهلها نصارى عرب، وأن اليونانيين الذين فيها يحافظون على أنسابهم محافظة شديدة، وقد وصلوا إليها في أيام "الإسكندر". ويزعم بعض الإخباريين: أن "كسرى" هو الذي نقل اليونانيين إليها؛ ثم نزل معهم جمع من "مهرة" فساكنوهم، وتنصر معهم بعضهم، وفي الروايات العربية عن: الروم الذين بجزيرة "سقطرى" شيء من الصحة2. لقد أحدث دخول اليونان البحار الجنوبية من الخليج العربي ومن البحر الأحمر احتكاكا مباشرا بين الثقافة اليونانية والثقافات الشرقية، وقد عثر على كتابات يونانية في مواضع متعددة من الخليج، ومن السواحل الإفريقية تتحدث عن وجود اليونان في هذه الأماكن3. وقد عثر في خرائب مدينة "تمنع" على كثير من الأشياء الهيلينية الأصل، أو المتأثرة بالهيلينية من تماثيل، وتحف فنية، وفخار وما شابه ذلك هي من نتائج التبادل التجاري، والاتصال، الذي كان بين حوض البحر المتوسط، وعرب الجنوب3.

_ 1 المصدر السابق جـ2 ص24. 2 السابق جـ2، ص24، ص25، مروج الذهب جـ1 ص335، معجم البلدان جـ5 ص93. 3 المفصل جـ2 ص30.

مكة والصراعات السياسية بين الفرس والرومان

مكة والصراعات السياسية بين الفرس والرومان: وفي جملة ما اتخذه البيزنطيون من وسائل التأثير في الشرقيين وفي جملتهم العرب: نشر النصرانية الديانة التى قبلوها، ودانوا بها، واتخذوها ديانة رسمية للدولة. وتمكنت النصرانية من كسب بعض العرب فجرتهم إليها، وجذبت إليها القبائل الساكنة على حدود الأرياف والأطراف؛ أي: سكان المناطق الحساسة الدقيقة بالنسبة إلى الخطط السياسية والعسكرية "للساسانيين" و"للبيزنطيين" على حد سواء. وقد كان من سوء المصادفات أن النصرانية كانت قد تجزأت إلى شيع؛ وأن غالبية النصارى العرب تمذهبت بمذهب يخالف مذهب الروم؛ ولكنها كانت تشعر على كل حال أنها مع الروم على دين واحد، ولهذا: لم يحفل ساسة "القسطنطينية" كثيرا بموضوع اختلاف المذاهب، وإن تألموا من وجوده وظهوره، فساعدوا نصارى اليمن، ونصارى الأماكن الأخرى من جزيرة العرب على اختلافهم عنهم، وعملوا في الوقت نفسه على نشر مذهبهم بين العرب؛ ليتمكنوا بذلك من إيجاد محيط ثقافي سياسي يؤيد البيزنطيين1. وشجع "الساسانيون" مذهب "نسطور" مع أنهم كانوا مجوسًا ولم يكونوا نصارى، وشجعوه؛ لأنه مذهب يعارض مذهب الروم، فانتشر في العراق، وفي إيران، وفي سائر الأرضين الخاضعة للحكم الساساني، ودخل في هذا المذهب أكثر النصارى العرب في العراق. وكان من نتائج العداء الموروث بين "الساسانيين" و"البيزنطيين" أن انتقلت عدواه للعرب أيضًا. فصار أناس منهم مع "الفرس" وآخرون مع "الروم" وبين العربين عداوة وبغضاء، مع أنهما من جنس واحد، وكلاهما غريب عن الساسانيين والبيزنطيين.

_ 1 السابق جـ2 ص628.

وقد تجمعت هذه العداوة: في غزو "عرب الحيرة" للغساسنة، وفي غزو "الغساسنة" لأهل الحيرة، حتى في الأيام التي لم يكن فيها قتال بين الفرس والروم، مما أدى أحيانا إلى: تكدير صفو السلم، الذي كان بين البيزنطيين والساسانيين1. أما ملوك "الساسانيين" فقد كانوا يتاجرون مع العرب، يشترون منهم، ويبيعونهم ويرسلون القوافل بأسمائهم إلى العربية الجنوبية؛ لبيع ما تحمله في أسواقها، ولشراء سلع العربية الجنوبية يحملونها إلى أسواق العراق، وقد كانوا يوكلون حراستها إلى جماعة يختارونهم من سادات القبائل المهيبين المعروفين بِجُعْل يدفعونه لهم2. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن جماعة من أهل مكة قد تخصصت بالاتجار مع العراق، وقد كان لها تعامل مع "كسرى"؛ وربما مع كبار رجال دولته أيضا، من أولئك الذين اقتدوا بملوكهم في الاشتغال بالتجارة وبالنزول إلى الأسواق. فإنا نجد أناسا من كبار تجار مكة كانوا يفدون على المدائن، ويتصلون بديوان "كسرى"، ويتعاملون هناك بيعا وشراء. وكانت لهم دالة على ملك المدائن، وربما كان يساعدهم هو نفسه في مال القوافل، أو يجعل له نصيبا من الأرباح3.

_ 1 المصدر السابق جـ2 ص631. 2 المصدر السابق جـ2 ص632. 3 المصدر السابق جـ2 ص633.

بناء البيت والدعوة إلى التوحيد

بناء البيت والدعوة إلى التوحيد: رأينا من عرضنا السابق لتاريخ المنطقة العربية وخاصة شبه الجزيرة العربية أنها لم تكن معزولة عمن حولها: سياسيا، اقتصاديا، ثقافيا، أو دينيا، فرأينا كيف قامت هنا أو هناك تحت إشراف الكنيسة التي أنشأتها وساعدت على قيامها مدارس وميول مذهبية، وهكذا كنا نرى أنها لا تكاد توجد إلا ويعطل رئتيها الهواء، وهذه المدارس الوليدة كانت صبغة دينية ولسانها لا يرطن بغير السريانية لغتها القومية.

ومع هذا الاضطهاد وجدت قبائل عربية ذات مظهر حضاري اعتزلت الأوثان إلى المسيحية، وكنا نلاحظ أن الدافع إلى هذا التغيير ليس دينيا خالصا إنما بعضه كان سياسيا. ووجدت قبائل يهودية الأصل، أو يهودية الدين، غير الجنس، أى قبائل عربية في يثرب، ويختلف المؤرخون حول تاريخ نزولهم، وأصلهم في هذه المنطقة، وهل هي قبائل يهودية الأصل؟ أو قبائل عربية تهودت؟ والاحتمال الثانى له من أسمائهم العربية ما يسوغه، وهذا فضلا عن التيارات الأخرى. كانت هذه التيارات حول مكة، مركز المنطقة العربية، فهل تجاوبت مكة مع هذه التغيرات؟ أو بمعنى آخر: هل أحست مكة بهذه التغيرات؟ وما دلائل هذا الإحساس؟ لا شك أن هذه الأشياء بدَّدت سكون المنطقة العربية، وأحلَّت فيها تغيرات شاهدناها محصورة على مستوى أفراد من القبائل، ولم يبلغ مستوى عامتها إلى الشعور الاجتماعى. - فوجدنا من تمرد على الوثنية، وأطلقوا على أنفسهم "المتحنثين". - ومن اعتنق المسيحية. - ومن اعتنق الحنيفية، وأتى بها من الشام. - ووجدنا من تثقف ثقافة عامة تلقاها في مدرسة جنديسابور مثل: النضر بن الحارث ووالده الحارث بن كلدة. - ومن كان عنده "مجلة لقمان"؛ مثل: سويد بن الصامت. - والداعون إلى توحيد الله بفطرتهم مثل: قس بن ساعدة. - وطبقات من الحكماء. مثل: أكثم بن صيفي. - والإباحيون، الذين يسبون أصنامهم؛ مثل: امرئ القيس. - ورواية تاريخية تسند إلى"عمرو بن لحي" أنه أتى بصنم من بلاد البلقاء بعد غزو الإسكندر للشرق. - ووجدنا فيها الصابئين والمجوس. ونلاحظ أن: هذه التغييرات كان منها: ما هو شرقي، وما أكثره، ومنها ما هو هيليني، وذلك يظهر في الأصنام.

كذلك لم تبق الجزيرة العربية بمنأى عن ديني التوحيد الكبيرين اللذين قاما على حدودها. فقد نفذت اليهودية والمسيحية إلى الصحراء. ومن المصادر المهمة التي تفيد كثيرًا في معرفة المساحة الجغرافية التي انتشرت فيها اليهودية، المسيحية والمجوسية، وبعض العقائد الوثنية على خريطة شبه الجزيرة العربية وخارجها؛ كتاب: "فتوح البلدان للإمام: أبي الحسن البلاذري المتوفى 296هـ". فلقد ضمنه كثيرا من الإشارات المهمة في جمل وجيزة، عن بعض أحوال البلاد التى فتحها المسلمون من حيث العقائد المسيحية، أو اليهودية أو المجوسية، أو الملل الوثنية، التي قد لا يعثر عليها في المصادر المعنية بدراسة موضوع العقائد والأديان والمذاهب. كذلك يمكن للقارئ أن يتتبع موضوع العقائد التي انتشرت في رقعة فتوح البلدان، التي فتحها "الله" عليهم من خلال كتب المصالحة التي صالح الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها أهل تلك البلاد أو صحابته؛ فإنه كثيرًا ما ينص فيها على عقائد تلك البلاد. كذلك يمكن للقارئ من خلال كتب المصالحات، أو المعاهدات أن يتبين العلاقة بين أصحاب الأديان المختلفة في البلد الواحد، فهل الغلبة لليهودية، أو المسيحية، أو المجوسية، أو الوثنية؟ ومن منهم كان أكثر استجابة للإسلام، وأمنعهم عليه؟ ومن منهم كان أكثر تآمرا عليه، وغدرا به؟ مثال ذلك: 1- ما رواه عن المجوس حين تحصن "المكبر" الفارسي صاحب كسرى، وانضم إليه المجوس، وامتنعوا عن أداء الجزية. 2- ومن ذلك قوله: فكره المجوس واليهود الإسلام، ورحبوا أداء الجزية. 3- وقوله: قال هشام: وسمعت مشايخنا يذكرون: أن اليهود كانوا كالذمة، يؤدون إليهم الخراج فدخلوا معهم الصلح. وذلك كان فتح مدينة دمشق. 4- وثنية دومة الجندل:

ذكر البلاذري: صلح دومة الجندل، الذي كتب به "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" لأكيدر. حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد، والأصنام. وقال في رواية: وكانوا من عباد الكوفة؛ أى: كانت وثنية. 5- مسيحية نجران: ويبدو أن المسيحية كانت غالبة على نجران. يقول البلاذري: دخل يهود نجران مع النصارى في الصلح، وكانوا كالأتباع لهم. 6- صلح اليمن: وفي صلح اليمن ورد فيه: وجز رءوس من أقام على النصرانية والمجوسية، واليهودية منهم. 7- أمر نصارى بنى تغلب: روى البلاذري وهو يتكلم عن أمر نصارى بنى تغلب بن وائل: أن نصارى بني تغلب يطلق عليهم نصارى العرب، وقال: ليس في مواشي أهل الكتاب صدقة إلا نصارى بني تغلب، أو قال نصارى العرب. 8- البحرين: قال البلاذري: وكانت أرض البحرين من مملكة الفرس، وكان بها خلق كثير من "عبد القيس"، و"بكر بن وائل"، وكان على العرب بها من قِبَل الفرس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنذر بن ساوي أحد بني عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة، وعبد الله بن زيد هذا هو الأسبذي، نسب إلى قرية بهجر يقال لها: الأسبذ، ويقال: إنه نسب إلى الأسبذيين، وهم قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين. فلما كانت سنة ثمانٍ: وجه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والعلاء بن عبد الله بن عماد الحضرمي حليف بني عبد شمس إلى البحرين؛ ليدعو أهلها إلى الإسلام أو الجزية، ثم قال: فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى: فإنهم صالحوا العلاء فكره المجوس واليهودُ الإسلامَ، وأحبوا أداء الجزية، فقال منافقو العرب: زعم محمد أنه لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، وقد قبلها من

مجوس هجر وهم غير أهل كتاب، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} . [المائدة: 108] . وذلك قلٌّ من كثر، ذكرناه لبيان لقيمة الكتاب لدى الباحث، الذي يريد رسم منحنى بياني لانتشار اليهودية، والمسيحية، والمجوسية في شبه الجزيرة، وما فتحه المسلمون من البلاد والدول. يقول المقدسي في معرض ذكره شرائع أهل الجاهلية ومللها: "كان فيهم من كل ملة ودين. وكانت "الزندقة، والتعطيل" في قريش، "والمزدكية والمجوسية" في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، والشرك وعبادة الأوثان في سائرهم. ونستطيع أن نقول: إن قلب الجزيرة العربية في مكة استقبل تيارات متضاربة من الأفكار، والمذاهب، والديانات؛ مثل المزدكية واليهودية والمسيحية الشرقية، والبوذية، والعقائد السحرية الآتية من بلاد الزنوج، وكلها نجد لها ردود فعل في القرآن الكريم. لكن السؤال هو: إذا كانت الاتجاهات الدينية وجدت في مكة كلها، أو أكثرها، وفدت إليها من خارج فما هو الاتجاه الديني لمكة؟

نبي الله إبراهيم والجزيرة العربية

نبي الله إبراهيم والجزيرة العربية: عصر إبراهيم الخليل يرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وهو عصر عربي بحث قائم بذاته وبلغته، وهى مرتبطة بالجزيرة العربية وبلغتها وبقبائلها التي سميت فيما بعد: بالعرب البائدة لانقراضها. وقد كانت القبائل العربية المعروفة بالقبائل البائدة آنئذ على قيد الحياة في جزيرتهم في هذا العهد، وقد أدت دورًا مهما في تنمية الحضارة العربية السامية. وقد نبه "القرآن الكريم" على ذلك بربط صلة إبراهيم الخليل بالجزيرة العربية، وبيت الله العتيق، وليس بفلسطين.

وإن الأثريين ميزوه عن الأدوار التالية، وأطلقوا عليه تسمية: "عصر الجوالين". ومن المهم ذكره في هذا الصدد أن القرآن الكريم كان أول كاشف لنا عن هذه الحقيقة، وقد جاءت المكتشفات الأثرية حول الهجرات السامية ودراسة علم المقارنة بين اللغات مؤيدة لهذه الحقيقة نفسها التى تربط صلة إبراهيم بجزيرة العرب. والتوراة ترى أن أرض فلسطين باعتراف التوراة ذاتها كانت أرض غربة بالنسبة إلى آل إبراهيم وآل إسحاق وآل يعقوب؛ إذ كانوا مغتربين في أرض فلسطين بين الكنعانيين سكانها الأصليين، والتوراة تتحدث عنهم بصفتهم غرباء وافدين طارئين على فلسطين1. أما وطنهم الأصلى فهو "أرام النهرين" أي منطقة حران "حران الحالية" حيث كانت العشائر الآرامية، المنتمية إليها قد استقرت عند منابع نهر البليخ بعد هجرتها من الجزيرة العربية2. ثم نزحت فروع من هذه القبائل إلى جنوب العراق "منطقة بابل" فكان إبراهيم الخليل من ذريتها، وقد وردت كلمة "اغتراب" كلما ذكر تنقل إبراهيم في فلسطين وفي مصر، فقيل: "تغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين"3.

_ 1 وقال إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على ما كان له: ضع يدك تحت فخذي فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين؛ أنا ساكن بينهم؛ بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني إسحاق "تك 24: 2-4"، "ثم أخذ العبد عشرة جِمال من جِمال مولاه، ومضى وجميع خيرات مولاه في يده، فقام وذهب إلى آرام النهرين إلى مدينة ناحور" "تك 40: 2-10"راجع أيضا "تك 24: 33-38". 2 أليست هذه عادة أصيلة لا علاقة لها بالتقاليد اليهودية؟ ثم ألا يستشف منه أن سيدنا إبراهيم الخليل "عليه السلام" كان غريبا وفردا في أرض كنعان؟ أو لم يكن بإمكانه فيما لو كان هناك يهود من عشيرته تزويج ولده من إحدى بناتهم بدلا من إرسال عبده إلى آرام النهرين؛ لِجلبه عروسًا لابنه من هناك فلا يفرح بزواج ولده إسحاق؛ راجع أيضا: 28: 1-2 "تك 47- 9". 3 يحب التمييز هنا بين بنى إسرائيل عند هجرتهم إلى مصر في القرن السابع عشر قبل الميلاد وهم أسرة واحدة لم يتجاوز عدد أفرادها السبعين شخصًا، وبين قوم موسى عندما نزحوا إلى فلسطين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، لأن أسرة إسرائيل انصهرت وذابت في المجتمع المصرى على مر الزمن بحيث لم يبق لها أي أثر عندما غزا النبي موسى -عليه السلام- وأتباعه أرض فلسطين بعد خروجهم من مصر بعد مرور حوالي ستمائة عام على زمن دخول أسرة يعقوب إلى مصر. لقد كان هؤلاء يؤلفون حملة مصرية بحثة أكثرها من بقايا الهكسوس ومن الجنود المصريين الفارين كما سنوضح ذلك فيما بعد.

و"انحدرا إبرام إلى مصر للتغرب هناك"1 وانتقل إبراهيم إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وأشور في جرار2 ... ولما اشترى إبراهيم مغارة المكفيلة من الحيثيين في حبرون قال لهم: "أنا غريب ونزيل عندكم، أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي"3، ومثل ذلك ورد في التوراة فيما يخص إسحاق ويعقوب: "وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه كنعان4" وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه في حبرون؛ حيث تغرب إبراهيم وإسحاق5، "تصرخ وتقول أمام الرب إلهك: أراميا تائها كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرب هناك"، وهكذا فلا يمكن أن تكون كلمة "تغرب" بمعنى اتجه نحو الغرب؛ لأن ورود كلمة "أرض الغربة" تنفي هذا الاحتمال. ثانيًا: إن أنباء إسرائيل الاثني عشر ولدوا كلهم باعتراف التوراة في فران آرام منطقة حران6 حيث مكث يعقوب المسمى إسرائيل عشرين سنة7، ويعني ذلك أن مولدهم ونشأتهم كانا خارج فلسطين، وهؤلاء هم بنو إسرائيل الذين ورد ذكرهم في التوراة. {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} 8، "قرآن كريم". يتضح مما تقدم أن تسمية إبراهيم "إبراهيم الخليل" بالعبرانى كما في التوراة كان يراد بها معنى "العبريين"؛ أي القبائل البدوية العربية، والقبائل الآرامية التي

_ 1 تك:" 32: 1: 10. 2 تك: 20: 1. 3 تك: 23: 4. 4 تك: 37: 1. 5 راجع أيضا: "وظهر الرب لإسحاق وقال: لا تنزل إلى مصر اسكن في الأرض التي أقول لك تغرب في هذه الأرض" تك "26: 1-3". 6 تك "35: 27" راجع أيضا ثم أخذ عيسو نساءه وبنيه وبناته وجميع نفوس بيته من وجه أخيه يعقوب لأن أملاكهما كانت كثيرة على السكن معا ولا تستطيع أرض غربتهما أن تحملهما من أجل مواشيهما. تك 26: 6-7. 7 وكان بنو يعقوب اثني عشر أخا، بنو ابنه: روابين وشمعون ولاوي ويهوذا وعساكر وزبولون، وابنا راحيل: يوسف وبنيامين، وابنا بلهة جارية راحيل: دان ونفتالى وابنا زلقة جارية ليئة وأشير وهؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فران أرام "تك 15: 23-26". 8 الآية 67 من سورة آل عمران.

ينتمي إليها الخليل نفسه. وبهذا المعنى جاءت كلمة "عبيرو" التي عثر عليها في النصوص المصرية والتي تعود إلى القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد، ويعترف جورج بوست في مصنفه "قاموس الكتاب المقدس" بأن لقب إبرام بالعبراني لم يقصد به الإسرائيلي وإنما يمكن تأويله على تعبيره بإبرام السائح أو المهاجر1؛ فقد عثر في تل العمارنة بمصر على ست رسائل من أحد ملوك منطقة أورشليم الكنعانية اسمه "عبد خيبا" موجهة إلى فرعون مصر أمنوفيس الرابع يتكلم فيها عن "العبيرو" الذين اجتاحوا بلاده. ولما كانت أرض فلسطين في هذا الدور محمية مصرية فإن "عبد خيبا" يقول في رسائله: لم يبق في أرض مولاي الملك شيء.. نهب "العبيرو" كل البلاد من سيد الملك.. البلاد وقعا في أيدى "العبيرو". ومن الواضح هنا أنه يمكن أن يكون "العبيرو" الذين ورد ذكرهم في هذه الرسائل هم اليهود. وهكذا في التوراة حين تصف إبراهيم الخليل بالعبراني تساير واقع الحال باعتباره من قبائل الخبيرو "العبيرو" التي ينتمى إليها، أي القبائل الأرامية، قبل أن يكون لليهود وجود بعد. ويؤيد ذلك المستشرق توردارسون، أستاذ اللاهوت في جامعة أيسلندا، فيرى أن إبراهام شبه بدوي ينتمي إلى القبائل القديمة المسماة بالعبيرو ولعله ينحدر من هذا العرق القبائلي نفسه2، فقد عاش إبراهيم في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، أي في زمن يسبق عهد موسى بسبعمائة عام. وقد ظلت هذه التسمية، أي تسمية عبري وعبراني، تطلق على الجماعات من القبائل النازحة من البادية ومن جهة فلسطين إلى مصر وعلى هذا الأساس صار المصريون يسمون الإسرائليين بالعبرانيين باعتبارهم من تلك الجماعات البدوية3.

_ 1 يلاحظ أن هذه العبارة قد حذفت من الطبعة الجديدة لقاموس الكتاب المقدس لعام 1971، بل وأكثر من ذلك حذفت جميع الدراسات العملية التي قام بها العلامة جورج بوست ليوضع مكانها، خلافا لما جاء في المقدمة -ما يؤكد ربط اليهود بعصر إبراهيم الخليل واعتبار كلمة عبرانيين شاملة لكل أدوار اليهود التاريخية التي تبدأ بإبراهيم الخليل وفقا للتقاليد اليهودية التي تعتبره جد اليهود، ويلاحظ أيضا أن هذا القاموس الجديد يدعم النظرية الصهيونية الحديثة التي تعتبر جميع الأسماء الواردة في التوراة من أسماء أشخاص وأماكن عبرية أي يهودية بقصد إرجاعها إلى عهد العبريين "العبيرو" عن طريق الاستغلال في ذلك الخلط بين العبري واليهودية الذى سار عليه في وقت متأخر للتمويه. إن العبرية القديمة هي في الحقيقة لغة عهد "العبيرو" أي الكنعانيين؛ لأن العبرية بمعنى اليهودية متأخرة ولم تكن قد وجدت في ذلك العهد القديم. من ملاحظات -د. سوسة في كتابه السابق. 2 انظر ما تقدم عن الأخلامو والخبيرو في بحث الآراميين في الفصل الأول. 3 دائرة المعارف البريطانية 1925، م1، ص45.

وأما ما أورده الباحثون من أن كلمة "عبري" مشتقة من عبر أي قطع نهرًا أو غيره أو من "عابر" أحد أسلاف إبراهيم1، فغير مستند إلى أي دليل أو أساس وهي من قبيل الحدس والاجتهاد، وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه الناحية حيث قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 [آل عمران: 66، 67] . ولهاتين الآيتين الشريفتين معنيان؛ المعنى الأول: هو أن إبراهيم ما كان على دين "يهوه إله اليهود بل كان حنيفا مسلما" كما تقدم، والمعنى الثانى: هو أن دور إبراهيم الخليل هو غير دور اليهود، ولا يتصل بدور اليهود الأخير. يتضح من التنبيه الذي ورد في القرآن الكريم أن هناك من وقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه الكتاب العرب بربطهم عهد إبراهيم الخليل باليهود، وأن هذا التنبيه إلى أن إبراهيم الخليل ظهر قبل وجود اليهود وأنه لا يمكن أن يكون يهوديا ثم الإشارة إلى اتصاله بالجزيرة العربية "بيت الله العتيق" يتفق تمامًا مع ما توصل إليه العلماء في ضوء الاكتشافات الأخيرة، وعلى الباحثين أن يتبعوا ما نبه إليه القرآن الكريم في هذا الموضوع؛ لأن استعمال كلمة عبري بمعنى يهودي عندما يبحث عن تلك الأزمان القديمة لا يتفق مع المستند العلمي التاريخي فضلا عما يحدثه من ارتباك إذ يربط اليهود بأدوار تاريخية قديمة3.

_ 1 تكوين: "39، 14- 17، 40-15، 41-12" "خروج 1-15-16، 15-2، 7، 11، 13". 2 وانظر تكوين: "10، 24، 11: 14". 3 فتحى رضوان: "اليهود وبنو إسرائيل" الأهرام "17/ 10/ 1972ص".

إله إبراهيم الخليل غير إله اليهود

إله إبراهيم الخليل غير إله اليهود: إن الإله الذي كان إبراهيم الخليل يدعو لعبادته هو غير إله اليهود الذي تصفه التوراة، دعوة إبراهيم الخليل لعبادة الإله الواحد كانت دعوة عامة موجهة إلى جمع السكان الوثنيين في عصره بلا استثناء الإله الأوحد خالق السموات

والأرض وجميع البشر، رب جميع المخلوقات بدون تمييز بين الأقوام1. ومما يؤيد ذلك أن إبراهيم الخليل لما استدعى عبده وأمره بأن يذهب2 إلى "حران"؛ ليأخذ زوجة لابنه إسحاق من عشيرته هناك قال له: فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض ألا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن معهم3. وقد ورد ذكر هذا الإله الذى دعا إبراهيم إلى عبادته باسم "إيل" في التوراة4، وهو مفرد لكلمة "أباهييم" الكنعانية المراد بها الجمع والتعدد، أي الآلهة، ومنه جاءت تسمية "بيت"5 و"إيل" هو الإله الذي تكلم مع هاجر6. كما ورد هذا المصطلح نفسه في نصوص الكنعانيين والآرامية ثم في النصوص المصرية التي ترجع إلى عهد الهكسوس بهذا المعنى فقيل "يعقوب إيل" و"يوسف إيل" أي يعقوب الإله أو يوسف7 عملا بالطريقة التي كانت متبعة بإضافة اسم الإله إلى اسم الشخص تبركا به كما هو متبع الآن بتسمية الأشخاص بعبد الله وعبد الإله إلخ ... وذلك مما يدل على أن كلمة "إيل" بمعنى الإله الواحد كانت معروفة في كنعان في عهد إبراهيم الخليل وفي عصر الهكسوس الذي يليه أى قبل أن يظهر موسى واليهود بعدة قرون، ولما ظهر اليهود عبدوا إلههم الخاص بهم الذى سمى باسم "يهوه" وهو الإله الذي لا يهمه من العالم والخلق سوى اليهود وشعبه المختار، وذلك على غرار مبدأ التفريد، وهو المبدأ الذى اعتنقه الأقوام القدماء عندما كانت كل مدينة تختص بإله واحد من بين مجموعة الآلهة بدون نبذها عبادة الآلهة الأخرى والقضاء عليها8. وهو حاكمها وهو قائدها على صورة البشر، والبشر على

_ 1 فتحى رضوان: "اليهود وبنو إسرائيل" الأهرام "17/ 10/ 1972 ص7". 2 تكوين 14: 19. 4 تكوين 12: 8، 735-8. 5 تكوين 12: 8، 13: 3. 6 تكوين 16: 13- 14. 7 انظر ما تقدم عن الهكسوس في الفصل الأول وما تقدم عن إبراهيم وإسحق ويعقوب في هذا الفصل. 8 طه باتر، "مقدمة..، "ج2، 303".

صورة الإله، مسكنه في السماء وينزل أحيانا إلى الأرض، فيتفحص الأشكال البشرية، ويكلم البشر بصوت ولفظ ويأكل ويشرب ... إلخ1. وهكذا كان الإله تصوره اليهود إلها قبليًّا خاصًّا بهم، ويناقش آلهة الأقوام الأخرى ويحارب معهم كما كانت الحال عليه في عصر دويلات المدن في العراق القديم. ولا يخفى أن دعوة إبراهيم الخليل للوحدانية الخالصة بدأت في العراق وليس من فلسطين وهي موجهة إلى جميع الوثنيين في عصره ولم تخطر ببال إبراهيم الخليل فكرة الشعب المختار، وهي البدعة التي اختلقها مدونو التوراة وأدخلوها في الكتاب المقدس بعد ربطها بابراهيم الخليل؛ إذ لا يمكن أن تكون هذه الادعاءات منزلة من الإله خالق السماوات والأرض الذى دعا إبراهيم الخليل إلى عبادته قبل أن يظهر اليهود بعدة قرون. لذلك كله تعتبر دعوة إبراهيم الخليل إلى الوحدانية الخالصة أول دعوة عامة للتوحيد بالمعنى الدقيق لمصطلح التوحيد في تاريخ البشرية، وهي عربية لغة ووطنا، كما جاءت بعدها رسالة محمد -عليه الصلاة والسلام- النبي العظيم خاتم الأنبياء، وقد نزلت عليه باللغة العربية أيضا؛ لأن اللغة التي كان يتكلم بها إبراهيم الخليل والآراميون معه في تلك الأزمان هي اللغة العربية الأم التي يرجع وطنها الأصلى إلى الجزيرة العربية، وكانت لغة واحدة تتكلم بها جميع القبائل، وذلك قبل أن تتفرق هذه اللغة الأصلية إلى لهجات مختلفة ضمن كتلة اللغات السامية، وما كان الإسلام إلا ملة إبراهيم حنيفًَا. يقول الدكتور هوميل: "ومما لا يشك فيه أن اللغة الآرامية في عصر أبرام "إبراهيم الخليل" كانت لهجة عربية، ويقصد هنا اللغة الأصلية التي كان يتكلم بها الأراميون في الجزيرة العربية قبل هجرتهم منها، لأن ما نسميه بالآرامية لم يظهر إلى

_ 1 تصور التوراة الإله كشخص يحارب بنفسه من أجل إسرائيل "خروج 14: 14 يشوع 10: 42، 23، 3" وله رجلان ويمشى كالإنسان "خروج 24: 10" ويكتب بأصبعة "خروج 31: 18، 23: 12- 16 19، 34" ويندم على بعض أعماله "1 صموئيل 13- 14 إلخ..".

حيز الوجود إلا بعد زمن متأخِّر جدًّا وأن ما يعرف بآرامية التوراة آرامية عصر المسيح يرجع إلى زمن الفرس وأيام العصر المسيحي1. وقد ورد اسم الإله "إيل" مضافًا إلى أسماء عدد من الملوك المعينيين في اليمن ومنهم: "وقه -إيل"، "يصدق إيل" ملك حضرموت ومعين الذي كان حكمه حوالي سنة 201 ق. م. و"يشع إيل" كما ورد اسم الإله إيل مضافا إلى أسماء بعض ملوك سبأ، والمعروف منهم "يدع إبل" "كرب إيل" وتر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس "وهب إيل"؛ ففى ذلك دليل واضح على ارتباط إبراهيم الخليل بالجزيرة العربية وأن الإله الواحد الذي كان يدعو إلى عبادته إبراهيم الخليل كان معروفًا في جزيرة العرب بصفته "الإله العلي" مثل ما كان معروفا عند الكنعانيين والآراميين بهذه الصفة، وأن إضافة اسمه إلى أسماء بعض ملوك اليمن دليل على أن اسم "إيل عربي الأصل أي الإله". ومما يدل على أن عبادة إبراهيم الخليل للإله "إيل" منفصلة تماما عن عبادة اليهودية للإله "يهوه" التي ابتدعها كتبة التوراة بعد عهد إبراهيم الخليل بأربعمائة وألف سنة أن أسرة إبراهيم الخليل في ثلاثة أظهر كانت تضيف اسم الإله "إيل" إلى أسماء زعمائها، فإبراهيم الخليل نفسه هو النبي الوحيد الذي سمي "خليل الله" كما ورد في القرآن الكريم {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 2. ومن المرجح أن كلمة "خليل" عربية مركبة من "خل" وإيل، بمعنى صديق الإله "إيل"، ومثلها اسم إسماعيل الذي معناه ليسمع للإله "إيل" وكذلك اسم يعقوب "إسرائيل" الذي معناه عبد الإله "إيل". ويؤيد المستشرق ثورير ثوردارسون أستاذ اللاهوت في جامعة إيسلندا كون ديانة التوحيد التي دعا إبراهيم الخليل إلى عبادتها هي خاصة به وبعشيرته ولا صلة لها باليهودية، فيقول في ذلك: "لقد أظهرت المدونات الآشورية من القرن العشرين قبل الميلاد والكتابات التي تعود إلى العصور التي تلي ذلك أن دعوة إبراهيم تستند إلى

_ 1 Dr.F.Homme"the Anicent Tradition" P. 202 2 سورة النساء الآية 125.

الإيمان بالإله العلي، وهذا يتفق مع الصورة التي نجدها في التوراة "أنا إله إبراهيم أبيك"1 فإبراهيم إذن هو مؤسس وحامل لواء هذه الديانة التي تدعو إلى عبادة الإله العلي وأصبحت تقترن بصلة وثيقة بعشيرته2. ومما يذكر في هذا الصدد أن التوراة عندما تتحدث عن إبراهيم الخليل وعن كلامه مع الإله تستعمل كلمتي "الله" و"إيل"، وقال الله لإبراهيم..3 مع أنها تستعمل أحيانا كلمة "الرب" ومثل ذلك هي الحال بالنسبة ليعقوب، ثم قال "الله" ليعقوب: قم واصعد إلى بيت "إيل" وأقم هناك واصنع هناك مذبحا لله ... 4 وظهر الله ليعقوب ... إلخ5. أما الإله "يهوه" فإنه لم يبدأ استعماله إلا في عهد النبي موسى "عليه السلام" إله اليهود وحدهم6.

_ 1 تك 26: 24. 2 دائرة المعارف البريطانية طبعة 1925 "45". 3 تكوين 17: 9. 4 تكوين 35: 1. 5 تكوين 30: 9. 6 خروج 6: 3: 15، 6: 6.

النبوة الإلهية عربية لفظا ومعنى

النبوة الإلهية عربية لفظا ومعنى: ويؤكد المرحوم الأستاذ العقاد أن الإسرائيليين "اليهود" تعلموا النبوة الإلهية بلفظها ومعناها من شعوب العرب، ولم تكن لهذه الكلمة عند الإسرائيليين "اليهود" لفظة تؤديها قبل وفودهم إلى أرض كنعان ومحاورتهم للعرب المقيمين في أرض "مدين". فيقول: "إن كلمة "نبي" عربية لفظا ومعنى؛ لأن المعنى الذي تؤديه لا تجمعه كلمة واحدة في اللغات الأخرى، والعبريون قد استعاروها من العرب في شمال الجزيرة بعد اتصالهم بهم؛ لأنهم كانوا يسمون الأنبياء القدماء بالآباء، ولم يفهموا من كلمة النبوة في مبدأ الأمر إلا معنى الإنذار.. فكانوا يسمون "النبي"

بالرائي1 والناظر، أو رجل "الله" ولم يطلقوا عليه اسم النبي إلا بعد معرفتهم بأربعة من أنبياء العرب المذكورين في التوراة، وهم: "ملكي صادق وأيوب وبلعام وشعيب، الذى يسمونه "يثروب"، وهو معلم "موسى الكليم2". وقد سمي "إبراهيم الخليل" برئيس الآباء3. ويستشهد "العقاد": ببعض علماء الأديان الغربيين، الذين ذهبوا إلى تأييد اقتباس أتباع موسى كلمة النبوة من العرب: الأستاذ/ "هولشر" والأستاذ/ "شميدت" اللذين يرجحان أن: الكلمة دخلت اللغة العبرية بعد وفد القوم على فلسطين، فتسير التوراة إلى أن "عاموس" اغتاظ وغضب لما أطلق عليه اسم نبي وقال: لست أنا نبيًّا ولا أنا ابن نبي بل إسرائيل4، أنا راعٍ وجاني جميز. فأخذنى الرب من وراء الضأن، وقال الرب: اذهب تنبأ لشعبي.

_ 1 عا "7: 12". 2 عب "7، 94". 3 عا "7: 14، 15". 4 العقاد -الثقافة العربية ص71.

إلى وإيل

إلى وايل: يجد الباحثون صعوبة في الاتفاق على تعبين أصول أسماء مثل: أل. إيل. وضبط معانيها، وهناك أسماء واضحة، جلية ظاهرة، تدل على أشياء معروفة محسوسة مثل: شمس، ورخ "بمعنى قمر" وعثتر، والشعرى العبو، ونجم، وثريا ... وأمثال ذلك من أسماء تشير إلى أشياء مادية هى كواكب ونجوم، ويستدل بها على وجود عبادة الأجرام السماوية عند الجاهليين. وهناك أسماء هى نعوت في الواقع لا تدل على ظواهر حسية؛ وإنما تعبر عن أمور معنوية مثل: ود، بمعنى حب، ورضي، وسعد، وحكم، ونهي، ورحمن، ورحم، والرحيم، ومحرم.

وأمثال ذلك من ألفاظ هى نعوت جرت بين الناس مجرى الأسماء وعلى هذه الصفات الأسماء سيكون جل اعتمادنا في استنباط الصورة، التي نريد تكوينها عن طبيعة آلهة العرب الجنوبيين. وعلينا أن نضيف على ما تقدم الأعلام المركبة المضافة للأشخاص مثل: عبد ود، عبد مناف، عبد شمس، عبد يغوث، أمت العزى. فالكلمات الثانية من الاسم، أسماء أصنام، وفي تركيب الاسم على هذا النحو دلالة على تذلل الإنسان تجاه ربه، واعتبار نفسه عبدًا له، وفيه تعبير عن صلة الأشخاص بربهم، أضف إليها الأعلام المركبة تركيبا إخباريا مثل: ود أبم؛ أي ود أب أو أب ود. ففى هذا التركيب دلالة على حنو الإله على المؤمنين به، وإشفاقه عليهم إشفاق الأب على أولاده. ومن بين أسماء الآلهة أسماء مركبة استهلت بـ "ذ" أو ذتع، "ذأ" بمعنى "ذو" في عربيتنا، "ذت" بمعنى "ذات"، "ذ" للمذكر، "ذات" للمؤنث. أما الكلمات التالية فهى صفات فجملة: عثتر ذ قبضم تدل على إله ذكر، اسمه عثير ذو القبض. أو عثتر القابض بتعبير أصح. وجملة "ذشقرن"، "ذصهرم"، "ذعذبتم"، "ذيسرم"، "ذابنى" هى جملة تشير إلى أن ذكر لوجود "ذ": علامة التذكير فيه. "جملة ذت حمم" "ذت بعدن"، "ذت" "سرن"، "ذت غضدن" تشير إلى آلهة إناث لوجود ذت في الاسم. ومعنى هذا أن العرب الجنوبيين كانوا قد جعلوا الآلهة كالإنسان إناثا وذكورًا. وكل اسم ورد في المسند استهل بلفظة "ذت"، "ذات" فيراد به "الشمس"، وهي إلهة. وكل لفظة بدأت بـ "ذ"، "ذي"؛ فإنها تعني: هو "القمر" أو "عثتر". فنحن أمام ثالوث سماوي يمثل عقيدة الجاهليين في الألوهية، كما يمثل عقيدة الساميين عمومًا.

والثالوث السماوي هو نواة الألوهية عند جميع الساميين، ومنه انبثقت عقيدة التوحيد فيما بعد. "وعثتر" هو: النجم الثاقب، المذكور في القرآن الكريم. في قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3] . وقد ذهب المفسرون إلى أن العرب كانت تسمي "الثريا" النجم، وذكر بعض منهم: أن "النجم الثاقب" هو "زحل"، والثاقب الذي قد ارتفع على النجوم. وذكر بعض آخر: أن النجم الثاقب هو "الجدي". وأقسم في موضع آخر من القرآن الكريم بـ: "النجم" في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] . ونحن لا يهمنا هنا اختلاف علماء التفسير في تثبيت المراد من النجم: إنما يهمنا أن المراد به النجم من النجوم، فنكون أمام ثالوث معبود هو: الشمس. القمر. النجم الثاقب الذي هو "عثتر" في نصوص العرب الجنوبيين. وقد ذكر أن العرب تعبدت "للشمس" و"للقمر". وأن طائفة منها تعبدت لكواكب أخرى مثل: الشعرى؛ حيث: تعبدت لها خزاعة وقيس. ومثل: سهيل؛ حيث: تعبدت لها طيئ. ومثل: الزهرة؛ وقد تعبد لها أكثر العرب. ومثل: زحل؛

وقد تعبد له أهل مكة حتى أن من الباحثين من زعم أن الكعبة كانت معبدا لزحل في بادئ الأمر. المشترى؛ وتعبد للمشترى قوم من لخم وجذام. ونجد في الكتابات العربية الجنوبية جملة: ود أبم؛ أي: "ود أب"، "وأبم ودم" أي "أب ود". كما نجد جملة: ولد ود؛ أي: أولاد "ود" بمعنى شعب معين. وتعبر الجمل الأولى عن معنى أن الإله "ود" هو إله شفيق رحيم عطوف على الإنسان هو بالنسبة له بمنزلة الأب من الابن. فهو أب للإنسان لا بالمعنى الحقيقى بالطبع أي: بمعنى أن الإنسان انحدر من صلبه، بل بالمعنى المجازى الذى أشرت إليه. وبهذا المعنى نفسر جملة "أولاد ود" تعبيرا عن شعب معين فالإله "ود" هو أب هذا الشعب يحميه ويدافع عنه، ويعطف عليه، وبهذا المعنى وردت أيضًا جملة: ولد عم: عند القتبانيين. وولد المقة: عند السبئيين. فـ"عم"، الذي هو "القمر" في لغة القتبانيين هو بمنزلة الأب لشعبه وكذلك: "المقه" الذي هو "القمر" في لهجة سبأ. وقد عبر عن "الشمس" بلفظة: هـ "الت؛ أي الآلهة في النصوص العربية الشمالية، وقيل لها: "نكرح" في النصوص المعينية، ذت حمم. ذات حميم. في النصوص السبئية، كما قيل لها: ذت بعدن: ذت غضرن، ذت ظهرن:

في هذه النصوص كذلك، وقيل لها: ذات صنم: ذت صهرن. وقد وردت: لفظة "حميم ويحموم" في القرآن الكريم في سورة الواقعة آية 3. والحميم: الحار الشديد الحرارة، المتقد من شدة الحر، الساخن الشديد السخونة. وقد ذكر علماء التفسير أن: "اليحموم" دخان حميم، ودخان شديد السواد يخرج من نار جهنم. فمعنى: ذت حمم -إذن- الإلهة ذات الحرارة الشديدة، المتقدة المهلكة، التي تلفح وتحرق. والشمس نفسها حارة ملتهبة متقدة، لذلك يكون الناس قد أخذوا صفتها هذه منها فأطلقوها عليها، وصاروا ينعتونها بها، ويخيفون الناس منها بانتقامها منهم إن خالفوا أمرها، وعملوا عملا يثير غضبها عليهم. ويقابل هذه الآلهة: ذات الحميم: الإله. الحمون. -بعل حمون. عند الساميين الشماليين. فهذا الإله الذكر عند الساميين الشماليين بسبب أن لفظة الشمس نفسها مذكرة عندهم؛ هو "ذو حميم"، و"حما" أي: ذو سخونة وحماوة، وشدة حرارة. وقد نعت عندهم بالنعت الذي نعت به عند العرب، فهو إله ذو حرارة مفزعة، وحميم لا يوصف.

قد استمد هذا الوصف من الطبيعة بالطبع. فالشمس مبعث الحرارة على هذه الأرض، يدرك الإنسان حرارتها في مكان، فهي إذن: ذات حمم حقا1. وقد يعبر عن "الشمس" بـ "الفرس"، و"الفرس": من الحيوانات التى قدسها قدماء الساميين. وقد كان العرب الجنوبيون يتقدمون بتماثيل "الخيل" تقربا إلى الآلهة، ومنها الإلهة "ذت بعدن"؛ أي البعيدة وهي "الشمس". وأما: "عثتر"، الذي هو "الزهرة" فيرد اسمه في نصوص عربية جنوبية كثيرة. ولاسمه هذا صلة بأسماء بعض الجاهليين الواردة إلينا مثل: "أوس عثتر" بمعنى "عطية عثتر". وفي الكتابات العربية الجنوبية أسماء يظن أنها تخص الإله "عثتر" منها: ذ قبضم، ذ يهرق، متب نطين، متب مضجب ... وغيرها. وقد عرف "عثتر" بـ "الشارق" في الكتابات فورد: "عثتر شرقن"؛ أي: "عثتر الشارق"، وعرف بـ "شرقن" فقط2. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد من "شرقن" بمعنى "الطالع من الشرق"، وهو تفسير رده بعض آخر من الباحثين؛ إذ رأوا: أن "شرقن" بمعنى "الشارق"، وهي لفظة ترد في اللهجات العربية الشمالية. وورد في بعض كتابات المسند: "ذغريم"؛ "عثتر ذغريم": أي "الغارب"، و"عثتر الغارب"، ومعنى ذلك: "نجمة الغروب" أو: "نجمة الماء" في مقابل: "نجمة الصباح" و"كوكب الصباح".

_ 1 المفصل جـ6 ص168، ص169. 2 تاج العروس مادة "شرق".

وورد: "عثتر ثورو" أي: "عثتر نور"، ونور صفة من صفات الله تعالى في الإسلام؛ قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، ولفظة "نورو" هي نعت من نعوت "عثتر". ورود "سحرن" بمعنى: السحر، والسحر قبيل الصبح، وآخر الليل، فيراد بذلك "كوكب السحر" أي: الكوكب الذي يطلع عند طلوع السحر، كما ورد "متب نطين"؛ أي إلى مل للرطوبة، وورد: "عثتر قهحم"؛ أي: عثتر القديم، وعثتر القادر والقاهر، و"سمعم" أي: السميع، و"يغل" بمعنى المدمر والمنتقم. وقد ورد: هذا النعت في أحجار القبور بصورة خاصة، وذلك لتذكير من يحاول تغير الحجر أو أخذه من موضعه، أو تدميره أو إلحاق أذى به، أو الاستفادة منه في أغراض أخرى بأنه في حماية إله قدير منتقم1. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الإله "رضى" الذي يرد في النصوص "الثمودية" و"الصفوية" هو الإله "عثتر" وهو: صنم ذكره أهل الأخبار، لكنهم لم يذكروا شيئا عن صلته بالكواكب، ولا عن المعبود الذى يمثله2. وقد ورد: في الأخبار المتعلقة بـ "الرها" أن أهل هذه المدينة كانوا يعبدون "الشمس"، ويعتقدون بوجود إله يطلع قبلها، اسمه: "إزيزوس" Azizos وإله يظهر بعدها يسمى: "مونيموس". وذهب الباحثون: إلى أن "أزيزوس" هو "عزيز" وهو نجم الصباح، ويطلع قبل طلوع الشمس ويمثل "رضى وعثتر". ويرد: اسم "رضى" في الكتابات التدمرية كذلك. "وعزيز والعزيز": من صفات الله تعالى في الإسلام. وقد ذهب: بعض الباحثين إلى أن الصنم المنحوت على شكل طفل هو رمز "عثتر أي رضى، وعزيز". وقد حفر على شكل طفل عاري الجسم في الكتابات التدمرية.

_ 1 المفصل جـ6 ص169، ص170. 2 السابق جزءًا وصفحة Handbuch.

أما- "الشمس والقمر": فقد مثلا إنسانين كاملين ونجد هذا التصور للآلهة في الديانات الفطرية، التي استمدت إدراكها لكُنْه الآلهة عن مظاهر الطبيعة. ولعل تصور الجاهليين الإله: "رضو" على هيئة طفل هو الذي يحل لنا المشكلة الواردة في أخبار "نيلوس" عن تقديم العرب قرابين أطفالا لكوكب الصباح. ذكر "نيلوس" أن العرب سرقوا ابنه الجميل الصغير "ثيودولس"، وقرروا تقديمه قربانا لكوكب الصباح، وقد قضى الطفل ليلة تعسة، صعبة، فلما طلع الكوكب، وحان وقت تقريب الطفل قربانًا له نام مختطفوه ولم يستيقظوا إلا وقد طلعت الشمس وفات وقت القربان؛ وبذلك نجا الطفل من الهلاك. وقد تفسر جملة: "إننا نقدم لك قربانًا يشبهك"؛ الواردة في دعاء "عثتر" على نصه في "حران". قصة تقديم الأطفال الجميلة قرابين إلى هذا الإله. وقد أشار كتاب يونان إلى تعبد العرب إلى الشمس، والقمر وكوكب الصباح؛ وهي أجرام سماوية تراها العين، ذاكرين أن العرب لا يتعبدون لآلهة روحية، لا يبصرونها بأعينهم. ولهذا: تعبدوا لهذه الأجرام المادية وللأحجار1.

_ 1 نص ص171 من جـ6 من المفصل.

الاتجاه نحو الوثنية وأصنامها

الاتجاه نحو الوثنية وأصنامها: رحلة إبراهيم: الكعبة مركز ديني قديم عده المؤرخون أحد البيوت السبعة المقدسة، ووصفه القرآن بأنه أول بيت وضع للناس وهو الذي بمكة مباركًا فيه آيات بينات، ويسند القرآن تجديد بنائه إلى إبراهيم وإسماعيل فيقول: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} . ويقول: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وليس في القرآن ما يدل على أن إبراهيم دعا سكان البلد الحرام أو من جاورهم إلى دعوته الحنيفية، وكل ما أشار إليه القرآن أن إبراهيم كلف بأمرين:

الأمر الأول: إيداع إسماعيل وأمه في جوار البيت. الأمر الثاني: بناؤه هو وإسماعيل البيت الحرام. كانت مكة وهي المدينة الرئيسية بالحجاز والتي اشتق اسمها من كلمة "محراب" بلغة أهل سبأ1 تضم ما لا يقل عن ثلاثمائة وثن تُرضِي كل ذوق. أي أوجدت كل قبيلة وكل أسرة بل كل محراب مستقل طقوس دينه ومادة عبادته كما عمدت إلى تغييرها، ولكن الأمة العربية في كل عصر خضعت لدين مكة كما أحنت الرأس أمام لهجتها. ويرجع تاريخ الكعبة حقًّا إلى ما قبل العصر المسيحي، وقد لاحظ المؤرخ اليوناني "ديودوروس" في وصفه لشاطئ البحر الأحمر أن هناك معبدًا شهيرًا يقع بين أرض ثمود وأرض سبأ ييجله العرب؛ لما له من قدسية سامية. وجدير بالذكر أن الكسوة المصنوعة من التيل أو الحرير كان أول من قدمها ملك تقي من ملوك حمير عاش قبل زمن محمد بسبعمائة سنة2. وتعتبر مكة من البلاد القديمة قدم بيتها، وكان اليونانيون يعرفون مكة ويطلقون عليها "ماكواريا" يقول جيبون: وهذا يدل على عظمة هذه البلدة3. ويبدو أن اسم مكة4 لم يكن معروفا قبله، وذلك يظهر من قول إبراهيم حكاية عنه في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} .

_ 1 العرب ص22 نتنج ترجمة د. راشد البراوى. 2 اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها تأليف: إدوارد جيبون. ترجمة: د. محمد سليم سالم. مراجعة: محمد أبو درة. 3 المرجع السابق ص13 جـ 3. 4 أسماء مكة: من تمككت العظم إذا اجتذبت ما فيه من المخ، وتمكك الفصيل ما في ضرع الناقة، فكأنها تجذب إلى نفسها ما في البلاد من الناس والأقوات التي تأتيها من المواسم، وقيل: لما كانت في بطن واد فهى تكمك الماء من جبالها عند نزول المطر وتنجذب إليها السيول، قال الراجز: إذا الشريب آخذته أكَّهْ ... فخلِّه حتى تبك بكَّهْ فالأكه: الشدة، وأكاك الدهر: شدائده. بكة: من أنها تبك الجبارين أي تكسرهم وتقرعهم. وقيل من التباك وهو الازدحام. قال أبو عبيدة: إن بكة اسم للبطن؛ لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون. وأيضا يذكر من أسمائها: الرأس، وصلاح، وأم رحم، وكوثا.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} "إبراهيم"، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} "الحج". وواضح من الآيات أن نبي الله إبراهيم لم يدعها مكة وإنما دعاها: بواد غير ذى زرع مرة، وبلدا آمنا مرة أخرى، والبلد الأمين الثالثة. ثم يذكره الله -تبارك وتعالى- بقوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} . فلم تذكر مكة في الروايات التاريخية للقرآن -كما رأينا- وفي هذا مدخل لبعض مؤرخي اليهود أو المسيحية؛ لينكروا رحلة إبراهيم إلى مكة وبناءه البيت؛ حيث لم يسمعوا ذاكرا لمكة، ويذكر المؤرخون المنصفون بعض الأسماء القديمة التى تشير إلى ذلك؛ يقول الشهرستاني نقلا عنهم وكما ورد في التوراة: إن الله تعالى جاء من "طور سيناء" وظهر "بساعير" واستعلن "بفاران". وساعير: جبال المقدس التي كانت مظهر عيسى -عليه السلام- وفاران: جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فمن يتمعن الآيات القرآنية يجدها لا تشير من خلال رواياتها التاريخية إلى أن إبراهيم سماها مكة. ويغلب في وجهة نظري من خلال آيات القرآن أن إبراهيم سار بهاجر وابنه إسماعيل بوحي إلهي وليس كما تزعم الروايات الأخرى أن سارة طردتها ولطمتها فتلك نزعة عرقية من اليهود تراودهم في كل وقت: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ، هذه النزعة صورت لهم دائما أنهم سلالة واحدة وعنصر لا يزاوج العناصر الغريبة عنه وهذا الإسراف في فهم الذات جعلهم مولعين بتزييف بعض الروايات التاريخية التي تخدم فكرتهم. ولذلك حدث أن نبي الله إبراهيم سار بهاجر وإسماعيل وفق نداء الله وحكمته في قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} فكانت المسيرة ذات هدف وظيفى وليست طردا أو غضبا، ولنا في ذلك حجة بالغة هى قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} ، وأما تساؤل أهل الكتاب عن مصدر معرفة الرسول من أين استقى أخباره عن إبراهيم وبعضها

غير موجود في التوراة والإنجيل فإن الله رد عليهم بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} "آل عمران". فروايات التوراة والإنجيل كانت من بعده فلا تنهض حجة لموقف سارة من هاجر1. ومما نحب أن نقرره: أن الآيات القرآنية الخاصة بإسماعيل وصفته بالنبوة والرسالة معًا فهو نبي ورسول، واشترك مع والده في بناء البيت وإعداده مثابة للناس وأمنا، غير أن القرآن لم يوضح أو لم يُشِرْ إلى أي قوم كان مبعثه من العرب أو غيرهم. ويبدو أن رسالته كما أشار القرآن كانت إلى أهله. قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} "مريم" وأهله هم الذين حطوا بجوار زمزم وتزوج منهم، ومما أشار إليه القرآن أنه كان من الصابرين. قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} "الأنبياء". وعلى الرغم من أن دعوة إسماعيل كانت إلى ذلك الرهط الذى نزل بجوار زمزم وتزوج منهم إسماعيل فإنه لقي منهم عنتا ورهقا استلزما أن يصفه القرآن بأنه كان من الصابرين، ويبدو أن قريشا خلفهم لم يكونوا بأحسن حالا من سلفهم أصهار أبيهم إسماعيل. ومما يحسن الالتفات إليه أن رسالة إسماعيل كانت لا تخرج عن ملة إبراهيم؛ لأن القرآن كثيرا ما كان يذكر العرب بأن الإسلام ملة إبراهيم حنيفا هو

_ 1 يقول أبو حيان صاحب التفسير "1: 217": إنهم ذكروا قصصا كثيرة واستطردوا من ذلك للكذب في شأن البيت المعمور، والحجر الأسود، وطولوا في ذلك بأشياء لم يتضمنها القرآن ولا الحديث الصحيح وبعضها، يناقض بعضًا وذلك على مجرى عادتهم ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما صح في كتاب الله وسنة رسوله. قال ابن عطية: والذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت.

سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا ما يشير إلى أن ملة إبراهيم هي دعوة إسماعيل غير أنه أسند إليه أمر الدعوة في قومه العرب، فمنذ أن أقام إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت مثابة للناس وأمنا ودين التوحيد قائم معه لولا ما طرأ عليه من عوامل التغيير، وقد أصبحت رحلة إبراهيم تعني إقامة أهله حول البيت، ثم رفع قواعده وتأسيس دين التوحيد، ومن بقي من العرب على بقية من دين إسماعيل قبائل: "معد وربيعة ومضر الذين كانوا جميعا على بقية من دينه"1. "والذين العربي القديم هو الخطوة السابقة للدين البابلي الآشوري المعقد، كما أن ذلك الدين العربي القديم هو الذي مهد لهذا الطور التاريخي للدين العربي اليهودي مع حرصه على الاحتفاظ بدين الآباء، دين الصحراء البدائي الذي دان به آباء الشعب وأجداده الأولون كما أنه بقي زمنا طويلا موضوع نزاع وعراك شديدين بين العقيدتين الدينيتين: السامية الشمالية والسامية الجنوبية والذى تحول أخيرا إلى الثالوث الإلهي "أب، وابن، والروح القدس"، ومن ثم خطا خطوة إلى التوحيد المسيحي في صورته القديمة التي نعرفها في الحضارة العربية القديمة2. ومن بين الباحثين المتخصصين الذين أكدوا الدور الفعال الذى أداه الساميون العرب من شبه جزيرتهم العربية في التحول السياسي أو الحضاري لمنطقة الشرق الأدنى وعلاقته الوثيقة بالعنصر السامي كما يقرر المستشرق الألماني دكتور أنطوان موتكات إذ يقول: "لا تعتبر بلدان الشرق الأدنى مركز الديانات فحسب بل مصدر الإشعاع الديني الذى أنار الأرض بكاملها"3. ويؤيد هذا ما يشير إليه الكلبي في رواية أخرى غير رواية عمرو بن لحي إلى أن الوثنية طارئة والأصل عندهم عبادة التوحيد التي كانت أثرا من دعوة إبراهيم وإسماعيل فيقول: وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل حجرا من حجارة الحرم تعظيمًا للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنا منهم بها أو صبابة بالحرم حبا له، ففكرة الأحجار المقدسة نشأت من حبهم لمكة.

_ 1 الأصنام ص 13 للكلبي تحقيق أحمد زكي باشا. 2 يراجع العرب واليهود في التاريخ ص198 د أحمد سوسة. 3 التاريخ العربي القديم ص53 د. دنتلف نليش ورفاقه.

وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل، ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كنت عليه الأمم من قبلهم1، يقول المقدسى: وكان في مشركيهم بقية من دين إسماعيل كالنكاح والختان والمناسك وتعظيم الأشهر الحرم وغير ذلك2. وذكر الشهرستاني من سننهم التى وافقهم عليها القرآن فقال: قال محمد بن السائب الكلبي: كانت العرب في جاهليتها تحرم أشياء نزل القرآن بتحريمها: كانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا الخالات، ولا العمات. وكانوا يطلقون ثلاثا على التفرقة, وقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: أول من طلق ثلاثا على التفرقة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام وكان العرب يفعلون ذلك، فيطلقها واحدة وهو أحق الناس بها، حتى إذا استوفى الثلاث: انقطع السبيل عنها، ومنه قول "الأعشى ميمون بن قيس" حين تزوج امرأة فرغب قومها عنه، فأتاه قومها، فهددوه بالضرب أو يطلقها: أيا جارتا بِينِي فإنك طالقهْ ... كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه قالوا: ثنِّه، فقال: وبِينِي فإن البَيْنَ خيرٌ من العصا ... وأن لا ترى لي فرق رأسك بارقَه قالوا: ثلِّث، فقال: وبِينِي حصان الفرج غير ذميمة ... وموموقة قد كنت فينا، ووامقهْ قال: وكانوا يحجون البيت ويعتمرون، ويحرمون، قال زهير": وكم بالقيان من محل ومحرم ويطوفون بالبيت سبعا، ويمسحون بالحجر، ويسعون بين الصفا والمروة، قال أبو طالب:

_ 1 الأصنام ص6. 2 البدء والتاريخ "4: 33".

وأشواط بين المروتين إلى الصفا وما فيهما من صورة وتخايل وكانوا يلبون، إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته، بقوله: "إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"، ويقفون المواقف كلها، قال العدوى: فأقسم بالذى حجت قريش ... وموقف ذى الحجيج على اللآلي وكانوا يهدون الهدايا، ويرمون الجمار، ويحرمون الأشهر الحرم، فلا يغزون ولا يقاتلون فيها ... إلا "طيئ" وخثعم وبعض "بني الحارث بن كعب"؛ فإنهم كانوا لا يحجون، ولا يعتمرون، ولا يحرمون الأشهر الحرم ولا البلد الحرام، وكانوا يكرهون الظلم في "الحرم"، وقالت امرأة منهم تنهى ابنها عن الظلم: أبني! لا تظلم بمكـ ... ـةَ لا الصغير، ولا الكبيرْ أبني من يظلم بمكـ ... ـة يلق أطراف الشرورْ أبني! قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبورْ قال صاحب "الروض الأنف": وينسبون إلى الوليد بن المغيرة قوله: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيِّبًا، لا يدخل فيه مهر بغيٍّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. ثم قال معلقا: وهو يدل على أن الربا كان محرما عليهم في الجاهلية كما كان الظلم والبغاء. وكانوا يعلمون ذلك ببقية من بقايا شرع إبراهيم، كما كان بقي فيهم الحج والعمرة وشيء من أحكام الطلاق والعتق. وفي هذا ما يفيد ويقوي ما نحن بصدده؛ وهو أن الدعوة إلى التوحيد رافقت بناء البيت، وإذا كانت ملة إبراهيم هي الملة الكبرى، فإن رحلته في التاريخ هي الرحلة الكبرى؛ إذ كان لها أثرها في فلسطين، وكان لها أثرها في مكة، وأن الإله "إيل" هو إله إبراهيم الذي أصبح دينه منتشرا من مكة إلى فلسطين، وأنه ما دعا إلى الله إلا بعد أن حارب الصابئة وأبطل عبادة التنجيم، وحارب الوثنية، وجعل مسئولية تحطيمها على صنمهم الأكبر إمعانا في الزراية بهم.

ولقد كانت الكعبة حرم الله الآمن موطنًا لدعوة إسماعيل وأهله من نسله، فكانت منذ أن عهد الله ببنائها إلى إبراهيم وإسماعيل هي محل تقديس، وأرضًا لدين سماوي أقامه إسماعيل فيها وحولها، إلى أن آلت مقاليدها إلى جرهم ظلمًا من ولد إسماعيل -ورأى إسماعيل عدم منازعتهم لخئولتهم من جهة وإعظامًا لحرمة البيت من جهة أخرى. بيد أن جرهم بغوا فيها واستحلوا كثير من الحرمات: فظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها فتفرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر بن عبد مناة "لعلها مناف" بن كنانة وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا على حربهم وإخراجهم من مكة، فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا فغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من مكة، وآل أمر البيت إلى رئيسهم عمرو بن لحي. وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلمًا ولا بغيًا ولا يبغى فيها أحد إلا أخرجته.

كيف نشأت

كيف نشأت: أمامنا روايتان تتحدثان عن نشأة الوثنية العربية. الأولى نرى أنها وافدة، والثانية نرى أنها نشأة محلية. أما عن الراوية الأولى فإنها وفدت مع عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهم عن مكة، وقد جعلته العرب ربًّا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم، وتذكر الرواية التاريخية أنه أول من أدخل الأصنام في الحرم. يقول الرازي المفسر: اعلم أن اليونايين كانوا قبل خروج الإسكندر قد عمدوا إلى بناء هياكل لهم معروفة بأسماء القوى الروحانية والأجرام النيرة واتحذوها معبدا لهم على حدة وقد كان هيكل العلة الأولى عندهم هو الأمر الإلهي. وهيكل العقل الصريح. وهيكل العامة المطلقة.

وهيكل النفس والصورة وقد كانت مدورات كلها. وكان هيكل زحل مسدسًا. وهيكل المشترى مثلثًا. وهيكل المريخ مستطيلًا. وهيكل الشمس مربعًا. وهيكل عطارد مثلثًا في جوفه مستطيلًا في ظاهره. وهيكل القمر مثمنًا. فزعم التاريخ: أن عمرو بن لحي لما ساد قومه وترأس على طبقاتهم وولي أمر البيت الحرام اتفقت له سفرة إلى البلقان، فرأى قومًا يعبدون الأصنام، فسألهم عنها، فقالوا: هذه أربابنا نستنصر بها فننصر، ونستسقي فيها فنسقى، فالتمس إليهم أن يكرموه بواحد منها فأعطوه الصنم المعروف "بهبل" فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة ودعا الناس إلى تعظيمه، وذلك في أول ملك "سابور ذي الأكتاف". وواضح من هذه الرواية أنها تسند أول عملية أدخلت فيها الأصنام للحرم إلى عمرو بن لحي، وأنه أتى بها من اليونان، فالوثنية اليونانية دخلت مكة، وهذا من الآثار اليونانية، وهذه الرواية1 يبدو أنها أكيدة؛ لأن الأصنام غير "هبل" كانت حجارة خالية من الفن، والذوق الجمالي، فلو أنهم أبدعوها لألبسوها مسحة فنية جمالية، وفي هذا ما يشير إلى أن العربي غير من دينه الحنيفي، لكنه ظل محبًّا لرمزياته المقدسة، ومن أهمها الكعبة فحينما ابتدع أصنامًا أو حينما أتى بها من الخارج في بعض رحلاته رأيناه يودعها في الكعبة، فالرمزيات عند العربي، لا تخرج عن معنى: الإلف، والعادة، والفرث، ولا تحمل لديه مضمونا فكريا أو دينيا، لذلك كنا نراه لا يعنى بالدين في شيء، فالمعنى الديني عنده لا يخرج عن معنى العصبية القبلية، ولعل ما قاله لهم عمرو بن لحي: نستنصر فننصر، وقد صارت عقيدة بينهم توارثوها، ونراها ظهرت على

_ 1 راجع تفسر الفخر الرازي: "1-232" وفتح الباري: "8-472" ابن هشام ص62، والروض الأنف: "1-62".

لسان عبد المطلب وهو يفاوض أبرهة حينما قال له: أما الإبل فهي لي وأما البيت فله رب يحميه"، وتعني هذه العبارة في نظرنا أن العربي يتميز بنظرته المادية، هذا من ناحية، وأما من ناحية الموقف العربي القبلي أمام أبرهة فلم يظهر بالمستوى اللائق به فإنه كان قبليا في تشتته وليس عربيا، فالوحدة العربية ظهرت مع الدعوة الإسلامية، ولعل ذلك يرجع في نظرنا إلى العربي نفسه حين أيد وجهة نظر العربي المفاوض: إن الأمان يتحقق عند العربي حين يأمن اقتصاديا ولو أوذي الدين وليس الأمان في الدين حين يهدد الاقتصاد، وكانت هذه النظرة من أهم ما كافحها الإسلام. ونظرته المادية هذه هي التي دفعتهم -وفقا لما يقول المؤرخون الإسلاميون- إلى الاعتقاد أن فكرة الحجر المقدس نشأت أساسًا من حبه للكعبة وارتباطه الديني بها منذ أن بناها أبوه إبراهيم وربط بها ملته الحنيفية، غير أن العربي أكثر من الرمزيات المحسوسة دون مضمون فكري وراءها، فكانت وثنيته من غير مضمون فكري، وكانت أصنامه من غير مسحة فنية، وكانت الوثنية العربية ساذجة. وأما عن الرواية الثانية فإنها ذكرت في أكثر من مصدر، يقول الألوسي: "وقد بلغ تعظيم العرب لمكة أنهم كانوا يحجون البيت ويعتمرون ويطوفون، فإذا أرادوا الانصراف أخذ الرجل منهم حجرًا من حجارة الحرم فنحته على صورة أصنام البيت، ثم يجعله في طريقه قبلة ويطوف ويصلي له تشبيها بأصنام البيت، ثم أفضى بهم الأمر بعد طول المدة إلى أن كانوا يأخذون الحجر من الحرم فيعبدونه فلذلك كان أصل عبادة العرب للحجارة في منازلهم شغفًا منهم بأصنام الحرم وليس تذوقا للمعنى الديني القويم. ثم نعود فنقول نحن بين روايتين: رواية عمرو بن لحي التي تقرر أن الأصنام وافدة من اليونان، أي نشأت عن مصادر خارجية. والرواية الثانية: تقرر أنها ليست وافدة وإنها هي من صنعهم، أي نشأت نشأة محلية، ولا مانع لدينا أن نأخذ بالروايتين معًا على أساس أن عمرو بن لحي استقدم

التماثيل حتى يوافق هوى قومه من حبهم للأحجار وتصبح هذه الرواية مخصوصة بالأحجار المصورة المنحوتة وليس بأصل عبادتها.

الأصنام

الأصنام اللات ... الأصنام: نجد في كتاب الأصنام لابن الكلبي، وفي المؤلفات الإسلامية مثل: المخصص لابن سيده أسماء عدد من الأصنام كان الجاهليون يعبدونها، وهي على الأكثر: أصنام كان يتعبد لها أهل الحجاز ونجد، والعربية الشمالية، وذلك قبيل الإسلام. ومن هذه الموارد الإسلامية: استقينا علمنا عن هذه الأصنام، وهي أصنام ذكرت في القرآن الكريم؛ في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} .. إلخ الآية [النجم: 19] . ويجب أن نضيف إليها "الشمس"1. 1- اللات: ذكر ابن الكلبي: أنه كان صخرة مربعة بيضاء، بنت "ثقيف" عليها بيتًا، صاروا يسيرون إليه، يضاهون به الكعبة، وله حجبة، وكسوة، ويحرمون وادية، وكانت سدانته: لآل "أبي العاص" ابن "أبي يسار" بن مالك من ثقيف، أو لبني عتاب بن مالك، وكانت قريش، وجميع العرب يعظمونه أيضا، ويتقربون إليه، حتى إن ثقيفا كانوا إذا ما قدموا من سفر توجهوا إلى بيت "اللات" أولا؛ للتقرب إليه وشكره على السلامة، ثم يذهبون بعد ذلك: إلى بيوتهم، وقد كانت له معابد كثيرة منتشرة في مواضع عديدة من الحجاز2. وذكر ابن كثير أن "اللات" صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش، وكانت في داخل بيت له أستار على شاكلة الكعبة3.

_ 1 المفصل جـ6 ص227. 2 السابق جزءا وصفحة. 3 السابق جـ6 ص228، تفسير ابن كثير ص253 وما بعدها.

وللإخباريين روايات عن صخرة "اللات"؛ منها أنها في الأصل صخرة كان يجلس عليها رجل يبيع السمن واللبن للحجاج في الزمن الأول، وقالوا: إنها سميت "باللات"؛ لأن: "عمرو بن لحي" كان بلت عندها السويق للحجاج على تلك الصخرة. وقالوا: بل كانت "اللات" في الأصل رجلًا من ثقيف، فلما مات قال لهم "عمرو بن لحي": لم يمت، ولكن دخل في الصخرة، ثم أمر بعبادتها؛ وأن يبنوا بنيانًا يسمى "اللات". وقيل: كانت صخرة مربعة، وكان يهودي يلت عندها السويق. وذكر المفسر أبو السعود: أن هناك رواية تزعم أن حجر "اللات" كان على صورة ذلك الرجل الذي قبر تحته، وهو الذي كان يلت السويق، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقيل: إن "اللات" الذي كان يقوم على آلهتهم، ويلت لهم السويق1. وذكر الطبري: أن "اللات" هي مِن "الله" تعالى، ألحقت فيه التاء فأنثت، كما قيل: "عمرو" للذكر، وللأنثى "عمرة"، وكما قيل: للذكر "عباس" ثم قيل للأنثى "عباسة"2. ولا يستبعد أن تكون صخرة "اللات" صخرة من هذه الصخور المقدسة، التي كان يقدسها الجاهليون، ومن بينها: "الحجر الأسود"، الذي كان يقدسه أهل مكة، ومن كان يأتي إلى مكة للحج، وفي غير موسم الحج، لذلك كانوا يلمسونه ويتبركون به. و"اللات": من الآلهة المعبودة عند النبط أيضا، وقد ورد اسمها في نصوص: "الحجر، وصلخد وتدمر" وهي من مواضع النبط. ويذكر الباحثون: أن النبط عدوا "اللات" أُمًّا للآلهة3.

_ 1 المفصل جـ6 ص229، ص230. 2 السابق جـ6 ص230، ص231. 3 السابق جـ6 ص232، ص233.

وقد عبدت "اللات": في تدمر، وفي أرض مدين عند اللحيانيين. وقد ذهب: بعض المستشرقين إلى أن "اللات" تمثل الشمس، وهي أنثى أي: إلهة. وقد انتهت إلينا أسماء رجال أضيفت إلى "اللات" مثل: "تميم اللات"، و"زيد اللات"، "شيع اللات"، "هب اللات"، وكما شاكل ذلك من الأسماء. ومما يلفت النظر أننا لم نلاحظ ورود اسم "عبد اللات" بين أسماء الجاهليين. وقد أقسموا "باللات" كما أقسموا بالأصنام الأخرى1.

_ 1 السابق جزءا وصفحة.

العزى

2- العزى: "والعزى": صنم أنثى. وأما الذي اتخذ العزى -على رواية ابن الكلبي- فهو "ظالم بن أسعد"، وقد ذكر الطبري روايات عديدة تفيد أن "العزى" شجيرات، ولكنه أورد روايات أخرى تفيد أنها حجر أبيض. فنحن إذن أمام رأيين: رأي يقول: "إن "العزى" شجيرات. ورأى يقول: إنها حجر. وذكر ابن حبيب أن "العزى" شجرة بنخلة، عندها وثن تعبدها "غطفان". سدنتها من بني "صرمة بن مرة". وذكر غيره: أنها سمرة "لغطفان". وقد تسمَّى العرب وقريش بالعزى، فقالوا: "عبد العزى"، وأقسموا بها. وتشير رواية من زعم أن عمرو بن لحي قال لقومه:

"إن ربكم يتصف "باللات"؛ لبرد الطائف، ويشتوا بالعزى؛ لحر تهامة. ويقول ابن الكلبي أيضا: ولم تكن قريش بمكة، ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئا من الأصنام إعظامهم "العزى"، ثم "مناة". فأما "العزى": فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية، وكانت ثقيف: تخص "اللات" كخاصة هؤلاء الآخرين، وكلهم كان معظما لها؛ أي: العزى. ولابن الكلبي رأي في إقبال قريش على "العزى" إذ يقول: فأما "العزى" فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية، وذلك: فيما أظن؛ لقربها منها. فجعل بيت "العزى" من قريش هو السبب في إقبال عليها1. وهو يرى هذا الرأي نفسه حين تكلم على الأصنام: أ-ود. ب-سواع. جـ- يعوق. د- نسر. وقارن بينها وبين الأصنام: اللات، العزى، مناة؛ إذ قال: ولم يكونوا: يرون في الأصنام الخمسة التي دفعها "عمرو بن لحي" كرأيهم في هذه، ولا قريبا من ذلك، فظننت أن ذلك كان؛ لبعدها منهم. وقال ابن الكلبي في كتابه الأصنام: وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها يوما فقال: لقد أهديت "للعزى" شاة عفراء وأنا على دين قومي، وكان فيمن يتقدم إلى "العزى" بالنذور والهدايا والد "خالد بن الوليد". ذكر خالد أن والده كان يأتي "العزى" بخير ماله من الإبل والغنم، فيذبحها "للعزى" ويقيم عندها ثلاثة أيام.

_ 1 المفصل جـ6 ص239 الأصنام 27، 16.

وذكر الطبري أن "العزى" صنم لبني شيبان بطن من سليم -حلفاء بني هاشم- وبنو اسد بن عبد العزى- يقولون: هذا صنمنا، وإنها كانت بيتا يعظمه هذا الحي من قريش، وكنانة ومضر كلها1. وينسب ابن الكلبي بناء بيت العزى إلى ظالم بن أسعد؛ إذ يقول: بس، بيت لغطفان بن سعد بن قيس عيلان كانت تعبده، بناه ظالم بن أسعد بن ربيعة لما رأى قريشا يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة، فذرع البيت، ونص العباب، وأخذ حجرًا من الصفا، وحجرًا من المروة. فرجع إلى قومه، وقال: يا معشر غطفان لقريش بيت يطوفون حوله والصفا والمروة، وليس لكم شيء؟ فبنى بيتا على قدر البيت ووضع الحجرين، فقال: هذا الصفا والمروة فاجتزئوا به عن الحج، فأغار زهير بن جناب، فقتل ظالما، وهدم بناءه2.

_ 1 المفصل جـ6 ص240، الطبري جـ2 ص364. 2 المفصل جـ6 ص241، الأغاني 21، 63.

مناة

3- مناة: وهو من الأصنام المذكورة في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] . وهذه الأصنام الثلاثة: هي إناث في نظر الجاهليين. وموضع "مناة" بالمشلل على سبعة أميال من المدينة، وقيل: إنه بموضع "ودان" أو في موضع قريب منه. وذكر اليعقوبي أن مناة كان منصوبا بفدك مما يلي ساحل البحر، والرأي الغالب بين أهل الأخبار أنه كان على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد. وذكر محمد بن حبيب: أنه كان بسيف البحر، وكانت الأنصار، وأزد شنوءة، وغيرهم تتعبد له.

وأما سدنته: هم "الغطاريف" من الأزد. وذُكر أن تلبيته كانت: لبيك اللهم لبيك، لولا أن بكرا دونك، يبرك الناس ويهجرونك، وما زال حج عثج يأتونك، أنا على عدوائهم من دونك1. ويظهر من أقوال ابن الكلبي ابن هذا الصنم كان معظما وخاصة عند الأوس والخزرج؛ أي أهل يثرب، ومن كان يأخذ مأخذهم من عرب المدينة، والأزد، وغسان؛ فكانوا يحجون ويقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رءوسهم؛ فإذا نفروا أتوا "مناة" وحلقوا رءوسهم عنده، وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تماما إلا بذلك، ولكن القبائل العربية الأخرى كانت تعظمه كذلك، وفي جملتها: "قريش، وهذيل، وخزاعة، وأزدشنوءة"2.

_ 1 المفصل جـ6 ص246، الطبري 270، 32. 2 المفصل جـ6 ص247.

هبل

4- هبل: يقول ابن الكلبي: وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها "هبل"، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلت له يدا من ذهب، وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. وكان يقال له: "هبل خزيمة"، وكان في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها: "صريح" والآخر: "ملصق" إذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية؛ ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج "صريح" ألحقوه، وإن خرج "ملصق" دفعوه وقدح على الميت، وقدح على النكاح، وثلاثة لم تفسر على ما كانت فإذا اختصموا في أمر، أو أرادوا سفرا أو عملا أتوه فاستقسموا بالأزلام عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه، وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله.

وجاء في رواية أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره؛ فلما قدم "مآب" من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق -ويقال: عمليق- وجدهم يتعبدون للأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه الأصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له "هبل" وأخذه فتقدم به إلى مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته. وكانت تلبية من نسك "هبل": لبيك اللهم لبيك؛ إننا لقاح، حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح1. وذهب بعض المستشرقين إلى أن "هبل" هو رمز إلى الإله "القمر" وهو إله الكعبة، وهو الله عند الجاهليين وكان من شدة تعظيم قريش له أنهم وضعوه في جوف الكعبة، وأنه كان الصنم الأكبر في البيت، وقد ورد اسم "هبل" في الكتابات النبطية التي عثر عليها في الحجر، ورد مع اسم الصنمين: دوشرا: ذي الشرى. منوتو: مناة. وقد تسمى به أشخاص وبطون من قبيلة كلٍّ؛ مما يدل على أن هذه القبيلة كانت تتعبد له، وأنه كان من معبودات العرب الشماليين. وباسم هذا الصنم سمي: "هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي"2. وزعم ابن الكلبي3: أن خمسة أصنام من أصنام العرب من زمن نوح وهي: ود، سواع، يغوث، يعوق، نسر.

_ 1 المفصل جـ6 ص251، الأصنام ص27 وما بعدها. 2 المفصل جـ6 ص252 ص253 سيرة ابن هشام جـ1 ص62. 3 المفصل جـ6 ص254.

وقد ذكرت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} 1.

_ 1 سورة نوح الآيات 21 وما بعدها.

ود

5- ود: كان الصنم "ود" من نصيب عوف بن عذرة بن زيد اللات، أعطاه إياه: عمرو بن لحي، فحمله إلى وادي القرى، فأقره بدومة الجندل، وسمى ابنه "عبد ود"، فهو أول من سمي به، وهو أول من سَمَّى "عبد ود"، ثم سمت العرب به بعد، وقد تعبد له "بنو كعب"، ومنهم من يهمز فيقول: "أد"، ومنه سمي "عبد أد"، "أد ابن طابخة"، و"أدد" جد معد بن عدنان1. ويظهر أنه "أود" عند ثمود، و"أدد" من السماء المعروفة وقبيلة "مرة" نسبة إلى "مرة بن أود". ويظن: أن الإله "قوس" هو "ود"؛ أي: اسم نعت له. وذهب بعض الباحثين إلى أن "نسرًا"، "ذا غابة" يرمزان إليه، "وود" هو الإله الأكبر لأهل معين2.

_ 1 المفصل جـ6 ص255 اللسان جـ4 ص468. 2 السابق جـ6 ص257.

سواع

6- سواع: أما "سواع": فكان موضعه بـ"رهاط" من أرض ينبع، وذكر أنه كان صنما على صورة امرأة. وهو صنم "هذيل". وينسب ابن الكلبي انتشار عبادته -كعادته- إلى عمرو بن لحي فذكر أن "مضر بن نزار" أجابت عمرو بن لحي؛ فدفع إلى رجل من هذيل -يقال له "الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل"- سواعا فكان بأرض يقال لها "رهاط" من بطن نخلة يعبده من يليه من مضر.

وذكر ابن حبيب أنه كان بـ "نعمان" وأن عبدته "بنو كنانة" وهذيل، ومزينة، وكان سدنته "بنو صاهلة" من هذيل. وفي رواية أن عبدة "سواع" هم آل ذي الكلاع. وذكر اليعقوبي أنه كان لكنانة1. ونسب بعض الأخبار هدم الصنم "سواع" إلى "غاوي بن ظالم السلمي". ذكروا أن هذا الصنم كان لبني سليم بن منصور؛ فبينما هو عند الصنم؛ إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنما، فبالا عليه فقال: أرَبٌّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب ثم قال: يا معشر سليم، لا والله هذا الصنم لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع؛ فكسره، ولحق بالنبي عام الفتح؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اسمك؟ " فقال: غاوي ابن عبد العزى، فقال: "بل أنت راشد بن عبد ربه"، وعقد له على قومه. وقيل: إن هذه الحادثة، إنما وقعت لعباس بن مرداس السلمي. وقيل: لأبي ذر الغفارى2.

_ 1 المفصل جـ6 ص257. 2 السابق جـ6 ص259.

يغوث

7- يغوث: أما "يغوث": فكان على رواية ابن الكلبي في جملة الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على من استجاب إلى دعوته من القبائل، دفعه إلى أنعم بن عمرو المرادي، فوضعه بأكمة "مذحج باليمن"، فعبدته "مذحج" ومن والاها وأهل "جرش". وذكر الطبري: أن بطنين من طيء أخذا "يغوث"؛ فذهبا به إلى مراد؛ فعبدوه زمانا، ثم إن بني ناجية أرادوا أن ينتزعوه منهم؛ ففروا به إلى بني الحارث بن كعب، أما سدنته فكانوا من بني أنعم من طيء، وكانوا في:"جرش"، وفي

حوالي سنة 632م؛ أي السنة التي وقعت فيها معركة "بدر" حدث نزاع على الصنم؛ أراد بنو مراد أن يكون الصنم فيهم وسدنته لهم؛ وأراد بنو أنعم الاحتفاظ بحقهم فيه. فهرب بنو أنعم بصنمهم إلى بني الحارث، واحتفظوا به بعد أن وقعت الهزيمة في مراد. وفي الحرب التي وقعت بين بني أنعم، وغطيف حمل عبدة "يغوث" صنمهم معهم، وحاربوا مستمدين منه العون والمدد1. ونجد بين أسماء الجاهليين عددا من الرجال سموا بـ "عبد يغوث" منهم: من كان في "مذحج" ومنهم: من كان في قريش؛ ومنهم من كان من هوازن2.

_ 1 المفصل جـ6 ص260ن 261. 2 السابق جـ6 ص261، ص262.

يعوق

8- يعوق: "ويعوق" أيضًا في جملة هذه الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على القبائل. وذكر ياقوت الحموي أن ابن الكلبي قال: واتخذت خيوان "يعوق"، وكان بقرية لهم يقال لها "خيوان" من صنعاء على ليلتين مما يلي مكة؛ ولم أسمع لها ولغيرها شعرًا فيه، وأظن ذلك؛ لأنهم قربوا من صنعاء، واختلطوا بحمير؛ فدانا معهم باليهودية أيام تهود ذي "نواس" فتهودوا معه. ونسب الطبري عبادة "يعوق" إلى "كهلان"، وذكر أنهم توارثوه كابرا عن كابر؛ حتى صار إلى همدان، وذكر في رواية أخرى؛ أن "يعوق" اسم صنم كان لكنانة1.

_ 1 السابق جـ6 ص262، ص263.

نسرا

9- نسر: وأما "نسر" فكان من نصيب حمير، أعطاه عمرو بن لحي. قيل: لذي رعين المسمى "معد يكرب"؛ فوضعه في موضع بلخع من أرض سبأ، فتعبدت له حمير إلى أيام ذي نواس، فتهودت معه وتركت هذا الصنم. وكان عباد "نسر" آل الكلاح من حمير على رواية من الروايات. وذكر محمد بن حبيب أن حمير تنكست "لنسر" وعظمته ودانت له، وكان في غمدان قصر ملك اليمن. وذكر اليعقوبي أنه كان لحمير وهمدان، منصوبًا بصنعاء. ولم يشر ابن الكلبي إلى صورة الصنم "نسر". وذكر الطبرسي: في أشكال الأصنام، أسندها الواقدي قال فيها كان "ود": على صورة رجل، و"سواع": على صورة امرأة، و"يغوث": على صورة أسد، "ويعوق": على صورة فرس، و"نسر": على صورة نسر من الطير1.

_ 1 المفصل جـ6 ص263، ص264.

عميانس

10- عميانس: هو صنم "خولان"؛ وموضعه في أرض خولان؛ وكان يقدم له في كل عام نصيبه المقرر من الأنعام والحروث. وذكر ابن الكلبي أن الذين تعبدوا له من خولان هم بطن منهم؛ يقال لهم الأدوم، وهم الأسوم. وفيهم نزل قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} ... إلخ [الأنعام: 136] . وقد ورد ذكر هذا الصنم في خبر "وفد خولان" الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة عشر. إذ ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "ما فعل عمأنسى؟ " فقالوا: بشر وعسر، أبدلنا الله به، ولو قد رجعنا إليه هدمناه، وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به1.

_ 1 السابق جـ6 ص265.

أساف ونائلة-رضى

11- أساف ونائلة-رضى: ذكر اليعقوبي: أن عمرو بن لحي وضع هبل عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة؛ ثم وضعوا به "إساف ونائلة"، كل واحد منهما على ركن من أركان البيت؛ فكان الطائف إذا طاف بدأ "بأساف" فقبله وختم به؛ ونصبوا على "الصفا" صنما يقال له: "مجاور الريح" وعلى المروة صنما يقال له: "مطعم الطير". وذكر محمد بن حبيب أن أسافا كان على "الصفا"، وأما نائلة فكان على "المروة"، وهما صنمان، وكان من جرهم، ففجر أساف بنائلة في الكعبة؛ فمسخا حجرين، فوضعا على الصفا والمروة؛ ليعتبر بهما، ثم عبدا بعد، وكان نسك قريش "لأساف": لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. ويظهر أن مرد هذا القصص الذي يقصها علينا أهل الأخبار عن الصنمين إنما هو إلى شكل الصنمين. كان: أساف تمثال رجل على ما يظهر من روايات الإخباريين، وكانت: "نائلة" تمثال امرأة. يظهر أنهما استوردا من بلاد الشام فنصبا في مكة، فتولد من كونهما صنمين لرجل وامرأة هذا القصص المذكور، ولعله من صنع القبائل الكارهة لقريش، التي لم تكن ترى حرمة للصنمين1. ذكر ابن الكلبي: أنه كان لبني ربيعة بن كعب بن تميم، فهدمه "المستوغر" وهو عمرو بن ربيعة بن كعب؛ هدماه في الإسلام وتعبدت لهذا الصنم قبيلة تميم. وقد ورد اسم "عبد رضى" بين أسماء الجاهليين، ويظهر أن قبيلة طيء كانت قد تعبدت له كذلك.

_ 1 المفصل جـ6 ص266، ص267، اليعقوبي جـ1 ص224.

"ورضى" من الأصنام المعروفة عند قوم "ثمود". وقد ورد اسمه في كتابات ثمودية عديدة، وكانت عبادته منتشرة بين العرب الشماليين. وورد في نصوص تدمر، وبين أسماء بني إرم، كما ورد في كتابات الصفويين، وورد على هذا الشكل: "رضو، رضي، هرضو، هارضو" ويظن أنه يرمز إلى كوكب1.

_ 1 السابق جـ6 ص268.

مناف-ذو الخلصة

12- مناف-ذو الخلصة: صنم من أصنام الجاهلية؛ قال عنه ابن الكلبي: وكان لهم "مناف"، فبه كانت تسمي قريش "عبد مناف" ولا أدري أين كان، ولا من نصبه، وسمي به أيضا رجال من "هذيل" وبه سمي "عبد مناف"؛ وكانت أمه أخدمته هذا الصنم. وقد عثر على كتابة وجدت في "حوران"؛ ورد فيها اسم "مناف" مع إله آخر، ورد اسم "مناف" فيها على هذا الشكل MN,PHA وقد عثر على كتابة أخرى وجد فيها الاسم على هذه الصور: "منافيوس" Manaphius مما يدل على أن المراد بالاسمين شيء واحد هو الإله مناف"1. أما "ذو الخلصة": فكان صنم "خثعم"، و"بجيلة" و"دوس"، ومن قاربهم من بطون العرب من "هوازن" ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، والحارث بن كعب، وزبيد، والغوث بن مر. وذكر ابن الكلبي أن سدنته بنو أمامة من باهلة بن أعصر2، وفي رواية لابن إسحاق أن عمرو بن لحي نصب "ذا الخلصة" بأسفل مكة، فكانوا يلبسونه القلائد، ويهدون إليه الشعير والحنطة، ويصبون عليه اللبن، ويذبحون له، ويعلقون عليه بيض النعام.

_ 1 السابق جـ6 ص269. 2 الأصنام ص35، 47.

وهناك روايات جعلت "ذا الخلصة" الكعبة اليمانية "لخثعم" ومنهم من سماه كعبة اليمامة. ويستنتج من كل هذه الروايات: أن "ذا الخلصة" بيت كان يدعى كعبة أيضًا، وكان فيه صنم يدعى "الخلصة" لدوس وخثعم، وغيرهم. وكان بيت "ذي الخلصة": من البيوت التي يقصدها الناس للاستقسام عندها بالأزلام، وكان له ثلاثة أقداح: الآمر، الناهي، المتربص. وفي "ذي الخلصة" قال أحد الرجازين: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا1

_ 1 المفصل جـ6 ص271، ص272.

سعد-ذو الكفين

13- سعد-ذو الكفين: كان صخرة طويلة، وذكر اليعقوبي أنه كان لبني بكر بن كنانة، وذهب ابن إسحاق إلى أنه في موضع قفر، وقيل: إنه قرب اليمامة. وذكر ابن الكلبي: أنه أقبل رجل منهم بإبل له؛ ليقفها عليه يتبرك بذلك فيها؛ فلما أدناها منه نفرت منه، وكان يهراق عليه الدماء، فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه، وأسف؛ فتناول حجرًا فرماه به، وقال: لا بارك الله فيك إلهًا، أنفرت عليَّ إبلي، ثم خرج في طلبها حتى جمعها، وانصرف عنه وهو يقول: أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعدِ وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يُدعى لغيذٍ ولا رشدِ1 ذكر ابن الكلبي: أنه كان لدوس، ثم لبني منهب بن دوس، لما أسلموا بعث النبي صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي فحرقه، وهو يقول:

_ 1 السابق جـ6 ص273، ص274.

يا ذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أكبر من ميلادكا إني حشوت النار في فؤادكا وذكر أن هذا الصنم كان صنم عمرو بن حممة الدوسي أحد حكام العرب.

ذو الشرى-الأقيصر-نهم

14- ذو الشرى-الأقيصر-نهم: وكان لبني الحارث بن يشكر بن مبشر من الأزد -صنم، يقال له: "ذو الشرى". وورد في رواية للإخباريين: أن "ذا الشرى" صنم لدوس، كان بالسراة. وقد ورد اسم هذا الصنم في الحديث النبوي، وورد: بين أسماء الجاهليين اسم "عبد ذي الشرى" "وذو الشرى": إله ورد اسمه في كتابات: بطر، وبصرى1. كان صنم قضاعة، ولخم، وجذام، وعاملة، وغطفان. وكان في مشارف الشام. وقد ذكر اسمه في: شعر لزهير بن أبي سلمى، ولربيع بن ضبع الفزارى، وللشنفرى الأزدي كانوا يحجون إليه، ويحلقون رؤوسهم عنده، ويلقون مع الشعر قرة من دقيق، وهي عادة كانت متبعة عند بعض قبائل اليمن كذلك. ويذكر ابن الكلبي: أن هوازن كانت تنتاب حجاج الأقيصر؛ فإن أدركت المواسم قبل أن يلقى القرة، قال احدهم: لمن يلقى: أعطنيه فإني من هوازن ضارع، وإن فاته: أخذ ذلك الشعر بما فيه من القمل والدقيق فخبزه وأكله2. وكان: لمزينة، كسره سادنه خزاعي بن عبد نهم، وهو من مزينة من بني عداء، وأعلن إسلامه3.

_ 1 السابق جـ6 ص275، إمتاع الأسماع جـ1 ص388. 2 المفصل جـ6 ص275، الأصنام، تاج العروس جـ10 ص197. 3 المفصل جـ6 ص276، البلدان جـ1 ص341.

عائم-سعير-الغلس-اليعبوب-باجر-المحرق-شمس

عائم-سعير-الغلس-اليعبوب-باجر-المحرق-شمس ... 15- عائم-سعير-الفلس-اليعبوب-باجر-المحرق-شمس: وكان: لأزد السراة. ورد اسمه في شعر لزبد الخير، المعروف أيضا بزيد الخيل1. أما "سعير" فهو صنم عترة، وكان الناس يحجون إليه، ويطوفون حوله، ويعترون العتائر له2. كان لطيء، وكان أنفا أحمر في وسط جبلهم، الذي يقال له: أجأ، أسود، كأنه تمثال إنسان. وكانوا يعبدونه، ويهدون إليه، ويعترون عنده العتائر، ولا يأتيه خائف إلا أمن عنده، ولا يطرد واحد طريدة فيلجأ بها إليه إلا تركت له، ولم تخفر حوزته وحرمه. ذكر ابن حبيب: أنه كان بنجد، وسدنته بنو بولان3. وهو: صنم لجديلة طيء. كان: صنما للأزد، ومن جاورهم من طيء، وقضاعة. كان صنما لبكر بن وائل، وبقية ربعية في موضع سلمان، وأما سدنته فكانوا أولاد الأسود العجلي4. "والشمس": صنم كان لبني تميم، وله بيت، وكانت تعبده بنو "أد" كلها: ضبة، تميم، عدى، عكل، ثور.

_ 1 المفصل جزءا وصفحة الأصنام ص40. 2 المفصل جـ6 ص277، الأصنام ص50. 3 السابق جـ6 ص278، الروض الأنفف جـ1 ص65. 4 السابق جـ6 ص279، ص280.

وأما سدنته فكانوا من بني أوس بن مخاش بن تميم، فكسره هند بن أبي هالة، وصفوان بن أيد بن مخاش. وقد قيل لها: الإلهة. وذكر اليعقوبي أن قوما من عذرة تعبدوا لصنم يقال له: "شمس"1.

_ 1 السابق جـ6 ص281، شمس العلوم جـ1 ق1 ص93.

تيم

16- تيم: به سمي رجال من تيم، ومن غيرهم؛ مثل: "عبد تيم"، "تيم الله"، وهناك أسماء أصنام أخرى لم ترد في كتاب الأصنام؛ إنما وردت في كتب اخرى. وقد ذكرها: "ابن الكلبي". نفسه في بعض مؤلفاته؛ ومن هذه الأصنام: أ- الأسحم. ب- الأشهل. ج- أوال. د- البجة. هـ- الجبهة. و جريش. ز- جهار. ح- الشارق. ط- صمودا. ي- العبعب. ك- عوض. ل- ذو اللبا. م- السعيدة. ن- عنم. س- فزح. ع- قيس.

ف- المنطبق. ص- نهيك. وغير ذلك1. وذكر ابن الكلبي أن العرب تسمي الطواف حول الأصنام، والأوثان: الدوار. وعرف بعض اهل الأخبار: الدوار بأنه: نسك للجاهلية، يدورون فيه لصنم، أو غيره2.

_ 1 المفصل جـ6 ص282، الأصنام ص107، المجد ص315. 2 المفصل جـ6 ص282، 283 شرح ديوان لبيد ص44.

مرحب-رئام-الوثن

17- مرحب-رئام-الوثن: وأما "مرحب": فصنم من أصنام حضرموت؛ وبه سمي: "ذو مرحب" سادن هذا الصنم، وكانت تلبية من نسك له: لبيك لبيك، إننا لديك، لبيك جئنا إليك. وذكر اليعقوبي أن للأزد صنما يقال له: رئام. قال ابن هشام: يقال لكل صنم من حجر، أو غيره: صنم، ولا يقال وثن إلا لما كان من غير صخرة كالنحاس ونحوه. وقد أورد أيضا نصًّا يفهم منه خلا ذلك، وهو رواية: عن عمر بن الخطاب يقول فيه: اللهم غفرًا، لقد كنا في الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام، ونعتنق الأوثان. يفهم من قول عمر: أن الأصنام تطلق على مظاهر عبادتهم، والوثان على عقائدهم، فهما على القولين ليس من المترادفات فنقول مثلا إن آلهة الوثنيين أصنام، فالوثني يترادف مع المشرك ويتقابل مع الموحد في الرواية التي ذكرها ابن هشام وتشير إلى التفريق بين الصنم والوثن، نراها غيره دقيقة فالوثنية عقيدة والصنم مظهرها.

سدنتها

سدنتها: السدنة: هم الذين يقومون بأمر الكعبة أو بطواغيتها. فكان للات سدنتها وحجابها من بني معتب من ثقيف، ولمناة سدنتها من الأوس والخزرج، وللعزى سدنتها من بني شيبان خلفاء بني هاشم. وهذه أسماء سريانية1 وقعت إلى الهند فسموا بها أصنامهم التي زعموا أنها الدراري السبعة ثم أدخلها عمرو بن لحي، ثم أصبحت عادتها تقليدًا حتى خلفت الخلوف، وقالوا: ما عظم هؤلاء آباؤنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر واتخذوها آلهة. فاتخذت العرب مع الكعبة هذه الطواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي إليها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها مع عرفانها بفضل الكعبة. والطواغيت أطلقها القرآن على كل معبود من دون الله. والجبت: الكاهن. قال الرازي: كلمتان وضعتا علمين على من كان غاية في الفساد2. وقال ابن الكلبي: وكان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتسمح به، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضًا3. وتدنت العرب في عبادة الأصنام: فمنهم من اتخذ بيتًا ومنهم من اتخذ صنمًا، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت: نصب حجرا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت4،

_ 1 الروض ص62. 2 الرازي في تفسير "2: 241". 3 قال عكرمة: الجبت بلسان الحبشة شيطان. الطاغوت الكاهن. قال ابن عباس: الجبت الأصنام والطواغيت الذين كانوا يعبرون عن الأصنام بالكذب أو يترجمون للناس عها الأكاذيب. 4 يقول ابن حجر في فتح الباري "8: 470" هذه الأصنام كانت آلهة يعبدها العرب في عبادة الأصنام بعد نوح أو من الشيطان؟. قال بعض الشراح: مجمل ما قيل في هذه الأصنام قولان: أحدهما أنها كانت قوم نوح، والثاني: أنها كانت أسماء رجال صالحين، ثم أرجع ابن حجر الرأيين إلى رأي واحد وأنها كانت في المبدأ أسماء رجال صالحين.

وسموها: الأنصاب، فإذا كانت تماثيل دعوها الأصنام، والأوثان وسموا طوافهم الدوار، وكان الرجل إذا سافر، فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، فاتخذه ربا، وجعل الثلاثة: أثافي للقدر، وإذا ارتحل: تركه فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك. فكانوا ينحرون ويذبحون عندها كلها ويتقربون إليها، وهم على ذلك عارفون بفضل الكعبة عليها يحجونها ويعتمرون إليها، وكان الذين يفعلون ذلك في أسفارهم يهدفون للاقتداء بما يفعلون عندها والصبابة بها، وكانوا يسمون ذبائح الغنم التي يذبحون عند أصنامهم وأنصابهم تلك: العتائر، والعتيرة في كلام العرب: الذبيحة والمذبح الذي يذبحون فيه لها العتر. ويقول ابن الكلبي: وكانت للعرب حجارة غير منصوبة يطوفون بها ويعترون عندها يسمونها الأنصاب ويسمون الطواف بها الدوار1. وما زالت بداية ظهور الإلحاد عند العرب سرًّا غامضًا، ولكننا نعتقد أن إلحادهم كان يختلف عن أي نوع من الإلحاد عند الأمم الأخرى. وإذا نظرنا إلى تقدمهم العقلي نجد أفكارهم الدينية ساذجة وسهلة، وإذا سلطنا عليهم أضواء التاريخ نجد لديهم نوعا من أحط أنواع الوثنية2. ففي العصر الجاهلي لا نجد أي تعاليم جوهرية، ولكن على الرغم من ذلك كانت الأحداث كما يقول "كرهل": لا تثبت إذا ما كان الشعب السامي الذي هاجر إلى بلاد العرب من الشمال الشرقي قد اعتنق العبادة التي وجدها في البلاد، ثم أدخل نوعا جديدا من العبادة التي انتشرت في أطوار تدريجية بين العرب3. فتحولهم من التوحيد إلى الوثنية والإلحاد، لم يكن مباشرة، وإنما تم بعد مرحلة جرهم العبثية التي فسد فيها الدين وشوه، فلما ولي عمرو بن لحي دفعه إلى الوثنية لون من العصبية، وليست قضايا عقلية شغلته، فأراد لها حلًّا فتحول بسببٍ إلى الإلحاد، ولكن كانت العصبية، والتقليد، وهجر ما كان عليه جرهم من فساد وعبث.

_ 1 كتاب الأصنام لأبي المنذر محمد بن السائب الكلبي تحقيق أحمد زكي. 2 الأصنام ص33. 3 حضارة الإسلام صلاح الدين خودا بخش ص25.

وهذا التعدد في الأصنام والأوثان والأنصاب واختلاف أسمائها ليس نتيجة فكر شغل به العقل العربي، ولكن ذلك ناشئا من مجاورتهم لأهل هذه الملل والنحل "إن أديان العرب كانت مختلفة بالمحاورات لأهل الملل والانتقال إلى البلدان والانتجاعات"1. ولم تأتِ هذه الآلهة جميعها من التراث القومي؛ فبعضها وفد من الشعوب المجاورة طبقًا لاستعداد عام بين العرب الجنوبيين يحدوهم إلى النقل والاستيعاب استعداد يسّر في مراحل متأخرة دخول عقائد اليهودية والمسيحية.

_ 1 اليعقوبي في تاريخ "1: 210".

اتجاه قريش نحو الزعامة

اتجاه قريش نحو الزعامة: 1-ولاية الكعبة: ولي قصىٌّ البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، فكان قصي أول رجل من كعب بن لؤي أصاب ملكا أقر له به قومه، ثم أعطوه مقاليد الأمور فكان له أمر: الحجابة. والسقاية. والرفادة. والندوة واللواء. وبها حاز شرف مكة كله. أعاد تخطيط مكة، فقطعها رباعًا بين قومه. فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها، وأصبحت داره بيت شورى لقريش والعرب، فلا يقضى أمر من أمورها إلا وفيه تشريعاته.

وقد أقر للعرب ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه دينا في نفسه، لا ينبغي تغييره، فأقر: آل صفوان، وعدوان، والنسأة، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه حتى جاء الإسلام. على أي شيء أقرهم؟ آل صفوان: كان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام هو كرب بن صفوان. وعدوان: وكانت الإفاضة من المزدلفة: في عدوان، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام: هو أبا سيادة بن الأعزل. والنسأة: هي التي كانت تحرم صفرا أو غيره من الأشهر بدلا من الشهر الحرام. ومرة بن عوف: وكان يلي للناس الإجازة بالحج من بعد عرفة. والغوث: كان الغوث إذا دفع بالناس يقول: لا هم إني تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعه وتقول بعض الأخبار أن ولاية الغوث بن مرة كانت من قبل ملوك كندة، قسم بعد تقسيمهم في مكة ففرض على قريش: رفادة الحاج وهي وضع طعام لمن لا زاد له من الحجاج فقال:

يا معشر قريش: إنكم جيران الله، وأهل بيته، وأهل الحرم، وأن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحجيج، حتى يصدروا عنكم، ففعلوا ظلك سنة، حتى بعد الإسلام ولم تنقطع إلا في عصرنا هذا، وأصبح قصى في قومه لا يخالف ولا يرد عليه شيء صنعه، فكان أمره من قريش في حياته، بعد مماته كالدين المتبع لا يعمل بغيره. لاحظت تشريعات قصى هذه الاعتبارات فأعطت لقبيلة قريش إمكان السيطرة على من جاورهم من العرب، فأصبح لها الزعامة السياسية، والدينية، فزعامتها السياسية مكنتها من تخطيط مكة مرة ثانية، وحفظت عليها وضعها وقيادتها، وزعامتها الدينية أعطتها سلطة تشريعية في الدين، فشرعت مذهبها الديني وهو ما عرف بتشريع الحمس. وهذا التشريع: حفظ عليها دينها، وعصبيتها القبلية، وساعد على انتشار ما ورثوه من وثنية عمرو بن لحي، وبقايا دين إسماعيل، وبفضل هذا أصبحت ذات كيان مقدس وذلك بمظهرها الطبقي الديني.

لقريش محامد تنسب إليهم

2- لقريش محامد تنسب إليهم: - فمنهم كعب بن لؤي وهو أول من جمع يوم العروبة، ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الإسلام. - وإلياس: أول من أهدى البدن للبيت. - وعبد بن قصي: أول من أدخل الكتاب العربي أرض الحجاز قبل تعلمه بالحيرة، وتعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار. - وأسعد الحميري: قال الرسول: "لا تسبوا أسعد الحميري؛ فإنه أول من كسا الكعبة". - ودار قصي: هي دار الندوة، وقد جعل بابها إلى مسجد الكعبة ففيها كانت قريش تقضي أمورها.

- وهاشم: هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء، والصيف، وأول من أطعم الثريد للحجيج وكان يسمى: الفيض؛ لسماحته. وبجانب طبيعتها الدينية كانت ذات مظهر حضاري أيضا. "ويبتدئ يقص التاريخ تاريخا جديدا ليس لقريش ولكنه لمكة كلها؛ فقد نظم أمور مكة على شكل مبتكر جمهوري قبلي، يمكن أن يشبه بجمهورتي: البندقية، وقرطاجة؛ لسيطرة الماليين من أرباب التجارة ورءوس الأموال عليها. ولا يفترق قصي في وصفه هذا عن "الملك" في المملكة الرومانية الأولى، إلا أنه كان لا يحمل لقب ملك، والمؤرخون المسلمون منحوه فيما بعد هذا اللقب رمزًا لهذه السلطة الواسعة1 وكانت فوق ذلك تحوز أكبر الأصنام. 1- العزى: وكان الذين اتخذوا العزى إلهًا هو ظالم بن أسعد. وكان بوادٍ من نخلة الشامية يقال له: حراض بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبنى عليها بسا -"يريد: بيتا"- وكانوا يسمعون فيه الصوت، وكانت العرب وقريش تسمي عبد العزى. وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانوا يزورونها ويهدون لها، ويتقربون عندها بالذبح، وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول2: واللات والعزى ... ومناة الثالثة الأخرى فإنهن الغرانيق العلا ... وإن شفاعتهن لتُرْتجى وكانوا يقولون: إنها بنات الله وهن يشفعن إليه. وكانت قريش قد هيأت لها شعبًا من وادي حراض يقال له: سقام، يضاهون به حرم الكعبة، وكان لها منحر: ينحرون فيه هداياهم، يقال له: الغبغب ويقسمون

_ 1 الإسلام في حضارته ونظمة - ص52 الأستاذ أنور الرفاعي- دار الفكر. 2 يقول ابن الكلبي: وقد بلغنا أن رسول الله ذكر يوما فقال: لقد أهديت للعزى شاة عفراء وأنا على دين قومي ص19، ويكذب هذه الرواية حديث لرسول الله ورد فيه أنه ما عبد صنما قط.

لحوم هداياهم فيمن حضرها وكان عندها، وتخصها بالإعظام، وسدنة العزى: بنو شبيان ابن جابر بن مرة من بني سليم، وكان آخر من سدنها منهم دبية بن حرمي السلمي. فلم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيه فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 19-23] . فاشتد ذلك على قريش، ومرض أبو أحيحة مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه؟ قال: لا؛ ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعد. فقال أبو لهب: والله ما عبدت في حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعد لموتك. وكانت للعزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما فتح النبي مكة بعث خالد بن الوليد فقال له: "ايت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاثا سمرات، فاعضد الأولى"، فأتاها فعضدها، فلما جاء إليه، قال: "هل رأيت شيئا؟ " قال: لا قال: "فأعضد الثانية"، فأتاها فعضدها، ثم أتى النبي فقال: "هل رأيت شيئا؟ " قال لا: فقال: "فاعضد الثالثة"، فأتها فإذا بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها دبية وكان سادنها. فلما نظر إلى خالد قال: أعزاه شدي شدة لا تكذَّبي ... على خالد ألقي الخمار وشَمِّرِي أيا عز إن لم تَقتلي المرء خالدًا ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصَّرِي

فقال خالد: يا عزُّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة ثم عد الشجرة وقتل دبيةَ السادن، ثم أتى النبي فأخبره فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب؟ أما إنها لن تعبد بعد اليوم. قال أبو النذرة: ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئًا من الأصنام إعظام العزَّى ثم اللات، ثم مناة، فأما العزى فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية، وذلك فيما أظن كان لقربها منها. 2- هبل "بعل": وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها عندهم هبل وكان يسمى "بعلا" كما سيأتي، وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر وكان يقال له "هبل خزيمة" وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقداح مكتوب في أولها: صريح، والآخر: ملصق. فإذا شكوا في مولود أدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح فإن خرج صريح ألحقوه وإن خرج ملصق دفعوه. وقدح على الميت، وقدح على النكاح، وثلاثة1 لم تفسر لي على ما كانت، فإذا اختصموا في أمر، أو أرادوا سفرا، أو عملا أتوه فاستقسموا بالقداح عنده،

_ 1 يقول ابن هشام: وكان عند هبل قداح سبعة كل قدح فيها كتب: 1- قدح فيه "العقل" إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. 2- وقدح فيه "نعم" للأمر إذا أرادوه يضرب به القداح فإن خرج قدح نعم عملوا به. 3- وقدح فيه "لا" إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر. 4- وقدح فيه "منكم". 5- وقدح فيه "ملصق". 6- وقدح فيه "من غيركم" 7- وقدح فيه "المياه" إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقدح وفيها ذلك القدح فحيثما خرج ضربوا به.

فما خرج عملوا به وانتهوا إليه، وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال له أبو سفيان بن حرب حين ظفر يوم أحد: اعل هبل؟ أي علا دينك، فقال رسول الله: الله أعلى وأجل1. وهبل هو الصنم الذي أتى به عمرو بن لحي ونصبه على البئر التي حرقها إبراهيم -عليه السلام- في بطن الكعبة وكان تمثالا من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلت له يدا من ذهب، وكما هو واضح في الرواية نرى أن الصنم واسمه مستعربان. لذلك رأينا للمؤرخين خلافا حول أصل اشتقاق اسمه: فبعضهم يذهب إلى أن أصل اشتقاقه من العربية ويقول: هبل، أظنه من الهابل وهو الكثير اللحم والشحم ويستأنس بقول عائشة: والنساء يومئذ لم يهبلن اللحم أي: لم يسمنَّ. أو من الهبل والهبالة: وهو الغنيمة "أي" أنه يغتنم عبادته أو يغتنم من عبده2. أو من الهبل والشكل يراد به أن لم يطعمه هبله: أي شكله. ونلاحظ أن هذا التحليل فيه تكلف التوجيه ومشقة الرد إلى أصل عربي وخروج باللفظ عن حد الاعتدال في تأويله. - وبعضهم يذهب إلى أن لفظ هبل لا اشتقاق له في العربية من معناه. فهو غير مشتق من لفظ عربي. ويقول: إنه عبراني أصله هبعل ومعنى بعل السيد. وزاد على ذلك فقال: إن الهاء في التعبير العبري أداة التعريف مثل: "أل" في اللغة، فبإضافة هذه الأداة إلى بعل يريد الأكبر. وقال: أما العين الزائدة، فسهل إهمالها بالتخفيف، ثم ضياعها بالاستعمال وخصوصا في لفظ بعل؛ لأن الكلدانيين كانوا يلفظونه "بل" بإهمال العين وهو اسم هذا الإله عندهم. وقيل أن هبل القرشي هو بعل الإسرائيلي3.

_ 1 يراجع كتاب الأصنام 21، 22، 23، 24، 25. 2 معجم البلدان لياقوت "4: 97". 3 التاريخ الإسلامي العام ص244 د. علي حسن إبراهيم.

وعلى ذلك إذا صح تعليل الأستاذ جورجي زيدان اللغوي فلا يبقى شك في أن هبل هو بعل، والذي يؤكد صحة هذا الرأي أن الله أورده في التنزيل: "أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين". فقال الله: "بعلا" ولم يقل هبلا. وفي هذا ما يدل على أنه كان يسمى بعلا عند الإسرائيليين1. والأوفق عندي من خلال البحوث الحديثة: أن بعلا كان إله العبرانيين ولكن متى عرف العبرانيون وثنية بعل؟ والجواب أن ذلك حدث عندما استقر العبرانيون في كنعان وتمت عملية امتزاج بطيئة تركت عرضا علامات في دين العبرانيين مثل عبادات آلهة الكنعانيين "بعليم: أسياد البلاد"، ولم يكن هؤلاء البعليم على غرار يهوه آلهة حرب ولكنهم كانوا آلهة طبيعة مسالمين تتمثل في شخوصهم قوي الخصب والحياة المنتجة ويتألفون أزواجًا: ذكر "بعلا" وأنثاه "عشتاروت". ولهم ديانات محلية متباينة تصحبها الشهوة المخزية فربما كان دين العبريين قد هبط في يسر إلى مستوى الدين الكنعاني وكان يهوه قد اندمج في البعليم ولما ترك العبريون طابعا على تاريخ البشر الروحي، وظل يهوه بين كل ما تمثلوه من العبادات الكنعانية كالمرتفعات والصور الخشبية لعشتاروت أو العمد المقدسة إله شعبه المختار. وهذا أثر كنعاني على العبريين. وأما العبراني فهو أقدم من بني إسرائييل وإن كان إسرائيل منهم غير أن العبراني أعم من جهة ثانية؛ لأنه يشمل إبراهيم وقومه وهم غير اليهود، فكان بعل هذا هو إله قوم إبراهيم ويققارب أن يكون اسمه "هبعل البعل" ولعله يقابل "مردوخ" البابليين وبعل الكلدانيين، فأصله لا شك دخيل"2. حاول عمرو بن لحي أن يجعله إله الجزيرة الأكبر، إذ بمقارنة وظائف هذه الآلهة مع ما روي عن هبل يتضح لنا أنه كان إله الخصب، والرزق، ومن ثم إله

_ 1 المرجع نفسه. 2 الإسلام في نظمه ص41 الأستاذ أنور الرفاعي.

السعادة عند العرب، وربما أيضًا كان إله الحرب، فلا يرحل الراحل ولا يثوب الآيب المغترب إلا ويطوف به، وكانت عنده أقداح الأزلام ولا يستقسم بها إلا أمامه، ومراسم الأفراح والأحزان عنده أيضا. يقول علي حسن إبراهيم: وتشير إقامة هبل على البئر الكائن في بطن الكعبة إلى أنه كان ذا علاقة بالرزق والخصب في عقيدة العرب"1. يقول محمد عبد المعين خان: لا أتردد أن أقول: إن هبل كان إله الخصب والرزق ومن ثم إله السعادة وشبه رب الأرباب في عقيدة العرب2. وفي الروايات ما يؤكد عدم تردد خان في أن هبل هو الإله الذي عناه عمرو بن لحي حينما قال: إن ربكم مصيف باللات؛ لبرد الطائف ويشتو بالعزى؛ لحر تهامة3. وبذلك يكون هبل أو بعل رب الأرباب عند العرب وله جميع السلطات؛ وأهمها: الخصب والتجارة والرزق، ومن "اللات والعزى ومناة" وهم بناته يتشفع بهن لديه تكون عائلة وثنية مقدسة أبطلها الله بقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .

_ 1 الأساطير العربية ص110 محمد عبد المعين خان. 2 المرجع نفسه ص117. 3 أخبار مكة 1: 74.

معاهدتهم التجارية

معاهدتهم التجارية ... 3- معاهداتهم التجارية: وملكت قريش المعاهدات التجارية التي عرفت بالإيلاف. والإيلاف كتاب أمان: يعني أن يأمنا عندهم في أرضهم بغير حلف إنما هو أمان الطريق، وكان في قريش يقول الهروي في "الغربيين": الإيلاف: عهود بينهم وبين الملوك. - تعاقد هاشم مع الروم على أمان التجارة في طريق الشام ومات في إحدى

- وتعاقد المطلب بن عبد مناف مع اليمن وأخذ من ملوكهم عهدا لمن يتجر إليهم من قريش. - وتعاقد عبد شمس بن عبد مناف مع الحبش فأخذ إيلافا، وهلك بمكة فقبره بالحجون. - وتعاقد نوفل بن عبد مناف فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش وإيلافا ممن مر به من العرب ثم خدم ورجع إلى العراق ومات بسلمان. وبهذه الإيلافات "العهود الآمنة" لمسالك التجارة اتسعت تجارة قريش وكثرت أموالها1.

_ 1 يراجع الأمالي والنوادر ملحق بالأمالي لابنعلي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي "2: 204". دار الباز للنشر والتوزيع. وحاشية الشهاب على البيضاوي "1: 399".

التحمس القرشي

4- التحمس القرشي 1: الحمس جمع الأحمس وهم: قريش، ومن ولدت قريش، وكنانة، وبجيلة، وقيس، سموا حمسا؛ لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا، والحماسة الشجاعة، بمعنى: أنهم كانوا يقفون بمزدلفة، ولا يقفون بعرفة، ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم، وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون، وكانوا قد ذهبوا في ذلك مذهب التزهد والتأله، يقول ابن إسحق: لا أدري قبل الفيل، أو بعده

_ 1 ابن هشام "1: 123" وكذا النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، جزء أول، في حديث: هذا من الحمس فما باله خرج من الحرم، وكتاب مروج الذهب للمسعود "1: 207" قال النبي للأنصار: "أنا رجل أحمسي". عن قيس بن حازم قال دخل أبو بكر رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب بنت المهاجر لا تتكلم فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: جمعت مصمتة، قال لها: تكلمى فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت. قال جبير بن مطعم حين رآه واقفا بعرفة مع الناس قبل الهجرة وقبل النبوة: هذا رجل أحمسي: فما باله لا يقف مع الحمس حيث يقفون. ابن هشام "1: 135" قال السهيلي: وكان وقوف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفة مع الناس قبل الهجرة وقبل النبوة توقيفًا من الله.

ابتُدِعت آراء الحمس، ويغلب على ظني أنهم ابتدعوا هذا المذهب قبل عام الفيل منذ أن استقر أمرهم على خدمة البيت بعد قصي، ووزعوا الزعامة بينهم وأحسوا بعصبيتهم القبلية وتميزهم، فبيتهم: بيت العرب، ورب قبيلتهم: رب العرب، فنشأت فكرة الجمع بين فكرة الألوهية، وفكرة الملكية للبيت؛ ليصبغ عليهم الصفة المقدسة. ولقد قالوا في سبب تميزهم الطبقي والديني: نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرمة، وولاة البيت، وقطان مكة وسكانها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم؛ فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظم من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها -وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم- ويرون لسائر العرب أن يفيضوا منها. إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم فليس ينبغي أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس. والحمس: أهل الحرم، ثم جعلوا لمن ولدوا للعرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم قد دخلوا معهم في ذلك، ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن؛ لأنهم حتى قالوا: يحل لهم ما يحل لنا ويحرم عليهم ما يحرم علينا، وكانت كنانة وخزاعة ترى أنه ينبغي للحمس أن يأتقطوا، ويأكلوا السمن، وهم لا يدخلون بيتا من شعر ولا يستظلون إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا. ثم رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجا أو عمارا ولا يطوفوا بالبيت؛ إذ قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة. فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب الحمس، فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوفه، ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا. وكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقى.

فحملوا على ذلك العرب فدانت به، ووقفوا على عرفات، وأفاضوا منها وطاف الرجال بالبيت عراة، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعا مفرجا ثم تطوف فيه1. قال الشاعر يذكر شيئا تركه من ثيابه فلا يقربه، وهو يحبه: كفى حزنا كري عليها كأنها ... لقى بين أيدي الطائفين حريم أي حرام لا تمس. ونلاحظ أن هذا المذهب الديني عندما وضعته قريش رمت به إلى ربط قبيلتها بقدسية البيت سواء أكانت القبيلة قائمة في حرمه الآمن أم كانت في الحل، فكل من ينتمي إلى قريش توالدا يكون تشريعه الخاص في نسكه. هكذا أصبح للعبدة في الكعبة مراسيم وثنية معينة: يحج الناس إليها في التاسع من ذي الحجة، فيحرمون، ويطوفون، ويلبون، ويرمون الحجارة، ويتمسحون بالأنصاب والأوثان التي فيها، ويهدون ما هم مهدون ثم ينصرفون. وكان أهل الحرم يؤمون الناس في المناسك، وسدانة البيت عندهم: وراثية في آل "عبد الدار" "وهم يشبهون الأسر الدينية التي كان بيدها تنظيم الأعياد الدينية لدى اليونان"2. ومن جانب آخر عززت قريش بكل قوتا مركزها المالي باستغلال مركز مكة التجاري فنظمت القوافل فكان لها رحلتان: رحلة الشتاء: إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، عدا الرحلات إلى الحيرة وتزايدت في اليمن وبالغت في نشر قداسة البيت الحرام لحماية تجارتها في الصحراء من غزو الفتاك. وبهذا الإيلاف ربطت علائقها مع الأمم المجاورة أي باتفاقاته. عقد هاشم بن عبد مناف: أحدها مع أمراء الغساسنة والرومان، فأذنوا له ولقومه بالتجارة مع الولاية العربية في بصري ومع ولاية فلسطين في غزة، وعقد عبد شمس

_ 1 والذي يطوفون بالبيت أصناف ثلاثةك أهل الحم: يطوفون في ثيابهم. وأهل الحل: يطوفون عراة إذا لم يجدوا ثياب الحمس، أو في ثيابهم ثم يلقونها محرمة عليهم. وأهل الطلس: كانوا يأتون من أقصى اليمن حاملين الغبار فيطوفون بالبيت في تلك الطلس. ولعلهم يقصدون من طرح الثياب طرح الذنوب التي اقترفوها. 2 الإسلام في حضارته ونظمه ص55 أنور الرافعي.

وإخوته: إذنًا مع ملوك الحبشة بأكسوم ونال مثل هذا الإذن أخواه نوفل والمطلب من الحمريين في اليمن ومن فارس والمناذرة في العراق، وبذلك "نشأت في مكة بيوت تجارية "وكالات" للحبشة وللرومان، ولعلها كانت نتيجة لهذه الاتفاقات، وبلغ من تغلغل التجارة في قريش أنه قيل من لم يكن من قريش تاجرًا فليس بشيء"1. عززت قريش وضعها الاقتصادي: برحلاتها التجارية، وعززت أيضًا وضعها القبلي: بتشريعاتها الوثنية، وارتباطها بالبيت حتى أصبح كل من يتمرد على قريش متمردا على قدسية البيت، ومن يتمرد على البيت فهو يتمرد على قريش، وبهذا أصلت الوثنية الوضع القبلي وأصبح هدم النظام القبلي يستدعي هدم النظام الوثني، وهذه تعد عقبات في سبيل الإصلاح.

_ 1 الإسلام في حضارته ونظمه ص52.

نتائج التحمس القرشي

5- نتائج التحمس القرشي: الطواغيت: ولما رأت العرب ذلك طلبوا بيوتا يضاهون بها الكعبة، قال ابن هشام: وكانت العرب قد اتخذت من الكعبة طواغيت؛ وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب، وتهدي إليها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها حول البيت العتيق، ومنها بيت رضا، فأصبح هناك بيت لبني ربيعة يدعى بيت رضا -بضم الراء والتنوين- هدمه المستوغر في الإسلام. وذو الكعبات بسنداد: لبكر وتغلب ابني وائل. وكان لإياد كعبة أخرى بسنداد من أرض الكوفة والبصرة في الظهر، وهي التي ذكرها الأسود بن يعفر، وقد سمعت أن هذا البيت لم يكن بيت عبادة إنما كان منزلا شريفا فذكره. والقليس: وقد كان أبرهة الأشرم قد بنى بيتا بصنعاء "كنيسة" سماها: رالقليس -بالرخام وجيد الخشب المذهب- وكتب إلى ملك الحبشة يقول: إني قد

بنيت لك كنيسة لم بينِ مثلها أحد قط، ولست تاركا العرب حتى أصرف حجهم عن بيتهم الذي يحجون إليه، فبلغ ذلك بعض نسأة الشهور، فبعث رجلين من قومه وأمرهما أن يخرجا حتى يتغوطا فيها، ففعلا، فلما بلغه ذلك غضب وقال: من اجترأ على هذا1، فقيل: بعض أهل الكعبة، فغضب وخرج إلى الحبشة فكان من أمره ما كان. اللات: بيت لثقيف بالطائف كانوا يعظمونه مثل تعظيم الكعبة. كعبة نجران: وكان لبني الحارث كعبة بنجران يعظمونها؛ وهي التي ذكرها الأعشى في قوله: وكعبة نجران حتم عليـ ... ـك حتى تناخي بأبوابها وقد زعموا أنها لم تكن كعبة عبادة ولكن كانت غرفة لأولئك القوم الذين ذكرهم. رئام2: كان لحمير بصنعاء يعظمونه ويتقربون عنده بالذبائح، وكانوا فيما يذكرون: يكلمون منه، فلما انصرف تُبَّع من مسيره الذي سار فيه إلى العراق قدم معه الحبران اللذان صحباه من المدينة فأمراه بهدم رئام، فقال: ما شأنكما به؟ فهدماه وتهود تبع وأهل اليمن، ثم لم يسمع بذكر رئام ولا نسر في شيء من الأشعار ولا الأسماء. بيت الحوراء: وكان رجل من جهينة يقال له: "عبد الدار بن حديب" قال لقومه: هلم نبني بيتا -بأرض في بلدهم يقال لها الحوراء- نضاهي به الكعبة ونعظمه؛ حتى نستميل به كثيرا من العرب، فأعظموا ذلك وأبوا عليه.

_ 1 القليس: هو الكنيسة التي بناها أبرهة في صنعاء وهو لفظ أخذه العرب عن الروم ثم حرف بعد إلى كنيسة ويظن بعضهم أن لقليس لفظ عربي مبني ومعنى يقول عبد الرحمن بن محمد: سميت القليس لارتفاع بنيانها من القلانس؛ لأنها أعلى الرءوس. معجم البلدان مادة قليس، تاريخ الإسلام العام ص55 هامش د. علي حسن إبراهيم. 2 قال في القاموس: رآم كسحاب: بلد لحمير: وفي اللسان: رئام ككتاب: موضع، وقيل: هي مدينة من مدائن حمير يحل بها أولاد أود، قال الأفوه الأودي: إنا بنو أود الذي بلوائه ... منعت رئام وقد غزاها الأجدعُ

ولعل نشأة تلك البيوت المقدسة أو الطواغيت يرجع -في نظرنا- إلى نشأة مذهب قريش الأحمسي الذي صبغ البيت الحرام بصبغة قبلية قرشية اضطرت القبائل المجاورة أن تحاكيها بمثل بيتها.

تقويم التحمس القرشي

تقويم التحمس القرشي: ينازعنا القوم في محاولتنا الإدلاء برأي يحدد بوجه تقريبي تاريخ ابتداع قريش تحمسهم. يغلب على ظني أن ابتداع مذهب الحمس القرشي كان قبل غزو أبرهة للبيت؛ لأن مذهب الحمس يؤكد على عصبية قريش القبلية، وكانوا يرون في ذلك امتيازا طبقيًّا "فليس لأحد من العرب مثل حقنا" فلا يساوي الحرم وساكنوه بالحل وساكنيه، وقالوا بعضهم لبعض: "إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم"، واقتضاهم رأيهم في تحمسهم أن يخرجوا فيه عن بعض دين إبراهيم، "فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر ومناسك الحج ودين إبراهيم". فتألههم العصبي "العرقي" جرفهم عن الالتزام بدين إبراهيم. وكما أنهم خرجوا بتحمسهم عن دين إبراهيم؛ ليرفعوا عصبيتهم على دينهم فرضوا تحمسهم على العرب، "فحملوا على ذلك العرب فدانت به"، وكان من نتائج ذلك على العرب وقريش أن اعتبر العرب أن مسئولية البيت تقع بالدرجة الأولى على قريش، وظهر ذلك عندما سأل أبرهة عن سيد أهل هذا البلد وشريفها، فقيل له: عبد المطلب فلما جاء إليه عبد المطلب سأله أن يرد إليه الإبل قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟! قال له عبد المطلب: الإبل لي والبيت له رب يحميه. هذا يعني أن قريشًا عزلت نفسها والبيت عن العرب، كذلك مر حديث أبرهة وغزوه للبيت لدى كتاب السير، كما لو كان الأمر مكيدة لعبد المطلب وبيته فقط، فلم يتحرك له العرب وهم أشعلوا الحروب القبلية أو بين القبيلة الواحدة لأتفه

الأسباب، وعلى ما نظنه يظهر أن الأمر في هذا لا يفهم إلا من خلال رأي قريش في التحمس وهو أنهم عزلوا أنفسهم به من حيث أرادوا تسودًا ورفعة قبلية. وكانت النتيجة أن ظهرت قريش وعليها طابع الذلة عند مفاوضتها لأبرهة، وتخلف العرب عنه. يقول ابن هشام: ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. ويبدو لنا أن حلف الفضول؛ وهو يحمل في طياته نزعة إنسانية عالية حيث تعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا أقاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. قلنا: يبدو لنا -ولا سيما أنه كان معه حملة أبرهة- أنه رد فعل لموقف العرب من قريش وأبرهة وتحويل للجانبين السياسي والاجتماعي لمذهب الحمس القرشي الذي وصفه الرسول بقوله: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت؛ تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها وألا يعزّ ظالم مظلومًا". بينما قريش وصفته بقولها1: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، فلم يكن الحلف واقعا من قريش موقع الرضا إنما اعتبرته تدخلا في فضل من الأمر. ونلاحظ أن الدعوة إليه كانت في دار عبد الله بن جدعان ولو رضيت عنه قريش لدعو إليه في دار ندوتهم. على أية حال نرى أن ما ابتدعته قريش من رأي الحمس يرجع إلى ما قبل أبرهة بكثير منذ نزعت العرب إلى تقليد الكعبة بطواغيتها، وقد أورد ياقوت نصا يؤيد فيه ما وصلنا إليه، ويقول فيه: كانت تحج إليها وفود حمير وكندة وغسان مقرِّين بأنهم مدينون للحمس من قريش ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم فرضًا وشرفًا عندهم.

_ 1 معجم البلدان. أما الأزرقي فإنه يرى أن ظهور الحمس كان بعد حادثة الفيل "1: 118" أخبار مكة.

وإذا صح ما ذهبنا إليه وهو أن مذهب الحمس القرشي بانت أصوله قبل حملة أبرهة الحبشي، وحملت قريش العرب عليه فتكون مظاهر الوحدة العربية والسيادة القرشية سابقة على العصر الإسلامي؛ فدينهم الوثني هو دين الجزيرة وبيتهم بات مركزًا للأصنام الممثلة للقبائل -كما حكى الأزرقي أنه وجد في مكة ما يربو على ثلاثمائة صنم؛ أي أنه لكل قبيلة صنمها في ربعها وصنم في بيت الأصنام. كذلك يتبع المظهر العام للوحدة، المظهر اللغوي، ونعني به أن لغة قريش أصبحت سائدة ولا سيما في المناسبات الرسمية التي تقتضيهم قرض الشعر والمفاخرة به وإذاعته في منتدياتهم الرسمية عكاظ ومجنة وذي المجاز. نقول: اتجه العرب على اختلاف لهجات قبائلهم إلى صياغة أشعارهم بلغة قريش -وذلك واضح من قراءتنا لها- حيث لا يبدو اختلاف في لهجتهم ونطقهم لا على جدار الكعبة ما يؤيد ما تذهب إليه أن هذه المعلقات تكلف لها العرب لغة قريش لترف على بيت قريش وتعتبر ظاهرة الواحدة -أي طابع قريش العام- من حيث اللغة والدين ونسك الحج والاقتصاد مما سيطر على العرب قبل الإسلام، وكانت كلها عوامل ممهدة لنزول القرآن بلغة قريش؛ إذ ليس من المعقول أن ينزل القرآن بلغة قبيلة من قبائل العرب دون أن يكون وراءه أسباب تاريخية تشهد بسمو هذه اللغة القرشية على غيرها وفي رأينا -الذي له شواهده التاريخية- أن هذه اللغة القرشية تعدت نطاق قبيلة قريش فحملوها معهم -وهم رسل التجارة- إلى بطن الجزيرة ومشارفها وخارجها، فكتبت بها العهود التجارية التي أبرمتها مع الرومان، والفرس، واليمن، والحبشة، وفي النقل التجاري عوامل حيوية في ميدان الاقتباس، فعندما نزل القرآن كان يتفق مع الروح العربية في اصطفائها لغة قريش؛ لغة ثفافة وحضارة ونشر للآداب والأشعار. أما من ناحية المضمون الفكري فنرى أن القضايا الفكرية التي تناولتها لائحة قريش التنفيذية كانت خالية من أي عمق فكري فلا نرى فيها ما يشير من قريبب أو من بعيد إلى مشكلات المجهول: كقضايا البشرية، والخلق، ويبدو أنها كانت لا تراود عقل العربي إلا في النادر اليسير من الأوقات.

فدينهم الوثني: لا حياة فيه ولا معنى له، ولا يساعد أحدا منهم على أن يحدد العلاقات التي تربط هذه الآلهة المتعددة بالبشر، وصرفهم عن فهم ما لديهم من فكر غامض ناشئ عن قوة عالية فكانوا يقدسون الأوثان؛ لأنها تمثل هذه القوة بوساطة طقوس وثنية ورثوها عن أجدادهم. ووثنية العرب لم تستطع أن تجيب إجابات مقنعة على الأسئلة البدهية التي تتردد في ذهن كل شخص مفكر مثل: من أين خلقت؟ وإلى أي نهاية مصيري؟ وما هدفي وغرضي من الحياة؟ "لم يشغل العربي ذهنه بشيء من القضايا أو ما هو من قبيلها، ولكن كانت حياة العربي حياة حرية ومرح وسرور ومجون، وكانت المخمر والنساء والحرب هي الأشياء التي يحبها العربي ويهتم بها"؛ فهو إما أن يستغرق في الخمر أو ينصرف إلى الفسق أو يستنفد قوته وطاقته في الحروب القبلية أو سلب جاره وكانت حياة مرح لا يعكر صفوها أفكار خطيرة أو تأملات دينية تدفع إلى الميل أو الرغبة في عمل الخير. "لقد كان هدفهم من الحياة أن يتمتعوا بحاضرهم وأن يحرزوا النصر في معاركهم، وإلى يومنا هذا نجد البدوي محتفظًا بهذه الصفات فهو في غالب حالاته لا يتقيد بالدين1. "والدلائل تشير إلى أن الوثني في الجاهلية على العموم لم يكن يتمسك في دينه بعقيدة نابعة من شعور ديني عميق أو عاطفة روحية شديدة قائمة على عقل سديد أو تفكير سليم، ولكن هي عادات تأصلت في نفوسهم تقليدًا لغيرهم أو تمسكًا بسلوك آبائهم وأجدادهم السابقين"2. ويحلل بلاشير3 العاطفة الدينية عند الجاهلية فيقول: إن العاطفة التي كانت تسيطر على النفوس في المحيط العربي قبل ظهور

_ 1 تاريخ الإسلام العام ص18. 2 تاريخ الأدب الجاهلي علي الجندي "1: 117". 3 تاريخ الأدب العربي ص16.

الإسلام شبيهة بالعاطفة التي كانت تسيطر على النفوس عند العبرانيين في مرحلة البداوة وهي: الاعتقاد بتعدد الشياطين وهذا نوع من المذهب النفسي ومن صفاته: شعور الرجل بأنه محاط بقوى خفية يصعب عليه تحديد ماهيتها وتسميتها بأسماء خاصة إلا أنه يعجز دوما عن تشخيصها. فإن عبادة الأوثان والإيمان بالجن والأغوال -وهي نفوس شريرة تهاجم الإنسان في الوحدة"- كل هذا يشكل أساس الدين ومذهبه الفكري في علاقتهم بالحياة. وإن تعدد الآلة في صلته الضيقة مع تعدد الشياطين يدل على استعداد العرب القدماء لتشخيص القوة الكامنة في الأشجار وينابيع المياه وتسميتها بأسماء وربطها مع الإلهيات، ومهما يكن منشأ تعدد الآلهة، فلا نرى بدًّا من تقرير أنه أفاد العرب باستثناء بعض النفوس المتزمتة في بعض المراكز الحضارية، وقادهم إلى جعل الدين مصدر تأملات أو بحوث نظرية. على أن حوادث الحياة والتجارب مع العلم بأن قوى الطبيعة هي الغالبة في الصحراء قد نمت في العربي المحارب قدرية عميقة لا لأن العربي يشبه أيوب الصابر على الأذى؛ بل لأن العربي المحارب بالإضافة إلى المتناقضات في خلقه لا يحتمل أحداث الحياة بصورة سلبية فإنَّ موقفه منها بادئ الأمر هو: موقف المناضل غير أنه إذا وجد أمام المقدور انحنى خاضعا شاعرًا بعقم الجهد أمام هذه القوى الهائلة المنطوية تحت كلمة "الدهر". وهذا الاستسلام النهائي يملي عليه حكمًا ذات يسارة لا تخلو من السمو موحية إليه بتصرفات عرضية ولكنها مؤثرة جدا في بعض الأحيان، وهكذا كان العربي بارتفاعه فوق نظرته التافهة للوجود قد عوض إلى حد ما عن فقر فكره الديني.

موقف القرآن من التحمس

موقف القرآن من التحمس: إذا كان التحمس مذهب قريش فإن من المتصور لرجل الإصلاح وهو قرشي سوف ينهض بدعوته من هذا المذهب؛ ليجذب أفراد قبيلته إليه من جانب، ويحيي عصبيتها القبلية والدينية من جانب آخر. كان هذا هو المتصور، ولكن واقع الأمر كان غير ذلك فرسالة الإصلاح التي

اضطلع بعبئها الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن نابعة من تصوره ولا مدفوعا إليها رغبة في زعامة أو رياسة أو جاه حتى تكون وفق ما تصورنا، ولكن كانت رسالة إلهية تبغي الإصلاح ما استطاعت إليه سبيلا، ورسالة هزت كيان القبائل العربية وأوثانها وكان على رأس هذه القبائل جميعًا قبيلته صلى الله عليه وسلم فهدم عصبيتها القبلية والدينية؛ ليحل محلها معاني جديدة في مدلولها الإنساني كمبدأ الإخاء والتضامن والتكافل، نعم هدم بها عصبيتها الدينية فألغى تشريعاتها التي عرفت بالحمس، وأحل محلها دينه وفرض في حجه المساواة، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] . يعني على قريش أن تتساوى مع الناس ي فريضة الحج فيصعدوا معهم إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها. وأنزل الله عليه فيما كانوا قد حرموا على الناس من طعام ولباس عند البيت حين كانوا يطوفون عراة، قوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف] . وقال -تبارك وتعالى- عائبا عليهم سلوكهم الديني: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} 1؛ أي أنهم كانوا يطوفون عراة ويصفقون ويصفرون. وقال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 2. لأن الحمس لا يدخلون تحت سقف ولا يحول بينهم وبين السماء عتبة باب ولا غيرها، فإن احتاج أحدهم في داره تسنم البيت من ظهره ولم يدخل من الباب فرد الله ذلك عليهم بقوله سبحانه: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3. ثم بين أنهم يسندون هذه الشعائر إلى ابراهيم.

_ 1 سورة الأنفال الآية 35. "2، 3" سورة البقرة الآية 189.

وإذا كانت ملة أبيكم إبراهيم فإبراهيم لم يكن من المشركين، وأخيرًا ألغى الوحي الإلهي مظهر البيت القبلي القرشي، ومظهره الوثني، وأتى على مذهب الحمس فعصف به، ثم رفع الوحيُ من شأن البيت الحرام، وجعله مثابة للناس وأمنا، وقبلة للناس جميعا، وأصبحت عالمية البيت الحرام بالإسلام حقيقة مقررة. أما الأصنام التي كانت منصوبة حول الكعبة فطعنها الرسول بسية قوسه في عيونها، وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"؛ ثم أمر بها فكفئت على وجهها، ثم أخرجت من المسجد فحرقت. فمن موقف الرسول مع المذهب الأحمس القرشي، وموقفه من الأوثان العربية وأصنامها وأنصابها وضح أن مصدر الإسلام لا يتصل بنسب إلى الوثنية العربية وإنما مصدره الوحي الإلهي.

الباب السادس: من قضايا الفكر الديني الجاهلي

الباب السادس: من قضايا الفكر الديني الجاهلي نظرات تحليلية في نشأة الديانة الوثنية ... نظرات تحليلية في نشأة الديانة الوثنية: زعم بعض المستشرقين: أن لفظة "الدين"؛ من أصل أعجمي وأنها من الألفاظ المعربة؛ وأصلها فارسي، هو: "دينا Daena"، وقد دخلت في العربية قبل الإسلام بمدة طويلة. وترد لفظة "دين" بمعنى: الحشر في الإرمية والعبرانية كذلك، وهي: "دينو" في الإرمية، وتقابل لفظة "Daino" الإرمية لفظة الديان في العربية، وهي بمعنى: القاضي في هذه اللغة، وتعني: لفظة "دين" القضاء في اللغة البابلية، و"ديان" الحاكم والمجازي، والقاضي في لغة بني إرم؛ وهي: بهذا المعنى في العربية أيضا. والدين في تعريف علماء اللغة: العادة، والشأن؛ تقول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني؛ أي: عادتي. والدين: بمعنى الطاعة والتعبد، وقد ورد في الحديث: كان على دين قومه. أي: كان على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم من الحج والنكاح، والميراث. وجاء: كانت قريش، ومن دان بدينهم؛ أي اتبعهم في دينهم، ووافقهم عليه، واتخذ دينهم له دينا وعبادة. ومن دين: الديان بمعنى الحاكم، والقهار، ومن ذلك: مخاطبة الأعشى الجرمازي الرسول بقوله: يا سيد الناس وديان العرب والديان: من أسماء الله تعالى. وقد وردت: هذه اللفظة في المعنى المفهوم منها في الإسلام، في بيت شعر ينسب إلى امية بن أبي الصلت، وهو: كل دين يوم القيامة عند الـ ... ـله إلا دين الحنيفة زور1 ووردت بهذا المعنى أيضا في النصوص الثمودية؛ ووردت في نص سجله رجل من قول ثمود، توسل فيه إلى الإله "ود" أن يحفظ له دينه، ووردت في نص آخر جاء فيه: بدين "ود أمت" أي: بدين ود أموت. فاللفظة إذن من الألفاظ العربية الواردة في النصوص الثمودية؛ وقد يعثر عليها في نصوص جاهلية، مدونة بلهجات عربية أخرى2.

_ 1 المفصل جـ6 ص726، غرائب اللغة ص182، اللسان مادة دين 13/ 166. 2 المفصل جـ6 ص8.

ذهب "رينان": إلى أن العرب هم مثل سائر الساميين الآخرين موحدون بطبعهم، وإن ديانتهم هي من ديانات التوحيد! وهو رأي يخالفه فيه نفر من المستشرقين. وقد أقام "رينان": نظريته هذه في ظهور عقيدة التوحيد عند الساميين من دراسته للآلهة، التي تعبد لها الساميون. ومن وجود أصل كلمة "أل. أيل" في لهجاتهم، فادعى أن الشعوب السامية كانت تتعبد لإله واحد، هو "أل. إيل" الذي تحرف اسمه بين هذه اللهجات، فدعي بأسماء أبعدته عن الأصل؛ غير أن أصلها كلها هو إله واحد؛ هو الإله "أل. إيل". وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن العرب الأولى كانت على ملة إبراهيم من الإيمان بإله واحد أحد؛ اعتقدت به، وحجت إلى بيته وعظمت حرمه، وحرمة الأشهر الحرم؛ بقيت على ذلك؛ ثم سلخ بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم، وإسماعيل غيره؛ فعبدوا الوثان، وابتعدوا عن دين آبائهم وأجدادهم؛ حتى أعادهم الإسلام إليه. ونظرية "أن العرب جميعًا كانوا في الأصل موحدين؛ ثم حادوا بعد ذلك عن التوحيد، فعبدوا الأوثان، وأشركوا": نظرية يقول بها اليوم: بعض العلماء مثل: "ويليم شميد"؛ الذي درس أحوال القبائل البدائية الوثنية، ترجع بعد تحليلها، وتشريحها، ودرسها إلى عقيدة أساسية قائمة على الاعتقاد بوجود القديم؛ الكل، أو الأب الأكبر؛ الذي هو في نظرها العلة، والأساس؛ فهو إله واحد؛ وتوصل: إلى أن هذه العقيدة هي: عقيدة سبقت التوحيد؛ ثم ظهر من بعدها الشرك وقد أطلق عليها في الألمانية: مصطلح Urmon Otheismus أي: التوحيد القديم. رأينا فيما سبق أن الجاهلي عرف حياة دينية تتعمق به حينا ويطفو بها على السطح حينًا آخر، حتى يتسرب الشك إلى نفسه، وحتى يخيل إلينا أن البدوي قليل الدين، وأنه قلما يكترث لما يعبد.

والعربي إذ يتعمق في حياته الدينية أو يسخط عليها يصدر في ذلك عن طبيعته البدوية وليس عن فكر ديني في أغلب الأحيان. فالعربي ذكي إلى حد أنه تكفيه الإشارة، فمأثور الحكمة والأمثال يشهد بذكائه وحاضر بديهته وطبيعته من وراء ذلك، فهو شخص ميال إلى الاعتزال بنفسه بما يخدم حريته الشخصية فلا يدين لأحد، هو ذكي غير ميال إلى التفاهم الاجتماعي. ونظامه القبلي -وهو شكل اجتماعي بدائي- صرفه عن أن يفكر في محيط اجتماعي أوسع، فلم يفكر في تغيير مجرى حياته الاجتماعية أو الفكرية فانحصر فكره داخل قبيلته ولم يخرجها عن مألوفها إلا بقدر ما يخدم رؤيته الشخصية، فهو عضو في قبيلته مخلص مطيع لتقاليدها، ولذلك عاش العربي مقلدًا غير ميال إلى التغيير الاجتماعي، وكان يحب من الأفكار ما يلهيه ويرفع عنه سآمة الحياة ويتناسب مع سعة الخيال الخاص الذي يتسع للعقاب والغول والجان والشياطين سعة تتناسب أيضًا مع رحابة الصحراء في جزيرة العرب، كان يحب مثل هذا الفكر وليس ذلك لضعف في طبيعة عقله؛ ولكن لميوله الفكرية فهو يرى أنه غير ميال إلى التغيير ولم يغير؟ إنه رئيس في قبيلته أو عضو عامل فيها فالتغيير لماذا؟ إن الحفاظ على وضعه فيه نوع من الفكر الذووي المنغلق على نفسه هو؛ فلذلك اندفع نحو الخرافات؛ ليحفظ بها نظامه القبلي. وليس العربي وحده هو الذي كان مصدقًا للخرافات فالأمة اليونانية فيها خرافات كثيرة تتناسب مع عقلها المنطقي. فحياته الدينية كانت تقليدًا، وغير مرتبطة بحياة عقلية ناضجة وليست كما يرى بعض الباحثين من أن العقائد الدينية قبل الإسلام خضعت لعوامل التغيير والتحول، ومن هؤلاء الأستاذ أنور الرفاعي؛ إذ يقول: عرف عن عرب ما قبل الإسلام أنهم وثنيون وعرفت وثينتهم وتقاليدهم في القرآن الكريم بالجاهلية وعلى الرغم من

ذهاب معظم أخبارها، تسرب إلينا نتف كثيرة من أساطير الجاهليين ومعتقداتهم وأفكارهم، وكلها تدل على أن الوثنية ليست بسيطة التركيب ولا قريبة المتناول، فما وصلنا منها يدل على أنها مرحلة راقية، وأن كثيرًا من قديمها قد بقي في متأخرها وأن بعض أحوالها صيغ بالأفكار اليهودية أو الصابئية أو المسيحية أو اتحد مع عقائد أجنبية، ومن الضروري أن نلجأ في تفهمها إلى تصنيف تاريخي يمهد لبيان أطوارها ومعتقداتها في الزمن. واستعراض الأساطير والعقائد العربية الجاهلية يدلنا على أن الوثنية العربية مرت في أطوار تشبه تلك التي مرت بها وثنيات الأمم الأخرى فإنها عرفت: 1- الطور الحيوي: وفيه اعتقد العرب أن في كل شيء حياةً، فعبدوا الشجر والحجر والجن، واعتقدوا أن الحجر شجر الشياطين، وأن الصفا والمروة هما: رجل وامرأة فسقا في الحرم فمسخا حجرين، وأن الضب هو يهودي مسخ فلا يؤكل لحمه، وأن حجارة الحرم تحمل قدسيته فهم يحملون منها للعبادة في ديارهم ... إلخ. 2- الطور الطوطمي: وفيه تنحصر الحياة والأرواح في أشياء محدودة: ومن بقايا هذا الطور ما وجد عندهم من تسمية الإنسان بأسماء الحيوان، ومن عبادة بعض البهائم، كالجمل الأسود عند طيئ، والكبش الأبيض، ومن التشاؤم بالغراب والبوم، ومن عبادة الأصنام على شكل الحيوان كيغوث وهو على شكل نسر، ويعوق وهو على شكل فرس ... إلخ. 3- الطور الوثني وتعدد الآلهة: وفيه وصل العرب إلى تصور الإله بأشكال إنسانية، وتعددت الآلهة عندهم وتخصصت ومهدت للطور الوحداني الذي جاء به الإسلام. ونحن لا نشايع الأستاذ أنور الرفاعي فيما ذهب إليه من تحليل للوثنية العربية وانتقالها إلى أطوار مختلفة لما رأينا بينهم من أنهم مجتمع قبلي وأن لكل قبيلة معبودها حجرًا أو شجرًا أو حيوانًا، وأنها ذهبت في عبادتها لهذه الأوثان المتعددة والمختلفة مذهب التقليد والمحاكاة.

يقول اسبتينو موسكاتي1: وقد عرفت القبائل البدوية في وسط الجزيرة طائفة كبيرة من الآلهة، ولكنها ليست آلهة أو إلهات محددة تحديدًا واضحًا لها صفاتها وأساطيرها الثابتة، بل أرواح كل منها تهيمن على موضع وتحميه مثل البعول الكنعانية المختلفة. فخيال البدوي أضفى أرواحا على الآباء والأشجار والحجارة، وشعر بوجود آلهة فيها. وكانت تسكن الصحراء أرواح أخرى محلية غير الآلهة، هي خليط من مخلوقات غريبة بعضها خير وبعضها شرير، تملك القدرة على الاستخفاء، وكان على المرء استرضاؤها إذا أراد اجتناب أذاها. نظرية البيروني: يقول: معلوم أن انطباع العامي نازع إلى المحسوس، نافر عن المعقول الذي لا يعقله إلا العالمون، الموصوفون في كل زمان ومكان بالقلة، ولسكوته إلى المثال عدل كثير من أهل الملل إلى: التصوير في الكتب والهياكل "اليهود، والنصارى"؛ ثم "المنائية" خاصة؛ ناهيك شاهدًا على ما قلته: إنك لو أبديت صورة النبي صلى الله عليه وسلم أو مكة والكعبة لعامي، أو امرأة لوجدت من نتيجة الاستبشار فيه دواعي التقبيل وتعضير الخدين، والتمرغ؛ كأنه شاهد المصور، وقضى بذلك مناسك الحج والعمرة؛ وهذا هو السبب الباعث على إيجاد الأصنام بأسامي الأشخاص المعظمة من الأنبياء، والعلماء والملائكة مذكرة أمرهم عند الغيبة والموت ومبقية آثار تعظيمهم في القلوب إلى أن طال العهد بعامليها، ودارت القرون والأحقاب عليها ونسيت أسبابها، ودواعيها، وصارت رسما وسنة مستعملة، ثم داخلهم أصحاب النواميس من بابها؛ إذ كان أشد انطباعا فيهم فأوجبوه عليهم؛ وهكذا وردت الأخبار فيمن تقدم عهد الطوفان، وفيمن تأخر عنه؛ وحتى قيل: إن كون الناس قبل بعثة الرسل أمة واحدة هو على عبادة الأوثان. ومن الأصنام المشهورة: صنم "مولتان" باسم الشمس، ولذلك سمي "أدت"، وكان خشبيًّا ملبسًا بسنحتيان أحمر، وفي عينيه ياقوتتان حمراوان.

_ 1 الحضارات السامية ص206 ترجمة السيد يعقوب أبو بكر.

ومتى كان الصنم المصور من أحد الجواهر كان خيرًا من الخشب، والخشب خير من الطين؛ فإن عوائد الجواهر تشمل رجال المملكة ونساءها، والذهب يخص صاحبه بالقوة، والفضة بالمدح، والنحاس بالزيادة في الولاية، والحجر بامتلاك الأرضين، والصنم يشرف بصاحبه لا بجوهره. وقد كانت اليونانية في القديم: يوسطون الأصنام بينهم، وبين العلة الأولى، ويعبدونها باسم الكواكب والجواهر العالية؛ إذ لم يصفوا العلة الأولى بشيء من الإيجاب؛ بل بسلب الأضداد تعظيما لها، وتنزيهًا، فكيف يقصدونها للعبادة؛ ولما نقلت العرب من الشام أصنافا إلى أرضهم عبدوها كذلك؛ ليقربوهم إلى الله زلفى. وهذا أفلاطون: يقول في المقالة الرابعة من كتاب النواميس: "واجب على من أعطى الكرامات التامة أن يتعبد بسر الآلهة والسكينات، ولا يترأس أصنامًا خاصة للآلهة الأبوية؛ ثم الكرامات التي للآباء إذا كانوا أحياء؛ فإنه أعظم الواجبات على قدر الطاقة، ويعني بالسر الذكر على المعنى الخاص، وهو لفظ يكثر استعماله فيما بين "الصابئة الحرانية"، "والثانوية المنائية"، ومتكلمي الهند. وقال جالينيوس في كتاب "أخلاق النفس": إن في زمان "قومودس" من القياصرة، وهو قريب من خمسمائة ونيف للإسكندر أتى رجلان إلى بائع الأصنام فساوماه صنم "هرمس" أحدهما يريد نصبه في هيكل؛ ليكون تذكرة "لهرمس"، والآخر يريد نصبه على قبر؛ ليذكر به الميت1. في نظر الرازي: يقول الرازي المفسر: اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكا يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة وهذا مما لم يوجد إلى الآن.

_ 1 تحقيق ما للهند: البيروني ص78.

لكن في الوثنية يثبتون إلهين: - أحدهما: حليم: يفعل الخير. - والثاني: سفيه: يفعل الشر. وأما اتخاذ معبود سوى الله ففي الذاهبين إلى ذلك كثرة: الفريق الأول: عبدة الكواكب وهم الصابئة؛ فإنهم يقولون: إن الله خلق هذه الكواكب، وهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم، قالوا: فيجب علينا أن نعبد الكواكب والكواكب تعبد الله. الفريق الثاني: النصارى الذين يعبدون المسيح. الفريق الثالث: عبدة الأوثان واعلم أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأوثان؛ وذلك لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح وهو إنما جاء بالرد على ما أخبر الله عن قومه في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] . فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودة قبل نوح وهي باقية إلى الآن بل أكثر أهل العالم مستمرون على هذه المقالة. يقول الرازي: والدين والمذهب الذي هذا شأنه يستحيل أن يعرف فساده بالضرورة، ولكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السموات والأرض علم ضروري فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك. يقول الرازي: الوجه الأول: اعتقاد الشبه ذكر أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض مصنفاته: أن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يقولون بالله وملائكته ويعتقدون أن لله جسما وأنه ذو

صورة كأحسن ما يكون من الصور، وهكذا حال الملائكة أيضا في صورهم الحسنة وأنهم كلهم قد احتجبوا عنا بالسماء، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة حسنة الرواء على الهيئة التي كانوا عليها ويعتقدونها من صور الآلهة والملائكة. فيعكفون على عبادتها قاصدين طلب الزلفى إلى الله وملائكته. قال الرازي تعليقًا عليه: فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان هو اعتقاد الشبه. الوجه الثاني: الاعتقاد في الأسباب الظاهرة ذكره أحد العلماء وهو أن الناس رأوا أن تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب، فبحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول المختلفة والأحوال المتباينة ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب واعتقدوا ارتباط السعادة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها. فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواته وهي التي خلقت هذه العوالم. ومنهم: من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر لكنها خالقة لهذا العالم. فالأولون اعتقدوا أنها هي الآلهة في الحقيقة. والفريق الثاني: اعتقدوا أنها هي الوسائط بين الله والبشر، فلا جرم أن اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناما وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات تلك الأجرام العالية، ومتقربين إلى أشباحها الغائبة، ثم لما طالت المدة ألفوا ذكر الكواكب وتجردوا لعبادة تلك التماثيل. فهؤلاء في الحقيقة: هم عبدة الكواكب.

الوجه الثالث: تعظيم المجهول إن أصحاب الأصنام كانوا يعينون أوقاتًا في السنين المتطاولة إلى نحو الألف والألفين ويزعمون أن من اتخذ طلسمًا في ذلك الوقت على وجه خاص فإنه ينتفع به في أوقات مخصوصة ويوجهه نحو السعادة والخصب ودفع الآفات. وكانا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عظموه؛ لاعتقادهم أنهم ينتفعون به، فلما بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة، ولما طالب مدة ذلك الفعل نسوا مبدأ الأمر، واشتغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر. الوجه الرابع: الاعتقاد في الأرواح وكانوا يعتقدون أنه متى مات منهم رجل كبير كان مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله فاتخذوا صنمًا على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعًا لهم يوم القيامة عند الله على مقتضى ما أخبر الله به في قوله على ألسنتهم: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله". الوجه الخامس: الاعتقاد في المقدسات ولعلهم اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعته ويسجدون إليها لا لها كما أنا نسجد إلى القبلة لا للقبلة، ولما استمرت هذه الحالة ظن الجهال من القوم أنه يجب عبادتها. الوجه السادس: الحلول ولعلهم كانوا من المجسمة فاعتقدوا جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل1. وبهذا الاتجاه الوثني نسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات، ومع ذلك بقيت فيهم بقايا من عهد إبراهيم وكانوا يتمسكون بها.

_ 1 مفتاح الغيب "1: 231".

وذلك مثل تعظيم البيت والطواف والحج والعمرة بعرفة والمزدلفة وهدى البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس فيه. فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: "لبيك اللهم لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك"، فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده بقول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ؛ أي: ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكًا من خلقي. ولقد لاحظنا أن العربي كان متدينًا سواء الدافع إلى اعتقاده الديني فكره كأمية، ولبيد، وقس بن ساعدة، أو كان الدافع إليه تقليد القبيلة، أو الدافع إليه بعض الاتجاهات السياسية كمسيحية غسان. وعلى أي حال ومهما كان الدافع فإنه كان متدينا. وذهب الباحثون في تدينه مذاهب شتى من حيث قضايا الفكر الديني، وليس الحال كما رأى بعض الباحثين من أن العربي وقع بتدينه تحت أطوار مختلفة، ولكننا نقول: إن حال العربي في دينه هو حاله مع آلهته كما تصوره هذه الرواية التاريخية: يقول الكلبي: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًّا وجعل الثلاثة الباقية أثافي لقدره وإذا ارتحل ترك الحجر الرب فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك1. ويقول أبو عثمان النهدي "ند قبيلة من قضاعة": كنا في الجاهلية نعبد حجرًا ونحمله معنا فإذا رأينا أحسن منه ألقيناه وعبدنا الثاني وإذا سقط الحجر عن البعير قلنا سقط إلهكم فالتمسوا حجرًا2. ويقول ابن دريد3: "كان الرجل منهم إذا وجد حجرًا أحسن من حجر أخذه وعبده"؛ فالعربي لم يعبد الوثن معتقدًا أنه خالق الكائنات؛ لأنه تارة يستقسم عنده وتارة أخرى يسبه ويشتمه، ومرة ثالثة يأكله وقت المجاعة، لذلك لا نعد تصرف

_ 1 الأصنام ص33. 2 أسد الغابة في معرفة الصحابة "3: 325" ابن الأثير. 3 الاشتقاق ص86.

العربي مع وثنه تحولا ولكن استخفافا، ومثله إذ انتقل من عبادة وثن إلى عبادة كوكب لا نرى في ذلك تحولا أيضا لأنه غير مصحوب بفكر عقلي، ولكن هو انتقال من صورة مظلمة إلى صورة مشعة كتركه الحجر لحجر أحسن في صورته، أما ما يصح أن نطلق عليه "انتقالا من طور إلى طور" هو الانتقال الذي يصحبه فكر ويتبعه قضايا دينية توجب على المتدين النظر أو الشك. لم يحصل شيء من هذا حتى عند الحنفاء الذين تشككوا في الأوثان، ورأوا أن علاج شكهم هو اختيار دين آخر، وتفرقت بهم سبل الاختيار، فلم يحاولوا عرض قضايا دينية أو قضايا فكرية، وذلك شأن العربي في الجاهلية. أما الإسلام فكان شيئًا جديدًا وكلًّا متكاملًا، وفي ذلك ما يدل على سماويته ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. ونتيجة لهذا التنقل في الاختيار وقع العربي تحت عدة تناقضات فكرية ودينية أشار إليها القرآن الكريم منها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1. وأشار أيضا إلى لون آخر من ألوان تناقضهم في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2. فمنهم من كان يعبد الله مع صنمه، ومنهم من كان لا يعبد الله مع صنمه. وسنشير إلى ألوان من عقائدهم؛ لنرى أن الحياة العقدية في مكة لم يحكمها قانون الترقي، ولكن حكمها قانون الانتشار والتقليد؛ فانتشرت في ربوع شبه الجزيرة العربية متفرقات من الملل والنحل وعايش بعضها بعضًا. وكان تعدد آلهة الصحراء نتيجة لحالة التشتت التي كانت تعيش فيها القبائل، ولميلها الغالب إلى التوفق، وكان الإله لا يستطيع التغلب على هذين العاملين ومد نفوذه إلى ما وراء حدود منطقته المحلية إلا نادرًا مثلما فعلت الإلهات الثلاث: اللات

_ 1 سورة العنكبوت 61، 63. 2 سورة يونس 18.

ومناة والعزى، وكات تعبد في المطقة التي حول مكة وكان يعلو عليهن أبوهن الله1. الإله والتصور الوثني: هو في العادة يتكون من عدة آلهة، ولكن إذا ما انتصرت مدينة من المدن على عدة مدن، فيصبح إله هذه المدينة إلها عامًّا مشتركا تعترف به بقية المدن تحقيقًا لانتصار الإله وعباده. ولا نجد إلهًا قوميًّا خاصًّا بالعرب؛ كالذي نجده عند العبرانيين من تعلقهم بـ "يهوه"؛ وعدهم إياه إلها خاصا بإسرائيل. فقد صار هذا الإلهُ إلهَ جميع قبائل إسرائيل ويهوذا؛ أما العرب: فقد كانوا يعبدون جملة آلهة، كل قبيلة لها إله خاص بها، وآلهة أخرى، ولم يكن لها إله واحد له اسم واحد يعبده جميع العرب. والظاهر أن القبائل الساكنة في الحجاز، ونجد، والعراق، والشام صارت قبيل الإسلام تتنكر لأصنامها العديدة، وتأخذ بالتوحيد، وبالاعتقاد بإله واحد هو "الله تعالى"، وهو الذي: نجده في الشعر الجاهلي؛ مما يدل على أن: قبائل أولئك الشعراء دانوا بالاعتقاد بوجود ذلك الإله فوق الأصنام والأوثان، وقد توج هذه العقيدة بتاج النصر في الإسلام. غير أن: "الله تعالى" في الإسلام يختلف عن "الله" عند الجاهليين؛ "فالله" هو إله العالمين، إله جميع البشر على اختلافهم ليس له شريك من أصنام وأوثان. أما "الله" عند الجاهليين: فهو رب الأرباب، وإله الآلهة، يسمو فوق آلهة القبائل؛ ولهذا ذكر في شعر شعراء مختلف القبائل؛ لأنه لا يختص بقبيلة واحدة.

_ 1 الحضارات السامية ص207 اسبتينومو سكاتي ترجمة د. السيد يعقوب بكر.

ولم يشر القرآن الكريم إلى اعتقاد الجاهليين بوجود زوجة له. فهو في نظرهم إذن إله واحد متفرد لا يشاركه مشارك في حياته؛ وإذا كان "الله" واحدا أعزب فلا يمكن أن يكون له ولد. ولكن القرآن: يشير إلى اعتقاد الجاهليين بوجود بنين وبنات "لله". ففي سورة الأنعام قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1. وقد ذهب المفسرون: إلى أن العرب قالت: الملائكة بنات "الله"؛ وقالت "اليهود، والنصارى: عزير والمسيح ابنا الله" وقال المشركون: الملائكة بنات "الله". وفي سورة النحل قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَات} 2. "الله" في الشعر الجاهلي: قد درس بعض المستشرقين هذا الموضوع؛ ولا سيما موضوع ورود اسم الجلالة في الشعر الجاهلي؛ فذهبوا في ذلك مذاهب: منهم: من أيد صحة وروده في ذلك الشعر، وآمن أن الشعر الذي ورد فيه هو شعر جاهلي حقًّا. ومنهم: من ذهب إلى أنه شعر صحيح، غير أن رواة الشعر أدخلوا اسم الجلالة فيه، ولم يكن هو فيه في الجاهلية، بأن رفعوا اسماء الأصنام، وأحلوا اسم "الله" بدل اللات. وبينما نجد: أهل الأخبار ينسبون إلى هؤلاء الشعراء، وأمثالهم، الاعتقاد "بالله" تعالى نجدهم: ينسبون إليهم الحلف بالأصنام، والاعتقاد بها؛ فقد نسبوا إلى خداش بن زهير شعرا آمن به بالله تعالى؛ ثم نسبوا إليه قوله: وبالمرورة البيضاء يوم تبالة ... ومحبسة النعمان حيث تنصرا

_ 1 الأنعام آية 100، انظر المفصل جـ6 ص119، روح المعاني جـ7 ص209. 2 سورة النحل آية 57، المفصل جـ6 ص119، ص120.

والمروة البيضاء: هي "ذو الخلصة"؛ ثم هو يقسم بمحبسة النعمان وهو نصراني. أفلا يدل هذا على وجود تنافر أو تناقض في عقيدة أمثال هؤلاء الشعراء؟ والذي لا وقوف له على طبائع أهل الجاهلية يرى هذا الرأي، أو يذهب إلى أن هذا الشعر مصنوع، مفتعل؛ أما الذي يعرف عادة العرب في القسم فلا يستغرب منه، ولا يرى فيه تنافرا. فقد كان الجاهليون يقسمون بكل شيء؛ يقسمون بالشجر والحجر، والكواكب، والليل والنهار، وبالأصنام، وبالمعابد "وبالله"، لا يرون في ذلك بأسًا ولا تناقضًا في عقيدتهم. فهذا: "عدي بن زيد" يقسم بمكة على قاعدة العرب في القسم، وهو نصراني، وقد أقسم بأمور أخرى من أمور أهل الجاهلية الوثنية، ولم يذكر أحد أنه بدَّل دينه، وصار وثنيًّا؛ وكذلك الأمر مع غيره من شعراء نصارى، ويهود، وعباد أصنام أقسموا برهبان النصارى، وبأمور نصرانية مع أنهم كانوا عباد أوثان1. ومن القائلين بالرأي الأخير: "نولدكه"؛ فقد ذهب إلى أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر؛ وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم "الله". وقد ذهب أيضا إلى: أن رواة الشعر في الإسلام حذفوا من شعر الجاهليين ما لم يتفق مع عقيدتهم. ومن جملة ما استدل به على أثر التغيير والتحريف في الشعر الجاهلي ورود كلمة "الرحمن" في شعر شاعر جاهلي من هذيل؛ زعم أن ورود هذه الكلمة في هذا الشعر دليل كافٍ لإثبات أثر التلاعب فيه؛ لأن هذه اللفظة إسلامية استحدثت في الإسلام، ولا يمكن أن ترد في شعر شاعر جاهلي، وقد فات "نولدكه" صاحب هذا الرأي أن الكلمة بهذا المعنى كلمة جاهلية، وردت في

_ 1 المفصل جـ6 ص114، ص115.

نصوص المسند وفي نصوص جاهلية أخرى، وإن من جملة من استعملها: "أبرهة الحبشي" في نصه الشهير، المعروف بنص: "سد مأرب"، وإن قوما من الجاهليين تعبدوا للرحمن. أما "ولهوزن": فيرى أن عدم ورود أسماء للأصنام في الشعر الجاهلي إلا في النادر، وإلا في حالة القسم، أو في أثناء الإشارة إلى صنم أو موضع عبادة ليس من تغيير الرواة الإسلاميين وتبديلهم لأسماء الأصنام؛ وإنما سببه هو أدب الجاهليين، وعادتهم في عدم الإسراف والإسفاف في ذكر أسماء الآلهة الخاصة، وذلك على سبيل التأدب تجاه الأرباب، فاستعاضوا عن الصنم بلفظة "الله" التي لم تكن تعني إلا معينًا: وإنما تعني ما تعنيه كلمة "رب" "وإله"، ومن هنا كثر استعمالها في القسم وفي التمني أو التشفي وأمثال ذلك1. وقد ذهب: مستشرقون آخرون إلى صحة ورود لفظة الجلالة في الشعر الجاهلي، كما ذهبوا إلى أن ورودها في القرآن الكريم، أو في الحديث لا يمنع من ورودها في الشعر الجاهلي، ولا يكون سببًا للطعن في ذلك الشعر؛ لأن من الجاهليين من كان يؤمن بوجود "إله" فوق الآلهة عندهم، فورود اسمه في شعرهم ليس بأمر غريب.

_ 1 المفصل ص114، ص115.

الشرك ومظاهره عند العرب

الشرك ومظاهره عند العرب: يعرض القرآن الكريم في إشارات إلى أنواع من الشرك كان عليه الجاهليون، وفيه تعريف لمعنى الشرك. فالشرك في قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا} 1 ... إلخ: عبادة الأصنام المصنوعة من الحجارة أو الخشب، أو المعادن؛ أي: مما لا روح له، وقابل للكسر. وفي بعض الآيات: إن من أنواع الشرك القول بأن الجنَّ هم شركاء "لله" تعالى، ومن أنواعه أيضا: القول بأن الملائكة هم شركاء "لله" تعالى وبناته.

_ 1 الأعراف آية 191، المفصل ص44.

وفي آيات أخرى: أن من الشرك اتخاذ آلهة أخرى مع "الله"، والآلهة هنا: شيء عام فيه تأليه الكواكب، وعبادة الأشياء غير المنظورة أي: غير المادية، وعبادة الأصنام. وفي القرآن الكريم جوانب عن: فلسفة القوم، وتعليلهم لعبادة الأصنام واتخاذهم أولياء من دون الله؛ إذ يقولون جوابًا عن الاعتراض الموجه إليهم في عبادة غير "الله" {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . ويتبين من هذه الآية، ومن آيات أخرى أن فريقًا من العرب كانوا يعتقدون بوجود الله، وأنه هو الذي خلق الخلق، وأن له السيطرة على تصرفات عباده وحركاتهم، ولكنهم عبدوا الأصنام، وغيرها، واتخذوا الأولياء والشفعاء؛ لتقربهم إلى "الله" زلفى، وفي كتاب "الله": مصطلحات لها علاقة بعبادة الشرك منها: شركاء: جمع شريك، وأنداد، وأولياء، وولي، وشفعاء، وشهداء فهذه الكلمات، وأمثالها تعبر عن عقائد الجاهليين قبيل الإسلام، وعن اعتقادهم في عبادة أشياء أخرى مع "الله" تعالى كانوا يرون: أنها تستحق العبادة؛ وأنها في مقابل "الله" في العرف الإسلامي؛ أو أنها: مساعدة "لله"1 ولعبادة "الأسلاف" علاقة بعبادة الأصنام. ويلاحظ: أن عبادة "السلف" تقود أتباعها في بعض الأحيان إلى الاعتقاد بأن قبيلتهم تنتمي إلى صلب جد واحد أصله حيوان في رأي الأكثرين، أو من النجوم في بعض الأحيان، وهذا ما يجعل هذه العقيدة قريبة من الطوطمية. ومعارفنا عن: عبادة "السلف" عند الجاهليين قليلة؛ ويمكن أن نستنتج من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتسوية القبور ونهيه عن اتخاذها مساجد، ومواضع للصلاة أن الجاهليين كانوا يعبدون أرواح أصحاب هذه القبور، ويتقربون إليها. ولعل في عبارة "قبر ونفس" الواردة في بعض النصوص الجاهلية ما يؤيد هذا الرأي؛ فإن النفس هي الروح2.

_ 1 المفصل جـ6 ص44، ص45. 2 السابق جـ6 ص48.

وقد أشار أهل الأخبار إلى قبور اتخذت مزارات كانت لرجال دين، ولسادات قبائل يقسم الناس بها، ويلوذون بصاحب القبر، ويجتمعون به؛ كالذي كان من أمر ضريح: "تميم بن مرة"؛ وكالذي ذكروه من أمر "اللات" من أنه كان رجلا في الأصل اتخذ قبره معبدا، ثم تحول الرجل إلى صنم. ونجد في كتب الحديث نهيا عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، وقد أشارت إلى اتخاذ اليهود والنصارى قبور ساداتهم، وأوليائهم مساجد تقربوا إليها لذلك: نهى أهل الإسلام من التشبه بهم في تعظيم القبور1. كما نهى عن: تكليل القبور وتجصيصها؛ والتكليل: رفع القبر وجعله كالكلة؛ وهي: الصوامع، والقباب التي تبنى على القبور2. ومن مظاهر الشرك المتجلي في التعبد للأمور الطبيعية، الملموسة: عبادة الشجر، وهي عبادة شائعة معروفة عند الساميين. وقد أشار ابن الكلبي إلى "نخلة نجران"؛ وهي نخلة عظيمة كان أهل البلد يتعبدون لها، لها عيد في كل سنة؛ فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجوده، وحلي النساء، فخرجوا يومًا إليها، وعكفوا عليها يومًا. ومنها: العزى، وذات أنواط. يحدثنا أهل الأخبار: عن "ذات أنواط"، فيقولون: ذات أنواط: شجرة خضراء عظيمة كانت الجاهلية تأتيها كل سنة تعظيمًا لها، فتعلق عليها أسلحتها، وتذبح عندها، وكانت قريبة من مكة، وذكر أنهم كانوا إذا حجوا يعلقون أرديتهم عليها، ويدخلون الحرم بغير أردية تعظيمًا للبيت؛ ولذلك: سميت "ذات أنواط". وقد روى أن بعض الناس قال: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط.

_ 1 السابق ص49، وانظر صحيح مسلم جـ2 ص66 باب عن بناء المساجد على القبور. 2 المفصل جـ6 ص49، اللسان 11/ 595 مادة "ك ل ل".

ونستطيع أن نقول: إن آثار عبادة الشجر لا تزال باقية عند الناس تظهر في امتناع بعضهم، وفي تهيبهم من قطع بعض الشجر، لاعتقادهم أنهم إن فعلوا ذلك أصيبوا بنازلة تنزل بهم، ولذلك تركوا بعض الشجر كالسدر فلم يتعرضوا له بسوء. وتعبد بعض أهل الجاهلية لبعض الحيوانات؛ فقد ورد أن جماعة الشاعر "زيد الخيل" وهم من طيئ كانوا يتعبدون لجمل أسود، فلما وفد وفدهم على الرسول قال لهم: "ومن الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله عز وجل". وورد: أن قوما كانوا بالبحرين كانوا يعبدون الخيل، ذكر أنهم قوم من المجوس كانوا مسلحة لحصن المشقر من أرض البحرين فهم فرس. وأن بعض القبائل مثل: إياد كانت تتبرك بالناقة1. 1- منهم من اتخذ آلهة من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس. 2- ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر. 3- ومنهم من اتخذه من الإنسان. 4- ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة؛ إما السفلية: كعبدة النار وهم المجوس، أو العلوية: كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب هم نوع من الصابئة. 5- ومنهم من قال بالاثنية: النور والظلمة وهم الثنوية. 6- ومنهم من قال: الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يديره، وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم فيتخذون لتلك الأرواح صورا وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة.

_ 1 المفصل جـ6 ص60، رسالة الغفران ص140.

وقد كان صِنف من العرب يعبدون الملائكة وهم بخلاف الصابئة الذين يقدسون الملائكة ولا يعبدونها، ويزعمون أنها بنات الله فكانوا يعبدونها؛ لتشفع لهم إلى الله. وهم الذين قال الله فيهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 1. وقال أيضا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم] . ومنهم من قال: للعالم إلهان: - أحدهما خير؛ وهو: الله. - والآخر شر؛ وهو الشيطان. وهؤلاء هم الذين يشير إليهم القرآن الكريم بقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2. ونهاية القول أن ما كان عليه العرب من مظاهر الشرك المتعددة مختلف إلى حد بعيد، فمنهم من كان يتعمق في عبادته حتى يرى الله وراء حقيقة الوجود، فوجه إليهم القرآن الكريم هذه الأسئلة: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 4. ومن الملاحظات العامة على المظاهر الدينية القديمة التي كانت في البابليين والمصريين القدماء والفرس وحتى اليونان أنها كانت مرتبطة بظواهر علوية، أو سفلية، ارتباط تأليه أو تقديس.

_ 1 سورة النمل الآية 67. 2 سورة النمل آية 51. 3 سورة المؤمنون: 85-89. 4 سورة العنكبوت: 63.

الدهريون: والدهرية هم الذين يقولون بإسناد الحوادث إلى الدهر واستقلال الدهر بالتأثير، والدهر عندهم: هو حركات الفلك، وأن العالم يدار بمقتضى تأثير هذ الحركات والعرب يقولون به ولا صانع سواه. أما تعريف الدهر عند الإسلاميين: فهو مدة زمان الدنيا. وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت. يقول الألوسي: وزعم بعض من لا تحقيق لهم أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط1 وأطلقه العرب بفتح الدال على الملحدين الذين ينكرون الله وتأثيره، أما إذا أرادوا منه الرجل المعمر فإنهم يقولون دُهري بضم الدال2. وعقيدة الدهرية ترجع أيضا إلى بعض مبادئ الصابئة فهي خمسة: الرب، النفس، المادة، الدهر، الفضاء. وجعل الشهرستاني الدهرية من المعطلة فقال: معطلة العرب أصناف: صنف منهم أنكر الخالق والبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني وهم الذين أخبر القرآن عنهم في قوله سبحانه: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} 3 [المؤمنون: 37] . يقول الشهرستاني: إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها فالجامع هو الطبع والمهلك هو الدهر: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 4 فاستدل عليهم بضرورات كرية وىيات فطرية في كثير من السور فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 184] . وقال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] .

_ 1 روح المعاني جـ1 ص69. 2 لسان العرب لابن منظور. 3 وانظر الملل والنحل "2: 246". 4 سورة الجاثية آية 24.

فأثبت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق وأنه قادر على الكمال ابتداء وإعادة. وروى صاحب الأغاني: يقول عدي بن زيد بلسان حال المقابر، يتضح منها أن لديهم أكثر من معنى للدهر: من رآنا فليحدث نفسه ... إنه موفٍ على قرن زوال وصروف الدهر لايبقى لها ... ولما تأتي به صم الجبال رب ركب قد أناخوا عندنا ... وجياد الخيل تردي في الجلال عمروا دهرا بعيش حسن ... آمنٌ دهرهم غير عجال ثم أضحوا عصف الدهرُ بهم ... وكذاك الدهر يودي بالرجال وكذاك الدهر يرمي بالفتى ... في طلاب العيش حالا بعد حال جـ- الموحدون: "وقد نقلت الصحراء أيضًا عدا التقاليد الوثنية تقاليد دين التوحيد، من أتباع الدينين الكبيرين اللذين كان مركزهما على مقربة من حدود الصحراء، فقد هاجر جماعات من اليهود إلى الجنوب ولعل ذلك كان من أيام تخريب الرومان لبيت المقدس وكونوا جاليات صغيرة على الطريق التجاري وفي واحدات الحجاز وكانوا يشتغلون بالزراعة خاصة، وقد أتوا إلى موطنهم الجديد بتقاليد قومهم الدينية والحضارية واتخذوا العربية لغة لهم1". ولقد كان منهم الموحد المقر بخالقه المصدق للبعث موقنًا بأن الله يثيب المطيع ويعاقب العاصي مثل الذين تخنفوا والذين تهودوا والذين تنصروا. وبعض القبائل لم تتغير فطرتهم ولا سيما "ربيعة" التي لازمت الحنيفية المشوبة بالأوثان، ومن الأشخاص مثل: قس بن ساعدة. وأمية بن أبي الصلت. ولبيد بن ربيعة.

_ 1 الحضارات السامية ص207.

يقول الشهرستاني: ومن العرب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وينتظر النبوة، وكانت لهم سنن وشرائع قد ذكرناها فيما تقدم. فممن كان يعرف النور الظاهر، بالنسب الطاهر، ويعتقد الدين الحنيفي وينتظر المقدم النبوي زيد بن عمرو بن نفيل، وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: أيها الناس هلموا إليَّ؛ فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري، وسمع "أمية بن أبي الصلت" يومًا ينشد: كل دين يوم القيامة عند الـ ... ـله إلا دين الحنيفة زور فقال له: صدقت: وقال زيد أيضا: فلن تكون لنفس منك واقية ... يوم الحساب إذا ما يجمع البشر ومن كان يعتقد التوحيد، ويؤمن بيوم الحساب "قس بن ساعدة الإيادي"، الذي قال في موعظه: كلا ورب الكعبة ليعودن ما باد، ولئن ذهب ليعودن يوما"، وقال أيضا: "كلا بل هو الله إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا". وأنشد في معنى الإعادة: يا باكي الموت والأموات في جدث ... عليهمُ من بقايا بزهم خرقُ دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... كما ينبه من نوماته الصعق حتى يجيئوا بحال غير حالهمُ ... خلق مضى ثم خلق بعد ذا خلقوا منهم عراة ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها الأزرق الخلقُ ومنهم: عامر بن الظرب العدواني، وكان من شعراء العرب وخطبائهم، وله وصية طويلة يقول في آخرها: "إني ما رأيت شيئا قط خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جاثيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء"، ثم قال: "إني أرى أمورا شتى وحتى، قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيا ويعود لا شيء شيئا، ولذلك خُلقت السموات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين"، وقال: "ويل؛ إنها نصيحة ولو كان من يقبلها".

وكان عامر قد حرم الخمر على نفسه فيمن حرمها، وقال فيها: إن أشرب الخمر أشربها للذتها ... وإن أدعها فإني ماقت قالي لولا اللذاذة والقينات لم أرها ... ولا رأتني إلا من مدى عالي سآلة للفتى ما ليس في يده ... ذهابه بعقول القوم والمال تورث القوم أضغاثا بلا إحن ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي أقسمت بالله أسقيها وأرويَها ... حتى يفرق ترب الأرض أوصالي1 وممن كان قد حرم الخمر في الجاهلية: قيس بن عاصم التميمي، وصفوان ابن أمية بن الحارث الكناني، وعفيف بن معد يكرب الكندي، وقالوا فيها أشعارا. وقال غيره، وقد حرم الخمر والزنا على نفسه: سلمت قومي بعد طول مضاضة ... والسلم أبقى في الأمور وأعرفُ تركت شرب الراح وهي أثيرة ... والمومسات وترك ذلك أشرفُ وعففت عنه يا أميم تكرمًا ... وكذاك يفعل ذو الحجا المتعففُ وممن كان يؤمن بالخالق، وبخلق آدم عليه السلام: عبدٌ "لطابخة بن ثعلب بن وبرة" من قضاعة، وقال فيه: وأدعوك يا ربي بما أنت أهله ... دعاء غريق قد تشبث بالعصمْ لأنك أهل الحمد والخير كله ... وذو الطول لم تعجل بسخط ولم تلمْ وأنت الذي لم يحيه الدهر ثانيًا ... ولم ير عبد منك في صالح وجمْ وأنت القديم الأول الماجد الذي ... تبدَّأ خلق الناس في أكثم العدمْ وأنت الذي أحللتني غيب ظلمة ... إلى ظلمة من صلب آدم في ظلمْ

_ 1 الكلام على تقدير "ألا" بتشديد اللام، وتسكين ياء أسقيها ضرورة.

ومن هؤلاء النابغة الذبياني، وقد آمن بيوم الحساب، فقال: ووجهتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقبِ وأراد بذلك الجزاء بالأعمال. ومن هؤلاء زهير بن أبي سلمى المزني، وكان يمر بالعضاه1، وقد أورقت بعد يبس فيقول: لولا أن تسبني العرب لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيي العظام وهي رميم، ثم آمن بعد ذلك وقال في قصيدته التي أولها: أمن أم أوفى دمنة لم تكلمِ يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقمِ ومنهم علاف بن شهاب التيمي، كان يؤمن بالله تعالى وبيوم الحساب وفيه قال: ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة ... أخذت منه خطة المقتال وعلمت أن الله جاز عبده ... يوم الحساب بأحسن الأعمال وكان بعض العرب إذا حضره الموت يقول لولده: ادفنوا معي راحلتي حتى أحشر عليها فإن لم تفعلوا حشرت على رجلي. قال جريبة بن الأشيم الأسدي في الجاهلية وقد حضره الموت - يوصي ابنه سعدا: يا سعد أما أهلكنَّ فإنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقربُ لا تتركنَّ أباك يعثر راجلا ... في الحشر يصرع لليدين وينكبُ واحمل أباك على بعير صالح ... والغ المطية، إنه هو أصوبُ ولعل لي مما تركت مطية ... في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا وقال عمرو بن زيد بن المتمني يوصي ابنه عند موته: أبني زودني إذا فارقتني ... في القبر راحلة برحل قاتر2

_ 1 العضاهة بالكسر: أعظم الشجر، ذات الشوك جمعه عضاه بالكسر. 2 يقال: رحل قاتر إذا كان قدر الإيموج فيعقر. اهـ أساس البلاغة "قتر".

للبعث أركبها إذا قيل اظعنوا ... متساوقين معا لحشر الحاشر من لا يوافيه على عيرانه ... فالخلق بين مدافع أو عاثر وكانوا يربطون الناقة معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي ظهرها أو مما يلي كلها وبطنها ويأخذون وليه، فيشدون وسطها ويقلدونها عنق الناقة ويتركونها حتى تموت عند القبر ويسمون الناقة "بلية"، والخيط الذي تشد به "ولية"، وقال بعضهم يشبه رجلا في "بلية": كالبلايا في أعناقها الولايا. وإذا تصفحنا الشعر الذي ذكره ابن هشام في سيرته عن حادثة الفيل وجيش أبرهة -لو تصفحناه جميعا وأردنا تحليله من ناحية عاطفتهم الدينية، ثم أردنا أن نصل إلى ظواهر دينهم العام لما ترددنا في الحكم عليهم بأنهم مؤمنون موحدون، لا يشوب إيمانهم شوائب الوثنية أو سذاجة الشرك فما رأينا في شعرهم اسما لوثن أو صنم. فعندما تقرأ شعر عبد المطلب يطالعك قوله: لاهُمَّ أن العبد يمنـ ... ـع رحله فامنع رحالكْ وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلكْ لا يغلبنَّ صليبُهم ... ومَحالُهم أبدا مَحالَكْ لاهم: أي يا الله فقابل بين الله والصليب. فهذا منه يعني إدراكًا موضوعيًّا حين قابل بينهما؛ أي بين الله والصليب، وأن الله حقيقة والصليب زائف. كذلك شعر عبد الله بن الزبعرى: فهو يذكره في شعره: والله من فوق العباد يقيمها فلم يذكر وثنا ولا صنما وهو العنيد في جداله مع الرسول. وأمية بن أبي الصلت الذي يبدأ قصيدته بقوله: إن آيات ربنا ثاقباتٍ ... لا يماري فيهن إلا الكفورُ

ثم ختمها بقوله: كل دين يوم القيامة عند الـ ... ـله إلا دين الحنيفة زورُ فالشعر الذي ساقه ابن هشام يذكرنا بأمرين؛ إما أنهم موحدون وإما أنه شعر منتحل. ولعل مثل هذه الملاحظات جعلت بعض المستشرقين يزعم أن الرواة الإسلاميين هم الذين وضعوا لفظ الجلالة في شعر الجاهليين بدلا من كلمة اللات التي تتفق معها في الوزن. يقول كارل فنيللينو: "بالغ الأب شيخو في كتابه المسمى بشعراء النصرانية من شعراء الجاهلية. بالغ في ظنه هذا الرأي أي مبالغة كأنه زعم نصرانيا كل شاعر جاهلي ورد في شعره شيء مما يقرب من اعتقاده وحدانية الله أو من التأملات والاعتبارات الدينية فعد من النصارى امرؤ القيس والنابغة وطرفة". يقول فنيللينو: لا شك عند كل منصف في إنهم من أصحاب الوثنية، أما المؤكد المثبت فإنما هو أن دين النصرانية ذاع في القرن السابق للهجرة في شمال جزيرة العرب فاعتنق بعض القبائل مثل بني تغلب، وقسم غير صغير من بني تميم فضلا عن أكثر المقمين بمملكة بني غسان وأكثر سكان مدينة الحيرة1. فنيللينو: يرد على مبالغة شيخو قائلا: "أنه ربما تكون الأفكار التي تقترب من التوحيد نتيجة -تأملات وليست نتيجة النصرانية ولا سيما أن النصرانية -من الناحية التاريخية- تأخرت عن معاصرة هؤلاء الشعراء"2. ورأينا ما يؤيد فنيللينو في رواية مسلم عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: يا ابن أخي صليت سنتين قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: فأين كنت توجه؟

_ 1 يراجع: رسالة الجاحظ في الرد على النصارى ضمن مجموعة رسائل الجاحظ تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون وهي ملحقة بالكتاب أثبتناها؛ لنبين مدى انتشارها في الجزيرة العربية. 2 تاريخ الآداب العربية وهي محاضراته التي ألقاها في الجامعة المصرية 1910-1911 طبع دار المعارف.

قال: حيث وجهني الله، يقول رسول الله: "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها 1 الله". فإن أبا ذر لم يبين أثر المسيحية أو اليهودية في توجهه إلى الله، وربما كان ذلك أثرا من الحنيفية ما زال موجودا بين العرب، وهذا ما نميل إليه، وعبادة الرسول قبل البعثة كانت على دين ابراهيم وكان يدفعهم إلى البحث عن اتجاهات عقلية تميل نحو البحث عن حقيقة الدين، ووجدنا مثل ذلك قد ظهر مع الحنفاء. يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق:2 كل ذلك يدل على أن العرب عند ظهور الإسلام كانوا يتشبثون بأنواع من النظر العقلي. ويقول: وكان يعد العرب للجدل الديني ويحفزهم إليه إما الدفاع عن أديانهم الموروثة ضد الأديان الدخيلة عليهم، وإما المهاجمة لهذه الأديان جميعا من أجل ما يلتسمون من الدين الحنيف دين إبراهيم". "على أنه ينبغي ألا نبالغ في تصور من تنصروا من العرب قبل الإسلام، ونظن أنهم قاموا بتعاليم النصرانية قيامًا دقيقًا، فقد عرفوا الكنائس والبيع والرهبان والأساقفة والصوامع، ولكنهم ظلوا لا يتعمقون في هذا الدين الجديد، وظلوا يخلطونه بغير قليل من وثنيتهم وربما كان مما يوضح ذلك خير توضيح قول عدي بن زيد العبادي: سعى الأعداء لا يألون شرا ... عليه ورب مكة والصليب فهو يجمع بقسمه بين رب مكة ورب الصليب. والحق أن نصارى العرب في الجاهلية إنما عرفوا ظاهرا من دينهم وقلما عرفوا حدوده، وقد سقطت إلى أشعارهم وأشعار الوثنيين أنفسهم كلمات ومصطلحات كثير منه ومن شخوصه وطقوسه فمنذ قول امرئ القيس: يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أهان السليط في الذبال المفتل

_ 1 فتح الباري إسلام أبي ذر جـ8. 2 تمهيد في الفلسفة الإسلامية ص111.

والشعراء يرددون ذكر الربان ومحاريب كنائسهم؛ يقول الأعشى: كدمية صور محرابها ... بمذهبٍ في مرمر مائر وطالما تحدثوا عن نواقيسهم وقراعهم في أواخر الليل. يقول المرقش الأكبر في بعض شعره: وتسمع تزقاء من البوم حولنا ... كما ضربت بعد الهدوء النواقس1 وفي ذلك ما يدل -ولا سيما قول الأعشى وهو وثني- على أنه كان لديهم بعض معارف عن المسيحية أدخلوها في قصائدهم في بعض وجوه التشبيه أيا كان نوع هذا التشبيه كقول المرقش في جمعه بين البوم والنواقيس، وذلك يبعدها عن مظهر التقديس، وخاصة أن البوم مما يتشاءم منه العرب. وعلى أي حال يتضح أن معارفهم عن المسيحية تناهت إليهم فاسعملوا مصطلحاتها دون نظر إلى اتخاذها عقيدة كما هو واضح من أشعارهم. وظهرت بوادر لمذهب الجبر والاختيار، يروي صاحب الأغاني2 ما نصه: قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى وكان نصرانيا عباديا وكان معمرا قال: - كان الأعشى قدريا. - وكان لبيد مثبتا. قال لبيد: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وقال الأعشى: استأثروا الله بالوفاء وبالـ ... ـفضل وولى الملامة الرجلا قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟

_ 1 العصر الجاهلي ص100-101 دكتور شوقي ضيف دار المعارف.

قال: من العباديين نصارى الحيرة كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. كذلك كانت لهم وجهة نظر في تقسيم القوى الروحية فكان فيها الأرواح الخيرة، مثل الملائكة وكان فيها الأرواح الشريرة مثل الشياطين. وكانت فكرتهم عن هذه الأرواح أنها تحل فيما حولهم من مظاهر الطبيعة. كذلك كانت لهم دراية بتقسيم الشيء أو الأشياء: إلى شيء مقدس، وإلى شيء غير مقدس. وقد أشار إلى ذلك القرآن فقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} 1.

_ 1 سورة الأنعام آية 136. 2، 3، 4 سورة الأنعام الآيات 8-10.

موقفهم من الرسالة

موقفهم من الرسالة: ذهبت الصابئة والبراهمة ومعهم الوثنيون إلى القول باستحالة النبوات، فرأينا في العرب من مال منهم إلى مبادئ الصابئة فطعنوا في أصل النبوة وهم الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا أبعث الله بشرا رسولا؟ فإن الصابئة لا يجوزون أن يكون الوسيط بشريا إنما يجوزوه ملكا فرد الله عليهم بقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} 1. {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 2. {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . وهناك موقف اليهود والنصارى ومن تابعهم ممن يسلم بأصل النبوة غير أنهم طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والقرآن مملوء بالرد عليهم. وعلى طعنهم من وجوه:

_ 1، 2 سورة الأنعام الآيات 8-10.

تارة بالطعن في القرآن فأجاب الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] . وتارة بالتماس سائر المعجزات كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] . وتارة بأن هذا القرآن نزل منجما نجما نجما وذلك يوجب تطرق التهمة إليه فأجاب الله بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَك} [الفرقان: 32] . وهناك موقف من ينكر رسالة محمد على جهة العصبية القبلية حكى الله ذلك بقوله: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} [الزخرف: 31] . وهناك موقف أهل عبادة الأوثان والدهريين الذين لا يعرفون جنة ولا نارا ولا قيامة ولا كتابا مثل الأوس والخزرج. يقول الشهرستاني: وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة، وأنكروا الرسل، وعبدوا الأصنام، وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الدار الآخرة وحجوا إليها، ونحروا لها الهدايا وقربوا القرابين، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر وأحلوا وحرموا، وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم نذكرهم وهم الذين أخبر عنهم التنزيل: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} ... إلى قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} ، فاستدل عليهم بأن المرسلين كلهم كانوا كذلك؛ قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} 1، ويقول تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 2. 3- قضايا الغيب: ومن العرب من أقر بالخالق وأثبت حدوث العالم وأقر بالبعث والإعادة وأنكر الرسل وعكف على عبادة الأصنام.

_ 1 سورة الفرقان آية 20. 2 سورة ص الآيات 74.

وهم الذين قال الله فيهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . قال المسعودي: وهذا الصنف هم الذين حجوا إلى الأصنام وقصدوها ونحروا لها البدن ونسكوا لها النساك وأحلوا لها وحرموا1. يقول الشهرستاني: وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع، وأنكروا البعث والإعادة وهم الذين أخبر عنهم القرآن: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 2. فاستدل عليهم بالنشأة الأولى إذ اعترفوا بالخلق الول. فقال عز وجل: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2، وقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} 4. ومن العرب من يعتقد التناسخ فيقول: إذا مات الإنسان أو قتل اجتمع دم الدماغ وأجزاء بنيته وانتصب طيرا "هامة" فيرجع إلى رأس القبر كل مائة سنة وعلى هذا أنكر عليهم الرسول فقال: "لا هامة ولا عدوى ولا صفر" 5. يقول الألوسي عند قوله تعالى: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} : إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من عبدة الأصنام6. ويقول الشهرستاني: وشبهات العرب كانت مقصورة على هاتين الشبهتين: إحداهما: إنكار البعث؛ بعث الأنام. والثانية: جحد البعث؛ بعث الرسل. فعلى الأولى قالوا: أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون؟

_ 1 مروج الذهب: 1: 25. 2 سور يس آية 78. 3 سورة يس آية 79. 4 سورة يس آية 15. 5 سورة الجاثية آية 24، وانظر روح المعاني 9: 69. 6 سورة الصافات الآيتان 16، 17.

وعبروا عن ذلك في أشعارهم: حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو ولبعضهم مرثية في أهل بدر من المشركين يقول فيها: فماذا يا قليب قليب بدر ... ترى ماذا تكلل بالسنام يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام وأما الشبهة الثانية: فكان إنكارهم لبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في الصورة البشرية أشد وإصرارهم على ذلك أبلغ، وأخبر التنزيل عنهم بقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} 1، {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} 2؟ فمن كان يعترف بالملائكة كان يريد أن يأتيه ملك من السماء، وقالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَك} 3، ومن كان لا يعترف بهم كان يقول: الشفيع والوسيلة لنا إلى الله هي الأصنام المنصوبة أما الأمر والشريعة من الله إلينا فهو المنكر. لاحظنا مما سبق تدرجا في مستويات القربى الروحية أو القوى المعبودة المؤلهة لدى عرب الجاهلية فرأينا قوى روحية عليا معبودة مثل الملائكة واختلطت صور بعضها الملائكة ببعض مثل بشرية أو أخضعوها لتصوراتهم البشرية. فقالوا عنها: إنها بنات الله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} 4. ووجدت قوى روحية سفلى في بني مليح من خزاعة وهم رهط طلحة الطلحات يعبدون5 الجن والشياطين وأنهم كانوا يستخدمونها في كتابتهم، ولهم معها أساطير واتخذوا أيضا منها شركاء لله. قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ} 6.

_ 1 سورة الإسراء: 94. 2 سورة التغابن: 6. 3 سورة الأنعام: 8. 4 سورة الزخر: 19. 5 تشككها في رمي الجن. قال ابن إسحاق: إنه حدث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم -حين رمى عليا- هذا الحي من ثقيف وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية. 6 سورة الأنعام: 100.

ولهم أيضًا بجانب ذلك اتجاهات وثنية لا تنفك عن سذاجة الفطرة، كعبادة المحسوسات من شجر وحجر وغير ذلك، ورأينا فيهم على جاهليتهم وثنيهم أنهم يعرفون لفظ الجلالة "الله". وتدلنا الروايات التاريخية: أنهم وجدوه في الكعبة منذ أن بناها إبراهيم ومعه إسماعيل، وكانت قريش تعتبره هو المعبود الحقيقي، ومظاهرها الوثنية كانت زلفى إليه. ورأينا فيهم: من يتكلم عن الدهر كقوة عظمى تعلو فوق التصور الإنساني، وعبدوا النيران من شمس وقمر إلخ. ومع كل هذا لا يوجد في العرب طبقة دينية تختص بأمور الدين، وليس في بلاد العرب، ولا سيما في منطقة الحجاز ونجد طبقة إكليريكية خاصة، ولكن يقوم مقامها طائفة العرافين والزاجرين والقائفين والسدنة، ولم يكن لهذه الطائفة ما يميزهما أو يرفعهما عن سائر الناس فلا مسحة خاصة بها، ولا رتبة ولا فرقة في أساليب المعيشة بينهم وبين أبناء قبيلتهم لهم ما لها وعليهم ما عليها. القضاء والقدر: ونرى حاتم الطائي: وهو من النصارى على رأى مؤمنا بالقضاء والقدر، وبما يأمر به الله تعالى. ونجد المثقب العبدي: مؤمنا بالله تعالى وبالقدر. فما يقع للإنسان يكون بمشيئة الإله وقدره1. كذلك: نجد هذه العقيدة -عقيدة القدر في شعر "زهير بن أبي سلمى" وفي شعر غيره من الشعراء. هذا زهير يقول: إن المنايا أمر لا مفر منه، وإن من جاءت منيته لابد أن يموت راو حاول الارتقاء إلى السماء فرارا منه؛ ثم يقول: وجدت المنايا خبط عشواء من نصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم ومن القائلين بالقدر: عبيد بن الأبرص الشاعر الجاهلي الشهير ونجد: عمرو ابن كلثوم- في جملة من آمن بالقضاء والقدر. وتؤدي: لفظة "منا": معنى القدر؛

_ 1 المفصل جـ6 ص148، المعارف ص621، المجد ص161.

ومنها: "الماني" بمعنى القادر والمنية بمعنى الموت؛ لأن الموت مقدر بوقت مخصوص، وهي من الكلمات السامية المشتركة الواردة في مختلف لهجات هذه المجموعة، ولهذه الكلمة: صلة باسم الإله الكنعاني "منى": وهو إله القدر ولها أيضا: صلة بالصنم "منوات" من أصنام ثمود. و"مناة" من أصنام الجاهليين1. وتؤدي كلمة "المنون" معنى الدهر والموت؛ وقد تسبق بكلمة ريب في بعض الأحيان فيقال: ريب المنون؛ ما يقال: ريب الدهر. ويرى نولدكه: إن هذه الكلمات هي أسماء آلهة، وليست أسماء أعلام، هي أسماء تعبر عن معانٍ مجردة للألوهية، وهي مما استخدم في لغة الشعر للتعبير عن هذه العقائد الدينية، فالزمان مثلا أو الدهر لا يعنيان على رأيه هذا إلها معينا، ولا صنما خاصا؛ إنما هي تعبير عن فعل الآلهة في الإنسان. وبعض هذه الكلمات في رأي: "ولهوزن" مثل: "قضاء ومنية" هي بقايا جمل اختصرت ولم يبق منها غير بقايا هذه الكلمات. فكلمة قضاء هي بقية جملة أصلها: قضاء الله؛ سقطت منها الكلمة الأخيرة، وبقيت الأولى، وكذلك الحال في منية فإنها: بقية جملة هي: "منية الله" سقط عجزها وبقى صدرا، وهي تعني أن المنيةهي منية "الله" تصيب الإنسان2. يبدو أن: من الغريب ذكر الدهر والزمان والحمام والمنايا، وأمثالا في الشعر، ونسبة الفعل إليها، بينما يهمل ذكر الأصنام فيه، أو نسبة الفعل إلى "الله" تعالى. فهل يعني هذا أن الجاهليين لم يكونوا يعلمون أن "لله" سلطانا وحولا، وأن المنايا، والحتوف وكل خير أو مكروه هو من فعل "الله تعالى"؟ الواقع: أن هذا الذي نذكر يذهب إليه أهل الجاهلية، ولم يقصدوه، وما ذكر الدهر في الشعر إلا: كتشكي الناس من الزمان أو من الحظ أو النصيب في هذه الأيام، وشكواهم من ذلك لا يعني تحديد سلطان "الله" تعالى أو نكرانه؛ وإنما هو بقية من تصور إنساني قديم بنسبة كل فعل وعمل إلى قوة خفية هي القوة العاملة،

_ 1 المفصل جـ6 ص155، ص156، 157. 2 السابق جـ6 ص158.

وهي ما عبرت عنها بالدهر وبالزمان؛ وذلك لما يتصورونه من مرور الأيام والسنين، وبلاء الإنسان فيه، وبقاء الأرض والكون، ومثل هذه النسبة والشكوى عامة عند جميع الشعوب البدائية والمتطورة المتقدمة، فنراها عند القبائل البدائية، ونراها عند الغربيين1. وقد ذكر علماء التفسير: أن قريشا خاصموا الرسول في القدر، وأن رجلا جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ففيم العمل؟ أفي شيء نستأنف، أو في شيء قد فرغ مه؟ فقال رسول الله: "اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له". ويظهر من ذلك: أن قريشا -أو جمعا منهم- لم يكونوا يؤمنون بالقدر، بل كانوا يؤمنون بأن فعل الإنسان منه، وأن لا لأحد من سلطان في تصرفه وفعله2. القدرية: وقد ذكر: أن الشاعر الأعشى كان قدريا، يرى أن للإنسان دخلا في فعله، وأن له سلطانا على نفسه؛ حيث يقول: استأثر الله بالوفاء وبالـ ... ـعدل وولى الملامة الرجلا فالإنسان مسئول عن فعله، ملام على ما يرتكبه من قبيح. فالله تعالى عادل لا يجازي الإنسان إلى على فعله، ولو كان قد قدر كل شيء له وحتمه عليه كان ظالما. وقد أخذ الأعشى رأيه ذا: من قبل العباديين، نصارى الحيرة كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك3.

_ 1 المفصل جـ6 ص128. 2 السابق جـ6 ص160، تفسير الطبري 27/ 64. 3 السابق جزءا وصفحة.

التأله والقرابين

التأله والقرابين: ينقل "البيروني"1: عن جالينوس من كتابه الحث على تعلم الصناعات قوله: ذوو الفضل من الناس إنما استأهلوا ما نالوه من الكرامة حتى لحقوا بالمتألهين بسبب جودة معالجتهم للصناعات لا بالإحصاء والمصارعة ورمي الكرة.

_ 1 وللهند من مقوله ص50.

ولقد بنى جالينوس فكرته: على أن الأنفس والأرواح قائمة بذاتها قبل التجسد بالأبدان، والاقتدار على تصاريف العالم، ولذلك سموها "آلهة"، وكانوا أي اليونانيين يسمون الماهر بصناعة الطب: رجل إلهي. وقال يحيى النحوي في رده على "أبروقلس": كان اليونانيون يوقعون اسم لآلة على الأجسام المحسوسة في السماء، كما عليه كثير من العجم؛ ثم لما تفكروا في الجواهر المعقولة أوقعوا هذا الاسم عليها. فباضطرار يعلم أن معنى التأله راجع إلى ما يذهب إليه في الملائكة. يعلق البيروني على ذلك فيقول: ولكن من الألفاظ ما يسمح به في دين دون دين، وتسمح به لغة وتأباه أخرى، ومنها لفظة: "التأله" في دين الإسلام؛ فإنا إذا اعتبرناها في لغة العرب وجدنا جميع الأسامي التي سمى بها الحق المحض متجهة على غيره بوجه ما سوى اسم "الله" فإنه يختص به اختصاصا قيل له إنه اسمه الأعظم. وإذا تأملناه في العبرية والسريانية اللتين نزلت بهما الكتب المنزلة قبل القرآن وجدنا: "الرب" في التوراة وما بعدها من كتب الأنبياء المعدودة في جملتها موازيا "لله" في العربي غير منطلق على أحد بإضافة كرب البيت، ورب المال ووجدنا الإله فيها موازيا للرب في العربي، فقد ذكر فيها: أن بني ألوهيم نزلوا إلى بنات الناس قبل الطوفان وخالطوهن. وذكر في كتاب أيوب الصديق: إن الشيطان دخل مع بني ألوهيم إلى مجمعهم وفي توراة موسى: قول الرب: إني جعلتك إلها لفرعون، وفي المزمور الثاني والثمانين من زبور داود: إن الله قام في جماعة الآلهة يعني الملائكة، وسمى في التوراة الأصنام "آلهة غرباء". يقول البيروني: والأمم الذين كانوا حول أرض فلسطين هم الذين كانوا على دين اليونانيين في عبادة الأصنام، ولم تزل بنو إسرائيل كانوا يعصون "الله" بعبادة صنم "بعلا" وصنم: "استروث" الذي للزهرة. فالتأله على وجه التملك عند أولئك كان يتجه على الملائكة وعلى الأنفس1.

_ 1 نفس المرجع السابق ص50.

لقد كانت ديانات الجاهليين ذات حدود ضيقة، آلهتها آلهة محلية، فالإله إما إله قبيلة، وإما إله موضع. وطبيعي أن تكون صلة الإنسان بإلهه متأثرة بدرجة تفكير ذلك الإنسان وبالشكل العام للمجتمع. والإله في نظرهم هو حامي القبيلة وحامي الموضع وهو المدافع عنها وعنه في أيام السلم وفي أيام الحرب ما دام الشعب مطيعا له منفذا لأوامره وأحكامه وللشعائر المرسومة التي يعرفها ويقررها ويقوم بتنفيذها رجال الدين. ومن أهم ما تقرب به الإنسان إلى آلهته: النذور والقرابين والمنح أي الصدقات والعطايا؛ وتدخل الذبائح في باب النذور كذلك1. ويمكن تقسيم ما تقدم به الجاهليون إلى أربابهم إلى قسمين: الأول: قسم إجباري يجب الوفاء به بسبب نذر مثلا. الثاني: قسم تطوعي أي اختياري مثل المنح. وأدخل في القسم الأول ما يقال له: "خطت، خطات، خطأة". أي الخطيئة، ويراد بها تقديم فدية عن عمل مخالف قام به إنسان مثل تقديم ذبيحة بسبب دخول إنسان نجس في المعبد2. وتلعب النذورة دورا خطيرا في الحياة الدينية عند الجاهليين، حتى صارت عندهم بمثابة المظهر الأول والوحيد، فالعامة لا تكاد تفهم من الدين إلا تقديم النذور للآلهة؛ لتجيب لها طلباتها وتنعم عليها بنعمائها. والنذور هي وعد على شروط يتوسل الناذر إلى آلهته بأنها إن أجابت طلبا بعينه وحققت مطلبا نواه فعليه كذا نذر يعينه ويذكره. فهنا عقد ووعد بين طرفين في مقابل تنفيذ شرط أو شروط أحد طرفيه السائل صاحب النذر؛ أما الطرف الثاني فهو الإله أو الآلهة. وأما الشرط: فهو تنفيذ المطالب التي يريدها الناذر، وأما النذر: فهو أشياء مختلفة؛ وقد تكون ذبيحة، وقد تكون جملة ذبائح، وقد تكون نقودًا، وقد تكون فاكهة وقد تكون أرضًا، وقد تكون تمثالا، وقد تكون حبسا لإنسان يهب نفسه أو

_ 1 نفس المرجع السابق ص50. 2 تاج العروس جـ1 ص47.

مملوكه أو ابنه لإلهه، وقد يوهب ما في بطن المرأة، أو ما في بطن الحيوان، وهكذا نجد: مادة النذر كثيرة مختلفة متبانية بتباين النذر والأشخاص1. ومن هذه النذور: "الربيط" فقد كان الجاهليون ينذرون أنهم إذا عاش لهم مولود جعلوه خادما للبيت أي لبيت الصنم، ومن هنا لقب "الغوث بن مر" بالربيط؛ لأن أمه كانت لا يعيش لا ولد، فنذرت لئن عاش هذا لتربطن برأسه صوفة ولتجعله ربيط الكعبة، فعاش ففعلت وجعلته خادما للبيت، حتى بلغ الحلم فنزعته فلقب الربيط2. وقد أشار المفسرون، وأصحاب الحديث والأخبار إلى نذور كانت معروفة في الجاهلية فمنعها الإسلام، وفي بعضها نوع من التحايل والتلاعب؛ حيث كانوا يتصرفون بحسب أهوائهم، وشهواتهم ومنافعهم وقت استحقاق النذر، ومن ذلك: ما أشير إليه في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلخ الآية سورة الأنعام آية 136. وقد ذكر المفسرون: أن من الجاهليين من كان يزرع "لله" زرعا وللأصنام زرعا، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه "لله" ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه عليها، ويقولون: إن "الله" غني والأصنام أحوج، وإن زكا الزرع الذي زرعوه للأصنام ولم يزك الذي زرعوه "لله" لم يجعلوا منه شيئا "لله"؛ وقالوا: هو غني، وكانوا يقسمون الغنم فيجعلون بعضه "لله" وبعضه للأصنام؛ فما كان "لله" أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم؛ كانوا إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل "لله" تعالى ردوه، وإذا اختلط ما جعل "لله" بما جعل لأصنام تركوه وقالوا: الله أغنى، وإذا هلك ما جعل للأصنام بدلوه مما جعل "لله"، وإذا هلك ما جعل "لله" لم يبدلوه بما جعل للأصنام. وقد كان الجاهليون: يعظمون البيت بالدم، ويتقربون إلى أصنامهم بالذبائح يرون أن تعظيم البيت أو الصنم لا يكون إلا بالذبح وإن الذبائح من تقوى القلوب،

_ 1 المفصل جـ6 ص189، ص190. 2 المفصل جـ6 ص191.

والذبح هو الشعار الدال على الإخلاص في الدين عندهم، وعلامة التعظيم؛ وقال المسلمون: يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه. وكلمة قربان وجمعها قرابين، هي من أصل "ق ر ب" وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى؛ لأنها تقرب إلى الآلهة، والقربان هو كل ما يتقرب به إلى "الله". فليس القربان خاصا بالذبائح، وإن صار ذلك مدلوله في الغالب1. ومن القرابين ما يقدم في أوقات معينة موقتة، ومنها ما ليس له وقت محدد ثابت، بل يقدم في كل وقت، ومن أمثلة النوع الأول: ما يقدم في الأعياد أو في المواسم أو في الأشهر أو في أوقات معينة من اليوم وفي ساعات العبادات. ومن أمثلة النوع الثاني: ما يقدم عند ميلاد مولود، أو إنشاء بناء أو القيام بحملة عسكرية أو لنصر وما شابه ذلك من أحوال2. الترجيب: وشهر رجب هو من الأشهر الحرم، التي لم يكن يحل فيها القتال، وقد سمي الذبح في هذا الشهر بـ "الترجيب"؛ وقيل للذبائح التي تقدم فيه "العتائر" جمع عتيرة؛ وقد عدت العتائر من شعائر الجاهلية، وأطلق بعض علماء اللغة: كلمة العتائر على ذبح الحيوانات الأليفة، وأطلق لفظة "النافرة" على ذبح الحيوانات الوحشية، وفي الحديث: "هل تدرون ما العتيرة؟ " وهي التي يسمونها الرجيبة؛ كانوا يذبحون في شهر رجب ذبيحة وينسبونها إليه، يقال: هذه أيام ترجيب، وتعتار. وكانت العرب: ترجب، وكان ذلك لهم نسكا. وكان بعض السادة: ينحرون إذا أهل الشهر الأصم: شهر رجب؛ روي أن حاتما الطائي كان ينحر إذا أهل الشهر -ينحر عشرا من الإبل، ويطعم الناس لحومها؛ وذلك لحرمته ومنزلته عنده، ولتعظيم مضر، فهو من شهور مضر الخاصة. وأصل النسك: الدم، وبهذا المعنى ورد: من فعل كذا وكذا فعليه نسك: أي دم يهريقه.

_ 1 المفصل جـ6 ص196. 2 السابق جـ6 ص197.

والنسيكة: الذبيحة، ومنسك: الموضع الذي تذبح فيه النسيكة وهذا هو المعنى القديم الأصلي للكلمة. وقد صار من معانيها في العربية الشمالية: العبادة والطاعة وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى؛ لما كان للذبح من شأن في الديانات القديمة بحيث كان يعد عبادة أساسية عندها؛ ولذلك قيل: لمن انصرف إلى التعبد الناسك، وقد فسر علماء التفسير لفظة نسك الواردة في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} بذبح ذبيحة شاة أو ما فوق ذلك1. وقد أبطل الإسلام "الرجيبة" وهي العتيرة كما أبطل "الفرع"؛ وهو: ذبح أول نتاج الإبل والغنم لأصنامهم؛ فكانوا يأكلونه ويلقون جلده على الشجر. ويذكر: أنهم كانوا إذا أرادوا ذبح "الفرع" زينوه، وألبسوه؛ ليكون ذلك أوكد في نفوس الآلهة، وتعريفًا للناس؛ وكانوا يفعلون ذلك تبركا؛ وفي الحديث: "لا فرع ولا عتيرة"، والعتائر: الذبائح التي كانوا يذبحونها عند أصنامهم وأنصابهم في رجب وفي غير رجب، والتي كانوا يلطخون بدمائها الصنم الذي كانوا يعترون له. وأما الرجيبة: فهي العتائر التي تعتر في رجب خاصة، وقد كانت كثيرة، ولذلك نسبت إلى هذا الشهر، ونظرا إلى كون "الرجبية" عتيرة ذهب البعض إلى أن "العتيرة" الرجبية، فطن أنهم قصدوا بذلك أن "العتيرة" هي "الرجيبة"، مع أن "الرجيبة" من العتائر، وليست مساوية لها2. ولم تكن للجاهليين أحكام في الحلال الحرام بالنسبة إلى المأكول على ما يظهر، بل كان مرجع الحرمة والإباحة عندهم إلى عرف القبائل. وذكر: أن أناسا من المشركين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: "الله قتلها"؛ قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام؟ وذكر أن فارس أوحت إلى أوليائها من مشركي قريش: أن خاصموا محمدا، وقولوا له: إن ما ذبحت فهو حلال، وما ذبح الله بشمشار من ذهب فهو حرام؟ فوقع

_ 1 المفصل جـ6 ص200، ص201 تفسير الطبري جـ2. ص134 وما بعدها. 2 بلوغ الأرب جـ3 ص40 وما بعدها.

في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فقد كانت قريش تأكل كل شيء من ميتة ومختنقة ومن نطيحة، وما أكل السبع، وما أهل به للصنم. فنزل تحريم ذلك في الإسلام1.

_ 1 المفصل جـ6 ص223، ص224، تفسير الطبري جـ8 ص12 وما بعدها.

المقدس وغير المقدس

المقدس وغير المقدس: قد تعرض اليعقوبي لموضوع أديان العرب، وشعائرها فقال: كانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل، والانتقال إلى البلدان والانتجاعات؛ فكانت قريش وعامة ولد معد بن عدنان على بعض دين إبراهيم، يحجون البيت ويقيمون المناسك، ويقرون الضيف، ويعظمون الأشهر الحرم، وينكرون الفواحش، والتقاطع، والتظالم، ويعاقبون على الجرائم، فأدخل في الدين أمورًا نعدها اليوم من الأعراف وقواعد الأخلاق والسلوك وجعلها من سنة إبراهيم: أي دين العرب القديم قبل إفساده بالتعبد للأصنام. وذكر "السكري" أن العرب كانت دون من سواها من الأمم تصنع عشرة أشياء منها في الرأس خمسة وهي: "المضمضة، والاستنشاق، والسواك، والفرق، وقص الشارب". وفي الجسد خمسة وهي: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبطين وتقليم الأظافر والاستنجاء". خصت بهذا العرب دون الأمم1. الحيوانات المقدسة: ومن النذور والقرابين ما يكون حيوانات حية. وقد أشير في القرآن الكريم: إلى البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَة} ... إلخ2. فأما البحيرة: فالناقة، أو الشاة تترك فلا ينتفع من لبنها، ولا تحمل، ولا تركب وترعى، وترد الماء فلا تُرَدُّ؛ فإذا ماتت حرموا لحمها على النساء، وأباحوه على الرجال، ذلك بعد أن تنتج خمسة أبطن أو عشرة أو ما بين ذلك.

_ 1 المفصل جـ6 ص345، ص346، المحبر ص329. 2 سورة المائدة آية 103، وانظر المفصل جـ6 ص203.

وقيل أيضا: الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس، فإذا كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء جميعا، وإن كانت أنثى شقوا أذنها فتلك "البحيرة". وقيل "البحيرة": هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس. وقال بعض العلماء: "البحيرة" هي ابنة السائبة1. وورد في الأخبار: أن أول من بحر البحائر، رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما، وظهورهما، وقال: هاتان "لله"؛ ثم احتاج إليهما، فشرب ألبانهما وركب ظهورهما. كما نسب التبحير: إلى "عمرو بن لحي"؛ إذ قيل إنه كان أول من بحر البحيرة2. السائبة: أما السائبة فهي: الناقة، أو البعير، أو الدابة تترك لنذر، أو بعد بلوغ نتاجها حدا معلوما. فلا تركب، ولا يحمل عليها، ولا تمنع من ماء وكلأ، وتترك سائبة لا يحل لأحد كائنا من كان مخالفة ذلك. وكان الرجل في الجاهلية: إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة قال: ناقتي سائبة؛ أي: تسيب فلا ينتفع بظهرها، ولا تركب، وأغير على رجل من العرب فلم يجد دابة يركبها؛ فركب سائبة فقيل: أتركب حراما؟ فقال: يركب الحرام من لا حلال له، فذهبت مثلا، ويذكر أهل الأخبار: إن أول من سيب السوائب؛ عمرو بن عامر الخزاعي؛ أي عمرو بن لحي أخو بني كعب، وهو أول من غيَّر دين إبراهيم3. الوصيلة: أما الوصيلة: فالناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، أو الشاة التي وصلت سبعة أبطن. وفي رواية: إن الشاة إذا ولدت ستة أبطن نظروا: فإن كان السابع ذكرا ذبح، وأكل منه الرجال، والنساء.

_ 1 تاج العروس مادة بحر 3/ 28. 2 المفصل جـ6 ص205، الطبري ص59. 3 المفصل جـ6 ص206 الكشاف جـ1 ص368.

وإن كان أنثى تركت في الغنم. وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، ولم يذبح، وكان لحمه حرامًا على النساء. وفي رواية: إن لبن الوصيلة حلال على الرجال دون النساء، قالوا: الوصيلة: الشاة إذا أتمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينهن ذكر، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث، إلا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم1. الحام: وأما "الحام": فالبعير إذا نتج عشرة أبطن من صلبه. قالوا: قد حمى ظهره؛ فلا يركب، ولا يحمل عليه، ولا يمنع من مرعى. وقالوا: "الحام" من الإبل؛ كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه. وقالوا: "بل الحام" إن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهم أنثى حمى ظهره، ولم يركب، ولم يجز وبره، ويخلى في إبله يضرب فيها، لا ينتفع به بغير ذلك. وذكروا: أن أول من حمى الحامي: هو عمرو بن لحي، وذلك في سنن أخرى سنها لأهل الجاهلية2. السدنة: "السدنة" قومه لأصنام، متولو أمرها. و"السدانة" تنتقل بالإرث من الآباء إلى أكابر الأبناء، وتحصر في الأسرة فتكون من حقها، ومن نصيبها، لا يمكن انتزاعها منها إلا بالقوة. ومن واجب العشيرة التي تنتمي هذه الأسرة إليها الدفاع عنها إن حاول غريب انتزاع هذا الشرف منها.

_ 1 المفصل جـ6 ص206، الكشاف جـ12 ص368. 2 المفصل جـ6 ص206، تاج العروس جـ8 ص155، الكشاف جـ1 ص368.

لقد كانت سدانة الكعبة: في بني عبد الدار، وكانت حجابة "ود" في دومة الجندل إلى بني عامر بن الأحوص من كلب، وكانت سدنة "العزى" من بني صرمة بن مرة. وكانت سدنة "جهار" من آل عوف من بني نضر. وكان سدنة "سواع" بنو صاهلة من هذيل. وكان سدنة بيت الربة؛ أي الشمس من بني أوس بن مخاش. وكان سدنة "مناة" الغطاريف، وسدنة "ذو الخلصة" بنو هلال بن عامر، وسدنة "المحرق" آل الأسود. ولا بد من إدخال: النسأة في رجال الدين، فقد كان الناسئ هو الذي ينسئ النسيء؛ يعين موسم الحج ويثبته للناس. فهو -إذن- فقيه القوم، وعالمهم ومفتيهم في أمر الحج. وقد أشار السكري إلى أئمة العرب، فذكر أنهم الذي تولوا أمر المواسم، وأمر القضاء بعكاظ، والذين كانوا سدنتهم على دينهم وأمناءهم على قبيلتهم؛ وكانوا من قريش، والذين تولوا الإفتاء في دينهم؛ وهم من بني مالك بن كنانة. ولما تحدث عن النسأة قال: نسأة الشهور من كنانة، وهم القلامسة، واحدهم قلمس، وكانوا فقهاء العرب، والمفتين لهم في دينهم1. ومن الصعب تصور وجود طبقة خاصة كبيرة لرجال الدين على نحو ما كان عند المصريين مثلا أو الأشوريين أو البابليين، أو اليونان أو الرومان، أو في الكنيسة؛ بسبب النظام القبلي الذي كان غالبًا على جزيرة العرب، وصغر المجتمعات الحضرية؟ فالأصنام هي أصنام محلية، أصنام قبيلة، لذلك كان عبدتها هم عبدة القبيلة أو القبائل المتعبدة لها2. شعائرهم الدينية: ذكر اليعقوبي: أن العرب كانت إذا أرادت حج البيت الحرام وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوا عنده ثم تلبوا.

_ 1 المفصل جـ6 ص213، ص214، ص215، ص216. 2 المفصل جـ6 ص220.

وقد أشير إلى سجود الناس للشمس والقمر في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَار} 1 إلخ الآية. كما أشير إلى سجود أهل سبأ إلى الشمس في قوله تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} 2 إلخ الآية. الصوم: قد ذكر الصوم في السور المدنية، أما في السور المكية فقد ذكر مرة واحدة في سورة مريم في قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} 3 الآية. وقد حددت السور المدنية أصول الصيام في الإسلام. والصوم المعروف عند اليهود، والنصارى: معروف عند أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال واحتكاك بأهل الكتاب؛ فقد كان أهل يثرب مثلا على علم بصوم اليهود؛ بسبب وجودهم بينهم. وكان عرب العراق، وبلاد الشام على علم بصوم النصارى؛ بسبب وجود قبائل عربية متنصرة بينهم. وكان أهل مكة، ولا سيما الأحناف منهم، والتجار على معرفة بصيام أهل الكتاب والرهبان المتمثل في السكوت والتأمل والجلوس في خلوة للتفكير في ملكوت السماوات والأرض. ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن من الجاهليين من اقتدى بهم، وسلك مسلكهم. فكان يصوم صوم السكوت والتأمل والامتناع عن الكلام، والانزواء في غار حراء وفي شعاب جبال مكة.

_ 1 سورة فصلت آية 37 وما بعدها. 2 سورة النمل آية 24. 3 سورة مريم آية 26.

وذكر بعضهم: كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية اقتداء بشرع سابق، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه على عادته وأمر أصحابه بصيامه في أول السنة الثانية؛ فلما نزل رمضان: كان من شاء صام يوم عاشوراء، ومن شاء لا يصومه، وعللوا سبب صيام قريش هذا اليوم: أنه كان أصابهم قحط؛ ثم رفع عنهم فصاموه شكرًا1. ورواية: أن قريشا كانت تصوم في يوم عاشوراء لا تتفق مع الروايات الأخرى في كيفية فرض صيام شهر رمضان. ففي هذه الرواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم فأخبروه أنه اليوم الذي غرق "الله" فيه في آل فرعون، ونجي موسى ومن معه منهم؛ فقال: نحن أحق بموسى منهم فصامه، وأمر الناس بصومه؛ فلما فرض صوم شهر رمضان لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه2. التحنث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث: التبرر فكان رسول الله يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله جوارا من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعة، ثم يرجع إلى بيته. وذكر: أن ذلك الشهر هو شهر رمضان. وكانوا إذا تقربوا إلى صنم، أو دعوا ربهم، أو أدوا مناسك حجهم فلا يسألون ربهم إلا متاع الدنيا؛ فمن الناس من يقول: ربنا آتنا في الدنيا، هب لنا غنما، هب لنا إبلا، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} ... إلخ الآية3.

_ 1 المفصل جـ6 ص339. 2 السابق جـ6 ص340، الطبري جـ2 ص265. 3 سورة البقرة آية 200.

بيوت العبادة

بيوت العبادة: المعبد: هو المحور الأساسي الذي تتركز حوله الحياة في المدينة اعتقادا في أن المعبد هو بيت الإله المعبود، وهو مالك الأرض التي تدر عليهم بالخير. ولبيوت الأصنام سدنة يحفظون الأصنام بها ويرعونها، وينقلونها معهم حيث ترحل القبيلة؛ فإذا نزلت نزلوا بها؛ ليقيموا لها الواجبات الدينية المفروضة في الخيمة المقدسة وبيوت العبادة عند الجاهليين ثلاثة أنواع: 1- بيوت عبادة خاصة بالمشركين عبدة الأصنام، وهم الكثرة الغالبة. 2- بيوت عبادة خاصة باليهود. 3- بيوت عبادة خاصة بالنصارى. أما بيوت عبادة المجوس: فقد عرفت في العربية الشرقية، وفي العربية الجنوبية؛ ولكن عبادها هم من المجوس أي العجم. فالمجوسية لم تنتشر بين العرب، ولم تدخل بينهم إلا بين عدد قليل من الناس. والبيت: مأوى الإنسان، ومسكنه في الأصل؛ ثم تجوز الناس فأطلقوا اللفظة على المعبد باعتبار أنه بيت الآلهة أو الإله؛ لاعتقادهم أن الآلهة تحل به. وأما الكعبة: فالبيت المربع، وكل بيت مربع كعبة عند العرب، وقد خصصت في الإسلام بالبيت الحرام بمكة. والمسجد: كل موضع يتعبد فيه؛ وقد اسعملها الجاهليون بهذا المعنى. وذهب "كلاسر" وغيره: إلى أن مكربة Mocoraba المدينة المذكورة في جغرافيا بطليموس هي مكة؛ لأنها مقربة إلى الأصنام فهي بمعنى البيت والكعبة في لهجتنا. ولفظة "البد" وهي تؤدي معنى صنم كذلك.

وذكروا أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، عربت من "بت"، وأنها تعني البيت إذا كان فيه أصنام وتصاوير1. والهيكل: من الألفاظ الدالة على موضع العبادة، استعملت لبيوت الأصنام مجازا، ولمعابد النصارى، والظاهر أن استعمالها كان عند العرب الشماليين في الغالب2. ومن المعابد الشهيرة: "البيت الحرام"؛ أي الكعبة مكة، ومعبد ذو الشرى بمدينة بطرا، وقد خصص هذا البيت بعبادة الإله "ذي الشرى". وذات الكعبات: بيت كان لبكر وتغلب ابني وائل وإياد. وكان بنجران بيت عبادة عرف: "بكعبة نجران" وهو بناء بني على هيئة الكعبة. وقد ذكر ابن الكلبي: أن رجلًا من جهينة يقال له: عبد الدار بن حديب أراد بناء بيت بأرض من بلادهم يقال لها الحوراء؛ ليضاهي به الكعبة، حتى يستميل به العرب، فأعظم قومه ذلك وأبوا عليه، ونجد في كتاب الأصنام لابن الكلبي، وفي كتب أهل الأخبار: أسماء مواضع ذكر أنها كانت بيوت عبادة حج إليها العرب حجهم لمكة. وذكر: أن قريشا بنت للعزى بيتًا بوادي حراض بإزاء الغمير، وحمت له شبعا من وادي حرا يقال له سقام يضاهون به الكعبة، وقد حجت إليه، وكانت تنحر عنده، ويتقربون إلى العزى بالذبائح3. المذابح: وتلحق بالمعابد مذابح تذبح عليها القرابين، التي يتقرب بها المؤمنون إلى آلهتهم، ويقال للواحد منها: مذبح، ونصب.

_ 1 المفصل جـ6 ص399، ص400، ص401، المفردات ص64، اللسان جـ3 ص204. 2 المفصل جـ6 ص402. 3 السابق جـ6 ص415، 416، 417.

وقد وردت كلمة النصب في آية اللحوم المحرمات التي لا يجوز أكلها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 1 ... إلخ الآية. سدنة الآلهة: ولبيوت العبادة سدنة، وحجبة وخدم يقومون كلهم بخدمة البيت وما فيه من الأصنام؛ ويعبر في عربيتنا عن الذي يتولى أمر الصنم بـ "السادن"، "سادن" الصنم. وتكون وراثية في الأغلب تنتقل في أفراد العائلة من الأب إلى ابنه الأكبر، أو إلى غيره من البارزين في الأسرة. وكانت السدانة واللواء بمكة لبني عبد الدار في الجاهلية، فأقرها النبي لهم في الإسلام؛ فكان إليهم أمر مفتاح البيت. الكعبة: يذكر أهل الأخبار: أن أهل مكة استعانوا بتسقيف البيت بخشب سفينة رجل من تجار الروم، رمى البحر بسفينته إلى الساحل إلى الشعبية، وهو مرفأ السفن من ساحل الحجاز، وكان مرفأ مكة، ومرسى سفنها قبل جدة -فجاؤوا بالخشب إلى مكة، وكان بها نجار قبطي، استعين به في تسقيف البيت بذلك الخشب. وذكر: أن الذي سقف البيت "علج"؛ كان في السفينة يحسن النجارة اسمه "باقوم" فجيء به مع الخشب، وسقف الكعبة؛ وقد سألهم عن كيفية تسقيفها هل يجعل السقف قبة، أو مسطحا؟ فأمروه أن يكون مسطحا فعمله على ما أمروه به. ويذكرون: أن قريشا حين أرادوا بناء الكعبة؛ أتى "عبد الله بن هبل" ومعه مال فقال: دعوني أشرككم في بنائها؛ فأذنوا له، فبنى الجانب الأيمن؛ فلبني كلب يد بيضاء في نصرتهم لقريش حين بنوا الكعبة، وصاحب هذا الخبر هو: "ابن الكلبي"، ولا أستبعد أن يكون خبره هذا من وحي العاطفة نحو قومه الكلبيين2.

_ 1 سورة المائدة آية 3، المفصل جـ6 ص420. 2 المفصل جـ6 ص434، ص435.

وقد زوقت الكعبة بعد حريق -زوق سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلت في دعائمها، وجعلت في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر، وصور الملائكة؛ فكان فيها صورة "إبراهيم خليل الرحمن" شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة "عيسى بن مريم" وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين؛ فلما كان يوم فتح مكة: دخل رسول الله البيت؛ فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بماء زمزم؛ ثم أمر بثوب فيبل بالماء، وأمر بطمس تلك الصور فطمست؛ ووضع كفيه على صورة عيسى "ابن مريم" وأمه عليهما السلام، وقال: امح جميع الصور إلا ما تحت يدي؛ فرفع يديه عن "عيسى بن مريم" وأمه، ونظر إلى صورة إبراهيم فقال: قاتلهم الله، جعلوه يستقسم بالأزلام، وما لإبراهيم والأزلام1. لقد ذهب يولهوزن: إلى أن قدسية البيت عند أهل الجاهلية لم تكن بسبب الأصنام التي فيه، بل كانت بسبب هذا الحجر. لقد كان هذا الحجر مقدسا في ذاته، وهو الذي جلب القدسية للبيت فصار البيت نفسه مقدسا في حد ذاته بحجره هذا الذي هو فيه، ولعله شهاب نيزك، أو جزء من معبود مقدس قديم. وقد ذهب بعض المستشرقين: إلى أن البيت لم يكن إلا بمثابة إطار للحجر الأسود، الذي كان من أهم معبودات قريش؛ لأنه يمثل بقايا حجر قديم كان مقدسًا عند قدماء الجاهليين؛ غير أنه لم يكن معبود قريش الوحيد2. الكسوة: وذكر أن أول من كسا البيت الحرير: "نتيلة بنت ناب بن كليب"، وهي من بني عامر المعروف بالضحيان، وكان من ملوك ربيعة، وكان العباس بن عبد المطلب ابنها قد ضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير فكسته، فهي أول من كساه ذلك.

_ 1 المفصل جـ6 ص435، ص436. 2 السابق جـ6 ص437.

وقيل: أول من كسا البيتَ الديباجَ: "خالدُ بن جعفر بن كلاب"؛ أخذ لطيمة من البر، وأخذ فيها أنماطا فعلقها على الكعبة1. الحج والعمرة: وكلمة "حج" من الكلمات السامية الأصلية العتيقة. وقد وردت: في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام، كما وردت في مواضع من أسفار التوراة، وهي تعني قصد مكان مقدس وزيارته. ويكون الحج بأدعية، وبمخاطبة إلى الآلهة، وبتوسلات؛ لتتقبل حج ذلك الشخص، الذي قصدها تقربا إليها. وقد ميز الشهر الذي يقع فيه الحج عن الأشهر الأخرى بتسميته شهر "ذي الحجة" "شهر الحج"؛ وذلك لوقوع الحج فيه. وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَات} 2، قال الطبري: اختلف أهل التأويل في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَات} فقال بعضهم: يعني بالأشهر المعلومات شوالا، وذا القعدة، وعشرًا من ذي الحجة. جعلهن الله تعالى للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرة يحرم بها في كل شهر. والحج إلى "مكة"، وإلى البيوت المقدسة الأخرى مثل بيت "اللات" في الطائف، وبيت "العزى" على مقربة من عرفات، وبقية البيوت الجاهلية المعظمة إنما هو أعياد يجتمع الناس فيها للاحتفال معا بتلك الأيام، وهم بذلك يدخلون على أنفسهم وعلى أنفس آلهتهم بحسب اعتقادهم، وتقترن هذه الاحتفالات بذبح الحيوانات كل يذبح على قدر طاقته ومكانته.

_ 1 السابق جـ6 ص443، الإصابة جـ2 ص263. 2 سورة البقرة آية 197.

والطواف بالبيوت وبالأصنام ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه، وكانوا يفعلونه كلما دخلوا البيت الحرام؛ فإذا دخل أحدهم البيت الحرام، وإذا سافر أو عاد من سفر فأول ما كان يفعله الطواف بالبيت؛ وقد فعل غيرهم فعل قريش ببيوت أصنامهم؛ إذ كانوا يطوفون حولها كالذي يفعله أهل يثرب من: طوافهم "بمناة"1. إن الطائفين بالبيت كانوا صنفين: صنف يطوف عريانا، وصنف يطوف في ثيابه؛ ويعرف من يطوف بالبيت عريانا "بالحلة" أما الذين يطوفون بثيابهم فيعرفون "بالحمس". وأضاف بعض أهل الأخبار: صنفًا ثالثًا قالوا له: "الطلس" وقبائل الحلة من العرب: تميم بن مر كلها غير يربوع، ومازن وضبة، وحميس، وقيس عيلان بأسرها ما خلا ثقيفًا، وعدوان وغيرهم وغيرهم2. وقد ذكر هذه الأسماء: "محمد بن حبيب"؛ وذكرها: "اليعقوبي" وهم يذكرون أن "الحلة" هم ما عداد الحمس". وإنهم كانوا يطوفون عراة إن لم يجدوا ثياب أحمسي، وكانوا يقصدون من طرحهم ثيابهم طرحهم ذنوبهم معها. ويذكرون أنهم كانوا يقولون: لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، ولا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها؛ فيلقون الثياب عنهم، ويسمون ذلك الثوب اللقى. كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة، إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال، والنساء النساء؛ فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبًا، ولا يسار يستأجر به كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانا؛ وإما أن يطوف في ثيابه؛ فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه؛ فلم يمسه أحد، وكان ذلك الثوب يسمى اللقى.

_ 1 المفصل جـ6 ص347، ص348، ص351، ص354. 2 السابق جـ6 ص354.

وجاء في رواية: أن الحمس كانوا يقولون: نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا1. وللجاحظ ملاحظات قيمة عن قريش لها صلة بالتحمس، وقد تفسر لنا معنى: "التحمس"، وسبب شموله أناسًا هم من غير قريش. ذكر: أن الإسلام لَمَّا ظهر لم تكن هنالك أية امرأة قرشية كانت مسبية عند غير قريش؛ ولم تكن هنالك أية امرأة مسبية في أيدي القبائل وأمها من قريش. ويذكر أيضا: أن قريشا لم تكن تزوج بناتها من أبناء أشراف القبائل حتى تشترط عليهم أن من تلد منهن فيكون من يلدن من الحمس، أما هم فكانوا إذا تزوجوا من بنات قبائل أخرى؛ فإنهم لم يشترطوا على أنفسهم أي شرط. وكان من هذه القبائل: عامر بن صعصعة، وثقيف، وخزاعة، والحارث بن كعب؛ وكانوا ديانين، وكانوا على دين قريش في أمورها؛ وكانت قريش كريمة، ولم ترض بالغارات، والغزو ولا بالظلم، ولم تقبل بالوأد، ولا بالدخول بمن يقع في أيديهم أسرى من النساء، وكان من فضائلهم: أن منَّ الله عليهم بالإيلاف؛ فأغناهم وجعلهم "لقاحًا" فلم يخضعوا لملك، ولم يستبعدهم سلطان أجنبي، ولم يدفعوا أي شيء عنهم لملك من الملوك؛ بل كانت الملوك تأتي إلى مكة، وتعظم البيت، وتحرم سكانه؛ وهم قريش "الحمس"2. الطلس: أما "الطلس" فقد وصفهم محمد بن حبيب بقوله: إنهم بين الحلة والحمس، يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة، ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس. وكانوا لا يتعرون حول الكعبة، ولا يستعيرون ثيابا، ويدخلون البيوت من أبوابها، وكانوا لا يئدون بناتهم، وكانوا يقفون مع الحلة، ويصنعون ما يصنعون؛ وهم سائر أهل اليمن وأهل حضرموت، وعجيب، وإياد بن نزار3.

_ 1 المفصل جـ6 ص357، 359، تفسير الطبري جـ2. ص170، القرطبي جـ1، ص114. 2 المفصل جـ6 ص365. 3 السابق جـ6 ص373.

وقد ذكر علماء التفسير: أن قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 1 نزلت في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس؛ فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد وفد عليه ثلثمائة رجل من مزينة؛ فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: يا عمر زود القوم. كما روى البخاري: عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس2. التلبية: قد تعرض اليعقوبي لموضوع التلبية فقال: فكانت العرب إذا أرادت الحج إلى بيت الله الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها، وصلوا عنده، ثم لبوا حتى يقدموا مكة؛ فكانت تلبياتهم مختلفة. وكانت تلبية قريش: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكانت تلبية كنانة: لبيك اللهم لبيك، اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف. وكانت تلبية بني أسد: لبيك اللهم لبيك، يا رب أقبلت بنو أسد أهل النوائب والوفاء والجلد إليك. وكانت تلبية بني تميم: لبيك اللهم لبيك، لبيك عن تميم، قد تراها قد أخلقت أثوابها، وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها. والتلبية: إجابة المنادي، أي: إجابة الملبي ربه، وقولهم: "لبيك اللهم لبيك". معناه: إجابتي لك يا رب، وإخلاصي لك. وقد كان الجاهليون يلبون لأصنامهم تلبيات مختلفة3.

_ 1 سورة البقرة آية 197. 2 المفصل جـ6 ص374، القرطبي جـ2 ص411. 3 المفصل جـ6 ص376، ص377، اليعقوبي جـ1 ص225.

والتلبية هي من الشعائر الدينية التي أبقاها الإسلام؛ غير أنه غير صيغتها القديمة، بما يتفق مع عقيدة التوحيد؛ فصارت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"1. الإفاضة: ومن عرفة تكون الإفاضة إلى المزدلفة، وإن "قصي بن كلاب" كان قد أوقد نارًا على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة؛ وإن العرب سارت على سنته هذه، وبقيت توقدها حتى في الإسلام. ويفيض الحجاج في الجاهلية عند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة من المزدلفة إلى منى لرمى الجمرات، ولنحر الأضحية2. وقد ذكر العلماء: أن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم حين أسفر قبل طلوع الشمس، ورمي الجمرات بمنى من مناسك الحج وشعائره. وكلمة "رجم": من الكلمات السامية القديمة، وقد وردت: في حديث عبد الله بن مغفل -لا ترجموا قبري- أي لا تجعلوا عليه الرجم وهي: الحجارة على طريقة أهل الجاهلية، ولا تجعلوه مسنمًا مرتفعًا، وقد فعله أهل الجاهلية على سبيل التعظيم؛ فكان أحدهم إذا مر بقبر وأراد تقدير صاحبه، وتعظيمه، وضع "رجمة، أو رجاما عليه"3. ويرجع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى -عمرو بن لحي- يذكرون: أنه جاء بسبعة أصنام، فنصبها بمنى عند مواضع الجمرات وعلى شفير الوادي، ومواضع أخرى، وقسم عليها حصى الجمار، إحدى وعشرون حصاة؛ يرمى كل منها بثلاث جمرات.

_ 1 المفصل جـ6 ص379، صحيح البخاري كتاب الحج حديث31. 2 المفصل جـ6 ص384. 3 المفصل جـ6 ص385.

ويظهر من الروايات الواردة عن: "ثبير" أنه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين؛ أو أن على قمته صنمًا أو بيتا كانوا يصعدون إليه لزيارته، وللتبرك به1. وكان الجاهليون يقلدون هديهم بقلادة، أو بنعلين يعلقان على رقبتي الهدى إشعارا للناس بأن الحيوان هو هدى، فلا يجوز الاعتداء عليه، كما كانوا يشعرونه، والإشعار: الإعلام، وهو أن يشق جلد البدنة، أو يطعن في أسنمتها في أد الجانبين بمبضع أو نحوه وقيل في سنامها الأيمن؛ حتى يظهر الدم ويعرف أنها هدى، والشعيرة: البدنة المهداة2. العمرة: العمرة: هي بمثابة الحج الأصغر في الإسلام؛ وكان أهل الجاهلية يقومون بأدائها في شهر رجب3. أما بالنسبة إلى الجاهليين: فيظهر من ذكره العمرة في القرآن الكريم أنهم يؤدونها كما كانوا يؤدون الحج، ولوقوعها في شهر رجب، وهو شهر كان الجاهليون يذبحون العتائر فيه، لعلنا لا نخطئ إذا قلنا: إنهم كانوا يذبحون ذبائحهم في العمرة حينما يأتون أصنامهم فيطوفون حولها؛ أما في الإسلام فالعمرة دون الحج؛ وإذا كانت في شهر رجب في الجاهلية كانت حجا خاصًا مستقلا عن الحج الآخر، الذي يقع في شهر ذي الحجة. حرص الجاهليون على: ألا يوافق موعدها مواسم الحج لما كان لها من أهمية عظيمة عندهم فلا تزيد على الطواف المألوف في شهر الحج4. وقيل: إن من شعائر الجاهليين في الحج: أن الرجل منهم كان إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد، فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من "إذخر".

_ 1 السابق جـ6 ص387. 2 السابق جـ6 ص388. 3 السابق جـ6 ص391. 4 السابق جـ6 ص391، المشرق جـ39 ص250.

والإذخر: نبات ذكي الرائحة وأن الرجل منهم يقلد بعيره، أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد، ولا يتعرض له أحد بسوء. وتذكرنا هذه العادة بما يلبسه بعض الحجاج عند إتمامهم حجهم، وعودتهم إلا بلادهم من لباس: كوفية خاصة بأهل مكة ومن عقال حجازي؛ وذلك بالنسبة للرجال، وخمار أبيض بالنسبة للنساء، وذلك طيلة الأيام السبعة الأولى من احتفالهم بالعودة من الحج.

رمزياتهم

رمزياتهم: الاختلاف في النفس عند العرب في الجاهلية: يقول المسعودي: كانت للعرب مذاهب في الجاهلية في النفوس، وآراء يتنازعون في كيفياتها: 1- فمنهم من زعم أن النفس هي الدم لا غير، وأن الروح والهواء الذي في باطن جسم المرء منه نفسه. ولذلك سموا المرأة منه نفساء؛ لما يخرج منها الدم، ومن أجل ذلك تنازع فقهاء الأمصار فيما له نفس سائلة إذا سقط في الماء: هل بنجسه أم لا؟ وقال تأبط شرا لخاله الشنفرى الأكبر وقد سأله عن قتيل قتله: كيف كانت قصته؟ فقال: ألقمته عضبا، فسال نفسه سكبا، وقال: إن الميت لا ينبعث منه الدم ولا يوجد فيه أبدا في حالة الحياة. وطبعة الحياة: النماء مع الحرارة والرطوبة؛ لأن كل حي فيه الحرارة ورطوبة فإذا ما بقي اليبيس والبرد نفيت الحرارة. وقال ابن براق بن كلعة: وكم لاقيت ذا نجب شديد ... تسيل به النفوس على الصدور إذا الحرب العوان به استهامت ... وحال فذاك يوم قمطرير 2- وطائفة منهم تزعم أن النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان فإذا مات أو قتل لم يزل مطبقا به متصورا إليه صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشًا.

وفي ذلك يقول بعض الشعراء وذكر أصحاب الفيل: سلط الطير والمنون عليهم ... فلهم في صدى المقابر هام البعث: لم يكن كثير من الجاهليين يؤمنون بالبعث؛ كما يتبين ذلك من القرآن الكريم. لقد كانوا يرون أن: الموت نهاية؛ وأنهم غير مبعوثين، وأن البعث بعد الموت شيء غير معقول؛ لذا تعجبوا من قول النبي بوجود البعث والحساب؛ {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} 1 ... إلخ الآية، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} 2، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} 3 ... إلخ الآية. ونجد: رأي الناكرين للبعث في قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} 4 ... إلخ الآية. فهم يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ويحيا أبناؤنا بعدنا فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم؛ لأنهم منهم، وبعضهم؛ فكأنهم بحياتهم أحياء. والدهر: الزمان، هو الذي يهلك ويفنى، فالحياة بهذا المعنى فعل مستمر، وتطور لا ينتهي؛ يهلك جيل؛ ليأخذ محله الجيل الذي نبت منه، وكل يأخذ دوره في الحياة فإذا انتهى دور إنسان قام بدوره نسله، وهكذا، وبهذا المعنى تفسير الحياة، ويفسر الموت. الروح والنفس والقول بالدهر: الرجعة: واعتقد قوم من العرب في الجاهلية بالرجعة، أي: الرجوع إلى الدنيا بعد الموت فيقولون: إن الميت يرجع إلى الدنيا كرة أخرى، ويكون فيها حيا كما كان.

_ 1 سورة الأنعام: 29. 2 سورة النحل: 38. 3 سورة التغابن: 7. 4 سورة الأنعام: 29.

ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي، وإن رسول الله والله ما مات؛ ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أن رسول الله مات، ثم جاء أبو بكر وعمر يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر؛ فانصت فأبى إلا أن يتكلم؛ فلما رآه أبوبكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر؛ فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس؛ إنه من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت؛ ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول} 1 ... إلخ. وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها، فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات. وقد اعتقد بعض الجاهليين "بالمسخ" وهو: تحول صورة إلى صورة أخرى أقبح، وتحول إنسان قردًا أو حيوانًا آخر، أو إلى شيء جماد؛ من ذلك ما يراه بعض أهل الأخبار عن "اللات" من أنه كان رجلا يلت السويق عند صخرة بالطائف؛ فلما مات قال لهم: عمرو بن لحي: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة، ثم أمرهم بعبادته، وبنى بيتا عليها يسمى "اللات"2.

_ 1 سورة آل عمران الآية 144. 2 تاج العروس مادة مسخ جـ2 ص279، مادة لت جـ1 ص580.

تسخير عالم الأرواح

تسخير عالم الأرواح: لم يتوصل الباحثون حتى الآن إلى رأى ثابت في أصل كلمة "الجن". فمنهم من رأى أنها اسم صنم من أصنام العرب القديمة، ومنهم من رأى أنها من أصل أعجمي؛ ومنهم من وجد لها صلة بالحبشية. أما علماء اللغة فرأوا: أن معنى الكلمة الأصلى هو الاستتار، وأنها من الاجتنان، ولعدم إمكان رؤية ذلك العالم أطلقت عليه كلمة "الجن"؛ وتقابل لفظة "الجن" لفظة "Demons" الإنجليزية ويرى "نولدكه": أن فكرة الجن فكرة

استوردها العرب من الخارج بدليل قولهم: إن الجنة من عمل الجن، ومن تلبس الجن بالإنسان، وهي في نظره عقيدة قديمة دخلت العرب من جيرانهم الشماليين، فقد كان الإيرانيون يطلقون على المجنون لفظة: "ديوانة" أي الذي به "ديو" من الأصل "ديوة" ومعناه الجان. ومن هذه الفكرة دخلت العهد الجديد من الكتاب المقدس. ويأتي "نولدكه": بدليل آخر على إثبات نظريته في أن فكرة "الجن" فكرة مستوردة، شيوع قصص بناء جن سليمان مدينة تدمر بين الجاهليين، وهو قصص ورد من قصة بناء سليمان "لتامار" في العهد القديم، وتفسير "تامار بتدمر" عند المفسرين العبرانيين، وإذا سكن الجني مع الناس قالوا: "عامر"، والجمع "عمار"؛ وإن كان ممن يعرض للصبيان فهم "أرواح"؛ فإن خبث أحدهم وتعرم فهو: "شيطان" فإن زاد على ذلك فهو: "مارد"؛ فإن زاد على ذلك فهو "عفريت"؛ فإن ظهر الجني ونظف وصار خيرا كله فهو "ملك"، وهم في الجملة "جن وخوافي" وفي القرآن الكريم: إن قريشا جعلت بين الله تعالى وبين الجنة نسبا؟ قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} 1. وإنها جعلت: "الجن" شركاء له قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ} 2. أي: جعلوا "لله" تعالى الجن شركاء في عبادتهم إياه، وخرقوا له بنين وبنات، وتخرصوا لله كذبا؛ فافتعلوا له بنين وبنات وجهلا وكذبا. وورد: أن الله -تعالى- تزوج الجن، وأن الملائكة هم بناته من هذا الزواج؛ وقال كبار قريش: الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن، ويفهم من القرآن الكريم أيضا: أن من العرب من كان يعبد الجن. قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} 3 إلخ الآية.

_ 1 سورة الصافات: 158. 2 سورة الأنعام: 100. 3 سورة سبأ: 41.

وذكر ابن الكلبي: أن بني مليح من خزاعة كانوا: ممن تعبد الجن من الجاهليين؛ ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وفيهم نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 1. وذكر: أن قبائل من العرب عبدت الجن، أو صنفا من الملائكة يقال لهم: الجن، ويقولون هم بنات الله؛ فأنزل الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 2 إلخ الآية. وقد يقع الحب بين الجن والإنس، فقد ذكر: أن الجنية قد تتبع الرجل تحبه، ويقال لها تابعة، ومن ذلك قولهم: معه تابعة أي من الجن، والتابعة جنية تتبع الإنسان، كما يكون للمرأة تابع من الجن، يتبع المرأة يحبها، وقد يعشق الجن امرأة ويتصادق معها؛ هذا "منظور" الجني عشق امرأة اسمها "حبة"، وتصادق معها، فكانت "حبة" تتطبب بما يعلمها "منظور". وأهم مواطن الجن في نظر الجاهليين: هي المواضع الموحشة، والأماكن المقفرة، التي لا تطرق إلا نادرا، والمحلات التي لا تلائم الصحة والمقابر، والأماكن المظلمة المهجورة. وسكنت الجن المواضع المظلمة والفجوات العميقة فيها، وباطن الأرض ولذلك قيل لا: ساكنو الأرض ما سكنت المقابر. وقد ادعى أناس من الجاهليين أنهم كانوا يرون الغيلان، والجن، ويسمعون عزيف الجان، أي صوت الجن، وقد بالغ الأعراب في ذلك، وأغربوا في قصص الجان؛ لما كانوا يتوهمونه من ظهور الأشباح لهم في تجوالهم بالفيافي المقفرة الخالية، فتصوروه جنًّا وغولا وسعالى، وبالغوا في ذلك أيضا لما وجدوه في أهل الحضر؛ ولا سيما في الإسلام من ميل إلى سماع قصص الجان، والسعالى والغول3.

_ 1 سورة الأعراف آية 193. 2 سورة الإسراء آية 57. وأيضا المفصل جـ6 ص709، 710. 3 المفصل جـ6 ص718، ص723.

ونسبوا إلى الجن إحداث كثير من الأمور غير الطبيعية مثل: الأمراض والأوبئة، والصرع والاستهواء، والجنون خاصة. فالجنون هو: تلبس الجن بالإنسان، ودخولهم جسمه؛ لذلك: ربطوا بين الجن والجنون. ويرى "نولدكه": أن فكرة الجنون من عمل الجن عقيدة قديمة، وجدت عند غير العرب كذلك1. الشيطان: الشيطان -"سلطان، سطن" في العبرانية، ومعناه عدو ومشتكٌّ في هذه اللغة. وذكر الطبري: "الشيطان" في كلام العرب: كل متمرد من الجن والإنس والدواب، وكل شيء؛ ثم قال: وإنما سمي المتمرد من كل شيء شيطانا؛ لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله، وبعده من الخير، وقد قيل: إنه أخذ من قول القائل: شطنت داري من دارك؛ يريد بذلك بعدت. ومن الشياطين: شيطان اسمه "زوبعة"، وقيل هو رئيس للجن، ومنه سمي الإعصار زوبعة، ويقال: "أم زوبعة، وأبو زوبعة"، وهو الذي يثير الأعصاب حين يدور على نفسه، ثم يرتفع في السماء ساطعًا كأنه عمود. وأما ما ورد في القصص عن الشياطين عند الجاهليين: فهو يختلف عما جاء عن الشيطان في الكتب اليهودية والنصرانية؛ مما يدل على أن منبعه منبع آخر، وأن الشيطان عند الجاهليين هو غير الشيطان المعروف عند اليهود والنصارى، الذي دخل إلى العرب قبيل الإسلام وفي الإسلام. وقد وصف الشيطان بالقبح؛ فإذا أريد تعنيف شخص وتقبيحه قيل له: يا وجه الشيطان، وما هو إلا شيطان؛ يريدون بذلك القبح، وذلك على سبيل تمثيل قبحه بقبح الشيطان.

_ 1 المفصل جـ6 ص723.

وقيل: الشيطان حية ذو عرف قبيح الخلقة، وقالوا: الشجرة تكون ببلاد اليمن لها مظهر كريه، رؤوس الشياطين؛ وبهذا لمعنى فسرت رؤوس الشياطين في قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيم} 1 ... إلخ الآية؛ يعني: شجرة الزقوم في قبحه وسماجته رؤوس الشياطين في قبحها؛ وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء قال: كأنه شيطان؛ فذلك أحد الأقوال؛ والثاني: أن يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطانا2. وكانت الشعراء تزعم: أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه وتعينها عليه، وتدعي أن لكل فحل منهم شيطانًا يقول الشعر على لسانه؛ فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود. وقد انتقلت هذه العقيدة في إلهام الشعر للشعراء إلى المسلمين كذلك، وقد دعا جرير شيطانه الذي يلقي عليه الشعر: إبليس الأباليس. ويكنى عن الشيطان بالشيخ النجدي، وقد أشير إليه مرارا في كتب السير والأخبار؛ أشير إليه في بنيان الكعبة؛ حين حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الركن من يرفعه فحضر في زي شيخ نجدي بين الحاضرين، وصاح: يا معشر قريش أرضيتهم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، وحضر اجتماع دار الندوة، وأيَّد قرارهم في قتله. وذكر علماء الأخبار: أنه عرف بالشيخ النجدي؛ لأنه: تمثل نجديا، وقيل: لأن نجدا يطلع منها قرن الشيطان، ورووا أحاديث تذكر ذلك؛ وتذكر أن الفتن تخرج من المشرق والمشرق: "نجد" بالنسبة لأهل الحجاز. وكان الكهان يستعينون بالشياطين في الإخبار عن المغيبات، يذكرون أن الشياطين يسترقون السمع من السماء؛ فيخبرونهم عن أنباء الأرض؛ وكان للكاهن "صاف بن صياد" شيطان يلقي إليه بما خفي من أخبار الأرض.

_ 1 سورة الصافات آية 64. 2 المفصل جـ6 ص731، تاج العروس جـ5 ص367.

وإبليس من هذه الأفكار التي نفذت إلى العرب عن طريق أهل الكتاب والعلماء، على أن الكلمة معربة، وهي كذلك؛ فأصلها: ديابولس Diabolos، وهي كلمة يونانية استعملت في مقابل لفظة شيطان1. الهاتف والرئى: ويؤمن الأعراب بالهاتف، ويتعجبون ممن يرد ذلك، وهم يزعمون أنهم يسمعون الهاتف يخبرهم ببعض الخبر فيكون صحيحًا، وكانوا يقولون: إذا ألف الجني إنسانًا وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار وجد حسه، ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئى من الجن يخبره بما وقع، ويقع وعن الأسرار2. الملائكة: والملائكة: هم روحانيون؛ أي من أرواح في نظر أهل الجاهلية، ويدل ورود الملائكة في مواضع عديدة من القرآن الكريم، ومن الآيات التي تشير إلى مجادلة المشركين، ومحادثتهم للرسول في الملائكة، وإن فكرة الملائكة كانت معروفة شائعة بينهم؛ وأن بعض العرب كانوا يعبدونها كما يظهر ذلك من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ} إلخ الآية [سبأ: 40] . ويظهر: أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون شيئا عن الملائكة؛ لأن الاعتقاد بالملائكة من عقيدة الديانة اليهودية، ثم النصرانية، وهم لا يعرفون الكتاب إلا من كان منهم على دين اليهودية، أو النصرانية أو كان من الحنفاء، أو على اتصال بأهل الكتاب كأمية بن أبي الصلت، وأمثاله3. الهامة: الهامة وهي اليوم وكانوا يعتقدون أن الرجل إذا قتل خرجت من رأسه هامة تصيح: اسقوني اسقوني حتى يأخذ بثأره، قال ذو الأصبع العدواني:

_ 1 المفصل جـ6 ص733، ص734، ص735. 2 السابق جـ6 ص736، ص737. 3 سيرة ابن هشام جـ1 ص134.

يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني1 ويضيف المسعودي ص369. وهي أن تتوحش وتصدح وتوجد أبدًا في الديار المعطلة والنواويس وحيث مصارع القتلى وأجداث الموتى. ويزعمون أن الهامة لا تزال على ذلك عند ولد الميت في محلته بفنائهم؛ لتعلم ما يكون بعده فتخبره به. وحتى قال الصلت بن أمية لبنيه: هامتي تخبرني بما تستشعرون. لنتجنب الشنعاء والمكروه. ولما جاء الإسلام قال: لا هام ولا صفر2. وذكر الزبير بن بكار أن العرب كانت في الجاهلية تقول: إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من راسه هامة وهي دودة فتدور حول قبره فتقول: اسقوني اسقوني فإن أدرك ثأره ذهبت وإلا بقيت. قال: وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب. وذكر ابن فارس وغيره من اللغويين نحو الأول إلا أنهم لم يعينوا كونها دودة، وقال القزاز: الهامة طائر من طير الليل كأنه البومة، وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نعت إلي نفسي أو أحدًا من أهل داري. وقال أبو عبيد: كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير ويسمون ذلك الطائر3: الصدى.

_ 1 مروج الذهب جـ1 ص134. 2 ومعنى الحديث: لا حياة لهامة من الميت ولا شؤم بالبومة. 3 فتح الباري "10: 197".

ويعبر هذا عن فتن اليهود للسيطرة على عرب الجاهلية؛ لأن معنى سبعة أيام مدة زمنية كافية ليؤلب اليهود مواقع الثأر بين العرب أي على العربي أن يثأر، وبذلك أشعلوا الحرب بين الأوس والخزرج باستغلال تلك المعتقدات. ب- الغول: "العرب يزعمون أن الغول "السعلاة" يتغول لهم في الفلوات ويظهر لخواصهم في أنواع من الصور فيخاطبونها، وربما ضيفوها، وكانت إذا تراءت لهم في الليالي وأوقات الخلوات فيتوهمون أنها إنسان فيتبعونها فتزيلهم عن الطريق التي هم عليها وتتبعهم، وكذلك لهم اعتقادات ومزاعم في الشياطين والمردة والجن1. يقول المسعودي: ويمكن لجميع ما قلناه مما حكيناه عما ذكرناه من أهل البقاع أن يكون ضربًا من السوانح الفاسدة والخواطر الرديئة أو غير ذلك من الآفات والأدوار المعترضة لجنس الحيوان من الناطقين وغيرهم. ج- الهواتف والجان 2: أما الهواتف فقد كانت كثرة في العرب، ومن حكم الهاتفة أن يهتف بصوت مسموع وجسم غير مرئي، وقد كانت العرب قبل ظهور الإسلام تقول: إن من الجن من هو على صورة نصف الإنسان وأنه يظهر لهم في أسفارهم وحين خلواتهم وتسميه شقا، وذكروا أشخاصا قتلتهم الجن: - حرب بن أمية. - وعباس بن مرداس3.

_ 1 مروج الذهب "1: 401" المسعودي. 2، 3 المرجع نفسه "1: 405".

يقول المسعودي: إن ما تذكره العرب وتنبئ به من ذلك فإنما يعرض لا من قبل التوحد في القفار، والتفرد في الأودية والسلوك في المهامه الموحشة؛ لأن الإنسان إذا صار في مثل هذه الأماكن وتوحد وتفكر إذا هو تفكر وجل وجبن وإذا هو جبن داخلته الظنون الكاذبة والأوهام المؤذية والسوداوية الفاسدة فصورت له الأصوات ومثلت له الأشخاص وأوهمته الحال بنحو ما يعرض لذوي الوسواس، وأنتج ذلك في رأسه سوء التفكير والخروج على غير نظام قوي أو طريق مستقيم سليم؛ لأن المنفرد في القفار والمتوحد في المفاوز مستشعر للمخاوف متوهم للمتالف متوقع للحتوف؛ لقوة الظنون الفاسدة على فكره وانغراسها في نفسه فيتوهم ما يحكيه من هتاف الهواتف واعتراض الجان له. ونضيف أن مثل هذه الأشياء تعتبر من لوازم الوثنية؛ إذ أن الإيمان بالله موجب لطرح هذه الخواطر الفاسدة. د- التطير: - التطير هو: أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع. - وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، وكانوا يسمونها السانح والبارح. فالسانح ما ولاك ميامنة بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح العكس وكانوا يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح لأنه لا يمكن رمية إلا بأن ينحرف إليه. يقول ابن حجر: وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي شيئا مما اعتقدوه1. وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له؛ إذا لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه. وطلب العلم من غير مكانه جهل من فاعله.

_ 1 فتح الباري "10: 174".

وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويمتدح بتركه. قال شاعر منهم: ولقد عدوت وكنت لا ... أعدو على وافٍ وحائمْ فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائمْ وقال آخر: الزجر والطير والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال وقال آخر: بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير ويقول لبيد2: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع سلوهن إن كذبتموني متى الفتى ... يذوق المنايا أو متى الغيث واقع؟ ويقول ابن حجر: وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين. يقول أبو هريرة: إذا تطيرتم فأمضوا وعلى الله فتوكلوا. وعن أبي الدرداء: لن ينال الدرجات العلا من تكهن أو استقسم أو رجع. وعن ابن مسعود: الطيرة شرك، وما منا إلا تطير ولكن الله يذهبهن بالتوكل. من كلام ابن مسعود. وقال ابن حجر: وإنما جعل ذلك شركا؛ لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع ضرا فإنهم أشركوه مع الله. وعن عبد الله بن عمر: من عرض له من هذه الطيرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك. ومن علاج التطير الفأل:

_ 1 ديوان لبيد بن ربيعة العامري ص90 دار صادر.

يقول أبو هريرة عن الرسول: لا طيرة وخيرها الفأل: قيل: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم. وقال عن أنس: ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة. قال ابن بطال: جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والأنس بها كما جعل الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وإن كان لا يملكه ولا يشربه. الفرق بين الفال والتطير: - الفأل من طريق حسن الظن بالله. - والطيرة لا تكون إلا في السوء، وفيها سوء ظن بالله بغير سبب محقق، وذكر البيهقي في الشعب عن الحليمي ما ملخصه: كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة وكانوا يتطيرون بصوت الغراب، وبمرور الظباء فسموا الكل تطيرا؛ لأن أصله الأول. قال: وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبًا إلى المعلم تشاءم أو راجعًا تيمن ... إلخ، فجاء الشرع يرفع ذلك كله واسند التدبير إلى الله1. هـ- الكهانة: الكهانة: ادعاء علم الغيب كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب. والكاهن: لفظ يطلق على: 1- العراف الذي يضرب بالحصى، والمنجِّم. 2- ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه. 3- وقال في المحكم: الكاهن: القاضي بالغيب.

_ 1 يراجع فتح الباري "10: 171"، والسيرة الحلبية للاستزادة "1: 65".

4- وقال في الجامع: العرب تسمي كل من أذن بشيء قبل وقوعه كاهنًا. الكهنة: يشملون الفئة المتعلمة، النيرة في المجتمع؛ وهم على جانب كبير من الثراء والنفوذ، يتعاطون في بعض أعمال السحر في إخراج الأرواح الشريرة من المرضى. وكثيرا ما يكون الكاهن حاكما يحكم من قصره المجاور للهيكل، وهذا الحاكم: كان يتولى السلطتين: الزمنية والكهنوتية وكثيرا ما يكونون ملاك الأرض كحق من حقوقهم، وامتياز من امتيازاتهم بصفتهم نوابا عن الآلهة. قال الخطابي: الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة، وطباع نارية. وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم. أصناف الكهانة: 1- منها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع الإنسان عليه غالبا، أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد. 2- ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، فهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه. 3- ما يستند إلى التجربة والعادة فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، وقد يعضده بعضهم بالزجر، والطرق والنجوم. وكل ذلك مذموم شرعا؛ فعن أبي هريرة: من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد. وقال القرطبي: كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والأحكام ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقى في الوجود من يتشبه بهم، وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم. قال ابن إسحاق: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى والكهان من العرب، ويربطون انتهاء الكهانة بقوله تعالى:

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا} ... إلخ الآية1. وتحدث عن الكواكب بقوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِين} 2. الكاهن: هو الذي يخبر بالأخبار الماضية الخفية يضرب من الظن. والعراف: الذي يخبر بالأخبار المستقبلية على نحو ذلك. ولكون هاتين الصناعتين مبنيتين على الظن الذي يخطئ ويصيب، قال عليه الصلاة والسلام: "من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما قال، فقد كفر بما أنزل على أبي القاسم". ويقال: كهن فلان كهانة؛ إذا تعاطى ذلك، وكهن: إذا تخصص بذلك، وتكهن إذا تكلف ذلك، قال تعالى: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُون} 3. من الكهان: 1- صاف بن صياد، كان يتكهن ويدعي النبوة، وينسبون إليه أنه تكلم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وينسبون إليه أنه قال فيه: اخسأ فلن تعدو قدر الله فيك. 2- الغيطلة الكاهنة بنت مالك بن الحارث، وينسبون إليها أنها قالت: شعوب ما شعوب، يصرع فيه كعب لجنوب، وهو كعب بن لؤي. السحر: وقد جمع "البخاري": بين الكهانة والسحر، بأن قدم الكهانة على السحر؛ لأن مرجع الاثنين شيء واحد هو: الشياطين. وقد كان أكثر السحرة في الجاهلية من يهود، يقصدهم الجاهليون من أنحاء بعيدة؛ لاعتقادهم بسعة علمهم، وباختصاصهم فيه، وكان اليهود يسندون علمهم إلى بابل، ولهذا نجد الأحاديث والأخبار العربية ترجع علم السحر إلى بابل واليهود.

_ 1 سورة الجن: 8. 2 سورة الملك: 5. 3 سورة الحاقة: 42.

والفرق بين الكهانة والسحر؛ أن الكهانة تنبؤ فسند الكاهن هو كلامه، الذي يذكره للناس، أما السحر فإنه عمل في الأكثر؛ للتأثير في الأرواح؛ كي تقوم بأداء ما طلب منها، ولا يمكن صنع سحر ما لم يقترن بعمل، ويصحب هذا العمل كلام مفهوم أو غير مفهوم، وإشارات يدعى الساحر أنه إنما يقوم به، وبالإشارات؛ لتسخير الأرواح، وإن ما يفعله مفهوم عند جنوده، وهم: الجن والشياطين. ومن طرق السحر عند الجاهليين: "النفث في العقد"، وقد دلت عليه الآية الكريمة: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد} 1، ويكون ذلك بعقد عقد، والنفث عليها2. وأما الكهان من العرب: فأتتهم به الشياطين من الجن فيما تسترق من السمع إذا كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف من النجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يسمع منهما بعض أموره ولكن لا تلقي العرب لذلك فيه بالا. و السحر: من صفات اليهود وليس من صفات العرب. قال الراغب2: السحر يطلق على معانٍ: 1- أحدهما: ما لطف ودق، منه سحرت الصبي خادعته واستملته، ومنه: إطلاق الشعراء يسحرون العيون؛ لاستمالتها النفوس، ومنه قول الأدباء: الطبيعة ساحرة. 2- الثاني: ما يقع بخداع وتخيلات لا حقيقة لها نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك أشار قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 3، وقوله: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاس} 4. 3- الثالث: ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم وإلى ذلك أشار قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} 5. 4- الرابع: ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانيتها بزعمهم: والسحر يطلق ويراد به:

_ 1 سورة الفلق: 4. 2 المفصل جـ6 ص740، ص741، ص743، أسباب النزول ص346. 3 سورة طه: 66. 4 سورة الأعراف: 166. 5 سورة البقرة: 102.

1- الآلة التي يسحر بها. 2- ويطلق ويراد به: فعل السحر. الآلة التي يسحر بها قد تكون معنى من المعاني: كالرقى والنفث في العقد، وقد تكون من المحسوسات؛ كتصوير الصورة على المسحور وتارة بجمع الأمرين وهو أبلغ. والسحر: تخييل فقط ولا حقيقة له. 3- فاطمة بنت النعمان النجارية: كان لها تابع من الجن ويزعمون أن تابعها كان إذا جاءها اقتحم عليها بيتها، وفي أول البعث جاءها وقعد على حائط الدار فقالت له: لم لا تدخل؟ قال: قد بعث نبي بتحريم الزنا. 4- أخطر بن مالك من أعلم الكهان وعنده علم النجوم ينسبون إليه: يا معشر أعني بني قحطانِ ... أخبركم بالحق والبيانِ أقسمت بالكعبة والأركانِ ... والبلد المؤتمن السدانِ قد منع السمع عتاة الجانِ ... بثاقب بكف ذي سلطانِ من أجل مبعوث عظيم الشأنِ ... يبعث بالتنزيل والقرآنِ وبالهدى وفواصل القرآنِ ... تبطل به عبادة الأوثانِ فقالوا: وماذا ترى لقومك؟ فقال: أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنسِ برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث في مكة دار الحمسِ بمحكم التنزيل غير اللبسِ فقلنا: يا أخطر من هو؟ فقال: والحياة والعيش، وإنه لمن قريش، ما في حلمه طيش، وما في خلقه طيش.. أخبرني به رئيس الجان.

_ 1 سيرة ابن هشام "14: 125".

1- ويقال أن جنيا من بطن اليمن كان لقومه كاهن في الجاهلية سألوه عن الرسول عندما انتشر أمره بين العرب فقال: أيها الناس إن الله أكرم محمدا واصطفاه. وجنى مذحج وهم: عبد الله، وأنس الله، وزيد الله، وأوس الله. قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، وكلها من العرب قد تحدثوا بأمر الرسول قبل مبعثه لما تقارب من زمانه. - أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، فمما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم فيه. وقال النووي: إن له حقيقة1. والذي قال تخييل جعله انقلاب عين، والذي جعله حقيقة جعل له تأثيرا على المزاج فيكون نوعًا من الأمراض أو تأثيرا بحالة الجماد الحيوان. ونحن نرى أن ما يقع منه لا يخرج عن كونه خيالات باطلة، ولما كان السحر يشبه خوارق العادات رأى العلماء أن يفرقوا بينه وبين غير من الكرامة والمعجزة. 1- السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، وقال الجويني نقلا بالإجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وقال القرطبي: كذلك "السحر" حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، وحده الوقوف على ظواهر الأشياء وأكثرها تخييلات بغير حقيقة، وإيهامات بغير ثبوت. الكرامة: لا تحتاج إلى ذلك من أقوال الناس أو أفعالهم، أوتعلم إنما تقع غالبا اتفاقا وأنها لا تظهر، على فاسق. المعجزة: مثل الكرامة غير أنها تمتاز عنها بالتحدي.

_ 1 فتح الباري "10: 180".

والسحر: يرجع إلى اليهود منذ نبي الله سليمان وظهوره في جزيرة العرب مرتبط باليهود. قال النووي: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع. قال صاحب المحيط: وأما في زماننا الآن فكل ما وقفنا عليه في الكتب فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء ولا يصح منه شيء البتة، وكذلك العزائم وضرب المندل، والناس الذين يعتقد فيهم أنهم عقلاء يصدقون بهذه الأشياء ويصغون إلى سماعها. قال: وقد رأيت بعض من ينتمي إلى العلم إذا أفلس وضع كتبًا، وذكر فيها أشياء من رأسه وباعها في السواق بالدراهم الجيدة. قال في فتح الباري1: شرح: لا عدوى: البرهان العقلي والحسي: رد على قول أن المرض يعدي بطبيعته عقيدة للطبعيين يجوز مشافهة من وقعت له شبهة في اعتقاده بذكر البرهان العقلي إذا كان السائل أهل لفهمه. وأما من كان قاصرًا فيخاطب بما يحتمله عقله من الاقتناعات. وقول الرسول لا عدوى نفي لشبهة وقع فهيا الطبعيون أولا والمعتزلة ثانيا: فقال الطبعيون بتأثير الأشياء بعضها في بعض وإيجادها وسمو المؤثر طبيعة. وقال المعتزلة: بنحو من ذلك في الحيوانات والمتولدات وأن قدرتهم مؤثرة فيها بالإيجاد وأنهم خالقون لأفعالهم مستقلون باختراعها. واستندت الطائفتان إلى المشاهد الحسية ونسبوا من أنكر ذلك إلى إنكار البديهة. وغلط من قال منهم غلطًا فاحشا لالتباس إدراك الحس بإدراك العقل، فإن المشاهد إنما هو تأثير شيء على آخر وهذا حظ الحس فأما تأثيره فهو حظ العقل.

_ 1 فتح الباري "3: 299".

فالحس إدراك وجود شيء عند وجود شيء وارتفاعه عند ارتفاعه، وأما إيجاد به للحس فليس للحس فيه مدخل. فالعقل هو الذي يفرق فيحكم بتلازمهما عقلا أو عادة مع جواز التبدل عقلا. على أي حال كانت الخرافات المتعددة وتنوعها ثقلا شديدا على كاهل الوثني الذي تشتت فكره واضطربت عقليته. وكنا نرى ذلك سببا وراء عدم ظهور وحدة القصيدة في قصيدة الشاعر الجاهلي مضافا إليه تأثرا الشاعر ببيئته القبلية، وكان مجتمعه محكوما بأنظمة قبلية شتى، ومن جانب آخر افتقد الوحدة التي تجمع بينه وبين أديانه المتعددة أضف ذلك كله إلى شخصية الشاعر التي وقعت تحت ذاتية منغلقة، وبسبب من واقع الشاعر تحت مؤثرات البيئة التي لم تشعره بضرورة وحدة القصيدة. العراف: في حديث: "من أتى عرافا أو كاهنا"، ذكر أن: العراف، الكاهن، أو الطيب، أو المنجم، أو الحازي الذي يدعى علم الغيب. فللكلمة معانٍ عديدة، ولا تختص بمعنى واحد. وقد ذهب المسعودي: إلى أن العراف دون الكاهن. وخلاصة ما يفهم عن الكهانة، والعرافة في روايات الإخباريين أن: الكهانة هي التنبؤ بواسطة تابع؛ وأن العرافة -تكون بالملاحظات، وبالاستنتاجات، وبمراقبة الأشياء؛ لاستنتاج أمور منها يخبر بها السائلون على سبيل التنبؤ. وقد عد العبرانيون العرافة من الحيل الشيطانية كالسحر، والتفاؤل؛ لأنها من رجس المشركين1.

_ 1 المفصل جـ6 ص773.

القيافة: ويقصد بها التنبؤ، والإخبار عن شيء بتتبع الأثر والشبه. الفراسة: فتكون بالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله، واقواله على صفاته وطبائعه. وقد ذهب بعض المستشرقين: إلى أنها من الكلمات المعربة، التي أخذت من بني إرم. العيافة: هي: التنبؤ بملاحظة حركات الطيور، والحيوانات، ودراسة أصواتها، وقراءة بعض أحشائها؛ ولذلك قيل في العبرانية للعائف: "الشاق"؛ لشقه الحيوانات والطيور؛ لدراسة أحشائها واستخراج الخبر مما يراه على تلك الأحشاء من ألياف، يرى أن في أوضاعها معاني يذكرها للسائل على شكل نبوءة. والزجر: العيافة؛ وهو يزجر الطير يعافها، وأصله أن يرمي الطير، يصيح؛ فإن ولاه في طيرانه ميامنه تفاءل بهن أو مياسره تطير، وهو ضرب من التكهن1. الاستقسام بالأزلام: ومن طرق التنبؤ: الاستقسام بالأزلام؛ وتقابل ذلك ما يقال له: "كسيم، كسم" في العبرانية؛ وهي طريقة معروفة عند البابليين كذلك، وعند غيرهم من الشعوب. وقد أشير في التوراة إلى أن: بختنصر أجال السهام حين عزم على فتح أورشليم "القدس" فإن ملك بابل قد وقف عند أم الطريق في رأس الطريقين؛ ليباشر عرافة فأجال السهام، وسأل التراقيم، ونظر في الكبد، وقد خرج السهم الذي كتب عليه أورشليم؛ فعمل به وهاجم القدس وفتحها.

_ 1 المفصل جـ6 ص774، ص775.

وقد عرف أهل الأخبار: الأزلام؛ أنها السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها؛ وعرفوا "الزلم" أنه السهم؛ وأنه القدح المزلم. وذكر بعض آخر: أن الأزلام سهام كانت لأهل الجاهلية، مكتوب على بعضها "أمرني ربي"، وعلى بعضها نهاني ربي؛ فإذا أراد الرجل سفرا أو أمرا ضرب تلك القداح؛ فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى لحاجته؛ وإن خرج الذي عليه "نهاني ربي" لم يمض في أمره1، وطريقة الضرب أن الرجل منهم إذا أراد أن يخرج مسافرا كتب في قدح هذا يأمرني بالمكث، وهذا يأمرني بالخروج وجعل معهما أزلاما مسحة لم يكتب فيها شيئا؛ ثم استقسم بها حين يريد الخروج؛ فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث؛ وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أي المسح أجالها ثانية حتى يخرج أحد القدحين؛ وجاء في سورة المائدة: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} 2، وذلك مع أمور نهى عنها الإسلام؛ منها تحريم أكل الميتة، والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة ... إلخ ما جاء في الآية. وجاء ذكر الأزلام في موضع آخر: مع ذكر الخمر، والميسر والأنصاب، والأزلام حيث جعلت رجسا من عمل الشيطان لذلك على المسلم اجتنابها والابتعاد عنها. فالاستقسام بالأزلام من الأمور التي نزل الأمر بالنهي عنها في الإسلام، وقد جاء الأمر بالنهي عنها في شريعة "يهود" كذلك؛ إذ اعتبرت رجسا ومن أعمال الوثنيين. والأزلام: كانت لقريش في الجاهلية، مكتوب عليها: أمر، نهي، وافعل ولا تفعل، وقد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت؛ فإذا أراد رجل سفرًا، أو نكاحًا: أتى السادن، فقال: أخرج لي زلما فيخرجه، وينظر إليه؛ فإذا خرج

_ 1 المفصل جـ6 ص776. 2 سورة المائدة آية 3.

قدح الأمر مضى على ما عزم عليه؛ وإن خرج قدح النهي قعد عما أراده؛ وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه؛ فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما1. الطيرة: قال الجاحظ: وأصل التطير إنما كان من الطير، ومن جهة الطير إذا مر بارحا أو سانحا، أو رآه يتفلى، وينتف حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس، أو البهائم، أو الأبتر زجروا عند ذلك وتطيروا كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء2.

_ 1 المفصل جـ6 ص777، ص778، ص779، اللسان جـ12 ص270 وما بعدها. 2 المفصل جـ6 ص786، ص787، الحيوان جـ1 ص438، العمدة جـ2 ص259.

تعقيب

تعقيب: أما عن تحليلنا لهذه الرمزيات فيكون من خلال أثرها على العربي وتأثيره عليها، فحينما أبدعها خياله: كان يرى فيها نوعا من المناسبة بين مكوناته النفسية وما هو كامن في طبيعة صحرائه من سعة لا حد لها تشعره بالتضاؤل والضحالة وهو فيها وبجفاف قاسٍ، إلى إيحاء تسوده رهبة. فهو مثلا يرى في التطير إن اتجه إلى التجارة نوعا من فهم سبيله، فهو يرى في ميامنها تفاؤلا: يدفعه لوجهته وفي مياسرها تشاؤما يدفعه ليعدل عن وجهته. وتبعا لمعتقده هذا نراه يتجاوب فكريا مع أي معنى يوحى إليه من خلال ميامن الطير أو مياسرها، وربما كان ذلك -من وجهة نظرنا- محاولة من العربي يفك بها لغز الكون بعد ما بات يحس من نفسه ضعفه أمام لغزه على الرغم من شجاعته المشهود له بها في شعره. كذلك يرى فيها: دلائل عرفان نحو مستقبله، فخوفه من المستقبل يدفعه نحو تلك الأشياء؛ ليفهم بها مكامن المجهول، وعلى أي حال نراها في رمزيتها محاولات يخفف بها عن نفسه عبء اليأس من عدم فهمه للوجود وتبعد عنه فكرة الانتحار الذي قد يكون حلا قانطا وسلبيا لمشكلة اليأس من عدم فهم مستقبله، وليس بدعا من العربي أن يبدأ التفكير من بداية الفكر الإنساني في طفولته ولقد "كان الفكر الإنساني في طفولته يتفتح لرؤية الكون الهائل تفتحا مشفوعا بالعجب والهيبة"1. وكانوا يودون من مغزى هذه الرموز أن تكفيهم شر الحياة المادية الخبيثة وذلك لما يرون فيها من معايير مقدسة يفزعون إليها إن ألم بهم شيء أو هَمُّوا بعمل شيء. وعلى الرغم من أنها تصورات خيالية نجدها توقفنا على شيء ذي بال في حياة العربي النفسية والدينية؛ فإنها من الناحية النفسية تفسير لنا مثيرات انفعالاته وعواطفه، وبها نستطيع أن نفسر مكوناته الشخصية ومؤثراتها الخارجية، فعن طريق هذه

_ 1 سيرة تاريخ وفن ص23 د. ماهر حسين فهمي، مكتبة النهضة.

المعتقدات يتسع لنا المجال لاستنباط أحاسيسه الداخلية وتقدير طموحه في حياته العامة. ومن الناحية الدينية تفسر لنا أثر المعتقد على الإنسان لما لها من معنى مقدس في نفس العربي الذي لا يجد متسعًا لمخالفتها فينكرها، ومظهر تقديسها يظهر في أنه تصورها على هيئة قوى روحية على شكل طيور؛ ليتناسب طيرانها مع صحرائه -ولها قدرة الإيحاء إليه أمرا أو نهيا مع التزامه بطاعتها في كلا الحالين. وفي هذا رؤية رمزية للكون تتناسب مع فكر لما يزل في دور الطفولة ملازما فكرة التشاؤم والتفاؤل من إحساس العربي بتأثيرهما عليه ومن نظرية انقسام الروح إلى خيرة وشريرة أي بعضها يختص بالخير وبعضها يختص بالشر. يمنح العربي هذا كله معنى المعرفة يستوحي منها مظان الخير في مستقبل حياته. وليست فكرة الخير لديه -كما نتصور- رفيعة في معناها ولكنها فكرة رديئة رداءة رمزها؛ فهو يرى في قول الهامة: اسقوني من دم قاتلي دعوة خير بينما العامة وقولها يتشابهان في الرداءة، لكنها مع ذلك هي من دلائل الخير عن العربي صاحب الثأر. ولعل الذي جعل فكرته عن الخلود باهتة الألوان ما كابده من شظف العيش وما يمسه في حياته من لغوب ومن جفاف في صحرائه لعل في ذلك مقنعا للعربي في عدم خلق أساطير يرمز بها إلى البحث عن فكرة الخلود، وكيف يبحث خلوده وربما يكون مكان بحثه لا يبعد عن صحرائه أو يناظرها في القسوة والجفاف. على أي حال كانت كل معتقداته الرمزية تنبئ عن معنى خوفه: -خوفه من العار: فقد وأد البنات وثأر. - خوفه من خسارة في رحلته التجارية: لجأ إلى التطير. فصفة الخوف من المستقبل هي الغالبة على الروح العربية، لذلك نرى شجاعة العربي فورة حماسية أو نزوة عصبية تشعلها كلمة وتطفئها أخرى.

فشجاعة الخوف: نوع من توترات عصبية من غير تركيز منه على الهدف وقيمته. ومن هنا كانت فكرته العقلية عن الأشياء غير مركزة وغير ثابتة، وقد يضل عن مضمونها إن فاوض أو ناقش، وقد يتسرب معها في مساربها دون وعي منه يميز به بين ما هو ضروري وأساسي في القضية المطروحة وما هو فيها من باب الطرافة، وقد يصرفه عن مناقشة القضية كلمة عابرة يقولها رجل خبيث ذكي دون أن يفطن هو إلى خبثه، وقد يصرفه بها عن مناقشة القضية دون أن يلتفت إلى حقيقة الدور الذي حوله، وقد يصرفه بها عن مناقشة تنتهي إلى جانب العربي فسيثأر العربي لينهي بنفسه دوره ثم أخيرا يتحمل مسئولية عمله بينما هو مدفوع إليه. وفي النهاية: نرى أن الأوهام والعقائد الشعبية وأعمال السحر -التي كانت المركز الأساسي لدائرتهم الثقافية -كانت تعمل دائما على قهرهم إذا حاولوا فهم وجودهم أو تغيير علاقاتهم الاجتماعية من مستواها القبلي إلى مستوى إنساني. فلما جاء الإسلام عصف بتلك الروح وأحل فيهم روحه العامرة بالحياة. وكان من أرفع ما قدمه الإسلام أن ربط كتابه بالعقل الإنساني، وأزال ما يعوق تفاهمه مع العقل وكان أهم ما يعوق رحلة التفاهم بينه وبين الدين وجود طبقة دينية أكليريكية ترى في نفسها امتيازا دينيا يؤهلها للوصاية على لغة التفاهم بين العقل والقرآن. "وقد دمغ القرآن بالشرك أولئك الذين أعطوا سلطة التشريع المطلق لبعض البشر من رجال الأديان الذين بدلوا كلمات الله، وغيروا شرع الله فأحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله افتراء على الله. وفي هذا يقول في شأن أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة الآية 31] . اعتبر القرآن: هؤلاء الأحبار والرهبان أربابا وآلهة معبودين من دون الله وما كانت عبادتهم إلا طاعتهم في إحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، أي إعطائهم

حق التشريع فيما لم يأذن به الله تعالى كما فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم الطائي. فقد كان عدي تنصر في الجاهلية فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يقرأ هذه الآية من سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: يا رسول الله: ما كنا نعبدهم؛ "كأنه حصر مفهوم العبادة في الركوع والسجود والصلاة ونحوها"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم يكونوا يحلون لكم الحرام فتحلونه، ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه"، قال: بلى، قال: "فتلك عبادتكم إياهم" 1. فكان موقف القرآن من الطبقة الإكليريكية واضحًا وفيه حزم؛ لأن وجود مثل هذه الطبقة يعمل دائمًا على شلِّ العقل عن وظيفته وتغيير مفهوم المقدس، وهو ما عناه الرسول بقوله: "ألم يكونوا يحلون لكم الحرام فتحلونه ويحرمون عليكم الحلال فتحرموه؟ " قال: بلى، قال الرسول: "فتلك عبادتكم إياهم". أما بعد: ففي القرآن ثلاث آيات متفرقات في سور مدنية تناولت موضوعًا واحدًا هو: الحياة الاعتقادية السائدة في العالم إبان ظهور الإسلام من خلال مستوى مذاهبهم الدينية كما فصلنا القول من قبل. الآية الأولى من سورة البقرة آية 62 يقول الله فيها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . والآية الثانية: من سورة المائدة آية 69 يقول الله فيها:

_ 1 الخصائص للعامة للإسلام. د. يوسف القرضاوي.

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . الآية الثالثة: من سورة الحج آية 17 يقول الله فيها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . نلاحظ أن القرآن عدد فيها الكثير من الملل والنحل القديمة -رعاية منه للجانب التاريخي- ثم عرض لبعضها بالنقاش، وفصل من قضاياها ما شاء أن يفصل، وأعرض عن البعض -في بعض مسائله- إذا كان مداره قائما على التقليد الساذج الذي لا يراعي فكرا ولا يراعي جانب العقل. مثل هذه الملل يعرض عنها القرآن، وحسبه فيها أن يردها إلى التقاليد وهو إذ يردها إلى التقاليد يكون قد أصاب المحز في عملية النقد. وكان الهدف الأساسي من منهج القرآن الجدلي لهذه الملل، هو السعي بذويها إلى نتيجة محددة هي: الإيمان بالله وحده وتنزيهه. واقتضاء سعيه إلى تلك القضية المحددة، أن يرفع دور العقل ووظيفته ويحط من شأن التقليد مزدريًا إياه، وكان ذلك منه بخطى معينة ومحددة؛ لأن الحياة الاعتقادية التي أشاعتها هذه الأديان كان مجال التفكير فيها محدودًا ضيقًا، والإنسان معها: كان متزمتا، فبسبب مجال التفكير المحدود الضيق -من السيطرة الكاملة لهذه المذاهب المتزمتة عليه- اتخذ القرآن خطواته نحو رفع القيمة للبحث والنقد، وكانت خطواته معها متأنية مترفقة غير أنه لا لين فيها. يلاحظ ذلك من الآيات السابقة، فمرة يقول: إن استجابوا للإيمان {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ومرة يقول: {َلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، والثالثة الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} . ويغلب على ظني -والأمر يحتاج إلى توقيف- أن ترتيب نزول الآيات هو:

آية البقرة أولا، وآية المائدة ثانيا، وآية الحج ثالثا. وإن صح هذا وخاصة أن هذه السور مدنية -يمكن اعتبارها نموذجا تطبيقا- من بين نماذج كثيرة حفل بها القرآن -في هذا المقام بالذات لنوع من الجدل نحو غايته. كنا نلاحظ من خلال تفصيل القرآن للأديان القديمة والنحل، أن له منهجا سار عليه -إزاء تلك المعتقدات القديمة- حين ردها على كثرتها إلى مبدأ التقابل، فمن كان معتقده عن كتاب فليدخل مع أهل الكتاب الذين تعلموا من كتب السماء التي حرفت، يتقابلون مع الأميين الذين التمسوا تعليمهم تقليدا لغيرهم وبعيدا عن كتب السماء، وهذا مما يتقابلون فيه مع الذين آمنوا بالدين الخالص وهو دين الله: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 1. مصر الجديدة في 1983. دكتور محمد إبراهيم الفيومي

_ 1 سورة الزمر آية 3.

المراجع

المراجع العربية: على رأس هذه المراجع القرآن الكريم ثم الكتاب المقدس ودائرة المعارف الإسلامية. المؤلف الكتاب 1- ابن الأثير "630هـ-1238م" -أسد الغابة في معرفة الصحابة. علي بن أحمد بن أبي الكرم -النهاية في غريب الحديث والأثر. 2- ابن الخطيب التبريزي: -تهذيب إصلاح المنطق "شرح على إصلاح المنطق". 3- ابن السكيت: -إصلاح المنطق. 4- ابن الكلبي: أبو المنذر هشام بن أبي -الأصنام تحقيق أحمد زكي باشا، الدار القومية. النصر محمد بن السائب 5- ابن النديم: محمد بن إسحاق -الفهرست. 6- ابن تيمية: الفتاوى -ط السعودية. 7- ابن حجر العسقلاني: -فتح الباري شرح صحيح البخاري. 8- ابن حزم: -الفصل في الملل والنحل ط الحلبي. 9- ابن عبد ربه: أبو عمر أحمد بن محمد -العقد الفريد، نشر الأساتذة: أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري. 10- ابن قتيبه "213هـ" -المعارف تحقيق د. ثروت عكاشة، دار المعارف. 11- ابن كثير: -القرآن العظيم "تفسير". 12- ابن منظور: أبو الفضل جمال -لسان العرب. الدين محمد بن مكرم 13- أبو حيان "أثير الدين": -البحر المحيط (تفسير) . 14- أحمد أمين -فجر الإسلام. 15- الأزرقي: -أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ط. خياط، أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بيروت سنة 1964م.

16- الأصفهاني: أبو الفرج علي بن الحسين -الأغاني ط. دار الكتب المصرية سنة 1927م. 17- الأصفهاني (الراغب) -مفردات القرآن سبيتينو موسكاني الحضارات السامية القديمة. ترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر. مراجعة: محمد القصاص. ط. دار الكاتب العربي. 18- الألوسي: السيد محمود شكري -روح المعاني "تفسير". -بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب سنة 1342 هـ. عنى بشرحه وتصحيح ضبطه: محمد بهجة الأثرى: دار الكتاب الحديث. السيد عبد الرازق الحسيني -الصابئة: قديما وحديثا. تقديم: أحمد زكي باشا. طبعة أولى 1925، المطبعة الرحمانية بمصر 19- البكري: عبد الله بن عبد العزيز ابن محمد بن عمر. -معجم ما استعجم بتحقيق الأستاذ مصطفى السقا مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. 20- البلاذري: "279هـ-892م" أحمد بن يحيى بن جابر -فتوح البلدان، القاهرة سنة 1318هـ. 21- البهي: دكتور محمد -الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي ط وهبة. 22- البريوني: أبو الريحان محمد أحمد الخوارزمي -الآثار الباقية عن القرون الخالية "ليبسك 1878م". الأنجلو المصرية. 23- الجندي: "الدكتور علي" -تاريخ الأدب الجاهلي. 24- الرازي: "أبو حاتم" -الزينة في المصطلحات الإسلامية علق عليه حسين بن فيض الله الهمداني. 25- الرازي "فخر الدين" -مفاتيح الغيب "تفسير".

26- السهيلي: أبو القاسم عبد الرحمن ابن عبد الله الخشعمي -الروض الأنف، القاهرة 1914م. 27- الشهاب: -حاشية الشهاب علي البيضاوي. 28- الشهرستاني: المتوفى "548هـ" أبو الفتح محمد بن عبد الكريم -الملل والنحل، الأنجلو تخريج د. محمد بن فتح الله بدران. 29- الطبري "ابن جرير" -جامع البيان في تفسير القرآن "تفسير". طه بافر -مقدمة في: تاريخ الحضارات القديمة الجزء الأول الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين، الطبعة الأولى 1973 مطبعة الحوادث، بغداد. 30- العقاد: -أبو الأنبياء. عباس محمود -الله موسوعة العقاد الإسلامية دار الكتاب اللبناني. 31- الفيومي: -قضايا في الاجتماع الاسلامي حول حركة تفاعل الإنسان وتكيفه بالوحي. د. محمد إبراهيم -القلق الإنساني، سنة 1975 الأنجلو المصرية. 32- القرطبي: -جامع الأحكام "تفسير". 33- القرضاوي: "د. يوسف" -الخصائص العامة للإسلام. مكتبة وهبة. 34- المسعودي المتوفى "346هـ" أبو الحسن علي بن الحسين بن علي -مروج الذهب ط. دار الشعب، القاهرة. 35- المقدسي: -البدء والتاريخ. 36- المكلاتي: -لباب العقول في الرد على الفلاسفة. أبو الحجاج يوسف محمد -في علم الأصول، تحقيق د. فوقية حسين محمود، دار الأنصار 1977. 37- النيسابوري: -غرائب القرآن ورغائب الفرقان "تفسير"

38- الهمذاني: أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب -الإكليل، نشر وتعلق الأب انستاس الكرملي 1931. 39- اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر ابن وهيب المعروف بابن واضح. -تاريخ اليعقوبي. 40- أنور الرفاعي: -الإسلام في حضارته ونظمه، دار الفكر، دمشق. 41- أنوليتمان: -لهجات عربية شمالية قبل الإسلام بحث مستخرج من مجمع اللغة العربية الملكي سنة 1936م. 42- أوليرى "دى لاسي" -الفكر العربي ومكانته في التاريخ ترجمة د. تمام حسان. مراجعة د. محمد مصطفى حلمي. -علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب، ترجمة دوهيب كامل. مراجعة الأستاذ زكي علي. 43- بدوي: -رسائل فلسفية، نشر جامعة بني غازي. دكتور عبد الرحمن -شخصيات قلقة في الإسلام. 44- برييه "اميل" الآراء الدينية والفلسفية لفيلون الإسكندري، ترجمة د. محمد يوسف موسى ود. عبد الحليم النجار ط3. 45- تارن: -الحضارة الهللينية، ترجمة عبد العزيز جاويد. 46- حتى: "دكتور فيليب حتى" -تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ترجم الجزء الأول د. جورج حدد وعبد الكريم رافق، مراجعة جبريل جبور، ترجم الجزء الثاني د. كمال اليازجي، مراجعة د. جبريل جبور دار الثقافة، بيروت. 47- دحلان: "أحمد زيني" -على هامش السيرة الحلبية.

48- دراز "د. محمد عبد الله" -مدخل إلى القرآن، عرض تاريخي مقارن ترجمة محمد عبد العظيم علي. 49- دروزة: الأستاذ محمد عزة. -القرآن والمبشرون. 50- ديورانت "ول" -قصة الحضارة ترجمة الأستاذ محمد بدران، دار التأليف والترجمة والنشر. 51- دي بور: -تاريخ الفلسفة في الإسلام. ترجمة د. محمد عبد الهادي أبو ريده لجنة التأليف والترجمة والنشر. 52- رشيد رضا: "الأستاذ الشيخ محمد" -تفسير المنار. 53- زكي مبارك: "الدكتور" -النثر الفني في القرن الرابع الهجري. 54- سوسة: -العرب واليهود في التاريخ حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الأثرية، العربي للإعلان والنشر سنة 1975 ط4. 55- شوقي ضيف "دكتور" -تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، دار المعارف. 56- شيخو "لويس": -النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية ط بيروت. 57- صابر طعيمة "دكتور" -التاريخ اليهودي العام، دار الجيل. 58- صلاح الدين خودابخش: -حضارة الإسلام، ترجمة على حسن الخربوطلي. 59- صموئيل نوح كريمر: -السومريون: تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم، ترجمة فيصل الوائلي نشر وكالة الكويت. 60- ظاظا "دكتور حسن" -الساميون ولغاتهم، تعريف بالقرابات اللغوية والحضارية للعرب دار المعارف. 61- عبد الحليم محمود "دكتور" -التفكير الفلسفي في الإسلام الأنجلو المصرية.

62- عفيفي "دكتور" أبو العلا -الأثر الفلسفي الإسكندري في قصة حي ابن يقظان، بحث مستخرج من مجلة كلية الآداب بجامعة فاروق الأول "الإسكندرية" المجلد الثاني 1944 لجنة التأليف والترجمة والنشر. 63- علي حسن إبراهيم "دكتور" -التاريخ الإسلامي العام، الجاهلية، الدول العربية، الدولة العباسية، النهضة المصرية 1972. 64- غلاب "دكتور محمد" -الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية نشرت في مجلة الرسالة 1937م. 65- فلهوزن "يوليوس" مستشرق ألماني. -تاريخ الدولة العربية ترجمة د. محمد عبد الهادي أبو ريده. 66- ماكس مايرهف -من الإسكندرية إلى بغداد بحث في تاريخ التعليم الفلسفي والطبي عند العرب، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي ضمن المجموعة المسماة: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دار النهضة. 67- ماهر حسن فهمي "دكتور" -السيرة الذاتية تاريخ وفن. دار النهضة القاهرة. 68- محمد التونجي فرهنك -المعجم الذهبي فارسي وعربي دار العلم للملايين بيروت. 69- محمد عبد المعيد خان -الأساطير العربية قبل الإسلام سنة 1937م. 70- محمد نعمان الجارم. -أديان العرب في الجاهلية سنة 1923م. 71- مدكور "دكتور إبراهيم بيومي" -في الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه دار المعارف.

72- مراد فرج المحامي. -ملتقى اللغتين العبرية والعربية. 73- مصطفى عبد الرازق "الأستاذ الشيخ" - تمهيد في الفلسفة الإسلامية لجنة التأليف والترجمة والنشر. 74- ميرزا: "محمد مهدي" -مفتاح باب الأبواب في أصول الديانات 1321. 75- نولدكه -أمراء غسان، ترجمة د. بندلي جوزي ود. قسطنطين زريق. 76- نيللينو كارلو -مستشرق إيطالي -تاريخ الآداب العربية في الجاهلية حتى عصر بني أمية، نص المحاضرات التي ألقاها بالجامعة المصرية سنة 1910، سنة 1911 عنيت بنشرها عنيت بنشرها مريم نيلليو، تقديم دكتور طه حسين، دار المعارف بمصر ط2 77- هانز هيترش شيدر -روح الحضارة العربية، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي. 78- ياقوت: شهاب الدين أبو عبد الله الحموي -معجم البلدان. 79- جيبون "أدوراد" -اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها ترجمة د. محمد سليم سالم مراجعة: محمد علي أبو درة. 80- نتنج: -العرب ترجمة راشد البراوي الأنجلو المصرية. 81- ستوفتزف -تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي ترجمة: زكي علي مكتبة النهضة المصرية. 82- جلانقيل ديوني -أنطاكية القديمة ترجمة: د. إبراهيم نصحي الناشر: النهضة المصرية.

83- د. عبد اللطيف أحمد علي -مصر والإمبراطورية الرومانية في ضوء الأوراق البردية. 84- النابغة الذبياني -ديوان النابغة الذبياني دار صادر. 85- ابن سعد: محمد كاتب الواقدي -الطبقات الكبرى. 86- لبيد بن ربيعة العامري. -ديوان لبيد، دار صادر.

فهرس الكتاب

فهرس الكتاب: الموضوع الصفحة فهرس الكتاب مقدمة الطبعة الرابعة 5 مقدمة الطبعة الثالثة 7-10 مقدمة الطبعة الثانية 12 مقدمة: رؤية الكتاب الفكرية 15-26 الباب الأول: الشرق السامي وحدة حضارية ودينية 27-81 مفهوم الشرق وأهمية دراسته 296 الشرق وحدة حضارية ودينية 33-42 حفائر البحرين. حفائر جورجيا. حفائر تركستان 34 حفائر: داريا. أوزبكستان. طاجيكستان. أفعانستان 35 معطيات حفائر أسيا 36 حفائر شبه الجزيرة العربية. حفائر مصر. دراسة تاريخ الكتابة 37 كتابة ما بين النهرين 38 ديانة مصر القديمة. حفائر تل مردبخ 39 بابل 40 حفائر الشرق الأدنى 41 نظريات ومذاهب في تحديد موطن الساميين الأصلي 43-50 المذهب الإفريقي 43 المذهب الأرميني. الرأي التركستاني 44 الرأي العربي 45 الرأي الديني. الرأي المتطرف 47 نظريات حديثة في تقسيم الأجناس 48 الأمة السامية بطونها وتراثها الحضاري والديني 50-81 السومريون 50 الأمة السامية: عيلام 51

الآشوريون 52 البابليون الآشوريون 53 الآكديون 54 الكنعانيون الفينيقيون 55 الوجه الثقافي والديني للحضارة الفينيقية 56 ديانة الكنعانيين: ديانة الخصب 57 الآلهة 58 الهياكل 59 النصب أو الحجر المقدس، الأصنام 60 التأثيرات الدينية بين: مصر وسوريا والرافدين؛ الديانة الحيثية 61 التأثيرات الدينية بين مصر وغرب أسيا 62 التأثيرات الدينية المتبادلة بين: مصر والكلدان، وسورية والفرس، كتاب الموتى 63 الآراميون 65 الآراميون "حران" الوجه الثقافي والديني للحضارة الآرامية 66 الديانة الآرامية: حدد الراعد 67 تشريعات حمورابي، تمدن دولة حمورابي 69 نظام الاجتماع، طبقات الناس، هل دولة حموراي عربية؟ 70 العبرانيون 71 هجرة إبراهيم وإسرائيل، الخروج من مصر، هجرة موسى 72 إسرائيل، الساميون 74 يهوذا، الوجه الثقافي والديني للعبرانيين 76 الكهنة 77 النبوة الإلهية عربية لفظا ومعنى 78 تعقيب 79 مرجع الباب الأول 82 الباب الثاني: العرب في طورهم التاريخي والسياسي 86-129 عرب ومدلوله التاريخي 87

رأي المستشرقين وعلماء التوراة 88 الجاهلية 92 أقسام العرب لدى الإخباريين. العرب البائدة 95 العمالقة: في العراق وفي مصر 96 إبراهيم عليه السلام مؤسس البيت العبري والعربي 98 عرب الشمال عرب عدنان، الإسماعيليون: الحجاز 100 عرب الجنوب عرب قحطان: اليمن 103 الدور المعيني 104 الدور السبتي 106 الدور الحميري الثاني، الدور الحبشي والفارسي 108 الفرق بين القحطانية والإسماعيلية 110 اللغة -الأسماء 111 دول العرب قبل الإسلام 113 الأنباط، عاصمتها البتراء 114 ملوك الأنباط 116 مملكة تدمر 117 من ملوك تدمر 119 فيلسوف "تدمر" لونجينوس، دولة الغساسنة، عاصمتها بصرى120 ملوك الغساسنة والنصرانية 121 دولة المناذرة، الحيرة والأنبار، اللخميون في العراق 122 من ملوك المناذرة والنصرانية 124 حضارة الحيرة 125 ديانة مناذرة الحيرة 126 مملكة كندة 127 حضارة الكنديين 128 مراجع الباب الثاني 130 الباب الثالث: العرب وروافد الفكر الديني 132-251

العلاقات التجارية والدبلوماسية 133 البتراء 139 تدمر 140 دولة الغساسنة 141 دويلة المناذرة 142 الأفلاطونية المحدثة 149 فيلو الإسكندري ونشأة الفلسفة الدينية والأصول العرفانية 150 مدرسة أنطاكية 154 نيقولاوس وظهور الهرطقة في أنطاكية 155 برنابا في أنطاكية 156 من أهم جهد برنابا، أنطاكية تحت حكم تدمر 157 مردسة نصيبين، مدرسة الرها، المدائن، المانوية 160 جنديسابور 161 آراء فلسفية للمستشرقين 162 اليهود في بلاد العرب: الهيلنستية واليهود 180 عوامل هجرة اليهود إلى الجزيرة العربية 186 اليهود في الجزيرة العرب 187 مصادر مناقشة العرب للرسول –صلى الله عليه وسلم- في مصدر القرآن204 المسيحية في بلاد العرب: الهلينستية وآباء الكنيسة 221 مدرسة الإسكندرية واللاهوت المسيحي، بولس الرسول 223 كلمنت، اوريجين، اثناسيوس 224 الكنيسة السريانية الغربية، آباء الكنيسة اللاتينية، أوغسطين 226 توسع الرهبنة، القديس مارون، القديس افرام السورياني 227 كيف دخلت المسيحية مكة والجزيرة العربية؟ 230 المسيحية والرسول 235 أصحاب الطبيعة الواحدة 237 رواية بحيرا 239 التنظيم الديني 246 الراهب 247

الساعور، الدير 249 المحراب، الهيكل، قنديل 250 أثر النصرانية في الجاهلين 251 الباب الرابع: الصابئة والمجوسية 253-374 تاريخ الصابئة وجغرافيتها الفكرية 255 انتقالها إلى الجزيرة العرب 259 العرب وعبادة الكواكب 264 معنى الصابئة 268 أقسام الصابئة، صابئة الحنفاء 276 صابئة بوداسف، التراث الهندي 282 صابئة الأشخاص 284 صابئة الهند 289 صابئة الفلاسفة 290 صابئة أهل الكتاب، صابئة البطائح 291 حول نسبة مذاهب الصابئة، هرمس وعاذيمون 293 برداسف 301 أصول فكرة الصابئة الأولى 308 أنواع الوساطات 311 هياكلهم، رؤسائهم 313 تعقيب حول فكر الصابئة 314 من قضايا الصابئة وموقف القرآن منها 316 إبراهيم والصابئة 317 الوساطة بين الإنسان والله 320 ملاحظات على ما أورده الشهرستاني 322 ملاحظات على ما ذكره المسعودي 324 الزندقة عند عرب الجاهلية 326 المجوسية أقدم من زرادشت 330

زرادشت 332 مضمون العقيدة 336 الخير والشر 337 زرادشت وكتاب الأفستا 338 المجوسية والعرب 342 علاقة الإسلام بهم 347 القدرية والمجوس، حنفاء العرب رواد الثقافة الهلينسيتية 348 سحب الثقة من عبادة الأصنام، موقف الساخطين على الأوثان 350 المتشككون في أوثانهم 352 زيد بن عمرو بن نفيل 364 عبد الله بن جحش 365 عثمان بن الحويرث، أمية بن أبي الصلت 366 ورقة بن نوفل 368 وكيع بن سلمة، عمير بن جندب، عامر بن الظرب العدواني 370 المتلمس بن أمية الكناني 370 عبيد بن الأبرص، كعب بن لؤي بن غالب، خلاصة ما تقدم 371 الباب الخامس: مكة عاصمة ثقافية ودينية 375-454 الحجاز 377 مكة وموقعها المتميز 378 علاقات مكة التجارية 379 مكة والصراعات السياسية بين الفرس واليونان 383 بناء البيت والدعوة إلى التوحيد 384 نبي الله إبراهيم والجزيرة العربية 388 إله إبراهيم الخليل غير إله اليهود 392 النبوة الإلهية عربية لفظا ومعنى 396 إلى وابل 397 الاتجاه نحو الوثنية وأصنامها، رحلة إبراهيم 404

كيف نشأت؟ 411 الأصنام، اللات 414 العزى 416 مناة 418 هبل 419 ود، سواع 421 يغوث 422 يعوق، نسر 423 عميانس 424 إساف ونائلة، رضي 425 مناف، ذو الخلصة 426 سعد، ذو الكفين 427 ذو الشرى، الأقيصر- نهم 428 عائم، سعير، الغلس، اليعبوب، باجر، المحرق، شمس 429 تيم 430 مرحب، رئام، الوثن 431 سدنتها 432 اتجاه قريش نحو الزعامة، ولاية الكعبة 434 آل صفوان، عدوان، النساة، مرة بن عوف، الغوث 435 لقريش محامد تنسب إليهم 436 العزى 437 هبل (بعل) 439 معاهدات العرب التجارية 442 التحمس القرشي 443 نتائج التحمس القرشي، الطواغيت 446 تقويم التحمس القرشي 448 مواقف القرآن من التحمس 452

الباب السادس: من قضايا الفكر الديني الجاهلي 455-535 نظرات تحليلة في نشأة الديانة الوثنية 457 نظرية البيروني 461 الوثنية في نظرية الرازي 462 اعتقاد الشبه 463 الاعتقاد في الأسباب الظاهرة 464 تعظيم المجهول، الاعتقاد في الأرواح، الاعتقاد في المقدسات، الحلول 465 الإله والتصور الوثني 468 الله في الشعر الجاهلي 469 الشرك ومظاهره عند العرب 471 الدهريون 476 الموحدون 477 موقفهم من الرسالة 485 قضايا الغيب 486 القضاء والقدر 489 القدرية 491 التأله والقرابين، المقدس وغير المقدس 497 الحيوانات المقدسة، البحيرة، السائبة، الوصيلة 498 الحام 499 السدنة 449 شعائرهم الدينية 500 الصوم 501 التحنث 502 بيوت العبادة، المعبد 503 المذابح 504 سدنة الآلهة، الكعبة 505 الكسوة 506

الحج والعمرة 507 الطلس 509 التليية 510 الإفاضة 511 العمرة 512 رمزياتهم، الاختلاف في النفس عند العرب في الجاهلية 513 الروح والنفس والقول بالدهر -الرجعة 514 تسخير عالم الأرواح 515 الشيطان 518 الهاتف والرئي، الملائكة، الهامة 520 الغول، الهواتف والجان 522 التطير 523 الفرق بين الفأل والتطير -الكهانة 525 الكهنة، أصناف الكهانة 526 الكاهن، من الكهان؟ السحر 527 العراف 532 القيافة، الفراسة، العيافة، الاستقام بالأزلام. 533 الطيرة 535 تعقيب 536 المراجع 543

§1/1