تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس

مجموعة من المؤلفين

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَة تعد مادة التاريخ الأندلسي من المواد المهمة في مناهج أقسام التاريخ، لما لها من علاقة وثيقة بتراث العرب وحضارتهم في الأندلس، حيث وصلوا إلى قمة تفوقهم العسكري والسياسي والحضاري. ولهدا فقد كان من الضروري أن يتوفر بين أيدي طلبتنا الأعزاء هذا الكتاب المنهجي. الذي يمثل الحد الأدنى لما يجب أن يطلعوا عليه لدراسة هذا التاريخ المجيد. يتألف الكتاب من خمسة أبواب، تنقسم إلى فصول عديدة. وقد قام المؤلفون بتأليف حصصهم من هذا الكتاب على النحو الآتي: كتب الدكتور عبد الواحد ذنون طه الباب الأول، الذي يتضمن فتح العرب لإسبانيا واستقرارهم فيها، ويتألف من أربعة فصول. كما كتب أيضاً الباب الثاني وهو عن عهد الإمارة في الأندلس، ويشمل ثلاثة فصول. وقام الدكتور ناطق صالح مطلوب بكتابة الباب الثالث، وهو عن عهد الخلافة في الأندلس، ويتألف من أربعة فصول. وكتب أيضاً الفصلين الأول والثاني من الباب الرابع عن سقوط الخلافة في الأندلس وعصر الدويلات وملوك الطوائف. وكتب الدكتور خليل إبراهيم صالح السامرائي، الفصل الثالث والرابع والخامس من الباب الرابع. وهذه الفصول تتحدث عن المرابطين والموحدين في الأندلس، ومملكة غرناطة، والمسلمين بعد سقوط غرناطة. كما كتب أيضاً الباب الخامس، وهو عن ْحضارة العرب في الأندلس، ويتألف من ثلاثة فصول. نرجو أن نكون قد وفقنا في عملنا هذا والله من وراء القصد. المؤلفون.

الباب الأول: فتح العرب لإسبانيا واستقرارهم فيها

البَابُ الأَوَّل فتح العرب لإسبانيا واستقرارهم فيها الفصل الأول: مقدمة فى الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إسبانيا قبيل الفتح العربي. الفصل الثاني: فتح العرب، دوافعه وممهداته. الفصل الثالث: النشاط الحربي للعرب فى شمال إسبانيا والتوغل في فرنسا. الفصل الرابع: استقرار العرب واستيطانهم. الدكتور عبد الواحد ذنون طه

الفصل الأول مقدمة في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إسبانيا قبيل الفتح العربي

الفَصْلُ الأَوَّل مقدمة في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إسبانيا قبيل الفتح العربي عرف شبه الجزيرة الايبيربة، أي إسبانيا والبرتغال، في الأزمان القديمة بـ (ايبارية)، وعندما جاء الرومان أطلقوا عليه اسم ( Hispania) ، ومن هنا جاء اللفظ العربي (اشبانية) أو (اصبانية) (¬1). وقد تحول هذا اللفظ في لغة القرون الوسطى الرومانسية إلى ( Espana) (¬2) . أما مصطلح (الأندلس)، الذي يشمل المناطق التي حكمها العرب والمسلمون من شبه الجزيرة، فقد اشتقه الجغرافيون والمؤرخون العرب من الكلمات الآتية: الأندليش أو الأندلش أو الأندلس، وهي الأسماء التي سُمي بها الوندال، الذين سيطروا على أجزاء من شبه الجزيرة الآيبيرية، في الفترة من 408 - 429 م (¬3). إن إسبانيا بلاد جبلية تضم ودياناً وأحواضاً نهرية عظيمة، من أمثال، نهر الأبرو Ebro، ونهر المنهو Minho، نهر دويرة Douro، ونهر تاجة Tajo، ووادي آنة Guadiana، والوادي الكبير Guadalquivir. وتحتل الميزيتا ( Meseta) ، التي تعني بالاسبانية النجد أو السهل المرتفع الواسع، معظم شبه الجزيرة الآيبيرية، ولكن تجمعات السكان الكبيرة، كانت دائماً مركزة قرب الشواطئ ووديان الأنهار الكبيرة. وكانت المدن الداخلية الرئيسة في العهد الروماني، سرقسطة Zaragoza، وطليطلة Toledo، وماردة Merida، وأشبيلية Sevilla، وقرطبة Cordoba، حصونا على الأنهار، وقد استمرت ¬_______ (¬1) البكري، جغرافية الأندلس وأوروبا من كتاب المسالك والممالك، تحقيق: عبد الرحمن علي الحجي، بيروت، 1968، ص 57 - 58؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت 1965 - 1966، ج 4، ص 556. (¬2) J. F. O' Callaghan, A History of Medieval Spain, London. 1975. p. 20 (¬3) البكري، المصدر السابق، ص 59؛ ابن الأثير، ج 4، ص 556؛ ابن عذاري، البيان المغرب، نشر: كولان وليفي بروفنسال، ليدن، 1948، ج 2، ص 2.

هذه المدن في أهميتها في العهد القوطي، والعهود العربية الإسلامية اللاحقة. اشتهرت إسبانيا منذ القدم بثروتها المعدنية، وإنتاجها الزراعي، وتجارتها المزدهرة. ولقد كانت هذه العوامل من الدوافع المغرية التي أدت إلى حدوث سلسلة من الهجرات والغزوات الأجنبية للبلاد. ويشكل الآيبيريون Iberians، الذين جاؤوا من افريقية، أساس جنس البحر المتوسط من السكان. ولقد عبر الكلت Celts، والأقوام الهندو - أوروبية Indo-European، جبال ألبرت Pyrenees، واستوطنوا في الأجزاء الشمالية والغربية من شبه الجزيرة. كما أسس الفينيقيون مستعمرات على السواحل الشرقية والجنوبية. وأخيراً وبعد صراع طويل من أجل السيادة والتفوق سيطر الرومان على إسبانيا، ولكنهم سرعان ما جوبهوا من قبل السكان المحليين، ولم يستطع الرومان إخضاع كل القبائل في شبه الجزيرة إلا في عهد الإمبراطور أوغسطس Augustus (27 ق. م - 14 م) (¬4). وقد أشار سترابو Strabo، المؤرخ اليوناني في القرن الأول قبل الميلاد، إلى بعض القبائل التي استوطنت شبه الجزيرة، من مثال الغاليسيين، والكانبتريانيين، والباسك، واللشدانيين، وغيرهم، ومع هذا، ففي بداية التاريخ الميلادي المسيحي، اصطبغ الكثير من هؤلاء السكان بالصبغة الرومانية (¬5). وبرغم سيادة الرومان على إسبانيا لفترة طويلة، فإن الظواهر الحقيقية لانحطاط سلطتهم فيها بدت بوضوح منذ بداية القرن الخامس الميلادي، وذلك عندما ابتدأت القبائل الجرمانية البربرية بالاستيطان في شبه الجزيرة. ويصف سانت ازيدور الأشبيلي Saint Isidore of Seville، المتوفى عام 636 م، استيطان الوندال Vandals، والآلان Alani، والسويفي Suevi، في إسبانيا عام 408 م على أنه احتلال مدمر، أدى إلى نشر الخراب في كل أنحاء البلاد (¬6). ونتيجة للحروب الكثيرة التي قامت بين هذه القبائل الجرمانية وبين القوط الغربيين، الذين كانوا يسكنون في تلك الفترة في غالة Gaul جنوب فرنسا، تحطمت قوة الآلان، ¬_______ (¬4) O'Callaghan, op. cit., p. 27 (¬5) R. Altamira, A History of Spain, Translated from the Spanish by: Muna Lee, Toronto, Cadada, 1949. pp. 32-34 (¬6) Isidoro of Seville, History of Goths, Vandals, and Suevi, translated from the Latin by Guido Donini and Gordon B. Ford Jr. Leiden, 1970, p. 33.

والوندال الذين اضطروا إلى العبور إلى شمال افريقية في عام 429 م (¬7). ثم تمكن القوط أخيراً من السيطرة على إسبانيا والتغلب على مملكة السويفي التي كانت ما تزال موجودة في الشمال الغربي من البلاد، وذلك في عهد الملك ليوفيخلد Leovigild (568 - 586 م) (¬8). مملكة القوط الغربيين فى إسبانيا: كانت مملكة القوط الغربيين هي الأخيرة في سلسلة ممالك البرابرة التي خلفت الإمبراطورية الرومانية، وذلك بعد أن انتهت هذه الأخيرة ككيان سياسي، واختفت من مسرح التاريخ. ولقد تمت عملية استيطان القوط الغربيين في إسبانيا في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس للميلاد. وكانوا يمثلون أقلية صغيرة فقط ضمن السكان الأصليين. ولا تتوفر معلومات إحصائية عنهم في هذا العصر، ومع هذا، فقد قدّر أحد المؤرخين المحدثين، أن نحواً من مئتي ألف إلى أربعمئة ألف من القوط استوطنوا بين كل ستة إلى تسعة ملايين من السكان الاسبان - الرومان Hispano-Romans (¬9) . ولقد استوطن القوط في مناطق الأرياف والمدن على حد سواء. ولكن حتى في المدن، كان السكان الاسبان - الرومان يتغلبون عليهم بنسبة ثلاثة إلى واحد، ومما لا شك فيه، أن الفرق في النسبة كان أكبر في مناطق الأرياف (¬10). نظام الحكم القوطي: كان نظام الحكم القوطي ملكياً قائماً على مبدأ الانتخاب، حيث ينتخب الملك من قبل النبلاء ورجال الدين. وقد حاول العديد من الملوك أن يقيموا نظاماً ملكياً ثابتاً يعتمد على نظام الوراثة، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل. وكان يفترض بالملك أن يكون من أصل قوطي نبيل ويتمتع بأخلاق حسنة، ويختار من بين النبلاء، ولكن العادة جرت أن يتولى العرش أقوى هؤلاء بحد السيف. وكان الملك هو الرئيس الأعلى للجيش، ¬_______ (¬7) Ibid., pp. 34-35; H. V. Livermore, The Origins of Spain and Portugal, London, 1971, pp. 86-88. (¬8) Isidoro, op. cit., pp. 39-42; Livermore, op. cit., p. 92. (¬9) O' Callaghan, op. cit., pp. 37, 70-71. (¬10) R. Shaw, "The fall of the Visgothic power in Spain", The English Historical Review, XXI, 1906, p. 211.

ويتمتع بحق تعيين وعزل الأساقفة عن مناصبهم الدينية، ويحكم مستبداً، يتصرف في أمور البلاد كما يشاء. وكان للملك مجلس من النبلاء لمساعدته في الحكم، لكن الملوك استبدوا بالأمور ولم يعد لهذا المجلس من أثر في السلطة، فكان الملوك يصدرون القوانين وينفذونها ويقضون في الأمور كما يريدون (¬11). وكانت مجالس كنيسة طليطلة هي القوة الكبرى في الحياة السياسية والدينية في العهد القوطي. وهذه المجالس كانت بمثابة جمعيات وطنية لمملكة القوط الغربيين تجتمع بين الحين والحين للنظر في مسائل الدولة الكبرى. وكان أصل مجلس طليطلة دينياً يتألف من كبار رجال الدين الكاثوليك ويعقد للنظر في أمور كنيستهم ورعاياها. ولكن بعد اعتناق القوط للكاثوليكية، أصبح هذا المجلس رسمياً يعقد بأمر من الملك، ويحضره كبار رجال الدولة، ثم تحول مع الزمن إلى مجلس سياسي وديني في آن واحد يصدر القوانين والأحكام في مختلف القضايا، ثم اتسع سلطانه، وأصبح محكمة عليا، وانضم مجلس النبلاء إلى هذا المجلس الديني، فأصبح مجلساً أعلى للدولة (¬12). ومن الناحية النظرية كانت مجالس طليطلة قيداً على سلطة الملك، أما من الناحية العملية فقد كانت سنداً مهماً لسلطته وبخاصة بعد تحول القوط إلى الكاثوليكية عام 587 م، حيث أصبحت الكنيسة في إسبانيا على علاقة وثيقة بالبلاط. وفي القرن السابع الميلادي، لم يكن بإمكان أي مجلس أن ينعقد إلا إذا أمر الملك بذلك. وكان الأساقفة عادة يناقشون ويقرون القرارات التي تتضمنها المسودة التي يقدمها الملك، ولم يهملوا في أية قضية تعليماته، ولم ينتقدوه بصورة مباشرة، بل كانوا ينفذون كل مطاليبه (¬13). الأحوال الاجتماعية في عهد القوط: وفيما يخص التنظيم الاجتماعي، فقد حافظ القوط على نفس التركيب الذي وجدوه قائماً في إسبانيا أيام الرومان. وهكذا استمرت مساوئ العهد الروماني بالبقاء، وتركزت الثروة والممتلكات بيد مجموعة قليلة من الناس، وكان هناك عدم مساواة كبيرة في البنية الطبقية. فالمجتمع القوطي كان يتألف من ثلاث طبقات؛ وهم طبقة كبار ملاك ¬_______ (¬11) انظر: حسين مؤنس، فجر الأندلس، القاهرة، 1959، ص 23. (¬12) المرجع نفسه، ص 23. (¬13) E. A. Thompson, The Goths in Spain, Oxford, 1969, pp. 278, 281-282.

الأراضي والنبلاء وكبار رجال الدين، والطبقة العامة، وطبقة العبيد (¬14). وكان أبناء الطبقة العامة يتألفون من الأحرار البسطاء الذين ينتمون إلى أصول قوطية ورومانية، عاشوا في المناطق الحضرية وفي الأرياف. ومن هؤلاء أيضاً، العمال في المدن والذين كانوا ينتظمون ضمن أصناف ونقابات، ولا يحق لهم التحول عنها أو الانتقال إلى مدينة أخرى، ومن يهرب منهم كان يُجبر على العودة إلى مدينته الأصلية. وكانوا محرومين من الانتظام في سلك رجال الدين، أو أن يصبحوا موظفين قضائيين (¬15). وبالنسبة إلى سكان الأرياف، فقد اضطر العديد منهم، نظراً لظروفهم الاقتصادية الصعبة، إلى تسليم أراضيهم إلى كبار النبلاء، ورضوا بالعمل والبقاء فيها كمستأجرين لقاء تمتعهم بحماية النبلاء. ولقد أصبح هؤلاء بالتدريج مشدودين بالأرض، وارتبطت علاقاتهم بأصحاب الأملاك مدى الحياة، حتى أنهم تحولوا أخيراً إلى ما يشبه الأقنان. وكان من جملة الالتزامات المفروضة عليهم أن يدفعوا عشر محاصيلهم إيجاراً، إضافة إلى تأدية بعض الخدمات الشخصية الأخرى للنبيل، وضريبة الرؤوس، أو الجزية Capitatio (¬16) . وتأتي طبقة العبيد في الدرجة الدنيا من السلم الاجتماعي، ويكوّن هؤلاء الجماهير الغفيرة، ضحايا كل أنواع القهر والاضطهاد، وكانوا مملوكين لكبار النبلاء ورجال الدين، ويستخدمون للأغراض الزراعية والأعمال المنزلية على حد سواء. ويبدو من مراجعة القوانين والتشريعات القوطية أن الظروف المعاشية للعبيد المهرة الذين كانوا يعملون في المدن، كانت أفضل من نظرائهم العمال الزراعيين. وكانت الكنيسة الاسبانية تمتلك أيضاً عدداً كبيراً من العبيد، ولكن يتضح من تشريعات مجالس الكنيسة أن هؤلاء العبيد عاشوا في ظروف سيئة للغاية. ولهذا فليس من الغريب أن حاول العديد منهم الهرب والتخلص من عبوديتهم. ويضاف إلى ذلك أن القوط، خاصة في أواخر عهدهم، ابتدأوا بتجنيد العبيد بالإكراه واستخدامهم في الجيش، مما أدى إلى تذمر هؤلاء وازدياد محاولاتهم في الهروب والنجاة. وقد اعترف الملك أخيكا Egica (687 - 702 م) في بداية القرن الثامن الميلادي، بأن العبيد الآبقين يختبئون في كل مكان من ¬_______ (¬14) انظر: فتح الأندلس، مجهول المؤلف، نشره وترجمه إلى الاسبانية دون خواكين دي كونثاليث، الجزائر، 1889، ص 7؛ الحميري، الروض المعطار في خبر الأقطار، نشره مع ترجمة فرنسية وتعليقات ليفي بروفنسال، القاهرة - ليدن، 1938، ص 169 - 170. وانظر: محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، القاهرة، 1969، ج 1، ص 30 - 31. (¬15) Thompson, op. cit., p. 121. (¬16) Ibid., p. 117; O' Callaghan, op. cit., pp. 73-74.

البلاد، حيث لا تخلو منهم أية مدينة أو قرية أو حصن أو دار ريفية أو خان. وقد شرع قانوناً وضع بموجبه عقوبات صارمة على كل من يفشل في مطاردة العبيد الهاربين، وإلقاء القبض عليهم (¬17). أما الطبقة العليا، أي طبقة النبلاء فكانت تتألف من أغنياء القوط الغربيين، وبقايا طبقة النبلاء الرومان. ويتميز أفراد هذه الطبقة عن الأحرار الاعتياديين بأصلهم النبيل، وامتلاكهم للمزارع والضيع الكبيرة التي تزرع من قبل المستأجرين، وبخدمتهم في المناصب العليا في القصر وفي الإدارة (¬18). وكانت البلاد حتى منتصف القرن السابع الميلادي تحكم وتدار بواسطة إدارة مشتركة من الطبقة النبيلة القوطية والرومانية. ومن المظاهر المهمة لهذا النظام، أن الطبقة النبيلة القوطية كانت مسؤولة عن السكان القوط، والطبقة النبيلة الرومانية تمارس سلطاتها على السكان الرومان، بينما كان الملك القوطي وموظفوه الكبار يقررون السياسة العامة للجميع. وكان مُلاك الأراضي الرومان والقوط، وكما هو الحال بالنسبة إلى الملك وكبار موظفيه أيضاً، يشرفون على مزارعهم بواسطة الوكلاء ومديري المال في مقاطعاتهم (¬19). وبصورة عامة فإن أفراد هذه الطبقة النبيلة كانوا أغنياء جداً، بنوا ثروتهم على حساب الطبقات الفقيرة المعدمة الأخرى، وقد أفلح بعضهم في الاحتفاظ بثروته حتى بعد الفتح العربي الإسلامي (¬20). كانت المسيحية هي ديانة الغالبية العظمى من السكان. وكان الاسبان - الرومان يدينون بالمذهب الكاثوليكي، بينما كان القوط الغربيون قد اعتنقوا المذهب الآريوسي، الذي يقول بطبيعة المسيح البشرية، منذ سنة 377 م (¬21). وقد عمل القوط الغربيون، منذ أيامهم الأولى في إسبانيا حتى تحولهم إلى الكاثوليكية في عهد ريكاريد Reccared (586 - 601 م)، على الفصل الكامل بين السكان القوط والاسبان الرومان، فكان أبناء كل طائفة يقيمون شعائرهم بحرية تامة بمساعدة رجال الدين التابعين لملتهم، وفي كنائسهم الخاصة (¬22). وقد تبين للملك ريكاريد أنه لا صلاح لدولة القوط في إسبانيا ما لم تتخلّ ¬_______ (¬17) Thompson, op. cit., pp. 267, 268, 272, 305. (¬18) O' Callaghan, op. cit., p. 73 (¬19) Thompson, op. cit. pp. 117, 312. (¬20) ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، نشره وترجمه إلى الاسبانية، خوليان رايبيرا، مدريد، 1926، ص 38 - 40. (¬21) Isidoro of Seville, op. cit., p. 5. (¬22) Thompson, op. cit., pp. 311-312

عن الآرية وتعتنق مذهب الغالبية من سكان البلاد. وهكذا فقد أعلن في مجمع طليطلة الديني سنة 587 م تخليه عن الآرية واعتناقه، هو وأهل بيته، للمذهب الكاثوليكي، وتبعه في هذا الأمراء وكبار رجال المملكة (¬23). وهكذا توحدت الكنيسة الاسبانية تحت ظل الملكية القوطية. وأعقب هذا التحول إلى الكاثوليكية اتخاذ اللغة اللاتينية لغة رسمية في البلاد، وتوثقت العلاقة بالبابوية مما شجع البابوات على بسط نفوذهم الديني والسياسي على إسبانيا. وأصبحت طليطلة أسقفية يقيم فيها أسقف كبير يمثل البابا. وقد أيد السكان الاسبان الرومان هذا الإجراء، ولم تتخل إسبانيا عن الكاثوليكية بعد هذا التاريخ. وكانت هذه الخطوة عاملاً فعالاً لامتزاج الشعبين القوطي والآيبيري الروماني، ولكن هذا الامتزاج لم يتم بشكل كامل بسبب حرص القوط على اعتبار أنفسهم الشعب الحاكم المتميز، مما كان له أثر بعيد على مصير دولة القوط في إسبانيا (¬24). وبالإضافة إلى المسيحيين كان ما يزال هناك عدد لا بأس به من السكان الوثنيين في شبه الجزيرة. وتشير التشريعات المتتالية الصادرة عن مجالس الكنيسة وملوك القوط إلى مدى الانتشار الواسع للوثنية، والكهانة، والعرافة، والسحر في البلاد (¬25). وكانت هذه الممارسات قد ترسخت في معظم أرجاء إسبانيا تقريباً، وانتعشت إلى الحد الذي دفع مجلس طليطلة الثالث (589 م) أن يقرر بأنه يتوجب على كل أسقف بالتعاون مع القاضي المحلي أن يحقق في انتشار الوثنية في منطقته، ويعمل على مكافحتها (¬26). وكان الباسك Basques أو البشكنس، حسبما تسميهم المصادر العربية، من جملة الجماعات الوثنية التي تعيش في منطقة الشمال الشرقي المتاخمة لجبال ألبرت. وقد فشل الأساقفة والملوك القوط في زعزعتهم عن الوثنية أو إخضاعهم طيلة العهد القوطي. ولا يعرف لحد الآن الأصل الحقيقي لهؤلاء الباسك، ولكنهم ربما كانوا من بقايا القبائل التي سكنت منطقة جبال ألبرت في عصور ما قبل التاريخ (¬27). ولقد كان هؤلاء السكان الجبليون متمرسين على القتال والتمرد على ملوك القوط المختلفين، وظلوا مصدراً للقلاقل والاضطرابات طيلة العهد القوطي والعهود العربية الإسلامية اللاحقة. بل إن ¬_______ (¬23) ابن الأثير، جـ 4، ص 560؛ Isidoro of Seville, op. cit., p. 25 (¬24) انظر: مؤنس، فجر الأندلس، ص 9 - 10. (¬25) Thompson, op. cit., pp. 308-310. (¬26) Ibid., p. 54. (¬27) Altamira, op. cit., p. 69; Livemore, op. cit., pp. 40-42.

انتفاضاتهم ومطالبتهم المستمرة من أجل الاستقلال أو على الأقل الحكم الذاتي، ما تزال تعكر صفو الحكومات الاسبانية المختلفة حتى الوقت الحاضر. لقد شكل اليهود عنصراً مهماً آخر من عناصر السكان في مملكة القوط الغربيين. ويعود تاريخ استيطانهم في شبه الجزيرة إلى زمن بعيد جداً (¬28). وكانوا ينتشرون في مناطق عديدة من البلاد، لكنهم تركزوا بالدرجة الأولى في المراكز الحضرية المتقدمة، مثل العاصمة طليطلة، وفي مناطق الجنوب، وعلى طول ساحل البحر المتوسط في شرق إسبانيا. وتختلف حالة اليهود الاقتصادية، وطرائقهم في الحياة في إسبانيا اختلافاً كبيراً. فمنهم من كان يعمل بالتجارة داخل البلاد وخارجها، بينما كان الآخرون فقراء لا يمتلكون أية ممتلكات (¬29). ويشير بعض المؤرخين إلى أن ملكية الأرض كانت الأساس الذي تقوم عليه معيشة بعض اليهود في إسبانيا، فكان هؤلاء يعيشون في قرى ويزرعون أراضيهم بأيديهم، بينما تولى آخرون الإشراف على المزارع التي يمتلكها المسيحيون. ولكن يبدو من التشريعات الكثيرة التي تخص اليهود في إسبانيا، أن فعالياتهم التجارية، كانت مهمة بقدر أهمية نشاطهم الزراعي. لم يكن وضع اليهود في ظل القوط الغربيين حسناً، فقد ضُيّق عليهم وعوملوا معاملة غير جيدة من قبل ملوك القوط المختلفين. ويعد الملك سسبت Sisebut (612 - 621 م) بنظر العديد من المؤرخين، الملك القوطي الأول الذي ابتدأ بوضع القيود على اليهود (¬30). ولكن هذا الأمر يرجع في الحقيقة إلى عهود تسبق الحقبة التي حكم فيها هذا الملك. فهناك تشريعات معادية لليهود منذ عهد الملك ألاريك الثاني Alaric II (484 - 507 م)، (¬31). وكذلك نصت قرارات مجلس طليطلة الثالث (587 م) على إكراه اليهود على اعتناق المسيحية، وحرّمت على أي يهودي أن يشتري عبداً مسيحياً (¬32). ولقد ظل هذا التشريع سارياً، وأعيد تطبيقه من قبل ملوك القوط المتعاقبين، كما أُيِّد وعُزِّز من قبل مجلس الكنيسة إلى نهاية العهد القوطي. ¬_______ (¬28) S. Katz, The Jews in the Visigothic and Frankish Kingdoms of Spain and Gaul, New York, 1970, pp. 3-5. (¬29) Thompson, op. cit., p. 316. (¬30) Isidoro of Seville, op. cit., p. 28, Katz, op. cit., p. 11; Livemore, op. cit., p. 192. (¬31) Thompson, op. cit., p. 53. (¬32) Ibid., pp. 101-111; Katz, op. cit., p. 11. F.

وجُرد اليهود من قبل الملك سسبت من العبيد والمستأجرين، ولهذا أصبح من الصعب عليهم أن يزرعوا أراضيهم، أو أن يمتلكوا المزارع الكبيرة. وفي عهد الملك ايروج Erwig (680 - 687 م) أبعد اليهود عن كل وظائف الدولة، وعن تولي المزارع الكبيرة. وحُرّم عليهم وعلى عبيدهم أن يعملوا في حقولهم أيام الآحاد والعطل الدينية المسيحيّة (¬33). ولكن ذروة التضييق على النشاط الاقتصادي لليهود وصلت غايتها في عهد الملك أخيكا Egica (687 - 702 م)، فقد كانت تشريعاته تهدف إلى شل القدرة الاقتصادية لليهود، والحد من قابليتهم في الحصول على المعيشة. لذلك فقد أجبروا على أن يبيعوا إلى خزينة الدولة، وبسعر محدد، عبيدهم، وأية ممتلكات سبق وأن اشتروها من المسيحيين. يضاف إلى ذلك، أنهم منعوا من مزاولة التجارة على مختلف أشكالها، أو أن يتاجروا فيما وراء البحار (¬34). ولا تتوافر لدينا معلومات عن الدوافع الحقيقية المختفية وراء هذا التضييق، أو لماذا مُنع اليهود من ممارسة أي نوع من أنواع التجارة. ولكن من المحتمل جداً أنه كان بسبب اختلاف عقيدتهم وتعاطيهم الربا، أو بسبب تعاليهم على أبناء الديانات الأخرى، وانغلاقهم على أنفسهم، واستغلالهم لغيرهم من الناحية الاقتصادية. وربما كان لتآمرهم السياسي أيضاً أثر كبير على تشريع بعض القوانين المعادية لهم. وقد استطاع اليهود التخلص من هذه القوانين بسبب دفعهم للرشوة إلى النبلاء ورجال الدين (¬35). لكنهم مع هذا تأثروا إلى حد كبير، مما دفع العديد منهم إلى الالتجاء إلى شمال أفريقيا، وغالة في جنوب فرنسا، كما قام بعضهم بالاشتراك في بعض الحركات المناوئة للسلطة (¬36). وقد تعرض اليهود في عهد الملك أخيكا إلى الاتهام بالتآمر مع يهود من خارج البلاد للعمل ضد المسيحيين في إسبانيا (¬37). وقد يكون هذا الاتهام صحيحاً، ولكن لا تتوافر أدلة عليه سوى خطبة الملك أخيكا التي ألقاها أمام مجلس طليطلة السابع عشر (9 تشرين الثاني سنة 694 م) عندما أشار إلى هذه "المؤامرة" لأول مرة. ويرى بعض المؤرخين المحدثين، أن هذا الاتهام ما هو إلا محض خيال أو اختراع من قبل الملك حتى يبرر ¬_______ (¬33) Ibid., p. 124. (¬34) Thompson, op. cit., p. 246. (¬35) Ibid., pp. 236-237; Katz, op. cit., p. 127. (¬36) Shaw, op. cit., p. 214; Thompsonn op. cit., p. 16. (¬37) Ibid., p. 247; Katz, op. cit., p. 21; cf. Levi-Provençal, Histoire de l'Espagne Musulmane, vol. I. Paris, Leiden, 1950, p. 6.

إجراءاته ضد اليهود (¬38). ولكن هناك من يعتقد بصحة هذه الحادثة، ويعدها حقيقة تاريخية، بل اعتقد بعضهم أن اليهود المقصودين بالتآمر من خارج البلاد هم من شمال أفريقيا. ومن البربر بالذات (¬39). كما ذهب آخرون إلى أبعد من ذلك -ربما بسبب تعاون اليهود فيما بعد مع المسلمين زمن الفتح- فذكروا بأن اليهود كانوا يتآمرون من أجل تسليم إسبانيا إلى العرب (¬40). وبطبيعة الحال، لا يمكن تصديق مثل هذا الافتراض، لأن العرب في ذلك الوقت كانوا بعيدين عن إسبانيا، وكانت فتوحاتهم مركزة في المناطق المجاورة للقيروان. إن عدم التكافل الاجتماعي الذي كان يسود في دولة القوط الغربيين، والتضييق الذي لحق باليهود، والظروف التعيسة التي كان يعيش في ظلها العبيد والعديد من أفراد الطبقة العامة، أدت إلى تفكك المجتمع وانهياره. يضاف إلى ذلك أن حالة العصيان والمؤامرات المستمرة التي كان يقوم بها النبلاء من أجل الوصول إلى العرش، أو الانسلاخ عن المملكة والحصول على الاستقلال، أنهكت البلاد، وأوصلتها إلى حالة يرثى لها من التردي والضعف. ولقد حدث قبل الفتح العربي الإسلامي لإسبانيا بسنة واحدة تقريباً، أقوى وأقسى تنافس على السلطة في البلاد، مما زاد في حالة الضعف والتفكك، وسهل أمر القضاء على دولة القوط الغربيين. عصر الملك غيطشة وتفرق كلمة القوط: ابتدأت الأزمة منذ أيام الملك غيطشة Witiza (702 - 710 م)، الذي حاول أن يصلح الأمور ويخفف من التأثير السيء الذي تركه أبوه أخيكا، فمال إلى إنصاف الناس من استبداد نبلاء القوط، وأحب في آخر أيامه أن يرفع القيود عن اليهود، فكرهه النبلاء ورجال الدين، الذين أبعدهم عن نفسه، وحرمهم من بعض امتيازاتهم، وفرق شملهم. فأخذ النبلاء يثورون عليه في نواحي البلاد المختلفة، وتآمر عليه أهله، واستطاعت زوجته أن ترغمه على تعيين ابنه الصبي وقله (أخيلا Achila) حاكماً على طركونة ¬_______ (¬38) Thompson, op. cit., p. 247; Y Baer, A History of the Jews in Christian Spain, translated from the Hebrew by Louis Schoffman, Philadelphia, 1971, vol. I. p. 22. Shaw, op. cit., p. 214. (¬39) إبراهيم طرفان، دولة القوط الغربيين، القاهرة، 1958، ص 119. (¬40) Katz, op. cit., p. 21; The Cambridge Medieval History, Planned by J. B. Bury, ed. H. M. Gwatkin and J. P. Whitney, Cambridge, 1964, vol. II. p. 18.

وسبتمانيا. وكان هذا التعيين حافزاً للنبلاء وكبار القوط إلى مضاعفة العمل للقضاء على غيطشة ودولته. وفي هذه الأثناء توفي غيطشة في حدود سنة 710 م، والبلد منشق على نفسه مفرق بين رجال الدين وكبار النبلاء الطامعين. وكان أفراد البيت المالك أنفسهم من أكثر الناس انقساماً. فقد ترك غيطشة أرملة، وثلاثة بنين، هم أخيلا، وألمند، وأرطباس، وأخين كان أحدهما أسقفاً لأشبيلية يدعى أبة Oppa، والآخر وصياً على أخيلا الذي كان مرشحاً لوراثة العرش بعد أبيه. ولكن كبار القوط لم يرغبوا في الخضوع لصبي مثلا أخيلا، هذا بالإضافة إلى عدائهم لأبيه، وتخوفهم من استبداد الوصي بالحكم (¬41). فامتنعوا عن طاعة أخيلا، واستقل بعضهم في الأطراف والنواحي، وسادت حالة الفوضى والارتباك في البلاد، استطاع على أثرها كبار القوط وأعيانهم في طليطلة أن يوحدوا جهودهم ضد أخيلا وعمه الوصي عليه، وأن يعهدوا بالعرش إلى أحدهم ويدعى رودريكو أو لذريق Roderic (¬42) . وما يزال أصل لذريق مختلفاً فيه، فتذكر إحدى المصادر اللاتينية على أنه كان سليل بيت أحد ملوك القوط السابقين (¬43). بينما يذكر المؤرخون العرب أنه كانا رجلاً شجاعاً، ولكنه لا ينتمي إلى بيت الملوك، وأنه كان قائداً وفارساً (¬44). ونظراً للظروف التي تولى فيها هذا الملك، فقد كان في حاجة ماسة إلى الأموال. فابتدأ حكمه بأن حاول الاستيلاء على خزائن أسلافه الملوك من كنيستي سان بيدرو San Pedro وسان بابلو San Pablo في طليطلة (¬45). لم تكن مشكلة لذريق الوحيدة هي الحاجة إلى المال، بل كان عليه أيضاً أن يجابه ¬_______ (¬41) انظر: ابن القوطية، ص 2؛ أخبار مجموعة، (مجهول المؤلف) نشره وترجمه إلى الاسبانية، لافوينتي القنطرة، مدريد، 1867، ص 5؛ المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق، إحسان عباس، بيروت 1968، ج 1، ص 265؛ مؤنس، فجر الأندلس، ص 12 - 16. (¬42) Isidoro Pacense or the Chronicle of 754. ( ملحق رقم 2 لكتاب أخبار مجموعة)، ص 147، رقم (34)؛ وانظر أيضاً: مؤنس، المرجع السابق، ص 16؛ عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ج 1، ص 33 - 34. (¬43) The Chronicle of Alfonso III. ed. Manuel Gomez-Moreno. Boletin de la Real Academia de Historia. 100. Madrid. 1932. pp. 611-612. (¬44) ابن القوطية، ص 2؛ أخبار مجموعة، ص 5؛ ابن عذاري، ج 2 ص 3؛ المقري، ج 1، ص 248، 250. (¬45) انظر: ابن القوطية، ص 7؛ ابن الأثير، ج 4، ص 567؛ ابن عذاري، ج 2، ص 3؛ فتح الأندلس، ص 2 - 3؛ الحميري، ص 6 - 7؛ المقري، ج 1، ص 251.

انتشار الفوضى والانقسام والفساد في المملكة. وكانت الثورات، وحركات التمرد ما تزال تعكر صفو البلاد، وبشكل خاص في منطقة الباسك، وكان العبيد يهربون في كل مناطق البلاد. ويدل هذا على ضعف القوط المتأصل، وإلى الحد الذي وصل إليه تدهور قوتهم، لأن الغالبية العظمى من الجيش القوطي في أواخر القرن السابع الميلادي كانت تتألف من العبيد المجندين. ولهذا فليس من الصعب على المرء أن يتخيل مصير هذا الملك ومملكة القوط الغربيين عامة، عندما كان عليهم أن يجابهوا حماسة العرب والمسلمين المتدفقة، وكلمتهم الموحدة في سبيل نشر مبادئ الحق والعدل وتحرير الشعوب من الظلم والفساد.

الفصل الثاني فتح العرب لإسبانيا

الفَصْلُ الثَّانِي فتح العرب لإسبانيا أ - دوافع الفتح وممهداته: لا يمكن الحديث عن فتح العرب لإسبانيا بمعزل عن بقية حروب التحرير التي خاضها العرب المسلمون في سبيل إعلاء كلمة الله، ونقل رسالة السماء إلى الشعوب المضطهدة التي كانت ترزح تحت نير القوى الأجنبية كالفرس والبيزنطيين. فلقد كان للعرب الذين وحّدهم الإسلام غاية نبيلة في الفتوح تمثلت أولاً في تحرير إخوانهم العرب أينما وجدوا، وثانياً: في تحرير الشعوب الأخرى من الجهل والوثنية والتسلط الأجنبي، ثم في نشر قيم ومثل الحضارة الإنسانية التي أنارت الدرب لهذه الشعوب، وساعدت على امتزاج الثقافات، والتجارب والخبرات، خدمة للبشرية جمعاء. ولقد نجح العرب في شمال أفريقيا -كما نجحوا في غيرها من الأماكن- في كسب سكان البلاد الأصليين، أي البربر، إلى جانبهم، ولو أن ذلك تأخر لفترة من الزمن بسبب تواجد القوى الأجنبية المتمثلة بالبيزنطيين الذين كانت تربطهم علاقات مع بعض البربر الموالين لهم والذين قاوموا الفتح العربي إلى حين. ولكن عندما أدرك البربر جوهر الرسالة السامية التي يحملها العرب، وأنهم لم يأتوا من أجل مغنم أو كسب مادي، تعاونوا معهم وامتزجوا بهم، ووحد الإسلام بين الاثنين، فأصبحوا قوة كبيرة في المنطقة. واعتمد العرب اعتماداً كبيراً على البربر، لا سيما في عهد الوالي موسى بن نصير، حيث عهد إلى زعماء من البربر بقيادة الجيوش الإسلامية التي استمرت تؤدي رسالتها في استكمال تحرير شمال أفريقيا. وبفضل هذا التعاون الفعال استطاع العرب أن يحققوا فتح إسبانيا. في بداية العقد الأخير من القرن الأول الهجري (في حدود سنة 90هـ/ 708 م) عهد القائد العربي موسى بن نصير إلى طارق بن زياد بتولي قيادة البربر المسلمين الذين انتظموا في صفوف الجند العربي في منطقة المغرب الأقصى، فاتخذ مدينة طنجة مقراً له. ولقد كان حماس هؤلاء البربر إلى الجهاد ونشر مبادئ الإسلام التي جاء بها العرب كبيراً. ونظراً لطبيعة المنطقة الجغرافية، فلم يكن أمام طارق وجنده سوى التوجه بأنظارهم إلى شبه

الجزيرة الآيبيرية، ولا سيما أن مناطق الجنوب كانت صحراوية لا تشجع على التجارة إليها أو التوغل فيها. يضاف إلى ذلك، أن البربر كانوا على اتصال دائم مع السواحل الاسبانية لقربها، وكانوا أيضاً على علم تام ومعرفة أكيدة بمدى خصب شبه الجزيرة وغناها، وعن خطورة مشاكلها الاجتماعية والسياسية، التي ذكرناها آنفاً، وضعف دولة القوط الغربيين بصورة عامة. ولقد شجعت هذه العوامل العرب والمسلمين على التفكير بفتح إسبانيا، وضمها إلى حظيرة المناطق التي تم تحريرها في المشرق العربي وشمال أفريقيا. أما ما يذكره بعض المستشرقين المغرضين، وما يروجه بعض الكتاب من التلميح إلى أن الدوافع المادية، والغنائم، وحب التوسع هي التي دفعت بالعرب إلى الفتوحات، فأمر لا يؤيده الواقع (¬1). فلم يكن هدف العرب الكسب المادي، بل كانت لهم غاية نبيلة أهم من ذلك بكثير، وأبعد تأثيراً، ألا وهي نقل مبادئ وقيم السماء السمحة إلى البلاد المفتوحة، والجهاد في سبيل الله من أجل تحريرها. أما الغنائم والمكاسب، فهي تحصيل حاصل، ونتيجة طبيعية من نتائج الحروب التي كانت وما تزال تقوم بين الأمم، فالغالب لا بد أن يستولي على مخلفات المغلوب، ولو أن موقف العرب من هذا أفضل بكثير من مواقف غيرهم من الشعوب، نتيجة لنظرتهم الإنسانية السامية. لقد تطرقت المصادر التاريخية العربية إلى الأسباب التي أدت إلى الفتح العربي الإسلامي لشبه الجزيرة الآيبيرية، ولكنهم يرجحون السبب الرئيس إلى وازع الانتقام الشخصي، ويسوقون على ذلك قصة أسطورية ملخصها أن الكونت يوليان، أو جوليان Julian حاكم مدينة سبتة قد شجع العرب على الفتح انتقاماً لنفسه من لذريق ملك إسبانيا الذي اعتدى على شرف ابنته. وتروي القصة أنه كانت لجوليان ابنة جميلة، أرسلها جرياً على عادة الأشراف في ذلك الوقت إلى بلاط طليطلة لتتعلم وتتثقف مع بنات الملك. وقد رآها لذريق وسحر بجمالها، ثم حاول أن ينال منها، ولكنها قاومته ورفضت، فلجأ إلى القوة واعتدى على شرفها برغم إرادتها. وعندما كتبت إلى أبيها بالحادث أسرع بالسفر إلى طليطلة وعاد بابنته إلى سبتة، وهو يضمر الشر والانتقام. وقد دفعه حقده هذا إلى التوجه إلى موسى بن نصير وحثه على فتح إسبانيا (¬2). وتذكر روايات أخرى أنه سار ¬_______ (¬1) قارن: إبراهيم بيضون، الدولة العربية في إسبانيا، بيروت، 1978، ص 64 - 65. W. Montgomery Watt. A History of Islamic Spain, Islamic Surveys 4, Edinburgh, 1967. pp. 5-9 (¬2) أخبار مجموعة، ص 5؛ فتح الأندلس، ص 3 - 4؛ المقري جـ 1، ص 251 - 253.

إلى طارق بن زياد، حاكم مدينة طنجة، وأعلمه برغبته في الانتقام واستعداده لمساعدة العرب في حرب القوط الغربيين (¬3). ولا نجد هذه القصة في المصادر الاسبانية المعاصرة للأحداث، ولكن بمرور الزمن انتقلت هذه القصة إلى القصص الاسباني والأغاني الشعبية الاسبانية التي تعرف باسم Romancero. ثم اختلطت هذه الروايات بالتاريخ الاسباني كما لو أنها كانت حقيقة واقعة (¬4). ويختلف المؤرخون المحدثون في هذه القصة، فمنهم من يرى أنها صحيحة، ومنهم من يرى أنها من اختراع القصاص (¬5). وعلى أية حال، فنحن لا نستطيع الاعتماد عليها كثيراً في تعليل تعاون جوليان مع العرب، نظراً للظروف السياسية التي كانت تحيط بسبتة والتي دفعته أخيراً إلى الوقوف مع العرب في عملية الفتح. وفي الحقيقة تتضارب الآراء بشأن شخصية جوليان حاكم سبتة فهناك من يرى أنه قوطي الأصل، وهناك من يرى أنه بيزنطي، أو بربري من قبيلة غمارة، ولكن معظم الروايات تتفق على أنه كان يحكم سبتة وما يجاورها في الوقت الذي وصل فيه العرب إلى الطرف الغربي الأقصى من شمال أفريقيا. ومن المرجح أنه كان الحاكم البيزنطي لإقليم موريطانيا الطنجية Mauretania Tingitania الذي كان تابعاً للإمبراطورية البيزنطية، ولكنه بعد تقدم العرب في شمال أفريقيا انقطعت به الأسباب عن بيزنطة، فأصبح مستقلاً في هذه الناحية، واضطر للاتصال بالقوط في عهد الملك غيطشة، وقام بين الاثنين تعاون قوامه إرسال المؤن والامدادات من إسبانيا إلى جوليان. ويبدو أن موت غيطشة واستيلاء لذريق على العرش قد وضع حداً لهذه العلاقات الطيبة لا سيما أن جوليان كان من أصدقاء غيطشة. ولهذا فلم يكن أمام جوليان إلا الرضوخ للعرب والتعاون معهم، لا سيما أنه رأى أن الأمور تسير لصالح العرب والمستقبل يبشر بتفوقهم على القوى الأخرى في المنطقة. وقد أخفق موسى بن نصير في أن يسيطر على سبتة ¬_______ (¬3) ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، نشر: شارلس توري، نيرهيفن، 1922، ص 205؛ ابن القوطية، ص 7 - 8؛ فتح الأندلس، ص 9؛ ابن عذاري، ج 2، ص 6 - 7. (¬4) أحمد مختار العبادي، في تاريخ الأندلس والمغرب، مؤسسة الثقافة الجامعية، الاسكندرية، ص 54 - 55. (¬5) cf. E. Saavedra, Estudio sobre la invasion de los arabes en Espana, madrid 1892, pp. 58-59. مؤنس، فجر الأندلس، ص 59 - 60؛ عنان، دولة الإسلام، جـ 1، ص 35 - 37 (وهو يؤيد قصة ابنة جوليان).

بالقوة بسبب حصانة أسوارها، ومقاومة جنود جوليان، فتم عقد الصلح بين الطرفين. وبموجب هذا الصلح ظل جوليان حاكماً على سبتة مقابل اعترافه بالسيادة العربية، ورجع موسى إلى القيروان (¬6). وتذكر الحوليات اللاتينية رواية أخرى مفادها أن أولاد غيطشة هم الذين اتصلوا بالعرب ودعوهم إلى فتح إسبانيا ومساعدتهم في إعادة ملكهم المفقود، وأن الفتح العربي، ونجاحه كان نتيجة لهذا الاتصال (¬7). وتشير بعض المصادر العربية أيضاً إلى مباحثات جرت في طنجة قبيل الفتح بين طارق بن زياد وأحد أولاد غيطشة (¬8). بينما يقول آخرون أن هذه المباحثات حدثت قبيل بدء المعركة الفاصلة بين طارق بن زياد وجيش القوط بوقت قصير. وذلك عندما أصبح طارق فعلاً في إسبانيا؛ فعرض أبناء غيطشة، أن يتخلوا عن لذريق، ويؤيدوا طارقاً بجنودهم شريطة أن يضمن لهم كل ممتلكات والدهم، والتي تبلغ ثلاثة آلاف ضيعة، وهي التي سميت فيما بعد بصفايا الملك (¬9)، وذلك بعد أن يخضع إسبانيا جميعها. ولا تعرض المصادر العربية الأخرى لذكر أية مباحثات بين طارق بن زياد وأولاد غيطشة، بل كل ما في الأمر أن هؤلاء الأولاد وبعض نبلاء القوط قرّروا التخلي عن لذريق في ساحة المعركة لأنهم اعتقدوا خطأ بأن العرب لا ينوون الاستقرار في البلاد، بل أنهم جاؤوا فقط من أجل الغنائم، وأنهم سيعودون بعد اندحار لذريق، ويرجع العرش إلى أسرة غيطشة (¬10). وبطبيعة الحال، فإن رأي هؤلاء المؤرخين أقرب إلى الصواب، وينسجم مع طبيعة الأحداث، فضلاً عن أنه يعارض فكرة نجاح الفتح بمساعدة قوى من داخل إسبانيا، الأمر الذي يروجه أعداء العرب للتقليل من شأنهم وقوتهم، فيبالغون في دور أسرة غيطشة في ¬_______ (¬6) انظر: أخبار مجموعة، ص 4؛ وقارن: مؤنس، المرجع السابق، ص 53 - 55، عبد الواحد ذنون طه، الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال أفريقيا والأندلس، ميلانو - بغداد، 1982، 142. (¬7) (ملحق رقم 3 لكتاب أخبار مجموعة) The Chronicle of Albelda, p. 163; The Chronicle of Alfonso III, p. 612. (¬8) الرقيق القيرواني، تاريخ أفريقية والمغرب، تحقيق: المنجي الكعبي، تونس، 1968، ص 73؛ ابن عذاري، (برواية عيسى بن أبي المهاجر)، ج 2، ص 6. (¬9) ابن القوطية، ص 5؛ الحميري، ص 9 - 10، المقري؛ ج 1، ص 258. (¬10) أخبار مجموعة، ص 7 - 8؛ فتح الأندلس، ص 6 - 7؛ ابن الأثير، ج 4، ص 563؛ المقري (برواية ابن حيان) ج 1، ص 231 - 232، 257 - 258.

مساعدة العرب، وكذلك في دور اليهود، كما سنرى فيما بعد (¬11). وإذا ما سلمنا بأن دور أسرة غيطشة وأنصارها قد اقتصر على الوقوف إلى جانب العرب بعد عبورهم فعلاً إلى إسبانيا، فإن دور الكونت جوليان يبقى أمراً لا يمكن إنكاره بسبب إجماع الروايات، على وجوده وموقفه من الفتح. ولكن ما هي مصلحة جوليان من فتح العرب لإسبانيا، لا سيما أننا استبعدنا دافع الانتقام الشخصي المتمثل برواية ابنته في بلاط طليطلة؛ لقد سبقت الاشارة إلى العلاقات الطيبة بين جوليان والملك غيطشة، وإلى المساعدات التي كان يتلقاها الأول من إسبانيا. ولكن بوفاة غيطشة ومجيء لذريق، توقفت هذه المساعدات نتيجة لانشغال الأخير بمشاكله الداخلية العصيبة. وقد استاء جوليان من هذا الموقف، وشعر بأهمية التعاون مع العرب وبشكل خاص في العبور إلى إسبانيا، لأنه أدرك قوة العرب ومستقبل سيادتهم على المنطقة، هذا بالإضافة إلى أنه كان من أصدقاء الملك غيطشة، وبالتالي فهو لم يرضَ عن استيلاء لذريق على عرش إسبانيا بدلاً من ورثة غيطشة. ولهذا فقد بدأ اتصاله بطارق بن زياد لأنه كان قريباً منه في طنجة، أو ربما يكون طارق نفسه هو الذي اتصل به واطلع على رأيه في مسألة العبور إلى إسبانيا، لا سيما أننا نعلم أن دوافع العرب والمسلمين، والتي ذكرناها في أول الفصل، كانت قوية للفتح والتحرير، فلم يكونوا بحاجة لمن يحثهم على هذا الواجب المقدس، بل هم الذين اتخذوا بادرة الفتح بقيادة قائدهم الشجاع طارق بن زياد. وتذكر بعض المصادر أن موسى بن نصير هو الذي اتخذ قرار الفتح، وهم يشيرون أيضاً إلى مراسلات تمت بهذا الشأن مع الخليفة في دمشق (¬12). ولكن بُعد المسافات بين طنجة والقيروان ودمشق تدعو المرء إلى التحفظ في قبول هذه الرواية، وبخاصة أن العديد من المؤرخين الآخرين يشيرون صراحة إلى أن عبور طارق إلى إسبانيا كان دون معرفة موسى بن نصير (¬13). وبطبيعة الحال، فإن هذه المسألة ليست جوهرية، لأن هدف ¬_______ (¬11) عن آراء بعض الكتّاب المحدثين بشأن هذه الروايات انظر: مؤنس، فجر الأندلس، ص 55 - 57، 63 - 64؛ العبادي، المرجع السابق، ص 55، السيد عبد العزيز سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، بيروت، 1962، ص 66 - 67. (¬12) ابن القوطية، ص 8؛ أخبار مجموعة، ص 5 - 6؛ فتح الأندلس، ص 2، 4 - 5؛ ابن الكردبوس، الاكتفاء في أخبار الخلفاء، تحقيق: أحمد مختار العبادي، مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، العدد 13، 1965 - 66، ص 45 - 46؛ ابن عذاري، ج 2، ص 5 - 6؛ cf. Levi-Provençal, "al-Andulus", Encyclopedia of Islam, New edition. (¬13) رواية الواقدي في: البلاذري، فتوح البلدان، نشر: ذي غوية، ليدن، 1866، ص 230 و 231؛ =

كل من القائدين كان حتماً خدمة المبادئ الإنسانية التي حملها العرب، وتوصيلها إلى شعوب الأرض الأخرى، وبالتالي، فإن النتيجة واحدة، وهي فتح هذا الجزء من العالم وتحريره وليس أدل على هذا من مسارعة موسى بن نصير، حين سماعه بأنباء الفتح، إلى نجدة قائده طارق، والعمل على استكمال الفتح الذي تم أخيراً بالتعاون الفعال والمثمر بين القائدين. ب - خطة الفتح وحوادثه في زمن طارق بن زياد: لم يكن فتح العرب لإسبانيا مغامرة حربية ارتجالية بل كان فتحاً منظماً مدروساً حسب خطة ذكية وضعها القائد طارق بن زياد. فعلى الرغم من معرفته بالوضع المتردي الذي كانت عليه إسبانيا، لم يغامر بأرواح جنوده دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة والقيام بغارة استكشافية على جنوب إسبانيا لجس النبض ومعرفة مدى مقاومة الأعداء في الجانب الآخر. وقد عهد بقيادة هذه الحملة الاستطلاعية إلى قائد يدعى أبو زرعة طريف ابن مالك المعافري، الذي عبر إلى الأندلس في رمضان سنة 91هـ/ آب - أيلول 710 م (¬14). وكانت قوة طريف الاستطلاعية تتألف من أربعمئة راجل ومئة فارس، أبحر هؤلاء على متن أربعة مراكب هيئت من قبل الكونت جوليان، ونزلت على جزيرة تسمى بالوماس ( Las Palomas) والتي تقع على الشاطئ الاسباني في موضع أصبح يعرف حتى اليوم باسم طريف ( Tarifa) . ولقد تكللت جهود طريف بنجاح باهر، في الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الآيبيرية، وقام بعدة حملات موفقة في المنطقة دون أن يلاقي أية مقاومة، وأصاب كميات وافرة من الغنائم والأسلاب، ثم رجع إلى الشمال الأفريقي (¬15). ¬_______ = الرقيق المصدر السابق، ص 74؛ ذكر بلاد الأندلس، (مجهول المؤلف) مخطوط الخزانة العامة في الرباط، ورقم 85 ج، ص 84 - 85. (¬14) المقري، (رواية الرازي) ج 1، ص 254. (¬15) أخبار مجموعة، ص 6؛ ابن الكردبوس، الاكتفاء في أخبار الخلفاء، ص 45، ذكر بلاد الأندلس، ص 84؛ ابن عذاري (برواية عريب بن سعد) ج 2، ص 5؛ وقارن أيضاً: The Chronicle of Albelda, p. 163; Saavedra. op. cit., p. 64; p. Gayangos, The History of the Mohammedan Dynasties in Spain, New-London, 1964, reprint of London, edition, 1843, vol. I. pp. 517-519.

حملة طارق بن زياد: إن النتائج المرضية التي حققتها مهمة طريف شجعت طارقاً على المضي في خطته بالفتح، فقرر أن يقود بنفسه الحملة المقبلة التي كانت تتألف من اثني عشر ألف رجل من مقاتلي العرب والبربر المسلمين. وكانت نسبة البربر المشاركين في هذه الحملة عالية نظراً لاعتناقهم الإسلام وانتظامهم في الجيش (¬16). وكان معظم المقاتلين من العرب قد رجعوا إلى القيروان مع موسى بن نصير ولم يبقَ مع طارق بن زياد إلا عدد قليل من العرب من أجل أن يعلموا البربر مبادئ وتعاليم الإسلام (¬17). ويُعد عبد الملك بن عامر المعافري، الجد الأعلى للمنصور بن أبي عامر، من أشهر الرجال العرب المساهمين في هذه الحملة (¬18). ويذكر بعض المؤرخين أن جيش طارق كان يتألف أول الأمر من سبعة آلاف رجل، ثم لحقهم خمسة آلاف آخرون أرسلهم موسى بن نصير (¬19)، ولكن الأرجح أن الاثني عشر ألف جندي، المذكورين أولاً، هم الذين كانوا بإمرة طارق وبهم جميعاً عبر إلى الأندلس (¬20). وتشير الظروف التي رافقت عبور طارق بن زياد ونزوله على الشاطئ الاسباني إلى أنه كان لا بد قد أبحر من سبتة. ويمكن أن نعتمد على هذه الحقيقة، لأن المصادر تذكر باستمرار أن جيش طارق تم نقله إلى إسبانيا على متن مراكب تجارية قدّمها جوليان حاكم سبتة (¬21). وبطبيعة الحال فقد كان طارق يمتلك سفنه الخاصة به في طنجة، هذا بالإضافة إلى السفن العربية الأخرى التي كانت تنتجها دار صناعة السفن في تونس (¬22). ولكن يبدو أنه أراد أن يحيط عملية نزوله بالسرية التامة، وذلك باستعمال مراكب ¬_______ (¬16) قارن: ابن خلدون، كتاب العبر، بيروت، 1956 - 1961،ج 6، ص 254. (¬17) ابن حبيب، استفتاح الأندلس، تحقيق الدكتور محمود علي مكي، مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، العدد الخامس، 1957، ص 222، ابن عبد الحكم، ص 204 - 205؛ الرقيق، ص 69 - 70. (¬18) ابن عذاري، ج 2، ص 256 - 257؛ المقري، ج 1، ص 396 - 399. (¬19) المصدر نفسه (برواية ابن حيان) ج 1، ص 231 - 232؛ أخبار مجموعة، ص 7. (¬20) انظر: عبد الواحد ذنون طه، المرجع السابق، ص 162. (¬21) ابن عبد الحكم، ص 205 - 206؛ البلاذري، فتوح البلدان، ص 230؛ الرقيق، ص 74؛ ابن عذاري (برواية الرازي)، ج 2، ص 6. (¬22) قارن: العبادي، المرجع السابق، ص 59 - 60؛ بيضون، المرجع السابق، ص 67 - 69؛ سالم، المرجع السابق، ص 72.

تجارية، والاقلاع من ميناء آخر، أي من سبتة. ويصف المؤرخ التونسي عبد الملك بن الكردبوس عمليات نزول جيش طارق إلى الأندلس، فيذكر أن الأخير كان يرغب في إيجاد مكان ملائم للنزول على الشاطئ الاسباني (ربما منطقة الجزيرة الخضراء التي تقابل سبتة). ولكن طارقاً تخلى عن النزول في هذا المكان عندما وجد جماعة من القوط حاولت منع نزوله، فأبحر منه ليلاً إلى مكان وعر من الشاطئ. وقد استخدم المجاذيف وبراذع الخيول التي ألقيت على الصخور لتسهيل عملية النزول، وبهذا ضمن سلامة جنوده (¬23). وقد نُفذت هذه العملية في الليل، وربما استغرقت أكثر من ليلة واحدة بسبب قلة المراكب، التي كانت مستمرة بنقل الرجال بين الشاطئين، إلى أن هبط كل أفراد الحملة على الأراضي الاسبانية بسلام. ويجدر قبل استكمال عرض أحداث الفتح في عهد طارق أن نشير إلى القصة الشائعة التي تقول بأن طارقاً قد أحرق سفنه بعد نزوله إلى الشاطئ ليقطع على جنوده خط الرجعة وليحفزهم على الاستبسال في القتال، ثم خطبته المشهورة التي يبتدؤها بالقول: " أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر ... " (¬24). ولقد شك العديد من الكتّاب المحدثين في نسبة هذين العملين إلى طارق، لأن معظم المصادر العربية التي تحدثنا عن فتح الأندلس، لا سيما القديمة منها، لا تذكر شيئاً عن حرق السفن والخطبة. يضاف إلى ذلك، فإن أسلوب الخطبة وفصاحتها لا يشجعان على نسبتها إلى طارق، الذي تشير معظم الروايات إلى أنه كان من البربر. أما أسطورة حرق السفن فلم تدوّن إلا في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر للميلاد، أي بعد فتح الأندلس بأكثر من ثلاثة قرون، ولهذا فهي أيضاً عرضة لكثير من الريب (¬25). نزلت حملة طارق على صخرة تسمى جبل كالبي ( Mons Calpe) ، التي اتخذت ¬_______ (¬23) ابن الكردبوس، ص 46؛ انظر أيضاً: ابن عذاري ج 2، ص 9 الذي يذكر رواية مشابهة بشأن عبور طارق ونزوله على الجبل. (¬24) ابن حبيب، ص 221؛ المقري، ج 1، ص 240 - 241. (¬25) للاستزادة من المناقشات بشأن الخطبة وإحراق السفن وموقف الكتاب المحدثين منهما، انظر: عنان، المرجع السابق، ج 1، ص 46 و 49؛ العبادي، المرجع السابق، ص 63 - 68؛ سالم، المرجع السابق، ص 77 - 87؛ أحمد بدر، دراسات في تاريخ الأندلس وحضارتها، دمشق، 1972، ص21 - 23. عبد الرحمن علي الحجي، التاريخ الأندلسي، دار القلم، دمشق، 1976، ص 57 - 62.

اسم طارق منذ ذلك اليوم، فأصبحت تسمى بجبل طارق (¬26). وهناك خلاف بشأن الموعد الصحيح للحملة، فيذكر بعض المؤرخين السنة التي حدث فيها الفتح فقط، أي سنة 92 هـ (تبدأ في تشرين الأول 710 م)، ويثبت آخرون اليوم والشهر الذي حدث فيه العبور، ومع هذا فإن الأغلبية تعتقد بأن نزول طارق على الشاطئ الاسباني حدث في رجب 92هـ/ نيسان 711 م (¬27). وهذا وقت مناسب جداً لا سيما أنه يقع في موسم الربيع الذي يتميز باعتدال الجو. ولقد أقام طارق عدة أيام في الجبل الذي اتخذه قاعدة لعملياته العسكرية، التي ابتدأت بفتح الجزيرة الخضراء والمناطق المجاورة من أجل السيطرة على المضيق وحماية خطوطه الخلفية وتأمين اتصالاته بشمال أفريقيا. وفي الوقت نفسه أرسلت كتيبة قوية من الجند بقيادة القائد عبد الملك بن عامر المعافري لفتح حصن قرطاجنة، الذي يقع شمال غرب جبل طارق، ويدعى الآن باسم Torre de Cartagena (¬28) . وبعد سقوط هذا الحصن، وقعت كل المناطق المحيطة بمضيق جبل طارق بيد المسلمين. وتولى عبد الملك المعافري مسؤولية حماية الجزيرة الخضراء، يساعده في ذلك جوليان، وبهذا أصبحت مؤخرة جيش طارق آمنة، وسهلت خطوط اتصاله بالشمال الأفريقي. معركة كورة شذونة: مضى على طارق نحو شهرين ونصف قبل أن تقع المعركة الفاصلة بينه وبين لذريق في كورة شذونة. وتذكر الروايات أنه هوجم في هذه الأثناء من قبل قائد قوطي يسمى تُدْمير Theodemir الذي لم يستطيع إعاقة تقدم جيش طارق، فأرسل إلى لذريق بطلب المساعدة الفورية (¬29). واعتماداً على روايات أخرى، فإن لذريق كان قد أرسل قوات عديدة لإيقاف الجيش العربي الإسلامي، كانت إحداها بقيادة ابن أخ له يدعى بنج Banj ¬_______ (¬26) cf. Levi-Provençal, op. cit., vol. I. p. 18. (¬27) ابن حبيب، ص 222؛ فتح الأندلس، ص 8؛ ابن الأثير، ج 4، ص 562؛ ابن عذاري (برواية الرازي) ج 2، ص 6؛ المقري، ج 1، ص 25. (¬28) ابن القوطية، ص 8 - 9؛ ابن عذاري، ج 2، ص 9، 256؛ Cf. Saavedra, op. cit., p. 65; P. Madoz, Diccionario geografico-estadistico historico de Espana Y sus Posesiones de Ultramar, Madrid, 1848-50, vol. XV, p. 65. (¬29) ابن حبيب، ص 222؛ المقري، ج 1، ص 24؛ علي بن عبد الرحمن الهذيل، كتاب تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس، مخطوط المكتبة الوطنية بمدريد، رقم 5095، ص 132.

(بالاسبانية Sancho أو Bancho) ، ولكنه قتل مع رجاله (¬30). ولا يتوفر لدينا دليل يمكننا من أن نقطع برأي جازم في صحة أحداث هاتين الروايتين، ولكن يبدو أنه من غير المحتمل أن يقوم لذريق بإرسال قوات من مكان بعيد في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة، حيث كان مشغولاً بالقضاء على اضطرابات خطيرة في مقاطعة الباسك. وعلى أية حال، فما أن سمع لذريق بنزول طارق حتى رجع نحو الجنوب، وقام بالاستعدادات اللازمة لمواجهة جيش الدولة العربية، ومنها أنه توصل إلى مصالحة أسرة غيطشة وأنصارها للوقوف صفاً واحداً أمام المسلمين. وتبالغ الروايات العربية في تقدير جيوش الأعداء، فتذكر بأن عدد جيش لذريق كان يتراوح بين أربعين إلى مئة ألف رجل (¬31). وبطبيعة الحال، فإن الأوضاع السيئة التي كانت تعيشها إسبانيا في ذلك الوقت، تجعلنا لا نميل إلى تصديق الروايات التي تبالغ كثيراً في عدد الجيش القوطي، ومع هذا، فمن المؤكد أنه كان يفوق جيش طارق بكثير. وتقابل الجيشان في كورة شذونة جنوب غرب إسبانيا، ولكن موقع المعركة الدقيق غير معروف تماماً. وهناك العديد من الدراسات الحديثة بشأن المكان الذي وقعت فيه المعركة الفاصلة بين لذريق وطارق، ومصير لذريق في هذه المعركة. وعلى سبيل المثال، فإن المستشرق الاسباني سافيدرا، يرى حدوث معركتين: الأولى: وقعت قرب مدينة شذونة، بين جبل رتين ( Retin) وبحيرة لاخاندا ( la Janda) ، والثانية: عندما هرب لذريق نحو الشمال وحارب جيش الدولة العربية بالقرب من مدينة سلمنقة Salamanca، حيث قتل ودفن في منطقة مجاورة (¬32). ويعارض ليفي بروفنسال وغيره من المستشرقين هذه الفكرة، ويتفقون مع المؤرخين العرب على حدوث معركة واحدة فقط بين القوط والمسلمين، وقعت بالقرب من ضفاف نهر وادي بكة أو لكة Guadalete، في كورة شذونة، وأن لذريق هزم وقتل، أو فقد قرب هذا النهر (¬33). ¬_______ (¬30) نص الرازي المنشور بالاسبانية ملحقاً لكتاب سافيدرا Saavedra المذكور آنفاً، ص 149 - 150؛ ابن عذاري، ج 2، ص 8؛ وقارن: مؤنس، فجر الأندلس، ص 70. (¬31) ابن حبيب، ص 222؛ ابن الأثير، ج 4، ص 562؛ أخبار مجموعة، ص 7؛ ابن خلدون، ج 4، ص 254؛ المقري، ج 1، ص 258. (¬32) Saavedra, op. cit., pp. 68-69; Cf. Chronicle of Alfonso III, p. 612. (¬33) Levi-provençal, op. cit., pp. 20-21; C. Sanchez-Albornoz, "Otra vez Guadalete Y Covadonga", Cuadernos de Historia de Espana, I-II, 1944, pp. 12, 42, 56-58, 67.

خريطة: حملات الفتح العربي للأندلس.

ويذكر بعض المؤرخين العرب أن لذريق هرب من ساحة القتال، وأنه قتل أو غرق في مكان يدعى وادي الطين، ولكنهم لم يحددوا موقع هذا المكان (¬34). ويعتمد الدكتور حسين مؤنس على التشابه الموجود بين اسم وادي الطين، واسم Guadalentin الذي هو أحد فروع نهر شقورة Seguar في محافظة مرسية في شرق إسبانيا، فيقترح بأن وادي الطين ما هو إلا نهر Guadalentin، ولهذا فهو يرى بأن المسلمين لاحقوا لذريق إلى هذا المكان (¬35)، وهذا احتمال بعيد يصعب تصديقه، لا سيما إذا ما لاحظنا بعد المسافة بين شذونة في الجنوب الغربي من إسبانيا، ومحافظة مرسية في الجنوب الشرقي. إن موقع المعركة الدقيق ليس له أية أهمية جوهرية بالرغم من كثرة البحوث والمقالات التي كتبت فيه. ومع هذا فعلى الباحث أن يعترف أنه بالرغم من أن المعركة استمرت ثمانية أيام فقط (28 رمضان - 5 شوال 92هـ/ 19 - 26 تموز 711 م)، فإن معركة واسعة النطاق كهذه، سميت بعدة أسماء مختلفة مثل معركة البحيرة، وادي بكة؛ وادي لكة، وادي البرباط، شريش، السواني، والسواقي، لا يمكن أن نحدد لها، كما يرى الدكتور أحمد مختار العبادي (¬36)، مكاناً واحداً مثل جنوب مدينة شذونة أو شماليها، ولهذا فمن المحتمل جداً أنها حدثت كلياً أو جزئياً في كل هذه المناطق المذكورة التي تقع في كورة شذونة، فهي معركة هذه الكورة بأسرها (¬37). استئناف حملة طارق إلى الشمال انهزم القوط الغربيون في هذه المعركة وتفرق جمعهم، وتكبدوا خسائر فادحة، ولكن مصير لذريق، كما أسلفنا، لم يكن معروفاً. أما المسلمون، فقد استشهد منهم ثلاثة آلاف رجل (¬38). ولقد كان هدف طارق المباشر أن يلاحق فلول المنهزمين وينهي مقاومتهم قبل أن يستأنف سيره نحو الشمال. وهذا يشير إلى أنه كان على علم تام ¬_______ (¬34) الرقيق، ص 75؛ ذكر بلاد الأندلس، ص 85؛ ابن عذاري، ج 2 ص 7. (¬35) مؤنس، رواية جديدة عن فتح المسلمين للأندلس، مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، العدد الثامن عشر، 1974، ص 91 - 93، 124. (¬36) في تاريخ الأندلس والمغرب، ص 72. (¬37) انظر: عبد الواحد ط.، المرجع السابق، ص 168. (¬38) ابن الشباط، صلة السمط وسمة المرط، نشرة الدكتور، أحمد مختار العبادي في مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، العدد 14، 1967، ص 107؛ المقري (برواية الرازي) ج 1، ص 259.

بطبيعة الموقف في إسبانيا في ذلك الوقت، وأنه أدرك بأن فتح وتحرير إسبانيا بصورة كاملة لا يمكن أن يتم دون القضاء على قوة القوط. وقد افتتح طارق مدينة شذونة بعد انتصاره على لذريق، ولم يُضيّع وقتاً فأكمل سيره إلى مدينة استجة Ecija، التي تجمع فيها فلول القوط في محاولة لمنع المسلمين من دخولها. وفي طريقه إلى هذه المدينة افتتح طارق مورور، وتدعى الآن Moron de la Frontera، في منطقة أشبيلية. وبعد ذلك عسكر قرب استجة وضرب عليها الحصار. وبعد معركة حامية حقق المسلمون نصراً آخر، بالرغم من مقتل وجرح العديد من رجالهم (¬39). أما فلول جيش القوط فقد هربت إلى مدن أخرى، وازدادت خشية القوط الغربيين جداً عندما تبين لهم عزم طارق على البقاء في إسبانيا، فهجروا مناطق السهول من البلاد، والتجأوا إلى الجبال وبقية المدن الحصينة الأخرى (¬40). ولمنع القوط من أية محاولة لتوحيد صفوفهم قرر طارق أن يزحف إلى طليطلة عاصمة القوط الغربيين. وتذكر المصادر أن جوليان نصح طارقاً بتفريق جيشه وإرسال عدة حملات إلى مناطق أخرى من إسبانيا، فأرسل حملات إلى مالقة، والبيرة، ومرسية وقرطبة (¬41). ولكن من غير المعقول أن يقوم طارق بتقسيم قواته القليلة العدد، في الوقت الذي كان ينوي فيه أن يتوغل بعمق في أراضٍ معادية. ويمكن قبول الرواية التي تشير إلى الحملة المرسلة إلى قرطبة، بسبب وجود الاشارات الكثيرة إلى قائد الحملة، مغيث الرومي، وإلى أحداث الحملة نفسها، ومع هذا، فهناك روايات أخرى تنسب قيادة حملة قرطبة إلى طارق بن زياد نفسه (¬42). فتح قرطبة: عهد طارق إلى مغيث الرومي بقيادة الحملة المتوجهة إلى قرطبة. فسار مصحوباً بسبعمئة فارس من استجة بينما زحف طارق ببقية رجاله إلى طليطلة. وعندما وصل مغيث إلى ضواحي قرطبة، عسكر في منطقة تسمى شقندة Seconda، قرب ضفاف نهر ¬_______ (¬39) ابن القوطية، ص 9؛ أخبار مجموعة، ص 9 - 10؛ ابن الشباط، ص 112 - 113؛ ابن عذاري (برواية الرازي) ج 2، ص 8. (¬40) أخبار مجموعة، ص 9 - 10؛ ابن عذاري (برواية الرازي) ج 2، ص 8 - 9؛ المقري (برواية الرازي) ج 1، ص 260. (¬41) أخبار مجموعة، ص 9 - 102؛ فتح الأندلس، ص 9؛ ابن عذاري، ج 2، ص 9 - 11. (¬42) ابن القوطية، ص 9؛ الرقيق، ص 76؛ ابن الشباط، ص 115 - 116.

الوادي الكبير. وقد وجد بأن حاكم المدينة القوطي ما يزال هناك ترافقه حامية مؤلفة من أربعمائة إلى خمسمئة ؤجل، أما بقية السكان فقد غادروا إلى طليطلة. ولكن مغيثاً أفلح في اقتحام المدينة بسبب وجود ثغرة في أسوارها، فانسحب حاكمها مع حاميته، وتحصنوا في كنيسة تقع خارج الأسوار تدعى شنت أجلح San Acisclo، حيث ضُرب عليهم الحصار هناك لمدة ثلاثة أشهر. وعندما أيقن هؤلاء بعدم قدرتهم على الاستمرار في المقاومة، حاول حاكمهم الهروب إلى طليطلة، لكنه وقع في أسر مغيث، وأبيدت الحامية بأجمعها. ثم وضع مغيث ترتيبات الدفاع عن المدينة وإدارتها، وتذكر المصادر أنه جمع كل يهود المدينة، وعهد إليهم بالاشتراك مع المسلمين بمهمة الدفاع عنها (¬43). وتشير مصادرنا العربية إلى التعاون بين اليهود والعرب أثناء فتح الأندلس، وأنهم، أي العرب، كرروا ما فعلوه في قرطبة مع بقية المدن الاسبانية الأخرى، فحين يتم فتح أية مدينة، كانوا يعمدون إلى ضم سكانها اليهود إلى جملة المدافعين عنها (¬44). بطبيعة الحال فإن التضييق الشديد الذي لاقاه اليهود على يد ملوك القوط الغربيين، جعلهم يميلون إلى العرب والمسلمين، الذين وثقوا بهم، وعاملوهم معاملة طيبة جداً، وخلصوهم من العذاب الذي كانوا فيه. إن موقف العرب النبيل، والتسامح الذي مارسوه مع اليهود في إسبانيا، بل في معظم المناطق التي شملتها الدولة العربية الإسلامية في العصور الوسطى، قوبل مع الأسف بنكران وجحود من قبل الصهيونية العالمية التي شردت أبناء العرب واغتصبت أرضهم في فلسطين. ومع هذا فعلى المرء أن يتوقع بأن قصة التعاون الذي ساهم به اليهود في الفتح قد بولغ فيها كثيراً، لا سيما من قبل بعض المؤرخين الاسبان (¬45). والغرض من هذا واضح، وهو محاولة التلميح إلى أن العرب لم يتمكنوا من فتح إسبانيا لولا مساعدة اليهود. والتآمر معهم على دولة القوط. وهذا بطبيعة الحال غير صحيح كما أسلفنا في ¬_______ (¬43) أخبار مجموعة ص 13 - 14؛ فتح الأندلس، ص 8؛ ابن عذاري، ج 2، ص 9 - 10. وقارن: سالم، المرجع السابق، ص 84 - 89. (¬44) ابن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق: محمد عبد الله عنان، القاهرة، 1973، ج 1، ص 101 (برواية ابن القوطية)؛ وانظر: أخبار مجموعة، ص 12، 14، 16؛ ابن عذاري، ج 2، ص 12. (¬45) Cf. R. Amador de los Rios, Historia social, Politica Y religion de los judios de Espana Y Portugal, Madrid, 1875-76, vol. I p. 107; A Ballesteros Y Beretta, Historia de Espana Y su influencia in la historia Universal, vol. II, p. 107.

الفصل الأول، لأن اليهود ساعدوا العرب بعد دخولهم الفعلي إلى إسبانيا، ولم يكن هناك اتفاق سابق أو مؤامرة مدبرة لتسليم إسبانيا إلى العرب. فتح طليطلة وما يجاورها: سار طارق من استجة في طريقه إلى طليطلة عبر الطريق الروماني القديم الذي يمر بمدينة جيان Jaen، والذي يدعى هانيبال Anibal. فعبر نهر الوادي الكبير عند مَنْجيبار Mengibar، وتقدم إلى الشمال (¬46). وعندما وصل إلى طليطلة، وجدها خالية إلا من بعض اليهود، ووجد حاكمها قد انسحب إلى مدينة أخرى خلف الجبال. وقد سار طارق لملاحقة الهاربين، مخلفاً وراءه بعض الجنود الذين تولوا مسؤولية الدفاع عن المدينة. واتخذ طريق وادي الحجارة Guadalajara، فوصل إلى مدينة تسمى مدينة المائدة (¬47)، ويحتمل أنها قلعة هنارس Alcala de Hanares التي تقع شمال شرقي مدريد الحالية (¬48). أما اسم المائدة فهو مشتق من "مائدة" ثمينة صنعت من الذهب والفضة ومن معادن نفيسة أخرى، عثر عليها طارق بن زياد، وهي، كما يُروى، تعود إلى سليمان بن داود عليهما السلام (¬49). وقصة المائدة كما يبدو ما هي إلا محض أسطورة وإن ما عثر عليه طارق لا يعدو أن يكون مذبحاً لكنيسة طليطلة حُمل إلى هذا المكان من قبل الهاربين والقساوسة (¬50). وعلى أية حال، فبعد فتح قلعة هنارس ووادي الحجارة، غنم طارق هذه "المائدة" مع الكثير من التحف الثمينة الأخرى. ولم يستمر في التقدم إلى أبعد من هذا المكان، بل عاد إلى طليطلة في سنة 93 هـ (المبتدئة بتشرين الأول 711 م)، وقضى فصل الشتاء هناك (¬51). ومع هذا فهناك روايات أخرى تشير إلى أنه استمر في فتوحه، فوصل إلى جليقية Galicia، واسترقة Astorga، وما يجاورها من مناطق (¬52)، الأمر الذي يصعب تصديقه، بسبب اطلالة الشتاء وصعوبة تضاريس المنطقة. ¬

____ (¬46) المقري (برواية الرازي) ج 1، ص 261. (¬47) ابن القوطية، ص 9؛ ابن عذاري، ج 2، ص 12. (¬48) Saavedra, op. cit., p. 79. (¬49) ابن عبد الحكم، ص 207؛ أخبار مجموعة، ص 15؛ فتح الأندلس، ص 9. (¬50) انظر: المقري (برواية ابن حيان) ج 1، ص 272؛ وقارن؛ مؤنس، فجر الأندلس، ص 78 - 79. (¬51) أخبار مجموعة، ص 15؛ ابن الأثير، ج 4، ص 564؛ ابن عذاري، ج 2، ص 12. (¬52) ابن القوطية، ص 9؛ ابن الأثير، ج 4، ص 564؛ المقري، ج 1، ص 265.

ج - حملة موسى بن نصير: لقد كان رد الفعل لنجاح حملة طارق عظيماً في شمال أفريقيا، فبعد سماعهم بالنصر الذي أحرزه طارق على لذريق في موقعة كورة شذونة، اتجه البربر إلى إسبانيا من كل صوب، وعبروا المضيق بكل ما وقعت عليه أيديهم من قوارب ومراكب. وبعد وصولهم مباشرة، بدأوا بالاستقرار في المناطق السهلة من البلاد، لا سيما تلك التي هجرها السكان المحليون الذين هربوا إلى القلاع والحصون المنيعة (¬53). وعندما وصلت هذه الأنباء، وأحداث النجاح الباهر الذي حققه طارق في إسبانيا، إلى اسماع موسى بن نصير في القيروان، قرر أن يزحف بجيش عربي كبير إلى شبه الجزيرة ليتم عمل طارق وينهي المقاومة القوطية المتبقية. وتشير إحدى الروايات إلى أن طارقاً أسرع بعد انتصاره على قوات القوط الغربيين بإشعار موسى بن نصير بالنصر الذي أحرزه، وسأله القدوم للنجدة بإمدادات جديدة (¬54). أما الروايات التي تصور عبور موسى على أنه نوع من الحسد لطارق خشية أن يحصل وحده على شرف الفتح وغنائمه، فلا نصيب لها من الصحة، لأن طارقاً كان أحد قادة موسى وما يفتتحه فهو باسم أميره ولمصلحة الدولة العربية الإسلامية التي ينتمي إليها الاثنان. يضاف إلى ذلك أن موسى بن نصير، كان أعظم من أن يحسد أحد رجاله، وهو القائد العظيم الذي حرر الشمال الأفريقي بأسره، وجاهد في سبيل نشر مبادئ الحق والعدل التي حملها العرب إلى الأمم المختلفة. إن حملة موسى بن نصير لا يمكن أن تفسر إلا على ضوء المصلحة العامة التي اقتضت تثبيت الفتح وتعزيزه، ونجدة الجنود المسلمين الذين اتخذوا زمام المبادرة بالعبور إلى إسبانيا في الحملة الأولى. ولما كان موسى بعيداً في القيروان، فإن تصوره عن ظروف عبور طارق ووضعه في الأندلس لم يكن واضحاً تماماً، ولهذا، فقد كتب إليه يلومه على مبادرته بالهجوم دون تلقيه الأوامر منه، وأرسل إليه تعليمات بعدم التحرك من مواقعه التي هو فيها حتى يلحق به (¬55). ولكن طارقاً لم يستطع تنفيذ هذا الأمر بسبب ¬_______ (¬53) المقري (برواية الرازي) ج 1، ص 259. (¬54) الإمامة والسياسة، منسوب لابن قتيبة، نشر ملحقاً لكتاب ابن القوطية، ص 124؛ قارن: مؤنس، فجر الأندلس، ص 89. (¬55) ابن عبد الحكم، ص 207؛ البلاذري، فتوح البلدان (برواية الواقدي)، ص 230 - 231؛ الرقيق، ص 76؛ المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، أمستردام، 1968، ص 7 - 8؛ ابن عذاري، ج 2، ص 13.

المقاومة القوطية، والجيوب التي كان لا بد من القضاء عليها بسرعة، لا سيما في طليطلة وما يجاورها. وصل موسى بن نصير إلى الأندلس في رمضان سنة 93 هـ/ حزيران - تموز 712 م. وكان يرافقه جيش عربي يقدر عدده بنحو ثمانية عشر ألف رجل. وكان معظم هؤلاء من القبائل اليمنية، وبقية العشائر العربية الأخرى التي كانت موجودة فعلاً في شمال أفريقيا، وبشكل خاص في القيروان. وضمت الحملة أيضاً أعداداً كبيرة من رجال قريش البارزين، الذين كانوا في مناصب القيادة، إضافة إلى الإداريين، ورجال الدين، وبقية القادة المحنكين من أمثال محمد بن أوس الأنصاري، وحبيب بن أبي عبدة الفهري، وعياش بن أخيل، وعبد الجبار بن أبي سلمة الزهري، والعديد من أبناء موسى نفسه، باستثناء عبد الله، الذي تخلف في القيروان ليتولى مسؤولية ولاية شمال أفريقيا (¬56). لقد قسم موسى جيشه إلى وحدات عديدة تبلغ أكثر من عشرين وحدة، كل وحدة تحت راية. وكانت اثنتان من هذه الرايات تحت قيادة موسى المباشرة، بينما تولى ابنه عبد العزيز قيادة راية ثالثة. أما بقية الرايات، فكانت بقيادة قواده من قريش ومختلف العشائر العربية الأخرى. وقد عسكرت الحملة بالقرب من الجزيرة الخضراء لعدة أيام من أجل الراحة والاستعدادات العسكرية. وعندما قرر موسى السير، استشار قواده بشأن الطريق التي يجب سلوكها. وقد اتفق الجميع أن يبدأوا بمنطقة أشبيلية، وبقية الأجزاء الغربية الأخرى، التي لم يفتتحها بعد طارق بن زياد. وقبل أن يغادر موسى الجزيرة الخضراء، أمر بإرساء الحجر الأساس لبناء مسجد هناك تخليداً لذكرى حملته هذه، سمي بمسجد الرايات (¬57). خط سير حملة موسى: لقد كان لأدلاء جوليان وأعوانه دوراً كبيراً في تعريف موسى بن نصير بالطريق الجديدة والمدن غير المفتوحة، وهكذا فقد سارت الحملة بالقرب من شذونة، ثم زحفت شمالاً إلى قرمونة Carmona. ونظراً لقوة هذه المدينة وحصانتها، كان على موسى أن يستعمل الحيلة في فتحها، فأرسل إليها بعض أتباع جوليان الذين أظهروا لأهل ¬_______ (¬56) ابن عبد الحكم، ص 207؛ الرقيق، ص 76؛ المقري (برواية الرازي) ج 1، ص 277. (¬57) محمد عبد الوهاب الغساني؛ رحلة الوزير في افتكاك الأسير، مخطوط المكتبة الوطنية بمدريد، رقم 5304، ص 99؛ الرسالة الشريفية، منشورة مع كتاب ابن القوطية، ص 197 - 198.

خَارطة الأندلس.

المدينة على أنهم أصدقاء جاؤوا فراراً من العرب، فسمح لهم القوط بدخول المدينة. ولكن ما إن حل الليل، حتى فتح هؤلاء الأبواب للعرب، فهجموا على الحراس، وفتحوا المدينة. وبعد ذلك تقدم موسى إلى قلعة رعواق Alcala de Guadaira، ففتحها (¬58)، ثم سار إلى أشبيلية التي قاومت هجوم الجيش العربي الإسلامي لعدة شهور، ولكنها أخيراً فتحت عنوة، وفرت حاميتها إلى باجة Beja. وترك موسى قوة من جنده للدفاع عن المدينة، ثم سار إلى ماردة. وتذكر بعض الروايات الأخرى، أن موسى لم يذهب مباشرة إلى ماردة، بل لاحق فلول المنهزمين غرباً إلى لبلة Niebla، واكشونبة Ocsconoba، وباجة في جنوب البرتغال (¬59). وبعد أن تم فتح هذه المدن، سار موسى باتجاه ماردة Merida، وضرب عليها الحصار، ولكن جنود القوط قاوموا الهجوم العربي الإسلامي، مما أدى إلى سقوط بعض الشهداء في صفوف جيش موسى. وأخيراً وبعد مقاومة دامت عدة أشهر استسلمت المدينة في شوال 94 هـ/ تموز 713 م. وقد رافق هذا الاستسلام عقد معاهدة بين الطرفين، تعهد العرب بموجبها بعدم التعرض بالأذى للسكان المحليين الذين يبقون في المدينة أو يغادرونها إلى أي مكان آخر (¬60)، كما ضمنت لهم حرياتهم وكنائسهم وأداءهم لطقوسهم الدينية، كما هو معروف عن التسامح العربي مع الشعوب التي يحررونها. ومن جهة أخرى ضمنت هذه المعاهدة للمسلمين ممتلكات الذين قتلوا في الحرب. والهاربين من القوط إلى منطقة جليقية في الشمال الغربي من البلاد. توجه موسى بعد شهر من فتح ماردة إلى طليطلة. وعندما سمع طارق بقدومه خرج هو وقواده للترحيب به. ولقال أن اللقاء بين الاثنين تم في مكان يدعى المعرض Almaraz، بين نهري تاجة والتيتار Tietar، قرب طلبيرة Talavera غربي طليطلة (¬61). وقد عاتب موسى قائده على مباشرته الفتح دون استشارة رئيسه الأعلى، وعلى عدم ¬_______ (¬58) فتح الأندلس، ص 10؛ أخبار مجموعة، ص 17 - 18. (¬59) الغساني، المصدر السابق، ص 99 - 100؛ الرسالة الشريفية، ص 198 - 199. (¬60) انظر نص الرازي المنشور من قبل جاينجوس بالاسبانية تحت عنوان: La cronica del Moro Rasis, Memoria sobre la autenticidad de la cronica denominada del Moro Rasis, Memorias de la Real Academia de la Historia, VIII, Madrid, 1852, pp. 67-100, p. 78. (¬61) ابن عبد الحكم، ص 207؛ أخبار مجموعة، ص 18؛ ابن عذاري، ج 2، ص 16.

تنفيذه أوامره بالتوقف لحين وصوله إليه، ولكن طارقاً، كما يبدو، استطاع أن يبرر ما قام به، وأن يقنع موسى بوجهة نظره في الفتح، وسرعة القضاء على بقايا القوط من أجل توفير المناخ الملائم للعرب والمسلمين للاستقرار في المناطق المفتوحة. ويدل على هذا، التفاهم المتبادل، والتعاون المشترك الذي ساد بين القائدين خلال فتوحاتهما المشتركة المقبلة (¬62). فتوحات موسى وطارق المشتركة في الشمال: مضى القائدان إلى طليطلة، وربما تم من هناك إرسال وفد إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، كانت مهمته نقل أخبار الفتح إلى دمشق (¬63). وفي بداية ربيع عام 714 م/94 هـ، تحركت القوات المشتركة لموسى وطارق نحو الشمال الشرقي، ففتحا سرقسطة وما يجاورها، واستمرا في التقدم، فوقع العديد من المدن الاسبانية الأخرى بأيديهما مثل، طركونة Tarragona، وبرشلونة Barcelona، ولاردة Lerida، ووشقة Huesca (¬64) . وذكر بعض المؤرخين، ومنهم ابن حيان، أن موسى عبر جبال ألبرت Pyrenees، وتوغل في داخل فرنسا حتى بلغ نهر الرون Rhone (¬65) . ويقول آخرون إنه أراد أن يكمل زحفه عبر أوروبا حتى يصل إلى القسطنطينية عن طريق الغرب (¬66)، ويصعب تصديق مثل هذه الروايات التي تفتقر إلى الأدلة التاريخية، وبخاصة أنها لم يرد لها ذكر في الحوليات المسيحية المعاصرة للأحداث. بعد فتح سرقسطة والجزء الأكبر من منطقة الشمال الشرقي لشبه الجزيرة الآيبيرية، قرر موسى أن يفتتح مناطق قشتالة القديمة Castilla la Vieja، فقسم جيشه إلى قسمين: أسندت قيادة الأول إلى طارق بن زياد، أما الثاني، فظل تحت إمرة موسى نفسه (¬67). ¬_______ (¬62) انظر: عبد الواحد طه، المرجع السابق، ص 181. (¬63) ابن عبد الحكم، ص 210؛ الإمامة والسياسة، ص 126. Cf, Livemore, op. cit., p. 297. (¬64) لمزيد من التفصيلات عن فتح هذه المناطق، انظر: خليل إبراهيم صالح السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ودراسة في أحواله السياسية، بغداد، 1976، ص 71 فما بعدها. (¬65) المقري (برواية ابن حيان) ج 1، ص 273 - 274. (¬66) ابن حبيب، ص 227؛ الحميري، ص 27؛ ابن خلدون، ج 4، ص 255. (¬67) قارن مؤنس، فجر الأندلس، ص 104، سالم، المرجع السابق، ص 102. Saavedra, op. cit., pp. 114-115.

ومضى طارق بمحاذاة الجهة الشمالية لوادي نهر الابرة، فهاجم منطقة الباسك، ثم افتتح أماية Amaya، واسترقة Astorga، وليون Leon (¬68) . أما موسى فسار ببقية الجيش إلى الجنوب من وادي الابرة، ففتح لك Lugo، وباشر بإرسال حملات صغيرة لافتتاح المناطق المجاورة حتى صخرة بلاي Pena de Pelayo على المحيط الأطلسي (¬69). وفي أثناء هذه الفتوحات، كان كل من موسى وطارق يقومان بوضع حاميات إسلامية في المناطق المحررة، وقد ورد ذكر إحدى هذه الحاميات في حولية مسيحية، حيث تشير إلى أن منوسة، Munnuz، أحد أصدقاء طارق، كان قد عُهد إليه بقيادة حامية مدينة خيخون Gijon التي تقع على ساحل المحيط الأطلسي (¬70). ويحتمل أن تكون فتوحات موسى قد غطت مناطق أخرى في شمال غرب شبه الجزيرة، ولكن لا توجد لدينا أدلة مدونة على ذلك. وعلى أية حال، فلقد حرر كل من موسى وطارق معظم جليقية والاشتوريش، وتعقبا الفلول الأخيرة لجيش القوط الغربيين، واضطروها للفرار حتى جبال كانتبريا. ومن ثم اعتقد القائدان أنهما قد أنهيا المقاومة القوطية، ولا حاجة لهما بتتبع الأعداد الضئيلة الباقية من المنهزمين. د - فتوحات عبد العزيز بن موسى: رافق موسى بن نصير، كما أسلفنا، العديد من أبنائه، ومن أشهرهم عبد العزيز، وعبد الأعلى، ومروان. ولقد لعب هؤلاء، وبشكل خاص، عبد العزيز، دوراً هاماً في فتح شبه الجزيرة. وعلى العموم فهناك نقص في المعلومات، وأحياناً تناقض في الروايات التي تتعلق بذكر تواريخ وأماكن حملات عبد العزيز بن موسى. لقد أرسل موسى ابنيه عبد العزيز وعبد الأعلى إلى جنوب وجنوب شرق إسبانيا، وذلك لاستكمال فتح هذه الجهات التي لم يمر بها طارق بن زياد. وكان هذا على الأغلب بعد سقوط أشبيلية، عندما اتجه موسى إلى الغرب. فاستطاع عبد الأعلى، وربما كان ذلك بمساعدة عبد العزيز أيضاً، أن يفتتح كلاً من مالقة Malaga، والبيرة Elvira (¬71) . ثم توجه عبد العزيز بعد ذلك إلى شرق شبه الجزيرة، حيث تركزت المقاومة القوطية في هذه المنطقة ¬_______ (¬68) ابن القوطية، ص 9؛ أخبار مجموعة، ص 15؛ المقري، ج 1، ص 265. وانظر: خليل السامرائي، المرجع السابق، ص 82. (¬69) ابن الأثير، ج 4، ص 566؛ المقري، ج 1، ص 276. (¬70) The Chronicle of Alfonso III, p. 612. (¬71) الإحاطة في أخبار غرناطة، ج 1، ص 101؛ المقري، ج 1، ص 275.

في كورة تدمير، التي أسماها المسلمون بهذا الاسم نسبة إلى أميرها الدوق تُدْمير Theodemir. والتقى عبد العزيز بحاكم هذه المقاطعة قرب أوريولة Orihuela. وكان هذا الأخير رجلاً حازماً وذا خبرة عظيمة في تقدير الأمور، فقاوم لفترة قصيرة هجوم عبد العزيز، لكنه توصل أخيراً إلى عقد معاهدة صلح معه في رجب عام 94 هـ/ نيسان 713 م (¬72). وبموجب هذه المعاهدة التي ذكر تفاصيلها المؤرخون العرب، حصل تدمير على شروط مناسبة جداً للصلح، فقد اعترف به العرب حاكماً على سبع مدن تقع ضمن منطقته، كما احتفظ بإدارته الداخلية لهذه المدن، شريطة أن يدفع جزية سنوية تقدر بدينار ذهبي واحد، مع كميات معلومة من القمح، والشعير، والخل، والعسل، والزيت، لكل فردٍ حرٍ مع أفراد رعيته، أما العبيد، فتؤخذ عنهم نصف هذه الكمية. وقد وافق تدمير أيضاً على ألاّ يقوم أحد من رعيته بتجاهل هذه المعاهدة أو الإخلال بشروطها، وألاّ يأووا للمسلمين آبقاً، ولا عدواً، ولا يكتموا عنهم خبراً يتعلق بأعدائهم. وبالمقابل فإنهم لن يقتلوا، ولن يُسبوا، أو يُجرّدوا من ممتلكاتهم، أو يُفرّق بينهم وبين أولادهم ونسائهم، وسوف يُسمح لهم بممارسة شعائر دينهم، ولن تُحرق كنائسهم (¬73). وتعدُ هذه المعاهدة من المعاهدات الفريدة في تاريخ الفتوحات العربية الإسلامية لأنها وصلتنا كاملة، وهي تشير بصراحة إلى مدى التسامح الذي تميز به العرب إزاء الشعوب المحررة، واحترام حقها في الإدارة، وفي العيش بحرية ضمن المجتمع الإسلامي الذي أعقب الفتح. وبعد إقرار الأمور في جنوب شرق شبه الجزيرة، عاد عبد العزيز، إما حسب رغبته، أو لأن والده استدعاه بسبب تمرد مدينة أشبيلية. ولقد أيدت هذا التمرد عناصر قوطية جاءت من مدينتي نبلة وباجة، فهاجموا الحامية العربية الإسلامية في المدينة، وقتلوا ثمانين رجلاً، وفر الباقون إلى معسكر موسى الذي كان محاصراً لمدينة ماردة. وبعد استسلام هذه المدينة، قاد عبد العزيز حملة إلى أشبيلية، وتمكن من إعادة فتحها بسهولة (¬74). ثم سار بعد ذلك إلى نبلة وباجة لتقوية حاميتيهما. وقد عاد عبد العزيز إلى أشبيلية، ومن ثم إلى ماردة، حيث تولى القيادة العامة لكل المناطق المحررة في هذه ¬_______ (¬72) أخبار مجموعة، ص 12 - 13؛ The Chronicle of 754, p. 149 (no. 38) (¬73) الضبي، بغية الملتمس، نشره فرانشيسكو كوديرا، مدريد، 1884، ص 259؛ العذري، نصوص عن الأندلس من كتاب ترصيع الأخبار وتنويع الآثار، تحقيق: عبد العزيز الأهواني، مدريد، 1965، ص 4 - 5؛ الحميري، ص 62 - 63، 151 - 152. (¬74) أخبار مجموعة، ص 18؛ ابن عذاري، ج 2، ص 5؛ المقري (برواية ابن حيان) ج 1، ص 271.

المنطقة. ويرى سافيدرا، ويؤيده في ذلك أحد المستشرقين البرتغاليين، أن عبد العزيز ابتدأ من هنا حملته لفتح وسط البرتغال، في الوقت الذي كان فيه موسى وطارق يقومان بفتوحاتهما في الشمال، ففتح عدة مدن، وعقد معاهدات صلح مع يابرة Evora، ولشبونة Lisbon وقلمرية Coimbra، وشنترين Santarem (¬75) . وصلت إلى دمشق أنباء فتوحات موسى بن نصير وعزمه على التوغل بعمق في شبه الجزيرة الآيبيرية، فلم يوافق الخليفة الوليد الأول على هذا المشروع، وخشي على أرواح المسلمين من العواقب التي يصعب التكهن بها نتيجة لتوغل موسى البعيد في أرض الأعداء. فأرسل لاستدعاء كل من موسى وطارق من دمشق، وقد تلكأ موسى بن نصير في تنفيذ الأمر، وذلك لاستكمال فتح المناطق الشمالية الغربية من البلاد. ولكن الخليفة أرسل رسولاً ثانياً يأمره بالتوقف والعودة حالاً إلى العاصمة. وتنفيذاً لهذا الأمر، عاد موسى وطارق، أما غالبية جنودهما ففضلوا البقاء في المدن والأرياف المفتوحة، حيث استقروا وأقاموا منازلهم (¬76). وقبل رجوعه، عين موسى ابنه عبد العزيز والياً على الأندلس، وترك معه بعض القادة العرب من أمثال حبيب بن أبي عبيدة الفهري، وزياد ابن النابغة التميمي، وغيرهما مع رجال عشائرهم، ليدافعوا عن البلد ويحموه. وقد اختار موسى، أشبيلية عاصمة للبلاد، وذلك بسبب قربها من البحر، ومضيق جبل طارق، كما جعلها أيضاً قاعدة بحرية للدولة العربية الإسلامية في الأندلس (¬77). غادر موسى في ذي الحجة سنة 95هـ/ أيلول 714 م، ومعه الشيء الكثير من الغنائم والأسرى والهدايا الثمينة. وتروي المصادر أنه حينما اقترب من فلسطين طلب منه الأمير سليمان بن عبد الملك أن يتريث قليلاً لحين وفاة الخليفة الوليد الذي كان مريضاً جداً، وذلك من أجل أن تؤول إلى سليمان الغنائم وشرف الفتح، ولكن موسى لم يقبل هذا، وواصل سيره إلى دمشق فبلغها والخليفة يحتضر (¬78). وعندما تولى سليمان بعد أخيه ¬_______ (¬75) J. D Garcia Domingues, "Invasao e conquista de Lustania Por Muca Ben Nocair e seu Filho "Abdalaziz" Congreso de Estudios Arabes e Islamicos, Actas, held, Cordoba, 1964, pp. 224-225. (¬76) المقري (برواية ابن حيان) ج 1، ص 276. (¬77) نفس المصدر والمكان؛ أخبار مجموعة، ص 19؛ الرسالة الشريفية، ص 210. (¬78) ابن الكردبوس، ص 50؛ ابن عذاري، ج 2، ص 20؛ المقري، ج 1، ص 280 - 281.

حقد على موسى لهذا السبب، فاضطهده، واتهمه باختلاس الأموال، وصادر أمواله، وفرض عليه غرامة مالية كبيرة (¬79). ومع هذا، فلا يمكن للمرء أن يصدق أن سبب غضب سليمان على موسى، كان له علاقة بهذه المسألة الشخصية، فهو يعود بالدرجة الأولى إلى سياسة موسى بن نصير أثناء فتح الأندلس، وتباطئه في إطاعة أوامر الخلافة. ويدل على هذا الأمر أن الخليفة الوليد نفسه لم يقابله مقابلة حسنة للسبب ذاته (¬80). وعلى أية حال، فإن علاقة سليمان تحسنت مع موسى إلى درجة كبيرة فيما بعد، حتى أنهما ذهبا سوية لأداء فريضة الحج. وقد توفي موسى في الحجاز عام 97هـ أو 98هـ/ 715 م أو 716 م (¬81). ولا تتوفر لدينا معلومات عن طارق بن زياد بعد وصوله إلى دمشق باستثناء أن الخليفة سليمان أراد أن يعينه والياً على الأندلس، لكنه عدل عن هذه الفكرة، متأثراً بنصيحة مغيث الرومي الذي أثار مخاوف الخليفة من نفوذ طارق واحتمال استقلاله بالأندلس (¬82). وهكذا غلف الصمت والغموض نهاية طارق الذي يعد، هو وقائده، موسى بن نصير مِن أعظم مَن أنجبتهما الأمة العربية الإسلامية من الفاتحين الذين ضربوا المثل في الشجاعة والحنكة السياسية والعسكرية. ولقد كان فتحهما وتحريرهما للأندلس بحق من معجزات قوة العرب والمسلمين الموحدة، والتي أنجزت في نحو أربع سنوات ما تعجز عنه الأمم في عشرات من السنين. ¬_______ (¬79) الرقيق، ص 91؛ أخبار مجموعة، ص 29 - 30؛ ابن عذاري، ج 2، ص 21. (¬80) المصدر نفسه، ج 2، ص 21 - 22؛ ابن عبد الحكم، ص 213. (¬81) المصدر نفسه، ص 213؛ المقري، ج 1، ص 287. (¬82) المصدر نفسه، ج 3، ص 13.

الفصل الثالث النشاط الحربي للعرب في شمال إسبانيا والتوغل في فرنسا

الفَصْلُ الثَّالِث النشاط الحربي للعرب في شمال إسبانيا والتوغل في فرنسا أ - فتوحات العرب في شمال إسبانيا وموقفهم من الإمارات الاسبانية الناشئة: لم يتمكن طارق وموسى من استكمال فتح المناطق الشمالية الغربية من شبه الجزيرة الآيبيرية، وذلك بسبب استدعائهما من قبل الخليفة الأموي إلى دمشق. ولم تتح الفرصة لعبد العزيز بن موسى في أثناء ولايته القصيرة أن يكمل مهمة والده في افتتاح المناطق الباقية. ومع هذا، فإن المؤرخين العرب يذكرون بأنه قد افتتح في ولايته مدناً كثيرة (¬1)، لكنهم لم يحددوا هذه المدن مما يشير إلى أن جهده في الفتوح لم يكن كبيراً. وقد حاول خليفته، أيوب بن حبيب اللخمي، أن يثبِّت السلطة العربية ويطهر المنطقة الشمالية من مقاومة القوط. ويدل على ذلك عنايته بهذه المنطقة وقيامه بإنشاء بلدة أطلق عليها اسم قلعة أيوب Calatayud، تقع إلى الشمال الشرقي من طليطلة (¬2). وعلى الرغم من هذا، فقد ظلت المناطق الشمالية الغربية العقبة الأساسية في سبيل استكمال فتح شبه الجزيرة بكاملها. وتعد هذه الأجزاء من المناطق الوعرة جداً لأنها تضم هضاب اشتوريش Asturias القاحلة. وقد اعتقد الفاتحون أنها ليست ذات أهمية بالنسبة إليهم فاغفلوها. وكان هذا خطأ كبيراً وقعوا فيه، لأن هذا الركن الشمالي الغربي، الذي يسمى جليقية، أصبح موطناً للشراذم المنهزمة من جيش القوط الغربيين. وقد تزعم هؤلاء، كما تذكر المصادر العربية، زعيم يدعى بلاي، اعتصم بهم في صخرة بلاي. وقد اطمأن بهم المقام في هذا المكان لبعده عن العرب الذين عجزوا عن الوصول إليه بسبب مناعة ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة، ص 21، ابن عذاري، ج 2، ص 24؛ المقري، ج 1، ص 281. (¬2) حسين مؤنس، فجر الأندلس، ص 244.

هذه الصخرة التي هي أعلى قمم جبال كنتبرية. وهكذا أصبح بلاي يشكل تهديداً خطيراً للمسلمين في الأندلس، وكان من الضروري أن تتخذ إزاءه إجراءات قوية (¬3). وقد أدرك أهل الأندلس هذا الخطر في عهد الوالي عُنبسة بن سُحيم الكلبي (103 - 107 هـ/ 721 - 726 م)، الذى أرسل حملة إلى هذه المنطقة للقضاء على المقاومة فيها. ولكن بلاي انسحب إلى المواقع الحصينة من الصخرة، وتحصن في مغارة كوفادونجا Govadonga، وتمكن من إحراز النصر على هذه الحملة وقتل الكثير من أفرادها (¬4). وفي عهد عقبة بن الحجاج السلولي (116 - 123 هـ/734 - 741 م)، الذي كان والياً حازماً وجه اهتمامه نحو الفتوح عبر جبال ألبرت والقضاء على المقاومة الاسبانية التي تركزت في جليقية، خرجت حملة إلى منطقة الشمال الغربي، وهاجمت منطقة جليقية. وقد استطاع عقبة أن يفتتح كل قرية من قراها، لكنه لم يستطع السيطرة على الصخرة التي امتنع فيها بلاي مع الناجين من أنصاره. وكان عدد هؤلاء نحو ثلاثمئة رجل. وقد حاصر المسلمون هؤلاء حتى هلك الكثير منهم من الجوع، وظل على قيد الحياة نحو ثلاثين رجلاً وعشر نساء. ويقال إن هؤلاء الأفراد اقتاتوا فقط على العسل الذي كانوا يستخرجونه من بعض المناحل المتوفرة في شقوق الصخرة. وبعد أن أعيا المسلمين أمرهم، وصعوبة الوصول إليهم، تركوهم "وقالوا: ثلاثون علجاً ما عسى أن يكون أمرهم واحتقروهم ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم" (¬5). والثابت على أي حال، كما يرى الدكتور حسين مؤنس (¬6)، أن العرب والمسلمين لم يتركوا هؤلاء، لأنهم هُزموا من قبل بلاي، أو لأنهم احتقروهم لقلة عددهم، بل لأن الفاتحين انصرفوا في أول أمرهم في الأندلس إلى المنازعات التافهة فأضعفوا أنفسهم، وأعطوا لهؤلاء الرجال فرصة قيمة ليثبتوا مقاومتهم، ويتحولوا من مجموعة صغيرة مُطارَدَة إلى دولة مستقرة. وقد أدى انصراف العرب عن القضاء على هذه الدولة، إلى وضع جديد في شبه الجزيرة الآيبيرية، ملخصه وجود قوتين في البلاد، الأولى هي الدولة العربية الإسلامية، والثانية، هي القوى الاسبانية. واستمر الصراع بين الطرفين إلى أن انتهى في الأخير لصالح القوى الاسبانية، وخروج العرب من الأندلس بعد مضي نحو ثمانية قرون من دخولهم إليها. ¬_______ (¬3) انظر: فتح الاندلس، ص 26؛ المقري (برواية ابن حيان) ج 3، ص 17. (¬4) The Chronicle of Alfonso III, pp. 614-615. (¬5) أخبار مجموعة، ص 28؛ ابن عذاري، ج 2؛ ص 29. (¬6) فجر الأندلس، ص 339.

لم تقتصر حركة المقاومة الاسبانية للفتح العربي الإسلامي على منطقة الصخرة في الأشتوريش، بل كانت هناك بؤر أخرى للمقاومة تركزت في جبال ألبرت، وامتدت على طول الساحل إلى الغرب في جبال كنتبرية. وقد تمركزت أول هذه التجمعات في الطرف الشرقي من هذه الجبال، تحت زعامة بطْرُة Pedro الذي أنشأ إمارة سميت بإمارة كنتبرية. وكان هذا التجمع قليل الأهمية في أول الأمر، ولكن أصبح له شأن كبير، خاصة بعد زواج ألفونسو الأول، ابن بطرة، من ابنة بلاي. وقد كانت هذه الإمارة، ومنطقة جبال ألبرت، وبلاد الباسك أو البشكنس، هدفاً للقوات الإسلامية المتجهة إلى جنوب فرنسا. فعندما سار عبد الرحمن الغافقي إلى فرنسا، اتخذ مدينة بنبلونة قاعدة له، فاستعرض فيها جنده وحثهم على الجهاد. وكذلك فقد هاجم كل من عبد الملك بن قطن في ولايته الأولى 114 - 116هـ/ 732 - 734 م، وعقبة بن الحجاج السلولي بلاد البشكنس ودخلا العاصمة بنبلونة (¬7). وتدل هذه الحملات المبكرة على بلاد البشكنس إلى ازدياد خطرهم، خاصة بعد اندحار المسلمين في معركة بلاط الشهداء سنة 114هـ/ 732 م. وقد اشتدت مقاومة البشكنس في عهد آخر ولاة الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري. وربما كان للنجاح الذي أحرزتهُ جماعة بلاي في جليقية أثر على ذلك (¬8). ويذكر مؤلف كتاب أخبار مجموعة، أن أهالي بنبلونة نقضوا عهدهم مع المسلمين بنقض أهل جليقية (¬9). ولهذا فقد أرسل إليهم يوسف الفهري حملة خرجت من مدينة سرقسطة. ولكن أبناء الباسك الجبليون استطاعوا التغلب على هذه الحملة التي كانت قليلة العدد (¬10). وهكذا ازدادت قوة المقاومة في هذه المنطقة في أواخر عصر الولاة، واستمرت خلال عصر الإمارة. ب - توغل العرب ونشاطهم فى جنوب فرنسا: تفصل جبال ألبرت أو البرتات، وهي التي تعرف خطأ باسم البرانس، إسبانيا عن جنوب فرنسا. وكانت هذه المنطقة الجنوبية من فرنسا تسمى بغالة Gaul. وهي تتألف من عدة ولايات، كولاية سبتمانية، وتعني المقاطعة ذات المدن السبع، منها أرْبُونة ¬_______ (¬7) أخبار مجموعة، ص 28؛ ابن عذاري، ج 2، ص 29. (¬8) خليل السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ص 100. (¬9) أخبار مجموعة، ص 76. (¬10) أخبار مجموعة، ص 76؛ دوزي، تاريخ مسلمي إسبانيا، ترجمة: حسن حبشي وآخرون، القاهرة، 1963، ج 1، ص 198 - 199.

Narbonne وهي عاصمة هذه الولاية، وقرقشونة Carcassonne وتقع دوقية أكيتانية إلى الشمال الغربي من ولاية سبتمانية، وعاصمتها برديل أو بوردو Bordeaux الواقعة على مصب نهر الجارون. ومن مقاطعات غالة الأخرى، إقليم بروفانس، الذي يقع إلى الشمال الشرقي من ولاية سبتمانية، وعاصمته مدينة أبنيون Avignon الواقعة على وادي رودنة أو الرون. وإلى الغرب من هذا النهر، يقع إقليم برغندية، وعاصمته مدينة لودون أو ليون Lyon. وكانت المنطقة الواقعة إلى الشمال من نهر اللوار خاضعة للدولة الميروفنجية (¬11). وتشير بعض الروايات العربية إلى أن موسى بن نصير وطارق بن زياد كانا أول من عبرا جبال ألبرت، ففتحا أراضي ومدناً في جنوب فرنسا، ومنها أربونة وأبنيون، وليون، حتى انتهيا إلى وادي رُودنة (¬12). وكما أسلفنا، فإن ما تذهب إليه هذه الروايات بعيد الاحتمال، ولا يتوفر لدينا ما يؤيد وصول هذين القائدين إلى هذه المناطق، لا سيما ونحن نعلم أن موسى اضطر إلى عدم استكمال فتوحه في شبه الجزيرة الآيبيرية ذاتها بسبب استدعاء الخليفة له. وهناك رواية مسيحية أخرى تشير إلى أن الحر بن عبد الرحمن الثقفي، الوالي الذي أعقب أيوب بن حبيب اللخمي، قد توغل عبر جبال ألبرت وافتتح أربونة عاصمة غالة (¬13). ويذكر المؤرخ الاسباني رامون عبد ال R. Abdal إن الحر قد فتح قطلونية Catalonia وبرشلونة في الشمال الشرقي من إسبانيا ووصل إلى جبال ألبرت (¬14). ولكن لا توجد أية إشارات في بقية المصادر المسيحية، أو في المصادر العربية القديمة تؤيد هذه الفتوحات، ولهذا فمن الصعب التعويل على ما جاء في هذه الروايات. الفتوح في عهد السمح بن مالك الخولاني: تتفق معظم المصادر على أن نشاط حركة الفتوح عبر جبال ألبرت ابتدأ في عهد السمح بن مالك الخولاني (100 - 102 هـ/ 719 - 721 م) الذي عينه الخليفة عمر بن عبد ¬_______ (¬11) انظر: سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، ص 137. (¬12) المقري (برواية ابن حيان) ج 1، ص 273 - 274. (¬13) The Chronicle of 754, p. 151 (no. 43) (¬14) R. Abdal, "El paso Septimania del dominio godo al franco a traves de la invasion sarracena (720-768) ", Cuadernos de Historia de Espania, XIX, 1953, p. 16.

العزيز ليكون والياً للأندلس بدلاً من الحر بن عبد الرحمن الثقفي، لنزاهته وشدة إيمانه. وما أن استقر السمح في الولاية وقضى على بعض الاضطرابات الداخلية، وأصلح الأمور الإدارية، وقام ببعض الاصلاحات العمرانية (¬15)، حتى بادر بالنهوض إلى الفتح والجهاد في جنوب فرنسا، وذلك من أجل توحيد طاقات العرب والمسلمين في الأندلس مرة أخرى وتوجيهها نحو الأعداء في بلاد الفرنجة. شرع السمح بسلسلة من الحملات والفتوح في غالة، فسار بجيش كبير عبر منطقة سرقسطة، واجتاز جبال ألبرت إلى أن أصبح أمام أربونة عاصمة ولاية سبتمانية، فحاصرها وافتتحها عنوة. ثم حصّن أسوارها ووضع فيها وفي المدن المجاورة لها الحاميات. ثم توغل من هذه المدينة إلى داخل غالة حتى وصل إلى طولوشة Toulouse. وفي محاولة لافتتاح هذه المدينة بالقوة، أحاطها المسلمون بالخنادق والمنجنيقات وسائر أدوات الحصار، حتى أوشك أهلها على التسليم. وعندما سمع الدوق أودو Eudo، دوق أكيتانية، بهذا سار مسرعاً نحو المدينة، واشتبك مع الجيش العربي الإسلامي في معركة حامية بالقرب من مدينة طولوشة، أسفرت عن هزيمة السمح واستشهاده مع الكثير من رجاله (يوم عرفة سنة 102هـ/15 حزيران 721 م). وقد استطاع مساعده، القائد عبد الرحمن الغافقي، أن يقود فلول الباقين من الجيش الإسلامي ويرجع بهم إلى أربونة، ومن ثم إلى الأندلس (¬16). وعلى أثر هذه الهزيمة تشجع أهالي المنطقة لخلع طاعة العرب، لكن هؤلاء كانوا لا يزالون متمكنين من أربونة، وقد جاءتهم نجدات من الأندلس، فثبتوا في المناطق التي تم فتحها على يد السمح بن مالك (¬17). وظلت أربونة قاعدة للفتوح والجهاد في جنوب فرنسا، ولعل قربها من البحر وسهولة تلقي المسلمين الإمدادات عن طريق الأساطيل بدلاً من عبور جبال ألبرت، هو الذي ¬_______ (¬15) أخبار مجموعة، ص 24؛ فتح الأندلس، 25؛ ابن عذاري، ج 2، ص 26. (¬16) راجع عن فتوحات السمح: فتح الأندلس، ص 25، ابن عذاري، ج 2، ص 26، المقري، ج 1، ص 235،ج 3، ص 15. The Chronicle of 754, p. 152 (no. 48) ; M. Rinaud, "Incursions of the Muslims into France, Piedmont and Switzerland", translated from the French by: Harun Khan Sherwani, Islamic Culture, IV, 1930, pp. 261-263. وانظر: ترجمة عربية لبعض نصوص رينو ينقلها شكيب أرسلان، في كتابه تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط، مصر، 1352هـ، ص 64 - 71. (¬17) المرجع نفسه، نقلاً عن رينو، ص 72.

أدى إلى تمسك المسلمين بهذه المدينة. يضاف إلى ذلك، أن مناخ أربونة يشبه مناخ المدن العربية، أي أنها لطيفة الشتاء، حارة القيظ لولا نسمات البحر المجاور. وتكثر فيها حاصلات المناطق الحارة مثل الكروم والتين والزيتون والصبير (¬18). ونتيجة لهذا، فقد عُدت أربونة أقصى ثغور الأندلس، تتجمع فيها النجدات والحملات المتجهة إلى فرنسا، بعد أن تمر بالقاعدة الجنوبية الأخرى، وهي برشلونة في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة الآيبرية (¬19). الفتوح فى عهد عنبسة بن سحيم الكلبي: أقام الجنود الراجعون من الحملة على جنوبي فرنسا عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي والياً على الأندلس، وكانت هذه ولايته الأولى التي لم تستمر سوى فترة قصيرة جداً (من ذي الحجة 102 - صفر 103 هـ/ حزيران 721 - آب 721 م)، وذلك لأن عامل افريقية استبدله بوال آخر هو عنبسة بن سُحَيم الكلبي الذي وصل الأندلس في صفر 103 هـ/ آب 721 م (¬20). وكانت الأندلس تعاني من الاضطراب بسبب الهزيمة التي أصابت المسلمين في جنوب فرنسا، وبسبب النزاع المستمر بين القبائل العربية. لذلك فقد قضى عنبسة فترة السنوات الأولى من ولايته في تنظيم وتهدئة البلاد. ويضاف إلى ذلك، أنه وجه جهوده للقضاء على التمرد في جليقية، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. وكان عنبسة ذا حماس للفتوح، وللسير في الطريق التي سلكها السمح من قبله. وكان يرمي إلى الحفاظ على منطقة غالة القوطية، وحماية خطوط مواصلات العرب مع أربونة. ولهذا، فلم تكد الأمور تستقر له، حتى سار بجيش عظيم نحو بلاد غالة، أو جنوب فرنسا، وحاول تدعيم خط الدفاع أمام أربونة. فحاصر مدينة قرقشونة، وافتتحها بعد فترة وجيزة، وذلك بعد أن نزل المدافعون عن البلد على شروطه. فعقد معهم معاهدة صلح وافقوا بموجبها على منح نصف المدينة وما حولها للمسلمين، وأن يدفعوا الجزية، ويطلقوا سراح جميع الأسرى المسلمين الموجودين في المدينة، وأن يلتزموا بروح هذه المعاهدة، وذلك بمقاتلة أعداء المسلمين ومحالفة أصدقائهم (¬21). واستولى عنبسة بعد هذا على جميع غالة ¬_______ (¬18) المرجع نفسه، ص 64 - 65. (¬19) انظر: خليل السامرائي، المرجع السابق، ص 126 - 127. (¬20) ابن القوطية، ص 13؛ أخبار مجموعة، ص 24، ابن عذاري، ج 2، ص 27؛ المقري، ج 1، ص 235. (¬21) (ملحق رقم 4 لكتاب أخبار مجموعة). The Chronicle of Moissac, p. 165 وانظر: ابن عذاري، ج 2، ص 27، المقري، ج 1، ص 235.

القوطية، ووصل إلى نيمس Nimes، وأخذ رهائن من أهلها وأرسلهم إلى برشلونة، القاعدة الإسلامية في شمال شرق الأندلس. ومن هذا المكان سار المسلمون حتى أدركوا نهر رودنة، وصعدوا مع النهر إلى نهر الساؤون، ومن ثم توغلوا في إقليم برغندية وفتحوا مدينة أوتون Autun في 22 آب 725 م/ ربيع الثاني 107 هـ (¬22). ويذكر بعض المؤرخين أن حملة عنبسة استمرت في سيرها حتى وصلت إلى مدينة أوزة Uzes، وفيفيه Viviers وفالانس Valence وليون، وماسون Macon، وشالون Chalon. ومن هناك تفرعت إلى فرعين، سار الأول نحو ديجون Dijon وبيز Beze ولانجر Langres، واتجه الثاني إلى أوتون مرة أخرى، ولم يقف تيار هذه الحملة إلا قرب بلدة سانس Sens، على بعد ثلاثين كيلومتراً إلى الجنوب من باريس، وذلك بسبب تصدي أسقف سانس للمسلمين ووقفه لتقدمهم (¬23). وقد عاد عنبسة ومن معه من الجند، وذلك بعد أن وصلته أنباء بحدوث بعض القلاقل في البلاد. ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى الأندلس، فقد هاجمته في طريق العودة جموع كبيرة من الفرنج، فاستشهد نتيجة للمعركة التي حدثت بين الطرفين في شعبان 107 هـ/ كانون الأول 725 م. فقام القائد عذرة بن عبد الله الفهري -وتسميه المصادر المسيحية Hodera أو Hodeyra (¬24) - بقيادة الجيش والعودة به إلى قواعده. وهو الذي خلف عنبسة على ولاية الأندلس. ويبدو أن حملة عنبسة لم تكن ترمي إلى الفتح المنظم الثابت، والدليل على هذا أنه لم يضع الحاميات في بعض المدن التي افتتحها، ولم يعمل على استقرار المسلمين في هذه المدن. وهذا يشير إلى أن حملته لم تكن سوى حملة سريعة بعيدة المدى، قصد منها الاستطلاع والتعرف إلى البلاد تمهيداً لفتوحات لاحقة. "ولو استقر عنبسة في ليون مثلاً"، كما يقول أحد المؤرخين المحدثين، "أو في أحد مراكز غالة الوسطى لكان في إمكاننا أن نقرر أنه فتح جنوبي غالة ووسطها، أما وقد عاد أدراجه بعد أن سار نحو ¬_______ (¬22) انظر: تاريخ غزوات العرب ص 73؛ The Chronicle of Moissac, p. 165 (¬23) فجر الأندلس؛ ص 246 - 247؛ Cf. R. Abdal, op. cit., p. 20؛ سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، ص 139. (¬24) The Chronicle of 754, p. 153 (no. 53) . وانظر: المقري، ج 1، ص 235 الذي يفهم من روايته بوفاة عنبسة مستشهداً في بلاد الافرنج، ولكن يذكر ابن عذاري، ج 2، 26، أن عنبسة توفي حتف أنفه ولم يستشهد.

ألف ميل شمالي قرطبة فلا نستطيع القول إلا أن حملته الرائعة تلك لم تكن أكثر من غارة سريعة طويلة أتت بمغانم وفيرة ... ومهما يكن الأمر فإن عنبسة بن سحيم الكلبي ينفرد بين الفاتحين المسلمين بهذا الفخر، فخر الوصول برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربية، ولم يدرك هذا الشأو بعد ذلك فاتح مسلم آخر" (¬25). ونلاحظ على حملة عنبسة أيضاً أنها بعد أن فتحت قرقشونة لم تستمر بالاتجاه إلى طولوشة في مقاطعة أكيتانية، بل عدلت عن ذلك إلى إقليم بروفانس وبرغندية. ويرجع السبب في ذلك كما يرى بعض الكتّاب المحدثين إلى قيام علاقات صداقة بين المسلمين وبين الدوق أودو، دوق اكيتانية، الذي كان في ذلك الوقت يخشى بأس الدولة الميروفنجية، وحاجب ملكها شارل مارتل، صاحب الأمر في هذه الدولة آنذاك. وكان هذا الأخير يَنْفُس على الدوق أودو مكانته ويتمنى إزالته عن ولاية أكيتانية. وتربط المصادر اللاتينية صداقة الدوق أودو بحاكم شرطانية، منوسة البربري، فتذهب إلى أن الدوق أودو صاهر منوسة وزوَّجه من إحدى بناته لكي يأمنه على بلاده (¬26). ولهذا فعند قدوم المسلمين بقيادة عنبسة لم يسر لحربهم كما فعل أيام السمح بن مالك، ولم يحاول أن يهاجمهم من الخلف بعد أن تركوا بلاده، بل سهل لهم السير في مقاطعة برغندية، فساروا حتى قاربوا نهر السين. ولهذا فقد انصرف العرب عن بلاده، لأنه كان حليفهم (¬27). ومن الجدير بالذكر أن هناك من الكتاب الآخرين من ينفي وقوع مثل هذه الصلات بين العرب والمسلمين وبين الدوق أودو، وينفون أيضاً تعاون منوسة مع هذا الدوق، وعدائه لبعض الولاة من أمثال عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي. بل إنهم ينكرون أصلاً وجود شخص باسم منوسة، معتمدين في ذلك على أن هذا الاسم ليس لشخص، إنما قد يكون تحريفاً لاسم مكان (¬28). ولا تخفى، بطبيعة الحال، الدوافع النبيلة التي تحمل هؤلاء الباحثين على هذا الرأي، وهي محاولة التصدي لبعض المؤرخين المسيحيين المتعصبين والمستشرقين الذين استغلوا هذه القصة أكثر مما يجب للنيل من المسلمين وتشويه فتوحاتهم في جنوب فرنسا. ومع هذا يبدو من الصعب إنكار وجود شخصية منوسة، الذي ورد اسمه ودوره صراحة في حولية سنة 754 اللاتينية أو ما ¬_______ (¬25) فجر الأندلس، ص 248. (¬26) The Chronicle of 754, p. 155 (no 58) . (¬27) انظر: فجر الأندلس، ص 253. (¬28) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 192 - 193؛ خليل السامرائي، المرجع السابق، ص 107 - 108.

تسمى بحولية أزيدور الباجي، المعاصرة لتلك الحقبة، والتي تتميز بعدم تحيز مؤلفها وموضوعيته في سرد الأحداث. لا تذكر المصادر العربية أية أعمال حربية أو فتوح لعذرة بن عبد الله الفهري. وهذا أمر طبيعي لأن مدة ولاية عذرة كانت قصيرة جداً (شعبان 107 - شوال 107 هـ/ كانون الثاني 726 - آذار 726 م). أما المصادر المسيحية فتنسب إليه القيام بأعمال حربية خطيرة، فتذكر أن النجدات جاءت من الأندلس إلى عذرة بعد توليه القيادة، فاستعرت الحرب من جديد، وأخذ المسلمون يوجهون حملاتهم نحو كل صوب. واتسمت هذه الحملات، على حد زعم رينو Reinaud، بالدمار والتخريب والعيث في المناطق التي توجهت إليها (¬29). وهذه الروايات ملأى بالمبالغات عما تسميه مساوئ العرب والمسلمين ومظالمهم التي أنزلوها بهذه النواحي. فليس من المعقول أن المسلمين لم يفعلوا في جنوب فرنسا غير التخريب وحرق الأديرة والكنائس، بينما الثابت عنهم أنهم لم يفعلوا هذه الأمور قبل ذلك في أثناء تحريرهم للعراق وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا وإسبانيا، وكل هذه الأماكن كانت غاصة بالأديرة والكنائس. فما الذي حصل حتى غيّر المسلمين وقلب حالهم ومعاملتهم للشعوب المفتوحة في جنوب فرنسا؟ الواقع لم يحصل شيء، ولم يتغير المسلمون، ولكن حقد المؤرخين المسيحيين المتعصبين هو الذي صوّر لهم نسبة كل حرق وتخريب حصل في المنطقة إلى المسلمين، علماً أن العصر كله كان عصر فوضى واضطراب وحروب بين النصارى أنفسهم في هذه الجهات من غالة على وجه الخصوص. " وإذا نحن قارنّا المسلمين "، على حد تعبير أحد الكتّاب العرب المنصفين، " بالشعوب التي كانت تسود غالة في ذلك الحين، من فرنجة وقوط غربيين وقوط شرقيين وبرغنديين ومن إليهم، لتبينا أن المسلمين كانوا أعظمهم حضارة وأبعدهم عن النهب والتخريب. ومهما بحثنا في حوليات ذلك العصر فلن نجد بين من ظهروا على مسرح الحوادث في غالة خلال النصف الأول من القرن الثامن الميلادي رجالاً نستطيع أن نقارنهم بالسمح بن مالك أو عنبسة بن سحيم أو عبد الرحمن الغافقي " (¬30). وعلى أية حال، فلا يمكن أن تكون الحملات والنشاط الحربي للمسلمين في هذه الحقبة إلا سلسلة من الجهود التي قام بها المستقرون منهم في منطقة سبتمانية من أجل تثبيت أقدامهم في هذه الجهات. أما الجهاد والفتح الحقيقي فلم يبدأ إلا بتولي عبد ¬_______ (¬29) تاريخ غزوات العرب، ص 73 - 77. (¬30) فجر الأندلس، ص 258 - 259.

الرحمن بن عبد الله الغافقي الأندلس سنة 112هـ/ 730 م، وهي ولايته الثانية. وكان قد تولى الأندلس، بعد عزل عذرة بن عبد الله الفهري عدة ولاة لم يقم أحدهم بعبور جبال ألبرت لاستئناف الفتح، وهم يحيى بن سلمة الكلبي وحذيفة بن الأحوص الأشجعي، وعثمان بن أبي نسعة الخثعمي، والهيثم بن عبيدة الكناني، ومحمد بن عبد الله الأشجعي، ولم تتجاوز مدة حكم كل من هؤلاء، باستثناء يحيى بن سلمة الذي حكم أكثر من سنتين، عدة شهور (¬31). الفتوح في عهد عبد الرحمن الغافقي: كان عبد الرحمن الغافقي من العرب البلديين، أي الذين دخلوا الأندلس مع حملتي طارق وموسى واستقروا فيها. وهو من القادة الأكفاء الذين ساهموا في حملات الفتح في جنوب فرنسا، وقاد المسلمين بسلام إلى الأندلس بعد استشهاد السمح بن مالك في معركة طولوشة. ويبدو من إجماع عرب الأندلس على تقديره أنه كان نزيهاً مؤمناً سليم الإيمان، حريصاً على تطبيق الشريعة فيما يخص توزيع الغنائم على الجنود (¬32). وكان عبد الرحمن يعد من التابعين، ومن رواة الحديث النبوي الشريف، فقد ورد في ترجمته أنه روى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب (¬33)، ولهذا كان محل احترام صلحاء المسلمين، فضلاً عن جنده، لعدالته في تقسيم الغنائم، وعدم رغبته في حطام الدنيا. ومما يؤسف له أننا لا نجد معلومات مفصّلة عن عبد الرحمن وعهده في المصادر العربية، وكل ما هناك أخبار مقتضبة عن حملته على جنوب فرنسا، ولعل السبب في ذلك يعود إلى الهزيمة التي حلت بالمسلمين في معركة بلاط الشهداء، فاكتفت المصادر العربية بالإشارات الموجزة العابرة إلى هذا القائد والمعركة الأليمة التي خسرها المسلمون. ومن جهة أخرى تسهب المصادر المسيحية في الحديث عنه، وعن الحملة التي قادها إلى فرنسا، كما تشير أيضاً إلى توتر العلاقات بين عبد الرحمن الغافقي، والقائد البربري المسلم، منوسة، الذي كان يحكم في منطقة شرطانية في الشمال. فقد أعلن هذا الأخير التمرد على السلطة، بعد ازدياد التوتر بين العرب والبربر في كل من ¬_______ (¬31) ابن القوطية، ص 13؛ أخبار مجموعة، ص 24 - 25؛ ابن عذاري، ج 2، ص 27 - 28، 49. (¬32) ابن عبد الحكم، ص 216 - 217؛ الحميدي، جذوة المقتبس، القاهرة، 1966، ص 274؛ ابن الأثير، ج 5، ص 174 - 175. (¬33) الحميدي، ص 274؛ الضبي، بغية الملتمس، ص 352 - 353.

شمال أفريقيا والأندلس. وتزعم المصادر اللاتينية، أن منوسة عقد الصلح مع الفرنجة، ووثق علاقته معهم، دون استشارة الوالي في قرطبة. ولهذا فبعد سماع الغافقي بالموقف المعادي لمنوسة، وبالعلاقات القائمة بينه وبين الدوق أودو، دوق أكيتانية، أرسل حملة عسكرية نجحت في القضاء على التمرد، وقتلت منوسة (¬34). وبعد أن نظم عبد الرحمن الغافقي البلاد، وقضى على الاضطرابات الداخلية، تهيأ لمجابهة تحدي الفرنجة وتهديدهم للحكم العربي الإسلامي في غالة القوطية. ويبدو أن عبد الرحمن الغافقي كان يختلف عمن سلفه من الولاة، فهو من طراز الفاتحين الذين يرسمون خطة الفتح الثابت المستقر. فمن جملة الأسباب التي دعته إلى استئناف الحملات على فرنسا، هو العمل على تأسيس وتثبيت موطئ قدم للمسلمين عبر جبال ألبرت، وتقوية قاعدة أربونة الإسلامية. ومن المحتمل أنه كان ينوي إسكان بعض البربر في منطقة الشمال الغربي من إسبانيا في المناطق المفتوحة في جنوب فرنسا. ويدل على هذا ما جاء في إحدى الحوليات المسيحية من أن المسلمين الذين عبروا إلى فرنسا كانوا بأعداد كبيرة، وقد اصطحبوا نساءهم وأطفالهم وممتلكاتهم المنقولة، مما يدل على أنهم كانوا ذاهبين للاستقرار هناك (¬35). اتخذ عبد الرحمن من مدينة بنبلونة قاعدة لتجميع الجند المتوجهين للجهاد معه إلى جنوب فرنسا. ثم عبر جبال ألبرت من ممرات رونشفالة Roncesvalles، أي أنه لم يسلك الطريق المحاذي للبحر الذي يؤدي إلى سبتمانية، بل سلك طريقاً في وسط الجبال يفضي مباشرة إلى قلب دوقية أكيتانية. ولكنه قبل أن يهاجم هذه الدوقية توجه مع فرقة من جنده نحو وادي رودنة لإعادة فتح مدينة آرل Arles التي شقت عصا الطاعة، وتوقفت عن دفع الجزية، فاسترجعها بعد معركة عنيفة (¬36). ويظن بعض المؤرخين الافرنج أن حملة الغافقي على مدينة آرل لم تكن سوى خدعة قصد بها صرف نظر الفرنجة عن وجهة الحملة الحقيقية، وهي دوقية أكيتانية في الجهة الشمالية (¬37). فلما سقطت هذه المدينة توجهت جيوش عبد الرحمن مباشرة نحو بوردو عاصمة دوقية ¬_______ (¬34) The Chronicle of 754; pp. 155-156 (no. 58) ; cf. Reinaud, op. cit., pp. 272-273. ( الترجمة العربية: تاريخ غزوات العرب، ص 88 - 89). Abdal, op. cit., p. 29. (¬35) ( ملحق أخبار مجموعة، رقم 6)، Paul the Deacon, book, 6. p. 167 (¬36) عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ج 1، ص 90؛ فجر الأندلس، ص 265. (¬37) تاريخ غزوات العرب، نقلاً عن رينو، ص 99.

أكيتانية، التي قاومت مقاومة واهية، فحاول المسلمون فتحها عنوة. وقد حاول الدوق أودو عبثاً أن يمنع تقدم عبد الرحمن وتوغله في أراضيه، فاشتبك معه في معركة حاسمة بالقرب من التقاء نهري الدوردوني Dordongne والجارون Garonne، مما أدى إلى انهزامه هزيمة قاصمة، انسحب على أثرها نحو الشمال. فدخل المسلمون عاصمته، وغنموا فيها غنائم هائلة، وعاقبوا كل من قاومهم من أهلها (¬38). ثم تقدموا نحو اللوار يفتتحون كل ما وقع تحت أيديهم من المناطق التي تؤدي إلى مدينة تور Tours. وعندما أدرك الدوق أودو استحالة صد الجيوش الإسلامية الفاتحة، اضطر إلى الاستنجاد بشارل مارتل حاجب ملك الدولة الميروفنجية، وطلب مصالحته لصد المسلمين، خاصة وأن هدف هؤلاء التالي كان الوصول إلى أراضي دولة الفرنجة ذاتها. وقد أدرك شارل مارتل الخطر، فاستجاب إلى التماس أودو، وشرع في جمع الجند والفرسان من كل صوب، وبعث يستقدم الرجال من حدود الرين، فجاءه هؤلاء وكانوا من المحاربين الشماليين الأشداء الذين لا يقلون عن العرب والبربر شجاعة وقوة وصبراً في الحروب. وبهذا اجتمع للفرنج جيش قوي قادر على الثبات أمام الجيوش العربية الإسلامية (¬39). كان المسلمون يتهيأون للاستيلاء على مدينة تور عندما سمعوا بوصول شارل مارتل وجنده. وقد التقى الجيشان في رمضان 114هـ/ تشرين الأول 732 م، وجرت بينهما مناوشات عديدة لمدة سبعة أيام. ثم تحول القتال إلى صدام مروع، رجحت كفة المسلمين في بدايته، لكنهم عجزوا عن اختراق صفوف الفرنجة وحلفائهم من الألمان والسكسون والسويف. يضاف إلى ذلك، أن الفرنجة هاجموا مؤخرة الجيش الإسلامي، مما أدى إلى الاخلال بنظام الجيش. وعندما حاول عبد الرحمن التدخل بشجاعة فائقة لإعادة النظام إلى صفوف جيشه، أصابه سهم من جهة العدو، فخر شهيداً في المعركة. وقد زاد هذا من إرباك المسلمين، لكنهم استمروا في القتال، وخلصوا مخيمهم في مؤخرة الجيش من أيدي الأعداء، إلى أن أقبل الليل فحجز بين الفريقين. ثم تشاور كبار قادة المسلمين وتوصلوا إلى قرار بالإنسحاب من موقع المعركة. فانتهزوا فرصة الظلام، وتسللوا نحو الجنوب، تاركين خيامهم وغنائمهم التي لم يتمكنوا من حملها معهم. ¬_______ (¬38) سالم، تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، ص 142. The Chronicle of 754, p. 156 (no. 59) . (¬39) The Chronicle of 754, p. 156 (no. 59) .

وتوجهوا نحو قاعدة المسلمين في سبتمانية وهي أربونة (¬40). وعندما لاحظ الفرنجة في صباح اليوم التالي خلو معسكر المسلمين، ظنوا أن في الأمر مكيدة، وتريثوا في دخوله. وبعد أن تبين لهم رحيل المسلمين لم يلاحقوهم إما خوفاً من أن يكون انسحابهم شركاً، أو لاعتقاد شارل مارتل أنه قد أمن بعد هذه الموقعة على مملكته وأصبح لا يخشى عليها من عودة المسلمين. فرجع إلى الشمال مفتخراً بما أحرزه من نصر باهر (¬41). وهناك خلاف في المكان الذي حدثت فيه هذه الموقعة الفاصلة، فبالإضافة إلى ما ذكرنا آنفاً من أنها وقعت بالقرب من مدينة تور، فهناك من يرى أنها جرت في ضواحي مدينة بواتييه Poitiers (¬42) . ويحتمل أن المعركة وقعت، كما يرى أحد المستشرقين الفرنسيين، بالقرب من طريق روماني يربط بين شاتلرو، Chatellerault وبواتييه، على بعد نحو عشرين كيلومتراً من المدينة الأخيرة، ربما بالقرب من مكان يدعى في الوقت الحاضر موسيه لاباتاي Moussais la Bataille (¬43) . ويذكر المؤرخون العرب أن المعركة حدثت بالقرب من مكان يدعى بلاط الشهداء، مما يفهم منه أن مكان الموقعة كان إلى جوار قصر أو حصن كبير، ربما كانت له علاقة كبيرة بحوادث المعركة (¬44). قبل الانتهاء من الحديث عن هذه الموقعة لا بد من الإشارة إلى العوامل التي أدت إلى خسارة المسلمين وتحليل هذه العوامل بشكل علمي دقيق. فلا يخفى أن الجيش العربي الإسلامي توغل مسافات شاسعة في أرض الأعداء، وبعد بذلك عن قلب الدولة الإسلامية. ولم يكن بمقدور الجيش أن يحصل على إمدادات من مركز الخلافة، أو حتى من قرطبة مركز ولاية الأندلس، لبعد المسافة، ولتفرق عرب الأندلس في نواحيها المختلفة نتيجة لاستقرارهم هناك. أما القواعد التي أقامها المسلمون خلف جبال ألبرت، كأربونة مثلاً، فلم تكن في وضع يسمح لها بإرسال الامدادات لحاجتها إليها في الدفاع ¬_______ (¬40) Ibid., pp. 156-157; See aslo: Chronicle of Moissac, p. 166; Reinaud, op. cit., pp. 397-404 ( الترجمة العربية: تاريخ غزوات العرب، ص 101 - 102). E. Creasy, Fifteen Decisive Battle of the World. London, 1962, pp. 239-254. فجر الأندلس، ص 271 - 274. (¬41) تاريخ غزوات العرب، ص 102. (¬42) Chronicle of Moissac, p. 166. (¬43) Levi-Provinçal, op. cit., vol. I. p. 62. (¬44) أخبار مجموعة، ص 225 فتح الأندلس، ص 28؛ وانظر: فجر الأندلس، ص 271، هامش رقم (1).

عن نفسها. ويقابل هذا العامل من الناحية الثانية، تكتل الإمارات في غالة، واستماتتها في الدفاع والوقوف أمام المسلمين. هذا فضلاً عن معرفة الافرنج للمواقع وطبيعتها ودروبها، وتعودهم على القتال في جوها المطير الشاتي وأرضها الموحلة، وتلالها الوعرة. يضاف إلى ذلك، أنه كان من السهل عليهم الحصول على الامدادات من كل نوع، وهذه أمور أساسية حُرم منها جيش عبد الرحمن الغافقي بعد توغله العميق في فرنسا (¬45). أما ما يقال عن الخلاف بين صفوف الجيش، والنزاع بين عناصره المؤلفة من العرب والبربر، فلا يتوفر لدينا ما يشير إليه من قريب أو بعيد، اللهم إلا في الروايات المسيحية التي تبني حول قصة منوسة كثيراً من الأحداث الملفوفة بالأساطير. ولكن المتمعن في تكوين عناصر الجيش الذي قاده عبد الرحمن الغافقي، يلاحظ أنه كان يتألف من أغلبية من البربر الذين كانوا مستقرين في منطقتي الأشتوريش وجبال ألبرت. وبالإمكان التوصل إلى هذا الاستنتاج من حقيقة اتخاذ الغافقي لمدينة بنبلونة مركزاً لتجميع جنده. وكان هناك أيضاً الكثير من العرب في هذا الجيش، لا سيما القبائل اليمنية في منطقة سرقسطة والثغر الأعلى. ولكن البربر شكلوا الأغلبية، وكانوا، كما أسلفنا، برفقة أسرهم. وقد أرهق هذا الموقف الجيش، وقلل من قابليته على المناورة. ولم يكن باستطاعة الغافقي، الذي كان على علم بهذا الموقف، أن يقوم بعمل أي شيء بسبب رغبة رجاله الشديدة لحماية أسرهم. وهذه الحقيقة بالذات كانت هي السبب في ضعف موقف المسلمين، وليس تلهفهم على الغنائم، كما تحاول أن تصور ذلك بعض الروايات المسيحية (¬46). وقد أدرك الفرنجة نقطة الضعف هذه في جيش المسلمين. ولهذا ففي أثناء الموقعة الفاصلة، هاجمت كتيبة من جيش الفرنجة -ربما كانت بقيادة دوق أكيتانية- مؤخرة مخيم المسلمين الذي كان يضم نساءهم وأطفالهم (¬47). وما إن سمع المسلمون بهذا، حتى ترك الكثير منهم مواقعه، وذهب ليدافع عن أهله وأولاده. وكان هذا بداية لاختلال النظام في صفوفهم، وعاملاً رئيساً لهزيمتهم في المعركة (¬48). ¬_______ (¬45) انظر: علي المياح، "العوامل السوقية والتعبوية وأثرها على الفتوحات العربية الإسلامية في فرنسا"، مجلة الجمعية الجغرافية العراقية، بغداد، 1969، م 5، 129؛ عبد الرحمن الحجي المرجع السابق، ص 196. (¬46) (تاريخ غزوات العرب، ص 100 - 101). See: Reinaud, op. cit., pp. 400-401 (¬47) ( تاريخ غزوات العرب، ص 101). Ibid., p. 41 (¬48) عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال أفريقيا والأندلس، ص 347؛ =

حركة الفتوح بعد معركة بلاط الشهداء: تعد موقعة بلاط الشهداء من المواقع الحاسمة في التاريخ، لأنها وضعت حداً للفتوح الإسلامية خلف جبال ألبرت. ويعلق المؤرخون الأوروبيون أهمية كبيرة عليها، فيقولون: لو أن العرب انتصروا في هذه المعركة لأصاب أوروبا مثلما أصاب إسبانيا، ولكان القرآن يدرس في جامعات باريس وكمبردج وأوكسفورد. وهناك من لا يعلق أهمية على هذه الموقعة، ويرى أن الامتداد الطبيعي للفتح العربي في إسبانيا هو جبال ألبرت. أما ما قاموا به من عمليات عسكرية وراء هذه الجبال، فلم يكن سوى توغل بدافع الحماس الديني والجهاد في سبيل نشر مبادئ الإسلام، دون أن يعملوا حساباً للتقهقر أو الانسحاب (¬49). وعلى أية حال فإن حركة الفتوح الإسلامية لم تتوقف بعد موقعة بلاط الشهداء. فقد قام الوالي الذي عُيّن بعد استشهاد عبد الرحمن الغافقي، وهو عبد الملك بن قطن الفهري (رمضان 114 - شوال 116هـ/ تشرين الأول 732 - تشرين الثاني 734 م) في ولايته الأولى، بالتوجه إلى شمال إسبانيا. وهناك قضى على تمرد سكان ولايات كل من قطالونية Catalonia، وأراغون Aragon، ونافار Navarre، والباسك، الذين استغلوا فرصة اندحار المسلمين في جنوب فرنسا، فتمردوا على حكومة قرطبة (¬50). ثم توجه مباشرة، كما تذكر بعض الروايات المسيحية، عبر جبال ألبرت إلى لانجدوك Languedoc في فرنسا، حيث قام بتحصين المدن التي كانت بأيدي المسلمين (¬51). ولكن نشاط حركة الفتوح في جنوب فرنسا ازداد بشكل ملحوظ في ولاية عقبة بن الحجاج السلولي (شوال 116 - صفر 123 هـ/ تشرين الثاني 734 - كانون الثاني 741 م) الذي أعقب عبد الملك بن قطن في ولاية الأندلس. وتتفق كل من المصادر العربية ¬_______ = وقارن: فجر الأندلس، ص 269 - 270؛ سالم، المرجع السابق، ص 143؛ الحجي، المرجع السابق، ص 197 - 198؛ خليل إبراهيم صالح، جهاد المسلمين وراء جبال البرتات في المصادر العربية، مجلة دراسات في التاريخ والآثار، العدد 2، 1982، ص 193 - 205، حيث يحلل أحداث هذه الحملة شأنها شأن بقية الحملات الأخرى على ضوء المصادر العربية فقط. (¬49) انظر: العبادي، في تاريخ الأندلس والمغرب، ص 88 - 89؛ الحجي، المرجع السابق، ص 199 - 202 - 203. (¬50) ابن الأثير، ج 5، ص 181؛ المقري ج 1، ص 236، ج 3، ص 19. (¬51) (تاريخ غزوات العرب، ص 104) Reinaud, op. cit., p. 405. فجر الأندلس، ص 276؛ سالم، المرجع السابق، ص 146.

والمسيحية على أن عقبة كان من أحد كبار القادة المسلمين الذين قادوا الحملات في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا. ففي إسبانيا، كما أسلفنا، أخضع معظم المناطق القلقة في الشمال والشمال الغربي، مثل بنبلونة وجليقية والأشتوريش، حيث هاجم بلاي وأتباعه. ثم استأنف الفتوح الإسلامية فيما وراء جبال ألبرت. ونتيجة لنشاط عقبة أصبحت أربونة من أهم القواعد الإسلامية في جنوب فرنسا. وفي ولايته قام العرب المستقرين في لانجدوك بتحصين كل المواقع، التي كانت تدعى الرُبط، جمع رباط، حتى ضفاف نهر الرون Rhone (¬52) . ومع هذا، فإن زمام المبادرة في هذا المجال لم يكن لعقبة، بل لعامله على أربونة، يوسف بن عبد الرحمن الفهري، الذي سيصبح فيما بعد الوالي الأخير للأندلس. فقد تحالف مع بعض الحكام والأمراء في سبتمانية، وبروفانس. وقد فضل هؤلاء الذين كانوا يخشون كلاّ من شارل مارتل، ودوق أكيتانية، مساعدة المسلمين للسيطرة على ولاياتهم ووضعها تحت الحماية الإسلامية. وكان من ضمن هؤلاء الزعماء، الدوق ماورنت Mauronte، الذي امتدت سلطته على جميع بروفانس، وكان يلقب بدوق مرسيلية Duke of Marseilles (¬53) . لقد كان عقبة بن الحجاج متحمساً للأخذ بثأر هزيمة المسلمين في بلاط الشهداء، وتثبيت أقدام الدولة العربية وراء جبال البرتات. من أجل نشر الإسلام، وإغناء بيت المال. وتشير المصادر العربية إلى رغبة عقبة الشديدة في هداية سكان المناطق المفتوحة إلى اعتناق الإسلام، فتروي هذه المصادر، أنه كان من عادته التي لا يتخلى عنها حينما يأسر أسيراً أن يعرض عليه الإسلام. وبهذه الطريقة أسلم على يديه خلق كبير من المسيحيين (¬54). ابتدأ عقبة نشاطه في الفتوح بأن اتخذ مدينة سرقسطة في الشمال الشرقي، قاعدة عسكرية له، حيث نظم قواته هناك (¬55). ويحتمل أنه بدأ من هذا المكان بمساعدة عامله على أربونة وإمداده بالجنود. وفي سنة 117هـ/ 735 م عبر الأخير نهر الرون، ودخل المناطق التابعة لمدينة آرل، ثم توغل بعد ذلك في قلب ولاية بروفانس، وافتتح مدينة ¬_______ (¬52) المقري، ج 3، ص 19؛ انظر أيضاً: ابن عذاري، ج 2، ص 29؛ (تاريخ غزوات العرب، ص 105). Reinaud, op. cit., p. 407. (¬53) ( تاريخ غزوات العرب، ص 104) Ibid., p. 405. (¬54) ابن عذاري، ج 2، ص 29؛ المقري، ج 3، ص 19. (¬55) The Chronicle of 754, p. 157 (no. 61) .

فرتا Fertta التي تدعى الآن سان ريمي St. Remi. ومن ثم ذهب إلى أفنيون، وافتتحها على الرغم من المقاومة المستميتة التي أبدتها حامية المدينة. وهكذا وقع القسم الأكبر من بروفانس تحت ظل الحكم العربي الإسلامي الذي استمر نحو أربع سنوات (¬56). وفي هذه الفترة، قامت جيوش الأندلس، ربما بقيادة عقبة نفسه، بمهاجمة العديد من الأماكن الأخرى، مثل دوفينية Dauphine، وسان بول تروا St. Paul Trois Chateaux، ودونزير Donzere. ثم هاجموا ولايات شارل مارتل، وهكذا أدركوا ثأر المسلمين في معركة بلاط الشهداء. وأعادت هذه الجيوش أيضاً فتح مدينة ليون، ودخلت برغندي، وتمكنت من التوغل والوصول إلى جبال دوفينية وبيدمونت Piedmont في إيطاليا (¬57). ولكن شارل مارتل، الذي ذعر نتيجة لهذه الانتصارات، بادر بالعمل فوراً على مقاومة المسلمين. وتمكن بمساعدة أخيه شلدبراند Childebrand من أن يعيد احتلال الكثير من الأماكن الحصينة مثل أفنيون، ثم تقدم بعد ذلك إلى أربونة التي انقطعت عنها الاتصالات بالأندلس بسبب المقاومة المسيحية في جبال ألبرت. وقد أرسل عقبة، الذي عاد إلى قرطبة، حملة لنجدة أربونة، كانت، كما تذكر الحوليات اللاتينية، بقيادة رجل يدعى عمر. ولم تنجح هذه الحملة التي جاءت إلى أربونة عن طريق البحر في إنقاذ المدينة لأن شارل مارتل تمكن من دحرها بعد فترة وجيزة من نزولها على الشاطئ إلى الجنوب من أربونة (¬58) على الرغم من ذلك لم يتمكن شارل مارتل من احتلال أربونة التي ظلت قاعدة إسلامية في جنوب فرنسا إلى عهد عبد الرحمن الأول مؤسس الإمارة الأموية. ¬_______ (¬56) The Chronicle of Moissac, p. 166; Reinaud, op. cit., pp. 406-407 ( تاريخ غزوات العرب، ص 104 - 105). (¬57) (تاريخ غزوات العرب، ص 105 - 106) Ibid., pp. 407-408. (¬58) The Chronicle of Moissac, p. 166; Paul the Deacon, book 6,p. 167; Reinaud, op. cit., pp. 404-409. ( الترجمة العربية: تاريخ غزوات العرب، ص 106 وانظر أيضاً الصفحات التي بعدها، فجر الأندلس، ص 281 - 283؛ سالم، المرجع السابق، ص 147 - 148.

الفصل الرابع استقرار العرب واستيطانهم في إسبانيا

الفَصْلُ الرَّابِع استقرار العرب واستيطانهم في إسبانيا لقد سارت عملية استقرار العرب في إسبانيا جنباً إلى جنب مع الفتح العربي الإسلامي، حيث كان كل من طارق بن زياد وموسى بن نصير يتركان حاميات عربية وبربرية في المناطق المفتوحة شكلت نواة للمستقرين المسلمين في إسبانيا. وعندما عاد الفاتحان إلى المشرق، ظل جنودهما في المناطق المحررة، كل حسب رغبته. وكان هؤلاء يتألفون بالدرجة الأولى من العشائر العربية والبربرية التي رافقت طارق وموسى. وقد أطلقوا على أنفسهم اسم البلديين، لأنهم عدوا أنفسهم المالكين الحقيقيين للبلاد، فهم أهل البلد وفاتحوها. وهناك مجموعة أخرى من العرب دخلت الأندلس بعد فترة وجيزة من الفتح، تتألف من العشائر الشامية التي عبرت من شمال أفريقيا على أثر تمرد البربر في المغرب. وقد سمي هؤلاء بالشاميين، أو بطالعة بلج بن بشر القشيري، الذي كان يتزعمهم في عبورهم إلى الأندلس. وإذا ما استثنينا المستقرين الأوائل أو البلديين، والقادمين من الشاميين، فإن عدد العرب الذين دخلوا الأندلس بعد الفتح كان قليلاً. ويتكون هؤلاء من بعض الأفراد الذين عبروا بصورة منفردة، ومن الحرس الذين رافقوا الوالي الحر بن عبد الرحمن الثقفي، وكان عددهم نحو أربعمئة رجل. وكذلك عبر بعض الرجال برفقة ولاة آخرين، مثل السمح بن مالك الخولاني، وأبو الخطار الكلبي. البلديون: وهؤلاء، كما أسلفنا، هم الفاتحون الذين تغلبوا على دولة القوط الغربيين، واستقروا مباشرة في الأراضي المفتوحة، وبشكل خاص، على امتداد الطريق التي سلكها _______ (1) انظر: ابن عبد الحكم، ص 206؛ ابن عذاري؛ 2/ 11، 12، 15؛ فتح الأندلس، ص 17؛ المقري: 1/ 276، 290.

كل من طارق بن زياد وموسى بن نصير أثناء فتوحاتهما لشبه الجزيرة الآيبيرية (1). ولم يستقر هؤلاء البلديون تبعاً لترتيبات وضعها موسى بن نصير، بل جاء استقرارهم تبعاً للصدفة، وفي المناطق التي مرت بها الحملات العربية الإسلامية. وفي الحقيقة تختلف الروايات في الإجراءات التي اتخذها موسى بن نصير لتقسيم الأراضي المفتوحة في الأندلس، فمنها ما يؤيد أنه قسم البلاد بعد اكتمال الفتح، فاحتفظ بحصة الخلافة من الأراضي، وهي الخمس، ووزع الباقي بين جنوده. ويقال أيضاً إنه خصص العديد من السبي ليزرعوا أراضي الخمس ويبقوا فيها. وكان على هؤلاء أن يدفعوا ثلث محصولهم للمسلمين، وأصبحوا يُسمون بالأخماس، وكذلك عُرف أبناؤهم ببني الأخماس. أما بالنسبة للمسيحيين الذين اعتصموا في المعاقل المنيعة، والمناطق الجبلية، فقد أقرهم موسى على ممتلكاتهم، وديانتهم، شريطة أن يدفعوا الجزية للمسلمين. وسميت الأراضي التي ظلت بحوزة هؤلاء باسم أرض الشمل أو أرض الصلح (¬2). وهناك روايات أخرى لا تشير إلى تقسيم موسى لكل أراضي البلاد، بل إنه لم يتمكن إلا من إنجاز تقسيم أجزاء محدودة من الأندلس بسبب عودته السريعة إلى المشرق (¬3). ويمكن أن نعتمد على هذه الروايات ونأخذ بها، لأنها تتفق مع الوقت القصير الذي صرفه موسى في الأندلس. ولقد رأينا فعلاً أن موسى عقد معاهدة مع أهالي ماردة خوَّلته حق الاستيلاء على ممتلكات الذين قتلوا، والهاربين إلى جليقية. ومن الواضح أن قسماً من جيش موسى استقر في هذه الأراضي المهجورة. ومن المحتمل جداً، أن بقية أتباع موسى فعلوا الشيء نفسه واستقروا في العديد من الأماكن الأخرى، سواء تم عقد معاهدات مع أهلها أم لم يتم ذلك، وبشكل خاص، في جنوب إسبانيا، ووادي نهر الوادي الكبير، ووادي نهر آنة، وبعض الأماكن الأخرى في المناطق الشمالية التي تم فتحها عنوة. أما في شرق إسبانيا، فقد عقد عبد العزيز بن موسى معاهدة الصلح مع حاكم المنطقة القوطي تدمير، فانتظم بموجبها استقرار العرب وعلاقاتهم مع السكان النصارى في المنطقة. وقد استسلمت مناطق أخرى إلى المسلمين بموجب معاهدات صلح، مثل مدينة وشقة Huesca (¬4) . ووافق أهالي البلاد في هذه المناطق على دفع الجزية، وتسليم قسمٍ من أراضيهم للمسلمين ليستقروا فيها (¬5). ¬_______ (¬2) الغساني، المصدر السابق، ص 100؛ الرسالة الشريفية، ص 199. (¬3) الغساني، ص 101. (¬4) انظر: العذري، ص 65 - 67؛ الحِمْيَري، ص 195. (¬5) الغساني (برواية الرازي) ص 104.

وهكذا استقر البلديون في الأندلس، ووافقت الخلافة الأموية على هذا الاستقرار، بل إن الخليفة الوليد بن عبد الملك، منح، من خمس الخلافة، إقطاعات أخرى لأولئك الذين لم يكونوا راضين عما أصابهم من أراضٍ في الأندلس. وعندما أصبح عمر بن عبد العزيز خليفة في دمشق (99 - 101هـ/717 - 719 م) اهتم كثيراً بشؤون المسلمين في الأندلس. ولقد حاول في أول الأمر -تبعاً للسياسة التي سار عليها في المشرق- أن يأمر بالانسحاب الكامل من البلاد. ولما أدرك صعوبة تحقيق مثل هذا الأمر، وجه جل اهتمامه إلى الاعتناء بشؤونها الداخلية. فعين من قبله مباشرة والياً جديداً، وأوصاه أن ينهي المهمة التي ابتدأها موسى بن نصير، وهي تقسيم الأرض، من أجل أن يُحدّد خمس الخلافة. وعندما وصل الوالي الجديد، السمح بن مالك الخولاني، إلى الأندلس مع بعض أتباعه، رفض البلديون أن يسمحوا لأي من هؤلاء القادمين الجدد أن يشاركوهم في أراضيهم. وتوجه وفد منهم إلى دمشق يشكون إلى الخليفة، ويهددون بإخلاء الأندلس، لو حاول أتباع السمح بن مالك الاستقرار في أراضيهم. ولقد حل الخليفة هذه المشكلة، بأن منح أتباع السمح أراضٍ من حصة الخلافة. وأصبح هذا الإجراء، هو الطريقة المثلى لإسكان الجماعات الصغيرة من العرب التي تدخل إلى الأندلس فيما بعد (¬6). استمر السمح بن مالك في إنجاز مهمة تقسيم الأرض، فابتدأ بقرطبة ونواحيها محدداً أحد القصور التي تقع جنوبي المدينة ليكون جزءاً من خمس الخلافة. ولكن روايات أخرى تذكر أن قرطبة كانت قد قسمت في عهد موسى بن نصير، وأن هذه المنطقة التي تقع جنوبيها بالذات، اعتبرت، إضافة إلى مناطق أخرى، ضمن حصة الخلافة (¬7). وبناء على أوامر من الخليفة عمر بن عبد العزيز، حول السمح بن مالك المنطقة الواقعة جنوب قرطبة إلى مقبرة عامة للمسلمين (¬8). وتذكر المصادر أن السمح أرسل رجالاً ليقوموا بمهمة تقسيم الأراضي في مناطق متعددة أخرى، ولكن لا تتوفر معلومات إضافية عن طبيعة هذه المهام أو نتائجها، ويذكر ابن القوطية، أن الخليفة عمر، أرسل إلى جانب السمح بن مالك رجلاً آخر يدعى جابر، ليتولى مسؤولية تقسيم ¬_______ (¬6) المصدر نفسه، ص 101 - 102؛ الرسالة الشريفية، ص 202 - 203؛ وانظر: عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار، ص 214. (¬7) الرسالة الشريفية، ص 201 - 202، 204؛ أخبار مجموعة، ص 21. (¬8) ابن عذاري: 2/ 26؛ الرسالة الشريفية، ص 207.

الأرض (¬9). وهذا إجراء محتمل جداً، وتوجد عليه أدلة وسوابق في أماكن أخرى من الدولة العربية. ففي العراق على سبيل المثال، عين الخليفة سليمان بن عبد الملك، صالح بن عبد الرحمن، ليمثله ويتولى مسؤولية الخراج والضرائب، من أجل إحكام السيطرة على الشؤون المالية للولاية وحفظها لصالح الخلافة (¬10). وعلى أية حال، فقد توقفت عملية تقسيم الأرض في الأندلس، نظراً لوفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز (101 هـ/719 م) وكذلك وفاة عامله السمح بن مالك الذي استشهد في معركة قرب مدينة طولوشة عام 102 هـ/720 م، كما أسلفنا في الفصل الثالث. وظلت وضعية الأرض، وسيادة البلديين دون تغير حتى وصول الشاميين، وولاية أبي الخطار الكلبي، حين تطلبت الظروف إيجاد أراضٍ جديدة لاستقرار القادمين الجدد من القبائل الشامية. لقد كان البلديون يتألفون بشكل عام من رجال العشائر العربية الذين ينتمون إلى مختلف القبائل اليمنية، ومع ذلك، فقد كانت قلة منهم تنتمي إلى عشائر أخرى من مضر وربيعة. وفيما يأتي محاولة للتعرف على نماذج من هؤلاء البلديين ومناطق سكناهم واستقرارهم في الأندلس. يُعد الأنصار أو المدنيون من أشهر العشائر التي رافقت حملة موسى بن نصير، وقد توزعوا بعد الفتح في مختلف أماكن شبه الجزيرة الآيبيرية، ولكن مناطق استقرارهم الرئيسة، أو منازلهم، كما كانت تسمى، كانت تقع في منطقة سرقسطة (¬11). وكان من هؤلاء أسر معروفة من الأوس والخزرج، من أشهرهم أحفاد سعد بن عبادة، أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد استقر هؤلاء بالقرب من سرقسطة، وفي مناطق أخرى من الأندلس، مثل شذونة، وقرطبة (¬12). كما سكن جماعة منهم في شرق الأندلس، في منطقة شارقة Jerica ( في محافظة قسطليون الحالية)، وكان لهم قلعة تسمى بقلعة الأشراف (¬13). ويرجع حكام غرناطة، آخر الممالك الإسلامية في الأندلس، في أصلهم ¬_______ (¬9) تاريخ افتتاح الأندلس، ص 12 - 13. (¬10) الطبري، تاريخ الرسل والملوك. نشر: دي غويه، ليدن، 1879 - 1901؛ 2/ 1306 - 1307. (¬11) الأنصاري، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق: محمد بن شريفة، بيروت، بدون تاريخ، قدا: 1/ 223؛ الإحاطة: 1/ 182. (¬12) ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، 1962، ص 365 - 366. (¬13) ابن الآبار، التكملة لكتاب الصلة، نشر عزة العطار، القاهرة، 1955 - 1956: 1/ 44، 423، 2/ 551 - 512.

إلى شجرة نسب الأسرة التي تنتمي إلى قيس بن سعد بن عبادة، وقد سكن هؤلاء بالأصل في منطقة أرجونة في محافظة جيان الحالية (¬14). واستقر مدنيون آخرون من الأوس والخزرج في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة، من هؤلاء بنو خبيب، وبنو قطين الذين استقروا في قرية قرب قبرة Cabra، التي تبعد نحو سبعين كيلومتراً جنوب غربي قرطبة (¬15). ومن الأماكن الأخرى التي اختارها الأنصار للسكن، قلعة رباح Castillo de Calatrava la Vieja، ووادي الحجارة Guadalajara وشلب Silves جنوبي البرتغال الحالية (¬16). وقد تركز الأزد في منطقة تدمير في محافظة مرسية Murcia الحالية. وكان أحد زعمائهم الكبار، يعيش بن عبد الله الأزدي، أحد القادة المرافقين لعبد العزيز بن موسى، والذي شهد على معاهدة الصلح التي عقدت بين المسلمين وتدمير Theodemir (¬17) . وسكن بنو دوس، وهم فرع في الأزد، في تدمير أيضاً، وكان من أشهرهم قوم يعرفون ببني هارون (¬18). واستقر أزديون آخرون في مناطق أخرى مثل بني وهيب في لورة Illora ثم اشبيلية، وبني المهلب بن أبي صفرة في شون Jun قرب غرناطة، وفي منطقة أخرى قرب جيان (¬19). أما رجال القبائل من غافق، فقد استقروا على طول الطريق التي سلكتها حملة موسى بن نصير، مثل الجزيرة الخضراء، وشذونة في الجنوب، وسرقسطة في الشمال الشرقي (¬20). ولكن تجمعات سكناهم الرئيسة كانت في مناطق اشبيلية، وقرطبة وإلى حد ما في طليطلة والبيرة. وكان إقليم الشرف Aljarafe، الذي يقع إلى الغرب من اشبيلية، موطناً للعديد من الغافقيين. ومن هؤلاء عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي والي الأندلس ¬_______ (¬14) ابن الخطيب، الإحاطة: 1/ 377، 2/ 13؛ المقري، نفح الطيب 1/ 294، 447. (¬15) جمهرة الأنساب، ص 363؛ الحميري، ص 149 - 150؛ ابن عذاري: 2/ 34. (¬16) جمهرة الأنساب، ص 341؛ الأنصاري، تحقيق: إحسان عباس، بيروت، 1964، 6/ 33 - 34؛ ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب، تحقيق: شوقي ضيف، القاهرة، 1964: 2/ 26. (¬17) العذري، ص 5. (¬18) جمهرة الأنساب، ص 383. (¬19) التكملة لكتاب الصلة، نشر الأركون، ص 360؛ التكملة، ط القاهرة: 1/ 368، الإحاطة: 1/ 129، 320، 2/ 293؛ المقري: 1/ 293. (¬20) ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس، القاهرة، 1966، ق 1، ص 323، 300، ق 2، ص 169 - 170؛ التكملة، ط القاهرة، 1/ 199 - 200.

الذي استشهد في معركة بلاط الشهداء، وقد استمر أعقابه في العيش غربي اشبيلية على ضفة نهر الوادي الكبير (¬21). وهناك منطقة أخرى لاستقرار عشيرة غافق تقع إلى الشمال من قرطبة (¬22). وإلى الشمال الغربي من هذا المكان كان يقع حصن يدعى بحصن غافق مما يشير إلى استقرار عدد كبير من هذه العشيرة، وقد برز من هؤلاء قاضيان مشهوران في عهد الإمارة، وهما سعيد بن سليمان الغافقي، وسليمان بن أسود الغافقي (¬23). ومن المناطق الأخرى لاستقرار هذه العشيرة، قرية الغافقيين قرب طليطلة (¬24)، وقرية الملاّحة La Mala جنوبي غرناطة التي كانت تشتهر بكونها منجماً للملح (¬25). ومن القبائل اليمنية الأخرى التي رافقت حملة موسى بن نصير لخم وجذام. وينتمي إلى القبيلة الأولى التي استقرت في مناطق مختلفة، مثل شرق الأندلس واشبيلية، أيوب بن حبيب اللخمي، ابن أخت موسى بن نصير، الذي أصبح والياً على الأندلس بعد مقتل عبد العزيز بن موسى. وقد استقر في اشبيلية، ولكن بعض أحفاده انتقلوا إلى كورة رية (محافظة مالقة الحالية) (¬26). ويبدو أن قادة عديدين من هذه العشيرة كانوا بمعية موسى بن نصير أثناء مجيئه إلى الأندلس، منهم بشر بن قيس اللخمي الذي وقع على معاهدة الصلح مع تدمير (¬27)، وعبد الرحمن بن كثير اللخمي، الذي اختاره أهل الأندلس لتولي النظر في الأحكام بعد وفاة الوالي ثوابة بن سلامة الجذامي (¬28)، وعبد الرحمن بن علقمة اللخمي الذي أصبح حاكماً على أربونة في أثناء ولاية عبد الملك بن قطن الفهري، ولعب دوراً مهماً في الصراع مع بلج بن بشر القشيري (¬29). أما عشيرة جذام، فقد استقرت في تدمير، وقلعة رباح (¬30)، والثغر الأعلى. وقد ¬_______ (¬21) ابن القوطية، ص 13 - 76؛ جمهرة الأنساب، ص 229. (¬22) المصدر نفسه، ص 328 - 329. (¬23) ابن القوطية، ص 59، 72؛ الخشني، قضاة قرطبة وعلماء أفريقية، نشر: عزت العطار، القاهرة، 1952، ص 92 - 94؛ ابن الفرضي، ق 1، ص 158 - 162. (¬24) التكملة، ط الطاهرة: 1/ 319. انظر أيضاً: الخشني، قضاة قرطبة، ص 18. (¬25) التكملة، ط القاهرة: 2/ 609 - 610؛ الأنصاري: 6/ 431 فما بعدها؛ الإحاطة: 1/ 129. (¬26) ابن القوطية، ص 12. (¬27) العذاري، ص 5. (¬28) ابن عذاري، البيان المغرب: 2/ 35. (¬29) ابن القوطية، ص 16 - 17؛ أخبار مجموعة، ص 43 - 44؛ ابن عذاري، 2/ 32. (¬30) جمهرة الأنساب، ص 420 - 421؛ المقري: 1/ 296.

استقر بنو هود، الذين حكموا سرقسطة في عصر ملوك الطوائف، في المنطقة الأخرى وهم ينتمون إلى هود الجذامي، الذي هو الداخل الأول من هذه العشيرة إلى الأندلس، وسكنت جماعات أخرى من بني هود في كورة البيرة في إقليم غني سمي باسمهم إقليم بني هود (¬31). أما عشيرة معافر، فتعد من أولى العشائر العربية التي استقرت في الأندلس. وقد جاءت هذه العشيرة مع حملة طارق بن زياد، وكانت بقيادة عبد الملك بن أبي عامر المعافري، الذي لعب دوراً بارزاً في افتتاح الجزيرة الخضراء وحصن قرطاجنة. وقد استقر هو وأتباعه في الجزيرة الخضراء، وبعد ذلك انتشر أعقابه في البلاد، ومنهم الوزير المشهور والحاجب ابن أبي عامر المنصور (¬32). وينتمي إلى عشيرة معافر أسر عريقة أخرى في الأندلس، مثل بنو جحاف في بلنسية، وبنو منخل في جيان (¬33)، وبنو شراحيل في قرطبة (¬34). وكانت إحدى القرى التي تقع إلى الجنوب من إشبيلية تعد من أهم أماكن استقرار هذه العشيرة، وقد سميت باسمها "قرية كنتش معافر" (¬35). ويبدو أن هؤلاء جاؤوا بعد الفتح، وأُقطعوا أراضي من خمس الخلافة. ويدل على ذلك أن كلمة "كنتش" ما هي إلا تحريف للكلمة اللاتينية Quintus (Quinto بالاسبانية) التي تستعمل للدلالة على الخمس من ممتلكات أو مزارع الفرد (¬36). وقد ضمت حملة موسى بن نصير مجموعة من رجال القبائل الذين ينتمون إلى عشيرة تجيب، وكانوا بقيادة قادة من أمثال سليمان بن قيس التجيبي الذي شهد على معاهدة الصلح مع تدمير (¬37). وقد سكن عدد كبير من هذه العشيرة في منطقة الثغر ¬_______ (¬31) العذري، ص 90؛ ابن عذاري 3/ 221 فما بعدها، ابن سعيد: 2/ 219. (¬32) ابن الآبار، الحلة السيراء، تحقيق: حسين مؤنس، القاهرة، 1963: 1/ 268؛ التكملة، ط. القاهرة: 1/ 359؛ ابن عذاري: 2/ 256 - 257. (¬33) جمهرة الأنساب، ص 419. (¬34) ابن القوطية، ص 53، 58؛ ابن سعيد: 1/ 43؛ الأنصاري: 4/ 105. (¬35) ابن القوطية، ص 64؛ ابن الفرضي، ق 1، ص 18. (¬36) F. J. Simonet, Glosario de voces ibericas Y latinas usadas entre los mozarabes. Amsterdam, 1967, reprint of Madrid edition 1888, pp. 474-476. وللاطلاع على المزيد من هذه المصطلحات الخاصة بالاستقرار، ودلالاتها، انظر؛ عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار، ص 203 - 210، 223. (¬37) العذري، ص 5.

الأعلى في الشمال الشرقي، الذي أصبح الموطن الرئيس لتجيب في الأندلس، لا سيما سرقسطة، ودروقة، وقلعة أيوب (¬38). وقد برز من هؤلاء عميرة بن المهاجر وأخيه عبد الله بن المهاجر، وأصبح الأول حاكماً على مدينة برشلونة لمدة سنتين في أثناء الفترة المبكرة التي أعقبت الفتح (¬39). واستطاع بنو صمادح، الذين ينتمون إلى الأسرة نفسها، السيطرة على مدينة وشقة وما حولها (¬40). كما عاش بنو سلمة التجيبيون في هذه المدينة أيضاً (¬41). وهناك عشائر يمنية أخرى استقرت في الأندلس، مثل خولان، الذين استقروا في كورة الجزيرة الخضراء حيث كان لهم قلعة تسمى بقلعة خولان خثعم (¬42)، حيث كانت شذونة موطناً رئيساً لاستقرارهم (¬43). أما بجيلة، فقد كان موطنها بالقرب من مدينة أربونة (¬44). وقد عاش عدد كبير من المراديين في قرطبة ومناطقها، حيث كان لهم غربي المدينة حصن يعرف باسمهم (¬45). وسكن الجد الأعلى لبني مزين، الذين ينتمون إلى عشيرة أود في أكشونبة Faro Ocsonaba جنوبي البرتغال الحالية، وقد استمرت هذه الأسرة بالعيش في هذه المنطقة واستطاعت أن تنفرد بحكمها في عصر الطوائف، حيث اتخذت من مدينتي باجة وشلب قاعدة لها (¬46). واستقرت منذ زمن الفتح أعداد كبيرة من عشيرة يحصب في القلعة الملكية التي أصحبت تعرف باسم قلعة يحصب (في محافظة جيان الحالية) (¬47). وتعد عشيرة بليّ من العشائر القضاعية التي استقرت في الأندلس ضمن جماعة البلديين. وكان من زعماء هذه العشيرة زياد بن عذرة البلوي الذي شارك في عملية ¬_______ (¬38) المصدر نفسه، ص 22؛ خليل السامرائي، الثغر الأعلى، ص 286، 291 - 292. (¬39) جمهرة الأنساب، ص 430 - 431؛ ابن الآبار، الحلة السيراء، تحقيق حسين مؤنس، القاهرة، 1963، 2/ 78 - 79. (¬40) جمهرة الأنساب، ص 431؛ العذري، ص 73، 84. (¬41) المصدر نفسه، ص 27، 57، 60. (¬42) جمهرة الأنساب، ص 418؛ المقري: 1/ 296. (¬43) جمهرة الأنساب، ص 392؛ المقري: 1/ 296. (¬44) جمهرة الأنساب، ص 390. (¬45) ياقوت، معجم البلدان: 1/ 92؛ ابن سعيد: 1/ 232؛ المقري: 11/ 295. (¬46) ابن حيان، المقتبس، تحقيق، محمود علي مكي، بيروت، 1975، ص 79؛ ابن عذاري: 3/ 192 - 193. (¬47) جمهرة الأنساب، ص 406؛ التكملة، ط. القاهرة: 1/ 211.

اغتيال عبد العزيز بن موسى (¬48). وقد استقرت هذه العشيرة إلى الشمال الغربي من قرطبة في مكان سُمي بلّي على اسمهم يقع في فحص البلوط، الذي كان يشتهر بموارده الغنية؛ لا سيما البلوط والزئبق (¬49). واستقرت عشيرة خشين القضاعية في أماكن مختلفة لا سيما في الجنوب، حيث كان لهم مكان يسمى بجزء خشين (¬50). أما عشيرة عذرة، فكان موطنها الرئيس في ولاية Dalias في محافظة المرية الحالية (¬51)، وفي الثغر الأعلى، لا سيما في سرقسطة (¬52). وكان لهذه العشيرة مناطق وقرى بالقرب من المرية من أهمها جزء زغيبة بن قطبة وياسين بن يحيى العذريين (¬53)، وقرية عذرة (¬54). وإلى هذه العشيرة ينتمي الجغرافي العربي المعروف، أحمد بن أنس العذري، صاحب كتاب ترصيع الأخبار وتنويع الآثار. أما البلديون من مضر فكانوا ينتمون إلى عشائر مختلفة، مثل هذيل الذين استقروا في أوريولة Orihuela في محافظة مرسية الحالية (¬55)، وفي سرقسطة ومناطق أخرى من الشمال الشرقي (¬56). وكذلك تميم، الذين استقروا في اشبيلية وفي منطقة قرب طلبيرة إلى الغرب من طليطلة، تسمى زبارقة، نسبة إلى الزبرقان بن بدر، إحدى شخصيات تميم المشهورة (¬57). وكان بعض زعماء قريش من أهم المضريين الذين رافقوا حملة موسى بن نصير، وتولوا فيها مناصب قيادية مهمة. وينتمي هؤلاء إلى فهر، وزهرة، وعبد الدار، وعدي ابن كعب، وسهم، وغيرها من أمهات العشائر القرشية. ولقد أنجبت فهر اثنين من أشهر ولاة الأندلس، وهما عبد الملك بن قطن الفهري، ويوسف بن عبد الرحمن الفهري، وقد استقر الثاني في البيرة، ثم انتقل إلى قرطبة حينما أصبح والياً للبلاد (¬58). وبرز من ¬_______ (¬48) ابن عذاري: 2/ 24. (¬49) جمهرة الأنساب، ص 443، الحميري، ص 142. (¬50) العذري، ص 120. (¬51) جمهرة الأنساب، ص 450. (¬52) المصدر نفسه، ص 450؛ التكملة، ط. القاهرة: 1/ 365. (¬53) العذري، ص 90. (¬54) الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، نشر دوزي ودي غويه، ليدن، 1866، ص 198. (¬55) المقري (برواية ابن غالب): 1/ 1291. (¬56) ابن الفرضي، ق 1، ص 128؛ الضبي، بغية الملتمس، ص 261. (¬57) جمهرة الأنساب، ص 219. (¬58) ابن عذاري: 2/ 36 - 37؛ المقري (برواية الرازي)؛ 3/ 25.

ذرية الأول أسر كبيرة في الأندلس، أشهرها بيت الجد الأعيان في اشبيلية ونبلة (¬59). أما بنو زهرة، فقد دخل منهم عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، الذي كان على قيادة ميسرة جيش موسى بن نصير في أثناء فتح الأندلس، وهو أول من استقر في مدينة باجة في جنوب البرتغال، وسكنت ذريته في هذه المدينة، وفي بطليوس، واشبيلية (¬60). كما استقرت جماعات أخرى من زهرة أيضاً في سرقسطة في الشمال الشرقي (¬61). ودخل الأندلس من بني عبد الدار، رجل شهير يدعى عامر بن عمرو بن وهب العبدري، الذي اتخذ مسكنه غربي قرطبة، قرب إحدى بواباتها التي سميت باسمه، باب عامر. وقد عاش أحفاده في منطقة سرقسطة فى قرية يقال لها قربلان (¬62). وتشير بعض المصادر إلى استقرار بعض الأفراد من عشيرة عدي بن كعب، الذين ينتمون إلى ذرية الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان موطن هؤلاء الأول، هو طليطلة (¬63). ومن البلديين أيضاً عشائر متفرقة من قيس، أشهرها فهم، التي كان لها موطن بالقرب من طليطلة يدعى (الفهميون) (¬64). وكذلك سُليّم، الذين استقروا في بلفيق في محافظة المرية (¬65). وبعض من أفراد عبس وذبيان، حيث سكن قسم من العبسيين في أبذة Ubeda في محافظة جيان الحالية (¬66). أما البلديون من قبائل ربيعة، فقد كانوا قلة، ومن أشهرهم جماعة سعدون الربعي، الذي رافق حملة عبد العزيز بن موسى إلى تدمير، وشهد على وثيقة الصلح مع قائدها القوطي، وربما سكن هو وعشيرته في هذه المنطقة (¬67). ¬_______ (¬59) التكملة، ط. القاهرة 2/ 542 - 543؛ ابن سعيد: 1/ 340؛ المقري: 1/ 291، 3/ 18. (¬60) جمهرة الأنساب، ص 132، المقري: 1/ 290، 3/ 11، 64، التكملة، ط. القاهرة: 1/ 179. (¬61) الحميدي، ص 200؛ ابن الفرضي، ق 1، ص 108، 290. (¬62) ابن القوطية، ص 23، 26، جمهرة الأنساب، ص 126 - 127؛ فتح الأندلس، ص 46. (¬63) جمهرة الأنساب، ص 154! أخبار مجموعة، ص 101، 105؛ ابن عذاري: 2/ 53. (¬64) ياقوت: 4/ 381. (¬65) الإحاطة: 2/ 143؛ التكملة، ط. القاهرة: 1/ 166. (¬66) انظر: عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار، ص 238. (¬67) العذري، ص5.

الشاميون: وهؤلاء بالأصل من القبائل العربية التي كانت ساكنة في بلاد الشام، أرسلها الخليفة الأموي، هشام بن عبد الملك، إلى شمال أفريقيا للقضاء على تمرد البربر هناك. وكان هؤلاء الشاميون بقيادة كلثوم بن عياض القشيري، ويبلغ عددهم نحو ثلاثين ألف رجل. وقد استطاع البربر أن يهزموهم، ويقتلوا قائدهم كلثوم مع العديد من القواد الآخرين في معركة بقدورة بالقرب من نهر سبو (124 هـ/741 م). أما الناجون من الشاميين، فقد توجهوا بقيادة بلج بن بشر، ابن أخي كلثوم، إلى جهة المغرب، حيث دخلوا مدينة سبتة وتحصنوا فيها. وقد حاصرهم البربر لمدة بضعة أشهر، وخربوا المناطق المحيطة بالمدينة، وأقفروا ما حولها مسيرة يومين، حتى كاد بلج وأتباعه الذين كانوا يبلغون نحو عشرة آلاف رجل، أن يهلكوا من قلة موارد العيش. وأصبحت حالتهم في سبتة تعيسة للغاية، فاضطروا إلى أكل دوابهم، وأضحوا على شفا الموت جوعاً (¬68). وكانت الأندلس في تلك الأثناء يحكمها الوالي عبد الملك بن قطن الفهري. وقد التمس بلج بن بشر عدة مرات من عبد الملك بن قطن، أن يسمح له ولرجاله بالعبور إلى الأندلس، ولكن الأخير امتنع عن السماح للقادمين الجدد بالدخول، ورفض طلب بلج، وكان عبد الملك بن قطن وكبار رجال البلديين، يخشون من دخول الشاميين واحتمال قيام بلج بن بشر بإبعاد عبد الملك عن ولاية الأندلس، التي كانوا يعدونها، كما أسلفنا، بلدهم الخاص بهم، ولا يسمحون باستقرار عشرة آلاف رجل آخر في أراضيهم التي افتتحوها بأنفسهم. وهكذا رفض عبد الملك بن قطن كل التماسات أهل الشام، كما منع إرسال أية تموينات إليهم، وعاقب بقسوة أولئك الذين تجرأوا على شحن الأطعمة للشاميين (¬69). لكن تطور الأحداث في الأندلس ذاتها، اضطر عبد الملك بن قطن إلى تغيير رأيه. فقد أثرت أحداث شمال أفريقيا على الأندلس، وقام البربر بالتمرد على العرب في هذه الولاية أيضاً. وعندما فشلت قوات عبد الملك الخاصة بالقضاء على هذا التمرد، أيقن أنه لا خيار له من أجل التغلب على البربر، إلا بالسماح بدخول الشاميين إلى الأندلس. فعقد معهم اتفاقاً، كان على الشاميين بموجبه أن يسلموا إليه عشرة ¬_______ (¬68) أخبار مجموعة، ص 35، 37؛ ابن عذاري: 1/ 55 - 56، ج 2، ص 30؛ المقري: 3/ 20. (¬69) أخبار مجموعة، ص 38؛ المقري: 3/ 20.

رهائن من كل جند لضمان مغادرتهم الأندلس خلال سنة واحدة، بعد أن يكونوا قد هزموا البربر. وبالمقابل فقد تعهد عبد الملك بنقلهم أثناء عودتهم إلى شمال أفريقيا في مجموعة واحدة، دون أن يفصلهم، أو يعرضهم لخطر البربر في شمال أفريقيا. فعبر بلج ورجاله، واستطاعوا أن ينتصروا بسرعة على البربر في الأندلس، ثم رفضوا أن يغادروا البلاد. ومن هنا فقد قام صراع مرير بين المستقرين الأوائل، أو البلديين، وبين الشاميين، استمر حتى وصول والٍ جديد للأندلس، هو أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي، سنة 125 هـ/742 م. لقد كان على علي بن أبي الخطار أن يعمل على إيجاد جو مناسب لاستقرار الشاميين في البلاد، ولم تكن هذه المهمة سهلة، لأن قرطبة كانت قد ازدحمت كثيراً، والبلديون يطالبون بانسحاب الشاميين وإخراجهم من البلاد، ولحل هذه المشكلة قرر أبو الخطار أن يمنح الشاميين إقطاعات من الأرض، في مناطق لم يستقر فيها البلديون بعد، تقع في كور معينة من الأندلس، وبهذا يتمكن الشاميون من الاستقرار تحت إمرة زعمائهم، وأن يكونوا جاهزين للجهاد والخدمة في الجيش العربي وقت الحاجة (¬70). وقد جرى توزيع الشاميين واستقرارهم في الأندلس على غرار تجمعاتهم السابقة في بلاد الشام، أي نظام الجند. وقد تحرى أبو الخطار أن يكون استقرار كل مجموعة في مكان يحمل بعض التشابه للجند الأصلي الذي كانت تنتمي إليه في بلاد الشام. ومن هنا، فقد استقر جند دمشق في البيرة، وجند حمص في اشبيلية ونبلة، وجند قنسرين في جيان، ووزع جند فلسطين بين شذونة والجزيرة الخضراء، وجند الأردن في رية (محافظة مالقة الحالية)، أما جند مصر، فقد قسم إلى قسمين، وزع الأول على أكشونبة Ocsonaba (Faro) ، وباجة في جنوب البرتغال الحالية، والثاني في تدمير (محافظة مرسية الحالية) (¬71). أما أولئك الشاميون الذين سكنوا في مناطق مختلفة مع البلديين، قبل ترتيبات الاستقرار التي وضعها أبو الخطار، فقد بقوا في أماكنهم الأولى، ولهذا سموا بالشاذة، لأنهم شذوا في أماكن استقرارهم عن بقية إخوانهم الشاميين (¬72). وباستثناء كورة تدمير، لا تتوفر لدينا معلومات تشير إلى أن أياً من أماكن الاستقرار ¬_______ (¬70) الإحاطة (برواية ابن حيان):1/ 102 - 103. (¬71) انظر: ابن القوطية، ص 20؛ أخبار مجموعة، ص 46، ابن عذاري: 2/ 33؛ الإحاطة: 1/ 102 - 104. (¬72) المصدر نفسه: 1/ 104.

هذه قد تم الاستيلاء عليها نتيجة معاهدات صلح عقدت بين العرب وأهل البلاد. ولكن يبدو من الواضح في زمن الوالي أبي الخطار، أن السكان المحليين كانوا يمتلكون معظم هذه المناطق. وكان البلديون، بطبيعة الحال، قد افتتحوا بعض هذه المناطق عنوة، ولكن من المحتمل جداً أن السكان المحليين استمروا في الاحتفاظ ببقية هذه الأراضي. ويعود هذا إلى قلة عدد المسلمين الفاتحين الأوائل، وإلى حصانة مواقع بعض هذه الأماكن. ولكن وصول الشاميين غير ميزان القوى في البلاد لصالح المسلمين، ومن هنا فلم تكن هناك مشكلة أمام أبي الخطار لإنهاء اتفاقية عبد العزيز - تدمير في منطقة مرسية، ولتوزيع أجزاء من الأراضي التي كانت ما تزال بيد السكان المحليين على الجنود الشاميين في الكور المذكورة أعلاه، والتي أصبحت منذ ذلك الوقت تسمى بالكور المجندة. وكانت تنظيمات أبي الخطار تنص أن يكون للشاميين ثلثا الأراضي والمزارع التي يستقرون فيها، ويبقى الثلث الآخر للسكان المحليين الذين استمروا في الزراعة والعمل على ازدهار قراهم وأراضيهم (¬73). لم يكن الشاميون مطالبين بالقيام بأية التزامات أخرى ما عدا الخدمة في الجيش، والاستعداد للجهاد عند الحاجة. وكانوا معفين من أداء العشور على الأراضي التي يقيمون عليها، بينما كان يتوجب على البلديين، وبقية المسلمين الآخرين دفع هذه الضريبة. وفي العهود اللاحقة، أثناء فترة الإمارة وعصر الخلافة، حصل الشاميون على امتيازات أخرى على حساب البلديين، الذين ابتدأوا يفقدون بالتدريج سيادتهم الأولى منذ دخول الشاميين إلى الأندلس (¬74). وكان هؤلاء الشاميون يتألفون من ثمانية آلاف عربي، ونحو ألفين من الموالي. وينتمي العرب إلى مختلف عشائر اليمن وقيس ومضر وربيعة. أما الموالي فكانوا ينتمون إما إلى أصول بيزنطية، أو بربرية وشمال افريقية. وقد أصبح هؤلاء الموالي الذين دخلوا مع الشاميين يُسمّون بالموالي الشاميين، بينما أطلق على الآخرين الذين دخلوا مع البلديين اسم الموالي البلديين. وبما أن الكثير من موالي المجموعة الأولى كانوا على اتصال وثيق بالأسرة الأموية الحاكمة، فقد عرفوا أيضاً باسم موالي بني أمية (¬75). وقد تركز استقرار هؤلاء الموالي في كورتي البيرة وجيان، ومما يدل ¬_______ (¬73) انظر: الحميري، ص 36؛ الإحاطة: 1/ 102، 103، 107. (¬74) المصدر نفسه: 1/ 104 - 105. (¬75) انظر: ابن حيان، المقتبس، تحقيق: محمود علي مكي، ص 196، 197، ابن الآبار، الحلة السيراء، 1/ 201؛ أخبار مجموعة، ص 66، 70، 71، 82، 86، 87، 91، 92.

على كثرة عددهم في كورة البيرة، إطلاق اسمهم على أحد وديانها الذي كان يعرف باسم وادي بني أمية (¬76). أما بالنسبة إلى العشائر العربية الشامية، فقد استقر العديد منها في كورة البيرة، وبشكل خاص القيسيين. ومن هؤلاء، عشائر محارب، وهوازن، وغطفان، وكعب بن عامر، وقشير، ونمير، ومرّة، وفزارة، وسليم (¬77). كما استقر أيضاً في منطقة البيرة بعض الأفراد الذين ينتمون إلى قبائل مضرية وربيعيّة، ولكن عددهم لم يكن كثيراً. أما أهم القبائل اليمنية التي استقرت في البيرة وما يجاورها، فهي قبيلة همدان، التي كان بحوزتها إقليم كامل سمي بإقليم همدان، الذي يقع بالقرب من غرناطة (¬78). وقد استقرت بعض الجماعات التي تنتمي إلى غسان أيضاً في منطقة البيرة، حيث كانت لهم قرية تدعى بقرية غسان (¬79). كما استقر قسم من هؤلاء أيضاً في منطقة أخرى تدعى بوادي آش (¬80). لقد كانت القبائل اليمنية تشكل أغلبية جند حمص وفلسطين والأردن، ومن هنا فقد كان تركزها كبيراً في كل من إشبيلية، ونبلة، وشذونة، ورية (¬81). وتعد عشيرة لخم من أشهر العشائر اليمنية التي استقرت في كل من إشبيلية وشذونة والجزيرة الخضراء (¬82). وإلى هذه العشيرة ينتمي آل عباد الذين سيطروا على إشبيلية في عصر دول الطوائف (¬83). وبرزت من هذه العشيرة أيضاً أسر كبيرة لعبت دوراً مهماً في تاريخ منطقة إشبيلية وقرمونة، مثل بنو حجاج، وبنو مسلمة (¬84). وكانت كلب العشيرة القضاعية الرئيسة في جند حمص، واستقر أفرادها في إشبيلية ¬_______ (¬76) العذري، ص 92. (¬77) جمهرة الأنساب، ص 265، 280، 290؛ أخبار مجموعة، ص 65؛ الحلة السيراء: 1/ 154 - 155؛ التكملة، ط. القاهرة: 1/ 253، 337، 2/ 572؛ الإحاطة: 1/ 127، 135، 162 - 163، المقري: 1/ 292. (¬78) العذري، ص 90. (¬79) الإحاطة: 1/ 128. (¬80) ابن القوطية، ص 22. (¬81) أخبار مجموعة، ص 83. (¬82) جمهرة الأنساب، ص 424. (¬83) المصدر نفسه، ص 424؛ الحلة السيراء: 2/ 34 - 35؛ ابن عذاري: 3/ 193 - 195. (¬84) ابن القوطية، ص 6؛ جمهرة الأنساب، ص 424 - 425.

ونبلة ومورور، وبالقرب من المدور، حيث كان لهم منطقة تدعى بوادي الكلبيين (¬85). أما عشائر حضرموت، فكانت تتركز في منطقة الشرف، غربي إشبيلية (¬86). كما استقر قسم منهم أيضاً في منطقة قرمونة التي تبعد نحو ثلاثين كيلومتراً إلى الشرق من إشبيلية. ويعد خالد بن عثمان بن هانئ، الذي يدعى أيضاً باسم خلدون، من كبار شخصيات حضرموت في قرمونة، وإليه ينتسب المؤرخ العربي المشهور ابن خلدون (¬87). ومن العشائر اليمنية الأخرى الشهيرة في منطقة إشبيلية، عشيرة يحصب التي كان يتزعمها أبو الصباح يحيى بن يحيى اليحصبي. وكان هذا يعد أيضاً شيخاً لكل العشائر اليمنية في غرب الأندلس، وقد اتخذ مسكنه في قرية تسمى مورة، وتقع في منطقة الشرف (¬88). وكانت كلاب من أشهر العشائر القيسية التي استقرت في كورة جيان. ومن قادتها البارزين، الصميل بن حاتم الكلابي، الذي لعب دوراً مهماً في الأحداث في أثناء عصر الولاة (¬89). أما عشيرة عقيل، فقد استقرت أيضاً في هذه الكورة، وكانت بقيادة الحصين ابن الدجن العقيلي، الذي كان في الوقت نفسه زعيماً لكل العشائر التي تنتمي إلى كعب ابن عامر في جند قنسرين في جيان (¬90). ومن العشائر المضرية التي استقرت في جيان، عشيرة أسد بن خزيمة، التي سكن بعض أفرادها في مكان يدعى وادي عبد الله في كورة جيان (¬91). وكذلك عشيرة كنانة، التي عاشت في مكان سمي أيضاً (كنانة) نسبة إلى اسم العشيرة (¬92). وتعد يعمر العشيرة الرئيسة التي تعود في أصلها إلى ربيعة في كورة جيان، وقد استقر أفرادها في منطقة أبدة إلى الشمال الشرقي من جيان (¬93). أما العشائر اليمنية، فكانت قليلة في كورة جيان، ومن أشهرها شعبان، وأصبح وطيء (¬94). ¬_______ (¬85) العذري، ص 101. (¬86) ابن حيان، المقتبس، نشر: أنطونيا باريس، 1937، ص 69؛ التكملة، ط. القاهرة: 1/ 283. (¬87) جمهرة الأنساب، ص 460، ابن خلدون، التعريف بابن خلدون، منشور مع كتاب العبر، 7/ 795 - 796، 798. (¬88) جمهرة الأنساب؛ ص 460 - 461. (¬89) المصدر نفسه، ص 287 - 288؛ ابن القوطية؛ ص 40؛ أخبار مجموعة، ص 56. (¬90) المصدر نفسه، ص 44، 65. (¬91) جمهرة الأنساب؛ ص 192؛ ابن عذاري: 2/ 161. (¬92) أخبار مجموعة، ص 122 - 123؛ وانظر: عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار، ص 261. (¬93) جمهرة الأنساب، ص 293، التكملة، ط. القاهرة: 1/ 110 - 111. (¬94) راجع عن هؤلاء: عبد الواحد طه. الفتح والاستقرار، ص 262 - 263.

ومن جهة أخرى كانت هذه العشائر اليمنية تكثر في جند فلسطين، حيث استقر العديد من أفرادها، لا سيما عشائر لخم وجذام، في منطقة شذونة والجزيرة الخضراء (¬95). ومن مشاهير جذام على سبيل المثال، ثوابة بن سلامة الجذامي، الذي أصبح أحد ولاة الأندلس (¬96). وتشكل القبائل اليمنية أيضاً غالبية جند الأردن الذين استقروا في رية (أي محافظة المرية الحالية). ومن هؤلاء أيضاً مجموعات من لخم، وجذام، وعاملة، ومذحج، ورعين (¬97). وبرز من عاملة، ثعلبة بن سلامة العاملي، الذي تولى قيادة الشاميين، وولاية الأندلس بعد وفاة بلج بن بشر القشيري سنة 124 هـ/ 741 م (¬98). وكان معظم جند باجة يتألف من القبائل العربية التي كانت تسكن في مصر، ورافقت الشاميين إلى شمال أفريقيا، ومن ثم إلى الأندلس. وتعد عشيرتا يحصب ومعافر من أهم عشائر هذا الجند (¬99). ومن رجال يحصب البارزين، العلاء بن مغيث اليحصبي، الذي سيكون له شأن كبير في عهد عبد الرحمن الداخل (¬100). وبرز من معافر أيضاً عميد أسرتهم عمرو بن شراحيل المعافري، الذي استقر في باجة، ثم انتقل إلى قرطبة، بعد أن عينه عبد الرحمن الداخل قاضياً على هذه المدينة (¬101). أما المجموعة الأخرى من جند مصر، فقد استقرت في تدمير، أي في محافظة مرسية الحالية، وإن أشهر عشائر هذا الجند غسان، ومنهم بنو الشيخ الذين استقروا في الشن Elche وما حولها (¬102). وكذلك بنو خطاب التدمريون الذين ينتمون إلى الأزد. وكان جدهم الأعلى عبد الجبار بن خطاب بن نذير قد سكن أولاً في قرطبة، قرب بوابة عُرفت باسمه، باب عبد الجبار، ولكنه انتقل إثر تنظيمات أبي الخطار إلى تدمير في ¬_______ (¬95) جمهرة الأنساب، ص 421. (¬96) أخبار مجموعة، ص 57؛ فتح الأندلس، ص 38؛ ابن عذاري: 2/ 35. (¬97) انظر عن هؤلاء: عبد الواحد طه، المرجع السابق، ص 264 - 265. (¬98) ابن القوطية؛ ص 14، 17؛ جمهرة الأنساب، ص 419؛ أخبار مجموعة، ص 30، 44، 45 - 46. (¬99) لمزيد من التفصيلات عن جند باجة، انظر: عبد الواحد طه، المرجع السابق، ص 267. (¬100) ابن القوطية، ص 31 - 33؛ أخبار مجموعة، ص 102 - 103. (¬101) الخشني، قضاة قرطبة، ص 39، ابن الفرضي، ق 1، ص 318. (¬102) جمهرة الأنساب، ص 240؛ المقتبس، نشر: انطونيا، ص 21 - 22، العذري، ص 13 - 14، 142، ابن عذاري: 2/ 197.

الجنوب الشرقي من إسبانيا، حيث تزوج هناك من ابنة الحاكم القوطي الشهير تدمير. وعاش أتباع عبد الجبار وأعقابه في تدمير والمناطق المجاورة لها (¬103). البربر: لقد كان استقرار البربر الذين دخلوا الأندلس مع طارق بن زياد مماثلاً لاستقرار البلديين، أي أنهم سكنوا على امتداد الطريق التي سارت عليها حملات الفتح، وقد حاول بعض المستشرقين، وعلى رأسهم رينهارت دوزي R. Dozy، اتهام العرب بأنهم لم يكونوا عادلين في قسمتهم للأرض، فأعطوا البربر المناطق الجبلية القاحلة، وخصوا أنفسهم بالسهول الخصبة (¬104). ولا يمكن العثور في المصادر على ما يؤيد هذا الاتهام الذي لا أساس له من الصحة. فقد كان البربر هم الأغلبية الساحقة في جيش طارق بن زياد، وكذلك كانوا بأعداد لا بأس بها في جيش موسى بن نصير، فضلاً عن أن الكثير منهم عبروا إلى الأندلس بعد سماعهم بنبأ انتصار المسلمين على القوط. وهكذا فقد فاق البربر العرب بأعدادهم، ومن غير المحتمل أن يكون للعرب تأثير كبير على استقرار البربر في الأندلس. والواقع فإن استقرار العرب والبربر في الأماكن التي نزلوا فيها لأول مرة، كان يخضع لعامل الصدفة لا غير، إذ لم تكن لديهم فكرة واضحة في البداية عمّا ستكون عليه هذه الأماكن، وإن كان البربر أكثر اطلاعاً ومعرفة بالمنطقة بحكم معيشتهم في الشمال الأفريقي المجاور. ولهذا فقد كانوا في موقف أفضل لاختيار أحسن المناطق للاستقرار فيها. ويمكن تفسير وربط اختيارهم للمناطق الجبلية في الأندلس بالحقيقة التي توضح بأن عدداً كبيراً منهم عاشوا بالأصل في مناطق جبلية في شمال أفريقيا، ولهذا فليس من الغريب أن نجدهم يستقرون في الأماكن التي تشابه مناطق استقرارهم الأصلية (¬105). وينتمي البربر الذين دخلوا الأندلس إلى العديد من قبائل البتر والبرانس في شمال ¬_______ (¬103) العذري، ص 15 - 16؛ الحلة السيراء: 2/ 208، 311، المقتبس، نشر انطونيا، ص 38، التكملة، ط. القاهرة: 1/ 46، 290، 356. (¬104) دوزي، تاريخ مسلمي إسبانيا: 1/ 157. (¬105) انظر، عبد الواحد طه، المرجع السابق، ص 270 - 271؛ وللاطلاع على تفصيلات استقرار البربر، انظر المرجع نفسه، ص 270 فما بعدها؛ أيضاً عبد الواحد ذنون طه، استقرار القبائل البربرية في الأندلس، مجلة أوراق، يصدرها المعهد الاسباني - العربي للثقافة؛ العدد 4، مدريد، 1981.

أفريقيا، ولكن غالبيتهم كانت من قبيلة مصمودة وفروعها. أما الآخرون، فينتمون إلى القبائل الأخرى، مثل هوارة، ونفزة، وزناتة، ومكناسة، ومطغرة. وقد استقر هؤلاء بصورة عامة في مختلف أنحاء شبه الجزيرة الآيبيرية. ففي الجنوب عاشت أعداد كبيرة منهم في الجزيرة الخضراء، وشذونه وإشبيلية، وقرطبة، ورندة، وجيان والبيرة. وكان لهم في الجزيرة الخضراء على سبيل المثال إقليم كامل يسمى بإقليم البربر (¬106). وكان للبربر من قبيلة مغيلة أيضاً إقليم آخر سمي باسمهم في كورة شذونة (¬107). أما هوارة، فقد استقر جماعة منها بالقرب من جيان وكان لهم حصن يدعى بحصن الهواريين (¬108). واتخذت قبيلة لماية البترية موطنها في رية في إقليم سمي بإقليم لماية (¬109). وسكنت مجموعات كبيرة من مصمودة ونفزة في المنطقة الجبلية المحيطة بمدينة رندة. والتي كانت تعرف باسم تاكرونا (¬110). وكانت أهم مراكز استقرار البربر في الوسط والغرب، تتركز في طليطلة، والمناطق المحيطة بها (¬111). وكذلك في جبال المعدن Sierra de Almaden التي تقع إلى الجنوب من وادي آنة. وكانت هذه الجبال تدعى بجبال البرانس لأن غالبية سكانها من البربر البرانس (¬112). وفي المنطقة الغربية، التي كانت تعرف أيضاً بأرض الجوف سكن عدد كبير من البربر، وكان تركزهم فيها عالياً، حتى قيل بأن " أرض الجوف بلاد البربر " (¬113). وكانت كل من ماردة ومادلين Medellin من أكثر المناطق ازدحاماً بالسكان من البربر (¬114). وقد استقر بنو دانس بن عوسجة من مصمودة في الأقسام الجنوبية من البرتغال في قصر أبي دانس، وكان هؤلاء يتاجرون بالملح المتوفر في منطقتهم (¬115). وقد استقر العديد من البربر في الأقسام الشرقية من الأندلس، لا سيما في منطقتي ¬_______ (¬106) العذري، ص 120. (¬107) المصدر نفسه، ص 113؛ جمهرة الأنساب، ص 499؛ ياقوت: 5/ 136. (¬108) ابن القوطية، ص 32، العذري، ص 21. (¬109) الحميري، ص 170. (¬110) جمهرة الأنساب، ص 500، فتح الأندلس، ص 53. (¬111) المقتبس، نشر: انطونيا، ص 292؛ التكملة، ط. القاهرة: 1/ 315. (¬112) المقتبس، تحقيق: مكي، ص 331، 615 (هامش 456)؛ الحميري، ص 142. (¬113) المقتبس، نشر، انطونيا، ص 139. (¬114) ابن القوطية، ص 67؛ أخبار مجموعة، ص 98، 131؛ فتح الأندلس، ص 35. (¬115) جمهرة الأنساب، ص 501؛ الحلة السيراء: 2/ 272 هامش (1)، الحميري، ص 161 - 162.

بلنسية وتدمير (مرسية) (¬116). وينتمي هؤلاء إلى قبائل من البتر والبرانس. وكان لبربر مصمودة الذين ينتمون إلى البرانس منطقة خاصة بهم بالقرب من بلنسية تدعى بجزء مصمودة (¬117). وقد أقام بعض البربر الذين ينتمون إلى صنهاجة في منطقة مرسية في مكان أطلق عليه اسم (الصنهاجيون) (¬118). وكان أحد أقاليم بلنسية يسمى بإقليم زناتة نسبة إلى هذه القبيلة البترية (¬119). وما يزال العديد من المواقع الأخرى في الأجزاء الشرقية من الأندلس يسمى نسبة إلى قبيلة زناتة، ولا سيما في محافظتي بلنسية، وقسطليون (¬120). وتعد منطقة الشمال الشرقي إحدى أوسع أماكن الاستقرار للبربر في شبه الجزيرة الآيبيرية. وكانت المراكز المأهولة تتمثل بالمناطق التي تشمل وادي الحجارة، ومدينة سالم، وقلعة أيوب، وشنتبرية، ووبذة. حيث سكن في هذه المناطق قبائل تنتمي إلى مغيلة، ومصمودة (¬121). وسكنت جماعات من هوارة في منطقة شنتبرية بقيادة السمح بن ورد - حيقن الهواري، وهو الجد الأعلى لبني ذي النون الذين حكموا طليطلة في عصر الطوائف (¬122). وكان بنو رزين أيضاً ينتمون إلى قبيلة هوارة، وقد استقروا في المنطقة السهلة في محافظة تيروال الحالية، وحكموا المنطقة أيضاً في عصر الطوائف، وكانت عاصمتهم تدعى باسمهم بنو رزين Albarracin، وتقع إلى الغرب من مدينة تيروال الحالية (¬123). واستقرت قبائل أخرى عديدة في الشمال الشرقي، نذكر منها على سبيل المثال، مكناسة، حيث كانت منطقة تسمى باسمهم مكناسة على ضفاف نهر الأبرو (¬124). ¬_______ (¬116) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: 6/ 64، 117؛ الحلة السيراء: 1/ 257؛ ابن عذاري: 2/ 50، 56؛ ابن خلدون: 4/ 268. (¬117) العذري، ص 20. (¬118) البكري، المسالك، ص 128. (¬119) العذري، ص 20. (¬120) انظر: عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار، ص 284. (¬121) مجهول، مفاخر البربر، ص 60، جمهرة الأنساب، ص 499، 501؛ المقتبس، تحقيق: مكي ص 79، 161 - 162؛ العذري، ص 44. (¬122) المقتبس، نشر: انطونيا، ص 18؛ العذري، ص 4، 15، جمهرة الأنساب، ص 499 - 500؛ ابن عذاري: 3/ 276 - 277. (¬123) المقتبس، تحقيق: مكي، ص 234؛ جمهرة الأنساب، ص 499، 500؛ الحلة السيراء: 2/ 109؛ ابن عذاري: 32/ 181 - 182. (¬124) الإدريسي، نزهة المشتاق، ص 190.

أما الشمال والشمال الغربي، فقد تميز أيضاً بوجود العديد من البربر المستقرين. وكانت جليقية Galicia واستورقة، Astorga، وشرطانية Cerretania غربي جبال ألبرت من أهم أماكن الاستقرار (¬125). وكان القائد منوسة، الذي رافق طارق بن زياد، قد استقر في مدينة خيخون Gijon في الأشتوريش Asturias. ثم أصبح فيما بعد حاكماً على شرطانية، ومسؤولاً عن كل المنطقة التي تمتد من جبال ألبرت إلى المحيط الأطلسي (¬126). ومما يؤسف له عدم توفر المعلومات الكافية عن البربر المستقرين في هذه الأماكن النائية، باستثناء ما جاء في المصادر من أن عددهم كان كبيراً. ومع هذا فهناك دراسات لأسماء المواقع الجغرافية في المنطقة التي تحمل أسماء قبائل بربرية، ويمكن أن نستنتج من هذه الدراسات بعض المعلومات عن استقرار البربر في هذه الأماكن (¬127). ومن الجدير بالذكر أن معظم البربر الساكنين في هذه المنطقة تحولوا فيما بعد إلى الجنوب، أو عبروا إلى شمال أفريقيا، بسبب الصراع الداخلي، وازدياد وتنامي قوة المسيحيين في الشمال الغربي، بالإضافة إلى ظروف طبيعية أخرى تتعلق بتعرض هذه المناطق إلى الجفاف الشديد، مما أدى إلى حصول مجاعة وصلت ذروتها عام 136/ 753. فنزح معظم البربر إلى مناطق أخرى، وعبروا من وادي البرباط Barbate في كورة شذونة إلى شمال أفريقيا (¬128). ¬_______ (¬125) أخبار مجموعة، ص 38، 39، 40؛ فتح الأندلس، ص 31؛ ابن عذاري 2/ 29، 30 - 31؛ المقري: 1/ 276. (¬126) The Chronicle of 754, p. 155 (no. 58) ; The Chronicle of Alfonso III, p. 612; cf: Saavedra, op. cit., p. 70. (¬127) انظر: عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار، ص 289. (¬128) أخبار مجموعة، ص 61 - 62؛ فتح الأندلس، ص 43 - 44؛ ياقوت: 2/ 136؛ الحميري، ص 100.

الباب الثاني: عهد الإمارة في الأندلس

البَابُ الثَّانِي عهد الإمارة في الأندلس الفصل الأول: دخول عبد الرحمن بن معاوية الأندلس وتأسيس الإمارة الأموية. الفصل الثاني: أعمال الأمراء الأمويين في تثبيت السلطة والاستقرار. الفصل الثالث: علاقة الدولة العربية الإسلامية في الأندلس مع الإمارات الاسبانية في الشمال. الدكتور عبد الواحد ذنون طه

الفصل الأول دخول عبد الرحمن بن معاوية الأندلس وتأسيس الإمارة الأموية

الفَصْلُ الأَوَّل دخول عبد الرحمن بن معاوية الأندلس وتأسيس الإمارة الأموية انتقلت الخلافة، على أثر نجاح الثورة العباسية، من الأمويين إلى العباسيين. وقد توفي آخر خلفاء بني أمية، مروان بن محمد، في مصر، وانتهى أمر بني أمية بالمشرق سنة 132 هـ/750 م وابتدأ العباسيون في أعقاب سقوط الخلافة الأموية باضطهاد أفراد البيت الأموي الحاكم، وتتبعهم بالقتل والتمثيل أينما وجدوا. وفي مصادرنا روايات عديدة عن هذا الأمر ربما كان معظمها موضوعاً، منها على سبيل المثال، أن العباسيين بتروا يد أبان بن معاوية بن هشام وقدمه، وطافوا به في كور الشام، وهو على هذه الصورة المشوهة، وأركبوه حماراً ومن ورائه مناد ينادي: " هذا أبان بن معاوية فارس بني أمية " حتى مات. كما ذبحوا عبدة بنت هشام بن عبد الملك لأنها رفضت أن تدلهم على المكان الذي أخفت فيه مجوهراتها. ونتيجة لهذه المعاملة هرب وجوه بني أمية واختفوا عند القبائل العربية في البادية. ومن هؤلاء عبد الواحد بن سليمان، والغمر بن يزيد وغيرهما. وعندما رأى العباسيون ذلك، وأن سياسة الاضطهاد لم تأت بما يرجونه من استئصال بني أمية، سلكوا سبيلاً آخر تميز بالخديعة والغدر. فأصدر أبو العباس عبد الله " السفاح "، الخليفة العباسي الأول، بياناً اعترف فيه بإسراف العباسيين في اضطهاد الأمويين، وندمهم على ذلك، وأمَّن من بقي منهم على قيد الحياة. وقد أذاع عم الخليفة عبد الله بن علي، هذا البيان في بلاد الشام، فخدع عدد كبير من بني أمية به، ولبوا دعوة عبد الله إلى الظهور، فاستطاع بهذه الطريقة أن يقتل ما يربو على سبعين رجلاً آخر منهم في مجزرة نهر أبي فطرس، قرب الرملة في فلسطين، وكان يحيى وعبد الرحمن، حفيدا الخليفة هشام بن عبد الملك، من المحظوظين القلائل الذين نجوا من هذه المذبحة البشعة (¬1). ولكن العباسيين استطاعوا بعد هذه المذبحة أن يلقوا القبض ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة، ص 46 - 50؛ المقري: 1/ 327 - 328؛ وانظر: دوزي، تاريخ مسلمي إسبانيا: 1/ 182 - 183؛ عنان، المرجع السابق، 1/ 148.

على يحيى ويقتلوه، أما عبد الرحمن فقد كتبت له النجاة لأنه كان غائباً في الصيد في أثناء غارة الجند على القرية التي كانا يختفيان فيها. وعندما عاد وعلم بمصير أخيه المحزن، انتهز فرصة الظلام وهرب بعد أن أوصى أختيه، أم الأصبغ، وأمة الرحمن، أن يتبعانه مع ولده سليمان، إلى قرية أخرى عينها لهم. هروب عبد الرحمن بن معاوية إلى المغرب: ولم يفكر عبد الرحمن في المكوث طويلاً في مخبئه الجديد بعد أن لحقت به أسرته، بل كان يفكر في التوجه نحو المغرب، ولكن العباسيين سرعان ما اكتشفوا مكانه، وداهموه من جديد. وينقل لنا مؤلف كتاب "أخبار مجموعة" رواية هروب عبد الرحمن بن معاوية على لسانه في قصة مؤثرة. فقد كان عبد الرحمن يرقد في حجرة مظلمة لرمد في عينه حين دخل عليه ابنه سليمان، خائفاً فهرع الأب ليرى ماذا يجري في الخارج. فرأى رايات العباسيين السوداء تحاول تطويق القرية فأسرع لضيق الوقت بأخذ بعض المال، وأوصى أختيه بأن يلحق خادمه بدر بما يصلحه إذا سلم من مطارديه. وكان هؤلاء قد سدوا عليه كل منافذ الهرب، فلم يبقَ أمامه وأمام أخيه الأصغر الذي رافقه سوى إلقاء نفسيهما في نهر الفرات. واستطاع عبد الرحمن أن يقطعه سباحة، ولكن الأخ عجز عن قطعه. فرجع مصدقاً وعد الجنود المطاردين لهما بالأمان إن عادا إليهم. ولكن هؤلاء قتلوه أمام عيني أخيه عبد الرحمن في الضفة الأخرى من النهر. ولما أمن عبد الرحمن من خطر مطارديه، سار متخفياً وهو ينوي التوجه إلى المغرب. وتذكر لنا هذه الرواية أن نفس عبد الرحمن كانت تحدثه بما سيكون له من شأن في المغرب أو الأندلس، وأن ذلك بسبب نبوءة كان يعرفها بنو أمية ويرددونها قبل سقوطهم (¬2). ولد عبد الرحمن في سنة 113هـ/731 م في بلاد الشام في قرية تعرف بدير حنين، وقيل بل ولد بالعليا من أعمال تدمر. وكانت أمه سبية بربرية من قبيلة نفزة في شمال أفريقيا، وتدعى "راح". أما أبوه معاوية، فقد توفي شاباً في أيام أبيه هشام بن عبد الملك سنة 118هـ/736 م، فكفله وإخوته جده هشام بن عبد الملك. وكان جده يؤثره على بقية إخوته ويتعهده بالصلات والعطايا في كل شهر حتى وفاته. وظل عبد الرحمن يعيش مع أهله وإخوته في قرية دير حنين من أعمال قنسرين إلى أن حلت النكبة بأسرته، ¬_______ (¬2) انظر: أخبار مجموعة، ص 51 - 52، ابن عذاري: 2/ 41.

واضطرته الظروف إلى الهرب. وبعد صعوبات بالغة استطاع الوصول إلى فلسطين، حيث التحق به مولاه بدر، ومولى أخته، سالم أبو شجاع. وكان الأخير، الذي يحتمل أن يكون من أصل بيزنطي، حسن المعرفة والاطلاع على مناطق شمال أفريقيا والأندلس، لأنه كان قد دخلها مع موسى بن نصير أو بعده، وشارك في بعض حملات الصوائف في الأندلس (¬3). وقد غادر عبد الرحمن ورفيقاه إلى مصر، ومنها إلى أفريقية، أي تونس الحالية، حيث لم تكن سلطة العباسيين قد اعترف بها بعد هناك. وكان العديد من اللاجئين من أفراد البيت الأموي قد ذهبوا أيضاً إلى أفريقية. ولكن هذا المكان لم يكن ملائماً جداً للجوء، لأنه كان يحكمه عبد الرحمن بن حبيب الفهري، الذي لم يعترف بسلطان العباسيين، وكان يحاول الاستقلال بالحكم، والتطلع إلى تحويل أفريقية إلى إمارة وراثية لأولاده. ولهذا السبب فقد أصبح قلقاً جداً لوجود العديد من الأمراء الأمويين في بلاده. فدبر قتل ابني الخليفة الوليد بن يزيد، كما قرر إبادة الآخرين، لكن عبد الرحمن نجح في الهرب غرباً حيث طلب الأمان بين قبائل البربر (¬4). تنقل عبد الرحمن في شمال أفريقيا من مكان إلى آخر ما يقرب من خمس سنوات، فأقام أولاً عند قبيلة مكناسة البربرية في موضع يقال له باري. ثم غادر غرباً حيث حصل على تأييد بربر قبيلة نفزة، وهم أخواله، حيث كانت أمه نفزية كما أسلفنا. وقد نجح أيضاً في الحصول على حماية قبائل بربرية أخرى كبيرة في المنطقة، مثل زناته ومغيلة. وعمل أحد زعماء هذه القبيلة الأخيرة، وهو أبو قرّة، أو ابن قرّة وأنسوس المغيلي، على التستر عليه أثناء إقامته الأخيرة في شمال أفريقيا (¬5). التفكير في العبور إلى الأندلس: ويبدو أن تفكير عبد الرحمن في ولاية الأندلس ابتدأ عندما كان مقيماً بالقرب من ساحل طنجة عند قبيلة مغيلة البربرية، وكان عبد الرحمن بصفته أحد أفراد البيت الأموي، يعرف ما يجري في الأندلس، ولا بد أن يكون سالماً، مولى أخته، قد حدثه أيضاً عن هذا البلد الواسع وخيراته الكثيرة. يضاف إلى ذلك، الأخبار التي كانت تتوارد ¬_______ (¬3) أخبار مجموعة، ص 55 - 56. (¬4) نفس المصدر، ص 54 - 55. وقارن: أحمد بدر، دراسات في تاريخ الأندلس وحضارتها، ص 75 - 76. (¬5) ابن القوطية، ص 21؛ أخبار مجموعة، ص 55، 74.

إلى شمال أفريقيا عن اضطراب الأحوال في الأندلس، وتنازع القبائل العربية فيها. وكانت الأندلس في ذلك الوقت، أي بعد سنة 130هـ/747 م تقريباً، قد صفت ليوسف ابن عبد الرحمن الفهري، وهو واليها الأخير، وللصميل بن حاتم الكلابي. فقد استطاع الأخير، الذي كان من زعماء جند قنسرين، أن يقود حرباً شعواء على الوالي أبي الخطار الكلبي، انتهت بمقتل الأخير، وهزيمة مؤيديه، الذين كان معظمهم ينتمي إلى القبائل اليمنية، وذلك في موقعة شقندة التي جرت بالقرب من قرطبة. وبعد هذه الموقعة لم يعد هناك منافس ليوسف الفهري والصميل، ولكن يوسف لم يكن له سوى الاسم واللقب، وذلك لاستئثار الصميل بالحكم وتدبير الأمور. وقد أدى هذا الأمر إلى ضجر يوسف الفهري، ففكر بإبعاد الصميل، وذلك بتوليته على مدينة سرقسطة في الشمال الشرقي من البلاد. ورحب الصميل بهذه الفكرة التي اعتقد بأنها ستتيح له السيطرة على جماعات العرب اليمنيين في تلك المنطقة (¬6). استغل عبد الرحمن بن معاوية هذه الأحداث، وحاول أن يستفيد منها في تنفيذ خطته بالعبور إلى الأندلس، وإعادة السلطة الأموية إليها. وقد ساعده في هذا وجود العديد من الموالي أو الأنصار الموالين للأمويين في الأندلس، وبشكل خاص في كورتي البيرة وجيان. وهؤلاء يشكلون مجموعة الموالي الذين رافقوا الشاميين ضمن جندي دمشق وقنسرين. وقد أسلفنا أن هؤلاء كانوا على اتصال وثيق بالبيت الأموي، ولهذا فقد عرفوا بموالي بني أمية. وكانوا يتألفون من نحو خمسمئة رجل في هاتين الكورتين، وإن كان بعضهم قد عاش أيضاً في أماكن أخرى. ومن زعمائهم أبو الحجاج يوسف بن بخت، الذي كان رئيساً للموالي في جيان، وكذلك أبو عثمان عبيد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد، اللذان كانا من رؤساء الموالي في جند دمشق في البيرة (¬7). وكانت حالة هؤلاء الموالي، ومكانتهم جيدة، ويمتلكون ثروة لا بأس بها، لا سيما زعمائهم المذكورين آنفاً، حيث كانت لهم أراضٍ وممتلكات، ونفوذ كبير، وهيبة قوية بين بقية المستقرين في الأندلس يضاف إلى ذلك، أنهم خالطوا كبار القادة من الشاميين والبلديين، فضلاً عن السكان المحليين، وأفراد الأسرة القوطية المالكة السابقة. وقد حصل هؤلاء القادة الثلاثة على عشرة ضياع لكل واحد منهم، منحة من أرطباس بن غيطشة، ملك القوط السابق. فاتخذ أبو عثمان مسكنه في طرش Torrox، وهي قرية ¬_______ (¬6) أخبار مجموعة، ص 62. (¬7) نفس المصدر، ص 66 - 67، 70؛ ابن عذاري (برواية الرازي) ص 2/ 42.

صغيرة، تقع بين لوشة Loja وإزناخار Iznajar، وكانت إحدي الضياع العشر التي أعطيت له من قبل أرطباس. وكذلك فقد أقام عبد الله بن خالد في الفنتين Alfontin، بالقرب من لوشة، وهي أيضاً إحدى قرى أرطباس. أما يوسف بن بخت، فقد كان يقيم في جيان (¬8). اتصال عبد الرحمن بأنصاره في الأندلس: ابتدأ عبد الرحمن اتصاله بالأندلس بأن أرسل رسالة مع مولاه بدر إلى قادة موالي بني أمية في البيرة. وقد شرح لهم في هذه الرسالة كيف أنه عانى العديد من المتاعب، وظل يجوب شمال أفريقيا مدى خمس سنوات، هرباً من مطاردات العباسيين، ووالي أفريقية، عبد الرحمن بن حبيب، الذي حاول القضاء على جميع أفراد البيت الأموي. وذكرهم في هذه الرسالة أيضاً بأنهم موالي بيته، ولذا فمن حقه عليهم أن يحموه ويساعدوه. وأخبرهم أيضاً بأنه لا يستطيع المضي إلى الأندلس خوفاً من حاكمها يوسف الفهري الذي سيعتبره عدواً منازعاً لا حق له في الولاية، مثله كمثل حاكم أفريقية. وقال لهم أخيراً إنه لن يعبر إلى الأندلس إلا إذا تلقى منهم جواباً يؤكد نجاح خطته، وإنهم مساعدوه في إعادة السلطة الأموية إلى الأندلس. وقد عبر بدر إلى الأندلس في أواخر عام 136 هـ/حزيران 754 م، وقابل أبا عثمان في طرش، فأرسل الأخير إلى عبد الله بن خالد، وقررا استشارة يوسف بن بخت، زعيم الموالي في جند قنسرين (¬9). وبعد الاطلاع على الرسالة ومناقشتها من قبل الزعماء الثلاثة، قرروا أن محاولة عبد الرحمن في إعادة الحكم الأموي إلى الأندلس تستحق الدعم والتشجيع، لا سيما أنها سوف تحقق لهم في حالة نجاحها مكاسب كبيرة، وتضعهم في مصاف الحاشية المقربة للأمير. يضاف إلى ذلك، أن نجاح قضية عبد الرحمن سيضمن بالتأكيد مصالح الموالي عامة، وبشكل خاص تملكهم للعديد من الضياع الممتازة، هذا فضلاً عن أن الأمير سيعهد لهم بمعظم المناصب الرفيعة في حكومته الجديدة. ومع هذا، فقد قرر زعماء الموالي التريث، والاطلاع على رأي الصميل بن حاتم في هذا الأمر. وكانوا واثقين من إمكانية الاعتماد على كتمانه للسر، وأنه حتى في حالة رفضه للأمر، فسوف لن يشي بهم عند يوسف الفهري (¬10). وعلى الرغم من ذلك، فقد كان أحد زعماء ¬_______ (¬8) ابن القوطية، ص 21، 24، 38، 40؛ أخبار مجموعة، ص 67، 76، 80. (¬9) المصدر نفسه، ص 67، ابن عذاري: 2/ 41؛ المقري: 3/ 29. (¬10) المصدر نفسه: 3/ 30؛ أخبار مجموعة، ص 67.

الموالي، وهو عبد الله بن خالد، يشك في مساعدة الصميل في تحقيق مشروع عبد الرحمن بن معاوية، لأن أي تغيير في نظام الحكم القائم في الأندلس سيجرد الصميل من قوته ونفوذه في البلاد. ولهذا السبب فقد قرروا أنه من الأفضل إخفاء غرض عبد الرحمن الحقيقي في طلب السلطة، والاكتفاء بشرح الحالة للصميل قائلين أن عبد الرحمن لا يريد إلا الحماية والأمان، واستعادة أملاك الخمس التي تعود إلى جده هشام ابن عبد الملك (¬11). موقف الصميل من قضية عبد الرحمن بن معاوية: وكان الصميل في هذه الأثناء محاصراً في سرقسطة من قبل بعض المجموعات العربية التي قامت بالتمرد على إدارة الصميل ويوسف المشتركة، بقيادة عامر بن عمرو العبدري، والحبحاب بن رواحة الزهري. وقد ضاق الأمر على الصميل ولم يستطيع يوسف الفهري أن ينجده لضعف أمره في قرطبة، بسبب الجفاف والجوع الذي حل في البلاد حتى إنه لم يعد يستطيع الخروج والركوب إلا بنحو خمسين رجلاً من حرسه فقط. فاضطر الصميل إلى طلب النجدة من جماعته وأبناء جنده في كورتي قنسرين والبيرة. ولكي يقدم الموالي يداً للصميل، ساهموا في الحملة التي خرجت من هذين الجندين لنجدته في سرقسطة. وإن هذه المساهمة، بطبيعة الحال ستتيح لهم الفرصة لمقابلة الصميل وعرض أمر عبد الرحمن بن معاوية عليه. فساروا بثلاثين فارساً يصحبهم بدر مولى عبد الرحمن، حيث نجحت الحملة في فك الحصار عن الصميل الذي سر سروراً عظيماً بمنقذيه، وكان هؤلاء الموالي، وبدر أيضاً من جملة الذين نالوا مكافأة الصميل المجزية. وقد باح زعماء الموالي الثلاثة إلى الصميل بسرهم أثناء عودتهم إلى قرطبة، وطلبوا مشورته، قائلين بأنهم سيكونون تبعاً لرأيه، وذلك بالموافقة على أي أمر يقبل به والامتناع عما يرفضه. فلم يجبهم في أول الأمر، ووعدهم بالتفكير في المسألة، لكنه لم يلزم نفسه بأي شيء قبل أن يصل قرطبة. ورجع الموالي إلى مناطق سكناهم في البيرة وجيان، وانتظروا هناك بضعة أشهر حتى كانت لهم الفرصة لرؤية الصميل مرة أخرى. وفي أثناء ذلك الوقت عاد بدر إلى سيده في شمال أفريقيا ليعلمه بنتائج رحلته إلى الأندلس (¬12). ¬_______ (¬11) المقري، 3/ 30. (¬12) ابن عذاري: 2/ 41.

أما في الأندلس، فقد انشغل واليها بالتهيؤ لإخضاع المتمردين في سرقسطة، فأمر فى عام 137 هـ/754 - 755 م باستدعاء الجند من الكور، وأرسل فى طلب كل من أبي عثمان وعبد الله بن خالد لحث موالي بني أمية على الالتحاق بالحملة المتوجهة لقتال المتمردين، ولم يكن زعيماً الموالي يرغبان بمساعدة يوسف الفهري، فأخبراه بعدم إمكانية جماعتهم للمساهمة في الحملة بسبب المجاعة المستمرة في البلاد، ولأن معظم من كان لديه القدرة على المساهمة، سبق أن شارك في حملة الانقاذ التي توجهت لنجدة الصميل في سرقسطة، وهم منهكون بسبب تلك الرحلة الشتوية الشاقة. وقد قدم لهما يوسف مبلغ ألف دينار لتوزيعها على أتباعهم، لكنهما رفضا أخذ المبلغ نظراً لقلته بالنسبة إلى خمسمئة رجل من الموالي. وبعد أن غادرا الوالي، فكرا في أمر المال وإمكانية استخدامه في تسهيل قضية عبد الرحمن بن معاوية، فرجعا وأخذا الألف دينار. ثم وزعا قسماً من هذا المال على أتباعهما، دون مطالبتهم بالالتحاق بجيش يوسف، واحتفظا بالبقية لوقت الحاجة. وفي ذي الحجة 137 هـ/نيسان- أيار 755 م عسكر يوسف الفهري في (مخاضة الفتح) بالقرب من جيان لاستكمال التجميع النهائي لجيشه، وتوزيع الأعطيات على الجنود. وعندما سأل عن الموالي، أجابه أبو عثمان بإمهالهم حتى يبلغ الأمير طليطلة ثم يلحقونه بها، وذلك بعد أن يحصدوا شيئاً من شعيرهم، لأن سنة 137 هـ/754 - 755 م كانت سنة رفاء. فصدقه يوسف ولم يتبادر إلى ذهنه أنه يخدعه، وسمح له بالرجوع إلى الموالي وحثهم على الإسراع والتهيؤ، وغادر هو إلى طليطلة. ولكن أبا عثمان وعبد الله بن خالد لم يغادرا. بل بقيا لمقابلة الصميل، الذي كان ما يزال معسكراً في المنطقة. وقد طلب زعيما الموالي مقابلة الصميل على انفراد، وذكراه بأمر عبد الرحمن بن معاوية. فأجابهما الصميل: إنه لم يغفل ذلك بل فكر فيه ملياً، وكتم أمره ولم يشاور فيه قريباً ولا بعيداً، وأعلمهما أنه يرى بأن عبد الرحمن حقيق بنصره، ومستحق لهذا الأمر، وسألهما أن يكتبا له ويدعوانه للعبور إلى الأندلس. وأضاف بأن يوسف لن يستطيع التدخل، وإنه، أي الصميل، سوف يشير عليه بأن يزوج إحدى بناته من عبد الرحمن، وبهذا يصبح الأخير واحداً منهم، فإن فعل يوسف ذلك استحق الشكر والتقدير من الجميع، وإن كره، هان عليهم إقناعه بالسيف. وقد فرح الزعيمان لسماع مثل هذا الجواب الشافي، وخرجا من عند الصميل، وهما يعتقدان بأنهما قد وفقا في خطتهما (¬13). ¬_______ (¬13) أخبار مجموعة، ص 70 - 72؛ فتح الأندلس، ص 48 - 49؛ انظر أيضاً: ابن عذاري: 2/ 43؛ المقري: 3/ 30.

وعلى الرغم من إدعاء الصميل أنه قد فكر في الأمر وتروى فيه، يبدو أنه لم يكن متاكداً تماماً من موقفه إزاء عبد الرحمن بن معاوية. فيُروى أنه حينما أعطى جوابه إلى زعيمي الموالي في ذلك الصباح، كان قد استيقظ وهو كاره ليوسف الفهري، ولم يكن يعي تماماً خطورة موافقته على دخول عبد الرحمن (¬14). ولهذا فبعد أن غادره أبو عثمان وعبد الله بن خالد، فكر الصميل أكثر بالأمر ودرس نتائجه الخطيرة، وماذا سيكون من أمر القبائل العربية في الأندلس، بل ماذا سيكون من أمره هو، لأنه بالتأكيد أول من سيفقد نفوذه القوي وزعامته للبلاد. وما أن أدرك الصميل ذلك، حتى بادر بإرسال أحد خدمه ليطلب إلى الزعيمين الأمويين التوقف، وذهب إليهما بنفسه، وأخبرهما عن تغيير رأيه إزاء قضية عبد الرحمن بن معاوية. وقد أوضح لهما موقفه قائلاً: بأنه قد فكر بالأمر، وتوصل إلى أنه لا يتمكن من تأييده، لأنه، أي عبد الرحمن بن معاوية، من أسرة قوية يكفي أي فرد منها أن يطغى بنفوذه على كل زعماء الجزيرة، وبضمنهم الصميل نفسه. كما لفت انتباههما إلى أنهم ملزمون جميعاً بطاعة يوسف الفهري الذي يخضع دوماً إلى آرائهم، وينفذ مطالبهم. واختتم الصميل حديثه معهم بالقول بأنه سيكون أول من يسل سيفه على عبد الرحمن ويحاربه ولكنه، مع ذلك، على استعداد لإعانته في أمره إن طلب غير السلطان والولاية، وإنه سيضمن له مواساة يوسف وإكرامه له وتزويجه من ابنته (¬15). الاتصال بزعماء القبائل اليمنية ونجاح دعوة عبد الرحمن: بعد أن فقد زعيما الموالي الأمل في مساعدة الصميل، وبالتالي مساعدة جندي قنسرين ودمشق، لم يكن أمامهما سوى الاتصال بجماعة اليمنيين الذين كانوا يضمون الكثير من البلديين الأوائل، ومعظم رجال الأجناد في حمص والأردن وفلسطين. ومن هنا ففي طريق عودتهما إلى بلدهما، فاتحا كل من يوثق به من الزعماء اليمنيين، ودعوهما إلى تأييد مشروعهما بتحويل الحكم في الأندلس إلى عبد الرحمن بن معاوية. وقد نجحا في ذلك نجاحاً كبيراً، وكانت استجابة اليمنيين مشجعة جداً. ويعود السبب في ذلك إلى أن اليمنيين كانوا منذ هزيمتهم في شقندة يتحينون الفرصة للانتصاف لأنفسهم من الصميل ويوسف. يضاف إلى ذلك، امتعاضهم من إدارة الصميل ويوسف ¬_______ (¬14) أخبار مجموعة، ص 71؛ فتح الأندلس، ص 48. (¬15) أخبار مجموعة، ص 74؛ انظر أيضاً: ابن القوطية، ص 23 - 24.

المشتركة التي استهدفت تجريدهم من بعض ممتلكاتهم لصالح مؤيدي الصميل من جندي قنسرين ودمشق. ولقد كان هؤلاء اليمنيون، بالإضافة إلى الكثير من جماعات البلديين الأوائل، والبربر، وحتى بعض الأفراد القيسيين من جندي دمشق وقنسرين، الذين نفروا أيضاً من سياسة الصميل، يفضلون أي تغيير سياسي في البلاد، فسارعوا بالانضمام إلى تأييد دخول عبد الرحمن إلى الأندلس (¬16). استغل موالي بني أمية نجاح الدعوة لعبد الرحمن، فعجلوا في العمل على وصوله إلى الأندلس وبخاصة أن يوسف والصميل كانا مشغولين في حملتهما على المتمردين في سرقسطة. فابتاعوا قارباً، وأرسلوا خمسمئة دينار مع وفد يتألف من أحد عشر عضواً، يرافقهم بدر الذي كان قد رجع من شمال أفريقيا. وكان هذا الوفد برئاسة تمام بن علقمة الثقفي، ويتألف في معظمه من الموالي. وكان على تمام أن ينفق المال على الأمير عبد الرحمن، ويوزع منه على مضيفه من بربر مغيلة الذين كان يعيش عند شيخهم أبو قرة المغيلي. ومن الجدير بالذكر أن هذه الخمسمئة دينار كانت من بقية المبلغ الذي أخذه الموالي من يوسف الفهري لكي يرافقوه في زحفه على سرقسطة، وقد شاءت الأقدار أن يستعمل هذا المال في نصرة زعيم آخر ينازع يوسف إمارة الأندلس. وعند وصول الوفد إلى شمال أفريقيا، قدّمهم بدر إلى سيده عبد الرحمن، وأخبره عن نجاحهم في الأندلس. وبعد أن تم استرضاء بربر مغيلة، أبحر الأمير عبد الرحمن إلى الشاطئ الاسباني، فنزل في ميناء المُنَكَّب Almunecar، وهو ميناء صغير يقع بين مدينة المرية ومالقة، في ربيع الثاني 138 هـ/أيلول 755 م. وقد استقبله كل من عبد الله بن خالد، وأبي عثمان، اللذان أخذاه أولاً إلى منزل ابن خالد في الفنتين، ومن ثم إلى مسكن ابن عثمان في قرية طُرش (¬17). دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس: أحدث وصول عبد الرحمن إلى الأندلس حركة نشيطة بين صفوف أنصاره من الموالي وغيرهم من اليمنيين. فجاءه إلى مقره في طُرش أبو الحجاج يوسف بن بخت، وجاءته الأموية كلها، كما وفد عليه كل من جدار بن عمرو المذحجي من أهل رية، وعاصم بن مسلم الثقفي، وأبو عبدة حسان، وغيرهم. وأخذ معسكر عبد الرحمن يزداد ¬_______ (¬16) قارن: أخبار مجموعة، ص 74 - 82؛ ابن عذاري: 2/ 44؛ المقري: 3/ 31. (¬17) انظر: ابن القوطية، ص 24؛ أخبار مجموعة، ص 74 - 76؛ ابن عذاري: 2/ 44.

بالمؤيدين والأنصار من كل مكان. وعندما علم يوسف الفهري بوصول عبد الرحمن، كتب إلى عامله على البيرة، يأمره بالقبض على الداخل، ولكن عامل البيرة أجاب أنه من الصعب تنفيذ هذا الأمر، نظراً لأن عبد الرحمن كان محمياً من قبل مواليه وعدد كبير آخر من المؤيدين. وقد علم موالي بني أمية بهذه المراسلات، فأخفوا عبد الرحمن في المناطق الجبلية المجاورة. وفي الوقت نفسه حاولوا تضليل يوسف الفهري، فكتبوا إليه بأن عبد الرحمن لم يعبر إلى الأندلس طمعاً بالملك والولاية، كما يظن الأمير يوسف، بل جاء يطلب الثراء والأمان بين مواليه. وفي رواية أخرى أن عامل البيرة هاجم فعلاً عبد الرحمن وحماته، لكنه هُزم ولم يتمكن من إلقاء القبض عليه. وقد أعلم يوسف بهذا، وبكل الموقف المتعلق بنزول عبد الرحمن إلى الأندلس، من قبل رسول أرسلته زوجته أم عثمان من قرطبة. وقد وصل هذا الرسول إلى يوسف حينما كان عائداً بجيشه من سرقسطة، بعد أن قضى على التمرد وأعدم قادته هناك. وقد نصح الصميل يوسف بوجوب التوجه فوراً لملاقاة عبد الرحمن. وكان يوسف يرغب فعلاً في هذا، ولكن هذه الأنباء انتشرت بسرعة بين صفوف الجيش، وسببت قلقاً عظيماً في المعسكر. لا سيما وأن الكثيرين من أتباع يوسف كانوا متعبين من أثر حملة كانوا قد قاموا بها على بلاد البشكنس أو الباسك، كما كان البعض منهم ساخطين على يوسف والصميل لقتلهما الزعماء القرشيين المتمردين في سرقسطة. ومن هنا، فقد رفض جنود يوسف الشروع في حملة جديدة، وغادروا معسكره، ولم يبقى معه من أجناد اليمن سوى عشرة رجال. أما بقية الجيش الذي يضم الشاميين في جندي جيان والبيرة، فقد ظلوا لكنهم كانوا قد ملوا السفر، ولهذا حاولوا تهوين الأمر على يوسف وإقناعه بالمضي إلى قرطبة أولاً. لكن الصميل أصر على رأيه الأول في مهاجمة عبد الرحمن بأسرع ما يمكن، فتوجه الجيش لهذا الغرض، ولكن حلول الشتاء وهطول الأمطار وفيضان الأنهار، جعل من المتعذر الاستمرار بالحملة، لذلك أمر يوسف جنده بالرجوع إلى قرطبة (¬18). ويذكر أن الذي شجع يوسف على العودة إلى قرطبة ما ترامى إلى سمعه من أن عبد الرحمن لم يدخل طمعاً بالإمارة، بل لالتماس العيش بها، ومن هنا فمن الممكن أن تنفع المفاوضة معه بدلاً من القتال. فأرسل إليه وفداً يضم ثلاثة أعضاء، ويحمل هدايا نفيسة تتضمن ملابس وخدماً وحيوانات للركوب وألف دينار. وكانت لدى الوفد تعليمات بعرض الثروة والزواج من إحدى بنات يوسف بن عبد الرحمن، فيما إذا كف ¬_______ (¬18) انظر: أخبار مجموعة، ص 77 - 79.

عن المطالبة بإمارة الأندلس. وهناك إشارة إلى أن الوفد عرض على عبد الرحمن أيضاً ولاية منطقتين، هما جند دمشق في البيرة، وجند الأردن في رية (¬19). وقد سار الرسل نحو طُرش، ولكنهم ما إن وصلوا إلى أُرش Orch في أدنى كورة رية، حتى تركوا أحدهم مع الهدايا، حيث كان عليه أن يرجع بها إلى قرطبة في حالة عدم التوصل إلى اتفاق مع عبد الرحمن. وكان الوفد يحمل تعليمات بعرض الصلح والمصاهرة والسلم على عبد الرحمن، وقد مال بعض مؤيديه إلى قبول ذلك، فطلب الأمير من أبي عثمان أن يجيب على رسالة يوسف بالقبول. ويبدو أن أبا عثمان لم يكن راضياً عن نتائج المفاوضات، ولهذا فقد افتعل خصاماً مع أحد الرسل بشأن الرد على الرسالة، وألقى القبض عليه. ثم ذكر الموالي الأمويون لعبد الرحمن أن هذا الحادث هو فاتحة خير ونصر لهم جميعاً على يوسف الفهري. ثم أطلقوا سراح الرسول الثاني، وحاولوا الاستيلاء على الهدايا المخلفة مع الرسول الثالث في أرش، لكن الأخير، وقد علم بنبأ الخصام، نجح بالفرار إلى قرطبة (¬20). تنظيم أنصار عبد الرحمن وبدء الصراع مع يوسف الفهري: لقد كان زعماء موالي بني أمية يعرفون موقف الصميل الدقيق من الأمر، ولا يعتقدون أبداً بإمكانية التوصل إلى حل وسط بين الطرفين. ومن هنا فقد شرعوا فور وصول عبد الرحمن إلى الأندلس بالقيام بسلسلة من الاتصالات مع مختلف الجماعات في المناطق المجاورة. فتوجه يوسف بن بخت إلى كورة رية حيث ضمن تأييد جند الأردن. وكذلك سار عبد الله بن خالد إلى جند فلسطين في شذونة. أما أبو عثمان فقد بقي في طُرش ليهتم بأمر عبد الرحمن، وينظم أولئك الذين جاؤوا لنصرته. ولقد كانت ردود فعل الجندين المذكورين آنفاً مشجعة جداً، أما جندا قنسرين ودمشق، فقد وقفا إلى جانب يوسف والصميل، باستثناء بعض أفرادهما الذين انضموا إلى عبد الرحمن. وقد قرر موالي بني أمية وعبد الرحمن مغادرة كورة البيرة لعدم توفر مؤيدين كثيرين في هذه الكورة. وكانت خطتهم السير إلى الأجناد التي تضم أهل اليمن فى رية وشذونة وإشبيلية، أي أجناد الأردن وفلسطين وحمص. فساروا بستمئة فارس إلى كورة رية. وقد أيد قائد جند الأردن، جدار بن عمرو، عبد الرحمن، وطلب من خطيب جامع ¬_______ (¬19) ابن عذاري: 2/ 45؛ فتح الأندلس، ص 52. (¬20) أخبار مجموعة، ص 80 - 82.

أزشُذُونَة Archidona، قاعدة كورة رية، أن يخلع يوسف الفهري ويخطب لعبد الرحمن بن معاوية، وذلك في اليوم الأول لعيد الفطر (سنة 138 هـ/8 آذار 706 م) الذي صادف دخول الأمير إلى هذه المدينة، فكانت هذه أول خطبة باسم عبد الرحمن على منابر الأندلس. وقد أيد كل أهالي أرشذونة هذا القرار وأقسموا يمين الولاء للأمير الجديد (¬21). وأقام عبد الرحمن ومواليه نحو عشرين يوماً في رية، أرسلوا خلالها مبعوثاً إلى عبد الرحمن بن عوسجة، زعيم البربر في منطقة تاكُرنا (إقليم رندة الحالية). وقد وافق الأخير على تأييد عبد الرحمن، وقدم أربعمئة فارس بربري من موالي الأمويين من بني الخليع في تاكُرنا فالتحقوا بقوات عبد الرحمن. وكان هؤلاء الموالي من موالي يزيد ابن عبد الملك، فأصبحوا في ولاء عبد الرحمن. إن هذه الجماعة من البربر، والجماعات البربرية الأخرى التي أيدت قضية عبد الرحمن بن معاوية، كانوا جميعاً يعملون بالتنسيق مع اليمنيين، لأنهم اعتقدوا بأن التعاون مع العشائر اليمنية المعتدلة من أجل تغيير النظام في الأندلس سوف يعمل بالتأكيد على تحسين الوضع لصالحهم. فقد تأثرت ممتلكات البربر وحيازتهم للأرض، كما هو الحال بالنسبة لليمنيين أيضاً، بإجراءات الصميل وسيطرته المطلقة على البلاد. ولكن من الناحية الأخرى، ساندت جماعات أخرى من البربر يوسف والصميل. وكان هؤلاء، بطبيعة الحال، حلفاءهم المنتفعين الذين فضلوا -مثلهم في هذا مثل الشاميين في جندي جيان والبيرة- استمرار الوضع القائم (¬22). وصل عدد مؤيدي عبد الرحمن إلى نحو ألفي فارس حينما غادر رية إلى شذونة. وفي هذه الكورة الأخيرة انضم إليه عدد كبير من البربر من قبيلة مغيلة، وهم من بني الراس. وقد رحب قادة جند فلسطين، الذين كانوا مستقرين بهذه الكورة، بعبد الرحمن وأيدوه. ومن شذونة أرسل الموالي إلى جند حمص في إشبيلية، وإلى بقية المستقرين في غرب البلاد، يخبرونهم بمسيرتهم إليهم. وبعد أن جاء رد هؤلاء بالموافقة، توجه عبد الرحمن ومواليه وأنصاره إلى إشبيلية. وقد مروا في طريقهم بمورور، التي كانت مقراً للعديد من البربر الذين دخلوا مع زعيمهم، إبراهيم بن شجرة البرنسي، في طاعة عبد الرحمن. وعندما وصل الأمير الأموي إلى إشبيلية، رُحب به من قبل اليمنيين الشاميين والبلديين على حد سواء. وقد استقبله سادة هذه المنطقة، وعلى رأسهم أبو ¬_______ (¬21) ابن القوطية، ص 25. (¬22) قارن: عبد الواحد طه، الفتح والاستقرار، ص 426.

الصباح يحيى اليحصبي، وحيوة بن ملامس الحضرمي، حيث أقسموا له يمين الطاعة والولاء (¬23). ولقد ازدادت قوات عبد الرحمن بمن انضم إليه من اليمنيين والبربر، فأصبحت تتألف من نحو ثلاثة آلاف فارس وعدد كبير من المشاة. وفي هذه الأثناء أراد يوسف والصميل أن يهاجما عبد الرحمن وهو في جند حمص، فسارا بمؤيديهما من جندي قنسرين والبيرة. ولكن ما إن سمع عبد الرحمن بهذا حتى غادر إشبيلية متوجهاً إلى قرطبة بغية الاستيلاء عليها بشكل مفاجئ. ولما أدرك يوسف والصميل، اللذان كانا يسيران بمحاذاة الجانب الآخر لنهر الوادي الكبير، غرض عبد الرحمن، شرعا بالعودة فوراً إلى قرطبة. وهكذا تقابل الجيشان وجهاً لوجه لا يفصلهما سوى نهر الوادي الكبير. كان للأجناد الثلاثة المرافقة لعبد الرحمن، أي الأردن وفلسطين وحمص، ألويتها الخاصة، بينما لم يكن للأمير الأموي علم خاص، لهذا فقد بادر أبو الصباح اليحصبي وعقد له لواء بسيطاً يتألف من عمامة مثبتة على رمح. وحدث هذا في إقليم طشانة Tocina في كورة إشبيلية، بالقرب من بلدة نوبة البحريين، التي كان يسكنها بنو بحر الذين ينتمون إلى قبيلة لخم (¬24). معركة المصارة ودخول عبد الرحمن قرطبة: كانت مياه نهر الوادي الكبير في أقصى ارتفاعها في ذلك الوقت، ولهذا فقد كان من المستحيل على الجيشين عبور النهر. ولكن عبد الرحمن كان متلهفاً لدخول قرطبة ليحصل على تأييد موالي بني أمية الموجودين في المدينة، لذلك عمد إلى إيقاد النار في معسكره ليوهم يوسف أنه مقيم، ثم حاول تحت جنح الظلام أن يسير ويسبق يوسف إلى قرطبة. وكادت خطته أن تنجح لولا تنبه يوسف وصاحبه الصميل لرحيله المفاجئ، فأسرعا عائدين لإنقاذ المدينة. فابتدأ السباق بين الجيشين للوصول إلى قرطبة؛ فكلما سار عبد الرحمن سار يوسف، وكلما عسكر أحد الجيشين، عسكر الآخر في الجهة المقابلة من النهر. وأخيراً توقف جيش يوسف عند المصارة Almazara بالقرب من قرطبة مواجهاً لمنافسه عبد الرحمن الذي فشل في دخول المدينة. وقد أدى هذا الفشل إلى استياء في جيش عبد الرحمن، وبشكل خاص بين الرعاع من هؤلاء، الذين كانوا يأملون في دخول العاصمة والتمتع بخيراتها تعويضاً عما لاقوه من صعوبات وقلة في ¬_______ (¬23) ابن القوطية، ص 21 - 22، 25؛ أخبار مجموعة، ص 83 - 84؛ فتح الأندلس، ص 53. (¬24) ابن القوطية، ص 26! وانظر أيضاً: أخبار مجموعة، ص 84؛ فتح الأندلس، ص 54.

الطعام أثناء المسير، حيث أنهم لم يجدوا في طريقهم سوى بعض النباتات التي كانت تنمو في فصل الربيع على الطريق بين إشبيلية وقرطبة (¬25). انتظر الفريقان ثلاثة أيام حتى ينخفض مستوى ماء النهر - من يوم الاثنين السادس من ذي الحجة إلى الخميس التاسع منه عام 138هـ/الحادي عشر إلى الرابع عشر من أيار 756 م. وفي هذه المدة كان عبد الرحمن يركز انتباهه على أمرين: الأول، هو إنهاء الترتيبات الخاصة بتنظيم قواته وتعيين القادة على الفرق العسكرية المختلفة التي يتألف منها جيشه، والأمر الآخر هو مشكلة عبور النهر دون التعرض إلى خطر الهجوم من قبل الجيش المعادي في الطرف الآخر. فعين عبد الرحمن بن نعيم الكلبي على الخيالة من أهل الشام، وبلوهة اللخمي على المشاة من اليمنيين. وأقام على مشاة بني أمية والبربر عاصم بن مسلم الثقفي، الذي بلغ من حماسه للقتال أن خلع سراويله للعبور والخوض في النهر، فسمي لذلك بالعريان. وجعل على خيل بني أمية حبيب بن عبد الملك القرشي، كما أعطى قيادة فرسان البربر إلى إبراهيم بن شجرة البرنسي، وأخيراً عهد بلواء الجيش كله إلى أحد زعماء الموالي، وهو أبو عثمان عبيد الله بن عثمان. وبالنسبة للمشكلة الثانية، فقد شرع عبد الرحمن في الاتصال بيوسف الفهري وإجراء مفاوضات تمويهية معه بشأن التوصل إلى حل سلمي بين الطرفين. فأرسل عبد الرحمن وفداً إلى يوسف ينبئه بقبول شروطه السابقة، ورجاه ألا يعارض في عبوره هو وجنده إلى الجانب الآخر من النهر ليكون الطرفان جنباً إلى جنب تسهيلاً للمفاوضات. وقد جازت هذه الحيلة على يوسف، فلم يعترض على عبور جيش عبد الرحمن، بل بادر أيضاً بإرسال الغنم والبقر إليهم لإطعامهم. وهكذا قضى جنود الجيشين ليلتهم لا يشكّون بتمام الصلح بين الطرفين. ولكن مفاوضات عبد الرحمن مع يوسف لم تكن سوى وسيلة لتمكينه من العبور بسلام. وما أن تحقق له هذا الهدف، حتى هاجم في صباح اليوم التالي الباكر (الجمعة العاشر من ذي الحجة 138 هـ/الخامس عشر من أيار 756 م) جيش يوسف على حين غرة، واضطره للقتال دون استعداد وتنظيم كاملين. فتولى أمر المشاة على الفور ثلاثة من القادة، وهم كنانة بن كنانة، وجوشن بن الصميل، وعبد الله بن يوسف الفهري. أما خيالة أهل الشام فأعطيت قيادتها إلى علي بن عبيد الكلابي، وقد تزعم أحد موالي يوسف، واسمه خالد سَوْدي، قيادة موالي يوسف وحلفائه من البربر (¬26). ¬_______ (¬25) انظر: أخبار مجموعة، ص 86. (¬26) المصدر نفسه، ص 88.

نشب القتال بالقرب من المصارة، وكانت المعركة قصيرة التحم فيها فرسان عبد الرحمن بالقلب والجناح الأيمن لقوات يوسف وهزموها. ومن هنا فقد فر من أرض المعركة خالد سودي وأتباعه من البربر والموالي، وقتل قادة المشاة الثلاثة المذكورين أعلاه. وقد حاول قائد الجناح الأيسر، عبيد بن علي الكلابي، أن يتدارك الموقف، لكنه لم يتمكن من الصمود أمام فرسان عبد الرحمن فقتل هو أيضاً مع الكثير من رجاله. ولم يكن أمام الصميل بن حاتم الكلابي سوى الهرب إلى جنده في جيان. أما يوسف الفهري، فقد فر هو الآخر من المعركة، وأراد الدخول إلى قرطبة، لكن منعه أحد قادة البربر فاضطر إلى الالتجاء إلى طليطلة أو البيرة (¬27). بعد الانتصار دخل عبد الرحمن إلى قرطبة، ثم أدى صلاة الجمعة في مسجدها الجامع، حيث بايعه أهلها على الطاعة. وقد استغلت بعض العناصر في جيشه هذه الفرصة، وملكها الجشع فشرعت في نهب المدينة، وبشكل خاص، أماكن سكن يوسف الفهري والصميل وممتلكاتهما. هاجم اثنان من عشيرة طيء اليمنية مقر إقامة الصميل في شقندة، على مقربة من قرطبة، ونهباه، وأخذا من جملة الأشياء الثمينة صندوقاً يحوي عشرة آلاف دينار. وعندما علم عبد الرحمن بأعمال السلب والنهب التي جرت في المدينة، أمر بالكف عنها، وإعادة ما أخذ من الأموال إلى أصحابها. ولكن هذا الموقف لم يحظ بتأييد كل أنصار عبد الرحمن، وقد غضب اليمنيون واتهموه بالتعصب إلى قبيلته قريش. أما القادة العقلاء، فقد أخفوا عدم موافقتهم وقبلوا بموقفه، على الرغم من خيبة أملهم فيه. ويعود السبب في هذا إلى أن غرض اليمنيين الأول من تأييد عبد الرحمن كان التخلص من يوسف والصميل، والحصول على المزيد من المصالح والممتلكات نتيجة لتغيير النظام. ولكن موقف عبد الرحمن أثبت خطأ تقديراتهم. ومن هنا فقد أراد بعض قادتهم القيام بعمل سريع ضده والانقلاب عليه وعلى مواليه الأمويين، ليتمكنوا من الاستئثار بالأندلس وحدهم. وكان أبو الصباح اليحصبي، زعيم غرب الأندلس، من أهم القادة اليمنيين الداعين إلى هذا الأمر. ومع ذلك، فقد أُفشيت المؤامرة بسرعة إلى عبد الرحمن، فاتخذ إجراءات فورية لحماية نفسه ودولته الجديدة، فأنشأ شرطة، وعين عليها عبد الرحمن بن نعيم الكلبي، الذي كان ينتمي إلى قضاعة التي ظلت على ولائها له. وهذا أول منصب رسمي يتم إنشاؤه في عهد الأمير عبد الرحمن (¬28). واختار أيضاً ¬_______ (¬27) انظر: ابن القوطية، ص 29، أخبار مجموعة، ص 91؛ ابن عذاري؛ 2/ 47. (¬28) انظر: ابن القوطية، ص 30؛ أخبار مجموعة، ص 90؛ قارن: فجر الأندلس، ص 685.

حرسه الخاص من مواليه، كما أحاط نفسه بموالي الأمويين في قرطبة. نهاية عصر الولاية وقيام الإمارة الأموية في الأندلس: قامت الدولة الأموية في الأندلس على أثر انتصار عبد الرحمن بن معاوية في معركة المصارة ودخوله قرطبة في يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة 138 هـ/14 أيار 756 م. وعلى الرغم من هذا الانتصار، لم يتمكن الأمير الأموي أن يسيطر أول الأمر على الأندلس كلها. فلقد كان ليوسف والصميل الكثير من المؤيدين، مما شجعهما على محاولة استعادة سلطانهما السابق. وقد جاءت إلى يوسف عندما كان في طريقه إلى طليطلة نجدة من الشمال الشرقي، بقيادة ابنه عبد الرحمن، تقدر بخمسمئة فارس. وفي طليطلة نال يوسف تأييد حاكمها الفهري، هشام بن عروة، الذي قدم له تعزيزات كثيرة. وقد قاد يوسف هذه القوات إلى جيان حيث كان الصميل يستنفر أتباعه هناك. فالتقيا، واستوليا على جيان، وطردا منها العامل الذي عينه عليها الأمير عبد الرحمن بن معاوية. ثم سارا إلى البيرة، وأجبرا عاملها أيضاً على الفرار إلى المناطق الجبلية المجاورة. وبوصول هذه الأنباء إلى عبد الرحمن، وجد أنه لا مفر له من السير إليهما قبل أن يستفحل خطرهما على الوضع الجديد. وقد استخلف أبا عثمان على قرطبة، وترك معه بعض الموالي وسكان أهل المدينة من اليمنيين. ولكن ما إن علم يوسف بغياب عبد الرحمن عن قرطبة، حتى أوعز إلى ابنه أبي زيد، الذي كان في ماردة، بمفاجأة قرطبة واحتلالها. ونجح هذا الأخير في مهمته، لكنه لم يتمكن من البقاء فيها، وغادرها فور سماعه برجوع الأمير عبد الرحمن إليها، مكتفياً بأخذ أبي عثمان أسيراً معه. وقد أعاد عبد الرحمن تنظيم المدينة، وعهد بحراستها إلى رجل موثوق، هو عامر بن علي، جد بني فهر الرصافيين. ثم مضى لاستكمال حملته نحو البيرة، وعندما وصل هناك، وجد أن يوسف والصميل مستعدان للمفاوضات. ويبدو أنهما أحسا بعدم قدرتهما على الاستمرار في المقاومة، ففضلا الصلح مع عبد الرحمن. وتم التوصل إلى عقد اتفاق بين الطرفين في سنة 140 هـ/757 م، اعترف بموجبه كل من يوسف والصميل بعبد الرحمن بن معاوية أميراً على الأندلس، مقابل احتفاظهما بكل أموالهما وأملاكهما، وإعلان العفو العام عن جميع أنصارهما. وقد رضي عبد الرحمن بهذه الشروط، ووافق يوسف على أن يستودعه ابنيه، أبا زيد عبد الرحمن، وأبا الأسود محمداً، ليبقيا رهينتين حتى تهدأ الأمور، ويسود السلام. كما تبادلا الأسرى، فأطلق عبد الرحمن سراح خالد بن زيد، الرسول الذي سجن على أثر فشل المفاوضات في طُرش، مقابل إطلاق

سراح أبي عثمان، الذي أسر في الهجوم على قرطبة (¬29). ثم عاد الجميع إلى العاصمة، وسارت الأمور على خير ما يرام لفترة من الزمن، وعامل عبد الرحمن الجميع بلطف وكرم. وقد حاول بعض أعداء الوالي السابق مطالبته بحقوق لهم عنده أثناء ولايته، وادعوا أنه قد استولى هو والصميل على أراضيهم وممتلكاتهم، وطالبوا بمقاضاتهما أمام القاضي يزيد بن يحيى التجيبي. وكان هؤلاء يحسبون أن القاضي سيتحيز ضدهما، ولكنه تمالك نفسه، ولم يقض في أمرهما إلا بالحق، وأظهر براءتهما، فظلا مشمولين برعاية وإكرام الأمير (¬30). ولكن الأمور لم تستمر على هذا المنوال، لأن الوضع الجديد في قرطبة لم يحظ بتأييد الكثير من الأسر القرشية من بني فهر وبني هاشم، الذين كانوا يتولون في العهد السابق أرفع المناصب في البلاد. وقد تحولت هذه المناصب الرئيسة إلى موالي الأمير، وأقربائه الذين جاءوا من المشرق، مثل عبد الملك بن عمر بن مروان، المعروف بالمرواني، وابنه عبد الله، وجزيء بن عبد العزيز بن مروان. ومن هنا، فقد بدأت الجماعات المتضررة بتحريض يوسف الفهري على الأمير الجديد. وقد أذعن يوسف لضغطهم، وحاول أن يستميل الصميل والأجناد الشاميين، لكنه فشل في حملهم على الاشتراك معه في التمرد على النظام الجديد. وعلى الرغم من هذا، فقد فر يوسف من قرطبة واستطاع أن يغري بعض البلديين والبربر في لقنت وماردة وطليطلة، فثاروا في هذه النواحي سنة 141 هـ/758 م. وقد حاول يوسف أن يستولي على مدينة إشبيلية التي كانت تحكم من قبل ابن عم الأمير عبد الرحمن، عبد الملك المرواني. ولكنه ما أن سمع بقدوم جيش عبد الرحمن إليه، حتى رفع الحصار عن إشبيلية، ومضى للقاء عبد الرحمن. وقد لاحق المرواني، وابنه عبد الله، حاكم مورور، يوسف، الذي خشي أن يقع بين كل من جيش عبد الرحمن، وجيش المرواني وابنه، فهاجم الجيش الأخير، وأسفرت المعركة عن هرب رجال يوسف، وفراره هو أيضاً إلى طليطلة. ولكنه لم يتمكن من الوصول إلى هذه المدينة والالتجاء إلى قريبه هشام بن عروة الذي كان عاملاً عليها. فقد استطاع أحد أبناء الأنصار، ويدعى عبد الله بن عمر الأنصاري، أن يتعرف عليه ويقتله على الطريق على بعد ستة كيلو مترات من طليطلة. ثم أقبل عبد الله الأنصاري برأس يوسف على الأمير عبد الرحمن، فأمر بقتل أبي زيد بن يوسف، وأبقى الابن الآخر في السجن لصغر سنه. ولما كان أحد أبناء الصميل مشتركاً في هذه المؤامرة، فإن عبد الرحمن لم يكن ليصدّق بأن ¬_______ (¬29) أخبار مجموعة، ص 93 - 94. (¬30) المصدر نفسه، ص 94 - 95.

الصميل كان لا يعلم بخطة يوسف في التمرد، وأن الأخير قام بهذا العمل من تلقاء نفسه. ومن هنا، فقد اتهم الصميل بهذا التدبير، وبالتستر على هرب يوسف، وألقى عليه القبض وسجنه في قرطبة. وبعد مقتل يوسف وابنه، قتل الصميل في سجنه مخنوقاً بتدبير من عبد الرحمن الداخل (¬31). وهكذا صفا الجو لعبد الرحمن، وانتهى على يديه العصر الأول للعرب في الأندلس، وهو عصر الولاة، وأصبح الحاكم الشرعي للبلاد، مؤسساً بذلك إمارة أموية مستقلة حكمت الأندلس نحو ثلاثة قرون. ¬_______ (¬31) انظر: المصدر نفسه، ص 100 - 101، فتح الأندلس، ص 61؛ ابن عذاري؛ 2/ 49؛ المقري 3/ 35 - 36.

الفصل الثاني أعمال الأمراء الأمويين في تثبيت السلطة والاستقرار

الفَصْلُ الثَّانِي أعمال الأمراء الأمويين في تثبيت السلطة والاستقرار ابتدأ عهد الإمارة في الأندلس بانتصار عبد الرحمن بن معاوية في معركة المصارة، ولم تعد الأندلس تتبع الخلافة الإسلامية في المشرق كما كانت في عهد الولاة. بل أصبحت إمارة مستقلة سياسياً حكمها عبد الرحمن وذريته من بعده. وكان كل واحد من حكامها يسمى أميراً. أما عبد الرحمن، فقد لقب ب (الداخل)، لأنه أول من دخل الأندلس وحكمها من بني أمية. كما يعرف أيضاً باسم عبد الرحمن الأول، تمييزاً له عن أميرين آخرين حكما الأندلس باسم عبد الرحمن، وهما عبد الرحمن الثاني أو الأوسط، وعبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله. أما من الناحية الروحية، فقد استمر عبد الرحمن الأول لفترة قصيرة من الزمن بالخطبة والدعاء للعباسيين في المشرق، لكنه لم يلبث أن قطع الدعاء لهم، بعد أن أشار عليه عبد الملك بن عمر المرواني بذلك. وذكره بسوء صنيع العباسيين ببني أمية. ويذكر المقري أن عبد الرحمن تردد أول الأمر، لكنه قطع الدعاء حين هدده المرواني المذكور بالانتحار إذا لم يقطع الخطبة للخليفة أبو جعفر المنصور، فقطعها عبد الرحمن بعد أن خطب باسمه عشرة أشهر (¬1). ولكن عبد الرحمن وإن كان قد قطع الخطبة للعباسيين، إلا أنه لم يلقب نفسه خليفة، واكتفى بأن أضاف إلى اسمه لقب (ابن الخلائف). ويعود السبب في عدم تلقبه بلقب خليفة، لأنه وخلفاءه كانوا يشعرون بأن الخلافة الإسلامية واحدة لا تتعدد، وأن الخليفة الشرعي للمسلمين، الملقب بأمير المؤمنين، لا يكون إلا لمن يملك الحجاز والشام والعراق، والمواطن التي هي ديار العرب ومراكز الدولة، وأهل الملة والفتح (¬2). ويضيف ¬_______ (¬1) المقري: 3/ 59؛ وانظر أيضاً: ابن حزم، نقط العروس، تحقيق: د. شوقي ضيف، مجلة كلية الآداب (جامعة القاهرة)، المجلد 13، العدد 2، (1951)، ص 75؛ الحلة السيراء؛ 1/ 35؛ العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس، ص 102. (¬2) ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 228؛ وقارن: =

بعض المؤرخين إلى اسم عبد الرحمن لقب إمام (¬3)، وهو أيضاً لقب ديني، لكن يبدو أنه لم يكن لقباً رسمياً يستعمل بالمفهوم الذي يعنيه لقب الخليفة. واستمر خلفاء عبد الرحمن الأول على هذا الحال حتى مجيء عبد الرحمن الثالث، الذي أعلن الخلافة الأموية في الأندلس، وتلقب بلقب أمير المؤمنين سنة 316 هـ/929 م، كما سنرى فيما بعد. وقد نقل عبد الرحمن الأول صيغة الحكم الوراثي إلى الأندلس، وذلك بنقل السلطة إلى أولاده وأحفاده من بعده. وقد صاحب هذه العملية بعض المشاكل، لكنها لم تكن تضاهي ما كان يحصل في المشرق الإسلامي، أمور خطيرة نجمت عن اتخاذ هذا النظام. ويبدو أن عبد الرحمن الأول قد فشل في إيجاد نظام بديل لولاية العهد وتوفي سنة 172 هـ/ 788 م دون أن يتوصل إلى قرار حاسم لهذا الأمر. وتشير الروايات إلى أنه تردد في إسناد ولاية العهد إلى ابنه الأكبر سليمان الذي ولد في الشام، ثم لحق بأبيه إلى الأندلس وأصبح أخيراً حاكماً على مدينة طليطلة، أو إلى ابنه الآخر هشام المولود في الأندلس من جارية اسبانية، وتولى شؤون مدينة ماردة. ويزعم بعض المؤرخين أن عبد الرحمن طلب من ابنه الثالث عبد الله المعروف بالبلنسي، أن يسلم الإمارة، في حالة وفاته، إلى من يسبق من الأخوين في الدخول إلى قرطبة، قائلاً: " فإن سبق إليك هشام، فله فضل دينه، وعفافه، واجتماع الكلمة عليه؛ وإن سبق إليك سليمان، فله فضل سنه، ونجدته، وحب الشاميين له " (¬4). فقدم هشام قبل سليمان، فنال الإمارة ودخل القصر. ولا يعقل، بطبيعة الحال، أن يترك عبد الرحمن ولاية العهد بهذا الشكل، وهو رجل الدولة القوي الذي أقام أركان الدولة الأموية بالأندلس ولا بد أنه عين الأمير هشام لهذا المنصب قبل وفاته. ولكن سليمان لم يعترف بهذا الأمر، فثار في طليطلة، وقامت الحرب بين الأخوين، وانضم الأخ الثالث عبد الله البلنسي إلى سليمان. وقد انتهت الأزمة بهزيمة سليمان وعبد الله، ونفيهما إلى المغرب. وقد تجددت المشكلة حين وفاة هشام سنة 180هـ/796 م، وتولي ابنه الحكم الأول، فرجع عماه سليمان وعبد الله، وثارا مرة ثانية مطالبين بالإمارة. وانتهت ثورتهما هذه المرة أيضاً بالفشل وبمقتل سليمان سنة 184هـ/800 م. أما عبد الله، فقد اضطر إلى عقد الصلح مع ابن أخيه الحكم الذي عفا عنه وحدد إقامته في مدينة بلنسية، ومن هنا صار يعرف بالبلنسي (¬5). ¬_______ = العبادي؛ المرجع.، ص 103. (¬3) العذري، ص 11؛ ابن عذاري: 2/ 54. (¬4) ابن عذاري: 2/ 61؛ ابن الخطيب، أعمال الأعلام، تحقيق: ليفي بروفنسال، القسم الخاص بإسبانيا، بيروت، 1956، ص 11. (¬5) انظر ابن عذاري. 2/ 62 - 63، 70 - 71.

وقد استمر نظام ولاية العهد في الأندلس في عهد الإمارة بعد ذلك يسير دون مشاكل، فعهد الحكم بن هشام إلى ابنه عبد الرحمن بولاية العهد، فانتقلت إليه الإمارة دون ضجة أو معارضة. ثم تولى بعد عبد الرحمن الثاني أو الأوسط ابنه الأمير محمد بن عبد الرحمن الذي انتقلت الإمارة إلى اثنين من أبنائه، وهما المنذر بن محمد الذي حكم سنتين تقريباً، وعبد الله بن محمد الذي حكم نحو خمس وعشرين عاماً. وعهد الأمير عبد الله بالحكم من بعده إلى أحد أحفاده، وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، الذي حكم نحو نصف قرن، وفي عهده أعلنت الخلافة، وابتدأ عهد جديد من عهود العرب في الأندلس، وفيما يأتي ثبت بأسماء الأمراء الأمويين في الأندلس: 1 - عبد الرحمن الأول (الداخل) 138 - 172هـ/755 - 788 م 2 - هشام الأول 172 - 180هـ/788 - 796 م 3 - الحكم الأول 180 - 206هـ/796 - 822 م 4 - عبد الرحمن الثاني (الأوسط) 206 - 238هـ/822 - 852 م 5 - محمد الأول 238 - 273 هـ/852 - 886 م 6 - المنذر بن محمد 273 - 275هـ/886 - 888 م 7 - عبد الله بن محمد 275 - 300 هـ/888 - 912 م محمد (والد عبد الرحمن الناصر) لم يحكم 8 - عبد الرحمن الثالث (الناصر) 300 - 350هـ/912 - 961 م وفي عهده أعلنت الخلافة العربية الإسلامية في الأندلس عام 316 هـ/928 م

لم يكن هؤلاء الأمراء جميعاً على مستوى واحد من القدرة والتمكن من الاضطلاع بشؤون الحكم، فقد تميز منهم عدة أمراء، كان لهم دور كبير في مرحلة التأسيس والتوطيد لهذا العهد، نخص بالذكر منهم الأمير عبد الرحمن الأول، وكل من ابنه هشام الأول، وحفيده الحكم الأول. كما امتاز الأمير عبد الرحمن الثاني بنبوغه وحكمته في إرساء القواعد التي وضعها عبد الرحمن الأول، ووصل بالبلاد إلى حقبة تميزت بالاستقرار والازدهار السياسي والحضاري والاقتصادي. وقد انشغل الأمراء الآخرون بالفتن والثورات التي كانت تقوم على الدولة من قبل مختلف الجماعات والشرائح الاجتماعية التي تعيش في البلاد. فقضوا سنوات حكمهم في صراع مرير لتحقيق وحدة البلاد، ومن هؤلاء الأمراء، الأمير محمد بن عبد الرحمن، وبشكل خاص في السنوات الأخيرة من حكمه، وكذلك ابنيه الأميرين المنذر وعبد الله. وسنحاول فيما يأتي التعرف على أهم إنجازات الأمراء بوجه عام في سبيل تثبيت السلطة والاستقرار، على الصعيدين الداخلي والخارجي. أ - إنجازات الأمراء لتثبيت السلطة الأموية على الصعيد الداخلي: 1 - محاولة تغيير مفهوم الحكم وإحلال سلطة الدولة محل سلطة القبيلة: كانت السلطة في عهد الولاة قبلية، وعلى الرغم من وجود والٍ أو أمير للبلاد، لكن كل قبيلة كانت تخضع لزعيمها، الذي يسعى للحصول على المصالح والامتيازات له ولأفراد قبيلته، ويتصرف مع بقية العشائر والقبائل وفقاً لهذه السياسة. وكانت بعض القبائل عندما تنفرد بالسلطة تنكل بغيرها من القبائل. ولقد رأينا فيما سبق موقف الصميل ويوسف من بقية القبائل اليمنية، لا سيما بعد انتصارهما عليها في معركة شقندة. ومن هنا، فقد كان من أهم أهداف سياسة عبد الرحمن الأول، السيطرة القوية على البلاد، والتقليل من نفوذ رجال القبائل، وإحلال سلطة الدولة ممثلة بالأمير محل سلطة القبائل. وبما أن سلطة الدولة كانت فوق سلطة القبائل ومنازعاتها، لهذا نرى الأمير عبد الرحمن يقف موقفاً حازماً إزاء مؤيديه حينما حاولوا خلق جو من الفوضى والانتقام من المهزومين في معركة المصارة، وذلك بنهب العاصمة قرطبة. وقد ازدادت شكوك عبد الرحمن الأول في جدوى الاعتماد على رجال القبائل وزعمائهم، عندما اكتشف مؤامرتهم للتخلص منه في الساعات الأولى بعد انتصاره على يوسف والصميل. ففكر في تأسيس أول جهاز للشرطة للدولة الجديدة، وأحاط نفسه بالمؤيدين من موالي الأمويين، كما عهد إلى أقربائه، وبعض القادة الموالين من الأجناد بالمناصب الحساسة في البلاد. ونظراً لقلة هؤلاء المؤيدين في أول الأمر، اضطر عبد الرحمن إلى

أن يكيف نفسه للظروف، ويسترضي قادة القبائل، وبشكل خاص اليمنيين، فعين زعيمهم أبا الصباح اليحصبي حاكماً على مدينة إشبيلية. ولكن عبد الرحمن كان يخطط للتخلص نهائياً من نفوذ هؤلاء الزعماء، ولا يمكن أن يتم هذا الأمر إلا بخلق قوة جديدة في البلاد، تحل محل قوة رجال القبائل العرب. وبالفعل، فقد اتجه عبد الرحمن إلى تشجيع البربر على الانخراط في جيشه، ودعا الكثير منهم من شمال أفريقيا، وعاملهم بكرم زائد. وقد شجع هذا الموقف الذي اتخذه عبد الرحمن من البربر، المزيد من إخوانهم الآخرين للعبور إلى الأندلس والخدمة كقوة أساسية في جيشه. كما اشترى بالإضافة إلى هؤلاء الكثير من العبيد، حتى يقال أن عدد جيشه من هذين العنصرين بلغ نحو أربعين ألف رجل. وربما كان في هذا الرقم نوع من المبالغة، لكنه يشير دون شك إلى ازدياد اعتماد النظام الجديد على هذه القوة الفتية (¬6). وكان من جملة المماليك الذين اشتراهم عبد الرحمن، سودانيون، وقد وضع لهم الأمير عرافة خاصة بهم تسمى بعرافة السود (¬7). وهكذا تعددت الأصول التي يتألف منها جيش الأندلس، ولم يعد الأمير يعتمد على العنصر العربي فقط. ومع هذا، فقد ظل الجند العربي في الأندلس قوة أساسية، وكان يتألف من فئتين رئيستين: الشاميين والبلديين، ولكل منهما نظام دقيق في العطاء ذكره لنا المؤرخ ابن الخطيب في كتابه " الإحاطة في أخبار غرناطة "، بتفصيل مفيد (¬8). وقد حاول عبد الرحمن أن يستفيد من هذا الجند، إضافة إلى ما استحدثه من عناصر أخرى، فثبت من بقي على ولائه له. لكنه ألغى ديوان من ثاروا عليه، وأسقط لواء جندهم، كما فعل بجند باجة الذي ثار عليه بقيادة العلاء بن مغيث، فقاتله عبد الرحمن وهزمه، ثم أسقط الجند كله من الديوان، وحمل هو لواءه (¬9). أما تنظيم فرق الجيش في عهد عبد الرحمن، فكان بسيطاً يتألف من فرقتين، هما فرقة الفرسان، وفرقة الرجالة (¬10). ولقد سار الأمير الحكم بن هشام، على خطى جده في تثبيت النظام والاستقرار، والاستكثار من الجند والمماليك. فيشير بعض المؤرخين إلى الحكم على أنه أول من جند ¬_______ (¬6) أخبار مجموعة، ص 108، فتح الأندلس، ص 66 - 67؛ المقري: 3/ 36 - 37. (¬7) أخبار مجموعة، ص 109. (¬8) الإحاطة: 1/ 104 - 105. (¬9) الحميري، ص 36. (¬10) أخبار مجموعة، ص 109؛ وقارن أحمد بدر، المرجع السابق، ص 104 - 105.

الأجناد، واتخذ العدة، ويصفونه بأنه كان أفحل أمراء بني أمية بالأندلس، وأشدهم إقداماً ونجدة، وكانوا يشبهونه أيضاً بأبي جعفر المنصور العباسي في شدة الملك وتوطيد الدولة وقمع الأعداء. وقد أكثر من شراء الأسلحة وتوفيرها للجند، كما اشترى أعداداً كبيرة من العبيد والمماليك يقدر عددهم بنحو خمسة آلاف مملوك، منهم ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل. ولما كان هؤلاء المماليك لا يعرفون اللغة العربية ولا يقدرون على النطق بها، فقد سموا بالخرس لعجمتهم (¬11). وجعل الحكم من هؤلاء حرساً له، كما قسمهم إلى سرايا خفيفة حتى تستطيع الحركة السريعة للقضاء على المتمردين على الدولة. ويذكر مؤلف كتاب " أخبار مجموعة " أنه كانت للحكم ألفا فرس مربوطة إزاء قصره المطل على نهر الوادي الكبير، ويجمعها داران، على كل دار عشرة عرفاء، تحت يد كل عريف مئة فرس. وكان العرفاء يشرفون عليها وعلى علفها، حتى تكون مستعدة دوماً لكل ما يطرأ من أمور، فتتوجه على الفور، بأمر من الأمير، للقضاء على أية حركة معادية، أو للقبض على من تسول له نفسه القيام على الدولة (¬12). وهكذا استطاع هذا الأمير، ومن خلفه من الأمراء أن يثبتوا السلطة والاستقرار في البلاد، ويحموها من مخاطر المتمردين والطامعين. 2 - محاولة الحفاظ على وحدة الأمة الروحية: كانت الحياة الدينية في الأندلس في الفترة الأولى متأثرة ببلاد الشام، فقد اعتنق أهل الأندلس مذهب الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، إمام الشام المتوفى سنة 157 هـ/773 م. وكان هذا الإمام من المجاهدين المرابطين في مدينة بيروت ضد العدو البيزنطي. ومن هنا، فقد كان مذهبه يركز على التشريعات الحربية، وأحكام الحرب والجهاد. وكانت هذه الأمور تناسب وضع أهل الأندلس في الفترة الأولى، حيث كان وضعهم في هذه البلاد قائماً على الحرب والجهاد، ولهذا اعتنقوا مذهب الأوزاعي (¬13). ومن العلماء الذين ساروا بالأندلس على نهج الأوزاعي، صعصعة بن سلام الشامي المتوفى سنة 202 هـ/817 م. وكان تلميذاً للأوزاعي، وعليه كانت تدور الفتيا بالأندلس أيام الأمير عبد الرحمن بن معاوية، وصدراً من أيام هشام بن عبد الرحمن، وولي الصلاة بقرطبة، وفي أيامه غرست الشجر في مسجد قرطبة الجامع، وهذا على مذهب الأوزاعي (¬14). ¬_______ (¬11) المقري: 1/ 340 - 342. (¬12) أخبار مجموعة، ص و 129 - 130. (¬13) قارن: أحمد مختار العبادي، المرجع السابق، ص 114. (¬14) ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس، ق 1، ص 203، ترجمة (610).

ولكن أهل الأندلس بدأوا باعتناق مذهب الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، المدينة المنورة، المتوفى سنة 179هـ/795 م، وذلك منذ أيام الأمير هشام بن عبد الرحمن. وقد انتقلت الفتوى تبعاً لذلك إلى رأي مالك بن أنس، وانتشر علمه ورأيه في قرطبة والأندلس جميعاً، بل في شمال أفريقيا أيضاً. وقد وضع الإمام مالك في المدينة كتاباً في الفقه والحديث سماه (الموطأ) أي السهل الواضح. ثم ذاع صيت هذا الإمام، وانتشر كتابه في العالم الإسلامي، وأقبل الأندلسيون على اعتناق مذهبه. أما كيفية وصول هذا المذهب إلى الأندلس، فترجع إلى جهود بعض الفقهاء ورجال العلم الذين كانوا يرحلون إلى الحج في الحجاز، وهناك يلتقون بالإمام مالك، ويأخذون عنه علمه ومذهبه. وعندما رجع هؤلاء إلى بلدهم وصفوا فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره، فانتشر رأيه وعلمه بالأندلس. وكان رائد هذه الجماعة رجل يدعى زياد بن عبد الرحمن ابن زياد اللخمي المعروف بـ (شبطون)، توفي في حدود سنة 204 هـ/819 م، وهو الذي كان فقيه الأندلس على مذهب مالك، وهو أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس، وأخذ عنه تلميذه يحيى بن يحيى الليثي (¬15). وكان هذا الأخير المتوفى سنة 234 هـ/848 م يلقب بعاقل الأندلس، ويروى أن الإمام مالك هو الذي لقبه بهذا اللقب. فقد ارتحل يحيى إلى المدينة ولازم الإمام مالك للدراسة، فبينما هو عنده في مجلسه، مر فيل في شوارع المدينة، فخرج جميع الطلبة لمشاهدته، وبقى يحيى بن يحيى في مكانه لم يخرج، فقال له الإمام مالك: " ما لك لم تخرج لتنظر الفيل وهو لا يكون في بلادك؟ فقال له: لم أرحل لأبصر الفيل، وإنما رحلت لأشاهدك وأتعلم من علمك وهديك. فأعجبه ذلك منه، وسماه عاقل الأندلس " (¬16). أما على الصعيد الرسمي، فقد استهوى مذهب مالك، كما يُروى، الأمير هشام بن عبد الرحمن الذي نقل إليه بعض الأندلسيين ثناء وإعجاب مالك بن أنس به ومدحه له بقوله: نسأل الله أن يزين موسمنا به، أو نسأل الله أن يزين حرمنا بملككم. ولهذا فقد حمل هشام الناس على مذهب الإمام مالك، وترك مذهب الأوزاعي (¬17). وبطبيعة الحال، لا يمكن لمذهب من المذاهب أن ينتشر في بلد ما لمجرد الإعجاب المتبادل بين إمام المذهب وأمير البلد، ولا بد أن تكون هناك عوامل أخرى سياسية واجتماعية ونفسية ساعدت على انتشار مذهب الإمام مالك في الأندلس. ¬_______ (¬15) المصدر نفسه، قسم 1، ص 154 - 155 رقم (458)؛ المقري: 2/ 45 - 46، 3/ 230. (¬16) الحميدي، جذوة المقتبس، ص 382 - 383، رقم (909)؛ المقري: 2/ 9. (¬17) انظر: ابن القوطية، ص 43؛ أخبار مجموعة، ص 120؛ المقري: 3/ 230.

فلقد قامت الإمارة الأموية مستقلة عن المشرق، وبشكل خاص عن الدولة العباسية التي كان مذهبها الرسمي هو المذهب الحنفي. ويبدو أن تآلفاً في الموقف إزاء الدولة العباسية جمع بين مالك بن أنس والأمير هشام بن عبد الرحمن. فقد كان الإمام مالك لا يميل إلى العباسيين، حتى أنه أفتى ضدهم لصالح انضمام الناس إلى ثورة محمد ذو النفس الزكية. وقد أدت فتواه إلى غضب الخليفة أبو جعفر المنصور، ووالي المدينة الذي ضربه بالسياط. ولهذا فاعتناق أهل الأندلس، وأميرهم بشكل خاص لمذهب مالك يحمل بعداً سياسياً، ويحقق لهم النزعة الاستقلالية عن غيرهم من البلدان، ويؤكد شخصيتهم المتميزة. ومن ناحية أخرى، فقد كان لطبيعة أهل الأندلس والمغرب أثر في تقبلهم لمذهب مالك وعزوفهم عن غيره. وذلك أن هذه الطبيعة كانت تتميز بالبساطة والبعد عن التعقيد، وهي لهذا تشبه طبيعة أهل الحجاز الذين تغلب عليهم نزعة أهل الحديث والاعتماد على مذهب مالك الذي يتقيد بنصوص القرآن والحديث، ولا يلجأ إلى استعمال الرأي والقياس إلا في حدود ضيقة. وهذا على عكس البيئة العراقية التي تتميز بالتعقيد، لأنها تضم أجناساً متعددة ومللاً مختلفة، مما أدى إلى ظهور قضايا ومشاكل جديدة لا تنطبق عليها النصوص، وتحتاج إلى الاجتهاد والاستنتاج العقلي، والقياس، وعلى هذه الأسس يقوم المذهب الحنفي، ويعرف اتباعه بأهل الرأي والقياس. أما عقلية أهل الأندلس فكانت تغلب عليها نزعة أهل الحديث، ولهذا اعتمدوا أولاً على مذهب الأوزاعي، وهو من أنصار مدرسة الحديث، ثم اعتمدوا بعد ذلك على مذهب مالك الذي يسير في هذا الاتجاه، ويعرف أصحابه بأهل الحديث. وهناك عامل آخر ربط أهل الأندلس بأهل الحجاز أكثر مما ربطهم بأهل العراق. ذلك أن معظم العرب الفاتحين للأندلس كانوا من أصل حجازي، وخاصة أولئك الذين جاءوا مع موسى بن نصير. أما البقية فهم من بلاد الشام ومصر، أي الذين دخلوا مع بلج بن بشر. ولم يكن في هذه الجيوش من ينتمي إلى أهل العراق. ومن هنا، فقد كان من الطبيعي أن يحاول هؤلاء الحجازيون الاتصال بأهاليهم وذويهم والعودة لأداء فريضة الحج، وقد ساعد هذا الأمر على اتصالهم بالإمام مالك والتعرف على مذهبه. وعلى أية حال، فإن انتشار مذهب مالك، وتمسك الأمراء الأمويين به سواء بقصد الإعجاب به وتفضيله على غيره من المذاهب أم لتأكيد شخصيتهم الاستقلالية، أدى إلى نوع من الاستقرار في البلاد. لأن سياسة المذهب الواحد هذه جنبت الثغور الإسلامية، ورجال القبائل بشكل عام شرور الفتن المذهبية، وحفظت لها سلامتها ووحدتها الروحية. واستمرت الأندلس طيلة عهد الإمارة، بل طيلة العهود الإسلامية الأخرى

تعتنق هذا المذهب، وتتمتع بالاستقرار الروحي، الذي شمل أيضاً ممالك شمال أفريقيا. ولا تزال بلدان هذه المنطقة تحتفظ باعتناقها لهذا المذهب لحد الوقت الحاضر. ولقد أثر اتخاذ العرب في الأندلس لسياسة المذهب الواحد على الممالك المسيحية المجاورة التي قامت في إسبانيا. فقد اتبعت هى الأخرى سياسة المذهب الديني الواحد واقتصرت على المذهب الكاثوليكي، وتعصبت له، فأصبحت أكثر تمسكاً وتعصباً للبابوية الكاثوليكية من البابا نفسه (¬18). 3 - القضاء على الثورات والفتن الداخلية: تعرض عصر الإمارة الأموية إلى العديد من الثورات والفتن الداخلية التي كانت تقوم بها مختلف العناصر التي تألف منها المجتمع الأندلسي الجديد. واشترك في هذه الفتن الفاتحون الذين كانوا يتألفون من القبائل العربية والبربر، كما ساهم فيها أيضاً أهل البلاد الأصليون، سواء منهم من دخل الإسلام كالمولدين، أم من بقي على دينه وتثقف بالثقافة العربية كالمستعربين ولم تندمج هذه الأجناس المختلفة بعضها ببعض، ولهذا فقد كانت الأمور تتوقف على مدى قوة وصلابة الأمراء والحكومة المركزية في قرطبة، فإذا قويت هذه الحكومة، أمكن السيطرة على هذه الأجناس، والقضاء على ما تقوم به من تمرد على السلطة. أما إذا ضعفت الحكومة المركزية، وتولى الإمارة أمير غير حازم، نشطت هذه الجماعات، وقامت بالتمرد ومحاولة الاستقلال عن الإمارة الأموية. وكانت طبيعة البلاد الجغرافية الجبلية تساعد هذه الفئات على ما تريد من التمرد والانشقاق ومحاولة الاستقلال، وسوف نتطرق فيما يأتي إلى أهم الثورات والفتن التي حدثت في عهد الأمراء الأقوياء الأوائل، ومن ثم نشير إلى الفتن والاضطرابات التي سادت أواخر عصر الإمارة، أي في الحقبة التي تميزت بضعف سلطة الحكومة الأموية والتي امتدت من وفاة الأمير عبد الرحمن الثاني في سنة 238 هـ/852 م إلى سنة 300 هـ/912 م حيث تولى الحكم عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله. أولاً - ثورة القبائل العربية في عهد عبد الرحمن الأول: لقد سبقت الإشارة إلى أن سياسة عبد الرحمن الأول الرئيسة كانت تهدف إلى السيطرة القوية على البلاد، والحد من نفوذ رجال القبائل العرب. ولهذا حاول التقليل من الاعتماد عليهم، وخلق قوة جديدة في شبه الجزيرة تعتمد على المماليك والبربر القادمين من شمال أفريقيا. وعندما أدرك رجال القبائل اليمنيون وحلفاؤهم من البربر ما ¬_______ (¬18) انظر: العبادي، المرجع السابق، ص 121 - 125.

يرمي إليه عبد الرحمن ازدادت مخاوفهم من النظام الجديد، وابتدأوا بالثورة عليه. يضاف إلى هذا، إن مجيء عبد الرحمن إلى الحكم لم يحقق لهم ما كانوا يصبون إليه من السلطان والامتيازات، والتسلط على المنهزمين من جماعة يوسف الفهري والصميل. وتبين لهم أن الأمير الجديد عدهم أداة للوصول إلى الحكم، ومن ثم عاملهم معاملة الأتباع الذين عليهم واجب الطاعة فقط. فكره شيوخ اليمنيين ذلك، بل إن بعضهم حاول الانقلاب على الأمير ومواليه بعد انتصاره مباشرة في معركة المصارة، كما أسلفنا. وكان أول من رفع راية العصيان من اليمنيين على عبد الرحمن الأول هو العلاء بن مغيث الجذامي (¬19)، رئيس جند مصر في باجة، جنوب البرتغال الحالية، في سنة 146 هـ/763 م. وتروي المصادر العربية، أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، كان وراء هذا العصيان، فحرض العلاء على التمرد، واسترداد الأندلس للخلافة العباسية ووعده بإمارة الأندلس إن هو تمكن من النجاح والانتصار على عبد الرحمن بن معاوية. وقد أرسل له سجل تعيينه على البلاد، والرايات السوداء، شعار العباسيين، لاتخاذها أعلاماً للثورة (¬20). وعلى الرغم من هذا، لا يمكن للمرء أن يركن إلى هذه الروايات، لأن الخلافة العباسية لم تكن مستعدة لذلك، وأبو جعفر المنصور بالذات، كان مشغولاً في ذلك الوقت بحل المشاكل العديدة التي كانت تواجهه في المشرق العربي، وليس من المعقول أن يفكر بإرسال جند أو بالتأييد العسكري لمغامرة بعيدة جداً عن مركز دولته في العراق. يضاف إلى ذلك، أن العباسيين لم يكونوا مسيطرين حتى ذلك الحين على المغرب العربي، وكانت سلطتهم مهزوزة في أفريقية، أي تونس الحالية، فكيف يفكرون بالاستيلاء على الأندلس البعيدة. ولكن هذا لا يعني أن المنصور لم يظهر الرضى عمن يدعو باسمه في الأندلس أو في غيرها. وأغلب الظن أن العلاء بن مغيث دعا من تلقاء نفسه إلى الخلافة العباسية تقوية لحركته وإظهاراً لقدسيتها ولجمع أكبر عدد ممكن من الناقمين على نظام الحكم والمؤيدين لإحداث التغيير في البلاد. وقد انضم إلى الثورة أعداد كبيرة من اليمنيين، وجميع العناصر الساخطة على حكم عبد الرحمن، فتضخم جيش العلاء. وسارع عبد الرحمن لمحاربته، لكن العلاء انتصر عليه وحاصره في مدينة قرمونة لمدة شهرين. وأخيراً تشجع الأمير وخرج بجنوده من هذه المدينة، وهو ينوي الانتصار أو الموت، فانقضوا على جند العلاء وقتلوا منهم عدداً كبيراً بضمنهم العلاء نفسه. وتزعم الروايات أن عبد الرحمن أمر بحمل رأس العلاء ورؤوس بعض كبار ¬_______ (¬19) يسميه بعض المؤرخين أيضاً باليحصبي، وبالحضرمي تارة أخرى. (¬20) انظر: ابن القوطية، ص 32 - 33؛ أخبار مجموعة، ص 101 - 102، ابن عذاري: 2/ 52.

مؤيديه، بعد أن حشيت بالملح والكافور، إلى القيروان حيث طرحت ليلاً في بعض أسواقها. وقد وصل خبر هذا الحادث إلى أبي جعفر المنصور، وقيل أن الرؤوس حملت من قبل بعض الحجاج إلى مكة حيث كان المنصور يؤدي مراسيم الحج، فانزعج من هذا الأمر، وقال: " الحمد لله الذي جعل بيننا وبين مثل هذا -يقصد عبد الرحمن بن معاوية- من عدونا بحراً " (¬21). ولقد لقب المنصور على أثر هذا الحادث، الأمير عبد الرحمن بن معاوية، بلقب " صقر قريش " وذلك اعترافاً منه بقوة وعزيمة هذا الأمير الذي استطاع أن يؤسس بمفرده دولةً، ويمصر الأمصار، ويجند الأجناد، ويدون الدواوين، وينال مُلكاً بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة شكيمته (¬22). وبعد نحو ثلاث سنوات على فشل حركة العلاء بن مغيث، ثار قائد عربي آخر يدعى سعيد اليحصبي المطري في نبلة Niebla انتقاماً لدماء الذين قتلوا مع العلاء. وقد انضم إليه عدد كبير من اليمنيين، فسار إلى إشبيلية واستولى عليها، ثم نزل بقلعة رعواق الواقعة على نهر الوادي الكبير بالقرب من إشبيلية وتحصن بها. فسار إليه عبد الرحمن وحاصره واضطره إلى الخروج والقتال، وكانت النتيجة مقتل قائد الثورة والعديد من أتباعه وتفرق الباقين حيث عفا عنهم الأمير عبد الرحمن. وفي هذا العام نفسه أي 149 هـ/766 م، ثار أبو الصباح بن يحيى اليحصبي. وكان الأمير قد ولاه على إشبيلية، بعد قيام الإمارة الأموية، لكنه كان يشك في ولائه منذ دعوته للإطاحة به بعد انتهاء معركة المصارة. ولهذا فقد عزله بعد فشل ثورة المطري، فنقم عليه أبو الصباح، فكاتب الأجناد وألّبهم على عبد الرحمن. وعندما تبين للأمير عظم نفوذ أبي الصباح وقوته وتأثيره على الأجناد، حاول التفاوض معه واستدراجه بالحيلة إلى قرطبة حيث قتله في العام نفسه، فتفرق جنده " (¬23). وقد كان لمقتل أبي الصباح أثر بالغ على القبائل اليمنية في غرب الأندلس، لأنه كان سيد عرب هذه المناطق، وكان أقرباؤه زعماء لكور متعددة فيها. فازدادت نقمتهم على عبد الرحمن، وتحينوا الفرص للثورة عليه. وقد سنحت لهم الفرصة في سنة 156 هـ/772 م. عندما كان الأمير مشغولاً بالقضاء على إحدى ثورات البربر في وسط البلاد، فثار اليمنيون في إشبيلية ولبلة وباجة بقيادة حيوة بن ملامس الحضرمي، وعبد الغفار اليحصبي، وانضم ¬_______ (¬21) ابن القوطية، ص 33 - 34؛ أخبار مجموعة، ص 103؛ ابن عذاري: 2/ 52. (¬22) أعمال الأعلام، ص 9 - 10. (¬23) أخبار مجموعة، ص 105 - 106؛ فتح الأندلس، ص 63 - 64؛ ابن عذاري: 2/ 53 - 54.

إلى الثورة أيضاً كل من عمر بن طالوت اليحصبي وكلثوم بن يحصب، وقصدوا جميعاً قرطبة. ومما زاد في خطر هذه الثورة، انضمام العديد من البربر المؤيدين لليمنيين في المنطقة إليها. وقد سارع عبد الرحمن للقضاء عليها وإخمادها، واستخدم أسلوب التفريق بين البربر واليمنيين، مستعيناً بمواليه من البربر مثل بني خليع وبني وانسوس وغيرهما. فداخل هؤلاء بني جلدتهم في معسكر الثوار وأقنعوهم بالتخلي عن زعماء الثورة والانضمام إلى عبد الرحمن الذي وعدهم بالعطاء وضمهم إلى الديوان. وفي المعركة التي وقعت فيما بعد بين الطرفين تخلى البربر عن حلفائهم اليمنيين، وانضموا إلى جيش عبد الرحمن، فوقعت الهزيمة على الثوار وقتل معظم قادتهم (¬24). ثانياً - ثورات البربر: بالإضافة إلى مساهمة البربر في معظم الثورات التي قامت بها القبائل العربية في الأندلس، كانت لهم حركاتهم الخاصة بهم ضد السلطة الأموية. ويرجع السبب في هذا إلى عدة عوامل، منها أن الكثير منهم كانوا حلفاء للقبائل العربية وتربطهم مصالح مشتركة، فيثورون معهم تبعاً لذلك. وكانوا منذ فترة الفتح وعصر الولاة متبرمين من أوضاعهم ويميلون إلى الشغب والتمرد. ولكن بمرور الزمن ظهرت عوامل أخرى دفعت جماعات من هؤلاء البربر إلى الثورة ورفع راية العصيان ضد السيادة العربية. فقد استغل أحد رجالهم، المدعو شقيا بن عبد الواحد المكناسي، سذاجة البربر، فادعى أنه من ولد الحسن بن علي، وأنه فاطمي النسب، خاصة وأن اسم أمه كان فاطمة، فاتخذ له اسماً عربياً هو عبد الله بن محمد، وأخذ يدعو الناس لنفسه والثورة على حكومة قرطبة. وقد بدأت دعوة هذا الرجل الذي كان بالأصل معلماً للصبيان في شنتبرية Santaver الواقعة في شرق الأندلس، ثم امتدت إلى أقاليم عديدة في وسط وشمال إسبانيا وغربها مثل ماردة وقورية ومادلين. وتبعه العديد من بربر هذه المناطق الذين آمنوا بدعوته، أو طمعوا بالحصول على امتيازات أو وضع أفضل في حالة الانتصار. واستمرت هذه الحركة التي قامت في عهد عبد الرحمن الأول ما يقارب عشر سنوات 151 - 160 هـ/768 - 777 م. وكان الأمير خلالها يسيّر عليه العديد من الحملات التي كانت تفشل في القضاء على أتباعه المتمردين لاعتصامهم بالجبال المنيعة، وتجنبهم للمعارك الحاسمة في السهول. ولم يتمكن الأمير عبد الرحمن من القضاء على هذه الحركة إلا بالتعاون مع أحد زعماء ¬_______ (¬24) ابن القوطية، ص 31 - 32؛ أخبار مجموعة، ص 107 - 108؛ ابن عذاري: 2/ 50 - 51؛ وانظر أيضاً: دوزي، المرجع السابق، ص 221 - 227؛ سالم، المرجع السابق، ص 197 - 200.

البربر الآخرين، وهو هلال المديوني، الذي عينه على شنتبرية، وأوكل إليه مهمة القضاء على التمرد. وقد استطاع هذا الأخير أن يدبر مؤامرة لاغتيال زعيم الحركة شقيا في سنة 160هـ/777 م. وهكذا انتهت هذه الثورة (¬25). وقد قام البربر ببعض الحركات الأخرى للعصيان على السلطة الأموية، منها تمرد إبراهيم بن شجرة البرنسي في مورور، ومنها تمرد بربر نفزة، لكن الأمير عبد الرحمن الأول استطاع القضاء عليها بسهولة (¬26). أما في عهد خلفائه، فقد استمرت جماعات عديدة من البربر في العصيان والفتنة. ففي عهد هشام بن عبد الرحمن، هاجت الفتنة ببلاد تاكُرُنّا، وهي إقليم رندة الحالية، وأعلن سكانها من البربر الخلاف على السلطة، وأغاروا على الناس، وهاجموا الإقليم بكامله، وقتلوا العديد من العرب. فأرسل إليهم هشام الأجناد التي أنذرتهم أولاً، ولما لم تجد منهم إلا إصراراً على التمرد، هاجمتهم وقتلت العديد منهم، وفر الباقون إلى طلبيرة وترجيلة، وظلت تاكرنا خالية من السكان نحو سبع سنوات. وكانت مدينة ماردة في غرب إسبانيا بؤرة لثورات البربر، فقامت فيها ثورة في عهد الحكم بن هشام دامت نحو سبع سنوات. وقد تزعم هذه الثورة أصبغ بن عبد الله بن وانسوس، الذي كان قائداً للأمير، ويبدو أنه أراد التمتع بمزيد من الاستقلال في إدارة المدينة، فساءت العلاقة بينه وبين حكومة قرطبة، وساعد على هذا أن بعض أعدائه أوقع بينه وبين الأمير. ولكن أصبغ طلب الأمان بعد سبع سنوات، فأمنه الحكم ودعاه للإقامة في قرطبة، والتردد على ضياعه في ماردة (¬27). وقد قام البربر بتحرك خطير آخر في ماردة في عهد عبد الرحمن الثاني، وذلك سنة 213 هـ/828 م. وقد أشعل نار الثورة هذه المرة رجل بربري واسمه محمود بن عبد الجبار، وهو من قبيلة مصمودة، وانضم إليه أحد المولدين واسمه سليمان بن مرتين. وقد استقل هذان الزعيمان في المدينة، ولم تفلح محاولات الأمير في استعادتها إلا بعد أن توجه بنفسه إليها وحاصرها وافتتحها في عام 216 هـ/834 م. وقد فر الثائران من المدينة، ثم استقل محمود بن عبد الجبار بالحركة، تساعده أخته جميلة، التي اشتهرت بالحسن البارع والشجاعة والنجدة والفروسية، وزحف إلى بطليوس، ثم إلى أكشونبة وباجة، وعندما ضايقته حملات الأمير، اضطر إلى الهرب إلى جليقية، والالتجاء إلى ملكها ألفونسو الثاني. ولكنه اكتشف بعد حين أنه ¬_______ (¬25) انظر: أخبار مجموعة، ص 107 - 111؛ ابن عذاري: 2/ 54 - 55؛ فتح الأندلس، ص 64 - 65؛ وقارن: العبادي، المرجع السابق، ص 109 - 110. (¬26) أخبار مجموعة، ص 111؛ ابن عذاري: 2/ 56 - 58. (¬27) ابن عذاري: 2/ 64، 72.

تورط في موقفه، وأن الملك الاسباني لا يساعده في حركته الانفصالية إلا ليحقق مكاسب سياسية لمملكته على حساب الإمارة الأموية. فحاول العودة إلى الطاعة، لكن ألفونسو أفسد عليه خطته واضطره للقتال، فقتل وأسرت أخته جميلة (¬28). ثالثاً - حركة أو هيجة الرّبَضْ: تعني كلمة الربض من الناحية اللغوية الحي أو الضاحية، والمقصود بها هنا المنطقة السكنية الجديدة التي استحدثت في قرطبة بعد أن أصلح الأمير هشام بن عبد الرحمن الجسر الذي يصل قرطبة القديمة المسورة بالضفة الأخرى من النهر، حيث تقع ضاحية شقندة. وقد سكن الكثير من الفقهاء هذه الضاحية لقربها من المسجد، الذي كان على الجانب الآخر من النهر في قرطبة القديمة. كما استقر أيضاً في هذا الحي أو الربض العديد من الحرفيين وأهل الأسواق، والتجار، ومعظم هؤلاء من المولدين. وتعود جذور هذه الفتنة التي قادها الفقهاء المالكيون ضد الأمير الحكم بن هشام إلى انتشار قوة وتسلط هؤلاء الفقهاء في عهد أبيه هشام الذي كان يعمل بمشورتهم ويتأثر بنفوذهم. ولكن الحكم كان يختلف عن أبيه، فلم يكن ميالاً لقبول وصاية الفقهاء ولم يستسلم لتأثيرهم، بل كان على العكس يميل إلى اللهو والصيد وغيرها من الأمور التي لا يستسيغها الفقهاء. وهكذا نشأت هوة عميقة بين هؤلاء وبين الحكم الذي حدّ من نفوذهم. ولقد بدأوا بمحاربته بوسائل شتى، أهمها تأليب العامة عليه والطعن بسلوكه الديني والأخلاقي. استجاب العامة من سكان الربض لهذا التحريض، لأنهم أرادوا أن يكون لهم صوت مسموع في المجتمع، وخاصة أنهم كانوا طبقة اجتماعية كبيرة. لها آمالها وتطلعاتها الاجتماعية والسياسية. وكان للحكم أيضاً دوره في تأجيج هذه الفتنة بما وضعه من ضرائب جديدة ومغارم على الشعب (¬29). مرت هذه الفتنة بدورين، الأول حينما حاول وجوه أهل قرطبة وفقهاؤها القيام بمؤامرة لعزل الحكم في عام 189 هـ/804 - 805 م، واختيار أحد أقاربه من الأسرة الأموية الحاكمة بدلاً منه. ولكن هذا الأخير، واسمه محمد بن القاسم، تظاهر بالرضا، ثم أفشى بسر المؤامرة، وأسماء المتآمرين إلى الحكم. فقبض عليهم الأمير وصلبهم، ¬_______ (¬28) انظر: ابن القوطية؛ ص 67؛ ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 501؛ عنان المرجع السابق: 1/ 237 - 258، بيضون، المرجع السابق، ص 241 - 242. (¬29) أعمال الأعلام، ص 15.

وكان عددهم كبيراً بضمنهم فقهاء كثيرون (¬30). وقد ازداد سخط الفقهاء والعامة بعد هذه الحادثة، وأخذوا يتحينون الفرص للقيام على الأمير الحكم. وأدرك الأمير هذه الحقيقة فقام باتخاذ إجراءات عديدة لحماية نفسه وتحصين مدينة قرطبة ضماناً أمام أية محاولة للثورة، فأتقن بناء سورها ورممه، كما حفر حولها خندقاً، وقوى أبواب قصره، ثم أكثر من شراء واستخدام المماليك والعبيد في الجيش، كما أسلفنا. أما الدور الثاني الذي مرت به هذه الفتنة، فقد وقع بعد نحو أربعة عشر عاماً من مؤامرة الفقهاء الأولى وإعدامهم. وكان السبب المباشر لهذه الفتنة بسيطاً في حد ذاته، لكنه كان كالشرارة التي فجرت هيجان الخلاف بين أهل الربض الجنوبي ومحرضيهم من الفقهاء. فقد نشب خلاف بين حداد وأحد حراس الأمير بشأن إصلاح سيف الأخير وذلك بسبب تباطؤ الحداد في إنجاز العمل. ولم يلبث هذا الخلاف أن تطور إلى نزاع أدى إلى مقتل الحداد، وقد أثار هذا الحادث غضب أهل الربض من المولدين على زميلهم الحداد، فقتلوا الجندي، وتجمهروا يريدون التوجه إلى قصر الإمارة، وقتل الأمير الحكم باعتباره مسؤولاً عما حدث. فعبروا الجسر على الرغم من مقاومة حرس الأمير، وأحاطوا بالقصر الذي تحصن فيه الأمير وأتباعه. وتزعم بعض المصادر أن الحكم لم يفقد جرأته وشجاعته في ذلك الموقف، وصمم على القتال حتى الموت، فقد طلب من خادمه أن يأتيه بقارورة عطر، وعندما جاءه بها أفرغها على رأسه. فتساءل الخادم عن جدوى التطيب في مثل هذا الوقت، فأجابه الحكم: أنه إنما يتطيب حتى يعرف قاتله رأسه ويميزه عن رؤوس الآخرين. وهو يشير بطبيعة الحال، إلى أنه قد هيأ نفسه للموت أو للظفر بالعدو (¬31). وقد تفتق ذهنه عن خطة ذكية للقضاء على المتمردين، فدعا رئيس حرسه الخاص للدفاع عن القصر، وأرسل اثنين من قواده ليعبروا النهر من مخاضة ضحلة بعيداً عن الجسر الذي يسيطر عليه المتمردون فتمكنت هذه القوة التي يقودها القائدان، عبد الله بن عبد الله البلنسي وإسحاق بن المنذر القرشي، من العبور وتوجهت إلى منازل أهل الربض وأشعلت فيها النيران. وعندما أحس المتمردون بذلك، تفرقت صفوفهم وتوجه قسم كبير منهم لإنقاذ أهله وماله، فوقعوا بين جند الأمير من الإمام والخلف، وقتل منهم عدد كبير جداً. وبعد انتهاء المقاومة ألقي القبض على نحو ثلاثمئة رجل من زعماء الفتنة، وصلبوا ¬_______ (¬30) ابن القوطية، ص 50 - 51؛ ابن عذاري: 2/ 71. (¬31) أخبار مجموعة، ص 131.

صفاً واحداً على نهر الوادي الكبير، ثم أمر الحكم بهدم الربض، وحرث أرضه وزراعتها، ونفي من تبقى من سكانه إلى خارج الأندلس. وقد ظل الربض، الذي ما يزال موقعه يعرف لحد الآن باسم Arrabal، مهجوراً من السكان لما يقرب من قرنين من الزمان بعد عهد الحكم الذي اقترن اسمه باسم هذا المكان، فسمي بالحكم الربضي (¬32). إن الأمر المهم في هذه الفتنة هو نتائجها سواء على الصعيد الداخلي أم على الصعيد الخارجي. فبالنسبة إلى الأندلس أدى القضاء على هذه الهيجة التي أثارها الفقهاء إلى توطيد الحكم للإمارة الأموية، لأنها أزالت قوة ونفوذ الفقهاء، وحررت الأمراء من وصايتهم وتدخلهم. أما بالنسبة إلى نتائجها الخارجية، فقد كانت على نطاق أوسع وأشمل، ذلك أن أفواج الربضيين المنفيين إلى خارج الأندلس حطت في أماكن عديدة وأثرت على سير الأحداث فيها. فقد استقر فريق منهم في المغرب حيث سمح لهم إدريس الثاني أمير الأدارسة بالإقامة في مدينة فاس التي أسسها والده إدريس الأول، فأقاموا بالحي المعروف بحي الأندلسيين، ونقلوا معهم مظاهر الحضارة الأندلسية، وطبعوا المدينة بطابع أندلسي جميل من حيث الصناعة، والأبنية البيضاء ذات الحدائق الداخلية. وهكذا سيطروا على مدينة فاس حتى أنها أصبحت تدعى باسمهم مدينة الأندلسيين. أما الفريق الآخر من الربضيين، فقد واصلوا سيرهم في البحر، حتى وصلوا إلى مدينة الإسكندرية في مصر وسيطروا عليها مستغلين الفوضى والاضطراب الذي حل بالبلاد جراء الفتنة بين الأمين والمأمون. وعندما استقرت الأمور للأخير أرسل قائده عبد الله بن طاهر بن الحسين، فحاصر الأندلسيين الذين اضطروا إلى مصالحته، واتفقوا معه على مغادرة البلاد وعدم التوجه إلى أية بقعة تابعة للعباسيين، وكان ذلك في سنة 212 هـ/827 م. ثم اتجهوا إلى جزيرة كريت، وكانت تسمى أقريطش، وهي تابعة للدولة البيزنطية، فاستولوا عليها بقيادة زعيمهم أبي حفص عمر بن عيسى البلوطي (¬33)، وأسسوا فيها دولة حكمت نحو مئة وخمسة وثلاثين عاماً، ونشروا فيها الإسلام، وأسسوا المدن، ومنها مدينة الخندق التي اتخذوها عاصمة لهم، وقد صارت كريت قاعدة بحرية إسلامية مهمة تهدد سواحل الإمبراطورية البيزنطية بما تقوم به من حملات على ممتلكاتها وتجارتها. ولكن أمر هذه ¬_______ (¬32) ابن عذاري: 2/ 77؛ أعمال الأعلام، ص 16؛ وانظر: العبادي، المرجع السابق، ص 130 - 131؛ أحمد بدر، المرجع السابق، ص 122 - 223. (¬33) يدعى بالبلوطي نسبة إلى فحص البلوط، وهي منطقة تقع إلى الغرب من قرطبة، وعن كريت تحت ظل الأندلسيين، انظر: د: اسمت غنيم، الإمبراطورية البيزنطية وكريت الإسلامية، جدة، 1977؛ خليل إبراهيم السامرائي، إمارة كريت الأندلسية، مجلة الجامعة، الموصل، أيلول 1978.

الدولة الإسلامية انتهى بتغلب البيزنطيين عليها، واسترجاع جزيرة كريت في عهد الإمبراطور رومانوس الثاني في عام 349 هـ/960 م، فتفرق أمر الأندلسيين فيها، وبقية المسلمين، فرجع قسم منهم إلى الأندلس، وقسم آخر إلى مصر وصقلية (¬34). وهكذا نرى أن فتنة الربض لم تؤثر فقط على الأندلس، بل شمل تأثيرها أماكن بعيدة جداً، وحمل الألوف من الأندلسيين هذا التأثير الإيجابي الفعال إلى الأماكن التي هاجروا إليها. رابعاً: - حركات المولدين: لقد سبقت الإشارة إلى أن المولدين كانوا من سكان أهل البلاد الإسبان والقوط الذين اعتنقوا الدين الإسلامي منذ الفتح، واندمجوا في المجتمع الجديد الذي يضم العرب والبربر والمولدين والمستعمَرين، أي النصارى الإسبان الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم، لكنهم تأدبوا بآداب اللغة العربية، وبعادات العرب. وقد كان المولدون يطمحون إلى وضع اجتماعي وسياسي أفضل، وذلك بمشاركة العرب في الحكم والسلطان. ثم تحول موقفهم بالتدريج إلى التمرد ومحاولة الاستقلال عن سلطان بني أمية في قرطبة. ومما شجع المولدين على السير بهذا الاتجاه، تركز مجموعات كبيرة منهم في مناطق جغرافية تساعد على الانفصال والتمرد، وبشكل خاص في مناطق الثغور، أي المدن القريبة من خط الحدود مع الدول المسيحية في الشمال، مثل سرقسطة في الشمال الشرقي وطليطلة في الوسط، وماردة في الغرب. وقد دعمت قرطبة بعض القبائل العربية في المناطق التي كثرت فيها حركات المولدين، مثال ذلك أسرة بني تجيب العربية التي سكنت في منطقة الثغر الأعلى. ونظراً لكثرة حركات المولدين وثوراتهم في عهد الإمارة الأموية، فسوف نقتصر على مثال واحد فقط عن مدينة طليطلة، التي ثار فيها المولدون على الأمير الحكم الأول، وابنه عبد الرحمن الثاني. فبالإضافة إلى كثرة عدد المولدين في طليطلة، فإن أهلها لم ينسوا عز هذه المدينة ومجدها قبل الفتح، وأنها كانت عاصمة البلاد. وكان أهلها يعتزون أيضاً بثروتهم وحصانة مدينتهم التي تقع على نهر تاجة، ولذا نجدهم يساهمون في الكثير من الفتن التي كانت تقوم على حكومة قرطبة، ويتحينون الفرص دائماً لشق عصا الطاعة، والاستقلال بمدينتهم. ولكن الأمراء الأمويين قاوموا هذه الثورات والفتن، واستعملوا ¬_______ (¬34) انظر: ابن القوطية، ص 51 - 52؛ أعمال الأعلام، ص 16؛ المقري: 1/ 339؛ سالم، المرجع السابق، ص 224 - 225؛ أحمد العدوي، الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم، القاهرة، 1958، ص 107 - 110؛ أحمد بدر، المرجع السابق، ص 124 - 125.

أساليب قاسية جداً في سحق حركات المولدين، وتثبيت السلطة الأموية في البلاد. ثار المولدون في طليطلة على الأمير الحكم عام 181هـ/797 م، وتزعم الثورة رجل يدعى عبيدة بن حُمَيْد. وقد استطاع الحكم أن يقضي على هذه الثورة بواسطة مولد من مدينة وشقة اسمه عمروس بن يوسف، وقد نجح هذا الأخير بإغراء بعض وجهاء المدينة لاغتيال عبيدة بن حميد، وبهذا خمدت الثورة إلى حين. وحاول الحكم استخدام أسلوب الدهاء والحيلة مع أهل المدينة، فعين عليهم عمروس بن يوسف حتى يطمئنوا إليه لأنه من بني جلدتهم. وعندما أنس إليه أهل طليطلة، تظاهر أمامهم بأنه أكثر منهم حقداً على الأمير الحكم وعلى بني أمية عامة، فوثقوا به ومنحوه طاعتهم وأطلعوه على أسرارهم. ولكنه، وبتوجيه من الأمير الحكم كان يبيت لهم خطة دموية للقضاء على مقاومتهم المستمرة. فأقنع زعماءهم بضرورة بناء قلعة حصينة بظاهر طليطلة بحجة إيواء الجند والمماليك، بعيداً عنهم وعن نسائهم. فبُنيت القلعة وأُخذ التراب اللازم لبنائها من نفس المكان، فظلت فيه حفرة كبيرة. وأخبر الأمير الحكم بانتهاء البنيان لاتخاذ الخطوة التالية من العمل، فسير الحكم جيشاً بقيادة ابنه عبد الرحمن، بحجة مقاتلة النصارى في الشمال. وعندما وصل هذا الجيش بالقرب من طليطلة أُعلن عن انسحاب العدو، وبدأ الجيش بالتهيؤ للرجوع. لكن عمروس خرج إلى الأمير، مع وجهاء أهل المدينة، ودعوه للدخول، فوافق الأمير عبد الرحمن بعد تمنع. ثم أقام عمروس وليمة كبيرة للأمير، دعا إليها زعماء المدينة وكبار الشخصيات فيها. فحضروا إلى القلعة التي احتشد فيها الجند، وقد أوهمهم عمروس أنهم إذا انتهوا من طعامهم خرجوا من باب غير الباب التي دخلوا منه. ولكن أحداً منهم لم يستطع الخروج لأن الجند الذين اصطفوا على طرف الحفرة قتلوا كل الداخلين دون أن يشعر بهم الباقون، وهكذا بلغ عدد القتلى نحو سبعمئة رجل (¬35). ومن المؤرخين من يبالغ فيجعل عددهم خمسة آلاف وثلاثمئة رجل (¬36). ويدل هذا على عظم أمر هذه المذبحة التي سميت بوقعة الحفرة والتي جردت المدينة من زعمائها، وأعيانها المتطلعين دوماً إلى الثورة. ولكن هذه القسوة لم تمنع طليطلة من التمرد على الأمراء الأمويين إلا لفترة قصيرة، فسرعان ما تواصلت الثورة ثانية في عهد الحكم نفسه، وفي عهد خلفائه من بني أمية. ثم اتخذت ثورات المولدين بعداً أخطر حين تولى السلطة أمراء ضعاف، فظهرت بوادر التفكك والتجزء والحركات الانفصالية، مثل حركة ابن حفصون، كما سنرى فيما بعد. ¬_______ (¬35) ابن عذاري: 2/ 70. (¬36) ابن القوطية، ص 48، وانظر أيضاً، ص 45 - 49.

خامساً - حركات المستعربين: لم يقم المستعربون بحركات عنف وتمرد على الدولة الأموية في الأندلس على نطاق واسع، ولكن بعضهم شارك في فتن المولدين التي كانت تقوم في المناطق المختلفة من البلاد. ومع هذا، فقد حاول بعض المستعربين المتطرفين في قرطبة إثارة فتنة هوجاء ضد الحكم العربي الإسلامي في الأندلس. وكان أبطال هذه الحركة جماعة من غلاة رجال الدين المتعصبين الذين نقموا على سيادة العرب والإسلام في البلاد. والواقع أن دوافع هؤلاء لم تكن لها علاقة بأي اضطهاد ديني للمسيحيين، لأن التسامح الديني كان سائداً في الأندلس، وبشكل خاص في عهد الأمير عبد الرحمن الثاني الذي حدثت في عهده هذه الحركة. فكانت حرية المعتقد مضمونة، وعاش رجال الدين المسيحي من أساقفة ورهبان في أمن وسلام، لا يتعرض لهم حكام المسلمين بسوء وكان المستعربون بشكل خاص قد تحسنت حالتهم الاجتماعية والاقتصادية إلى حد كبير، بل إن عدداً كبيراً منهم استطاع أن ينال مراتب عالية في الإدارة والجيش. وامتهن الباقون التجارة في المدن والثغور، كما عملوا في مزارعهم الخاصة أو في ضياع المسلمين دون إكراه أو استغلال. ولكن هذه الحالة الفريدة من التسامح، التي رضي ورحب بها غالبية المستعربين، لم تلقَ التأييد من جانب القسس المتعصبين في الكنائس والأديرة، الذين ظلوا قابعين في أماكنهم بعيدين عن التطور الذي حل بجماعتهم. ذلك التطور والاندماج الذي أدى إلى تكلم المستعربين بلغة الفاتحين العرب، وتفننهم في استخدام الفصحى وقول الشعر، وقراءة أمهات كتب الأدب. بل إن الكثير من المستعربين اقتبسوا عادات الفاتحين وتقاليدهم الاجتماعية التي كانت، كما يرى رجال الدين المتعصبون لا تتلاءم مع العقيدة المسيحية، مثل الختان، واتخاذ الجواري، والمصاهرة مع المسلمين. والحقيقة أن إطلاق اسم المستعربين Mozarabes على هؤلاء، يدل دلالة قاطعة على مدى الميول والاتجاهات نحو الثقافة العربية، التي كانت تتغلغل في نفوس هذه الطبقة من المجتمع الأندلسي. فأهملوا دراسة اللغة اللاتينية، التي هي لغة الدين المسيحي، وانصرفوا عن قراءة المصنفات الدينية المكتوبة بها، فأدى هذا بالتدريج إلى ذوبان الحضارة المسيحية اللاتينية. ولقد بلغت اللغة اللاتينية في بعض أجزاء إسبانيا درجة كبيرة من الانحطاط، حتى بات من الضرورة أن تترجم قوانين الكنيسة الاسبانية القديمة والإنجيل إلى اللغة العربية ليسهل استعمالها على المسيحيين.

أفزعت هذه الحالة غلاة المتعصبين من رجال الدين، وبدا لهم مستقبل الكنيسة مخيفاً، لإعراض أبنائهم عن الثقافة المسيحية والاتجاه نحو الاستعراب. وعندما لم يفلحوا في وقف هذا التيار، حاولوا افتعال أزمة مع الحكم العربي المتسامح، وذلك بإظهار الاستخفاف بالإسلام، وسب نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، والتقول عليه بالباطل إلى حد الشطط، استفزازاً لمشاعر المسلمين وانتهاكاً لحرمة ديانتهم جهراً وبغير سبب. وكانوا بهذا يرمون إلى خلق جو من التوتر والشعور بالاضطهاد، لأن الشرع الإسلامي يعاقب على هذه الجريمة بالموت. ومن ثم يبدو للمسيحيين بأن المسلمين يقتلون إخوانهم ويضطهدونهم، وهكذا يمكن استعادة من أسلم من هؤلاء، أو حملهم على عدم التعاطف والتعاون مع المسلمين. ولقد تزعم هذه الفتنة المتطرفة وحرض عليها بعض الغلاة من أمثال أيلوخيو Eulogio، والفارو Alvaro، وذلك في أواخر عهد الأمير عبد الرحمن الثاني. فكانا يدعوان النصارى إلى سب الرسول (صلى الله عليه وسلم) والطعن في الإسلام علناً، واقتحام المساجد والاعتداء على المسلمين والتقليل من شأن دينهم. وعلى الرغم من أن عدد هؤلاء المتعصبين الانتحاريين لم يكن يزيد في مجموعه عن أربعين شخصاً، لكن حكومة قرطبة خشيت سوء عاقبة هذه الحوادث، وأثرها على شعور عامة المسلمين. فلم تجد مناصاً من تطبيق الشرائع والقوانين بمعاقبة هؤلاء بالموت، لأن عدم معاقبتهم يؤدي إلى استخفاف الناس، وقلة اكتراثهم بسلطة الدولة ودينها الرسمي، وذيوع حركة التمرد بين عدد كبير من المتطرفين. ومع هذا، فلم يشأ الأمير عبد الرحمن أن يلجأ إلى وسائل متطرفة للقضاء على الحركة، ولم ينتقم من جميع المستعربين، بل اكتفى بالأحكام القضائية التي كان يصدرها القضاة على من يثبت عليه القيام متعمداً بسبب الإسلام والنيل من نبيه الكريم. وظلت هذه الموجة من الغلو مستمرة في قرطبة، حتى ضج منها المسيحيون المعتدلون وأظهروا استياءهم من " الاستشهاد " الذي كان يطلبه المتطرفون. والذي هو في حقيقة الحال نوع من الانتحار الذي حرمه الدين المسيحي. وقد عقد في عام 237 هـ/852 م مجمع ديني في قرطبة يضم كل أساقفة الأندلس برئاسة مطران إشبيلية، ومثل الأمير عبد الرحمن فيه أحد المستعربين المسيحيين، وهو غومز بن أنطونيان، الذي كان كاتباً عند الأمير. فعرض غومز حالة المنتحرين على المجمع ونتائجها السلبية على كل المستعربين في البلاد. وقد وافق جميع أعضاء المجمع -باستثناء أسقف قرطبة الذي لزم جانب المتطرفين- على إصدار قرار استنكروا فيه حركة المسيحيين المتطرفين، وعدوها حركة مخالفة لتعاليم الكنيسة. ولكن هذه الفتنة الدينية،

التي جاءت نتيجة الاستعراب، استمرت بقية عهد الأمير عبد الرحمن الثاني، ولم تنته إلا في بداية حكم ابنه الأمير محمد، حيث أعدم أيلوخيو المحرض عليها في عام 245هـ/859 م (¬37). سادساً - الفتن والاضطرابات في فترة ضعف الإمارة الأموية: ابتدأت بوفاة عبد الرحمن الثاني أو الأوسط عام 238 هـ/852 م فترة مضطربة، تمزقت فيها وحدة الأندلس السياسية، وقام المنشقون والمتمردون في كل مكان على حكومة الإمارة في قرطبة. ولم يكن الأمراء الذين تولوا في هذه الفترة، التي امتدت نحو اثنين وستين عاماً، يضاهون في كفاءتهم ومقدرتهم الأمراء الأوائل، وإن كان بعضهم يتمتع بمواهب جيدة في الإدارة والقيادة، ولكن ظروف العصر كانت غير عادية، وبالتالي تحتاج إلى رجال أفذاذ، وحكام غير اعتياديين. ومن هنا، فإنه من غير الصواب تحميل أمراء هذه الفترة الثلاثة، وهم كل من الأمير محمد بن عبد الرحمن، وابنيه المنذر بن محمد، وعبد الله بن محمد، مسؤولية الانهيار السياسي والاضطراب التي ميزت هذه الحقبة. فلقد كانت البيئة الاجتماعية في الأندلس غير منسجمة، لأنها تتألف من شعوب وأجناس مختلفة تتنافر مصالحها مع بعضها البعض، ولا يجمعها سوى قوة السلطة المركزية في قرطبة. وهذه الفئات، كما أسلفنا، كانت تتألف من أهالي البلاد، بنوعيهم المسلمين الذين سموا بالمولدين، والمستعربين الذي ظلوا على ديانتهم المسيحية، وكذلك من الفاتحين العرب والبربر. ولم يكن الانسجام التام سائداً حتى بين الفاتحين أنفسهم، فالخلافات بين القبائل العربية كانت ما تزال تعمل عملها في الفرقة، وكذلك البربر الذين كان عددهم يفوق عدد العرب، ولهم طموح شديد، وتتنازعهم مشاعر السيطرة، والمشاركة في الحكم. لقد كانت قوة الأمراء الأوائل هي العامل الوحيد الذي جمع بين هذه الأجناس، وجعلها تعيش في وئام مع بعضها، ولكن ما إن غابت هذه القوة حتى بدأت العناصر المختلفة بالتحرك والوثوب على سلطة الإمارة. وساعدها على ذلك طبيعة البلاد ¬_______ (¬37) لم يتطرق المؤرخون العرب إلى هذه الحركة التي ذكرت في مصادر أوروبية فقط، انظر على سبيل المثال: Levi-Provençal, op. cit., vol. I. pp. 225-239؛ أرنولد، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: حسن ابراهيم حسن، القاهرة، 1971، ص 157 - 167؛ وانظر أيضاً: عنان المرجع السابق، ص 194 - 206؛ بيضون، المرجع السابق، ص 244 - 251.

الجغرافية الجبلية، وسهولة إعلان العصيان والالتجاء إلى المناطق المنيعة. كما زاد من هذه الحالة أيضاً وقوّاها، العلاقة العدائية التي كانت سائدة بين الإمارة الأموية، والإمارات النصرانية الاسبانية في الشمال، التي كانت تساعد في إذكاء روح التنافر والخلاف بين هذه الأجناس، وتحضها على شق عصا الطاعة، خدمة لمصالحها التوسعية في الأندلس (¬38). وقد أوضح لنا مؤرخ أندلسي، وهو ابن الخطيب، الأسباب التي أدت إلى كثرة الثوار والمتمردين في الأندلس، ودوافعهم للقيام على حكومة الإمارة في قرطبة، وهي تتلخص في ثلاثة أسباب، الأول: هو منعة البلاد وحصانة المعاقل وبأس أهلها بسبب تجاورهم مع النصارى في الشمال، والثاني: هو علو الهمم وشموخ الأنوف، وقلة الاحتمال للطاعة، لأن من دخل الأندلس من العرب والبربر كانوا أشرافاً يأنف بعضهم من الإذعان لبعض، والثالث: هو الاستناد عند الضيق والاضطرار إلى ملوك النصارى الذين كانوا يحرصون على ضرب المسلمين بعضهم ببعض (¬39). لقد أطلق المؤرخون على هذا العصر، الذي تميز باضمحلال السلطة الأموية واقتصارها على قرطبة ونواحيها فقط، اسم عصر الانتكاسة، أو دويلات الطوائف الأولى، تمييزاً له عن عصر الطوائف الذي أعقب سقوط الخلافة الأموية في قرطبة عام 422 هـ/1031 م. فظهرت في هذه الحقبة جماعات عديدة خرجت على السلطة واستقلت في النواحي التي كانت تستقر فيها، وسنذكر باختصار أهم هذه الجماعات: أ - الخارجون من العرب: ومن أهم هؤلاء بنو حجاج، الذين استقلوا بإشبيلية وقرمونة بزعامة إبراهيم بن حجاج بن عمير اللخمي. وقد ازدهرت إشبيلية في عهده، كما نافس أمير قرطبة وقلده فى عظمة بلاطه، ومظاهر الترف، واجتذاب الأدباء والشعراء، وتشجيع رجال العلم. وكان الكاتب أحمد بن عبد ربه، صاحب كتاب " العقد الفريد " من أشهر من تألق في بلاطه (¬40). وبرز بعض الزعماء العرب الآخرون في جهات عديدة من البلاد مثل محمد بن أضحى الهمداني، وسعيد بن سليمان بن جودي في كورة البيرة، وبنو المهاجر التجيبيون ¬_______ (¬38) قارن: أحمد مختار العبادي، المرجع السابق، ص 167 - 168؛ بيضون، المرجع السابق، ص 265 - 266، 285. (¬39) أعمال الاعلام، ص 36، وانظر: سالم، المرجع السابق، ص 244. (¬40) المقتبس، نشر: أنطونيا، ص 11 - 12؛ ابن عذاري: 2/ 125 - 131.

الذين انفردوا بحكم سرقسطة (¬41). ب - الخارجون من البربر: يعد بنو موسى بن ذي النون من أشهر الخارجين على الأمراء في فترة الضعف، ثاروا في شنت برية، وسيطروا على الثغر الأدنى، أي طليطلة وما جاورها. كما ثار خليل وسعيد، ابنا المهلب من بيوتات البربر الكبيرة في كورة البيرة. واستقل بنو الملاح بزعامة عمر بن مضم الهنزولي الملاحي بمدينة جيان (¬42). ج - الخارجون من المولدين: يعد عمر بن حفصون من أشهر الثوار الخارجين على السلطة الأموية في قرطبة. وكان هذا من أسرة فقيرة اعتنقت الإسلام منذ عهد الحكم بن هشام، عاش في بداية حياته في إقليم رندة، ثم فر إلى المغرب بعد ارتكابه لجريمة قتل، لكنه عاد إلى الأندلس واستولى على حصن روماني منيع اسمه ببشتر Bobastro في المناطق الجبلية الجنوبية في إقليم رية. وقد التفت حوله جماعة من المولدين وذلك في سنة 267 هـ/ 880 م، حيث أخذ بمهاجمة الجهات المجاورة لمنطقته والتوسع في الإغارة حتى وصل إلى المناطق القريبة من قرطبة ذاتها. وقد عاصرت حركة هذا المتمرد الأمراء الثلاثة الذين حكموا في هذه الحقبة. ولم يستطع أي منهم القضاء على حركته. وفي أواخر أيامه تحول إلى المسيحية، ظناً منه أن هذا الإجراء سيكتب النجاح لتمرده. ولكن بواعث هذا التحول تبدو سياسية أكثر منها عقائدية، قصد منها تلقي الدعم من المستعربين، ومن ملوك الدويلات النصرانية الاسبانية لإسقاط دولة العرب في الأندلس. ولم تنته حركة عمر بن حفصون إلا في عهد أمير الأندلس العظيم عبد الرحمن الناصر لدين الله (¬43). ومن المولدين الآخرين الذين كونوا دويلات مستقلة عن قرطبة، بنو قسي أو بنو موسى بن فرتون، الذين تمردوا في الثغر الأعلى في شمال شرق إسبانيا. وكذلك بنو مروان الجليقي، الذين استقلوا بولاية بطليوس في غرب إسبانيا وسعدون بن فتح السرنباقي الذي ثار بالقرب من مدينة قلنبرية Coimbra في البرتغال الحالية، وكان ¬_______ (¬41) المقتبس، نشر انطونيا: ص 20 - 21، 29 - 31؛ ابن عذاري: 2/ 137 - 138، 134. (¬42) المقتبس، (انطونيا)، ص 19، 25، 31. (¬43) ابن القوطية، ص 90 - 94؛ المقتبس، (انطونيا) ص 128؛ ابن عذاري: 2/ 106.

صديقاً لعبد الرحمن بن مروان الجليقي (¬44). ولقد استمرت هذه الجماعات في تمردها وانفصالها عن السلطة الأموية، طيلة فترة الفوضى التي أشرنا إليها. ولم يستطع الأمراء أن يقوموا بإجراءات فعالة لاستعادة وحدة البلاد، والقضاء على هذه الفتن على الرغم مما بذلوه من جهد وحملات وجهوها إلى مناطق المتمردين المختلفة. وظهر بوضوح أن الحكم العربي في الأندلس بات على وشك الانتهاء، لولا أن قيض الله لهذا البلد أميراً شاباً نهض بأعباء الحكم، وقضى على كل الفتن والاضطرابات، ونقل البلاد إلى عهد جديد ومرحلة زاهرة، هي مرحلة الخلافة الأموية، ذلكم هو عبد الرحمن بن محمد، حفيد الأمير عبد الله آخر أمراء عهد الإمارة الأموية. ب - إنجازات الأمراء على الصعيد الخارجي: تعرضت الأندلس أثناء فترة الإمارة إلى بعض الاعتداءات الخارجية التي حاول الأمراء الأمويون التصدي لها والوقوف بحزم أمام خطرها. ومن أهم هذه الاعتداءات، هجوم شارلمان ملك الكارولنجيين على الأندلس في عهد عبد الرحمن الأول، وغارات النورمان على الأندلس. 1 - هجوم شارلمان على الأندلس: يعد شارلمان، حفيد شارل مارتل، من أعظم شخصيات الأسرة الكارولنجية التي حكمت مملكة الفرنجة، فقد أصبحت هذه المملكة القوة الرئيسة للمسيحية في أوروبا، وكان يثيرها نمو القوة العربية الإسلامية في الأندلس. لذلك فقد كانت تحاول دائماً الاستفادة من الاضطرابات الداخلية التي تحدث في الأندلس، وتشجع روح التمرد والخلاف على الأمراء الأمويين. وحدث في عهد عبد الرحمن الأول أن تمرد بعض الزعماء العرب في منطقة سرقسطة يتزعمهم سليمان بن يقظان الكلبي الأعرابي والحسين ابن يحيى الأنصاري. ثم أخذ تمردهما بعداً خطيراً حين قررا الاستعانة بشارلمان ملك الكارولنجيين لتحقيق مآربهما وأطماعهما في الحكم. فقد استدعى سليمان شارلمان، الذي تسميه المصادر العربية باسم (قارلة)، إلى بلاد المسلمين، ووعده بتسليم مدينة ¬_______ (¬44) ابن القوطية، ص 88 - 90؛ المقتبس، (انطونيا) ص 16 - 17، 23؛ وانظر أيضاً: سالم، المرجع السابق، ص 253 فما بعدها.

سرقسطة إن هو ساعده على قتال عبد الرحمن. فرحب شارلمان بهذا المشروع، خاصة بعد أن فرغ من قتال السكسون وأجبرهم على اعتناق المسيحية. وكانت دوافع شارلمان للهجوم على الأندلس سياسية بحتة، وإن كانت مبطنة بمظهر ديني هدفه حماية النصرانية، وتخليص جليقية من أيدي المسلمين (¬45). وفي الحقيقة كان شارلمان يريد تأمين حدوده الجنوبية بالاستيلاء على بعض المدن والقواعد في إسبانيا، بل إنه كان يرمي إلى السيطرة على إسبانيا كلها لو تيسر له ذلك ويدل على هذه السياسة التوسعية، ضخامة الجيش الذي حشده شارلمان لهذه الحملة، وكذلك مهاجمته لبلاد البشكنس، الذين كان قسم منهم من النصارى. ولهذا فلم تكن النزعة الدينية بارزة في هذه الحملة (¬46). ويرى بعض المؤرخين في مشروع شارلمان مؤامرة دولية واسعة النطاق، شارك فيها الخليفة العباسي محمد المهدي متحالفاً مع الكارولنجيين في سبيل القضاء على عبد الرحمن الأول واسترداد الأندلس (¬47). ولكن هذا الرأي بحاجة إلى أدلة قوية، وهو عرضة للتشكيك، ولا يمكن الأخذ به بسهولة. فلم يكن المتآمرون يعملون إلا في سبيل مصالحهم الخاصة، فشارلمان تحدوه أطماع التوسع وضم البلاد، وبقية الزعماء الخونة الذين ارتضوا التعامل معه، لم يكن يدفعهم إلا شهوة الحكم والسيطرة، ولو كان ذلك خلاف مصالح الأمة والمبادئ. أما ما يقال عن اتصال أحد المتمردين، وهو عبد الرحمن بن حبيب الفهري المعروف بالصقلي، بالخليفة المهدي، فلا يقوم عليه دليل قوي في المصادر العربية (¬48). وربما كان هذا قد عمل تحت ستار الخلافة العباسية ليحمل الناس على الالتفاف حوله. ولا يمكن أن يكون للعباسيين أية علاقة بما حدث في الأندلس، لبعدهم عنها، ولأنهم كانوا مشغولين بمشاكلهم السياسية الخاصة بهم التي هي أوجب من الإنصراف إلى التفكير في الأندلس البعيدة (¬49). قام شارلمان بالتوجه إلى إسبانيا في سنة 162 هـ/778 م وذلك تنفيذاً للاتفاق الذي بينه وبين المتآمرين. فاتجه نحو جبال البرتات وعبرها، ثم هاجم بنبلونة عاصمة الباسك ¬_______ (¬45) انظر: كارلس ديفز، شارلمان، ترجمة: السيد الباز العريني، القاهرة، 1959، ص 98. (¬46) انظر: عنان، المرجع السابق: 1/ 173 - 174. (¬47) العبادي، المرجع السابق، ص 106، سالم، المرجع السابق، ص 201؛ إبراهيم طرخان، المسلمون في أوروبا في العصور الوسطى، القاهرة، 1966، ص 172. (¬48) انظر: أخبار مجموعة، ص 110 - 111. (¬49) قارن: بيضون، المرجع السابق، ص 203.

واستولى عليها. واستمر في زحفه آملاً أن تفتح له سرقسطة أبوابها. ويبدو أن الحسين بن يحيى الأنصاري رفض الاستمرار في المؤامرة، فأغلق أبواب المدينة أمام شارلمان الذي شرع في حصارها تمهيداً للاستيلاء عليها بالقوة. ولكن الظروف ساعدت الأندلس، وبشكل خاص الأمير عبد الرحمن الأول، وذلك بفشل خطط شارلمان الذي تلقى أنباء تفيد بحدوث اضطرابات في بلاده، فاضطر إلى رفع الحصار عن سرقسطة، ورجع إلى بلاده بعد أن أخذ سليمان الأعرابي معه، ودمر في طريقه مدينة بنبلونة. وبينما كان شارلمان يعبر مع جنوده من ممر رنسفالة أو باب شزروا، كما يسميها العرب، في جبال البرتات، هاجمته قوة مؤلفة من البشكنس أو الباسك، وقضت على مؤخرة جيشه (¬50). وفي مصادرنا العربية ما يشير إلى اشتراك العرب في هذا الهجوم الذي قاده اثنان من أبناء سليمان الأعرابي، وهما مطروح وعيشون، اللذان استنقذا أباهما من الإفرنج ورجعا به إلى سرقسطة (¬51). وتشير المصادر الأوروبية إلى أن هذا الهجوم قد أفنى مؤخرة جيش شارلمان وقتل عدة قواد من أشهرهم، رولان Roland. وكان مصرع هذا القائد موضوعاً لأنشودة ملحمية تشيد ببطولة هذا القائد وإخلاصه، وهي من شعر الملاحم الفرنسي وتعرف باسم أنشودة رولان (¬52). وقد استطاع عبد الرحمن بعد فشل هجوم شارلمان أن يستعيد سرقسطة من المتمردين. أما شارلمان، فقد اضطر للتخلي عن سياسته العدوانية إزاء الأندلس، ولجأ إلى سياسة الدفاع وإقامة الحصون على الحدود، كما اضطر أيضاً إلى مهادنة الأمير عبد الرحمن، حتى يتفرغ لمشاكله الداخلية. ويذكر المقري أن اتصالات جرت بين العاهلين، لإحلال السلم بين دولة الفرنجة والأندلس، بل إن شارلمان طلب المصاهرة لتقوية العلائق بين البلدين، فتم السلم ولم تتم المصاهرة (¬53). ولم يقم الأخير بأية مغامرة أخرى في إسبانيا، ونزع من خياله فكرة الاستيلاء عليها وضمها إلى أملاكه. ¬_______ (¬50) دوزي، المرجع السابق، ص 230. (¬51) ابن الأثير، ج 6، ص 14. (¬52) انظر: ديفز، المرجع السابق، ص 102 - 103. Levi-Provençal, op. cit., vol. I. pp. 125 - 126. (¬53) المقري: 1/ص 330 - 331.

2 - غارات النورمان على الأندلس: كان النورمان أو (الفيكنج) Vikings من الأمم البحرية العريقة التي تسكن في البلاد الاسكندنافية، أي السويد، والنرويج، والدانمارك الحالية. وكلمة النورمان، تعني سكان الشمال، وهي تحريف لكلمة Norsemen الانكليزية أو Normandos الاسبانية (¬54). وقد وردت تسمية هذه الأقوام في مصادرنا العربية بأشكال مختلفة، مثل المجوس، والأردمانيون. وكان من طبيعة هؤلاء النورمان حب المغامرة وجوب البحار بحثاً عن الأماكن الضعيفة في الشواطئ لمهاجمتها وسلبها. وقد شمل نشاطهم مناطق عديدة من الجزر البريطانية، وبلاد الإفرنج، إضافة إلى الشواطئ الأندلسية والمغربية. ويهمنا من هذه الجماعات تلك التي تنتمي إلى الدانمارك، والتي قامت بمهاجمة السواحل الأندلسية على فترات مختلفة، مدفوعة بدوافع اقتصادية بحتة، نظراً لما تتمتع به هذه السواحل من غنى ورخاء. تعرضت شواطئ الأندلس الغربية إلى هجمات النورمان لأول مرة في أواخر عام 229 هـ/844 م، وذلك في عهد إمارة الأمير عبد الرحمن الثاني. فقد هاجم أسطول نورماني قوامه عدد كبير من المراكب والقوارب مدينة أشبونة، ولبثوا في مياهها نحو ثلاثة عشر يوماً التحموا فيها مع المسلمين في عدة معارك. وقد قاوم حاكم المدينة وهب الله بن حزم هذا الهجوم، وكتب إلى عبد الرحمن الثاني ينبئه بالأمر، فكتب الأمير إلى عمال الثغور والسواحل بالاحتراس (¬55). ولكن النورمان وجهوا ضربة أخرى إلى سواحل الأندلس الغربية، فدخلوا في أوائل عام 230 هـ/844 م مصب نهر الوادي الكبير بعد أن مروا بقادس وعاثوا فيها. ثم تابعوا سيرهم حتى أدركوا مدينة إشبيلية وسيطروا عليها لعدة أيام. مارسوا خلالها أبشع جرائم القتل والتخريب والنهب. كما أشعلوا النار في مسجد إشبيلية الجامع (¬56). وقد فوجئ أهل الأندلس بهذا الخطر الجسيم، وبخاصة أن البحرية الأندلسية لم تكن قد وصلت إلى مرحلة قوية بعد، ولم تكن تمتلك سوى سفن قليلة تتركز في السواحل الشرقية، وبشكل خاص في المرية. ومع هذا، فقد أمر الأمير عبد الرحمن ¬_______ (¬54) انظر: العبادي، المرجع السابق، ص 148. (¬55) العذري، نصوص عن الأندلس، ص 98؛ ابن عذاري: 2/ 87. (¬56) ابن القوطية، ص 66؛ ابن عذاري: 2/ 87 - 88.

الأوسط باتخاذ إجراءات سريعة. وتشكيل فرق برية لمطاردة الغزاة في منطقة إشبيلية، والحيلولة دون تقدمهم في البلاد. فأخذوا يضعون لهم الكمائن، ويبثون السرايا التي تمنع النورمان من الرجوع إلى مراكبهم، كما جاءت إلى المنطقة إمدادات من قرطبة ومن الثغر الأعلى مما أدى إلى انهزام النورمان وتكبدهم خسائر فادحة بالقرب من قرية طلياطة Tejada بين لبلة وإشبيلية (¬57). وهكذا خرج النورمان من إشبيلية بعد أن عاثوا فيها ما يقارب اثنين وأربعين يوماً. وقد نبه هذا الأمر الخطير الأذهان إلى ضرورة الاهتمام بالبحرية الأندلسية، وإقامة المراكز الدفاعية على السواحل الغربية. فشرع الأمير عبد الرحمن الأوسط بالقيام بعدة إجراءات سريعة، منها بناء سور حول مدينة إشبيلية ليقيها من أي هجوم مباغت. كما أمر ببناء دار لصناعة السفن الحربية في ميناء المدينة، واستخدم رجالاً متمرسين في حماية السواحل البحرية، ووسع عليهم بالأموال والآلات، التي شملت استخدام النفط المشتعل لقذفه على سفن الأعداء (¬58). لم يكتف الأمير عبد الرحمن الأوسط بهذه الإجراءات، بل حاول أيضاً القيام بعمل دبلوماسي ليبعد خطر النورمان عن بلاده، فجرت اتصالات بينه وبين ملك الدانمارك لإحلال السلم بين الطرفين. وقد انتدب الأمير عبد الرحمن أحد الرجال البارزين في بلاطه للقيام بسفارة إلى بلاد النورمان، وهو الشاعر يحيى بن حكم الغزال. وقد أسهب ابن دحية في وصف هذه السفارة وما تعرضت له من الأهوال في الطريق، وجهود الغزال والوفد الأندلسي في الاجتماع بالنورمان والاتصال بهم (¬59). ويبدو أن ما توصل إليه هذا الوفد لم يكن إلا اتفاقاً مرحلياً، لأن النورمان عاودوا هجومهم على الأندلس في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وذلك في سنة 245 هـ/859 م وسنة 247 هـ/861 م (¬60). ولكن لم يستطع النورمان أن يحققوا في هذين الهجومين انتصاراً يذكر، بل على العكس ¬_______ (¬57) المصدر نفسه، ج 2، ص 87 - 88؛ العذري، ص 100. (¬58) انظر: ابن القوطية، ص 67. (¬59) المطرب في أشعار أهل المغرب، تحقيق: مصطفى عوض الكريم، الخرطوم، 1954، ص 130 فما بعدها؛ A. Ali El-Hajii, Andalusian Diplomatic Relations With Western Europe During the Umayyad Period, Beirut, 1970, pp. 171 ff. (¬60) المقتبس، تحقيق مكي، ص 307 - 309، 311 - 312؛ العذري، ص 118 - 119؛ ابن عذاري: 2/ 96.

دُحِروا، وردوا على أعقابهم دون أن يتمكنوا من إلحاق أذى كبير بالمسلمين. ويعود السبب في ذلك إلى أن جهود الأمير عبد الرحمن الأوسط كانت قد أينعت في عهد ولده الأمير محمد، فكان للاحتياطات الدفاعية التي اتخذها في تقوية الأسطول والمحارس والرباطات التي أقامها على طول الساحل الغربي للأندلس، أثر كبير في رد الغزاة والتقليل من شأن هجومهم (¬61). ¬_______ (¬61) لمزيد من التفصيلات عن غارات النورمان على الأندلس، انظر المراجع الآتية: محمد عبد الله عنان، " بين عرب الأندلس والنورمان " مجلة الهلال، ج 3، القاهرة، 1944؛ حسين مؤنس، " غارات النورمان على الأندلس " القاهرة، 1949؛ خليل إبراهيم صالح السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ص 269 - 282.

الفصل الثالث علاقة الدولة العربية الإسلامية مع الإمارات الإسبانية في الشمال

الفَصْلُ الثَّالِث علاقة الدولة العربية الإسلامية مع الإمارات الإسبانية في الشمال نشوء الإمارات الإسبانية: لقد مر بنا في أثناء الحديث عن فتح العرب لإسبانيا، كيف أنهم وصلوا إلى المناطق الشمالية والشمالية الغربية، وأوغلوا في الجبال الصخرية المفضية إلى سواحل كنتبرية المطلة على المحيط الأطلسي. لكنهم لم يفرضوا سلطانهم على هذه المناطق بشكل فعال، خاصة الركن الشمالي الغربي المسمى بإقليم أشتوريش في جليقية وذلك لوعورة هذه المنطقة، وقساوة مناخها. وقد استغلت بعض فلول القوط المنهزمة هذه الظروف، فلجأت إلى هذه الجبال واختفت فيها تنتظر الفرصة المواتية للتجمع والاستعداد لمقاومة الفتح العربي للأندلس. أما المسلمون فقد استهونوا أمر هذه الأماكن، وقلة عدد القوط الملتجئين إليها، فتركوهم وشأنهم، وانصرفوا إلى شؤونهم الداخلية، مما هيأ لهذه الأعداد القليلة الجو لتكوّن لنفسها كياناً قوياً يستطيع مع الأيام أن يناهض المسلمين في الأندلس، وينقلب من الدفاع إلى الهجوم، كما سنرى فيما بعد. وكان تجمع فلول الإسبان في جبهتين؛ الأولى في هضاب كانتبرية، أي في نافار وبسكونية في الشرق؛ والثانية في هضاب أشتوريش في الغرب. وقد تمركزت الجماعة الأولى تحت لواء زعيم يدعى الدوق بِطْرُة أو بتروس Pedro، الذي ينتمي إلى أحد الأصول الملكية، وكان من قادة الجيش في عهد الملكين القوطيين غيطشة ولذريق. ولكن الإمارة التي أنشاها هذا الزعيم كانت قليلة الخطر والأهمية، وذلك لوقوعها في الطرف الغربي من جبال ألبرت في سهول نافار وبسكونية، ولهذا فقد كانت عرضة لاقتحام القوات الإسلامية أثناء ذهابها إلى جنوب فرنسا وإيابها منها (¬1). أما إمارة جليقية ¬_______ (¬1) انظر: محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس: 1/ 208 - 210؛ خليل إبراهيم السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ص 101 فما بعدها.

أو مملكة أشتوريش، فقد كانت أعظم خطراً من إمارة كانتبرية لأنها تقع في جبال وعرة بعيدة عن طريق غزوات الفاتحين. فقد اعتصم فيها مجموعة من فلول القوط والتجأوا إلى مغارة تدعى كوفادونكا Covadonga، التي تقع في سلسلة جبال كانتبرية المنيعة، فى أعلى قممها، التي يطلق عليها الإسبان اسم قمم أوروبا Picos de Europa، بينما يسميها المؤرخون المسلمون بالصخرة ويجعلونها في جليقية (¬2). أما القائد الذي التفت حوله هذه الفلول، فيدعى بلايو Pelayo أو بلاجيوس Pelagius. وتعرفه الرواية العربية باسم بلاي، وهو شخصية يحيط بأصلها الغموض، لكنه على الأرجح ينتمي إلى أصل قوطي نبيل. وتقول بعض الروايات أنه كان ابناً للدوق فافيلا، دوق كنتبرية (¬3)، وأنه كان الساعد الأيمن للملك لذريق. وقد وقع بلاي أسيراً بأيدي المسلمين، وسجن في قرطبة، لكنه تمكن من الفرار في زمن الحر بن عبد الرحمن الثقفي سنة 98هـ/718 م، واتجه إلى منطقة أشتوريش في الشمال الغربي من البلاد (¬4). وأخذ يتنقل في هذه المنطقة حتى استقر به المقام في قرية كانجا دي أُونيس Cangas، حيث التف حوله نفر من القوط الهاربين من المسلمين، ومن الآيبيريين والرومان المقيمين في هذه المنطقة. فأخذ يحرضهم على الوثوب بالعرب، ويعيب عليهم الاستسلام والتراجع (¬5). وقد لوحق بلاي من قبل منوسة، القائد البربري المسلم في منطقة الاشتوريش، لكن بلاي تمكن من الإفلات منه والاختفاء في الجبال المنيعة، وبخاصة في منطقة الصخرة الآنف ذكرها. وقد استهون المسلمون أمر هذه الشرذمة الصغيرة، وانصرفوا إلى شؤونهم الداخلية، وانشغلوا بعوامل الفرقة والخلاف، وخاصة بعد تمرد البربر في الأندلس. فاستغل الإسبان هذه الفرصة، وشرعوا بالتحرك والإنحدار نحو الجنوب والاستيلاء على المناطق التي تركها البربر. وعندما تنبه المسلمون إلى هذا الأمر، الذي بدأ يشكل خطراً عظيماً على وجودهم في شبه الجزيرة، حاول بعض ولاتهم أن يتصدوا لهذه الإمارة، فأرسلوا إليها بعض الحملات التي لم تستطع القضاء عليها نظراً لوعورة المنطقة. وتشير بعض الروايات المسيحية إلى أن بلاي وجماعته، حققوا نصراً باهراً على المسلمين سنة ¬_______ (¬2) انظر: أخبار مجموعة، ص 28؛ ابن عذاري: 2/ 29. (¬3) انظر: ابن خلدون، كتاب العبر: 4/ 386؛ وراجع مؤنس، فجر الأندلس، ص 318 فما بعدها؛ وبحثه الموسوم " بلاي وميلاد اشتريس " مجلة كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول؛ مجلد 11، ج 1، القاهرة، 1949. (¬4) المقري، نفح الطيب: 4/ 350. (¬5) المصدر نفسه: 3/ 17؛ وانظر: مؤنس، فجر الأندلس ص 334.

104هـ/722 م حينما أرسل الوالي عنبسة بن سُحيم حملة لسحق العصاة بقيادة قائد عربي اسمه علقمة اللخمي (¬6). لقد بالغت المصادر المسيحية في تصوير هذه الحادثة وشوهت تفاصيلها، فجعلتها شيئاً أشبه بالفتح المبين الذي تم بإرادة وتدبير القوة الإلهية (¬7). وقد زاد مؤرخو الإسبان هذا النصر تقديراً وإجلالاً فجعلوه بداية لصراعهم من أجل إخراج المسلمين من الأندلس. ولكن على الرغم من هذا، فإن حولية لاتينية معاصرة، هي حولية عام 754 م، لا تذكر شيئاً عن هذه المعركة. وهذا يعكس التأثير الحقيقي الذي تركته هذه الحادثة في الأندلس، حيث لا بد أنها عُدت مناوشة صغيرة، أو حادثة ثانوية بين مجموعتين من الأفراد. وهذه الحادثة وحدها لم تكن تعني شيئاً لو لم يعقبها من الأمور التي زادت في قيمتها وأهميتها، وبشكل خاص اختلاف المسلمين وانقسامهم على أنفسهم في الأندلس، مما مهّد السبيل لبلاي وأنصاره بالقوة والانتشار إلى المناطق التي كانت بيد العرب والمسلمين. وهناك خلاف بين المؤرخين القدامى والمحدثين بشأن التاريخ الصحيح لهذه المعركة، التي أصبحت تسمى بمعركة كوفادونجا، فمنهم من يجعلها في عهد عنبسة بن سحيم، ومنهم من يجعلها في عهد عقبة بن الحجاج السلولي، والأرجح أنها حدثت في عهد الأول، كما سبق وذكرنا ذلك أثناء الحديث عن النشاط الحربي للعرب في شمال إسبانيا (¬8). وقد هاجم عقبة منطقة جليقية وحاول افتتاحها، لكنه لم يفلح في القضاء النهائي على بلاي وبعض أنصاره الذين اعتصموا بالصخرة الشهيرة Picos de Europa. وكان هؤلاء من القلة وصغر الشأن بحيث احتقرهم المسلمون وتركوهم وانصرفوا استخفافاً بهم (¬9). وكان إغفال أمر هؤلاء المقاتلين من أعظم الأخطاء التي ارتكبها العرب في الأندلس. فقد قويت معنوية بلاي وجماعته بانسحاب المسلمين، فانضم إليه الكثير من الأنصار، الذين اختاروه ملكاً عليهم، فكان هذا إيذاناً بميلاد مملكة أشتوريش ¬_______ (¬6) انظر: المقري (برواية عيسى بن أحمد الرازي): 4/ 350 - 351. The Chronicle of Alfonso III, pp. 614-615. (¬7) Ibid., p. 614. (¬8) لمزيد من التفاصيل والآراء المختلفة بشأن معركة كوفادونجا وبلاي راجع: مؤنس، فجر الأندلس، ص 318 - 342. (¬9) أخبار مجموعة، ص 28؛ ابن عذاري: 2/ 29.

المسيحية. وقد وجد بلاي الفرصة سانحة لتوطيد أمره وسلطانه في هذه المناطق الجبلية التي هجرها المسلمون منذ تمرد البربر. وأخذ يغير على المناطق الإسلامية المتاخمة، خاصة بعد أن انشغل المسلمون بالفتنة بين أبي الخطار والصميل بن حاتم الكلابي، فقوي مركزه، وثبتت أقدام المملكة الجديدة. استمر بلاي في حكم مملكة أشتوريش إلى وفاته في عام 119هـ/737 م، ثم ورثه ابنه فافيلا، الذي دام حكمه سنتين فقط، حيث قتله دب تعرض له في الصيد (¬10). وكان الدوق بتروس، دوق كنتبرية، قد توفي في ذلك الحين أيضاً، فورثه ابنه أذفونش (ألفونسو الأول) الملقب بالكاثوليكي. وقد توطدت أواصر التحالف بين إمارة كانتبرية ومملكة أشتوريش وذلك بتزوج ألفونسو من ابنة لبلاي تدعى أرمسندا Ermesinda (¬11) . ثم اختار أهل جليقية ألفونسو ملكاً عليهم، فقام على أثر ذلك اتحاد بين الإمارتين، وقامت منهما حكومة واحدة هي مملكة ليون، أو مملكة جليقية، كما تسميها الرواية الإسلامية. ويعد ألفونسو الأول المؤسس الحقيقي لإسبانيا النصرانية، فقد وسعها، وقواها، وأزاح عنها خطر الدولة العربية الإسلامية في الأندلس إلى حين، فحكم في ظروف مؤاتية (121 - 140 هـ/739 - 757 م)، لأن الخلافات الداخلية كانت قد شغلت المسلمين عنها لسنوات طويلة. فانتهز ألفونسو فرصة تمرد البربر، ونزوحهم من المناطق التي كانوا قد سيطروا عليها في أشتوريش وكنتبرية وجليقية، وكذلك هجرة الكثير من العرب الذين كانوا يستقرون في هذه النواحي، وهلاكهم نتيجة للفتنة التي وقعت بينهم وبين البربر. يضاف إلى ذلك فقد حل القحط بالأندلس سنة 133 هـ/750 م واستمر لعدة سنوات، وكان تأثيره شديداً على المناطق الشمالية، فجلا كثير من المسلمين عن هذه الأنحاء مخلفين منطقة واسعة تفصل بين جليقية وأراضي المسلمين. فاجتاح الإسبان هذه المناطق، وقتلوا من بها من المسلمين، وأخرجوا البقية عن جليقية كلها، وعن استورقة وغيرها من المناطق حتى نهر دويرة Duero (¬12) . وهكذا خسر المسلمون مراكز هامة مثل ليون Leon، وسمورة Zamora، وشلمنقة Salamanca، وشقوبية Segovia، وأبلة Avila، وغيرها، وكلها أماكن بذلت الجيوش العربية الفاتحة الكثير من الجهد والعناء في فتحها، ¬_______ (¬10) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 323. (¬11) المصدر نفسه، ص 223؛ وانظر أيضاً: مؤنس، المرجع السابق، ص 344. (¬12) انظر: أخبار مجموعة، ص 28، 62؛ مؤنس، المرجع السابق، ص 345 فما بعدها.

وقد أصبحت حدود الأندلس الإسلامية، عند وفاة ألفونسو الأول في مستهل تأسيس الإمارة الأموية، تمتد من سواحل المحيط الأطلسي مارة بقلمرية وقورية وطلبيرة وطليطلة ووادي الحجارة وتطيلة ثم تنتهي عند بنبلونة. أما حدود الإمارة الإسبانية فكانت تضم أشتوريش، وسانت أندير Santander، وأجزاء من برغش Burgos، وليون وجليقية. أي أن إمارة جليقية سيطرت على نحو ربع شبه الجزيرة الآيبيرية. أما المناطق التي كانت تقع بين هذين الخطين المذكورين، فكانت مسرحاً للخلاف والمنازعات والحروب الدائمة بين العرب والإسبان (¬13). لقد عمل كل من ألفونسو الأول، وأخيه فرويلا، الذي عينه حاكماً على مقاطعة كانتبرية، على توسيع هذه المملكة الإسبانية، ومناهضة المسلمين في الجنوب. فكانا يغيران على الأراضي الإسلامية المجاورة، وخاصة في عهد يوسف الفهري الذي كان مشغولاً بالمشاكل والثورات الداخلية. فاستولى ألفونسو على مدينة لك Lugo الحصينة، كما عبر نهر دويرة أكثر من مرة، وعاث في أراضي الأندلس. واستمر الوضع على هذه الشاكلة حتى وفاة فرويلا سنة 146 هـ/764 م، وأخيه ألفونسو في العام التالي أي 147 هـ/ 765 م. وقد خلف ألفونسو ابنه فرويلا الأول، الذي سار على نفس المنوال في غزو أراضي الدولة العربية الإسلامية، مستغلاً انشغال عبد الرحمن الأول بالثورات الخطيرة التي جابهته في أوائل حكمه (¬14). وتوالى الملوك والأمراء على حكم مملكة جليقية بقسمها الشرقي والغربي، ونخص بالذكر منهم غرسية بن ألفونسو الثالث (297 - 301 هـ/ 910 - 914 م) الذي نقل العاصمة من مدينة أوفيدو Oviedo إلى مدينة ليون، لتوسط موقعها بين جليقية وأشتوريش. ويدل هذا الإجراء على مدى القوة التي وصلت إليها هذه المملكة، حيث تركت المناطق الجبلية، ونزلت إلى السهول لمواجهة العرب. ومنذ هذا الوقت سُميت هذه المملكة الإسبانية باسم مملكة ليون، بعد أن كانت تسمى مملكة أشتوريش وجليقية. وقامت إلى جانب مملكة ليون إمارة أو مملكة اسبانية أخرى، هي مملكة نافار أو نبارّة، في منطقة الجنوب الغربي من جبال ألبرت Pyrenees في بلاد الباسك أو البشكنس الجبلية. وكانت هذه الإمارة في أول أمرها تخضع إلى سلطة بعض النبلاء ¬_______ (¬13) The Cambridge Medieval History, vol. III, p. 410 وانظر أيضاً: مؤنس، المرجع السابق، ص 349 - 350. (¬14) انظر: عنان، المرجع السابق: 1/ 214 - 215.

التابعين للفرنج أو لأمراء من كانتبرية وأشتوريش، الذين اتخذوا مدينة بنبلونة عاصمة لهم. ولم يستطع أمراء جليقية رغم الغزوات العديدة التي شنوها على هذه الإمارة، أن يضموها إلى مملكتهم وذلك لتفاني البشكنس في الدفاع عن استقلالهم. ومن زعماء هذه الإمارة غرسية أنيجز Garcia Iniguez، الذي يسميه ابن حزم (¬15)، بملك البشاكسة، والذي كان على صلة طيبة ببني قسي المولدين، سادة الثغر الأعلى، فقد ارتبط معهم برباط التحالف والمصاهرة، وحارب مع زعيمهم موسى بن موسى بن فرتون ضد أردونيو الأول، ملك جليقية، في معركة البلدة Albelda سنة 248 هـ/862 م (¬16). وخلف غرسية ابنه فرتون الذي قضى فترة طويلة أسيراً في قرطبة (¬17)، لكنه عزل عن الحكم بعد أن تغلب عليه شانجة غرسية الأول Sancho Garcia I (293 - 314 هـ/905 - 926 م)، الذي كان أول من تلقب بلقب ملك من أمراء نافار، ويعد المؤسس الحقيقي لهذه المملكة (¬18). وبالإضافة إلى مملكتي ليون ونافار، قامت مملكة أخرى في شمال إسبانيا، وذلك في الأراضي التي كانت تقع بين مملكة ليون في الغرب، ومملكة نافار في الشرق. وكانت هذه المناطق تسمى (بردوليا) ثم سميت فيما بعد باسم قشتالة Castilla، لكثرة الحصون التي كانت تقوم بها. وأصل هذه الحصون والقلاع يعود إلى جهود مملكة ليون التي أقامتها وأحاطت نفسها بها للحماية من هجمات المسلمين. وقد عرفت هذه الحصون في المصادر العربية باسم القلاع، كما سميت أيضاً نسبة إلى ولاية ألبة Alava باسم ألبة والقلاع. وكان سكان هذه المناطق من البشكنس وأهل ألبة يحكمون من قبل أمراء تابعين لمملكة ليون، لكنهم كانوا يتمتعون بشيء من الاستقلال الذاتي ليتمكنوا من محاربة المسلمين (¬19). أما عاصمة المنطقة فكانت يومئذ في مدينة بُرْغُش Burgos. وقد حاول هؤلاء الأمراء المحليون جهدهم للمحافظة على هذا الاستقلال الذاتي، بل التحرر من سلطة مملكة ليون. وقد سنحت لهم هذه الفرصة، حينما اتحدت معظم القلاع في ¬_______ (¬15) جمهرة أنساب العرب، ص 502. (¬16) المصدر نفسه، ص 502، وانظر أيضاً: عنان، المرجع السابق، ج 1، ص 298، 362؛ عبد الرحمن الحجي، أندلسيات، المجموعة الثانية، بيروت، 1969، ص 53؛ خليل السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ص 340. (¬17) ابن عذاري: 2/ 97. (¬18) عنان، المرجع السابق: 1/ 363. (¬19) انظر: العبادي، في تاريخ الأندلس والمغرب، ص 78.

القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي بزعامة الكونت فرنان كونثالث Fernan Gonzalez، أو فرّان غُنصَالِس، كما يسميه ابن الخطيب (¬20). وكان كونثالث زعيماً قوياً ضد خصومه ملوك ليون، فأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون. وعلى الرغم من هزيمته وأسره من قبل الملك، ظل أنصاره من سكان القلاع مخلصين لزعيمهم المأسور، واستمروا في الثورة، مما اضطر راميرو الثاني إلى إطلاق سراحه. فعمل كونثالث على توطيد مركزه وتوحيد كل قشتالة تحت لوائه. وقد استطاع أن يحقق هذه الغاية، ويجعل الملك وراثياً في أبنائه في إمارة قشتالة المستقلة عن مملكة ليون. ثم أخذت هذه الإمارة تتسع شيئاً فشيئاً على حساب أراضي المسلمين والمسيحيين على السواء، حتى سيطرت على كل إسبانيا، كما سنرى فيما بعد، وصارت لغتها القشتالية هي اللغة الإسبانية الرسمية في البلاد (¬21). لقد كانت العلاقات بين هذه الإمارات الإسبانية الثلاث، وغيرها من الإمارات الصغيرة الأخرى، مثل إمارة برشلونة التي كونت نواة لإمارة قطالونية Catalonia فيما بعد والتي دمجت في مملكة أراغون Aragon عام 532 هـ/1137 م. تتذبذب بين السلم والحرب حسب مصالح واهتمامات حكامها ومطامعهم. فحينما تكون هناك منفعة مشتركة للجميع، يحصل التقارب بين هذه الإمارات لمواجهة المسلمين في الأندلس. ولكن تضارب المصالح، والنزاع على السلطة بين أفراد الأسر الحاكمة، أو ثورات النبلاء، ومحاولاتهم للاستقلال كانت تدفع بعض هؤلاء الأمراء الإسبان لطلب العون من الأمراء الأمويين في قرطبة. يضاف إلى ذلك، فإن سوء الأحوال الداخلية، كثيراً ما كانت تفرض على حكام الإمارات الإسبانية عقد السلم والمهادنة مع الدولة العربية الإسلامية. لكنهم إذا ما شعروا بالقوة، أو بانشغال المسلمين في مشكلة داخلية، لا يترددون في نقض عهودهم، وغزو الأراضي التابعة للأندلس (¬22). ويمكن القول إجمالاً أن علاقات هذه الإمارات مع الدولة العربية الإسلامية، ومواطنيها كانت تشمل إلى جانب الحروب، وما يعقبها من مآسٍ ونكبات بالنسبة إلى الطرفين، أموراً أخرى تبرز في أوقات السلم والصفاء، كالمراسلات الدبلوماسية، وعلاقات المصاهرة، وانتقال التأثير الحضاري المشترك بين هذه الإمارات الإسبانية ومواطني الدولة العربية الإسلامية في الأندلس. ¬_______ (¬20) أعمال الاعلام، ص 325. (¬21) العبادي، المرجع السابق، ص 78. (¬22) انظر: عبد الرحمن الحجي، أندلسيات، (2)، ص 54 - 56.

العلاقات بين الأندلس والإمارات الإسبانية: 1 - العلاقات الحربية: سادت العلاقات الحربية بصورة عامة بين الأندلس والإمارات الإسبانية في الشمال. وكانت الحملات العسكرية العربية تزداد كثافة باتجاه الشمال، كلما كانت الأحوال الداخلية مستقرة، والأوضاع هادئة في الأندلس، فيتفرغ الأمراء لمكافحة الخطر الخارجي المتمثل بالإمارات الإسبانية. وكذلك الحال بالنسبة لهذه الإمارات فكانت تشن الهجوم على أراضي الأندلس في الفترات التي تشعر فيها بقوتها، وضعف المسلمين. من ذلك مثلاً ما حدث في عهد فرويلا الأول الذي استغل انشغال الأمير عبد الرحمن الأول بالقضاء على تمرد العلاء بن مغيث، فأغار على أراضي الدولة العربية الإسلامية، وعبر نهر دويرة، وغزا لُك وشلمنقة، وشقوبية، وآبلة وسمورة وغيرها (¬23). وكان لا بد لعبد الرحمن الأول أن يتخذ إجراءات كفيلة برد الخطر الإسباني، فجرد، برغم انشغاله بالفتن الداخلية، حملة تأديبية يقودها مولاه بدر إلى الشمال، وبشكل خاص إلى منطقتي ألبة والقلاع، وهي الأراضي الواقعة بين بلاد الباسك وجبال كانتبرية على ضفاف نهر الإبرة شرقي مملكة جليقية. وقد حققت هذه الحملة نجاحاً ملحوظاً، وأرغمت سكان هذه المناطق على دفع الجزية للدولة العربية الإسلامية (¬24). والظاهر أن حملة بدر هذه كانت ذات أثر كبير على طبيعة العلاقات التي سادت فيما بعد بين عبد الرحمن الأول وإمارة جليقية. فلقد أوقفت النشاط التوسعي لهذه الإمارة على حساب الأندلس، يضاف إلى ذلك فقد خيم السلام على المنطقة في عهد الملوك الذين عاصروا عبد الرحمن، والذين كانوا بمثابة أتباع للحكم الأموي ويدفعون الجزية إلى قرطبة. وقد بلغ نفوذ العرب حداً كبيراً في التدخل بشؤون هذه الإمارة، حتى أنهم كانوا يتدخلون في الخلافات التي كانت تنشب بين الأمراء الإسبان للوصول إلى العرش، فيساعدون الموالين منهم على التغلب على مناوئيهم. ويدين أحد هؤلاء الأمراء، وهو مورقاط (مورجاتو Mauregato) ، للعرب بوصوله إلى الحكم. ومما يذكر أن هذا الحاكم الأخير كان من أصل عربي من جهة الأم، وقد بالغ في التقرب إلى المسلمين والتودد إليهم (¬25). ¬_______ (¬23) ابن الأثير: 5/ 500؛ المقري: 1/ 330. (¬24) ابن عذاري: 2/ 54؛ وانظر: عنان، المرجع السابق: 1/ 216. (¬25) انظر: المرجع السابق: 1/ 219؛ أحمد بدر، دراسات في تاريخ الأندلس وحضارتها، ص 100؛ =

ولكن العلاقات الحربية سرعان ما عادت إلى وضعها الأول بعد وفاة مورجاتو سنة 173 هـ/789 م، وتولي بَرْمود أو برمودة Vermudo (¬26) . الذي عزل بعد نحو سنتين، ثم حكم بدلاً منه ألفونسو الثاني الذي يسميه العرب ب إذْفونش (175 - 227 هـ/791 - 842 م). ففي هذه الحقبة التي تولى فيها الأندلس هشام بن عبد الرحمن، وابنه الحكم، وحفيده عبد الرحمن بن الحكم، اشتدت الاشتباكات والغزوات بين الجانبين. فقد سيرت الدولة حملات في كل صيف تقريباً في عهد هشام، وحققت انتصارات كبيرة على إمارة جليقية. وكان على رأس هذه الحملات المتجهة إلى الشمال قواد معروفون ساهموا في إقامة الدولة الأموية في الأندلس، منهم أبو عثمان عبيد الله بن عثمان، ويوسف بن بخت، الذي أنزل بالملك بَرْمُود هزيمة ساحقة، واضطره إلى الفرار بنفسه إلى معاقله بعد أن تكبد جيشه عدداً كبيراً من القتلى (¬27). ومن القادة الآخرين: عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، الذي قاد صائفة سنة 179هـ/795 م حتى انتهى إلى مدينة استرقة داخل جليقية، بل إنه وصل مدينة أوفيدو، العاصمة القديمة للإمارة الإسبانية وهزم ألفونسو الثاني الذي كاد يقع أسيراً في يديه، لولا فراره إلى إحدى القلاع البعيدة في الشمال (¬28). وقد استغل ألفونسو الثاني انشغال الحكم الأول ببعض الفتن الداخلية، وبخاصة تمرد ماردة، فهاجم أراضي الدولة العربية وتوغل فيها، حيث عبر نهر دويرة، وسار حتى قلمرية وأشبونة في البرتغال الحالية، وعاث في تلك المنطقة، وخربها. فرد الحكم بأن سار بنفسه سنة 194هـ/810 م وغزا بلاد الأعداء واستعاد المدن المغتصبة. ثم باشر في إرسال الحملات إلى الشمال، ومنها حملة عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث سنة 200 هـ/816 م إلى جليقية التي أنزلت ضربة قوية بسكان المنطقة في وادي آرون Arun (¬29) . وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم، الذي تميز بهدوء نسبي للأحوال الداخلية في الأندلس، استمرت الحملات الصائفة إلى الشمال، وقلما كانت تمر سنة دون جهاد ¬_______ = بيضون، الدولة العربية في إسبانيا، ص 199. (¬26) Livemore, The Origins of Spain and Portugal, pp. 340-357. (¬27) ابن عذاري: 2/ 63 - 64. (¬28) المصدر نفسه: 2/ 64 - 65. (¬29) المصدر نفسه: 2/ 73 - 75؛ وانظر: بيضون، المرجع السابق، ص 235 - 236.

للأعداء، بل إن عبد الرحمن الثاني شارك بنفسه في بعض هذه الحملات، وبخاصة سنة 225 هـ/840 م حيث غزا جليقية وفتح الكثير من حصونها. كما قام بنفسه أيضاً بقيادة حملة تأديبية لحاكم تطيلة، موسى بن موسى بن فرتون، الذي تحالف مع الباسك، فأخضع أتباعه في تطيلة وتقدم إلى بنبلونة عاصمة الباسك، التي التجأ إليها موسى، فأخضعها وفرض على أهلها وعلى موسى الصلح (¬30). وهكذا استمرت الحملات إلى الشمال، واستمر النزاع بين القوتين المختلفتين في شبه الجزيرة، لكن الموقف الحربي تطور في أواخر عهد الإمارة الأموية، فبالإضافة إلى استمرار الحملات، قام كل من الجانبين بإعمار وتحصين خطوط دفاعه تجاه الجانب الآخر، فبدأت إمارة جليقية بإعمار استرقة، وليون، وإماية، وبرغش، وبقية المناطق جنوباً إلى نهر دويرة. أما العرب، فحصنوا روافد نهر تاجة الشمالية، وروافد نهر الابرة، كما بنى الأمير محمد بن عبد الرحمن مدينة مجريط ( Madrid مدريد الحالية)، وطلمنكة Talamanca، وأسكن بني تجيب مدينة قلعة أيوب وحصنها لهم، وبنى لهم حصن دروقة لمواجهة الخطر الإسباني في الشمال (¬31). وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن العلاقات الحربية في عصر الإمارة تميزت بطابع روحي خاص. فأهل الأندلس يعدون حملاتهم على الممالك الإسبانية جهاداً في سبيل الله، بينما كان إسبان الشمال يعززون من مقاومتهم للعرب بتأجيج الروح الصليبية. وكان لقبر القديس يعقوب، (سانتياجو) في مدينة شنت ياقب Santiago de Compostela تأثير كبير في إثارة الروح المعنوية عند الإسبان. ولم تكن الحملات التي يشنها هؤلاء في حقيقتها سوى حرب صليبية " يقود فيها سانتياجو جحافل الإسبان ضد أعدائهم على مر القرون " (¬32). 2 - العلاقات الدبلوماسية والمصاهرات: تخللت حقب الحروب الطويلة بين الأندلس والإمارات الإسبانية في الشمال ¬_______ (¬30) ابن عذاري: 2/ 85، 86 - 87. (¬31) انظر: الحميري، الروض المعطار، ص 76، 128، 179 - 180، وانظر أيضاً: أحمد بدر، المرجع السابق، ص 217 - 218. (¬32) دورثي لودر، إسبانيا شعبها وأرضها، ترجمة، طارق فودة، القاهرة، 1965، ص 61؛ وانظر: أحمد مختار العبادي، " صورة لحياة الحرب والجهاد في المغرب والأندلس "، مجلة البينة، الرباط، 1962 - 1963، ص 92؛ خليل السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي، ص 155.

سنوات عديدة تميزت بعقد هدنات أعطت للجانبين فرصاً كثيرة للاتصال والتعرف والاقتباس. وكانت هناك اتصالات دبلوماسية بين الطرفين، وإن كانت هذه الاتصالات لا تبدو واضحة جداً في هذا العهد، لأن بعض الإمارات الإسبانية كانت ما تزال في طور النمو والتكوين. لكن العهد التالي، أي عهد الخلافة، تميز بنضج هذه العلاقات، وتبادل الوفود والسفارات بين الجانبين على نطاق واسع. ومع هذا، فهناك ما يشير إلى وجود علاقات من هذا القبيل في عهد الإمارة، وإن كانت قليلة جداً. ففي عهد عبد الرحمن الأول تم عقد أمان وسلام بين هذا العاهل الأندلسي وبين جيرانه حكام قشتالة، وهذا هو نص كتاب الأمان: " بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب أمان الملك العظيم عبد الرحمن للبطارقة والرهبان والأعيان والنصارى والأندلسيين أهل قشتالة، ومن تبعهم من سائر البلدان. كتاب أمان وسلام، وشهد على نفسه أن عهده لا يُنسخ ما أقاموا على تأدية عشرة آلاف أوقية من الذهب وعشرة آلاف رطل من الفضة، وعشرة آلاف رأس من خيار الخيل، ومثلها من البغال، مع ألف درع وألف بيضة، ومثلها من الرماح، في كل عام إلى خمس سنين، كُتب بمدينة قرطبة ثلاث صفر عام اثنين وأربعين ومائة (حزيران 759 م) (¬33). وفي الحقيقة لا توجد لدينا تفصيلات عن هذه المعاهدة ولا الظروف التي عقدت فيها. ولكن يبدو من تاريخها أنها عقدت في أيام فرويلا الأول. ويرتاب بعض المؤرخين المحدثين في صحة الأرقام التي وردت فيها لضخامتها بالنسبة لموارد الإمارة الإسبانية في ذلك الوقت المبكر. كما يشكّون أيضاً في الوثيقة ذاتها، وإن كان لا يوجد لديهم حجة حاسمة لترجيح إنكارها (¬34). بل على العكس، فقد كان عبد الرحمن الأول قوياً في تلك الحقبة، مما جعل فرويلا الأول عاجزاً عن مواجهته والتصدي له، لذلك يحتمل أنه لجأ إلى الموافقة على عقد مثل هذه المعاهدة. ولقد رأينا فيما سلف أن العلاقة بين إمارة جليقية، والدولة الأموية في عهد عبد الرحمن الأول، تميزت بالهدوء والسلام بعد حملة بدر إلى الشمال، وأن أمراء الإسبان الذين تولوا الحكم خلال الفترة ¬_______ (¬33) M. Casiri, Bibliotheca Arabico-Hispana Escurialensis, Madrid, 1770, vol. II. وقد نقل الغزيري هذا النص عن مخطوطة الإحاطة لابن الخطيب في الاسكوريال، انظر: عنان، المرجع السابق، ص 199. (¬34) المرجع نفسه، ص 199، هامش رقم (1)؛ عبد الرحمن الحجي، أندلسيات (2)، ص 65 - 66، والمراجع التي يشير إليها في الهوامش.

الباقية من حكمه، تميزوا بسياستهم التَقَرُّبية والموالية لحكومة قرطبة. ولا توجد علاقات ودية ذات أهمية في عهد بقية الأمراء الأمويين، باستثناء عبد الرحمن الثاني أو الأوسط، الذي وصلت الدولة العربية في الأندلس في عهده إلى مكانة سامية، وأصبحت مركزاً للنشاط الدبلوماسي والسفارات في المغرب الإسلامي. وقد وصلت هذه العلاقات الدبلوماسية أوجها مع الإمبراطورية البيزنطية (¬35). أما بالنسبة للعلاقات مع الإسبان، فلم تكن بتلك القوة، وكانت بعض معاهدات الصلح تُفرض بعد الانتصارات التي يحققها أهل الأندلس على جليقية وبقية المناطق الأخرى، من ذلك مثلاً الصلح الذي فرضه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث على الجلالقة، بعد أن غزاهم سنة 208 هـ/823 م بغزوته المعروفة بغزاة ألبة والقلاع (¬36). والتي كانت رداً على هجومهم على مدينة سالم في الثغر الأعلى. وكان من بنود هذا الصلح إطلاق سراح جميع الأسرى من الأندلس، ودفع جزية كبيرة، وتسليم بعض زعماء المنطقة إلى الدولة ليكونوا رهائن، ضماناً لعدم اعتدائهم في المستقبل (¬37). وقد حدثت بعض الاتفاقات بين إمارة نافار وعبد الرحمن الأوسط. وكانت هذه الإمارة قد بدأت بالتحرر من سيطرة الإفرنج، وتدخلهم في شؤونها، مما جعلها تتوجه إلى الأندلس لطلب العون والإسناد. ولهذا السبب فقد جاءت سفارة نافارية إلى بلاط عبد الرحمن الأوسط في قرطبة، وعقدت معاهدة بين الطرفين، تعهدت الدولة بموجبها بحماية نافار من أي اعتداء خارجي، مقابل مساعدة النافاريين لأهل الأندلس فيما إذا أرادوا عبور جبال ألبرت إلى فرنسا (¬38). ولكن لم تكن هذه المعاهدات تحترم كثيراً من قبل أمراء الإسبان، بل كانت تُنقض في معظم الأحيان، خاصة إذا ما شعروا بقوتهم وضعف الدولة العربية الإسلامية في الأندلس. وبالنسبة للمصاهرات بين العرب في الأندلس والمسيحيين، فقد كانت شائعة سواء في داخل الأندلس ذاتها أم مع الإمارات الإسبانية في الشمال. وكان الحكام يشجعون هذه المصاهرات، بل إن بعضهم قد تزوج من نساء إسبانيات، مثل عبد العزيز بن موسى ابن نصير، الذي تزوج من أرملة لذريق آخر ملوك القوط. ومن حكام المسيحيين الذين ¬_______ (¬35) انظر: ليفي بروفنسال، الإسلام في المغرب والأندلس، ترجمة: السيد محمود عبد العزيز سالم ومحمد صلاح الدين حلمي؛ القاهرة، 1956، ص 95 فما بعدها؛ العبادي، المرجع السابق، ص 151 - 154. (¬36) ابن عذاري: 2/ 81 - 82. (¬37) انظر: المقري: 1/ 344 - 345؛ عنان، المرجع السابق: 1/ 256، أندلسيات (2)، ص 70 - 71. (¬38) المرجع نفسه، ص 72.

شجعوا هذا الاتجاه مورجاتو المتوفى سنة 173هـ/789 م، الذي استقل في جليقية، وبالغ في التودد إلى المسلمين، وشجع بحماس زواج الفتيات المسيحيات من المسلمين. وكان هذا الحاكم، نفسه ابناً لألفونسو الأول من أم عربية، ولكن دعوته لم تلاقِ النجاح المطلوب بسبب بغض النصارى المتعصبين ورجال الدين له (¬39). وقد قامت علاقات مصاهرة قوية بين بعض الأسر المتنفذة في منطقة الثغر الأعلى، مثل بني قسي المولدين، وبين حكام نافار في الشمال (¬40). ويبدو أن مثل هذه الأسر المولدة قد أرادت تقوية نفوذها بالزواج، هذا فضلاً عن عامل الجوار والقرب الذي يربط بين الطرفين. وكانت علاقات المصاهرة هذه من القوة بحيث كان بنو قسي يقفون أحياناً مع أصهارهم النافاريين بوجه حكومة قرطبة، أو الحكام الإسبان الآخرين (¬41). ومن المصاهرات الطريفة التي حدثت في هذا العهد، زواج الأمير عبد الله بن محمد من إحدى الأميرات النافاريات، وهي ونقة Iniga ابنة فرتون بن غرسية Fortun Garces المعروف بالأنقر، الذي أسره الأمير محمد بن عبد الرحمن، وسجنه في قرطبة لمدة عشرين سنة (¬42). وكانت ونقة هذه قد تزوجت قبل ذلك من أمير نافاري، هو أزنار بن شانجة Aznar Sanchez، وأنجبت منه إبنة، هي طوطة Toda، التي ستصبح ملكة نافار، وتعاصر عبد الرحمن الثالث، وتفد عليه في سفارة سنة 347 هـ/958 م ساعية إلى عقد معاهدة سلم وصداقة مع قرطبة (¬43). أما ثمرة زواج الأميرة ونقة الثاني من الأمير عبد الله، فكانت ابناً؛ وهو الأمير محمد والد عبد الرحمن الثالث وبذلك تكون الملكة طوطة عمة الخليفة عبد الرحمن الناصر، لأنها أخت محمد، والد الناصر، من أمه ونقة (¬44). وتدل هذه المصاهرة على مدى العلاقات المتشابكة التي قامت بين سكان الأندلس وجيرانهم الإسبان في الشمال، مما كان له أثر بارز في احتكاك الشعبين واختلاطهم، وانتقال مظاهر الحضارة فيما بينهم. ¬_______ (¬39) انظر: عنان، المرجع السابق: 1/ 219؛ أندلسيات، (2) ص 81. (¬40) انظر: ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 502 - 503؛ خليل السامرائي، المرجع السابق، ص 340. (¬41) انظر: العذري ص 31 فما بعدها. (¬42) ابن عذاري: 2/ 97. (¬43) المقري: 1/ 366. (¬44) انظر: أندلسيات (1)، ص 83 - 85.

3 - العلاقات الحضارية: لقد كان تداخل المسلمين والمسيحيين مستمراً في إسبانيا في عصر الإمارة والعصور الإسلامية الأخرى اللاحقة، سواء كان ذلك داخل الأندلس ذاتها أم في خارجها مع الإمارات الشمالية. ولم يقتصر هذا التداخل والاحتكاك على فترات السلم فقط، بل شمل فترات الحروب أيضاً. فعندما يتصل شعبان أحدهما بالآخر، فإن الشعب ذا الحضارة الأرقى هو الذي يؤثر على الآخر. وهكذا كانت الحالة بالنسبة للعرب في إسبانيا، فلقد انتقلت حضارتهم إلى الإسبان في الأندلس وفي الإمارات الشمالية بطرق شتى؛ منها الزيارات المتبادلة التي كانت تتم بين الطرفين بقصد الاطلاع أو المتاجرة، ومنها بواسطة العبيد الذين كانوا يهربون من الشمال لضمان حرياتهم، وعندما يعودون إلى بلادهم كانوا يجلبون معهم كثيراً من العادات ومظاهر الحضارة، بل إن بعضهم كان يعود وهو يحمل أسماء عربية أيضاً (¬45). وكان لوقوع المناطق العربية الإسلامية بيد الإمارات الإسبانية أثر كبير في الاتصال والاحتكاك بين الطرفين. فعندما كانت تقع إحدى هذه المناطق بأيدي الإسبان لم يكن ذلك يعني توقف وجود المسلمين فيها، بل على العكس كان الكثير منهم يبقون في هذه المناطق محتفظين بعاداتهم وتقاليدهم، ويمارسون طقوسهم الدينية. ومن هؤلاء العديد من أصحاب الحرف والمثقفين، الذين لعبوا دوراً هاماً في نقل العلوم والفلسفة الإسلامية إلى الإسبان في الشمال، ومنها إلى أوروبا. وكان ملوك وأمراء هذه الإمارات الإسبانية يضطرون إلى الاحتفاظ بهؤلاء المسلمين بسبب أهميتهم الاقتصادية للبلاد. وهؤلاء المسلمون الذين استمروا في البقاء في أماكنهم بعد سيطرة الإسبان عليها عرفوا باسم المدجنين Mudejares. وكان موقفهم شبيه بموقف أهل الذمة تحت ظل الحكم العربي الإسلامي. وكانوا، كما أسلفنا، أحراراً في اتباع عقيدتهم الإسلامية، وممارسة حرفهم وتجارتهم، وعليهم مقابل ذلك دفع ضريبة الرأس أو الجزية. لقد كان وجود هؤلاء المدجنين ظاهرة تأريخية مهمة جداً في حياة إسبانيا، أدت إلى خلق بنية اقتصادية، وحضارة مادية وعلمية مشتركة بين المسيحيين والمسلمين، بلغت أوجها في العهود التي أعقبت عهد الإمارة، وبشكل خاص في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد/السابع والثامن للهجرة (¬46). ومن الجدير بالذكر أن المستعربين، وهم نصارى الإسبان، الذين ¬_______ (¬45) The Cambridge Medieval History, vol. III, p. 437. (¬46) W. M. Watt, A History of Islamic Spain, p. 150.

عاشوا مع العرب في الأندلس، ساهموا أيضاً في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى إسبانيا النصرانية، لأن هؤلاء المستعربين بحكم معرفتهم للغتين العربية والإسبانية القديمة كانوا ينتقلون بحرية من أراضي الأندلس إلى الإمارات الإسبانية. وهكذا انتقلت العلوم والفلسفة وكثير من مظاهر الحياة العامة الإسلامية إلى الشمال. وبالإضافة إلى انتقال هذه التأثيرات، فقد انتقلت أيضاً كثير من التنظيمات القانونية والحربية من الأندلس إلى الإمارات الإسبانية وهذا يوضح لماذا اضطر الإسبان إلى الإبقاء على التنظيمات القائمة في المناطق المسكونة بالمسلمين والتي أعادوا السيطرة عليها. بينما وضعوا أنظمة أخرى لتنظيم الحياة لرعاياهم في هذه المناطق (¬47). ومن التأثيرات الأخرى التي تبودلت بين الطرفين، التأثيرات اللغوية، فلقد كانت المصطلحات العربية شائعة في كل من ليون وقشتالة ونافار، وبقية المناطق الأخرى في الشمال. كما دخل في اللغة الرومانسية Romance، وهي اللغة الإسبانية القديمة الناتجة من اللهجة اللاتينية - الآيبيرية، التي كانت في طور التكوين في ذلك الوقت، الكثير من الكلمات والمصطلحات العربية. وكان هناك الكثير من العرب الذي يفهمون هذه اللغة ويتكلمون بها، وبشكل خاص في مناطق الثغور والحدود. وتوجد في مصادرنا العربية إشارات واضحة تدل على أن الأمراء والقضاة وكبار القوم والشعراء كانوا يتكلمون هذه اللغة الإسبانية القديمة أو الرومانسية إلى جانب اللغة العربية، وذلك على كل مستويات المجتمع وحتى في قصور الأمراء الأندلسيين (¬48). وفي الوقت نفسه كان هناك العديد من الإسبان الذين لهم إلمام ومعرفة باللغة العربية. ويبدو الأثر العميق الذي مارسته الثقافة العربية الأندلسية على السكان الإسبان في كل شبه الجزيرة الآيبيرية من ملاحظة الاستعارات اللغوية التي أخذتها اللغة الإسبانية من اللغة العربية. فلقد وجدت اللغة الإسبانية نفسها، كما يقول المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال (¬49)، " مضطرة طيلة مرحلة نموها، وحتى القرن الحادي عشر الميلادي (السابع الهجري)، على الأقل، أن تأخذ من العربية كل ما ينقصها حتى ذلك الوقت للتعبير عن المفاهيم الجديدة وبخاصة في مضمار المؤسسات والحياة الخاصة ". وهناك أمثلة لا حصر لها تشمل مئات عديدة من الكلمات والمفردات ذات الأصل العربي في مجال ¬_______ (¬47) The Cambridge Medieval History, vol. III, pp. 437-438. (¬48) انظر: ابن عذاري: 2/ 227؛ العبادي، المرجع السابق، ص 172. (¬49) حضارة العرب في الأندلس، ترجمة ذوقان قرقوط، مكتبة الحياة، بيروت، ص 81.

التنظيم المدني أو العسكري لدى إسبانيا في العصور الوسطى أو في العصر الحديث. يضاف إلى ذلك مصطلحات أخرى تشمل أسماء الأمكنة والأنهار والظواهر الجغرافية، وطرق وأساليب الري، وأسماء الفاكهة والأزهار والألوان والملابس (¬50). وتعد هذه الاستعارات اللغوية أفضل من جميع الوثائق التاريخية لأنها تبرز الإشعاع الحضاري الحقيقي الذي سلطته الأندلس على إسبانيا المسيحية. وهي أكثر من جميع الأدلة إفصاحاً على سيادة العرب الثقافية، سيادة لا جدال فيها عمت شمال شبه الجزيرة الآيبيرية (¬51). ولم يقتصر أثر العرب الحضاري على الإمارات الإسبانية في الشمال على النواحي الثقافية واللغوية حسب، بل شمل مجالات أخرى، منها الفنون، وخاصة فن العمارة والبناء الذي نقله المدجنون، وظهر في إسبانيا منذ بداية القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري، وظل فيها بصورة نهائية تقريباً (¬52). ويتميز هذا الفن، وبشكل خاص في الكنائس، بوجود القباب التي ترتفع فوق أقواس على شكل حدوة حصان. ومن جملة الأبنية الأخرى غير الدينية التي تأثرت بالفن العربي، الجسور والأقنية المائية المعلقة، ونواعير المياه وغيرها. كذلك يظهر تأثير المسلمين على إسبانيا في تطور الفنون الأخرى الصغرى، مثل صناعة العاج، والمصنوعات الذهبية والزجاجية والخزفية والتطريز. وظلت هذه الصناعات مستمرة في المدن التي استعادها الإسبان وإلى وقت لاحق بعد عصر الإمارة، بل حتى خروج العرب من الأندلس. وذلك لأن إشعاع الحضارة الأندلسية الذي بلغ أقصى اندفاعه في القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري، لم يتلاشى بل امتد حتى سقوط الأندلس شاملاً جميع أجزاء شبه الجزيرة. ولم يقف ملوك وأمراء الإسبان ضد هذا التيار، بل شجعوه، وتبنوا هم أنفسهم شتى المبتكرات المستقاة من مظاهر الحضارة العربية الإسلامية المجاورة. وإن قيام بعض ملوك الإسبان في وقت لاحق بضرب عملاتهم وهي تتضمن وجهين، عربياً وقشتالياً، وارتدائهم الملابس على الطريقة الإسلامية، ليدل على مدى العمق الذي تغلغلت فيه الحضارة العربية الإسلامية في نفوس الإسبان وعلى أعلى المستويات (¬53). ¬_______ (¬50) انظر: لطفي عبد البديع، الإسلام في إسبانيا، القاهرة، 1958، ص 112 - 116. (¬51) ليفي بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس، ص 81 - 85. (¬52) عن فن العمارة في الأندلس، انظر: مانويل جوميث مورينو، الفن الإسلامي في إسبانيا، ترجمة: د لطفي عبد البديع ود. السيد محمود عبد العزيز سالم، القاهرة، 1977. (¬53) انظر: المرجع نفسه، ص 86، 88 - 90؛ وانظر أيضاً: لطفي عبد البديع، المرجع السابق، ص 98 - 101.

الباب الثالث: عصر الخلافة

البَابُ الثَّالِث " عصر الخلافة " الفصل الأول: - ولاية عبد الرحمن الناصر - القضاء على الفتن الداخلية - إعلان الخلافة الفصل الثاني: الأخطار الخارجية - الأندلس والممالك الإسبانية الشمالية - الأندلس والدولة الفاطمية الفصل الثالث: المظاهر الحضارية 1 - العلاقات الدبلوماسية 2 - الازدهار الاقتصادي 3 - المنشآت المعمارية الفصل الرابع: - الأندلس بعد وفاة الناصر - سيطرة الحاجب المنصور بن أبي عامر - الأندلس في عصره الدكتور ناطق صالح مطلوب

الفصل الأول تولية عبد الرحمن الناصر

الفَصْلُ الأَوَّل تولية عبد الرحمن الناصر - جهوده فى استعادة الوحدة الوطنية: بوفاة الأمير عبد الله سنة 300 هـ/912 م تولى حفيده عبد الرحمن بن محمد (¬1) الإمارة دون أعمامه، أو أعمام أبيه الذين كانوا أحق منه بالإمارة، ولعل من جملة الأسباب التي قدمت الأمير عبد الرحمن على غيره من أمراء بني أمية سببين: الأول: شخصيته. والثاني: طبيعة الدولة الأموية في هذه الفترة. فقد نشأ الأمير عبد الرحمن يتيماً في كفالة جده الأمير عبد الله محاطاً بالرعاية والاهتمام الزائدين محبوّاً بعناية لا حدود لها حتى بزَّ أقرانه من الأمراء في العلوم والآداب وفنون الفروسية والسياسة التي تدرب عليها نظرياً وعملياً في بلاط جده الأمير الذي بدأ ومنذ وقت مبكر يكل إليه مهام الأمور، وينيبه في الجلوس عنه في الاحتفالات والأعياد (¬2)، فكان مميزاً من بين أمراء بني أمية، محاطاً بأنظار الخاصة من كبار رجال الدولة عسكريين ومدنيين، معروفاً من العامة وطبقاتها المختلفة، وكان في نظر الجميع مؤهلاً أكثر من غيره ليتولى قيادة الدولة بعد جده الأمير عبد الله، ذلك أن الأمير عبد الرحمن كان من بين كل أمراء بني أمية نمطاً فريداً من الرجال توازن بناؤه الذاتي والفكري مع درجة تعقيد الفترة التاريخية التي عاصرها فهو لم يترك شخصيته تنمو تلقائياً وإنما كان ينميها مرتبطاً بدرجة التأزم والتحديات التي كانت تمر بها الدولة العربية في الأندلس، لذا قدر له أن يعيد أمجاد الدولة العربية ويضطلع بدور يشبه إلى حد كبير دور مؤسس الدولة عبد الرحمن الداخل. وفضلاً عن ذلك فإن بعض الروايات التاريخية تؤكد ¬_______ (¬1) ولد سنة 277 هـ. (¬2) ابن عذاري، البيان المغرب: 2/ 157 تحقيق كولان.

أن جده قد ولاه ولاية عهد من بعده (¬3). أما الدولة في الأندلس، فقد كانت في وضع عجزت معه عن ردع المغيرين على أطراف العاصمة قرطبة نفسها بعد أن تجاذبتها الأعاصير من كل صوب (¬4)، وتفاقم أمر التحدي الداخلي للسلطة مما أعطى للتحديات الخارجية فرصاً سانحة وسهلة لتحقيق ما كانت تبغيه من التوسع على حساب سيادة الدولة العربية، وهذه الظروف العصيبة التي عاشتها الدولة العربية في الأندلس لم تكن بغية الطامعين في الحكم، فقد كانوا تواقين بالإجماع ودون اتفاق مسبق إلى مساندة كل شخصية يتوسمون فيها الخصال التي تعيد مكانة الدولة السابقة داخلياً وخارجياً، فكان عبد الرحمن أقرب الشخصيات إلى هذه المواصفات، فتمت بيعته في نفس اليوم الذي توفي فيه جده، وكان رأس المبايعين له أمراء بني أمية الذين عبروا عن رأيهم فيه من خلال كلمة قصيرة ألقاها أحمد بن عبد الله (عم الأمير) (¬5) نيابة عنهم، وبدأها بقوله: " لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنت أنتظر هذا من نعمة الله علينا ... " (¬6). ثم بايعه كبار الموظفين في الدولة ووجوه القوم في قرطبة، وناب عنه بعض القواد والرؤساء لتلقي البيعة العامة في المسجد الجامع بقرطبة؛ وأرسلت الرسل لأخذ البيعة من الكور وولاة الأقاليم وكانت البيعة ضرورية خلال هذه الفترة من عصر الإمارة - وإن كانت طبيعية وواجبة في الظروف الطبيعية لفرز أهل الطاعة عن أهل العصيان الذين أبوا مبايعة الأمير والانقياد إلى سلطته، وظلوا محتفظين بمدنهم وحصونهم حكاماً مستقلين لا يعيرون أدنى اهتمام للعهد الجديد. وأول عمل قام به الأمير بعد اعتلائه كرسي الإمارة إعلان سياسته من خلال منشور عام وجه بالدرجة الأولى إلى العناصر المناوئة والخارجة على السلطة ويقوم المنشور في الأساس على مبدئين: الأول: التأكيد على التسامح وإسقاط كافة الجرائم التي اقترفت بحق الدولة وإعادة كافة ¬_______ (¬3) ابن عذاري، البيان المغرب 2/ 157 وينظر: عنان، الدولة الأموية في الأندلس 2/ 373، القاهرة، 1969. (¬4) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، القسم الخاص بالأندلس: 27 تحقيق بروفنسال؛ عنان، الدولة الأموية في الأندلس: 2/ 275. (¬5) ابن عذاري: 2/ 157. (¬6) محمد ماهر حمادة، الوثائق السياسية والإدارية في الأندلس وشمالي أفريقيا: 156، ط 1، 1980.

الحقوق المشروعة في حالة إعلان الولاء للسلطة المركزية. الثاني: الوعيد والإنذار باجتثاث معاقل المتمردين والعابثين بأمن البلاد أو المتحالفين مع القوى الأجنبية ضد الدولة (¬7). ولقد أيقن الأمير عبد الرحمن الثالث منذ البداية أنه ورث تركة ثقيلة وأن المهمات الملقاة على عاتقه صعبة نتيجة فقدان الأداة القادرة على التنفيذ والتحرك بمستوى الأحداث وجسامتها، لذا عمد إلى إصلاح الإدارة بما يتوازن ومتطلبات المرحلة، والاهتمام بالقوات العسكرية بما يحقق لها تفوقاً على أعدائه مجتمعين، وأضاف إلى إمكانياته المتاحة إمكانيات وقوى أخرى بعد كسب العديد من زعماء المتمردين والخارجين واستخدامهم في ضرب القوى التي ظلت على عنادها واستمرت في الإغارة على ممتلكات الدولة. وقبل الشروع في تفاصيل الحوادث التي تمخض عنها قيام الوحدة الوطنية في الأندلس نشير إلى أن انفراط الوحدة الوطنية في البلاد ينحصر باختصار في الأسباب الآتية: غياب القائد في مرحلة كانت تشكل فيها عوامل الخلل عنصراً ظل يفعل فعله حتى أتى على وحدة البلاد، فاستقل أصحاب الزعامات في مناطقهم ينافسون الأمير في ألقابه. وقد اشتركت في صنع وإدامة هذا الخلل معظم عناصر المجتمع في الأندلس من عرب وبربر ومولدين ومستعربين (¬8)، ولم يتمكن الأمراء الثلاثة محمد بن عبد الرحمن الأوسط (238 هـ - 273 هـ) والمنذر بن محمد (273 هـ - 275 هـ) وعبد الله بن محمد (275 هـ - 300 هـ) من القضاء على التمردات وأعمال الشغب التي قامت ضد السلطة المركزية حتى آلت البلاد خلال هذه الفترة إلى عصر دويلات المدن، وأصبحت سلطة الأمير لا تتعدى في أكثر الأحيان العاصمة قرطبة. أما ما دون ذلك فبيد حكام المدن يقررون سياستهم حسب مصالحهم الذاتية. - وعورة بعض المناطق وحصانة قلاعها، وتمرس أهلها في الدفاع والاعتصام عند الحاجة. - الاستناد عند الحاجة إلى أمراء وملوك الممالك الشمالية الذين لم يتوانوا عن ¬_______ (¬7) العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس: 168، بيروت 1978. (¬8) عن المتمردين والخارجين على السلطة المركزية، ينظر: عبد العزيز سالم: 253 - 259.

مساعدة الخارجين على السلطة الشرعية بقصد الإخلال بأمنها وتشتيت قواتها وانشغالها بمشاكل داخلية. - عدم الاكتراث بسلطة الدولة المركزية، وقلة الاحتمال للطاعة، لكون معظم الزعماء المحليين ينحدرون من أنساب عريقة عربية كانت أو قوطية (¬9). - سوء سيرة بعض الوزراء والقواد سبب آخر مضاف إلى قيام أعمال الشغب والتمرد ضد الدولة، خصوصاً إذا ما أصابت تلك السيرة أحد رجالات الأندلس من ذوي المكانة المرموقة لدى قومه (¬10). وبدأت العمليات العسكرية حسب خطة مرسومة محدودة الأهداف ومحسوبة النتائج، قاد أولها الوزير عباس بن عبد العزيز القرشي الذي استطاع تطهير قلعة رباح في ربيع الثاني سنة 300 هـ (¬11) وفي جمادى الأولى من السنة نفسها كانت قوة من قوات الأمير قد استردت مدينة استجة من أتباع ابن حفصون بعد أن هدت تحصينات المدينة التي كانت تقوم عليها أصلاً استراتيجية كل متغلب ومتمرد فيها (¬12). وكانت هاتان الحملتان وغيرهما إنذاراً فعلياً للمتمردين وإيذاناً بحملات عسكرية ستصيب كل الخارجين على السلطة، ومن ثم فهما تدخلان ضمن نطاق الاستطلاع العملي الذي من خلاله أمكن تحديد مناطق نفوذ المتمردين، وقياس قوتهم والوقوف على مراكز تجمعاتهم، لذا بدأ الأمير في شعبان من سنة 300 هـ بقيادة القوات بنفسه محققاً بذلك هدفين: الأول: رفع معنويات الجند. الثاني: إثارة الفزع لدى قوات أعدائه. واختار منطقة وعرة في كورة جيان حوت المئات من الحصون والمعاقل العاصية على الدولة وبدأت العمليات العسكرية بالاستيلاء على حصن مارتش (¬13)، وحصن المنتلون بعد قتال شديد اضطر على أثره سعيد بن هذيل إلى الاستسلام في رمضان بعد يأس من جدوى المقاومة (¬14)، وتوجهت القوات بعد ذلك إلى حصن شمنتان وزعيم ¬_______ (¬9) أعمال الأعلام: 41 - تحقيق ليفي بروفنسال. (¬10) ينظر مثلاً: ابن القوطية: 90، ابن عذاري: 2/ 102. (¬11) ابن حيان، المقتبس؛ 5/ 54؛، نشرة شالميتا، مدريد، 1979. (¬12) ابن حيان: 5/ 55. (¬13) ابن عذاري، البيان المغرب: 2/ 161. (¬14) ابن حيان: 5/ 60.

المتمردين فيه عبيد الله بن أحمد بن الشالية الذي خارت قواه بعد سقوط حصن المنتلون، فاستسلم دون مقاومة ونزل عن جميع معاقله وحصونه وكان عددها يقارب المائة (¬15) وفضلاً عن ذلك فقد تم تطهير العديد من الحصون التي كانت تدين بالولاء لعمر بن حفصون كحصن بكور وحصن قاشترة وحصن شنترة وحصن أقليق (¬16). وبعد أن تم تحرير كورة جيان، اتجهت القوات الرئيسة حيث تم تطهير كورة البيرة من فلول عصابات ابن حفصون، ولم يلق الأمير صعوبات في اقتحام الحصون وإن كان حصن شبيلش قد امتنع لفترة (¬17)، وكان عمر بن حفصون يمتنع فيه قبل أن يحس بعدم جدوى المقاومة فتسلل هارباً يريد قلعة أبيه ببشتر (¬18). وأعقب سقوط حصن شبيلش سقوط مجموعة من الحصون الأخرى كحصن اشتبين قرب ألبيرة، وحصون وادي آش وغيرها (¬19). وقد شعر ابن حفصون بهذا الجزر الذي أصاب نفوذه فأراد أن يحقق انتصاراً يعادل خسائره، فقرر احتلال غرناطة، ولكنه رد على أعقابه بعد أن اعترضته قوات الدولة في منطقة البيرة ومنعته من تحقيق هدفه (¬20). وتعد هذه الحملة أولى الحملات التي قادها الأمير عبد الرحمن بنفسه وقد استغرقت ثلاثة أشهر من شهر شعبان إلى عيد الأضحى من سنة 300 هـ وتعرف في المصادر العربية باسم (غزوة المنتلون) وكان من نتائجها: تحرير أكثر من سبعين حصناً من أهم الحصون سوى ما يلحق بهذه الحصون وما حرر بتحريرها من الأماكن والأبراج والقصبات والتي عدها ابن حيان بما يقارب الثلاثمائة (¬21). وإذا كانت هذه العمليات العسكرية قد حالفها النجاح في تطويع الأقاليم وتمشيط الحصون المتمردة فإن حصن ابن حفصون ببشتر ظل في منأى عن السقوط، رغم ¬_______ (¬15) ابن حيان: 5/ 60، وينظر ابن عذاري: 2/ 61. (¬16) ابن حيان: 5/ 60. (¬17) لحصانته وتعذر نيله بحجارة المنجنيق، واعتصام جمهرة من المتمردين الأشداء فيه. (¬18) ابن حيان: 5/ 61. (¬19) ابن حيان: 5/ 61، وينظر: ابن عذاري 2/ 162. (¬20) ابن عذاري: 2/ 162، عنان: دول الإسلام: 2/ 376. (¬21) المقتبس: 5/ 61 - 62.

الضربة التي أنزلت بزعيم المتمردين، باعتبار أن هذه الحصون كانت تدور في فلكه وتدين له بالطاعة والولاء (¬22). بيد أن هذه الحملة لم تكن إلا بداية الصراع المرير مع هذه العناصر التي كانت تجعل من الظروف السياسية في البلاد باباً تنفذ منه تارة موالية وموادعة وتارة أخرى عاصية ومتمردة فقد اعتادت هذه العناصر على الرضوخ وقبول شروط الدولة حين تجد قوات الدولة قادرة على الردع بما يفوق قدراتها على الصمود، وكانت ترتد مع بداية كل اختلال سياسي يصيب الدولة العربية في الأندلس، لا بل كان التمرد يسود بعض المناطق حال انسحاب القوات الحكومية عن أحوازها. وهكذا فلم تمض أشهر قلائل على الحملة الأولى حتى بدأ المتمردون سيرتهم الأولى، يعدون عدة الثأر يشاركهم في ذلك زعماء الأقاليم والمدن من الذين وجدوا في مشاريع الأمير عبد الرحمن ما يهدد كيانهم ونفوذهم بالزوال. ففي إشبيلية قام بنو حجاج، وكانوا قد استقلوا بها بزعامة إبراهيم بن حجاج وبوفاته انتقلت الزعامة إلى ولده عبد الرحمن الذي أناب عنه أخاه محمداً في حكم قرمونة الموالية لهم، ولكن بوفاة عبد الرحمن سنة 301 هـ. نصب أهل إشبيلية أحمد بن مسلمة (من بني الحجاج أيضاً) حاكماً عليهم دون محمد بن إبراهيم الذي يعدّ هو أحق من أحمد بن مسلمة بحكم المدينة، فما كان من الأخير إلا الالتجاء إلى الأمير عبد الرحمن طالباً العون في استخلاص المدينة من قريبه المذكور، وهكذا كانت الظروف عاملاً في عودة مدينة إشبيلية في جمادى الأولى سنة 301 هـ إلى حظيرة الدولة بعد أن تم تجريد العناصر القوية فيها من سلطاتها (¬23). وكانت السيطرة على هذه المدينة من أهم المؤشرات الإيجابية التي انعكست على نظام الأمير عبد الرحمن فأعطته دعامة وقوة في المسيرة التي استهدفت إعادة توحيد البلاد (¬24). ولعل المدخل إلى تحقيق تلك الوحدة كان يتطلب القضاء على زعيم العصاة عمر بن حفصون الذي ما زال يسيطر على مناطق واسعة من البلاد تمتد ما بين " كورة رية والجزيرة الخضراء من جهة، والبيرة وأحواز قرطبة من جهة أخرى " (¬25). وأيقن عبد الرحمن أن القضاء على هذا التمرد سوى يؤدي ¬_______ (¬22) بيضون، الدولة العربية في إسبانيا: بيروت 1978. (¬23) ابن حيان: 5/ 164 وما بعدها؛ ابن عذاري 2/ 163. (¬24) بيضون: 293. (¬25) عبد العزيز سالم: 282.

إلى الفت في عضد كثير من المتمردين وزلزلة معنويات أنصارهم. فقد كان ابن حفصون بمثابة الروح التي تنفث في جسد العصاة الآخرين الذين كانوا يرتبطون به بشكل أو بآخر بقصد إضعاف السلطة المركزية والعبث في أراضي الدولة. لذا قاد الأمير قواته في شوال سنة 301 هـ مخترقاً أكثر الأقاليم حيوية واستراتيجية بالنسبة للمتمرد ابن حفصون ملقناً قواته أقسى الضربات، وكانت المعركة الحاسمة قد دارت قرب قلعة طرش حيث تمكنت قوات الدولة من تدمير القوة الرئيسة للعصاة وأجبرتهم على الارتداد ناحية الغرب، وبذا دخلت الجزيرة الخضراء وأحوازها تحت سيطرة الدولة المركزية، وتم تطهير كور شذونة ومورور وقرمونة من العصاة (¬26)، واستمرت العمليات العسكرية وفي اتجاهات مختلفة تلاحق العصاة وفلولهم وتكيل لهم الضربات المتواصلة المركزة حتى أيقن زعماء التمرد أن الدولة عازمة لا محالة على توحيد البلاد، والقبض على مقاليد الأمور بما يجب أن يكون لها من الحرمة والاحترام، وهم عاجزون عن الرد والاحتفاظ بزعامتهم مع إدراكهم للملل الذي بات يطغى على أنصارهم الذين أيقنوا ببطلان دعوى زعماء التمرد (¬27). إن الخلل الذي أصاب صفوف المتمردين قيادة وقواعد جاء نتيجة من نتائج سياسة الدولة في الضرب بشدة على الخارجين ومن والاهم، والعفو والتكريم لمن عاد إلى صف السلطة المركزية وعمل ضمن قواتها لتحقيق وحدة البلاد الوطنية. وكان ابن حفصون قد شعر قبل غيره بأبعاد هذه السياسة التي باتت تهدد مركزه بوصفه زعيماً للمتمردين على اختلاف أهدافهم فأعلن الاستسلام للدولة بعد ثلاثين سنة من التمرد والعصيان (¬28). مقابل كتاب عهد له وللحصون التي كانت تحت سيطرته وتم ذلك في 303 هـ " وانتهت الحصون التي دخلت في أمان عمر بن حفصون على ما وقع من تسميتها في كتاب العهد إلى مائة واثنين وستين حصناً " (¬29). وقد ظل ابن حفصون ملتزماً ببنود هذا العهد حتى وفاته سنة 305 هـ (¬30). ¬_______ (¬26) ابن حيان: 5/ 86 وما بعدها، ابن عذاري: 2/ 164. (¬27) ابن حيان؛ 5/ 113 و 114 وفيه إشارة إلى الخلاف الذي أصاب زعماء التمرد وميل الغالبية منهم إلى التسليم والدخول في الطاعة والولاء. (¬28) ابن حيان: 5/ 138. (¬29) ابن حيان: 5/ 115، ابن الخطيب: أعمال الأعلام: 31. (¬30) ابن حيان: 5/ 138، ابن عذاري: 2/ 171.

أما أبناء ابن حفصون فقد كانوا يحكمون مدناً وحصوناً بتفويض من والدهم وبإقرار من الأمير عبد الرحمن لهم على تلك المناطق، فكان جعفر في قلعة ببشتر نيابة عن والده، وعبد الرحمن في حصن طرش، وسليمان في مدينة أبذة (¬31)، ثم حصن أشتبين (¬32). ولم يطل العهد بجعفر فقتل سنة 308 هـ. على يد جماعة من أنصاره الذين ولوا سليمان مكانه (¬33). ولكن سليمان ما لبث أن غلبه الغرور فمارس دور أبيه في مقارعة السلطة المركزية معتمداً على حصانة مدينة ببشتر (¬34). فقضي عليه سنة 314 هـ (¬35) واستسلم أخوه حفص في سنة 315 هـ، بعد أن اجتاحت قوات الدولة القلعة وما يحيط بها من مواقع حصينة (¬36)، بقيت ما يقارب خمسين سنة " مثل جدار حديدي تتكسر عليه محاولات السلطة العديدة " (¬37). ولم يتمثل خطر هذا التمرد بطول مدته فقط بل بتهديداته المستمرة لسلطة الأمراء الأمويين في الأندلس، وبطموح عمر بن حفصون لنيل إمارة الأندلس، وبتعصب المولدين والمستعمرين له مما يجعل نجاحه ليس تغيراً في شخصية الأمير فقط " بل انقلاباً كاملاً وتغييراً في جنسية الحكم ودين الحاكمين، ولعل في طريقة معاملة الأمير عبد الرحمن الثالث للعصاة في حركة ابن حفصون مما يدل على شعوره بمدى هذا الخطر، فبينما كان مصير العصاة الآخرين بعد استنزالهم من حصونهم تسجيلهم في الملاحق وإعطائهم المناصب العالية، نرى سليمان بن عمر بن حفصون يمثل به بعد مقتله في المعركة ... وفي الإجراءات التي اتخذها عبد الرحمن أثر سقوط ببشتر ما يدل على نفس الشعور (¬38). وعلى الرغم من انشغال الأمير عبد الرحمن باجتثاث شأفة أبناء عمر بن حفصون فإنه لم يغفل أمر الخارجين في أنحاء البلاد من الأندلس، فقد كانت قواته تقاتل في ¬_______ (¬31) استخلصها سليمان لنفسه بالقوة، ينظر: ابن حيان 5/ 130. (¬32) ابن حيان: 5/ 131، وتقلب سليمان بين الخروج على السلطة المركزية والولاء لها حتى انفرد بالسلطة بعد اغتيال أخيه جعفر سنة 308 هـ. (¬33) ابن حيان: 5/ 168. (¬34) بيضون: 294. (¬35) ابن حيان: 5/ 204 و 206، ابن عذاري: 2/ 192. (¬36) ابن حيان: 5/ 209، ابن عذاري: 2/ 193. (¬37) بيضون: 294. (¬38) أحمد بدر، تاريخ الأندلس " عصر الخلافة " ص: 10، دمشق؛ 1974.

اتجاهات مختلفة وتلقن المتمردين دروساً اعتبروا بها زمناً طويلاً، فقد تمكنت قوة من قواته دخول حصن طرش وحصون أخرى في كورة باغه وتطهيرها من العصاة سنة 309هـ (¬39). وتمكنت قوة أخرى من السيطرة على حصن منت روي في كورة البيرة في السنة التي تلتها (¬40). وفي الثغر الأعلى كانت قواته تقاتل بني ذي النون وتدخل أقوى حصونهم شنت برية سنة 314 هـ (¬41). وكانت قوات شرق الأندلس تجوب حصون المخالفين في كورة تدمير وتستولي عليها الواحدة تلو الآخر، وتمكنت قوة أخرى من تطهير مدينة ماردة من أسباب الفساد والعصيان سنة 316 هـ (¬42). وفي السنة التالية دخلت مدينة شاطبة ثم مدينة طليطلة بعد حصار طويل، ثم سقطت مدينة باجة سنة 317 هـ ومدينة بطليوس سنة 318 هـ بعد قتال شديد (¬43). وهكذا استطاع عبد الرحمن الناصر من استعادة الوحدة الوطنية إلى الأندلس ومكن السلطة المركزية من السيادة على أقاليم البلاد بعد ما استطاع بكفاءة عالية من إدامة عوامل النصر لقواته في الوقت الذي استنزف طاقة تحمل أعدائه المتمردين. اتخاذ ألقاب الخلافة: رغم أن الدولة العربية في الأندلس قد استطاعت غير مرة منافسة الدول الكبرى في مجالي القوة والتقدم فإن أمراء هذه الدولة لم يفكروا في الإقدام على منافسة الدولة العباسية في ألقاب الخلافة " وقيل في تعليل ذلك أنهم كانوا يرون الخلافة تراثاً لأهل البيت، ويدركون قصورهم عن ذلك، بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة، والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية، وأنهم بعبارة أخرى: كانوا يرون أن الخلافة تكون لمن يملك الحرمين " (¬44). ولا خلاف فإن الإحجام عن اتخاذ ألقاب الخلافة يرجع في الأساس إلى بواعث السياسة الحكيمة التي تميز بها أمراء الأندلس متحوطين من إثارة الفتنة والخلافات الدينية والمذهبية في العالم الإسلامي (¬45). ¬_______ (¬39) ابن حيان: 5/ 172 و 173. (¬40) ابن حيان: 5/ 179. (¬41) ابن حيان: 5/ 203. (¬42) ابن حيان: 5/ 237 و 238. (¬43) التفاصيل في المقتبس، لابن حيان: 5/ 129، 271، 280. (¬44) عنان: دول الإسلام: 2/ 429. (¬45) عنان: 2/ 429.

غير أن مستجدات القرن الرابع الهجري السياسية وما رافق ذلك من تغير في خارطة العالم الإسلامي فضلاً عن عوامل أخرى دفعت الأمير عبد الرحمن الثالث إلى اتخاذ ألقاب الخلافة، ويمكن ترتيب العوامل على النحو الآتي: - استعادة الوحدة الوطنية إلى البلاد بعد ستة عشر عاماً من النضال الصعب الذي انتهى بالقضاء على جميع المتمردين وعلى رأسهم بني حفصون (¬46). ولقب الأمير لم يعد من الألقاب التي تستوعب طموحات عبد الرحمن الثالث، خصوصاً بعد أن زالت حرمة هذا اللقب وتلقب به معظم الخارجين على السلطة المركزية منافسة لأمير قرطبة الحاكم الفعلي والشرعي لعموم البلاد. - ضعف الخلافة العباسية وتحكم العناصر الأجنبية بمقدرات الخلافة بوصفها لقباً له حرمته، وبالخليفة بوصفه صاحب سلطة دينية وزمنية (¬47)، عامل من العوامل التي أجازت للأمير الأموي اتخاذ لقب الخليفة. - ظهور دولة الفاطميين في المغرب العربي وسيطرتها على مناطق واسعة منه وإعلانها الخلافة (¬48)، أسباب دفعت الأمير عبد الرحمن للرد على الفاطميين بالمثل بعد ثبوت أحقيته بألقابها من دولة منحلة (العباسية) وأخرى طارئة (الفاطمية) (¬49) أو كما يقول ابن حيان: " وقطعه على استحقاقه لهذا الاسم الذي هو بالحقيقة له ولغيره بالاستعارة " (¬50). - إن لقب خليفة يهيئ للعاصمة قرطبة دوراً أكثر مركزية يمكنها من القبض على أطراف الدولة قاطبة، ويمكنها من قمع أي تحرك انفصالي بالسرعة القصوى (¬51). - وقيل أن أهل الأندلس هم الذين منحوا أميرهم لقب (خليفة) تقديراً لجهوده في توحيد البلاد، وتثبيت أركانها لإعادة مجدها وبعد أن تيقنوا من ضعف خلافة بني العباس في المشرق وبطلان دعوى الفاطميين في المغرب. وللأسباب الآنفة الذكر أعلن الأمير عبد الرحمن الثالث الوثيقة الرسمية بوجوب ¬_______ (¬46) بيضون: 295. (¬47) الحميدي: جذوة المقتبس: 13، الدار المصرية؛ 1966 م. (¬48) الحميدي: 13. (¬49) عنان: دولة الإسلام 2/ 429. (¬50) المقتبس:5/ 241. (¬51) بيضون: 296.

اتخاذه هذا اللقب اعتباراً من يوم الخميس ثاني ذي الحجة سنة 316هـ/929 م (¬52) ونصها: " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فأنا أحق من استوفى حقه، وأجدر من استكمل خطه، ولبس من كرامة الله ما ألبسه، للذي فضلنا الله به، وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسر على أيدينا إدراكه، وسهل بدولتنا مرامه وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا، وعلو أمرنا، وأعلن من رجاء العالمين بنا، وأعاد من انحرافهم إلينا واستبشارهم بدولتنا والحمد لله ولي النعمة والإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضل علينا فيه وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك، إذ كل مدعو بهذا الاسم غيرنا منتحل له، ودخيل فيه، ومتسم بما لا يستحقه، وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه " (¬53). وهكذا اتخذ الأمير عبد الرحمن سمة الخلافة، وتسمى بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، وبدأت الدعوة لبني أمية بألقاب الخلافة في الأندلس والمغرب الأقصى (¬54). ¬_______ (¬52) وهم ابن الأثير، وتابعه ابن خلدون عندما وضعا اتخاذ الناصر لسمة الخلافة سنة 327هـ. ينظر؛ الكامل: 8/ 535، العبر: 4/ 144. (¬53) ابن عذاري: 2/ 198. (¬54) ابن حيان: 5/ 241، وينظر؛ عنان: 2/ 430.

الفصل الثاني الأخطار الخارجية الأندلس والممالك الإسبانية الشمالية:

الفَصْلُ الثَّانِي الأخطار الخارجية الأندلس والممالك الإسبانية الشمالية: أفادت الممالك الإسبانية الشمالية من حالة انفراط عرى الوحدة الوطنية في الأندلس، وتوغلت مسافات بعيدة في عمق الأراضي العربية وفي مناطق عديدة وعلى طول خط الحدود الذي يجمع بينها وبين الدولة العربية، وقد كانت مملكلة ليون (جليقية) حاملة لواء القضاء على السيادة العربية في الأندلس تجمعها ومملكة نبرة (بلاد البشكنس) عرى التحالف المستمر والهدف المشترك -وإن اختلفت المصالح والأطماع لكل منهما- واستغلال شتى الظروف للعبث بأمن الأندلس. وفي بداية عصر عبد الرحمن الناصر أغارت قوات اردونيو الثاني ملك ليون على مدينة يابره، وتمكنت قواته من دخول المدينة سنة 301 هـ بعد أن لاقت مقاومة عنيفة من قبل حاميتها التي فضل رجالها الاستشهاد دفاعاً عنها ولم ينج منهم إلا العشرات انسحبوا عنها إلى مدينة باجة بعد استشهاد عاملها مروان بن عبد الملك (¬1)، وترك الغزاة المدينة بعد اجتياحها ونهبها وتخريبها، قاصدين القضاء على تفكير العرب بالعودة مرة أخرى إلى إعمار وسكنى هذه المدينة، خاصة وأنهم كانوا عاجزين عن تزويد منطقة بعيدة كهذه بالطاقات البشرية التي تؤمن لهم استمرار السيطرة عليها والدفاع عنها. وعلى الرغم من استمرار خراب المدينة لمدة تزيد على السنة فإن الحياة ما لبثت أن عادت إليها وعمرها العرب بالطاقات البشرية، وأعادوا بناء ما خربه الغزاة (¬2). وفي سنة 303 هـ عاود اردونيو سياسته العدوانية فهاجم غرب الأندلس مستهدفاً ¬_______ (¬1) ابن حيان: 5/ 93 - 95. (¬2) ابن حيان: 5/ 96.

كورة ماردة، فعبر نهر التاجة، واستولى على حصن مادلين، ثم قصد قلعة الحنش الذي استبسل في الدفاع حتى أبيدت حاميته " إلا قليلاً ممن نجا به الركض عند اشتغال العدو باحتياز غنائمهم، ودخل العدو ... الحصن وقتلوا جميع من كان فيه وسبوا نساءهم وذراريهم وقتل ابن راشد رئيسهم في جملة من قتل، وهدم الحصن فألحق أعلاه بأسفله " (¬3). ومن قلعة الحنش سار اردونيو بقواته نحو ماردة التي أعجزته حصانتها ومنعتها ففضل الارتداد عنها بعد أن وصله أهلها بمبلغ من المال (¬4). وفي الوقت الذي كانت قوات اردونيو تعيث فساداً في أراضي الأندلس كان شانجو بن غرسية ملك نافار يهاجم مدينة تطيلة في الثغر الأعلى معرضاً المدينة وقراها إلى الخراب والدمار الذي يعد نهجاً طبيعياً اعتمده أمراء وملوك هذه الممالك (¬5). ورداً على هذه الاعتداءات فقد قامت القوات الأندلسية بتجهيز حملة قادها أحمد بن محمد بن أبي عبدة سنة 304 هـ توغلت في أراضي العدو، وتمكنت من تحقيق أهدافها المرسومة (¬6)، وإن كانت هذه الحملة كما يبدو غارة محدودة المدى لم تسفر إلا عن تخريب بعض الحصون (¬7)، واستكشاف المنطقة وتحديد أماكن وجود العدو ومكامن قواته، لذا عاد القائد أحمد بن أبي عبدة في السنة التالية على رأس فرقة من الجند هدفها احتلال حصن شنت اشتبين (قاشترمورش) أحد أهم الحصون التي أقامته دولة ليون على الجهة اليمنى من نهر دويرة (¬8)، ودارت بين الطرفين حرب صعبة صبر لها الفريقان، وكاد النصر ينتهي للقوات العربية لولا تراجع بعض المتخاذلين وارتدادهم مما أضر إضراراً بالغاً بالصفوف التي انكشفت أمام الأعداء فضلاً عن استشهاد القائد ابن أبي عبدة نفسه فتراجعت معظم القوات منسحبة إلى الداخل، وقد شجعت هذه العملية اردونيو وحليفه شانجة على محاصرة مدينة ناجرة لعدة أيام عاثت قواتهما خلالها في أطرافها فساداً قبل الانتقال إلى مدينة تطيلة ونهب قراها، وعبر شانجة بقواته نهر ابرة فقاتل حصن بلتيرة ونهب ما أمكنه وأحرق المسجد الجامع فيه ثم ارتد منسحباً إلى قواعده (¬9). ¬_______ (¬3) ابن حيان: 5/ 120 وما بعدها. (¬4) ابن حيان: 5/ 123. (¬5) ابن حيان: 5/ 124. (¬6) ابن حيان: 5/ 127، ابن عذاري: 2/ 169. (¬7) أحمد بدر: 59. (¬8) أحمد بدر: 59. (¬9) ابن حيان: 5/ 143.

وقد خلقت هذه العمليات العسكرية قلقاً عميقاً لدى عبد الرحمن الناصر حمله في النهاية على إجراء تعديلات في خططه العسكرية بعد أن أصبحت تجاوزات قوات الممالك الشمالية على الدولة العربية أمراً لا يمكن الإغضاء عنه فقرر توجيه ضربة انتقامية لمملكة ليون تصيبها في الصميم (¬10)، وقام بقيادة قواته مخترقاً الثغر الأوسط ثم عبر نهر دويره ونازل في طريقه مدناً وحصوناً عديدة منها مدينة أوسمة وحصن شنت اشتبين ومدينة قلونية، وتمكن من إحراز عدة انتصارات على أعدائه ودحرهم في مكان يسمى (خونكير) غربي بنبلونة حيث أبيدت معظم القوات المتحالفة ولوحقت فلولها التي تجمعت في حصن مويش والذي تم تدميره تماماً بعد سحق الفلول المعتصمة فيه (¬11). وذلك سنة 308 هـ/920 م. وكانت نتائج هذه الحملة بما حققته من مكاسب عسكرية وتغيرات جغرافية بعد استيلاء عبد الرحمن الناصر على بعض المواقع المهمة، كافية لكبح جماح قوات اردونيو، خاصة وأن الجبهة الداخلية لم تعد الشغل الشاغل للناصر بعد أن تمكن من فرض سلطته على أهم معاقل التمرد، وصار لديه من القدرة ما يساعده على إحباط مثل هذه العمليات وتلقينها ما تستحق من العقاب والردع (¬12)، وقد أثبتت الأيام صلابة نظام الناصر فعندما سولت نفس شانجة أمير نافار سنة 311 هـ له مهاجمة حصن بقيرة والاستيلاء عليه واقتراف جريمة قتل الأسرى في عاصمته بنبلونة (¬13)، كان رد الناصر سريعاً وقاسياً فقد أمر في السنة التالية باجتياح بلاد نافار وطرق العاصمة نفسها فدمرها وأحرقها وعلى الرغم من محاولات قوات نافار العديدة لصد قوات الناصر إلا أن جميع المحاولات باءت بهزائم متلاحقة اعتبر بها شانجة لسنوات عديدة (¬14). وقد دخلت مملكة ليون في صراع شديد على السلطة بعد وفاة اردونيو الثاني سنة 313 هـ، واستمر هذا الصراع قرابة سبع سنوات، وكان من فوائده على الدولة العربية في الأندلس أن شلت الطاقات العدوانية لهذه الدولة وحليفتها نافار (¬15). وتفرغ الناصر لتصفية أطراف التمرد في الداخل والعمل على تثبيت أركان الدولة كما يجب لها أن ¬_______ (¬10) بيضون: 300. (¬11) ابن حيان: 5/ 163، ابن عذاري: 2/ 179. (¬12) بيضون: 300. (¬13) ابن حيان: 5/ 186، ابن عذاري: 2/ 184. (¬14) ابن حيان: 5/ 189. (¬15) ابن حيان: 5/ 344 وما بعدها، تاريخ ابن خلدون: 4/ 142.

تكون عليه من الحرمة والاحترام، فتم القضاء نهائياً على تمرد أبناء عمر بن حفصون ودخلت قوات الناصر قلعة ببشتر الحصينة وعمل على ضرب الفلول الأخرى حتى اذعنت إذعاناً تاماً. لهذا كله كانت قوات الدولة العربية في الأندلس مستعدة للردع الوقائي الشديد لأي اعتداء يصيبها من قبل ملك ليون راميرو الثاني الذي تمكن من عرش ليون سنة 320 هـ (¬16) وكان معروفاً بعدائه الشديد للدولة العربية وهجماته على مناطق عديدة من الأراضي العربية (¬17)، واستمرت المناوشات بين الطرفين سجالاً تراوحت بينهما عوامل النصر والهزيمة حتى سنة 327 هـ (939 م) عندما قرر الناصر خوض غمار المعركة الحاسمة وقاد جيشه بنفسه للقاء قوات تحالف الممالك الشمالية بقيادة راميرو الثاني وفي عمق أراضيه. وواقعة سنة 327 هـ/939 م أو كما تسمى بواقعة الخندق قد وقعت قرب شنت مانكس (سيمانقة)، وانتهت لصالح التحالف الشمالي بعد أن انسحبت القوات العربية إلى عمق أراضيها، وعلى الرغم من صمت المصادر العربية واختصار الأخرى (¬18) في الكلام على طبيعة الظروف التي أحاطت بقوات الناصر وأدت إلى هذه الهزيمة غير المتوقعة نرى العكس تماماً في بعض المصادر الإفرنجية التي بسطت الكلام والحديث المسهب عن انتصار قوات ليون وحلفائه والمبالغة في جسامة الخسائر التي فقدتها قوات الناصر في ميدان المعركة. وخير من تعرض لهذه الواقعة من المؤرخين العرب ابن حيان في " مقتبسه " حيث أتى عليها بشيء من التفصيل معتمداً رواية الرازي ونصها: " لما عزم الناصر لدين الله على غزو أعداء الله أهل جليقة ... تقدم في الاستعداد لها قبل أوانها، فجبى وبالغ في حشد أهل الأندلس، وتخطاهم إلى أهل ولايته من أهل الحضر منهم وقبائل البربر البادية، فبث كتبه إليهم يحضهم على الجهاد، ويستنفرهم له، ويرغبهم فيه، ويضرب لهم في التراقي إلى الأندلس في المسير معه موعداً واسعاً، لن يخلفه، ويشدد على عماله في الأندلس في ابتعاث من قبلهم، وتضييق المعاذير عليهم، والاحتفال في ¬_______ (¬16) خبر تملكه عرش ليون في المقتبس لابن حيان: 5/ 346 و 347. (¬17) ابن حيان: 5/ 379. (¬18) لم يتعرض ابن عذاري في أحداث سنة 327 هـ إلى ذكر موقعة الخندق ينظر: البيان المغرب: 2/ 210، أما ابن خلدون فلم يزد عن قوله: " ثم كانت بعدها غزوة الخندق ولم يغز الناصر بعدها بنفسه ". ينظر: العبر 4/ 142.

إزعاجهم، وضمن كتبه النافذة إليهم فصلاً، تشاهده الناس يومئذٍ وبعده، نصه: (وليكن حشدك حشراً لا حشداً) فانبعث منهم خلق عظيم بين الكره والموافقة، حمل أهل قرطبة حضرته، من ذلك أثقله وأحفله، لينفي بذلك الطماعية من أهل الكور في أخذ عفوهم، فانتهى من الاحتفال الغاية واستكثر من الآلات السفرية والعدد الحربية والأسلحة الشاكة، واستظهر على الاستقلال بذلك كله، بوفور الكراع وقوة الظهر والإكثار من المال للنفقة، واستقل بغزوته هذه بثقل لم يستقل بمثله قبل ملك ولا أمير من سلفه ... وكان الناصر لدين الله قد أخرج قبل خروجه لهذه الغزوة الوزير القائد أحمد بن محمد بن إلياس بقطع من جيشه إلى ثغر الغرب احتياطاً على أهله كي لا تكون للعدو عليهم حيلة، عند إيغاله هو بالصائفة في أرضهم ... وتقدم الناصر بعده في عساكر الصائفة قاصداً سبيل جهاده، حتى وافى بحملته مدينة طليطلة يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان، فأقام بها ستة أيام ثم رحل عنها يوم الخميس إلى الحصن ولمش ويوم الجمعة بعده إلى قلعة خليفة ... ويوم الأحد إلى محلة فج حميد ... واقتحم الناصر لدين الله بعساكره أرض العدو، فجال فيها أياماً من محلة إلى أخرى (¬19). ويصف الرازي المعركة بقوله: " وكسر العسكر على باب شنت مانكش يوم الأربعاء (لعشرة بقيت من شوال) ثم صابحهم الحرب يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال، فجالت بين الفريقين بأشد ما يكون وأصعبه، ثم ناجزوا الحرب يوم الجمعة بعده، فصابروا المسلمين صبراً عظيماً إلى أن توجهت عليهم كرة، ثم كانت لهم كرة انحاز لها المسلمون، فانكشفوا انكشافاً قبيحاً، نيل فيه منال ممض، وألجأهم العدو في انحيازهم إلى خندق بعيد المهوى؛ إليه تنسب الوقعة، لم يجدوا عنه محيداً فتردى فيه خلق، وداس بعضهم بعضاً، لكثرة الخلق، وفيض الجموع ... وآل الناصر إلى كثف ما الجمع تخطتهم الركبة، فضم كشفهم، واحتل بهم بأعلى نهر بشورقة، وقد قصر العدو عن اتباعه، فاضطرب هنالك يومه ... ثم رحل قافلاً حتى خرج إلى مدينة الفرج المسماة وادي الحجارة ... ثم تقدم إلى قرطبة " (¬20). وتنحصر أسباب الهزيمة على الرغم من الاستعدادات والقوات الضخمة إلى عاملين أساسيين: ¬_______ (¬19) المقتبس: 5/ 433 وما بعدها. (¬20) ابن حيان: 5/ 435.

الأول: فقدان الوحدة بين صفوف هذا الجيش الكبير الذي حشر حشراً مكرهاً غير مخير (¬21)، وتعيين نجدة بن حسين الصقلبي قائداً أعلى له عامل مضاف ولَّد نوعاً من التذمر أثر تأثيراً سلبياً على معنويات بعض فرقه وإلى هذا يشير ابن حيان بقوله: " وبدا من قوم من وجوه الجند في هذا اليوم النفاق لأضغان احتملوها على السلطان، ففتقوا الصفوف، وشارعوا في الهرب وجروا على المسلمين الهزيمة " (¬22). والثاني: لم يكن ميدان المعركة في صالح القوات العربية، ولم يسمح لها بالمناورة الكافية عند الضرورة، لذا حسمت المعركة مع أول ارتداد أصاب بعض فرق هذه القوات، ولم يتمكن الناصر من معالجة الموقف بعد مقتل نجدة الصقلبي وإبعاد قواته المتراجعة بدون نظام إلى الخندق الذي أصبح مقبرة حقيقية لمعظم قواته المرتدة. وكان وقع هذه الهزيمة شديداً على الناصر، ومن هنا فقد حاول تسويغها بمنشور عام فصل فيه الظروف التي أحاطت بقواته والأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة أورد ابن حيان نصه في كتابه المقتبس (¬23). أما الرواية الإفرنجية فقد أغرقت في تعظيم الانتصار ونتائجه وبالغت في عدد القتلى من جيش الأندلس (¬24). ومهما يكن من أمر فإن هذه المعركة لم تكن إلا واحدة من المعارك التي قامت بها القوات العربية في عمق أراضي الممالك الشمالية ولم تكن نتائجها أكثر من كونها معركة خسرها العرب في هذه المناطق، أعقبها معارك أخرى عديدة سنتعرض لتفاصيل بعضها في الفصول القادمة. - الأندلس والدولة الفاطمية: اتسمت العلاقة بين الأندلس والفاطميين في المغرب بالعداء الشديد وقد حاول كل منهما التوسع على حساب الآخر بشتى الوسائل والطرق واعتمد الطرفان أساليب مختلفة للإخلال بأمن الطرف الآخر وإثارة المتاعب، وقد تراوحت تلك الأساليب بين الحرب ¬_______ (¬21) نص الرازي الآنف الذكر. (¬22) المقتبس: 5/ 436، ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 37 وسمى منهم ابن حيان: فرتون بن محمد الطويل الذي أعدم مع من أعدم حال وصول الناصر مدينة قرطبة. (¬23) 5/ 438 - 443. (¬24) من هذه الروايات رواية ألفونسو الحكيم في تاريخه العام، ينظر: عنان: 2/ 419.

الباردة وإرسال الجواسيس لاقتناص المعلومات إلى استخدام القوة وتناطح أساطيل كلا الطرفين، وإذا كان لكل طرف من الأطراف وسائله وأهدافه فهو في نفس الوقت يمتلك الإجراءات الوقائية لتحركات الطرف المضاد. فمنذ استقرار الأمور لعبيد الله المهدي أول خلفاء الدولة الفاطمية، بدأ يتطلع بنظره إلى ناحية مصر والأندلس وباتت الأحلام تراوده لفصل المغرب الإسلامي بأجمعه وجعله تحت نفوذ دولته نكاية بالخلافة العباسية، وبدأت مشاريعه مبكرة ففي سنة 301 هـ أرسل حملة عسكرية إلى مصر وعلى الرغم من أن حملته هذه لم تحقق الغرض المقرر لها، إلا أن الدولة الفاطمية استفادت كثيراً لاستكشاف قوة مصر العسكرية، وقدرة السلطة الحاكمة فيها على تعبئة القوات. أما الأندلس فكانت هي الأخرى هدفاً للدولة الفاطمية ومع بداية الحرب الباردة بين الطرفين لم يعدم الفاطميون الرجال (¬25) الذين دخلوا الأندلس لجمع المعلومات عن أحوالها وقدراتها العسكرية والاقتصادية، والوقوف على مواطن القوة والضعف في البلاد. وعلى الرغم من ضغوط الفاطميين الشديدة على الأندلس في عهد المهدي وخلفائه من بعده فلم يتمكن الفاطميون من تحقيق النجاح الكافي لدعوتهم أو ترويج تلفيقاتهم في الأوساط الأندلسية اللهم إلا عند بعض الأنصار الذين التحقوا بعد ذلك بخدمة الفاطميين لأكثر من سبب وعند بعض المتمردين والخارجين على السلطة الشرعية من الذين والوا الدولة الفاطمية طمعاً في المساعدات العسكرية، مع استعداد هذه الدولة التام لإمداد كل المتمردين ما دام ذلك الإمداد يشكل إدامة لتواصل الاضطراب في أمن الأندلس. وقد فشلت كل مخططات الدولة الفاطمية ضد الأندلس بفضل سياسة عبد الرحمن الناصر ويقظة أجهزته التي تمكنت من كشف جميع المؤامرات قبل تنفيذها، وليس هذا فحسب فقد بدأ الناصر حرباً دفاعية خطط لها بدقة ونفذت بأسلحة مختلفة وردود فعل سريعة أعيت الدولة الفاطمية وأفشلت خططها تجاه الأندلس، والطرق التي اعتمدها عبد الرحمن الناصر هي: ¬_______ (¬25) يذهب بعض المؤرخين الأندلسيين، على اعتبار ابن حوقل، وابن هارون البغدادي، وأبو اليسر الرياضي وآخرين غيرهم جواسيس دخلوا الأندلس بتكليف من الدولة الفاطمية.

1 - إعلان الخلافة في الأندلس سنة 316 هـ تحدياً للدولة الفاطمية، وقد سبق الحديث عن ذلك. 2 - العمل على كسب ولاء القبائل في العدوة المغربية وتحريضها للقيام على الدولة الفاطمية، فقد تمكن من كسب زعماء زناتة المشهورة في المغرب العربي وعلى رأس هؤلاء الزعماء زعيم قبيلة مغراوة الزناتية محمد بن خزر الذي كان يسيطر على المغرب الأوسط بأكمله عدا مدينة تاهرت (¬26)، وكانت هذه القبائل في صراع دائم مع الفاطميين وحلفائهم من قبائل صنهاجة، وقد بايع محمد بن خزر الناصر سنة 317 هـ ودعا له دون الفاطميين (¬27). وأعلن أيضاً موسى بن أبي العافية الزناتي سنة 317 هـ ولاءه للخلافة الأندلسية (¬28)، وكان ابن أبي العافية مشهوراً بمقارعته لجيوش الفاطميين والقوات المتحالفة معهم، وقد خاض في سبيل ذلك سلسلة من الحروب استمرت سنوات طوالاً استنزفت من طاقات الدولة الفاطمية الكثير من العدد والعدة (¬29). واعترف الأمراء الأدارسة المتآمرون في المغرب الأقصى بين سنتي 316 هـ و 318 هـ بخلافة الناصر لدين الله ونبذوا الدعوة الفاطمية وكان آخرهم الأمير الحسن بن عيسى الحسني الذي والى الناصر في سنة 318هـ (¬30). وإن كان موقف الأدارسة يتراوح بين تأييد الفاطميين تارة والأندلس تارة أخرى والانقلاب على الخلافتين حين تتوفر لهم القوة والمنعة. وممن خاطب الناصر أيضاً واعترف بخلافته صقور بن سنان " وكان ابتداؤه لذلك في سنة 316 هـ، كتب يمت بالولاية ويخطب القبول وازدلف بهدية حسنة من خيل وإبل وأنعام وغزلان، حسن موقعها من الناصر لدين الله لغرابتها بأرضها ما ضعَّف له عنها المكافأة وأسجل له على عمله، وألحقه بأهل ولايته " (¬31). وإضافة إلى ذلك فقد حمى الخليفة الناصر اللاجئين السياسيين أفراداً وزعماء من ¬_______ (¬26) عاصمة الدولة الرستمية، أسسها عبد الرحمن بن رستم وانتهت هذه الدولة على يد الفاطميين. (¬27) ابن حيان: 5/ 257، وينظر: كتاب البيعة ص 265. (¬28) ابن حيان: 5/ 261، الناصري، الاستقصا: 1/ 188. (¬29) ابن حيان: 5/ 307 وينظر الصفحات: 347 و 369، 371. (¬30) ابن حيان: 5/ 261 - 263. (¬31) ابن حيان: 5/ 261 ذكره في أحداث سنة 317هـ.

أمثال ابن الخراز المليلي الذي كان قاضياً بمدينة مليلة، وحكم بن محمد القيرواني القرشي الذي تعرض للسجن في عهد عبيد الله المهدي (¬32)، ولجأ إليه بنو سعيد بن صالح أمراء نكور بعد أن دخلها مصالة بن حبوس وقتل صاحبها سعيداً في سنة 305 هـ، وعمل الناصر على تمكين صالح بن سعيد من استعادة نكور واستخلاصها من عامل مصالة بن حبوس (¬33). وساند جميع الثورات القائمة في المغرب ضد الدولة الفاطمية ومنها ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد الزناتي التي استغرقت عهد الخليفة الفاطمي محمد القائم وسنوات من عهد ولده إسماعيل المنصور، وقد أمد الناصر هذه الثورة بكل أسباب التواصل من أموال وسلاح بحيث أصبحت تهدد كيان الدولة الفاطمية برمته في بلاد المغرب نتيجة الانتصارات التي حققها الثائر على القوات الفاطمية في معارك عديدة، ولم تستطع جيوش الفاطميين من إنهاء هذه الثورة إلا بعد أن استعانت بقبيلة صنهاجة وحينئذٍ تمكنت من قوات الثائر وقتله سنة 336 هـ (¬34). 3 - العمل على بناء قوة بحرية مهاجمة: اهتم الأندلسيون بالقوة البحرية منذ عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط عندما تعرضت بعض السواحل الأندلسية ومدنها إلى هجمات النورمان، ولم يكتفوا بقوات الأسطول الدفاعية بل بدأوا استجابة لمتطلبات أمن البلاد بصناعة السفن المختلفة الأحجام، فمع بداية عصر عبد الرحمن الناصر، وتزايد خطر الفاطميين بدأت الأندلس تعمل بشكل سريع لمنافسة القوى الأخرى في البحر المتوسط، وتحكم سيطرتها على مياهها الإقليمية لا سيما منطقة جبل طارق وعملت دوريات الأسطول الأندلسي على منع الإمدادات التي كانت الدولة الفاطمية تمول بها المتمردين في الأندلس ومنهم زعيمهم عمر بن حفصون وتمكنت ولمرات عديدة من إغراق السفن الفاطمية، أو أسرها داخل وخارج المياه الإقليمية للأندلس. ولم يكتف عبد الرحمن الناصر بهذه الاجراءات، بل عمد إلى مهاجمة أهم المدن المغربية المطلة على البحر المتوسط وضمها إلى سلطانه، ففي سنة 314هـ استولى الأسطول الأندلسي على مدينة مليلة وطنجة (¬35)، وفي سنة 319هـ استولى ¬_______ (¬32) سالم: تاريخ المغرب الكبير 2/ 614. (¬33) سالم: المصدر السابق: 2/ 615؛ وينظر: المقتبس 5/ 216. (¬34) ابن عذاري: 1/ 216. (¬35) سالم، المغرب الكبير: 2/ 611؛ أحمد بدر 87.

على مدينة سبتة (¬36). وحاول في سنة 320 هـ السيطرة على جزيرة ارشقول (¬37) الحصينة لكن الحملة لم تحقق هدفها واضطر إلى تركها عائداً إلى قواعده في المرية (¬38). وقد أصبحت المناطق التي سيطر عليها الأسطول الأندلسي قواعد للإنطلاق في العمق المغربي، في نفس الوقت عدت بمثابة حزام الأمان للسواحل الأندلسية المقابلة. ومنذ ذلك الحين بدأت القوات البحرية الأندلسية بتسديد الضربات للفاطميين ومهاجمة ممتلكاتهم في المغرب الأقصى، بل أخذت تهاجم سفنهم في عمق البحر وتقطع على الأخرى خطوط العودة، وعلى الرغم من أن الفاطميين ردوا بالمثل وهاجموا المرية قاعدة الأسطول الأندلسي سنة 344هـ وأحرقوا جميع السفن الراسية فيها، ولكنهم لم يتمكنوا من تحجيم تحركاته، فعاود الأسطول الأندلسي الهجوم، وقصد هذه المرة سواحل سوسة ومرسى الخزر وعاث فيهما دون أن يتمكن الفاطميون من رده أو التقليل من خسائرهم. ¬_______ (¬36) ابن حيان: 5/ 288؛ وينظر: محمد بن تاويت، تاريخ سبتة، الدار البيضاء ط 1، 1982 ص:22 وما بعدها. (¬37) قريبة من سواحل تلمسان في المغرب الأوسط (الجزائر). (¬38) سالم، المغرب الكبير: 2/ 612.

الفصل الثالث المظاهر الحضارية

الفَصْلُ الثَّالِث المظاهر الحضارية 1 - العلاقات الدبلوماسية: اجتمعت في شخصية الخليفة عبد الرحمن الناصر مواهب عدة، أهلته لأن يكون حاكماً ناجحاً، فهو سياسي مرن وقائد شجاع وإداري صلب، يضاف إلى ذلك ثقافة أدبية واسعة وذوق فني رفيع وشخصية كهذه، لا بد أن تترك بصماتها على دولة الأندلس بصورة عامة لا سيما قرطبة التي تألقت نصف قرن من الزمن مع هذا الخليفة الذي وصل بفضل جهوده الجبارة ومنجزاته العظيمة، إلى أن يجعل منها جوهرة العصر تزدحم بالسكان وتشمخ في سمائها العمائر والقصور، ويؤمها أصحاب العلم وطلابه من كل صوب، وبدأ الناصر بعد رحيل منافسه المعز إلى المشرق (¬1) وأفول شمس الإمبراطورية الكارولنجية، الشخصية الأكثر قوة في غربي البحر المتوسط وفوق ذلك كان باستطاعته أن يدعي الزعامة الدينية للعالم الإسلامي بعد تحجيم هذا الدور الذي استأثر به الخلفاء العباسيون زمناً قبل أن يطغى عليهم ضباط القصر من الترك والديلم، وهكذا فإن الخليفة الناصر تحول في السنوات العشر الأخيرة من عهده إلى رجل العالم الإسلامي القوي، " له من متانة نظامه في الداخل وسمعته السياسية في الخارج، ما يؤهله لأن يكون موضع إعجاب وتقدير الشخصيات المعاصرة التي سعت إلى صداقته وإقامة علاقات ودية معه " (¬2). والدول التي سعت إلى مصادقته وحرصت على إرسال السفراء إلى قرطبة هي: 1 - الدولة البيزنطية: وكانت في مقدمة الدول الساعية إلى توطيد العلاقات مع الأندلس ولعل العداء ¬_______ (¬1) يعني نقل مقر الدول الفاطمية إلى مصر. (¬2) بيضون: 307.

المشترك للدولة العباسية كان من بين الأسباب في توطيد تلك العلاقات، وقد عاصر الخليفة الناصر من أباطرة بيزنطة الإمبراطور قسطنطين السابع المشهور عنه اهتمامه بالعلوم والآداب وكتب الأقدمين. ويتحدث مؤرخونا عن سفارتين بيزنطيتين وصلتا الأندلس. الأولى: كانت سنة 336 هـ (¬3) حيث بالغ الناصر في تزيين بلاطه والاحتفال بالسفراء وفي ذلك يقول ابن خلدون: " وزين القصر الخلافي بأنواع الزينة وأصناف الستور وجعل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والأخوة والأعمام والقرابة، ورتب الوزراء والخدمة في موقعهم ودخل الرسل فهالهم ما رأوا وقربوا حتى أدوا رسالتهم وأمر يومئذٍ الأعلام أن يخطبوا في ذلك المحفل ويعظموا أمر الإسلام والخلافة ... فاستعدوا لذلك ثم بهرهم هول المجلس فوجموا وشرعوا في القول فارتج عليهم (¬4) ... فقام منذر بن سعيد البلوطي من غير استعداد ولا رويّة، ولا تقدم له أحد في ذلك بشيء فخطب ... وأنشد شعراً طويلاً ارتجله في ذلك الغرض ... " (¬5). ورافقت هذه السفارة في طريق العودة بعثة من قبل الدولة العربية في الأندلس كان على رأسها هشام بن هذيل يحمل جواباً من خليفته الناصر ويؤكد على توثيق العلاقات بين البلدين وقد استغرقت سفارة ابن هذيل قرابة السنتين (أي إلى سنة 338 هـ) عاد بعدها إلى الأندلس (¬6). وقيل: إنه عاد صحبة سفارة ثانية للإمبراطورية البيزنطية (¬7) استقبلت بمثل ما استقبلت به السفارة الأولى، ويذكر ابن عذاري أن السفراء الوافدين حملوا كتاباً من إمبراطور دولتهم في رق سمائي اللون مكتوب بالذهب وعلى الكتاب طابع ذهب زنته أربعة مثاقيل على أحد وجوهه صورة المسيح عليه السلام، وعلى الوجه الآخر صورة الإمبراطور قسطنطين (¬8) وولده. وفي نفح الطيب (¬9) وصف طريف مسهب لاستقبال هذه السفارة وعلى الرغم من أن ¬_______ (¬3) في البيان المغرب لابن عذاري 2/ 313 سنة 334 هـ. (¬4) كان من بينهم أبو علي القالي البغدادي. (¬5) تاريخ ابن خلدون 4/ 143، وينظر: نفح الطيب 1/ 364. (¬6) ابن خلدون: 4/ 142. (¬7) ابن خلدون: 4/ 143، ويشير ابن عذاري: 2/ 215 إلى السفارة الثانية في سنة 338 دون الإشارة إلى مهمة ابن هذيل. (¬8) البيان المغرب: 2/ 215. (¬9) 1/ 366 وما بعدها.

الخلط بين وقائع استقبال السفارتين لا يمكن الإغضاء عنه؛ إلا أنها لا تخلو من فائدة، فهي تصور تصويراً دقيقاً فخامة بلاط الدولة العربية في الأندلس ومكانة هذه الدولة بين دول العالم آنذاك. ومن نتائج هذه السفارات دخول بعض المؤلفات المهمة إلى الأندلس ككتاب الحشائش لديسقوريدس وكتاب هروشيش في التأريخ (¬10)، ونقل أكثر من مائة سارية وتحف غريبة استخدمت في بناء وتزيين مدينة الزهراء كما سيأتي بيانه. 2 - الدول الرومانية المقدسة: يشير ابن عذاري (¬11) وابن خلدون (¬12) باختصار شديد إلى سفارة من قبل إمبراطور الألمان أتو الكبير، وصلت الأندلس سنة 342 هـ (¬13)، وكانت برئاسة الراهب جان دي جورز (نسبة إلى دير جورز القريب من مدينة متز) وهو أحد علماء عصره في البحث والمناظرة (¬14)، وقد استقبلت هذه السفارة بما يليق أن يقابل به السفراء، ونزل أعضاؤها في أحد القصور الرسمية، وطبيعي أن يحاط بلاط الخليفة علماً بأهداف ومهمة السفارة قبل الإذن لها بالمثول أمامه. ولكن ممثل الإمبراطور كما يبدو لم يكن على قدر من السلوك الدبلوماسي، ففي حين وصلت إلى مسامع البلاط أن السفير يحمل رسالة تتضمن انتقاداً لنظام الحكم العربي في الأندلس، وعبارات تمس مقدسات العقيدة، أصر السفير على مواجهة الخليفة، وطرح محتويات الرسالة أمامه وقد رفض الخليفة الناصر استقباله حتى يستوثق من أن الرسالة التي يحملها السفير تمثل وجهة نظر الإمبراطور أوتو الكبير أو أن حاملها الوافد " اهتبلها للإفضاء عن آرائه العدوانية في مجلس الخليفة " (¬15) وتم الاتفاق على إرسال سفارة عربية إلى أوتو الكبير تطلب منه تغيير سفارته أو تغيير الرسالة التي تحملها، فقام بهذه المهمة أحد المستعربين الذين يجيدون اللغة اللاتينية إجادة تامة ويدعى رثموندو أو ربيع بن زيد (¬16)، وقد استقبلت هذه البعثة من الإمبراطور ¬_______ (¬10) أحمد بدر: 139. (¬11) البيان المغرب: 2/ 218. (¬12) تاريخ ابن خلدون: 4/ 143. (¬13) انفرد ابن عذاري بذكر تاريخ وصول هذه السفارة، وحددها عنان في كتابه، دول الإسلام: 2/ 456 بسنة 344هـ. (¬14) عنان: دول الإسلام: 2/ 457. (¬15) بيضون: 811. (¬16) عادة المستعربين اتخاذ الأسماء العربية إضافة إلى أسمائهم الأعجمية.

في بلاطه بمدينة فرانكفورت، وأنهت مهمتها بنجاح وعادت إلى الأندلس برفقة سفارة ألمانية جديدة حملت توجيهات محددة إلى السفارة السابقة (¬17)، وعندئذٍ سمح الخليفة الناصر للسفراء بالمثول أمامه وكانت مهمتهم تتحدد بنقطتين: الأولى: عقد الصداقة بين الطرفين. والثانية: العمل على إيقاف غارات البحريين الأندلسيين على أملاك الإمبراطورية الرومانية. ورغم صمت الروايات عن نتائج هذه السفارة، فمن المرجح أن حكومة قرطبة أبدت استعدادها لكل تعاون يدخل ضمن نطاق توثيق الصداقة بين الطرفين وفي نفس الوقت أبدت أسفها عن عدم الوعد بإيقاف الغارات البحرية التي كان يقوم بها البحريون الأندلسيون (¬18) في غاليس وشمال إيطاليا وسويسرة وأماكن أخرى، لكون هؤلاء يعملون لحسابهم الخاص ويسيطرون على مناطق وجزر هي في الأصل خارج نطاق سيادة الدولة العربية في الأندلس، ولا يوجد أي نوع من أنواع العلاقة بين الطرفين (¬19). وإذا كانت هذه السفارة قد فشلت في تحقيق المهمة الرئيسة التي أوفدت من أجلها، إلا أن فوائدها كانت قيمة ومهمة في جوانب أخرى، فقد أسهمت في تقديم معرفة أفضل لبلاط الخليفة عن أحوال الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وثروتها وقواتها ونظام الحكم السائد هناك (¬20). وإن ربيع بن زيد (رثموندو) لقي المؤرخ لوتيراند في ألمانيا وحثه على وضع كتاب في التاريخ يهتم بأخبار وحوادث العصر (¬21). 3 - الممالك الإسبانية الشمالية: كانت الصراعات العسكرية بين الأندلس والممالك الإسبانية الشمالية طاغية على سواها من مظاهر التعاون الودي، فهذه الممالك كانت تدخل حلقة الموادعة عندما تكون عاجزة عن القيام بأي فعل عسكري اتجاه الدولة العربية في الأندلس، وتنهي من جانب ¬_______ (¬17) عنان، دول الإسلام: 2/ 457. (¬18) أسس مجموعة من البحارة الأندلسيين في حدود سنة 227 هـ دويلة سميت باسم دويلة القلال (فراكسنيتوم) في ولاية البروفانس جنوب فرنسا، واستمرت هذه الولاية في جهادها البحري حتى سقوطها سنة 365 هـ. ينظر، الحجي، التاريخ الأندلسي 313. (¬19) عنان: 2/ 458؛ وينظر؛ شكيب أرسلان، تاريخ غزوات العرب: 207. (¬20) أحمد بدر: 142. (¬21) أحمد بدر: 142.

واحد كل عهد أو اتفاق إذا ما وجدت الفرصة السانحة لاختراق سيادة الدولة العربية فالعلاقات بينها وبين الأندلس " لم تحتل غير جانب سطحي في إطار ما نسميه حالياً بالعلاقات الدولية، لأن الجانب الأهم كانت تشهده ساحات القتال في معركة إثبات الوجود " (¬22). وعلى الرغم من ذلك، فقد أدى تفوق الأندلس على جميع الدول المجاورة في مجال التقدم والرقي، إلى أن تخطب تلك الدول بعد أن أعجزتها الحيل ود حكومة قرطبة، وتطلب عقد معاهدات السلام والعون والرأي في حل المشاكل، ففي سنة 344هـ وصلت سفارة ملك ليون اردونيو الرابع لعقد معاهدة السلام بين الدولتين، ووافقت حكومة قرطبة على مقترح السفارة وبعثت سفارتها إلى مملكة ليون حيث تم إبرام الاتفاق المذكور. وفي السنة التالية 345 هـ دخل في المعاهدة المذكورة أمير قشتالة فردناند وبناءً على طلب ملك ليون (¬23). وفي سنة 347 هـ وصلت إلى قرطبة ملكة نافار طوطة ومعها ولدها الأمير غرسية وطائفة من كبار رجال الدولة، فاستقبلوا في الزهراء وتم عقد معاهدة السلم بين الطرفين (¬24). 4 - ووفدت إلى العاصمة الأندلسية سفارة ملك الصقالبة بطرس وردت حكومة قرطبة بسفارة مماثلة برئاسة ربيع الأسقف. 5 - ثم سفارة ملك فرنسا لويس الرابع لتوطيد العلاقة بين البلدين (¬25). لقد تمكن الخليفة عبد الرحمن الناصر من خلق نوع من التوازن السياسي في عصره، وأصبحت الدولة العربية في الأندلس مركزاً لذلك التوازن (¬26). وقد تبوأت الأندلس مركز الصدارة في العالم الإسلامي آنذاك وغدت قرطبة مركز الجاذبية الدبلوماسية تتجه إليها أنظار الدول الأوروبية المختلفة في معالجة ما يعضل عليهم في الأمور السياسية (¬27)، يقول المقري: " إن ملك الناصر بالأندلس كان في غاية الفخامة ¬_______ (¬22) بيضون: 312. (¬23) تاريخ ابن خلدون: 4/ 143، المقري: 1/ 365. (¬24) تاريخ ابن خلدون: 4/ 143، وينظر: عنان، دول الإسلام: 2/ 459. (¬25) تاريخ ابن خلدون: 4/ 143 وينظر: عنان: 2/ 456. (¬26) بيضون: 311. (¬27) عنان: دول الإسلام: 2/ 451.

ورفعة الشأن، وهادته الروم، وأزدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تبقَ أمَّة سمعت به من ملوك الروم والأفرنجة والمجوس (¬28)، وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة، وانصرفت عنه راضية " (¬29). 2 - الازدهار الاقتصادي: عرفت الأندلس في عهد الناصر بأنها أغنى دولة في العصور الوسطى نتيجة ازدهار الزراعة والصناعة والتجارة وكثرة أموال الغنائم، والأخماس، ودخلت البلاد طوراً من الرخاء والغنى لم يسبق أن وصلته في عصورها السابقة. والأندلس بلد زراعي قبل كل شيء، وكان الخراج والجزية والأخماس هي المصادر الرئيسة لخزينة الدولة، وبدأت الزراعة بالازدهار نتيجة اهتمام الدولة بهذا المورد المهم فحسنت أحوال العمال الزراعيين وأسقطت بعض الضرائب عن المزارعين، وهيأت لهم ظروفاً زادت من استغلال الأرض وزيادة الإنتاج، واشتهرت الأندلس بزراعة القمح (¬30) والزيتون وأنواع الفاكهة، فضلاً عن غاباتها التي تعد مصدراً مهماً من مصادر الثروة ومادة أولية تدخل في كثير من الصناعات الخفيفة والثقيلة؛ والثروة الحيوانية والسمكية التي اشتهرت بها مناطق واسعة من الأندلس (¬31). واستغل الأندلسيون الثروات الطبيعية فاستخرجوا المعادن المختلفة كالذهب والفضة والرصاص والحديد والزئبق والبلور والكبريت والملح، واشتهرت مناطق بعينها بمثل هذه المعادن فالفضة والنحاس كانا يستخرجان من المناطق الشمالية قرطبة ولوشة وتدمير والزئبق من جبال البرانس، والقصدير من اكشونبة، والبلور من لورقة، واشتهرت جبال قرطبة وباغة بأنواع الرخام الجيد وسرقسطة بالملح الأبيض الصافي (¬32). والمعادن الآنفة الذكر وغيرها كانت تستخدم في بعض الصناعات التي تحتاجها البلاد لا سيما صناعة الأسلحة من سيوف ورماح ودروع إلى الصناعات الأخرى التي ¬_______ (¬28) يعني: النورمان. (¬29) نفح الطيب: 1/ 366. (¬30) قال المقري: " ومن خواص طليطلة أن حنطتها لا تتغير ولا تتسوس على طول السنين يتوارثها الخلف عن السلف " نفح الطيب: 1/ 143. وينظر: ابن خرداذبة، المسالك والممالك: 90 طبعة ليدن، وابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان 87 - طبعة ليدن. (¬31) عنان، دول الإسلام في الأندلس: 2/ 689. (¬32) المقري: نفح الطيب: 1/ 143 و 145 و 150، عنان، دول الإسلام: 2/ 690.

اشتهرت بها مدن الأندلس كالنسيج والملابس (¬33) والأثاث والورق والزجاج والفخاريات وما يدخل في عداد الكماليات والتحفيات من الصناعات. وأما التجارة فقد كانت من عماد الاقتصاد في الأندلس، وكانت المرية ومالقة من الموانئ التي شهدت تبادلاً تجارياً مع أقطار أخرى وكانت حصة الدولة جباية الرسوم التجارية المقررة في ذلك الوقت (¬34). ودخل الأندلس أيضاً العديد من التجار المغاربة والمشارقة حاملين معهم بضاعة بلادهم بعدما وجدوا في قرطبة وغيرها من المدن أسواقاً نافقة وتجارة لا تبور، وتميز بعض هؤلاء التجار وخصوصاً أهل المشرق بترويج تجارة الكتب والمؤلفات النادرة (¬35). ومواكبة للإزدهار الإقتصادي الذي عم البلاد أمر الخليفة الناصر سنة 316 هـ باتخاذ دار السكة في قرطبة لضرب العين من الدنانير والدراهم وولى عليها أحمد بن محمد بن حدير، وضربت أول دنانيرها ودراهمها يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان من العام المذكور، وكانت الدنانير تضرب من الذهب والدراهم من الفضة. واستمرت هذه الدار بضرب النقود، حتى انتقال الناصر إلى مدينة الزهراء، وأنشأ داراً للضرب فيها، فعطل دار السكة بقرطبة وأغلق بابها، وتقلد عبد الرحمن بن يحيى دار الضرب في مدينة الزهراء فاتصل الضرب بها حتى أفول نجم الزهراء في عهد المنصور بن أبي عامر (¬36). أما جباية الأندلس في عهد الناصر فقد بلغت أرقاماً تعد بملايين الدنانير فالجباية من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار (أي ما يعادل: خمسة ملايين وأربعمائة وثمانين ألف دينار)، ومن السوق والمستخلص سبعمائة وخمسة وستين ألف دينار (¬37)، وأما أخماس الغنائم فلا يحصيها ديوان (¬38)، وكانت أموال الدولة مقسمة ثلاثة أثلاث، ثلث يصرف على القوات العسكرية وثلث للإعمار والبناء والثلث الأخير احتياطي في خزينة الدولة يستخدم وقت الطوارئ (¬39)، وقد ترك الناصر في ¬_______ (¬33) اشتهرت المرية بصناعة الحرير وغيرها من المنسوجات، نفح الطيب 1/ 63. (¬34) اشتهرت الأندلس بتجارة العنبر الذي كان يصدر إلى مصر وبقية الأقطار الأخرى، نفح الطيب: 1/ 143. (¬35) التجار الذين دخلوا الأندلس من أهل المغرب والمشرق كثيرون، ينظر مثلاً - كتاب الصلة، لابن بشكوال، والتكملة لابن الآبار، تحت عنوان " الغرباء الذين دخلوا الأندلس ". (¬36) ابن حيان: 5/ 243. (¬37) ابن عذاري: 2/ 231 و 232. (¬38) المقري: 1/ 379. (¬39) ابن عذاري: 2/ 231، المقري: 1/ 379.

خزائنه عند وفاته " خمسة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات " من الدنانير (أي ما يعادل خمسة آلاف مليون دينار) (¬40). 3 - المنشآت المعمارية: تعد المنشآت المعمارية مظهراً متقدماً من مظاهر الحضارة، ومن ثم فهي تعد دلالة على الرخاء الاقتصادي، ولقد امتلكت الأندلس في عهد الخلافة كل المقومات المؤهلة لأن تكون بحق وليدة عصر الخليفة الناصر، وأن تصبح العاصمة قرطبة صورة حقيقية لمظاهر ازدهار وبذخ ذلك العصر. فقد كانت من أكبر وأجمل عواصم العالم آنذاك (¬41). فمع نمو عدد سكانها البالغ أكثر من خمسمائة ألف، توسعت عمائرها ومبانيها، فمن المساجد حَوَت ما يقارب الأربعمائة وواحد وتسعين مسجداً (¬42). اشترك في بنائها الأمراء والخلفاء ورجال الدولة والميسورون من السكان، واتخذت أسماءها حسب حاراتها أو مؤسسيها (¬43)، ويعد المسجد الجامع أشهر وأكبر المساجد على الإطلاق، وهو آية من آيات الفن ترك أمراء بنو أمية بصماتهم عليه زيادة وتوسعاً إلى أن انتهى بكامل روعته في عصر الخليفة الناصر (¬44)، وبلغ عدد دور قرطبة ما يقارب المائة ألف دار (¬45) تنتشر في أرباض المدينة الواحد والعشرين (¬46) واشتهرت قرطبة بحماماتها البالغة ثلاثمائة حمام (¬47) وبفنادقها وساحاتها وحدائقها (¬48)، ولعل من أهم آثار الناصر المعمارية، مدينة الزهراء (¬49) ¬_______ (¬40) المقري: 1/ 379، عنان، دول الإسلام: 2/ 447. (¬41) ابن حوقل، صورة الأرض: 107، بيروت. (¬42) العذري، نصوص عن الأندلس: 124، تحقيق عبد العزيز الأهواني، الحميري، الروض المعطار: 458 تحقيق إحسان عباس. وقارن: ابن عذاري 2/ 232. (¬43) مثلاً: مسجد ابن ضرغام، وأبي عبيد، والليث، وابن ياسين، ورحلة الشتاء والصيف والسقا، والغازي، والزجاجين وغيرها. (¬44) أنشأ الناصر في سنة 340 هـ منارة جديدة للمسجد، تميزت بضخامتها وعلوها الشاهق زينها بما تستحق حتى عرفت به، الحميري: 458، ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 38. (¬45) تنظر الروايات التي أوردها المقري في النفح: 1/ 540. (¬46) منها: الأرباض القبلية بعدوة النهر، ربض شقندة، وربض منية عجب، وأما الغربية فتسعة: ربض حوانيت الريحاني، وربض الرقاقين، وربض مسجد الكهف، وربض بلاط مغيث ... ينظر: المقري 1/ 465. وفي البيان المغرب 2/ 232 لابن عذاري " ثمانية وعشرين ربضاً ". (¬47) المقري: 1/ 540 وقيل سبعمائة حمام، وقيل تسعمائة .... (¬48) المقري: 1/ 446؛ ابن حوقل: 108. (¬49) ينظر: قصر الزهراء في الأندلس، نجلة العزي- بغداد، 1977.

التي تعد مأثرة مهمة من مآثره، بنيت على مسافة 8 كم شمال غربي العاصمة قرطبة على سفح جبل العروس، وأسباب بناء هذه المدينة تتحدد بالدوافع الآتية (¬50): 1 - أريد لهذه المدينة أن تكون مقراً للخلافة الجديدة. 2 - الابتعاد عن صخب العاصمة قرطبة بعد أن ضاقت مرافقها نتيجة الزخم السكاني الذي كان يزداد سنوياً. 3 - بناء المدن صفة وصف بها الخلفاء والسلاطين العظماء تخليداً لعصورهم المجيدة. 4 - عرف عن الناصر كلفه ببناء القصور والاعتناء بتنميقها وتزيينها وصرفه الأموال الكثيرة في هذا المجال (¬51). وبدأ ببناء الزهراء في محرم سنة 325 هـ (¬52)، وخول ولي العهد الحكم بمهمة الإشراف على بنائها (¬53)، وقد عمل في بناء الزهراء جيش من العمال والمهرة (¬54)، أشرف عليهم خيرة المهندسين والمعماريين في ذلك الوقت، وقامت المدينة على مسطح من الأرض طوله من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضه من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع (¬55)، واستمر البناء فيها نحواً من أربعين سنة (¬56)، وبلغت ¬_______ (¬50) يذكر المؤرخون رواية قصصية مفادها أن الخليفة الناصر ماتت له سرية، وتركت مالاً كثيراً، فأمر أن يفك بذلك المال أسرى المسلمين، وطلب في بلاد الإفرنج أسيراً فلم يوجد، فشكر الله تعالى على ذلك، فقالت له جاريته الزهراء اشتهيت لو بنيت لي مدينة تسميها باسمي، وتكون خاصة لي ... نفح الطيب: /523. (¬51) له مع القاضي منذر بن سعيد البلوطي أحاديث مذكورة في هذا الخصوص، حيث عمد القاضي المذكور إلى توجيه النقد اللاذع للخليفة الناصر نتيجة إسرافه في بناء القصور والمنتزهات وصرفه للأموال الطائلة من أجل ذلك، ينظر: النباهي: المرتبة العليا: 69 و72، طبعة بيروت. (¬52) المقري: 1/ 524 و 526، وينظر: نجلة العزي، 33. (¬53) ابن عذاري: 2/ 231. (¬54) في نفح الطيب: 1/ 526 " كان يتصرف في عمارة الزهراء كل يوم من الخدم والفعلة عشرة آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة. وكان من الرجال من له درهم ونصف ومن الدرهمان والثلاثة، وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنحوت المعدل ستة آلاف صخرة سوى الأجر والصخر غير المعدل ". (¬55) المقري: 1/ 524. (¬56) وهم النويري في نهاية الأرب عندما حدد مدة إنجاز مدينة الزهراء بإثني عشرة عاماً. ينظر: نجلة العزي: 33.

نفقات كل سنة أكثر من ثلاثمائة ألف دينار (¬57). وانتقل إليها الناصر بحاشيته وخواصه وخدمه في سنة 336 هـ (¬58). واشتملت مبانيها على أربعة آلاف سارية ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة جلب بعضها من رومة والبعض الآخر من القسطنطينية ومصاريع أبوابها كانت تزيد على خمسة عشر ألف باب، ملبسة بالحديد والنحاس المموَّه (¬59). وجلب الرخام المستخدم في بنائها من مدن اشتهرت بهذه المادة، فمنه ما جلب من مدينة المرية ورية وأصناف منه جلبت من المغرب العربي ومن مدينتي صفاقس وقرطاجنة واجتهد الناصر باختيار التحف النادرة من الشام والقسطنطينية (¬60)، وكان القصر الخليفي في المدينة وما حواه من قاعات (¬61) يعد آية من آيات الإبداع فقد زين بكل ما يسر النفس وأتحف بكل نادر ونفيس، وقد أطال المؤرخون في وصف قصر الزهراء وتعرضوا لبلاطه ولمحتوياته، وقاعاته الملوكية والتماثيل التي زينت تلك القاعات وفسح القصر (¬62). وفضلاً عن القصر فقد بنى في الزهراء مسجداً طوله من القبلة إلى الجوف -عدا المقصورة- ثلاثون ذراعاً وعرض البهو الأوسط من الشرق إلى الغرب ثلاثة عشر ذراعاً، تم بناؤه وإتقانه في مدة ثمانية وأربعين يوماً، وكان يعمل به أكثر من ألف عامل منهم ثلاثمائة بناء، ومائتا نجار والبقية من الأجراء وبقية العمال المهرة (¬63). ولم تعمر مدينة الزهراء طويلاً فقد ظلت مقراً للخلافة في عهد الناصر وولده الحكم المستنصر ثم فقدت أهميتها وبريقها السياسي عندما سيطر الحاجب المنصور بن أبي عامر على مقاليد الأمور وبنى مدينته المعروفة بالزاهرة، وفقدت الزهراء رسومها عندما اجتاحت الأندلس وقرطبة خاصة عوامل الفتنة والفوضى جراء النزاع على السلطة في بداية القرن الخامس الهجري، وتعرضت هذه المدينة إلى الدمار والحرق ونهب ما حوته من نفيس التحف. ¬_______ (¬57) المقري: 1/ 568. (¬58) العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس: 206؛ وينظر: أعمال الأعلام: عن الخدم والجواري والحرس الخاص ومقدار ما كان يدخل الزهراء يومياً من المواد التموينية. (¬59) المقري: 1/ 566. (¬60) ابن عذاري: 2/ 231، (¬61) عن قاعات قصر الزهراء، ينظر: نجلة: 100 وما بعدها. (¬62) ابن عذاري: 2/ 231. المقري: 1/ 257. (¬63) المقري: 1/ 264.

واهتم الإسبان في العصر الحديث بالكشف عن آثار مدينة الزهراء فمنذ بداية سنة 1910 م بدأت الحفريات في منطقة تمتد حوالي 1518 متراً من الشرق إلى الغرب و 745 متراً من الشمال إلى الجنوب، وعلى الرغم من أن هذه المنطقة لم تكشف كلها فإن المكتشف من الآثار يكفي لتكوين صورة واضحة عن هندسة المدينة وفخامتها (¬64). " وتنقسم أطلال الزهراء بصفة عامة إلى مجموعات ثلاث، مدرجة من أعلى إلى أسفل. وتشمل المجموعة الأولى مواقع القصر الخليفي والمقام الخاص، وتشمل الثانية فيما يبدو مساكن الحاشية والحرس، وتشمل المجموعة الثالثة، وهي الواقعة أسفل الربوة في بسيط معتدل من الأرض، أربعة أفنية كبيرة عالية، هي التي يجري اليوم ضمها وإعادة تشكيلها، وفيما يظن أنها البهو العظيم الذي كان مخصصاً لاستقبال الملوك وأكابر السفراء، وقد تم اكتشاف هذا البهو الذي يعد أعظم ما كشف حتى اليوم من آثار الزهراء في سنة 1944 م ووجد سائر حطامه وزخارفه مدفوناً تحت الأنقاض، ويعكف الأثريون والإسبان منذ أعوام على إقامة الصرح وتنسيقه، مما وجد من أنقاضه وأعمدته وزخارفه، وقد أقيم حتى اليوم في وسطه ما اصطلح على تسميته (بهو السفراء) أو باسمه التاريخي (المجلس المؤنس) وهو يتكون من أربعة أفنية متلاصقة تبلغ واجهتها نحو أربعين متراً، وقد قسمت من الداخل إلى ثلاث أروقة مستطيلة، يتوسطها رواق رابع ذو عقود من الجانبين، ويقوم كل فناء منها على خمسة عقود، وقد ركب على هذه العقود ما وجد بين الأطلال من رؤوس وقواعد رخامية مزخرفة، وفي وسط الرواق الثالث عقد جميل عال يفضي إلى بهو داخلي، زين جانباه بالزخارف الرخامية، ويبلغ طول كل رواق من الأروقة المذكورة نحواً من عشرين متراً، وعرضه نحو ثمانية أمتار، وقد صنعت العقود كلها على نمط واحد وزينت من أعلاها بما أمكن جمعه من قطع الزخارف الرخامية التي وجدت، وقد شيدت هذه الأروقة على ارتفاع يبلغ نحو عشرة أمتار " (¬65). ومع استمرار أعمال الحفريات في مدينة الزهراء، فقد تم اكتشاف الكثير من معالم المدينة، ومنها اكتشاف دار الجند سنة 1912 م وتم تجديده سنة 1944 م واكتشاف الجناح الشرقي سنة 1954 م والبحيرات سنة 1945 م وبدأ العمل بها سنة 1954 م ودار الرخام الذي بدأ التنقيب به سنة 1964 م، ثم ممر الجند الشرقي والساباط سنة 1964 م أيضاً (¬66). ¬_______ (¬64) عنان، دول الإسلام: 2/ 443. (¬65) عنان، دول الإسلام: 2/ 443 وينظر: نجلة العزي: 84. (¬66) نجلة العزي: 88 - 91.

ولعل أعمال الحفريات المستقبلية تكشف لنا عن معالم أخرى لهذه المدينة التي هي من دون شك إحدى الصور التي تحكي قصة الحضارة العربية في بلاد الأندلس. وما وصلت إليه من الرقي والتقدم، في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في مجاهل التخلف، وقد بلغت الأندلس لا سيما العاصمة قرطبة درجة رفيعة من الحضارة كان تأثيرها واضحاً على جميع الدول المعاصرة، وإذا استثنينا من هذا المبحث شهرة الأندلس خلال هذه الفترة في العلوم والآداب (ينظر الفصل الخاص بتراث الأندلس العلمي) فيكفي أن نشير إلى تقدم العرب الأندلسيين في العلوم المختلفة النقلية والعقلية وعلوهم على غيرهم في مجالات علوم الفلك والرياضيات والكيمياء والطب على نحو تجاوز كل تقدير (¬67). وقد أشاد الباحثون المحدثون إشادة كبيرة بشخصية وعصر الخليفة عبد الرحمن الناصر وفي ذلك يقول العلامة الهولندي دوزي: " لقد كانت هذه نتائج باهرة، ولكنا نجد إذا ما درسنا ذلك العصر الزاهر، أن الصانع يثير الإعجاب والدهشة، بأكثر مما يثيرها المصنوع، تثيرها تلك العبقرية الشاملة التي لم يفلت شيء منها، والتي كانت تدعو إلى الإعجاب في تصرفها نحو الصغائر، كما تدعو إليه في أسمى الأمور، إن ذلك الرجل الحكيم النابه الذي استأثر بمقاليد الحكم، وأسس وحدة الأمة، ووحدة السلطة معاً وشاد بواسطة معاهداته نوعاً من التوازن السياسي، والذي اتسع تسامحه الفياض لأن يدعو إلى نعيمه رجالاً (¬68) غير مسلمين، لأجدر بأن يعتبر قريناً لملوك العصر الحديث، لا خليفة من خلفاء العصور الوسطى " (¬69). مات الخليفة الناصر في رمضان سنة 350 هـ/تشرين الأول 961 م بعد حكم دام نصف قرن من الزمن قضاه في نضال شاق لإعادة وحدة البلاد الوطنية، وكبح جماح الدول الطامعة في الأندلس، وخلف منجزات عظيمة على كافة المستويات جنى ثمارها من بعده خليفته وولده الحكم المستنصر. ¬_______ (¬67) سالم، المسلمون وأثرهم في الأندلس: 317. (¬68) الإشارة هنا، إلى أمراء وملوك الممالك الشمالية الإسبانية. (¬69) عنان، دول الإسلام: 2/ 463.

الفصل الرابع الأندلس بعد وفاة الناصر

الفَصْلُ الرَّابِع الأندلس بعد وفاة الناصر عصر الحكم المستنصر بالله: تولى الخلافة بعد وفاة الناصر، ولده الحكم الثاني الملقب المستنصر بالله (350 - 366 هـ/961 - 976 م)، وقد قارب الثامنة والأربعين من عمره، واستلم بلاداً موطدة الأركان داخلياً ومرهوبة الجانب من القوى الأجنبية، وقد اعتمد الحكم المستنصر سياسة والده في التعامل مع هذه القوى، واستخدم نفس الأسلوب في الحفاظ على مناطق نفوذ الدولة الأندلسية في المغرب وغيره. فالعلاقة مع الدولة الفاطمية، ظلت علاقة يسودها العداء حتى بعد رحيل سلاطين الفاطميين إلى مصر، واستمرت السيادة الفاطمية والأندلسية في المغرب " قائمة على مبدأ المنافسة بين قبائل صنهاجة وزناتة وضرب بعضها ببعض وإثارة الفتن من وراء ستار، ولم تحاول كل من الدولتين إرسال جيوشها إلى هذا الميدان ... وأخيراً تمكنت صنهاجة أو بمعنى آخر الدولة الزيرية، من بسط سيطرتها باسم الفاطميين على جميع النصف الشرقي من المغرب، أما القسم الغربي من نهر ملوية إلى طنجة فقد سيطرت عليه زناتة حليفة الأمويين وهكذا حدث نوع من توازن القوى بين الخلافتين المتنازعتين وحلفائهما في المغرب " (¬1). أما دولة الأدارسة فقد جعلت قاعدتها بعد خروجهم من فاس في قلعة النسر الحصينة (¬2)، ولم تكن دولة مستقلة بمعنى الكلمة، بل كانت تدور في فلك الأقوى من الفاطميين أو الدولة الأندلسية. وحدث في سنة 361 هـ أن انتصر بلكين بن زيري ¬_______ (¬1) العبادي: 114. (¬2) جنوب تطوان.

الصنهاجي قائد الفاطميين على قبائل زناتة وفرق شملهم منتقماً بذلك لمقتل والده (¬3)، فسارع الأدارسة وزعيمهم يومئذ الحسن بن كنون إلى نقض بيعة الخليفة الحكم المستنصر والاعتراف بالوضع الجديد (¬4)، وأمام هذا التحول الخطير وحفاظاً على نفوذ الأمويين في المغرب، قرر الحكم إرسال قواته إلى المغرب في شوال من سنة 361 هـ، وتمكنت تلك القوات من تشتيت جيش الحسن بن كنون الذي فر جنوباً باتجاه ثغر أصيلا (¬5)، ولكنه ما لبث أن تمكن من تجميع فلول جيشه في السنة التالية وأعاد الكرة بهجوم مقابل عنيف مزق به قوات الأندلس وأجبرها على الإنسحاب والاعتصام بمدينة سبتة (¬6)، وعلى الرغم من محاولات الحسن بن كنون لاسترضاء الخليفة المستنصر بعد انتصاره هذا، وتبرير أسباب انقلابه على الدولة الأموية ووعوده بالولاء والطاعة، إلا أن قرار الحكم كان نهائياً باجتثاث معاقل الأدارسة، فحينما كلف القائد غالب بن عبد الرحمن بقيادة القوات وأمره بالتوجه إلى المغرب خيره بين أحد الأمرين بقوله: سر سير من لا إذن له في الرجوع حياً إلا منصوراً، أو ميتاً فمعذوراً وابسط يدك في الإنفاق، فإن أردت نظمت لك الطريق بيننا قنطار مال (¬7). وقد حقق القائد غالب بن عبد الرحمن رغبة الحكم وتمكن من قوات الحسن بن كنون في مواقع عديدة ثم حاصره في قلعة حجر النسر وأجبره على الاستسلام دون شروط سنة 363 هـ واقتاده إلى قرطبة مع جماعة من الأمراء الأدارسة (¬8). وبهذا الإجراء أعاد الحكم نفوذ الدولة الأموية في هذه المناطق من بلاد المغرب وهي مناطق ذات أهمية كبيرة لأمن الأندلس. وتعرضت الأندلس في عهد الحكم المستنصر إلى هجمات السفن النورماندية ¬_______ (¬3) انتصرت قبائل زناتة سنة 360 هـ على قبائل صنهاجة الموالية للفاطميين وتمكنت زناتة من تشتيت قوات صنهاجة وقتل زعيمها زيري بن مناد وإرسال رأسه إلى الخليفة الحكم المنتصر. ابن عذاري: 20/ 241 - 244. (¬4) الناصري، الاستقصاء: 1/ 200. (¬5) ابن عذاري: 2/ 244 و 245. (¬6) وقعت هذه المعركة بفحص مهران وقتل فيها قائد الجيش الأندلسي محمد بن قاسم وعدد كبير من المشاة والفرسان. ابن عذاري: 2/ 246. (¬7) نص عن كتاب: مفاخر البربر، لمؤلف مجهول ص 8 - 9 نقله العبادي في كتابه: في تاريخ المغرب والأندلس: 216، وينظر أيضاً: عنان، دول الإسلام: 2/ 496 والحاشية رقم: (2). (¬8) ابن عذاري: 2/ 247 و 248؛ الناصري: 1/ 201.

وشهدت السواحل الغربية عدة صدامات بين الطرفين ففي شهر رجب سنة 355 هـ (¬9) " ورد كتاب من قصر أبي دانس على المستنصر بالله يذكر فيه ظهور أسطول المجوس (النورمانديين) ببحر المغرب بالقرب من هذا المكان واضطراب أهل ذلك الساحل لذلك، لتقدم عادتهم بطروق الأندلس من قبله فيما سلف، وكانوا في ثمانية وعشرين مركباً (¬10)، ثم ترادفت الكتب من تلك السواحل بأخبارهم وأنهم قد أضروا بها، ووصلوا إلى بسيط أشبونة، فخرج إليهم المسلمون، ودارت بينهم حرب استشهد فيها من المسلمين وقتل فيها من الكافرين وخرج أسطول إشبيلية فاقتحموا عليهم بوادي شلق، وحطموا عدة من مراكبهم واستنقذوا من كان فيها من المسلمين، وقتلوا جملة من المشركين وانهزموا أثر ذلك خاسرين " (¬11). ولم تزل الأخبار تتوارد إلى قرطبة عن نشاط هؤلاء الغزاة حتى تم قتل معظمهم وأسر أعداد أخرى منهم، فيما ولت بقيتهم من الأحياء منهزمة إلى قواعدها (¬12). وعاود النورمانديون الكرة في سنة 360هـ (¬13) وعلى المنطقة نفسها ولكنهم ردوا دون تحقيق أي هدف من أهدافهم (¬14) بفضل يقظة واستعداد الأسطول الأندلسي للإقلاع مع أول إشارة بظهور السفن الغازية (¬15). أما سياسة الخليفة الحكم اتجاه الممالك الإسبانية الشمالية، فهي سياسة قامت على احترام جميع الاتفاقات والمعاهدات المبرمة بين الدولة العربية في الأندلس وأمراء وملوك الدول الإسبانية الشمالية، ولكن مثل هذه الاتفاقات لم يكن لها ذلك المفعول التنفيذي فسرعان ما تسقط جميع الاتفاقات وتفرغ من مضامينها عند أول فرصة تسنح لهذه الممالك لغزو أراضي الدولة العربية أو الإخلال بأمنها (¬16). فمن المعروف أن ¬_______ (¬9) في نفح الطيب: " سنة 354 هـ ". (¬10) يذكر دوزي: أن كل سفينة كانت تحمل ثمانين محارباً أي أن مجموعهم كان حوالي (2240) رجلاً. العبادي: 221. (¬11) ابن عذاري: 2/ 238 و 239؛ وينظر: ابن خلدون: 4/ 145. (¬12) ابن عذاري: 2/ 239؛ العبادى: 221. (¬13) ابن عذاري: 2/ 240. (¬14) وعن الغزوات الأخرى الفاشلة، ينظر: عبد العزيز سالم، المسلمون وآثارهم في الأندلس: 286، العبادي: 220. (¬15) ابن عذاري: 2/ 239. (¬16) من شدة استخفاف أمراء وملوك هذه الدول بالإتفاقات والمعاهدات أنهم كانوا يبعثون سفراءهم لإقرار السلام، وفي نفس الوقت يقومون بغارات متعمدة على الأراضي العربية، والأمثلة على ذلك =

الخليفة الناصر أعان سانشو (شانجة) على استرداد ملكه في مملكة ليون شريطة أن يتنازل الأخير عن بعض الحصون المهمة الواقعة على الحدود بين الدولتين، وعندما توفي الناصر نقض سانشو الاتفاق ورفض تسليم الحصون المتفق عليها، وبدأ سلسلة من الأعمال العدائية، جعلت الدولة العربية أكثر تصميماً على انتزاع حقها فآوت الملك المخلوع اردونيو الرابع والمنافس الشديد على عرش ليون ووعدته باستعادة ملكه (¬17)، وعلى أثر ذلك تراجع سانشو عن موقفه وسارع إلى إرسال سفارة إلى قرطبة لإعلام الخليفة الحكم باستعداده لتنفيذ الاتفاقات المعقودة مع الناصر (¬18)، ولكن وفاة اردونيو الرابع قلبت سانشو وعاد إلى سياسة التسويف والمماطلة في تسليم الحصون. ولم يكتف بذلك فتحالف مع بعض الأمراء الشماليين (¬19)، لشن هجوم على الأراضي العربية، وكان رد الحكم قاسياً واستهدف أول ما استهدف قشتالة فعاث في أراضيها واحتل حصن غرماج على نهر دويرة سنة 352 هـ (¬20) وتوالت الحملات بعد ذلك ترد تعديات هذه الممالك وتتوغل في أراضيها وتضيف إلى انتصاراتها حصوناً جديدة، فقد تمكنت قوات القائد غالب بن عبد الرحمن من احتلال حصن قلهرة من بلاد البشكنس، وتطهير بعض المناطق من جند الأعداء (¬21) وهكذا كان للتفوق الحربي لجيش الدولة العربية في الأندلس أثره البارز في إعادة وتثبيت السيادة على جميع مناطق الحدود وثغورها وأمنت الأندلس مدة من شر هجمات جيوش ممالك الشمال، التي دخلت في صراع عنيف بعد وفاة سانشو سنة 355 هـ/966 م وارتقاء ولده الذي لا يتجاوز خمس سنوات عرش ليون فتولت عمته البيرة مقاليد الأمور نيابة عنه، واستغل النبلاء الطامعون هذه الظروف واستقل كل منهم بما تحت يديه، وتوافدت رسل الوصية على العرش البيرة وهؤلاء النبلاء إلى قرطبة يحكمون الخليفة الحكم فيما شجر بينهم ويسألونه المشورة والرأي (¬22). وكان أول الوافدين على العاصمة قرطبة من أمراء الممالك الإسبانية الشمالية أمير ¬_______ = كثيرة ينظر مثلاً، عنان، دول الإسلام في الأندلس: 2/ 500. (¬17) ابن عذاري: 2/ 235، المقري: 1/ 384. (¬18) ابن عذاري؛ 2/ 235، المقري: 1/ 384. (¬19) منهم حاكم قشتالة وبنبلونة، وبرشلونة. (¬20) أحمد بدر: 66 وأطلق عليها ابن عذاري غزوة (شنت اشتبين) والتسمية الكاملة " شنت اشتبين دي غرماج " كما أوردها عبد العزيز سالم في كتابه: المسلمون وآثارهم في الأندلس: 290. (¬21) ابن خلدون 4/ 144 و 145 المقري: 1/ 383. (¬22) سالم: 291 أحمد بدر: 67.

جليقية، وأمير اشتوريش ثم وفدت سفارة سانشو وملك نافارا (¬23)، وفي سنة 360 هـ وفد سفراء أمير برشلونة الكونت بوريل ثم أوفدت البيرة الوصية على عرش ملك ليون تطلب عقد معاهدة عدم اعتداء بين الطرفين. ووصلت سفارات أخرى من أمير قشتالة وكونت شلمنقة، وفي سنة 362 هـ جدد ملك نافار والبيرة وصية ملك ليون بعوثهما إلى قرطبة تعزيزاً لاتفاقاتهما السابقة. لقد عاشت الأندلس في عهد الحكم المستنصر عصراً ذهبياً تميز بعدة مظاهر أبرزها ازدهار العلوم والأدب فقد كان الحكم " عالماً فقيهاً بالمذاهب، إماماً في معرفة الأنساب، حافظاً للتاريخ، جماعاً للكتب، مميزاً للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مصر وأوان ... " (¬24). شارك العلماء في علومهم وألف مؤلفات بعضها في الأنساب (¬25) وأخرى في التاريخ وله تعليقات عديدة على كثير من المؤلفات التي قرأها أو سمعها حتى عده ابن الخطيب " حجة وقدوة، وأصلاً يوقف عنده " (¬26)، وكان قد بث التجار في أقطار المشرق والمغرب يقتنصون له كل جديد في العلم (¬27)، ويبعث إلى العلماء المشهورين للحصول على النسخ الأولى من مؤلفاتهم (¬28) وقد ضمت المكتبة الأموية المشهورة الآلاف من المؤلفات في العلوم المختلفة والعقلية منها والفعلية وروى ابن حزم: " أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط " (¬29). وعهد بإدارة هذه المكتبة إلى أخيه عبد العزيز، في حين كان أخوه المنذر مشرفاً على دور التعليم في قرطبة، واحتفى الحكم بمجموعة من مشاهير علماء العصر ¬_______ (¬23) عنان: 2/ 491. (¬24) ابن الخطيب؛ أعمال الأعلام: 41. (¬25) نقل ابن حزم بعض الأنساب عن كتاب الحكم، ينظر: جمهرة أنساب العرب: 88، 310، 399، 408، 424. (¬26) أعمال الأعلام: 41. (¬27) ابن الآبار: الحلة السيراء: 1/ 200. (¬28) وصل كتاب الأغاني للأصفهاني الأندلس قبل أن ينتشر ويذاع في العراق بلد المؤلف. وكذلك فعل الحكم مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم. ينظر: ابن الآبار، الحلة السيراء 1/ 201، والمقري: 1/ 386. (¬29) جمهرة أنساب العرب: 100.

الأندلسيين والمشارقة زينوا بلاطه وملأوه علماً وأدباً منهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي المتوفى سنة 355 (¬30) والعالم العراقي المشهور أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي (¬31)، المتوفى سنة 356 هـ وربيع بن زيد (رثموندو) أحد المستعربين المقربين من الحكم لمعرفته بعلم الفلك والعلوم الفلسفية، وهي من العلوم التي عني بها الخليفة وسعى إلى جمع مؤلفاتها (¬32) وتحول بلاط الخليفة إلى أكاديمية عظيمة تزخر بشتى أنواع المعارف (¬33). وإلى جانب هذا كان التعليم العام في عهده يجوز نهضة متميزة، فقد أسس عدداً من دور التعليم خصصت لأبناء الفقراء مجاناً، وعني عناية خاصة بجامعة قرطبة ورفدها بمشاهير العلماء المتخصين وأجرى لهم الرواتب والأعطيات الجزيلة (¬34)، ويبدي النقد الحديث تقديره وإعجابه للنزعة العلمية التي امتاز بها عصر الخليفة الحكم المستنصر فالمؤرخ الإسباني لافونتي يقول: " كانت دولة الحكم الثاني دولة الآداب والحضارة "، كما كانت دولة أبيه دولة العظمة والبهاء، وإن الرواية العربية لتحبو الحكم بكثير من جميل الذكر فهل نغضي نحن عن تسجيل إعجابنا بما لهذا الأموي المستنير من الصفات الباهرة ... إن السلم الذي وطده اكتافيوس في إسبانيا الرومانية، قد وطده الحكم في إسبانيا العربية، وقد قدم الحكم كما قدم اكتافيوس من قبل، الأدلة على أن الرغبة في السلم، لم تكن لأنه لا يعرف الحرب ولا النصر، ولكن لأنه يؤثر إلهام القريض، ويؤثر الكتب على فرائض السلاح وإكليل الجامعات الحقيقي على إكليل الحروب الدموية ... " (¬35). ومن مظاهر هذا العصر أيضاً تبادل السفارات بين الأندلس والدول الأجنبية وقد سبقت الإشارة إلى سفارات الممالك الإسبانية الشمالية التي وصلت قرطبة. وبقي أن ¬_______ (¬30) ترجمته في تاريخ علماء الأندلس، لابن الفرضي: 144؛ المرقبة العليا، للنباهي: 66 - 75. (¬31) ترجمته عن تاريخ علماء الأندلس: 69، وكانت وفادته إلى الأندلس سنة 330 هـ في عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر. (¬32) عنان، دول الإسلام: 2/ 507. (¬33) عنان: دول الإسلام: 2/ 508. (¬34) كان مقر هذه الجامعة في المسجد الجامع بقرطبة، ومن العلماء المدرسين فيها: أبو بكر بن معاوية القرشي أستاذ علم الحديث، وأبو علي القالي البغدادي الذي كان يدرس اللغة والشعر والأمثال وبعض مؤلفاته، وكان له مجلس خاص يجتمع إليه الطلبة في الزهراء كل يوم خميس، وأبو بكر بن القوطية وكان معروفاً بعلم النحو وآخرين وغيرهم. (¬35) عنان، دول الإسلام: 2/ 508.

نشير إلى سفارات الدول الأخرى التي ارتبطت بالأندلس بوثائق الصداقة منذ عهد والده عبد الرحمن الناصر، ففي سنة 361 هـ/972 م وصلت سفارة إمبراطور القسطنطينية يحملها سفير له يدعى قسطنطين الملقي. وفي سنة 363 م وصلت سفارة إمبراطور ألمانيا أوتو الثاني الذي خلف والده في الحكم، فيها يجدد علائق الصداقة بين الدولتين (¬36). مات الحكم المستنصر سنة 366 هـ/976 م. وولي مكانه ولده هشام المؤيد بعهد منه وكان عمره إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر (¬37)، على الرغم من وجود إخوته المؤهلين لمثل هذا المنصب، وتولية هشام الطفل يعد سقطة كبيرة اقترفها الحكم بحق ولده المذكور والدولة معاً، فقد فرضت وصاية ابن أبي عامر الإجبارية على الخليفة الطفل ولم يعد من سلطات الخلافة غير الاسم وانتقل حكم الدولة في الأصل من الأسرة الأموية إلى أسرة أخرى هي الأسرة العامرية، التي انتهت بمقتل عبد الرحمن بن أبي عامر الملقب (شنجول) وأطاحت بآخر العامريين وفتحت أبواب الفتنة على مصراعيها حتى تم أفول نجم بني أمية نهائياً عن الأندلس في سنة 422 هـ وإعلان أهل قرطبة إلغاء الخلافة والحكم الأموي في الوقت الذي أعلنت فيه معظم مدن الأندلس الكبيرة عن قيام دويلات تحمل أسماء زعمائها أو حكامها. ومن هنا يمكن القول أن حكم بني أمية للأندلس ينتهي بوفاة الحكم المستنصر 366 هـ ليبدأ عصر جديد هو عصر الدولة العامرية التي اتخذت شرعيتها من حماية الخليفة هشام المؤيد والحكم باسمه كما سيتوضح من خلال الفصول الآتية. سيطرة الحاجب محمد بن أبي عامر على السلطة: حرصت الشخصيات البارزة في الدولة جعفر بن عثمان المصحفي كبير الوزراء ومحمد بن أبي عامر ناظر الخاص وغالب بن عبد الرحمن قائد قوات الجبهة الشمالية على تنفيذ وصية الخليفة الحكم المستنصر القاضية بتنصيب هشام المؤيد خليفة على الأندلس، وقد حرص هذا المجلس على تنفيذ الوصية كما هي ليس من باب الإخلاص ¬_______ (¬36) عنان: 2/ 508. (¬37) كان مولده سنة 354 هـ - ابن عذاري: 2/ 237 و 253 وفي الكامل، لابن الأثير: 8/ 677 " عمره عشر سنوات " وفي النفح، للمقري: 1/ 396 " وله من العمر تسع سنوات ".

للخليفة الراحل، وإنما وجدوا في ذلك ضماناً أكيداً لمراكزهم السلطوية (¬38)، في الدولة. في حين نجد اتجاهاً آخر يتزعمه كبار رجال الصقالبة كفائق وجؤذر يميلون إلى تنحية هشام المؤيد وتولية أحد أمراء البيت الأموي مكانه، ووقع اختيارهم على شخصية جديرة بهذا المنصب معروفة بقدراتها الفذة هو الأمير المغيرة بن عبد الرحمن الناصر أخي الحكم المستنصر. ومن باب المحافظة على وحدة البلاد وعدم تفريق الكلمة، خصوصاً وأن الصقالبة يمتلكون قوة كبيرة في القصر الخلافي قد تستخدم في الإنقلاب على الخليفة الجديد، فقد اتخذ مجلس الوصاية إجراءً وقائياً سريعاً تم خلاله قتل المغيرة بن عبد الرحمن (¬39)، وتفريق أنصاره، ولم يجد الصقالبة بُداً من الطاعة والتظاهر بالرضا، وهم في الحقيقة يعدون لمؤامرة تعيد هيبتهم في البلاد ومع كشف أول خيوط هذه المؤامرة بدأ المصحفي يتحوط من غدرهم، فوضع زعمائهم تحت المراقبة الشديدة وسرح أعداداً كبيرة من الخدمة وألحقهم بخدمة محمد بن أبي عامر (¬40)، وأمر الباقين بالدخول والخروج من القصر من باب عامة الناس، بعد أن أغلق الباب المخصص لدخول الصقالبة وخروجهم (¬41). وتمت تصفية بعض العناصر الخطرة (¬42)، ونفي آخرون إلى مناطق خارج العاصمة قرطبة (¬43). وبهذه الإجراءات أمِن المصحفي وابن أبي عامر شر هذه القوة التي كانت ولسنوات عديدة صاحبة الكلمة النافذة والنفوذ الواسع في الدولة، وقد قوبل هذا العمل بارتياح من ¬_______ (¬38) يقول ابن عذاري في البيان المغرب: 2/ 260: جمع المصحفي الشخصيات التي تؤازره ومنهم زياد بن أفلح مولى الحكم وقاسم بن محمد، ومحمد بن أبي عامر وهشام بن محمد بن عثمان وآخرين غيرهم " واستدعى بني برزال إذ كانوا بطانته من سائر الجند، واستحضر سائر قواد الأجناد الأحرار وعرفهم مذهب الصقالبة في نكث بيعة هشام ... وقال لهم: إن حبسنا الدولة على هشام أمنا على أنفسنا وصارت الدنيا في أيدينا وإن انتقلت إلى المغيرة، استبدل بنا ... ". (¬39) تولى قتله محمد بن أبي عامر، ينظر: ابن عذاري 2/ 261، ابن خلدون 4/ 147. (¬40) من أخطاء الوزير المصحفي القاتلة لسلطته، أنه قام بتسريح عددٍ من الصقالبة قيل أنهم في حدود الخمسمائة صقلبي، وألحقهم في حاشية ابن أبي عامر، الذي رحب بهم وزاد في إكرامهم حتى أصبحوا من أكثر المخلصين له، ينظر، ابن عذاري: 2/ 263، ابن خلدون: 4/ 147. (¬41) كان الصقالبة يدخلون إلى القصر من باب الحديد فأغلقه المصحفي وجعل دخولهم وخروجهم من باب السدة مع بقية الناس، ابن عذاري: 2/ 262. (¬42) من أمثال دري الصقلبي الذي حاول إثارة الشغب فاستدعيَ إلى العاصمة قرطبة وتم قتله، تفاصيل ذلك في البيان المغرب 2/ 263. (¬43) نفي فائق أحد زعمائهم إلى الجزائر الشرقية.

قبل المؤرخين الأندلسيين (¬44). الذين وجدوا في نكبة الصقالبة مدخلاً لسرد مثالبهم وسيئاتهم التي أصبحت مدار حديث الجميع. والقضاء على الصقالبة كان أول خطوة من خطوات ابن أبي عامر باتجاه السيطرة على السلطة فهو الذي أغرى المصحفي بنكبتهم ومن ثم ألحقهم بحاشيته وبالغ في إكرامهم واستمال إليه أيضاً بني برزال وكانوا ضمن بطانة المصحفي، ولم يكن المصحفي ليعي أبعاد هذه السياسة التي جردته من أنصاره وحماته، ويبدو أنه عد هذا العمل حسنة من ابن أبي عامر، بعد أن ثقلت مطالب هذه الفرق المالية، مع شهرة المصحفي بالبخل والتقتير على أنصاره، وبسط ابن أبي عامر كرمه على أنصاره الذين أصبحوا أداة مخلصة لتحقيق كل أهدافه، وحاول بعد ذلك السيطرة على القوى العسكرية، والتحالف مع القوى الأخرى التي لا يستطيع بسط نفوذه عليها، فقاد خلال فترة وجيزة ثلاث حملات باتجاه الممالك الإسبانية الشمالية، أولها كانت سنة 366 هـ عندما قام القشتاليون بهجوم شديد على قلعة رباح، مما اضطر أهلها إلى طلب النجدة من حكومة قرطبة التي بدت وكأنها عاجزة عن مناصرتهم، واكتفى المصحفي بالعمل على نسف القنطرة المبنية على نهر آنة لمنع تعرض القشتاليين لهذه القلعة، وهنا برز دور ابن أبي عامر في الدعوة لتجميع القوات وإعدادها لمهاجمة قشتالة وتولى هو قيادة هذه الحملة التي دخلت أراضي جليقية، ونازل حصن الحامة فدمره وعاث في أطرافه وعاد إلى قرطبة، وقد أضاف إلى رصيده في نجاحه العسكري هذا صفة القائد العسكري الناجح إضافة إلى الصفات السياسية والإدارية التي تميز بها. ولم يكتفِ ابن أبي عامر بهذه الحملة بل أعاد الكرة ثانية بالإشتراك مع قوات غالب بن عبد الرحمن قائد الجبهة الشمالية، فخرجا من مجريط وتوغلا بقواتهما في أراضي مملكة قشتالة، وسيطرا على حصن مولة، وأصابا كثيراً من الغنائم والسبي، ثم عادت القوات إلى قواعدها الأصلية (¬45)، وقد استطاع ابن أبي عامر من كسب القائد غالب بن عبد الرحمن إلى جانبه (¬46). بعد أن عانى الأخير كثيراً من لوم المصحفي ¬_______ (¬44) عنان، دول الإسلام: 2/ 527 وعلى سبيل المثال، ينظر: ابن بسام، الذخيرة، ق 4 ج 1 ص 61، ابن عذاري: 2/ 263. (¬45) ابن عذاري: 2/ 365. (¬46) في البيان المغرب: 2/ 265 " وخدم ابن أبي عامر غالباً في سفره هذا خدمة ملك بها نفسه، فمال إليه غالب بكليته ".

واتهامه بالتخاذل عند هجوم القشتاليين على قلعة رباح (¬47)، وفي الوقت الذي فقد المصحفي فيه رجلاً كان على الحياد أصبح هذا الرجل حليفاً ونصيراً قوياً يشد عضد ابن أبي عامر في صراعه الخفي مع المصحفي خصوصاً وأن القائد غالب بن عبد الرحمن قد أصبح يحمل لقب ذي الوزارتين، وقد بدأت نتائج هذا التحالف ونتائج الانتصارات في الجبهة الشمالية تظهر سريعاً، وذلك عندما أمر الخليفة هشام (وبتحريض من ابن أبي عامر) بعزل محمد بن جعفر المصحفي عن حكم قرطبة، وتوليتها أحد أقرباء ابن أبي عامر. وقد شعر المصحفي بالمصير الذي ينتظره فحاول كسب قائد الجبهة الشمالية غالب وذلك عن طريق المصاهرة، إذ تقدم بطلب إبنة غالب لولده محمد ورغم موافقة غالب على طلبه ووعده له بتنفيذ ذلك، إلا أنه تراجع عندما حاول ابن أبي عامر منع هذه المصاهرة واختصر الطريق وتقدم هو لطلب ابنة غالب زوجة له. وبهذا فشلت آخر محاولة للمصحفي للوقوف في وجه ابن أبي عامر. وذاعت شهرة ابن أبي عامر عندما جهز القوات للجهاد في غزوته الثالثة سنة 367 هـ بالاشتراك مع صهره غالب بن عبد الرحمن فاقتحمت قواتهما المشتركة حصن المال وحصن زنبق، ونازلت مدينة شلمنقة واحتلت معظم المناطق المحيطة بها ثم عادت القوات إلى قرطبة ليبادر الخليفة بتكريم ابن أبي عامر، وتلقيبه بذي الوزارتين ورفع مرتبته إلى مرتبة صاحب الحجابة التي تولاها مع المصحفي خلال هذه الفترة غالب بن عبد الرحمن ثم عزل المصحفي بعد ذلك، وتم القبض عليه وعلى ولده محمد وابن أخيه هشام وبعض أقربائه وصرفوا جميعاً عما كان بأيديهم من الأعمال، واستصفيت أموالهم وألقي جعفر في سجن المطبق حتى وفاته سنة 372 هـ/983 م (¬48). وبالقضاء على المصحفي أصبح محمد بن أبي عامر الرجل الأول في الدولة ما دام الخليفة هشام المؤيد قاصراً عن أداء واجباته الفعلية، وقد وصل ابن أبي عامر إلى هذه المكانة عن طريق التحالف مع قوى، سانده أكثرها، واصطف إلى جانبه نكاية بالحاجب المصحفي لاستئثاره بالسلطات لا إيماناً بأفضليته عليه، وكان ابن أبي عامر يعي ذلك جيداً، ويعلم أن هؤلاء سيعملون ضده إذا ما اقتضى الأمر ذلك في يوم من الأيام (¬49)، ¬_______ (¬47) ابن بسام: ق 4 ج 1 ص 63 و 64؛ ابن عذاري: 2/ 365. (¬48) ابن عذاري: 2/ 267 وما بعدها. (¬49) أحمد بدر: 30.

لذا نراه يتخذ إجراءات متعاقبة متتالية يحصن فيها نفسه ضد مؤامرات أعدائه، ثم يخلق قوى جديدة لنفسه بدلاً من القوى التي خلقها الحكم المستنصر وتحالف هو معها، وعرف زعماؤها باسم الصنائع الحكميين، وكلما ازدادت الدعائم التي يعتمد عليها وازداد عدد الصنائع العامريين كلما زاد من استبداده، حتى أصبح السلطان المطلق للأندلس (¬50). ولم يبق أمامه من منافس غير غالب بن عبد الرحمن والد زوجته والذي كان يتمتع بسمعة رفيعة في ميدان القيادة العسكرية وعلى مستوى عموم الأندلس (¬51)، وكان المناوؤون لسياسة ابن أبي عامر يجدون في غالب الرجل المناسب للمقاومة والانتفاض (¬52)، لهذا عمد ابن أبي عامر إلى منافسة مكانة سلطان غالب برجل لا يقل عنه شجاعة وفروسية فلم يجد لذلك خيراً من جعفر بن علي بن حمدون المعروف بابن الأندلسي شدة بأس، ورباطة جأش وجلالة قدر، فاستدعاه وقواته من المغرب ومنحه لقب وزير وجعله من خاصته وأمَّره على جيش الحضرة (¬53)، مما أثار القائد غالب بن عبد الرحمن بعد أن فطن إلى ما يدبره العامري وما يهدف إليه، إضافة إلى وشاية (صبح) والدة الخليفة هشام المؤيد بابن أبي عامر ومحاولاتها لإيغار قلب غالب بن عبد الرحمن عليه، ولم يطل الأمر بين الاثنين فقد عزم على استيضاح الأمور ودعا صهره ابن أبي عامر لحضور وليمة أقامها على شرفه في مدينة انتسة، وانفرد الاثنان ودار بينهما حوار انتهى بأن سل غالب سيفه لقتل محمد بن أبي عامر الذي تمكن من الخلاص بأعجوبة واللحاق بالعاصمة قرطبة، حيث أعد قوة خاصة توجهت أولاً إلى مدينة سالم مقر غالب بن عبد الرحمن فتمت السيطرة عليها (¬54)، وهنا تشير بعض المصادر إلى محالفة غالب لبعض أمراء الإسبان الشماليين وسيره بقواته للقاء قوات ابن أبي عامر في محرم سنة 371 هـ أمام حصن شنت بجنت على مقربة من انتسة وكادت الدائرة تدور على جيش العامري لولا نهاية غالب بن عبد الرحمن بالسكتة القلبية وسقوطه في ميدان المعركة، فاختل بعدها توازن جيشه وانفلتت تعبئته وولت فصائله منهزمة في اتجاهات مختلفة (¬55). ¬_______ (¬50) أحمد بدر: 30. (¬51) يقول ابن عذاري في البيان المغرب: 2/ 278 كان غالبٌ يستطيل على ابن أبي عامر بأسباب الفروسية ويباينه بمعاني الشجاعة ويعلوه من هذه الجبهة التي لم يتقدم لابن أبي عامر بها معرفة. (¬52) عنان؛ دول الإسلام: 2/ 538. (¬53) ابن عذاري: 2/ 278؛ ابن خلدون: 4/ 147. (¬54) ابن الخطيب: أعمال الأعلام: 62. (¬55) ينظر ابن عذاري: 2/ 279؛ عنان، دول الإسلام: 2/ 539؛ أحمد بدر: 31.

وبموت غالب بن عبد الرحمن لم يعد للعامري من يخشاه في البلاد، فاتخذ لقباً خلافياً هو المنصور، ودعي له على المنابر به استيفاء لرسوم الملوك (¬56)، واستمر على تعبئة العناصر المخلصة له في الجيش من مماليك صقالبة وبربر وحرص على بقاء هذه العناصر مرتبط به شخصياً مع إغداقه عليهم الأموال والرواتب المجزية (¬57). ودبر حيلة اغتال بها جعفر بن علي بن حمدون قائد جيش الحضرة سنة 372 هـ وإعدام قاتله لكي لا ينكشف الأمر (¬58)، وهكذا تخلص ابن أبي عامر من آخر الرجال الذين أخلصوا له وقدموا له خلال صراعه مع غالب بن عبد الرحمن خدمات جليلة بعد أن وجد دور جعفر بن علي قد انتهى بموت غالب وبقاؤه حياً أمر لا مبرر له. فهو لم يعد يحتمل في دولته رجالاً من طراز جعفر بن علي قد يسببون له في المستقبل نوعاً من الإزعاج. وهكذا تخلص ابن أبي عامر من جميع منافسيه وفق مبدأ الغاية تبرر الواسطة وفي ذلك يقول ابن الخطيب السلماني: كان ابن أبي عامر آية في الدهاء والمكر والسياسة عدا بالمصحفي على الصقالبة حتى قتلهم، ثم عدا بغالب على المصحفي حتى قتله، ثم عدا بجعفر بن علي بن الأندلسي على غالب حتى استراح منه ثم عدا بنفسه على جعفر حتى أهلكه ثم انفرد ينادي صروف الدهر: هل من مبارز، فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه، فانقاد له وساعده واستقام له أمره منفرداً بسابقة لا يشاركه فيها غيره (¬59). سياسة المنصور ابن أبي عامر: أ - السياسة الخارجية: 1 - الجهاد ضد الممالك الإسبانية الشمالية: امتازت السياسة التي اعتمدها المنصور ابن أبي عامر تجاه الممالك الإسبانية ¬_______ (¬56) ابن عذاري: 2/ 279. (¬57) أحمد بدر: 31. (¬58) قال ابن عذاري في البيان المغرب 2/ 279 " ولما فرغ ابن أبي عامر من غالب، دبر الحيلة في حتف جعفر بن علي الذي أقامه أكبر معين في أمر غالب، فواطأ على قتله أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي ... في طائفة من أصحابه الأندلسيين فقتلوه غيلة، ثم قتل ابن أبي عامر بعد ذلك أبا الأحوص ". ينظر أيضاً: الصفحات 280 و 281 من الكتاب أعلاه. (¬59) أعمال الأعلام: 77.

الشمالية بطابع جهادي متميز، فقد بلغت الحملات التي سيرت إلى هذه الممالك أكثر من خمسين حملة (¬60)، ومعنى هذا أن المنصور كان يقوم بحملتين كل عام حملة في الصيف وأخرى في الشتاء وأن جميع هذه الحملات كانت تحت قيادته المباشرة (¬61)، وحقق فيها انتصارات باهرة لم يخسر معركة واحدة من معاركها (¬62)، " وكان الطابع العام لسياسته الجهادية هجومياً، بانتزاعه المبادرة من أعدائه الذين أرغموا على تغيير استراتيجيتهم العسكرية من الهجوم إلى الدفاع " (¬63). وظلت قواتهم قابعة ضمن حدودها الإقليمية بعد أن شلت حركتها باتجاه التوغل أو حتى التقرب من الحدود الدولية للدولة العربية. ذلك أن المنصور ابن أبي عامر طرق في عملياته العسكرية هذه أراضٍ لم تطرقها الجيوش العربية من قبل ولا حاولت الوصول إليها، وكانت أهدافه من ذلك إعلام حكام تلك الممالك بأن القوات العربية قادرة على أن تصل وتضرب أية نقطة من أراضيهم حينما ترى أن الضرورة تتطلب ذلك، وقد اعتمد المنصور ابن أبي عامر على قوات أعدت إعداداً جيداً كانت ثمرة النظام الذي أقره على بنية القوات العسكرية فقد كانت الفرق العسكرية قبله تنضوي تحت لواء زعيم من زعماء القبائل وتضم تلك الفرقة أبناء وموالي كل قبيلة، وكانوا يتجمعون بناء على نداء من الدولة للنصرة والتطوع في صفوف القوات العازمة على الحرب، ومنذ عصر الناصر خصوصاً بعد واقعة الخندق سنة 327 هـ -. لم تعد للعصبية القبلية أو لزعمائها مكانة وسط تنظيمات الجيش فأكمل ابن أبي عامر هدف الناصر بأن وزع الجند في مجموعات ضمن سرايا وفرق بغض النظر عن عصبية كل جندي وأمر عليهم قائداً يختاره من بين القادة، وجعل قواته من ناحية التنظيم أشبه بالقوات النظامية في العصر الحديث، مع تقرير رواتب شهرية لكل منتظم في هذه القوات وحسب موقعه ومكانته. وهذا النظام سهل أمر تجميع القوات في وقت سريع، وأصبح الجند أكثر إلتزاماً وانضباطاً من ذي قبل، ولعل نتائج هذا التنظيم تبدو جلية من خلال حملات ابن أبي عامر على الممالك الشمالية وغيرها والتي تجاوزت كما ذكرنا الخمسين حملة، أشهرها تلك التي قادها سنة 371 هـ لمهاجمة مملكة ليون قاصداً مدينة سمورة إلى الشمال من شنت مانكش والغرض تأديب ملك ليون راميرو الثالث ¬_______ (¬60) في الكامل، لابن الأثير: 8/ 667 (52 غزوة) ومثلها في كتاب العبر، لابن خلدون: 4/ 148 وفي البيان المغرب لابن عذاري: 2/ 301 (57 غزوة). (¬61) ابن خلدون: 4/ 148؛ ابن عذاري: 2/ 301. (¬62) ابن عذاري: 2/ 301؛ ابن خلدون: 4/ 148؛ المقري: 1/ 4001. (¬63) بيضون: 340؛ وينظر: عنان، دول الإسلام 2/ 540.

لتدخله في شؤون الأندلس الداخلية وإمداده للقائد غالب بن عبد الرحمن بعدد من الجند الذين قاتلوا في صفه، وقد تمكنت القوات الأندلسية من تدمير جميع القرى المحيطة بالمدينة وسحقت كل مقاومة صادفتها، ولم يتمكن راميرو الثالث من أي عمل مضاد وحده فتحالف مع كونت قشتالة وملك نافار، ولكن هذا الحلف انتهى بالإنهيار عند أول لقاء للقوات المتحاربة في مكان قريب من شنت مانكش استسلمت بعده المدينة المذكورة واستمر زحف القوات الأندلسية باتجاه عاصمة مملكة ليون ولكن حلول الشتاء وسقوط الثلوج حالا دون إتمام بقية العمليات العسكرية وعلى الرغم من ذلك فقد كان لهذا الانتصار المحدود نتائج سلبية أصابت دولة ليون في الصميم فقد خلع راميرو الثالث ونصب مكانه ابن عمه برمودة الذي اضطر إلى دفع الجزية للمنصور ابن أبي عامر. وخرج من الصراع ملك بنبلونة شانجة فخضع للدولة العربية وقدم ابنته هدية لابن أبي عامر، فعقد عليها وتزوجها (¬64). أما الغزوة الثالثة والعشرون في سنة 374 هـ فقد كان هدفها ثغر برشلونة قاعدة إمارة قطلونية حيث تم اجتياح الإقليم ومهاجمة مدينة برشلونة ودخولها بعد تدمير قوات الكونت بريل تدميراً نهائياً إلا من تمكن من الفرار. وفي سنة 376 هـ عاود المنصور الهجوم على مملكة ليون لإخلالها في بعض الشروط المفروضة عليها واستهدف الهجوم مدناً عديدة منها العاصمة ليون ومدينة قلمرية التي تم احتلالها وتخريبها. وفي سنة 378 هـ احتل سمورة وليون، وأنهى كيان هذه المملكة ثم استعاد ملكها مركزه بعد سنتين وبعد أن وادع المنصور ووافق على تنفيذ جميع الشروط المفروضة على مملكته (¬65). أما الغزوة الثامنة والأربعون في سنة 387 هـ فهي حملة جليقية وكانت حملة ذات هدفين مهمين: الهدف الأول: أن جليقية كانت تشكل خط الدفاع لقوات ليون المنهزمة. والثاني: أن جليقية كانت تضم مدينة من أشهر المدن الإسبانية وأعلاها مكانة من الناحية الدينية، تلك هي مدينة شنت ياقب (¬66). ¬_______ (¬64) هي أم ولده عبد الرحمن الملقب -شنجول- لجده شانجة. (¬65) عن هذه الإمارة: ينظر: عنان: 2/ 543. (¬66) في البيان المغرب: 2/ 294 " وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا، فبها يحلفون وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها ".

وقد استعد المنصور لهذه الحملة استعداداً عالياً فقسم قواته إلى قسمين قوة الفرسان تحت قيادته، والقسم الآخر، ضم المشاة وما يلحق بهم حمل بحراً، والتقت القوتان عند نهر دويرة وبدأت القوات الأندلسية زحفها في أراضي جليقية مطهرة مناطق ومدناً عديدة في الطريق إلى الهدف شنت ياقب التي أشرفت عليها فألفتها خالية من القوات والسكان، فدخلتها وغنمت ما تهيأ من غنائم المدينة وهدت جميع تحصيناتها ومبانيها باستثناء ضريح (القديس يعقوب) الذي تنسب إليه المدينة فقد أمر المنصور بإعماره ورعايته وفي طريق العودة استسلمت له عدة مدن مشهورة منها مدينة كرونيا ومدينة لاميجو (¬67). وأمام هذه الانتكاسات التي أصابت الممالك الإسبانية الشمالية في الصميم، حاول حاكم قشتالة سانشو غرسية في سنة 390 هـ معالجة حالة التردي هذه بتشكيل جبهة قتالية بزعامته ومساعدة أمراء البشكنس وملك ليون وتعاهدوا على المقاومة والثبات، وقاموا بأول عمل مضاد فسيروا قواتهم إلى وادي نهر دويرة الأدنى للتمكن من التحصن في الجبال، فسارع ابن أبي عامر على لقاء قوى التحالف واتجه إلى أراضي قشتالة ومنها نفذ إلى المنطقة التي تحصنت بها قوات المتحالفين، وهنا رأى سانشو أن خطة الهجوم المفاجئ قبل أن يثبت المنصور أقدامه على الأرض، تحقق له ولقواته وضعاً عسكرياً يحقق إنزال أفدح الخسائر بالجيش المقابل وفعلاً نجحت خطته، وكاد الأمر ينتهي لصالح القوات المتحالفة، لولا رد قوات المنصور بهجوم مقابل شديد شتت شمل فرق المتحالفين وأجبرهم على الارتداد والهزيمة، واستمر المنصور في تقدمه حتى وصل مدينة برغش عاصمة قشتالة واستباحها. وظلت قواته تكيل الضربات وفي اتجاهات مختلفة حتى طرقت بنبلونة عاصمة مملكة نافار، ولم تتمكن قوات هذه الممالك من صد الهجمات القاسية والمتلاحقة لقوات المنصور فأذعنت لأوامره وشروطه (¬68). 2 - سياسة المنصور ابن أبي عامر تجاه المغرب: كانت سياسة الأندلس تجاه بلاد المغرب مركزية لا تتغير بتغيير الحكام وهي تقوم أساساً على اعتبار السواحل المقابلة للأندلس بمثابة حزام أمان للأندلس، يجب الحفاظ ¬_______ (¬67) ابن عذاري: 2/ 294 وما بعدها؛ عنان، دول الإسلام: 2/ 560 و 561. (¬68) ابن الخطيب، أعمال الاعلام: 69.

على تبعيتها وولائها لحكومة قرطبة مهما كانت الأسباب، واعتبار مضيق جبل طارق جزءاً لا يتجزأ من الأندلس. وقد مر سابقاً وصف أحوال المغرب العربي في عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله وكيف تمكنت قوات الأندلس البحرية من كسر شوكة الحسن بن كنون زعيم الأدارسة سنة 363 هـ، وإجباره على السكن في العاصمة قرطبة، قبل أن يسمح له الحكم بعد ما يقرب من سنتين بمغادرة الأندلس إلى مصر، بعد أن أخذت منه المواثيق والعهود بعدم القيام بأي عمل مضاد من شأنه أن يسبب قلقاً لحكومة قرطبة في المغرب. وفي عهد الحكم أيضاً تم توسيع دائرة نفوذ الأندلس في المغرب، مما بات يهدد نفوذ الفاطميين وُيؤذن بإزالته نهائياً، لذا عاود الفاطميون في سنة 368 هـ (¬69) سياستهم القائمة على رد الاعتبار واستعادة المناطق التي خسروها سابقاً، فأوعزوا إلى نائبهم بلكين بن زيري الصنهاجي للقيام بسلسلة من العمليات العسكرية لاستخلاص المدن المهمة والمناطق الحيوية لنفوذهم، وفعلاً تم الاستيلاء على مدينة فاس سنة 369 هـ، والانتصار على قبائل زناتة في سلسلة من المواقع، ألجأتهم أخيراً إلى المناطق الساحلية: سبتة وطنجة ومليلة التي ظلت في أيدي الأندلسيين (¬70)، وأمام هذا المد الذي وسع دائرة نفوذ خلفاء الدولة الفاطمية، والجزر الذي أصاب حلفاء حكومة قرطبة، قرر المنصور ابن أبي عامر العمل بسرعة على استعادة ما فقده في هذه البلاد، فأرسل إلى ميدان المعركة القائد المشهور جعفر بن علي المعروف بالأندلسي واستمرت الإمدادات بالقوات والسلاح متواصلة لإدامة عوامل الصمود، حتى أجبرت بلكين بن زيري لتعديل خططه والارتداد عن المناطق الساحلية المذكورة، فسار باتجاه مدينة البصرة التي تعرضت للدمار، وهاجم قبائل برغواطة وقتل زعيمها وسبى أعداداً كبيرة منهم، ثم دخل سجلماسة واغتال زعيمها خزرون بن فلفل، ثم قفل راجعاً إلى المغرب الأدنى بعد أن مكن نفوذ الفاطميين في المناطق التي تم تطهيرها. وتعد هذه الحملة آخر الحملات الكبيرة التي قام بها الفاطميون لبسط نفوذهم على المغرب العربي وهي على الرغم من سعة الأراضي التي اكتسحتها ومدى الخراب الذي أحدثته لم تكن ذات أثر فعال في إعادة النفوذ الفاطمي إلى المغرب الأقصى، فقد عاد ¬_______ (¬69) كان الفاطميون في عهد العزيز بالله مشغولين برد القرامطة عن مصر والشام، وعندما تمت هزيمتهم، تفرغوا لشؤون المغرب من جديد. (¬70) الناصري: الاستقصاء: 1/ 207.

نفوذ قرطبة إلى ما كان عليه إثر عودة الحملة، وكان الزناتيون أداة هذا النفوذ، فقد عادوا للانسياح في أرجاء المغرب الأقصى والسيطرة على قواعده، وعندما حاول نائب الخليفة الفاطمي الجديد، وهو المنصور بن بلكين بن زيري، استعادة ما فقده ... هزمه الزناتيون تحت قيادة زعيم زناتي جديد بدأ نجمه بالصعود وهو زيري بن عطية حفيد عبد الله بن خزر (¬71)، الذي كان بدوره أخاً لمحمد بن خزر الزعيم المغراوي الذي انضوى تحت لواء الأمويين في أيام الناصر لدين الله، وأقلع المنصور بن بلكين بعد ذلك عن مهاجمة المغرب الأقصى (¬72)، غير أن الفاطميين أرسلوا إلى المغرب الأقصى الحسن بن كنون ولم يكن إرساله بديلاً عن القوات العسكرية ووسيلة لاستعادة نفوذهم بقدر ما كانت عملية لتعكير الأمن على حكومة قرطبة في هذه المناطق (¬73). فقد وصل الحسن بن كنون إلى المغرب الأقصى في سنة 373 هـ معززاً ببعض القوات الفاطمية (¬74)، والتفت حوله مجاميع أخرى من قوات البربر لاسيما بنو يفرن الزناتيين، ولكن قوات المنصور ابن أبي عامر تمكنت من إجهاض هجومه ومحاصرته ثم إجباره على الاستسلام واقتيد إلى قرطبة (¬75)، ولكنه اغتيل بالطريق إليها بتدبير من ابن أبي عامر في سنة 375 هـ/985 م (¬76). وقد تولى أمر المغرب الوزير الحسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي، وأصبح زيري بن عطية المغراوي بمثابة المستشار في أموره، وعند وفاة الحسن سنة 381 هـ انتقلت ولاية المغرب إلى زيري بن عطية الذي عرفت عنه سياسته في ضبط الأمور والسيطرة على البلاد سيطرة تامة (¬77)، خصوصاً بعد انتصاره على بني يفرن وقتل زعيمهم يدو بن يعلي سنة 383 هـ، وعلى الرغم من أن المنصور كافأ زيري بن عطية على خدماته ومنحه لقب (وزير) غير أن الأخير لم يكن قانعاً بهذا اللقب والذي لم يعد (حسب رأيه) ليتوازن مع أعماله التي قدمها للمنصور ابن أبي عامر وكان يطمح إلى لقب الإمارة، وذلك هو ما سعى إليه عندما بدأ بتأسيس مدينة خاصة به وهي مدينة وجدة (¬78). وعني ¬_______ (¬71) تفاصيل ذلك في البيان المغرب، لابن عذاري 1/ 249. (¬72) أحمد بدر: 99 و 100. (¬73) أحمد بدر: 100. (¬74) في الاستقصا، للناصري: 1/ 203 كانت بحدود ثلاثة آلاف فارس. (¬75) ابن عذاري: 20/ 281. (¬76) ابن عذاري: 2/ 281؛ الناصري: 1/ 204. (¬77) الناصري: 1/ 209. (¬78) جنوب شرقي مليلة.

بتحصينها ثم انتقل إليها بخاصته ورجاله سنة 386 هـ/996 م (¬79). غير أن التطورات المفاجئة بين المنصور ابن أبي عامر وابن عطية قلبت العلاقات الودية بين الطرفين ودفعت زعيم زناتة إلى التمرد وإعلان العصيان (¬80) ولا نكاد نلمح في سطور الروايات التاريخية التي دونت أخبار هذا التمرد أي تسويغ مقبول لخروج الزعيم الزناتي على السلطة المركزية باستثناء ما قيل من أن أسباباً اقتصادية كانت وراء نفوره، أو ما قيل عن استخفافه بلقب الوزارة الذي منحته إياه حكومة قرطبة. فقد وجد حسب تعبير الرواية تقليلاً من وزنه السياسي بوصفه أميراً ينتمي إلى قبيلة كبيرة، غير أن هذه المصادمة إن صح وقوعها بين المنصور وزيري، لا تصلح لأن تكون مقدمة ثورة شاملة تستقطب البربر، لو لم تكن لها أبعاد سياسية ورواسب تاريخية معروفة، حدت به إلى التمرد ضد الوصاية العامرية، فقد شعر زيري بقوته من خلال القاعدة الشعبية التي التفت حوله من سواد قبائل البربر، حيث استهواها دائماً الاستقلال بشؤونها السياسية والإقتصادية، وكان زيري بشخصيته الذكية قد احتل مكانة عالية لدى جماعته من البربر فتحول بنظرهم إلى قائد شعبي، تتجسد فيه آمالهم البعيدة في السيادة والاستقلال (¬81) وبدأ زيري بن عطية بتنفيذ ما عزم عليه فاكتفى بذكر اسم الخليفة هشام في خطبة يوم الجمعة فقط، وأسقط اسم المنصور، وطرد عماله من المغرب وتمكنت قواته من دحر قوات القائد واضح في وادي زارات جنوبي طنجة، ولكن انتصاراته لم تسفر عن نتائج فعالة فقد أعادت القوات الأندلسية الكرة على قواته في سنة 387 هـ وتمكنت من الانتصار عليها بوادٍ من أحواز طنجة وطاردت فلولها حتى مدينة مكناسة، ففر إلى العمق الصحراوي مع بعض فرقه المنهزمة، وتمكنت قوات الأندلس من تطهير مدينة فاس سنة 388 هـ وإعادة المناطق التي اختلت طاعتها بخروج ابن عطية (¬82). وفي سنة 391 هـ عاد زيري بن عطية إلى ولائه وكاتب المنصور بهذا الأمر فعفى عنه وحسنت سيرته حتى وافاه الأجل في السنة نفسها فخلفه على حكم المغرب ولده المعز الذي أعلن سياسة الولاء للمنصور ابن أبي عامر ثم لابنه عبد الملك المظفر من بعده (¬83). ¬_______ (¬79) الناصري: 1/ 213. (¬80) عنان: دول الإسلام 2/ 557. (¬81) بيضون: 348، وينظر: العبادي 238. (¬82) ابن عذاري: 1/ 252. (¬83) ابن عذاري: 1/ 253.

3 - العلاقات الدبلوماسية: ظلت العلاقات الودية قائمة بين الأندلس والإمبراطورية البيزنطية فقد عاصر المنصور الإمبراطور بازيل الثاني (976 - 1025 م) الذي يعد عصره الطويل من أزهى عصور هذه الإمبراطورية. وظلت أيضاً علاقة الأندلس بألمانيا علاقة صداقة وسلام رسختها رغبة الطرفين في استمرار تلك العلائق، وكان إمبراطور ألمانيا أوتو الثالث 983 - 1002 م قد سار على نهج أسلافه في إقرار عرى التعاون المشترك بين البلدين. أما علاقات الأندلس الدبلوماسية مع ملوك وأمراء إسبانيا الشمالية فلم تكن لترقى إلى مستوى العلاقات الودية إلا في ظروف عجزت معه هذه الممالك عن مقاومة جيوش المنصور ابن أبي عامر، فتم عقد المصاهرة بين المنصور وبين ملك نبرة شانجة عندما تزوج الأول إبنة الأخير. أما العلاقات مع قشتالة، فقد عاصر المنصور ابن أبي عامر اثنين من حكامها فرناند وابنه سانشو وكلاهما لقي الكثير من الهزائم أمام قوات المنصور فالأول انتهت حياته في الأسر والثاني اضطر إلى عقد اتفاق مذل مع المنصور ابن أبي عامر أعلن فيه خضوعه وولاءه التام له (¬84). - السياسة الداخلية: 1 - علاقة المنصور مع الخليفة هشام المؤيد: استمر الحجر على الخليفة هشام المؤيد ومنعت تحركاته إلا بمعرفة المنصور ابن أبي عامر، وهي سياسة دأب عليها أولاده عبد الملك وعبد الرحمن من بعده وظل الخليفة المؤيد اسماً مجرداً في سلسلة خلفاء الأندلس، ورمزاً تمارس باسمه جميع السلطات لاكتساب الشرعية (¬85). وإذا كان المنصور قد اختار مناسبات معينة لظهور الخليفة بموكبه المعروف، فإنه كان يقصد أول ما يقصد الرد على تقولات المروانيين وبعض الإشاعات التي تبث في العاصمة عن سجن الخليفة بقصره وعدم السماح له بالظهور وسط العامة (¬86). ¬_______ (¬84) العبادي: ج 246 و 247. (¬85) يقول ابن عذاري: 2/ 278 " وأشاع ابن أبي عامر أن السلطان فوض إليه النظر في أمر الملك وتخلى عنه لعبادة ربه، وانبث ذلك في الرعية حتى اطمأنوا إليه ". (¬86) ينظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام: 76.

2 - العلاقة مع الفقهاء: خطب المنصور ابن أبي عامر ود طبقة الفقهاء، وحاول كسب رضاهم ربما كتعويض عن اغتصابه السلطة، أو نتيجة لنشأته الدينية ودراسته على أشهر فقهاء العصر ومع ذلك فقد ظلت مسألة استبداده بالأمور وتمجيد شخصيته محوراً للخلاف بينه وبينهم، غير أن الخلاف لم يكن ليصل إلى حد القطيعة والصدام كما حدث للحكم بن هشام الربضي مع فقهاء عصره، لأن كل طرف من هذه الأطراف لم يكن يريد أن يتحدى الآخر بالشكل الذي يؤدي إلى هذه النتائج، والمنصور ابن أبي عامر من جانبه كان حريصاً على أن يضيف إلى أعماله نوعاً من الشرعية المدعمة بفتوى الفقهاء، أما الفقهاء فعلى الرغم من أنهم لم يسكتوا على أعمال المنصور إلا أنهم سايروه في البعض منها على قناعتهم بعدم انسجام تلك الأعمال والأفعال مع مذهب الإمام مالك مذهب أهل الأندلس (¬87). وعلى الرغم من كل هذه العلاقة التي تبدو ودية في أكثر من جانب إلا أن عصره لم يخل من فقهاء حاولوا التصدي لمشاريعه السلطوية ومنهم على سبيل المثال قاضي قضاة الأندلس محمد بن إسحاق بن منذر بن أبي عكرمة المتوفى سنة 367 هـ (¬88) المتولي بعد وفاة البلوطي. وقامت حركة أخرى كان على رأسها عبد الملك بن منذر بن سعيد البلوطي كانت تدعو إلى تولية عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر ابن عم هشام المؤيد واغتيال هشام المؤيد والحاجب المنصور ابن أبي عامر، وقد اشترك في هذه الحركة عدد كبير من كبار الموظفين في الدولة ونخبة لا بأس بها من مشهوري الفقهاء، ولكن الأمر انتهى بكشف خيوط الحركة قبل التنفيذ وتم القبض على عبد الملك بن منذر البلوطي فحكم عليه بالإعدام على الرغم من معارضة الفقهاء ولكن العامري نفذ الإعدام فيه سنة 368 هـ (¬89) واكتفى بسجن الآخرين. ويظهر أن إعدام ابن منذر البلوطي وسجن الباقين ليس مرده لزعامة البلوطي للفتنة فقط، بل لكونه معتزلياً، الأمر الذي يجعل إعدامه لا يثير ردود فعل سلبية بقدر ما له من نتائج هي في صالح المنصور ابن أبي عامر وذلك لكره أهل ¬_______ (¬87) أحمد بدر: 35؛ بيضون: 338. (¬88) ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس: 2/ 76؛ النباهي؛ 75. وينظر: أحمد بدر: 36. (¬89) قال ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس: 1/ 275 " بالذي عزيَ إليه من النكث فصلب على باب سدة السلطان يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة سنة 368 هـ ".

الأندلس الشديد للمعتزلة (¬90). ومن الفقهاء الذين عارضوا رغبات المنصور غير المسوغة قاضي القضاة محمد بن يبقى بن زرب المتوفى سنة 381 هـ فقد روى النباهي أن المنصور ابن أبي عامر أراد إقامة الصلاة الجامعة في مسجد الزاهرة فعارضه القاضي المذكور وعد ذلك من الأمور التي لا تصح شرعاً مع وجود مسجد للجماعة (¬91). ومهما يكن من أمر فإن علاقة المنصور ابن أبي عامر مع فقهاء عصره هي علاقة ود وانسجام " وهي ظاهرة مميزة في تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، حيث قام لأول مرة توازن في العلاقة بين الدولة ورجال الدين، ولعلنا لا نتعارض مع الحقيقة في تقدير حجم الفقهاء الذين استمدوا قوتهم من التشدد في المذهب المالكي المحافظ، ومن المركز المعنوي الذي كان لهم بين طبقات الشعب في الأندلس، وانطلاقاً من هذا الموقع كانت المصادقة الدائمة على النفوذ بينهم وبين السلطة الزمنية، فإما أن تسود كلمتهم كما حصل في عهود هشام الأول وعبد الرحمن الثاني والحكم المستنصر أو يعيشوا في الظل كما في عهود الأقوياء من الحكام ... وهكذا فإن العامري كان الحاكم الوحيد الذي بنى علاقات متكافئة بينه وبين الفقهاء، فلم يحاول تحجيم نفوذهم رغم سلطته المطلقة من جهة ولم يفتح لهم أي نافذة للتدخل في شؤون الحكم من جهة أخرى " (¬92). 3 - تغيير بنية الجيش: أعاد المنصور ابن أبي عامر تنظيم القوات المسلحة تنظيماً جديداً كفل له بالتالي نتائج إيجابية على المستويين الداخلي والخارجي، وتنظيماته تقوم أساساً على جعل القوات المسلحة وحدة نظامية متماسكة خاضعة لقيادة عليا، وإلغاء النظام القديم الذي يقوم على الأساس القبلي أو العنصري، كما ألغى النظام الإقطاعي العسكري، وأصبح جيشه جيشاً نظامياً يتكون من فرق عديدة على رأس كل فرقة منها قائد أعلى ينوب عنه عدد من القادة الآخرين وحسب التشكيلات التي تتكون منها الفرقة العسكرية، ولكل منتسب راتب شهري مقرر حسب رتبته وموقعه. ¬_______ (¬90) أحمد بدر: 37 و 38. (¬91) المرتبة العليا: 77. (¬92) بيضون: 338 و 339.

وصنوف القوات المسلحة في عهده كما هي الحال في عهود من سبقه من أمراء وخلفاء بنو أمية تتكون من صنفين أساسيين هما المشاة وهي القوة الضاربة في الجيش، والفرسان (¬93) الذين يعدون من الصنوف الفاعلة في كل موقعة من المواقع. 4 - بناء الزاهرة: اقتفى المنصور ابن أبي عامر أثر الخليفة عبد الرحمن الناصر عندما شرع في بناء مدينة خاصة به سنة 368 هـ/978 م اتخذت اسم الزاهرة، والدوافع إلى بناء هذه المدينة لا تختلف كثيراً عن الدوافع التي حدت بالخليفة الناصر إلى تأسيس مدينة الزهراء، وهي تمجيد عصورهم بمنشآت مميزة، دلالة على العزة والسلطان الواسع (¬94). والسبب المضاف ما ذكره ابن عذاري بقوله: " أمر المنصور ابن أبي عامر ببناء قصره المعروف بالزاهرة وذلك عندما استفحل أمره، واتقد جمره وأظهر استبداده، وكثر حساده وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان وخشي أن يقع في أشطان، فتوثق لنفسه، وكشف له ما ستر عنه في أمسه، من الاعتزاز عليه، ورفع الاستناد إليه ... " (¬95). وقد تم بناء الزاهرة في سنة 370 هـ/979 م وانتقل إليها المنصور بحاشيته وخاصة من الحرس، وشحنها بأنواع الأسلحة (¬96)، ثم نقل إليها خزينة الدولة ودواوينها، وأقطع ما حولها لكبار رجالات الدولة من عسكريين ومدنيين فساروا سيرته وابتنوا القصور الفخمة وعمروا المنتزهات الواسعة. وتنافس العامة في البناء حولها حتى اتصلت عمائرها بالعاصمة قرطبة (¬97). ولم تعمر مدينة الزاهرة طويلاً فقد كان عمرها رهيناً بعمر الدولة العامرية فما أن قتل عبد الرحمن الملقب شنجول حتى عم الخراب عمائر هذه المدينة ونهبت قصورها وانتهت رسومها في الفوضى التي عمت البلاد سنة 399هـ (¬98)، واندثرت بهذا التخريب تلك المدينة اندثاراً يختلف عن ذلك الذي حل بالزهراء إذ عثر على الكثير من قطع ¬_______ (¬93) في البيان المغرب: 2/ 301 " كان عدد الفرسان المرتزقين بحضرته ونواحيها الذين حارب بهم الحروب عشرة آلاف وخمسمائة وأجناد الثغور قريباً من ذلك ". (¬94) يقول ابن عذاري: 2/ 275 " وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه ... ". (¬95) ابن عذاري: 2/ 275؛ المقري: 1/ 578. (¬96) ابن عذاري: 2/ 275؛ ابن خلدون: 4/ 148. (¬97) ابن عذاري: 2/ 276؛ المقري: 1/ 579. (¬98) ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 110 وما بعدها.

المدينة الأخيرة مبعثرة في بلدان أخرى، وتم التعرف عليها بفضل ما عليها من كتابات، بينما لم يبق شيء من مأثر الزاهرة ... سوى حوض من المرمر، مكسور وغير كامل، وصل إلى إشبيلية ويحفظ الآن في المتحف الوطني بمدريد ... كما أنه لم يبق من الزاهرة فيما بعد أي صدى في التقاليد المحلية، لذا اختلف في تحديد مكانها (¬99). مات المنصور ابن أبي عامر في رمضان سنة 392 هـ وهو ابن خمس وستين سنة (¬100) بعد أن تولى تدبير الأمر فترة تقارب خمساً وعشرين سنة، اختصر فيها منجزات عهود، فقد كان عبقرية فذة تمثل ذروة النبوغ الشعبي والطموح الفردي (¬101) خرج من صفوف الطبقة الوسطى " وشق طريقه بساعده وهمته إلى السلطان والرئاسة ولم تسعفه في ذلك نشأة ملوكية، أو انقلاب عنيف، ولم يكن عزمه في بلوغ ذلك أقل شأناً من تألق طالعه، وقد وصل المنصور إلى مرتبة من السلطان والقوة لم يصل إليها أحد قبله من أعاظم أمراء الأندلس حتى ولا عبد الرحمن الناصر نفسه، ويمكننا أن نقول أنه إذا كان عهد الناصر ألمع صفحة في تاريخ الأندلس، من النواحي السياسية والحضارية فإن عهد المنصور لا يقل عنه لمعاناً وتألقاً بل ربما امتاز على عهد الناصر بما أحرزته خلاله الدولة العربية من تفوق عظيم في السلطان والقوى العسكرية في شبه الجزيرة الإسبانية. فقد استطاعت الممالك الإسبانية الشمالية في عهد الناصر، أن تنتهز فرصة الفتن الداخلية بالأندلس، وأن توطد قواها العسكرية، وأن تغزو الأندلس غير مرة غزوات مخربة، وقد لقي الناصر على يد النصارى غير هزيمة فادحة، أما في عهد المنصور، فقد انتهت الممالك الإسبانية إلى حالة يرثى لها من التفكك والضعف، واستمرت زهاء ثلث قرن تتلقى ضربات المسلمين الساحقة المتوالية، وقد وصل المنصور في غزواته في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى مواطن لم يبلغها فاتح مسلم من قبل " (¬102). وعلى الرغم من كل ذلك فقد كان المنصور جزعاً على مستقبل دولته التي بناها بالطموح والإرادة القوية، وإدراك أنها لن تعيش طويلاً بعد رحيله ذلك أن حيوية الدولة وديمومتها ارتبطت بشخصه ارتباطاً وثيقاً صعب على خلفائه مجاراة الأمور بنفس السياسة والأسلوب. فعلى الرغم من حزم خليفته عبد الملك الملقب بالمظفر واتباعه في معظم الأمور ¬_______ (¬99) أحمد بدر: 156. (¬100) ابن عذاري: 2/ 301 " وعمره خمس وستون سنة وعشرة أشهر ". (¬101) عنان: دول الإسلام: 2/ 568. (¬102) عنان: 2/ 568.

المركزية سياسة والده المنصور، إلا أنه فشل في جوانب هامة كان لها أكبر الأثر في هدم تراث العامريين السياسي في الأندلس. فعبد الملك بن المنصور ابن أبي عامر لم يخالف سياسة والده أو سياسة الدولة المركزية اتجاه المغرب والحفاظ على مناطق النفوذ والدفاع عنها حتى ما تطلب الأمر ذلك. وظلت العلاقة مع الممالك الإسبانية الشمالية تتراوح بين الصراع الحربي والوفاق المشوب بالحذر (¬103) كما استمرت العلاقة الودية مع بعض ملوك العصر (¬104). والظاهرة البارزة في عهده هي تناحر كبار رجال الدولة وتسابقهم للاستحواذ على السلطة في وقت بدى فيه عبد الملك بن المنصور ابن أبي عامر مشغولاً بأمور بعيدة عن مصلحة الدولة ففوض بعض سلطاته لكبار موظفيه كطرفة الصقلبي وعيسى بن سعيد أحد وزرائه، وأفضى هذا التفويض إلى تسابق الطرفين للسيطرة على أهم السلطات حتى بدأت دولته وكأنها تتحرك من خلال شخصيتين متنافرتين وباتجاهين مختلفين (¬105)، وإذا استطاع طرفة الغلبة في بداية عهده فإن الوزير ابن سعيد سعى به لدى عبد الملك بن المنصور ابن أبي عامر، وحسب عليه أموراً عديدة، حتى أقنع عبد الملك بخطورة تسلط طرفة الصقلبي الذي نفي إلى الجزائر الشرقية سنة 394 هـ (¬106). وهكذا نجحت خطط الوزير ابن سعيد بالقضاء على أقوى منافسيه فتبؤا مكانة مرموقة وأصبح الوزير المفوض في معظم أمور الدولة (¬107)، حتى أصبحت تلك السلطات نقمة عليه حين سعى بدوره إلى التآمر لقلب نظام الحكم، وتولية أحد الأمراء الأمويين خليفة على البلاد، وقد كشفت المؤامرة قبل تنفيذها فحكم عليه وعلى أعوانه بالإعدام سنة 397 هـ (¬108). استمر عبد الملك بن المنصور ابن أبي عامر في الحجابة سبع سنوات إلى أن توفي سنة 399 هـ/1009 م. وناب عنه في منصب الحجابة أخوه عبد الرحمن الملقب شنجول، ولم يكن عبد الرحمن الشخصية التي يمكن أن تملأ الفراغ الذي تركه أخوه عبد الملك المظفر، فقد عرف عنه قلة الذكاء والتهور، وبدأ عصره فخالف سياسة والده وأخيه ¬_______ (¬103) ابن عذاري: 3/ 3 وما بعدها. وأحصى ابن عذاري لعبد الملك سبع غزوات باتجاه مدن وقلاع الممالك الإسبانية الشمالية. (¬104) ابن عذاري: 3/ 10. (¬105) ابن بسام: ق 4 ج 1: 50. (¬106) ابن بسام: الذخيرة: ق 4 ج 1: 52. وينظر؛ ابن عذاري 3/ 26. (¬107) ابن عذاري: 3/ 27 وما بعدها. (¬108) تفاصيل ذلك في البيان المغرب: 3/ 31.

بالتقرب من الخليفة المحجور عليه هشام المؤيد، وأفرط في ملازمته والتردد إليه، حتى أنعم عليه الخليفة بلقب المأمون، مما أثار استنكار الكثير من العناصر القرطبية التي بدأت تتساءل عن معنى منح هذا اللقب في الوقت الذي لم يروا من عبد الرحمن شنجول أي عمل أو خدمة عامة يستحق عليها مثل هذا التكريم. ثم أعقب هذا اللقب مرسوم خلافي (¬109) بتولية عبد الرحمن شنجول ولاية العهد وقرأ المرسوم أمام كبار رجال الدولة وزعماء الطوائف في البلاد (¬110)، وكان لهذا القرار آثاره الخطيرة على كيان العامريين بصورة خاصة والدولة بصورة عامة فبدأ المروانيون ومن والاهم بالعمل على قلب نظام الحكم واستغلال أمثل الظروف لتحقيق أهدافهم، وسنحت الفرصة عند خروج عبد الرحمن شنجول لحرب قشتالة (¬111)، وخلو العاصمة من معظم القوات النظامية فثار محمد بن هشام حفيد عبد الرحمن الناصر المقلب بالمهدي (¬112)، في 16 جمادى الآخرة سنة 399 هـ/1009 م وسيطر على قصر الخليفة هشام المؤيد، الذي أعلن تنازله عن الخلافة ليتولاها محمد بن هشام مكانه، الذي أتم السيطرة على مدينة الزاهرة فاستبيحت ونهبت خزائنها وأحرقت حتى لم يبق المهاجمون على أثر يذكر لعمائر وذخائر المدينة العامرية المذكورة. وعندما وصلت أخبار الانقلاب إلى عبد الرحمن شنجول، ارتد بقواته إلى قلعة رباح، وأعلن تنازله عن ولاية العهد، ودعا إلى نصرة الخليفة هشام المؤيد لكن نداءاته وإجراءاته كانت متأخرة جداً، فأسقط في يده عندما تفرق عنه معظم جنده وانتهى أمره أخيراً بالإعدام في السنة نفسها (¬113). وهكذا أسدل الستار على الدولة العامرية، بسرعة لم تكن متوقعة؛ فقد تولى عبد الرحمن شنجول الحكم، والدولة محكمة النظام موطدة الدعائم، ولم تمضِ أكثر ¬_______ (¬109) نصه في البيان المغرب: 3/ 44، أعمال الأعلام - القسم الثاني: 91. وينظر: ابن خلدون: 4/ 148 و 149. (¬110) ابن عذاري: 3/ 47، ابن خلدون: 4/ 148. (¬111) خرج عبد الرحمن شنجول في ظروف مناخية غير ملائمة لمثل هذه الحملات، فالوقت كان شتاءً قاسياً ولا يسمح بتوغل القوات في الأراضي القشتالية، إضافة إلى نصح المقربين إليه بعدم ترك العاصمة قرطبة فى وقت بدأت فيه العناصر المناوئة تستعد لإعلان ثورتها. (¬112) قتل والده في عهد عبد الملك المظفر عندما دبر مؤامرة لقلب نظام الحكم وبمساعدة الوزير عيسى بن سعيد. (¬113) ابن عذاري: 3/ 249؛ ابن خلدون: 4/ 149.

من ثلاثة أشهر حتى انهار ذلك الصرح الشامخ الذي شاده المنصور محمد بن أبي عامر ولبث خمسة وثلاثين عاماً ينشر الأمن والرخاء على عموم بلاد الأندلس (¬114). وتتحدد الأسباب الجوهرية في انهيار الدولة العامرية بما يأتي: 1 - النظام التسلطي القاسي الذي فرضه المنصور ابن أبي عامر على الأندلس واستمرار هذا النظام في عهد أولاده عبد الملك وعبد الرحمن من بعده. 2 - سوء سياسة عبد الرحمن شنجول وسعيه إلى نيل الألقاب السلطانية وإجبار الخليفة هشام المؤيد على إصدار المراسيم الخاصة بذلك. 3 - تجرؤ عبد الرحمن على اكتساب ولاية العهد، وكان لذلك " أسوأ الوقع في نفوس قوم جبلوا على تقديس شعائر الخلافة وحقوقها الشرعية " (¬115). ¬_______ (¬114) عنان: 2/ 638. (¬115) عنان: 2/ 628.

الباب الرابع [سقوط الخلافة وفكرة عن دويلات الطوائف]

البَابُ الرَّابِع [[سقوط الخلافة وفكرة عن دويلات الطوائف]] الفصل الأول: سقوط الخلافة في الأندلس الفصل الثاني: فكرة عامة عن دويلات الطوائف الدكتور ناطق صالح مطلوب 1 - الفصل الثالث: عصر المرابطين وعصر الموحدين أ - الأندلس ولاية مرابطية ب - الأندلس ولاية موحدية 2 - الفصل الرابع: عصر مملكة غرناطة 3 - الفصل الخامس: المسلمون بعد سقوط غرناطة الدكتور خليل إبراهيم السامرائي

الفصل الأول سقوط الخلافة

الفَصْلُ الأَوَّل سقوط الخلافة بتولية المهدي الخلافة، بدأت القوى المختلفة تحاول الحصول على أسلاب الدولة المنهارة، فقد كان بنو أمية يرون أنهم أصحاب الحق الشرعي في الخلافة، وكان هناك صنائع الدولة العامرية، وأنصارها من الصقالبة ومواليها من الجنود المرتزقة، وكان البربر قد تضخم عددهم في أواخر عصر المنصور ابن أبي عامر، واستقر العديد من زعمائهم في الأندلس، إضافة إلى قوة العامة من أهل قرطبة الذين ساندوا المهدي ونصروه على خصومه، وكانت هذه القوة كثيرة الأهواء والنزعات (¬1)، ولم يتمكن المهدي في كثير من الأحيان السيطرة عليها أو كبح جماح زعمائهم الذين بدأوا أعمالاً كانت مثار استنكار معظم القوى في البلاد، بعد ما عرضوا أمن البلاد إلى الخطر، وأصابوا العاصمة قرطبة بمزيد من الخراب والدمار. وكانت دولة محمد بن هشام المهدي تقوم على حد قول ابن عذاري: على " جنود من العامة المحشودة عورض بها أجناد السلطان أهل الدربة والتجربة، ونكوب وزراء جلة، ونصب أضدادهم تقتحم العين هجنة وقماءة، وجرى هذا كله على يدي بضعة عشر رجلاً من أراذل العامة حجامين وخرازين وكنافين ... " (¬2). وقد بدأ المهدي عصره باضطهاده البربر لأنهم كانوا -حسب رأيه- من المؤازرين للدولة العامرية، فأساء معاملتهم وضيق على زعمائهم عند الدخول إليه، وسعى إلى الحط من مكانتهم لسبب أو لغير سبب، مما شجع الغوغاء من العامة على نهب بعض ممتلكاتهم والاعتداء على حرماتهم، وعلى الرغم مما قيل من أن السلطة حاولت السيطرة على مثل هذه الأعمال، ومعاقبة القائمين عليها، وقدمت اعتذارها لزاوي بن ¬_______ (¬1) عنان: دول الإسلام: 2/ 642، 643. (¬2) البيان المغرب: 3/ 74.

زيري، وحبوس بن ماكسن وغيرهما من زعماء البربر، إلا أن هؤلاء لم يأمنوا جانب السلطة، وبدأوا يتوجسون من المهدي وأنصاره خيفة احتاطوا لها استعداداً لكل طارئ. وكان من أعمال المهدي أيضاً إجلاء أعداد كبيرة من الفتيان الصقالبة عن العاصمة قرطبة، فلجأوا إلى مناطق الأندلس الشرقية، واستثنى منهم الفتى واضح صاحب مدينة سالم الذي أقره المهدي على ولايته. كما أصابت إجراءاته الخليفة هشام المؤيد، الذي سجن في القصر أولاً ثم نقل إلى أحد دور العاصمة، ثم اصطنع بعد ذلك قصة موته في اليوم السابع والعشرين من شعبان سنة 399 هـ. وتمادى المهدي في سياسته العنيفة كثيراً عندما سجن ولي عهده سليمان بن هشام وبعض الزعماء العرب، وسرح من الجيش ما يقارب السبعمائة ألف جندي أحالهم جميعاً من مناصبهم وقطع أرزاقهم، فأصبحوا عنصراً من عناصر التوتر والشغب (¬3). وأمام هذه الأحوال السيئة، والاضطهاد العنيف الذي أصاب البربر في قرطبة، قام هشام بن سليمان بن الناصر بانقلابه في شوال سنة 399هـ، وأعلن نفسه خليفة على البلاد ولقب بالرشيد، وعلى الرغم من النجاح الذي أحرزه إلا أن انقلابه أحبط أمام تعضيد القرطبيين للمهدي، واستماتتهم في الدفاع عن خلافته، وقبض على هشام بن سليمان وولده وأخيه أبي بكر وآخرين من الزعماء الذين عاضدوهم وتم إعدامهم جميعاً (¬4). وعمت العاصمة قرطبة حالة من أعمال الشغب المدمرة استهدفت جميع البربر الساكنين فيها دون تمييز، حتى ذهبت ضحية ذلك الشغب أعداد كبيرة منهم. وقد دفعت هذه الأعمال البربر إلى توحيد قواهم، واختيار أحد الأمراء الأمويين لقيادتهم ليناهضوا به المهدي خليفة قرطبة. فوقع الاختيار على سليمان بن الحكم المستعين (¬5)، الذي اتخذ من قلعة رباح قاعدة له، ثم خرج منها إلى وادي الحجارة فتمت السيطرة عليها عنوة (¬6)، وحاصر مدينة سالم مدة ثم تركها، وحاول واضح الصقلبي منع ¬_______ (¬3) ينظر: عنان، دول الإسلام: 2/ 642 - 645. (¬4) ابن عذاري: 3/ 81، ابن خلدون: 4/ 150. (¬5) هو سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، تمكن من الفرار بعد فشل انقلاب هشام بن سليمان. (¬6) في البيان المغرب: 3/ 85: كاتب سليمان أهل وادي الحجارة يدعوهم للطاعة فأبوا عليه ... حتى دخلها عنوة.

الإمدادات والمؤن عن قوات المستعين، ونجح بعض الشيء، ولكن الأخير فاوض أمير قشتالة سانشو غورسية وأبرم معه اتفاقاً أنقذه من الحصار الذي يعانيه مقابل شروط فرضها أمير قشتالة (¬7). وفي ذي الحجة من سنة 399 هـ وقع القتال بين قوات المستعين وقوات واضح الصقلبي في مكان يسمى شرنبة على مقربة من قلعة النهر أو قلعة هنارس الحالية، انتهى بهزيمة واضح الصقلبي وارتداده إلى العاصمة قرطبة (¬8) تلاحقه قوات المستعين التي تمكنت وبعد معركة عنيفة من اجتياح مدينة قرطبة ودخولها في 13 ربيع الأول سنة 400 هـ/5 تشرين أول 1009 م (¬9)، وأعلن سليمان المستعين نفسه خليفةً على الأندلس (¬10). أما المهدي فقد تمكن من الهرب إلى طليطلة وبدأ من هذه المدينة يعد العدة لهجوم يستعيد به ملكه الضائع، وحاول المستعين إجهاض مساعي المهدي لكنه فشل أمام مدينة طليطلة التي تمسكت بطاعة المهدي، ولقي الفشل نفسه أمام مدينة سالم. فاضطر إلى سحب قواته والعودة بها إلى العاصمة قرطبة نتيجة لسوء الأحوال الجوية (¬11). وقد هيأ انسحابه للمهدي ظروفاً تمكن من توظيفها لصالحه، وتمكن من جمع أكبر ما يمكن من الأنصار الموالين لدعوته، إضافة إلى مفاوضة واضح الصقلبي لأمير برشلونة رامون الثالث وأخيه ارمنجول أمير مقاطعة أورخل (¬12) لإمدادهم بالمرتزقة (¬13) وقد وافق الأميران المذكوران على مساعدة قوات المهدي مقابل شروط قاسية وافق عليها واضح الصقلبي، وقبلها المهدي مضطراً (¬14). ¬_______ (¬7) منها تسليمهم لأمير قشتالة " ما أحب من مدائن الثغر " ينظر: ابن عذاري: 3/ 86. (¬8) ابن عذاري: 3/ 87؛ عنان: 2/ 646. (¬9) وقعت المعركة في مكان يسمى قنتيش. ينظر: الصوفي، تاريخ العرب في إسبانيا؛ 180 الحاشية رقم (1)، عنان: 2/ 646. (¬10) ابن بسام: ق 1، ج 1: 36، 43. (¬11) ابن عذاري: 3/ 93؛ المراكشي، المعجب: 42. (¬12) الصوفي: المصدر السابق: 192 وقارن؛ عنان: 2/ 648 وفي البيان المغرب: 3/ 95 ذكر ابن عذاري ملكهم باسم ارمقند، وقد قتل مع عدد كبير من جنده المرتزقة. (¬13) كانوا بحدود تسعة آلاف فارس. (¬14) من هذه الشروط: أن يتعهد المهدي بدفع مبلغ مائة دينار لكل من الأجيرين يومياً، ولجنودهم من المرتزقة دينارين في اليوم، إضافة إلى مؤونتهم اليومية، ويتعهد طيلة فترة بقائهم معه أن تكون الغنائم التي يحصلون عليها خالصة لهم، ولا يعترض أحد عليهم فيما يأتون من أعمال ضد البربر.

وفي منتصف شوال سنة 400 هـ/ مارس، 1010 م وقع اللقاء بين الطرفين في مكان عقبة البقر (¬15)، ومع اشتداد أوار المعركة وارتداد قوات البربر؛ توقع سليمان المستعين الهزيمة، فهرب من الميدان نجاة بنفسه (¬16)؛ ولكن قوات البربر أعادت الكرة وبشدة فخرقت صفوف قوات المهدي، وأنزلت بها الخسائر الفادحة، وارتدوا بعد ذلك إلى قرطبة وأجلوا ذويهم وحملوا أموالهم وأخلوا العاصمة باتجاه وادي آره، ليدخلها المهدي ويعلن خلافته للمرة الثانية (¬17). ولكن المهدي لم يكف عن ملاحقة البربر فاصطدم بهم عند وادي آره على نهر الوادي الكبير، ودارت بين الطرفين معركة شديدة انتهت بهزيمته، وارتداده بفلوله إلى العاصمة قرطبة (¬18)؛ وكان لهذا الإنكسار آثاره السلبية على مكانة المهدي، فقد استمرت قوات البربر تغير على نواحي العاصمة بين الحين والآخر، وضاقت الأحوال بسكانها مع سوء سياسة المهدي وبطانته؛ وقد وجد واضح الصقلبي في هذه الظروف فرصة مناسبة للخلاص من المهدي، فتعاقد مع بعض الفتيان الصقالبة على اغتيال المهدي في ذي الحجة من سنة 400 هـ (¬19)، وأعادوا الخليفة المؤيد، وأعلنوا بيعته أمام الملأ (¬20). " وهكذا استرد هشام المؤيد الخلافة بعد سلسلة من الخطوب والأحداث ... وكان يومئذٍ كهلاً في نحو السابعة والأربعين من عمره، وكان قد مضى عليه مذ ولي الخلافة صبياً لأول مرة أربعة وثلاثون عاماً، وفي تلك الفترة شهدت الأندلس طائفة من الأحداث الجسام لم تشهد مثلها من قبل " (¬21). ولكن سليمان المستعين وقواته من البربر رفضوا الولاء للسلطة الجديدة، وبدأوا ينفذون خطة لاستعادة سلطانهم السابق، فبدأت غاراتهم المرهقة على أطراف العاصمة وبعض المدن الأخرى (¬22). حتى فقدت البلاد مواردها الإقتصادية، وانفلت الأمن في عمومها (¬23). ¬_______ (¬15) حصن على مسافة عشرين كم شمال قرطبة. وفي المعجب، للمراكشي، 42: " دار البقر ". (¬16) ابن عذاري: 3/ 95. (¬17) ابن عذاري: 3/ 95، ابن خلدون: 4/ 150. (¬18) ابن عذاري 3/ 95، 96، ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 115. (¬19) ابن بسام: ج 1 ق 1: 45، ابن عذاري: 3/ 100، المراكشي: 42. (¬20) ابن بسام: ج 1 ق 1: 45، ابن عذاري: 3/ 100. (¬21) عنان: دول الإسلام: 2/ 649. (¬22) منها مثلاً: مدينة مالقة والبيرة والجزيرة الخضراء وغيرها من المدن والكور الأندلسية. (¬23) ابن عذاري: 3/ 101 وما بعدها؛ المراكشي: 843.

ومع سوء الأحوال، والنقص الشديد في الموارد الأساسية المعززة لصمود المدينة، وتعنت عامة أهل قرطبة ورفضهم المطلق لكل دعاوي الصلح والسلام، بل كانت الدعوة إلى الصلح والتصافي بين الأطراف المتنازعة تثير فيهم أنواعاً من أعمال العنف غير المسوغة حتى سدت جميع أبواب الوساطات (¬24)، فقد أيقن واضح الصقلبي أن بقاءه في العاصمة يعني انتظاره لمصير مجهول لا تحمد عواقبه، فحاول مغادرتها سراً، لكن أمره افتضح من قبل كبار الجند، فقبض عليه، وتمت تصفية أمواله وإعدامه (¬25). وفي أواخر شهر شوال سنة 403هـ، مارس 1013 م اجتاحت قوات المستعين العاصمة قرطبة ودخلتها عنوة، وقبض على الخليفة هشام المؤيد وقتله (¬26)، وأعلن نفسه خليفة في الأندلس وللمرة الثانية (¬27)؛ وبدأ سليمان بتنظيم شؤون الحكومة المضطربة " وكانت الفوضى قد سرت إلى جميع النواحي، وتفككت عرى الدولة، وقصر نفوذ الحكومة إلا عن قرطبة وما يجاورها، وقبض البربر الذين رفعوا سليمان إلى (الخلافة) على السلطة الحقيقية، فتولوا مناصب الحجابة والوزارة، وسائر المناصب المهمة. ورأى سليمان إرضاء لهم من جهة، وإبعاداً لهم عن قرطبة من جهة أخرى، أن يقطعهم كور الأندلس، وكانوا ست قبائل رئيسة، فأعطى قبيلة صنهاجة وزعماءها بني زيري، ولاية البيرة (غرناطة)، وأعطى مغراوة جوفي البلاد، وبني برزال وبني يفرن ولاية جيان ومتعلقاتها، وبني دمر وازداجة منطقة شذونة ومورور، وأقر المنذر بن يحيى التجيبي على ولاية سرقسطة والثغر الأعلى ... وولى بني حمود الأدارسة ثغور المغرب ... ". ويهمنا هنا أمر بني حمود الصنهاجيين لدورهم في أحداث البلاد بعد ذلك، فقد ولي القاسم بن حمود بن علي الجزيرة الخضراء، وولي أخوه علي بن حمود مدينتي سبتة وطنجة، وتولية بني حمود الصنهاجيين أمر المغرب والجزيرة الخضراء أول بلاد الأندلس سقطة حسبت على المستعين وأذهبت دولته (¬29)، فقد بلغ الطموح بعلي بن حمود مبلغه ¬_______ (¬24) ابن الخطيب: أعمال الأعلام: 117. (¬25) ابن عذاري: 3/ 105. (¬26) تشير بعض الروايات إلى مصير هشام المؤيد، فبعضها يذكر أن المستعين أخفاه فترة في أحد القصور ثم قتله دون علم أحد؛ وتشير أخرى إلى سجنه في أحد القصور، ثم تمكنه من الفرار إلى المرية حتى وافاه الأجل هناك. (¬27) ابن عذاري: 3/ 113؛ ابن خلدون: 4/ 151. (28) ينظر، عنان: دول الإسلام: 2/ 653، 654. (¬29) ابن بسام؛ ق 1ج 1: 38، ابن عذاري: 3/ 114.

فقام على الخليفة المستعين يروم قمة السلطة بعد ما تقلب فيها أفراد هم في الحقيقة ليسوا أكثر كفاءة منه، وقد ساعدته على ذلك أسباب وعوامل منها: 1 - زعمه أن الخليفة هشام المؤيد ولاه العهد من بعده، وأظهر لإثبات ذلك كتاباً نسبه إلى الخليفة هشام، كان قد أرسله إليه خلال فترة حصار مدينة قرطبة من قبل المستعين وقواته (¬30)، وعدّ ابن حمود ذلك الكتاب المزعوم كافياً لإضفاء الشرعية على خروجه ومطالبته بالخلافة (¬31). 2 - تمزق وحدة البلاد، وانتشار السلطة بين قوى متعددة فسح المجال واسعاً لابن حمود لكي ينفذ ما كان يصبو إليه من الوصول إلى قمة السلطة، واستسلاب الخلافة (¬32)، إضافة إلى كونه ينتمي إلى عائلة مشهورة، ويقود قبيلة من أقوى القبائل العربية البربرية وهي قبيلة زناتة. 3 - وثمة عامل مساعد مهم هيأه له الخليفة المستعين عندما ولاه أمر المغرب العربي، وولى أخاه القاسم الجزيرة الخضراء، وقد تنبأ معظم المؤرخين بسوء هذه السياسة التي أمضاها المستعين دون مراجعة دقيقة (¬33). 4 - كسب ود جميع القوى المتعاطفة مع هشام المؤيد ومنهم الصقالبة ورئيسهم خيران المتغلب على مدينة المرية والذي كان يدعو للخليفة هشام المؤيد، ويناهض الخليفة المستعين (¬34). وهكذا خلق ابن حمود الجو المناسب للقيام على الخليفة المستعين مع مساعدة الظروف له، فعبر من مدينة سبتة، ونزل الجزيرة الخضراء وسار بقواته ومن انضم إليه من زعماء الكور باتجاه العاصمة قرطبة، حيث التقى مع قوات المستعين في ظاهرها ودارت بين الطرفين معركة شديدة، خسرها المستعين، ودخل ابن حمود قرطبة في الثامن والعشرين من محرم سنة 407 هـ تموز 1016 م. ¬_______ (¬30) ينظر: ابن عذاري: 116. والنص: " أخرج كتاباً نسبه إلى هشام بن الحكم يقول فيه: أنقذني من أسر البرابر والمستعين وأنت ولي عهدي ". والمراكشي: 44، والصوفي: 237 والحاشية رقم (2) والنص: " ويقول ابن الخطيب: يقال إن هشاماً المحجوب لما شعر بالهلاك خاطب ابن حمود بسبتة يستنصره ويقلده دمه والطلب بثأره ويفضي إليه بعهده ... ". (¬31) الصوفي: 237. (¬32) عنان: 658. (¬33) ينظر: الهامش رقم (29) فيما سبق. (¬34) ابن عذاري: 3/ 116؛ ابن الخطيب؛ أعمال الأعلام: 128.

وبإعدام المستعين في التاريخ المذكور آنفاً تبدأ سلسلة الخلفاء الحموديين الذين حكموا الأندلس وأولهم: علي بن حمود، وحكم قرابة سنة قبل مقتله سنة 408 هـ/1018 م (¬35) ثم تولى بعده أخوه القاسم بن حمود (408 - 412 هـ/1021 م) ثم يحيى بن حمود (412 - 413 هـ/ 1022 م). ثم القاسم بن حمود وللمرة الثانية (413 - 414 هـ/1023 م)، وفي عهده انتهت خلافة هذه الأسرة (¬36)، وانتقلت إلى الأسرة الأموية مرة أخرى؛ وأول خلفائهم: عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار الملقب المستظهر بالله، وقد قتل في السنة التي تولى فيها أمر الخلافة - أي سنة 414 هـ/1024 م. ثم أعقبه محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الناصر الملقب المستكفي بالله واستمر حتى مقتله سنة 416 هـ/1025 م (¬37). ثم عادت الخلافة إلى الأسرة الحمودية وتولاها منهم: يحيى بن حمود للمرة الثانية، ثم أفلَ نجم هذه الأسرة لتعود إلى بني أمية مرة أخرى، حتى مل الناس تلك الشخصيات، وثقلت ألقابهم أمام ندرة أعمالهم وقلة تدبيرهم، وانتهى الأمر في سنة 422 هـ/1031 م بعزل هشام الثالث المعتد بالله آخر الخلفاء الأمويين، وإلغاء الخلافة نهائياً عن الأندلس، بعد أن عجزت عن إقرار الأمور، وفرض سلطانها على العاصمة قرطبة، ناهيك عن إقرار تلك السلطات في بقية مدن الأندلس الأخرى؛ وفي قال ابن الخطيب السلماني: " ومشى البريد في الأسواق والأرباض بأن لا يبقى أحد بقرطبة من بني أمية ولا يكنفهم أحد " (¬38). وهكذا انحدرت الأندلس، في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) عقب سقوط الخلافة العربية إلى درك من التمزق والفوضى، وآلت البلاد بعد أن كانت وحدة موحدة " تمتد من ضفاف دويرة شمالاً إلى مضيق جبل طارق جنوباً، ومن شاطئ البحر المتوسط ومن طركونة شرقاً حتى شاطئ المحيط (الأطلسي) غرباً " (¬39). إلى أشلاء ممزقة، وولايات ومدن متخاصمة يسيطر على كل منها حاكم ¬_______ (¬35) ابن بسام: ق 1 ج 1: 100، ابن عذاري: 3/ 122؛ ابن الخطيب: 151. (¬36) ابن بسام: ق 1 ج 1: 101، 316؛ ابن الخطيب: 136. (¬37) ابن بسام: ق 1 ج 1: 48 و 53 و 433، ابن الخطيب: 135. (¬38) أعمال الأعلام: 139. (¬39) عنان: 676.

سابق، أو متغلب، أو زعيم أسرة، نزلت إلى ميدان الصراع الذي شمل البلاد كلها. واستمرت هذه الحالة قرابة ثمانين عاماً حتى دخول المرابطين إلى الأندلس وتمكنهم بعد جهود مضنية من استعادة وحدة البلاد، والوقوف بوجه الممالك الإسبانية الشمالية الساعية إلى غزو البلاد والقضاء على كل معالم عروبتها وحضارتها. وبعد هذا العرض السريع للأحداث التي توالت على الأندلس يمكن أن ندرج الأسباب التي أدت إلى سقوط الخلافة الأموية بالأندلس على الشكل الآتي: 1 - غياب القائد، والأداة القادرة على الحسم في الوقت المناسب: إن غياب القائد والأداة القادرة على الحسم من الأسباب الأصلية التي أدت إلى زوال الخلافة الأموية من الأندلس، وما عدا ذلك من الأسباب فلاحقة بهذا السبب بشكل أو بآخر. فالقائد المطلوب في الأندلس نمط خاص من الرجال وبناء متكامل من العصامية والفروسية والمقدرة الإقتحامية وبناء متكامل من النظرة الشاملة والوعي المقتدر المبدع والسرعة في اتخاذ القرار. وهذا النمط من الرجال يولد حيث توجد الأزمات، والتحديات المصيرية، وعندما يظهر في الميدان يبدو وكأن الكل يعرفه، ومن ثم فهو وحده القادر على توجيه الأدوات في اتجاه الأهداف المركزية للدولة، بعد امتلاكها لجميع القدرات الفاعلة في الرد على التحدي، بتحدٍّ أقوى وأكثر عنفواناً، وبمعنى آخر: إن الأندلس خلال هذه الفترة كانت تحتاج إلى رجال قادرين على التفاعل مع الأحداث، رجال من طراز عبد الرحمن الداخل مؤسس الدولة، وعبد الرحمن الناصر باني مجدها السياسي والحضاري. 2 - الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية: استمر الحاكم في الأندلس " أمير أو خليفة " يجمع بين السلطتين الزمنية والروحية إلى أن سيطر الحاجب المنصور ابن أبي عامر ثم أبناؤه من بعده (عبد الملك وعبد الرحمن) على مقاليد الأمور في عهد الخليفة هشام المؤيد فانتزعوا السلطة الزمنية لأنفسهم، وتركوا الخلافة مجرد رمز لا معنى له في الأصل، وكان هذا الفصل مقدمة لنهاية الخلافة لا سيما بعد أن أجبر عبد الرحمن شنجول الخليفة المؤيد على توليته العهد بعده، وهو أمر خطير، هز الأندلس هزاً عنيفاً وقاد البلاد إلى دوامة الفتن والحروب وتسابق كل الطامعين إلى نيل الخلافة التي أفرغت من مضامينها الأصلية (¬40). ¬_______ (¬40) العبادي: 253.

3 - التركيبة الإجتماعية في الأندلس: كان أهل الأندلس يؤلفون أخلاطاً متنافرة من السكان بعضهم عرب وبعضهم بربر، وبعضهم صقالبة، وبعضهم مولدون وبعضهم مستعربون أو يهود وكان كل من هذه العناصر البشرية ميالاً إلى السكن في بؤرات عمرانية خاصة، فنرى أن العنصر الغالب على قرطبة من العرب، والعنصر الغالب على إشبيلية وطليطلة من المولدين، والعنصر الغالب على غرناطة وقرمونة ومالقة من البربر، وكان لهذا أثره الكبير في ميل أهل الأندلس إلى الاستقلال والخروج على السلطة المركزية، مما كان يقضي باستعمال القوة كوسيلة لازمة للوحدة السياسية، ومع ذلك فقد كانت القوة وحدها لا تكفل للأمير الحاكم السيطرة على سائر البلاد، وكان لزاماً على الحاكم أن يصطنع الحزم، لأن الرغبة في الاستقلال والانسلاخ عن جسم الدولة كانت تجعل هناك نوعاً من الحساسية عند الرعية إزاء الحاكم، ثم إنها كانت تدفعهم إلى الثورة عليه كلما لمسوا منه استبداداً بشؤون الدولة أو تعسفاً في معاملته لهم (¬41). 4 - الاستعانة بأمراء وملوك الممالك الإسبانية الشمالية: أفضت المنازعات والفتن إلى استعانة الأطراف بأمراء وملوك الممالك الإسبانية الشمالية مقابل التنازل عن بعض الحصون والمدن الحدودية المهمة، فقد منحت مثل هذه الحصون من قبل المتنازعين مقابل مئات من جنود هذه الممالك كانوا يقاتلون مع هذا الطرف أو ذاك ضد الطرف الآخر، وخلال فترة النزاع الذي أشرنا إليه سابقاً تنازل المتخاصمون عن حصن غرماج، وأوسمة، وشنت اشتبين وغيرها من المناطق المهمة التي بذلت الدولة في عهد الناصر والمنصور ابن أبي عامر جهوداً استثنائية في السيطرة والمحافظة عليها، لأنها نقاط استراتيجية للجيوش العربية المتقدمة باتجاه الممالك الإسبانية الشمالية. ¬_______ (¬41) عبد العزيز سالم، المسلمون وآثارهم في الأندلس: 364؛ وينظر أحمد بدر: تاريخ الأندلس في القرن الرابع الهجري، 228 وما بعدها.

الفصل الثاني فكرة عامة عن أهم دويلات الطوائف

الفَصْلُ الثَّانِي فكرة عامة عن أهم دويلات الطوائف بسقوط الخلافة الأموية سنة 422 هـ فقدت الأندلس وحدتها السياسية وانقسمت البلاد إلى دويلات صغيرة مستقلة أطلق عليها المؤرخون اسم " دويلات الطوائف " ويعرف رؤسائها بملوك الطوائف، وهم ما بين زعيم قبيلة (¬1)، أو صاحب نفوذ، أو حاكم لإحدى الكور أو وزير سابق (¬2) أو شيخ قضاء (¬3)، وقد استغل هؤلاء حالة البلاد السياسية فبسطوا نفوذهم على المناطق التي تواليهم، وعملوا جميعاً على تأسيس هذه الكيانات والحفاظ عليها في أسرهم (¬4)، وانقسمت الأندلس من الناحية الإقليمية إلى عدة مناطق قامت فيها أهم دويلات الطوائف في البلاد وهي: - قرطبة وأحوازها من المدن والمناطق الوسطى. - إشبيلية وما يلحق بها من مناطق غرب الأندلس. - بطليوس. - غرناطة. - بلنسية وما يلحق بها من المناطق شرق الأندلس. - سرقسطة أو الثغر الأعلى. ¬_______ (¬1) مثل دويلة: غرناطة. (¬2) مثل دويلة: قرطبة. (¬3) عنان، دول الإسلام: 3/ 14. (¬4) يصور ابن الخطيب في كتابه أعمال الأعلام -القسم الخاص بإسبانيا- ص 144 الحالة بقوله " ... ليس لأحدهم في الخلافة إرث ولا في الإمارة سبب ولا في الفروسية نسب ... اقتطعوا الأقطار، واقتسموا المدائن الكبار وجبوا العمالات والأمصار وجندوا الجنود وقدموا القضاة، وانتحلوا الألقاب وكتبت عنهم الأعلام وأنشدهم الشعراء ودونت بأسمائهم الدواوين ... ".

- طليطلة أو الثغر الأوسط. - دانية وجزر البليار. وتضم كل منطقة من المناطق المشار إليها إمارة أو أكثر من إمارات الطوائف وتتباين من ناحية المساحة وعدد السكان والأهمية العسكرية (¬5)، واستمرت هذه الدويلات حتى دخول المرابطين الأندلس الذين عملوا جاهدين على إعادة الوحدة السياسية إلى البلاد عن طريق إنهاء هذه الكيانات الواحدة تلو الآخر كما سنفصل من خلال عرض أحوال هذه الدويلات. 1 - دويلة بني جهور في قرطبة: خلع أهل قرطبة الخليفة هشام الثالث الملقب المعتد بالله في ذى الحجة سنة 422 هـ، وألغوا الخلافة الأموية بعد أن يئسوا من صلاح أمرها (¬6)، واجتمعوا على تنصيب الوزير أبي الحزم جهور بن محمد بن جهور (¬7) رئيساً لحكومة قرطبة فاختار بدوره مجلساً عد بمثابة السلطة التشريعية العليا في المدينة. وقد استطاع ابن جهور من خلال هذا المجلس أن يضع الجميع زعماء وأفراداً أمام مسؤولياتهم وواجباتهم، فحمدت سياسته واستقرت الأمور وتجنبت حكومته منافسة المنافسين وتمرد الطامعين (¬8)، حتى عرفت حكومته هذه بدولة الجماعة (¬9)، وأصبحت قرطبة في عهده حرماً آمناً يأوي إليه أمراء وزعماء الطوائف فيجدون فيه الملاذ الأمين (¬10). واستمرت حكومة الجماعة هذه برئاسة ابن جهور تدير أمر قرطبة وما يتبعها قرابة اثنتي عشرة سنة، سادت فيها السكينة والأمن وبدأت الحياة الإقتصادية في الانتعاش بعد أن أمن التجار على أموالهم نتيجة القسوة التي فرضت على المتلاعبين بأمن المنطقة (¬11). ¬_______ (¬5) عنان، دول الإسلام: 3/ 17. (¬6) ابن بسام: ق 1 ج 2 ص 602. (¬7) ولد ابن جهور سنة 364 هـ وأخذ عن شيوخ عصره المشهورين - ينظر ترجمته في الصلة، لابن بشكوال: 131. (¬8) ينظر: الضبي، بغية الملتمس: 35؛ ابن عذاري 3/ 186. (¬9) كانت هذه الدولة تبسط سلطانها على رقعة متوسطة من الأندلس تمتد شمالاً حتى جبال الشارات وشرقاً حتى منابع نهر الوادي الكبير، وغرباً حتى أستجة، وجنوباً حتى غرناطة وتضم من المدن عدا قرطبة جيان وأنده وأبده والمدور وأرجونة، عنان: دول الإسلام 3/ 21. (¬10) الضبي، بغية الملتمس: 35. (¬11) ابن بسام: ق 1ج 2 ص 604، الضبي: 35.

وكان لابن جهور موقف خاص من أسطورة ظهور الخليفة هشام المؤيد بالله عندما أعلنها ابن عباد صاحب إشبيلية " ذلك أن ابن عباد حينما أحس بخطورة مطامع بني حمود في رئاسة جنوبي الأندلس، واتشاحهم بثوب الخلافة وحينما أرهقه يحيى بن علي بن حمود (المعتلي) بغاراته المتوالية، رأى أن يدحض دعاوى أولئك الحموديين، فأعلن في سنة 427 هـ (¬12) أن الخليفة هشام المؤيد حي لم يمت، وأظهر بالفعل شخصاً يشبه هشاماً كل الشبه، وبايعه بالخلافة ودعا الناس للدخول في طاعته (¬13)، وبعث بذلك إلى رؤساء الأندلس، فاستجاب بعضهم للدعوة، وكان منهم عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، ومجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، والوزير أبو الحزم بن جهور رئيس قرطبة، وعقدت البيعة في قرطبة بالفعل لهشام المؤيد، والظاهر أن جهور لم يكن يؤمن حقاً بصحة هذه الدعوى ولكنه استجاب لها، وأقرها لنفس البواعث التي حملت ابن عباد على انتحالها، وهو العمل على دفع خطر الحموديين " (¬14). ظل ابن جهور على حكم قرطبة حتى وفاته سنة 435 هـ فصار الأمر إلى ابنه أبي الوليد محمد بن جهور الذي اعتمد سياسة أبيه في تدبير أمور قرطبة (¬15)، ولكن أبا الوليد اضطر نتيجة ظروف عديدة إلى الابتعاد عن ممارسة السلطات وقدم ولده عبد الملك، ولكن المذكور لم يكن على مستوى من القدرة والسياسة بحيث يتمكن من إدارة حكومة قرطبة (¬16) بالمستوى المطلوب، فأهمل شؤون الدولة وسعى إلى الألقاب السلطانية وفوض إلى وزير أبيه إبراهيم بن يحيى بن السقاء مقاليد الأمور وعلى الرغم من حسن تدبير الأخير إلا أنه أعدم سنة 455 هـ (¬17)، وعادت الأمور المضطربة مرة أخرى وزادتها سوءاً منافسة عبد الرحمن لأخيه عبد الملك في السلطة ومحاولته السيطرة عليها دون أخيه، مما اضطر أبا الوليد إلى التدخل وتقسيم السلطات بين ولديه، ففوض أمر القوات المسلحة إلى عبد الملك وفوض الأمور المالية لعبد الرحمن (¬18). ولكن هذا التقسيم لم يكن ليرضي عبد الملك فقبض على أخيه عبد الرحمن وفرض عليه الإقامة الجبرية (¬19)، ¬_______ (¬12) في الأصل سنة 426 هـ والتصويب عن ابن عذاري 3/ 190. (¬13) سيأتي تفصيل ذلك عند التعرض لدولة ابن عباد. (¬14) عنان: 3/ 24. (¬15) ابن بسام: ق 1ج 2 ص 604. (¬16) ابن عذاري: 3/ 359. (¬17) أعدم بوشاية من ابن عباد، ابن بسام ق 1ج 2 ص 609. (¬18) ابن بسام: ق 1ج 2 ص 607. (¬19) ابن عذاري: 3/ 258.

مما ولد نوعاً من الاستياء وعدم الإرتياح لسوء الأوضاع في الداخل وتلت ذلك اضطرابات شجعت صاحب طليطلة على التعرض لحصن المدور والاستيلاء عليه ثم الزحف إلى قرطبة للإستيلاء عليها، فاضطر عبد الملك إلى الاستعانة ببني عباد وكانت تجمعه وإياهم علاقات صداقة ومودة، ولكن بني عباد الذين استطاعوا تخليص قرطبة من حكام طليطلة، عادوا واستولوا عليها سنة 462 هـ وقبضوا على بني جهور ونفوهم إلى جزيرة شلطيش (¬20)، وبذلك ينتهي حكم بني جهور لقرطبة بعد أن استمر قرابة الأربعين سنة. 2 - دويلة اشبيلية (بنو عباد): يرجع أصل بني عباد إلى المنذر بن ماء السماء، وجدهم عطاف بن نعيم هو الداخل إلى الأندلس في طالعة بلج بن بشير القشيري (¬21) وكان بنو عباد من الأسر التي لها في تاريخ العرب بالأندلس نصيب وافر فعميد أسرتهم إسماعيل بن عباد تقلب في مناصب الدولة سنين عديدة آخرها قضاء إشبيلية، وقد تمكن من السيطرة على الأمور في المدينة إبان الفتنة التي أصابت البلاد، تلك السيطرة التي ارتضاها عموم أهل إشبيلية بفضل السياسة الحكيمة التي سار عليها حتى وصف بأنه رجل الغرب المتصل الرئاسة وقت الجماعة، ووقت الفتنة. إن سياسة ابن عباد الرصينة جعلت له مكاناً مرموقاً عند بني حمود الذين كان سلطانهم يتردد بين العاصمة قرطبة وبين مدينة إشبيلية، فعندما اعتزل إسماعيل بن عباد مناصبه نتيجة كبر سنه، قدم القاسم بن حمود الملقب بالمستعلي أبا القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد وعيَّنه في منصب القضاء، غير أن الظروف التي مرت بها الدولة الحمودية، وسلبيات الصراع بين أفراد العائلة، جعلت أهل إشبيلية يميلون إلى الاستقلال في إدارة مدينتهم، لذا فعندما غادر المستعلي إشبيلية ليتولى منصب الخلافة بقرطبة قرر الإشبيليون إعلان استقلالهم، وخولوا إدارة المدينة مجلساً مكوناً من وجهائها وعلى رأسهم محمد بن عباد ومعه أبو محمد بن مريم والعالم المشهور أبو عبد الله الزبيدي (¬22)، وبدأ ابن عباد يمارس سلطاته باتجاه الاستقلال التام، فمنع المستعلي من ¬_______ (¬20) ابن بسام: ق. ج 2 ص 610 وما بعدها، ابن خلدون: 4/ 159 وفي البيان المغرب 3/ 259 أن أهل قرطبة كاتبوا ابن عباد سراً لدخول المدينة بعدما ضاقوا بأعمال عبد الملك وأخيه عبد الرحمن. (¬21) ابن عذاري: 3/ 195. (¬22) ابن الآبار، الحلة السيراء: 2/ 37؛ ابن عذاري: 3/ 195.

دخول مدينة إشبيلية عندما طرده أهل قرطبة (¬23)، وعندما تعرضت إشبيلية لمحاصرة قوات يحيى بن حمود سنة 414 هـ، برز ابن عباد بوصفه مفاوضاً ذكياً، فقد تمكن من رد قوات ابن حمود دون أن يعرض مركزه ومدينته إلى أي ضعف أو خطر، فقد وعد ابن عباد الخليفة الحمودي بالدعوة له في الخطبة وتأدية مبلغ من المال لإثبات ولائه له. وكانت حركته هذه ضرورية قصد بها إبعاد خطر قوات الحموديين عن المدينة وقد استخلص مرسوماً مهماً من الخليفة الحمودي بإقراره رئيساً ونائباً عنه في مدينة إشبيلية (¬24)، ومنذ هذا التاريخ بدأ ابن عباد يسعى إلى تأسيس ملك خاص بأسرته، ويعمل على تجميع قوات مخلصة لأهدافه (¬25)، جعلها أداة ضاربة لتقليم نفوذ ملوك الطوائف المجاورين لإشبيلية، والسعي إلى ضم ما يمكن ضمه من حصون ومدن تلك الدويلات ولكي يبعد ابن عباد خطر الحموديين عن مناطق نفوذه نهائياً ويتحلل من تبعيته (الإسمية) لهم (¬26)، وليثبت شرعيته في الحكم ويسوغ الأعمال التوسعية التي قام بها، أعلن في سنة 426 هـ عن ظهور هشام المؤيد (¬27)، وإعلانه خليفة في إشبيلية، ودعا بقية حكام دويلات الطوائف للإعتراف به (¬28)، (وقد سبقت الإشارة إلى اعتراف بني جهور بالخليفة هشام لأسباب ذكرت آنفاً). وعلى هذا الأساس يعد محمد بن عباد مؤسس دولة بني عباد الحقيقي " ومنشئ ملكهم ورسوم مملكتهم، وعلى يده اتخذ سلطان بني عباد ألويته الملوكية المدعمة بالقوى العسكرية، وإن لم يصل بعد إلى غايته من الروعة والفخامة، وأصبح ملوكية وراثية راسخة، بعد أن كان يتخذ فقط صورة الزعامة، والرئاسة القبلية " (¬29). وبوفاة محمد بن عباد سنة 433 هـ آل الأمر من بعده إلى ولده أبي عمرو عباد بن محمد الملقب المعتضد، وقد بدأ عصره بإجراءات قاسية أصابت العديد من الشخصيات البارزة ومنهم أعضاء مجلس الرئاسة الذي شكل في عهد والده، واعتمد ¬_______ (¬23) ابن بسام: ق 1ج 1: 485، ابن الآبار، الحلة السيراء: 2/ 37، ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 177. (¬24) ابن بسام: ق 2 ج 1: 19، المراكشي: 54. (¬25) استخدم العبيد والمرتزقة في قواته، وهيأ لهم العدة والسلاح اللازمين للتفوق على دويلات الطوائف الأخرى. (¬26) محمد بن عبود، التاريخ السياسي لإشبيلية: 53. (¬27) يقال إن بني عباد أظهروا شخصاً يدعى خلف الحصري شبيه بالخليفة هشام المؤيد فادعوا أنه الخليفة هشام المؤيد. ينظر: ابن حزم، نقط العروس: 25. (¬28) ابن بسام، ق 2 ج 1: 17، ابن عذاري: 3/ 198. (¬29) عنان، دول الطوائف: 39.

القوة في تحقيق أهدافه في الداخل والخارج، فكان وزرائه وكبار رجال دولته يخشونه كما يخشاه منافسوه من حكام دويلات الطوائف، وقد سرد لنا المؤرخون أسماء الشخصيات التي نكبت في عهده ومن بينهم ولده إسماعيل (¬30)، والعالم عمر الهوزني الذي اشتهر بعلومه وطول باعه وهو ممن له في تاريخ الفكر العلمي الأندلسي نصيب وافر (¬31). وكانت سياسته الخارجية تقوم على ضرب دويلات الطوائف متى ما وجد لذلك فرصة سانحة تحقق له المزيد من ضم الأراضي إلى دويلة إشبيلية، فقد تمكن من السيطرة على معظم مدن الغرب ومنها جزيرة شلطيش سنة 443 هـ ومدينة شنتمرية في نفس السنة ومدينة لبلة سنة 445 هـ، وشلب سنة 455 هـ، وحاول مرات عديدة الاستيلاء على بطليوس ابتداءً من سنة 442 هـ إلا أنه لم يتمكن منها، فاكتفى بالسيطرة على بعض الحصون المهمة التابعة لها. وهكذا استطاع ابن عباد في نحو عشرين سنة أن يقضي على سائر الدويلات الصغيرة القائمة في غرب الأندلس، وأصبحت دولته تشمل سائر الأراضي الممتدة من نهر الوادي الكبير غرباً حتى المحيط الأطلسي عدا رقعة تقع شرق هذا الوادي، قرر ابن عباد بعد ذلك استخلاصها من حكامها حتى يؤمن دولته من هذه الناحية، ويمتلك حرية الحركة في اتجاه الشمال والشرق (¬32). فاستولى على رنده سنة 457 هـ وعلى أركش وشذونة وما يلحق بها، ومورور سنة 458 هـ، وقرمونة سنة 459 هـ وكان ابن عباد قد استولى على باب الأندلس من الجنوب وهو الجزيرة الخضراء سنة 446 هـ وقضى على نفوذ الحموديين فيها. وهكذا أصبحت دولة بني عباد " تضم من أراضي الأندلس القديمة رقعة شاسعة تشمل المثلث الجنوبي من شبه الجزيرة، وأرض الفرنتيرة شمالاً حتى شواطئ الوادي الكبير، ثم تمتد بعد ذلك من عند منحنى الوادي الكبير، غرباً حتى جنوب البرتغال ¬_______ (¬30) ينظر: محمد بن عبود: 61 - 63. (¬31) في الصلة، لابن بشكوال: 402 " عمر بن الحسن بن عبد الرحمن الهوزني ... كان متفنناً في العلوم، قد أخذ من كل فن منها بحظ وافر، مع ثقوب فهمه وصحة ضبطه ... قتله المعتضد بالله عباد بن محمد ظلماً بقصره بإشبيلية ودفنه به ليلة السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر من سنة 460 هـ، وتناول قتله بيده ودفنه بثيابه وقلنسوته، وهيل عليه التراب داخل القصر من غير غسل ولا صلاة ". وينظر أيضاً، ابن الآبار، الحلة السيراء: 2/ 239. (¬32) ينظر: عنان: دول الطوائف: 44.

وشاطئ المحيط الأطلسي، وبذلك ضمت أعظم ممالك الطوائف، وأغناها من حيث الموارد الطبيعية وأقواها من حيث الطاقة الحربية ولم يكن يغشي هذه المكانة التي بلغتها إشبيلية من الفخامة والقوة والغنى سوى ناحية قاتمة واحدة. وهي موقفها من ملك قشتالة فرناندو الأول، ذلك أن هذا الملك القوي، كان يطمح إلى أن يبسط سيادته على إسبانيا كلها، وكان يرى في ممالك الطوائف، وما يسودها من الخلاف والتفرق، فرائس هينة، ففي سنة 444 هـ/1062 م خرج من قشتالة بجيش كبير من الفرسان والرماة، وغزا مملكة طليطلة، وعاث فيها وخرب سهولها وزروعها، حتى اضطر ملكها المأمون بن ذي النون، أن يطلب الصلح وأن يتعهد بدفع الجزية، وفي العام التالى 455 هـ عاد فغزا أراضي مملكتي بطليوس وإشبيلية، " واضطر المعتضد بن عباد، أن يحذو حذو المأمون في طلب الصلح والتعهد بدفع الجزية، وقصد المعتضد بنفسه إلى معسكر ملك قشتالة، وقدم إليه عهوده شخصياً ولما توفي فرناندو بعد ذلك بثلاثة أعوام وخلفه ولده سانشو في حكم مملكة قشتالة، كان المعتضد يؤدي إليه الجزية أسوة بأبيه واستمر في تأديتها حتى وفاته " (¬33). وعمله يعد سقطة من السقطات الكبيرة التي درج عليها حكام دول الطوائف، الذين سعوا إلى محالفة ورضاء أمراء وملوك إسبانيا الشمالية، وتفرغوا إلى نزاعاتهم الدموية ليزيدوا تاريخ الأمة في الأندلس إرهاقاً وضعفاً. توفي المعتضد سنة 461 هـ/و 1069م وخلفه ولده: أبو القاسم محمد بن عباد المعروف بالمعتمد (¬34)، وفي عهده تم ضم قرطبة إلى دولة إشبيلية سنة 462 هـ (¬35)، ودخل المعتمد في صراع عنيف مع دولة غرناطة، واضطرت ظروف النزاع كلا الطرفين إلى الاستعانة بملوك وأمراء الممالك الإسبانية الشمالية لقاء مبالغ كبيرة من الأموال، ولقاء تنازلات إقليمية، ففي الوقت الذي حاول فيه عبد الله بن بلقين حاكم غرناطة التحالف مع ملك قشتالة ألفونسو السادس، نجد المعتمد يسلك المسلك نفسه ويرسل وزيره أبا بكر بن عمار إلى ألفونسو طالباً المساعدة مقابل مبلغ كبير من المال ويمنيه بغزو غرناطة واقتسامها بحيث تكون للمعتمد قصبة المدينة ولألفونسو القلعة الحمراء بما تحويه من نفائس وذخائر. وكانت نتيجة هذا الحلف تعرض مدينة غرناطة إلى هجمات مدمرة قام بها ألفونسو السادس، وجرأت قواته على اقتراف المزيد من أعمال التخريب ¬_______ (¬33) ينظر، عنان، دول الطوائف: 48. (¬34) عن سيرته ينظر: ابن الآبار، الحلة السيراء: 2/ 54. (¬35) ابن عذاري: 3/ 259.

في العديد من ضواحي المدن الأندلسية. وقام بمهاجمة طليطلة في محرم سنة 478 هـ/ 1085 م فدخلها غازياً دون أن تحرك دول الطوائف ساكناً. إن سقوط طليطلة بيد ألفونسو السادس وتطلعاته لغزو بقية المدن الأخرى دفعت العديد من حكام دول الطوائف وعلى رأسهم ابن عباد إلى الاستعانة بالمرابطين لنجدتهم، ومع تحفظ بعض الحكام على قرار الاستدعاء فإن المعتمد عزم على تنفيذ قراره بقوله: " رعي الجمال خير من رعي الخنازير " (¬36)، وتعهد بالتنازل عن الجزيرة الخضراء للمرابطين الذين نزلوها سنة 479 هـ/1086 م ومع بداية هذا النزول بدأ المرابطون العمل على مقاومة الغزو الخارجي والانتصار عليه في أكثر من موقعة، وإعادة الوحدة السياسية إلى البلاد والقضاء على دول الطوائف الواحدة تلو الأخرى ومنها دولة بني عباد التي سقطت في سنة 484 هـ/1091 م (¬37). 3 - دويلة بطليوس (بنو الأفطس): تقع دويلة بطليوس إلى الشمال من دويلة إشبيلية وتفصل بينهما جبال الشارات وكانت هذه الدويلة تشمل جميع أراضي البرتغال تقريباً وعاصمتها مدينة بطليوس وتضم مدناً مهمة منها: ماردة، وأشبونة وشنترين، ويابرة، وشنترة، وقلمرية (¬38). وقد حكم بنو الأفطس (¬39) هذه الدويلة أكثر من سبعين عاماً، وعميد هذه الأسرة هو: عبد الله بن الأفطس (¬40) الذي تمكن من السيطرة على مقاليد الأمور في سنة 413 هـ، ودخلت هذه الدويلة مع اشتداد عودها في عهد المظفر محمد بن عبد الله الأفطس في صراع عنيف مع بقية دويلات الطوائف، لا سيما بنو عباد مما أنهك قوة الطرفين المتنازعين (¬41)، فاستغل فرناندو الأول ملك قشتالة تلك الأوضاع واستولى في سنة 449 هـ على مدينتي لاميجو (مليقة) وبازو الواقعتين في الشمال دون مقاومة تذكر أو نجدة تستعيد هاتين المدينتين (¬42)، ولم يحدث هذا فقط، بل اضطر بنو الأفطس إلى دفع ¬_______ (¬36) ابن الخطيب، أعمال الأعلام - الخاص بإسبانيا -: 345، وينظر: الحجي التاريخ الأندلسي. 392. (¬37) ابن بسام: ق 2 ج 1: 52 و 53. (¬38) ابن الخطيب، أعمال الأعلام؛ 183، وينظر: عنان، دول الطرائف: 81. (¬39) أصلهم من قبائل مكناسة المغربية. (¬40) ينظر عن بدايته، ابن الآبار، الحلة السيراء: 2/ 97. (¬41) ابن عذاري، 3/ 238، وما بعدها، وينظر: عنان، دول الطوائف: 84. (¬42) عنان، دول الطوائف: 86.

جزية سنوية لملك قشتالة مقدارها خمسة آلاف دينار مقابل ترك مدينة شنترين والتي تعرضت لأخطار الغزو مرات عديدة (¬43). وأشهر من حكم هذه الدويلة عمر بن محمد الملقب المتوكل على الله والذي عرف بسياسته الحكيمة وتشجيعه للحركة العلمية وتقريبه للعلماء وتمتعت بطليوس في عهده بالأمن والرخاء (¬44)، وكان للمتوكل دور في الدعوة إلى توحيد الأندلس من خلال تكليف العالم أبي الوليد الباجي المتوفى سنة 474 هـ (¬45)، ليقوم بجولة في دويلات الطوائف ويدعو حكامها إلى نبذ الخلاف والفرقة، وتوحيد الجهود ضد أخطار ومطامع الممالك الإسبانية الشمالية (¬46)، وعندما سقطت مدينة طليطلة سنة 478 هـ كان المتوكل في جملة الداعين إلى دعوة المرابطين والاستعانة بهم لإنقاذ البلاد من الأخطار المحدقة بها (¬47). وقد انتهى حكم هده الأسرة على يد المرابطين سنة 488 هـ بعد حصار شديد لمدينة بطليوس، وتم إعدام المتوكل وولديه جزاء له لاستنجاده بملك قشتالة (¬48). 4 - دويلة طليطلة (بنو ذي النون): طليطلة من المدن المشهورة في تاريخ الأندلس، كانت قاعدة الثغر الأوسط وبمثابة الحاجز أمام قوات الممالك الإسبانية الشمالية، وقد وقعت وما يلحق بها في حوزة بني ذي النون، وقد تولى إسماعيل بن ذي النون حكم المدينة لأول مرة في سنة 427 هـ (¬49). وأعقبه في الحكم ولده يحيى في سنة 435 هـ وتلقب بالمأمون، ويمتاز عهده بكثرة الحروب والمنازعات بينه وبين حكام دويلات الطوائف كبني عباد وبني هود (¬50). وكان ¬_______ (¬43) ابن عذاري: 3/ 238، وفيه أيضاً: " إن ملك قشتالة سيطر على مدينة قلمرية نتيجة خيانة حاكمها المسمى راندة ". (¬44) ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 185. (¬45) سليمان بن خلف بن سعدون فقيه مالكي مشهور، ترجمة ابن بسام: ق 2 ج 1: 94. (¬46) ينظر: عبد الرحمن الحجي، التاريخ الأندلسي: 338 وما بعدها. (¬47) ابن الآبار، الحلة السيراء: 2/ 98 و 99. (¬48) ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 186. (¬49) ينظر، عن أسرة بني ذو النون: ابن بسام ق 4 ج 1: 142 وما بعدها، ابن عذاري: 3/ 276، عنان، دول الطوائف: 96 وما بعدها. (¬50) ابن بسام: ق 2 ج 1: 268، ابن عذاري 3/ 277 - 282.

نتيجة تلك الحروب المزيد من الخسائر في الأرواح والمعدات وتدمير مدن وحصون الأطراف المتنازعة، كل ذلك في سبيل الحصول على مكاسب إقليمية من هذه الدويلة أو تلك في الوقت الذي سعى فيه كل طرف من أطراف النزاع إلى التحالف مع أمراء وملوك إسبانيا الشمالية مقابل مبالغ كبيرة من المال، أو مقابل التنازل عن بعض المناطق المهمة (¬51). ومما لا شك فيه فإن هذه الحروب والمحالفات أدت إلى إضعاف هذه الدويلات جميعاً وإن ظهرت الغلبة في فترات لبعضها نتيجة سيطرتها على مناطق واسعة من أراضي الغير. ففي سنة 457 هـ تمكن المأمون من السيطرة على بلنسية، ودخلت قواته في سنة 467 هـ مدينة قرطبة بعد أن قضت على حاميتها من بني عباد ودخل الطرفان بعد ذلك في سلسلة من المنازعات انتهت باستعادة بني عباد لمدينة قرطبة ثم أعاد المأمون الكرة تارة أخرى ودخلها سنة 467 هـ (¬52). وقد أصبحت دولة طليطلة في عهد المأمون من الدويلات المرهوبة الجانب، وامتد نفوذها حتى وصل إلى بلنسية شرقاً، واهتم المأمون بعمائر المدينة فبنى قصوراً اشتهرت بفخامتها وروعتها أطنب المؤرخون في وصفها وأكثر الشعراء من التغني بمجالسها (¬53). توفى المأمون سنة 467 هـ وتولى الأمر بعده حفيده: يحيى بن ذي النون الملقب بالقادر، وتعد سنوات حكمه فترة اختلال سياسي واضمحلال لقوى هذه الدويلة فقد أبعد القادر عن دست الحكم كل شخصية عرفت بسداد الرأي وصدق المشورة ومنهم الوزير ابن الحديدي (¬54)، الذي أبعده عن الوزارة ثم قتله سنة سنة 468 هـ، وأمام ضغط قوات بني حمود التجأ القادر إلى طلب العون من ألفونسو الذي قرر شروطاً باهظة مقابل ذلك العون، فبالإضافة إلى المبالغ الكبيرة، تنازل القادر عن حصون مهمة كحصن سرية وقثورية وقنالش، مما أضعف مركزه كثيراً وازداد اضطرابه عندما اضطربت طليطلة بالثورة، واضطر إلى مغادرتها والالتجاء إلى حصن وبذة سنة 472 هـ واستدعى أهل طليطلة المتوكل بن الأفطس حاكم بطليوس ليتولى إدارة المدينة فقدمها مكرهاً، ولم ¬_______ (¬51) ابن عذاري: 3/ 279 و 281. (¬52) ابن بسام: ق 2 ج 1: 268. وينظر: عنان، دول الطوائف: 102 وما بعدها. (¬53) ابن بسام ق 4 ج 1: 147 وما بعدها. (¬54) هو: يحيى بن سعيد بن أحمد أحد علماء طليطلة المشهورين. ترجمته في الصلة لابن بشكوال: 669. وعن مقتله ينظر: ابن بسام: ق 4 ج 1: 152.

يعمل أكثر من نهب المدينة وإفراغ قصور بني ذي النون من محتوياتها (¬55)، في الوقت الذي استنجد القادر بحليفه ألفونسو السادس فأمده بقوات استعادت طليطلة سنة 474 هـ بعد أن غادرها ابن الأفطس (¬56). ولم تضف سيطرة القادر على المدينة جديداً بل زادتها إرهاقاً وفوضى على كافة المستويات الإقتصادية والأمنية فضلاً عن انقسام العامة إلى عدة أحزاب متخاصمة بين مؤيد ومعارض، وهذه الحالة شجعت ألفونسو السادس على تنفيذ مشروعه باحتلال مدينة طليطلة فبدأ بمحاصرتها سنة 477 هـ، وحاول القادر جاهداً فك الحصار بشتى الطرق لكنه فشل أمام تعنت ألفونسو وتصميمه على دخول المدينة وأخيراً أعلنت طليطلة استسلامها بعد أن يئست من مساعدة دويلات الطوائف الأخرى، فاحتلها ألفونسو سنة 478 هـ (¬57). وكان لسقوط طليطلة وقع شديد بين دويلات الطوائف عامة، وعده رؤساء هذه الدويلات إيذاناً بسقوط معاقلهم التي يعتصمون بها، فاتجهوا صوب المغرب يطلبون نجدة المرابطين ضد القوى الإسبانية الشمالية. 5 - دويلة غرناطة (بنو مناد): سيطر زاوي بن زيري بن مناد على غرناطة سنة 403 هـ واتخذها وقومه ملجأ لهم، واستمر يدير شؤونها مدة سبع سنوات (¬58)، كانت له فيها وقائع مع الخليفة المرتضى سنة 409 هـ فهزمه هزيمة نكراء ورده وفلول جيشه إلى العاصمة قرطبة (¬59). ولأسباب غير واضحة قرر زاوي بن زيري مغادرة الأندلس والالتحاق بوطنه في المغرب العربي سنة 410 هـ (¬60)، بعد أن خلف على حكم غرناطة ابن أخيه: حبوس بن ماكسن الذي تسلم مقاليدها في سنة 411 هـ وكان حسن التدبير والسياسية، نعمت غرناطة في عهده بنوع من الهدوء والاستقرار، واتسعت رقعة هذه الدويلة عندما سيطر على قبرة وعلى مدينة جيان، واهتم بعمارة مدينة غرناطة، حتى مكن لبني مناد ملكاً قوياً راسخاً. وكانت ¬_______ (¬55) ابن بسام؛ ق 4 ج 1: 157 و 161، ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 178. (¬56) ابن بسام، ق 4 ج 1: 162. (¬57) ابن بسام: ق 4 ج 1: 163 وما بعدها، ابن خلدون: 4/ 161، المقري: 1/ 441. (¬58) ابن الخطيب، الإحاطة: 1/ 146، وينظر ابن خلدون: 4/ 160. وفيه إن الصراع مع المرتضى كان سنة 420 هـ. (¬59) ابن الخطيب، الإحاطة: 1/ 524، ابن عذاري: 3/ 125 وما بعدها. (¬60) ابن الخطيب، الإحاطة: 1/ 524، ابن عذاري: 3/ 128.

سياسته تقوم على مصادقة جيرانه من زعماء البربر وفي مقدمتهم بنو حمود حكام مدينة مالقة، والتحالف مع هذه القوى ضد بني عباد حكام إشبيلية (¬61). توفي حبوس سنة 428 هـ (¬62) وخلفه في حكم غرناطة ولده: باديس، الذي قدر له أن يكون من أقوى حكام هذه الدويلة وأوفرهم حظاً للنهوض بأعباء الحكم، وقد افتتح عهده بالقضاء على مؤامرة استهدفت قلب نظام الحكم دبرها ابن عم له يدعى يدير بن حباسة الذي هرب مع كبار المتآمرين إلى إشبيلية عندما اكتشفت هذه المؤامرة قبل تنفيذها (¬63). وجرياً على نهج حكام دويلات الطوائف فقد دخل باديس بن حبوس في حرب قاسية مع زهير العامري صاحب المرية بعد أن اختلت العلاقات الطيبة بين الطرفين (¬64)، نتيجة لتضارب مصالح كلتا الدولتين (¬65)، وتمكنت قوات باديس من تدمير قوة زهير العامري وقتله في ميدان المعركة 429 هـ/1038 م (¬66)، وكان من نتائج هذه المعركة سيطرة باديس على معظم أملاك دويلة زهير العامري المتاخمة لدويلة غرناطة ومنها مدينة جيان وأعمالها، وقسماً من أراضي كورة قرطبة الجنوبية (¬67). وعندما حاول بنو عباد غزو مدينة قرمونة (¬68). تحركت قوات باديس لنجدتها وتمكنت من تشتيت قوات بني عباد وقتل قائدهم إسماعيل بن عباد قرب استجة في سنة 431 هـ/1039 م (¬69). ¬_______ (¬61) عنان، دول الطوائف: 126. (¬62) ابن الخطيب، الإحاطة: 1/ 485، وفي تاريخ ابن خلدون: 4/ 160 وفاته سنة 429 هـ. (¬63) عنان: دول الطوائف: 128. (¬64) تحالف زهير العامري مع حبوس بن ماكسن على قتال ابن عباد، فلما توفي حبوس وخلفه باديس، بدأت العلائق بين زهير وباديس في الفتور، وذلك لما عمد إليه زهير من إيواء عدو باديس محمد بن عبد الله زعيم زناتة وحمايته ... ينظر: دول الطوائف: 128. (¬65) ابن الخطيب، الإحاطة: 1/ 527. (¬66) ابن الخطيب، المصدر السابق: 1/ 527 و 528، ابن عذاري 3/ 169 وما بعدها. (¬67) عنان، دول الطوائف: 129. (¬68) كانت مدينة قرمونة تحت حكم محمد بن عبد الله البرزالي وقد سقطت هذه المدينة عندما هاجمتها قوات بني عباد بقيادة إسماعيل بن عباد، فاستعان البرزالي بزعماء البربر ومنهم باديس بن حبوس والذي يعتبر بمثابة كبير الزعماء البربر الذي يقع على عاتقه نجدة ومساعدة هؤلاء الحكام ضد أي غزو خصوصاً بني عباد الأعداء التقليديين لهؤلاء الحكام. (¬69) ابن عذاري: 3/ 201 و 202.

وظل بنو مناد الصنهاجيون وبنو عباد في صراع وتسابق لكسب مناطق النفوذ فلما اضمحلت قوة الحموديين بدأت غرناطة تخطط لاحتلال مالقة في الوقت الذي بدأ معه ابن عباد الإعداد للسيطرة على الجزيرة الخضراء والتي دخلوها فعلاً سنة 446 هـ/1055 م بعد أن جلا عنها حاكمها القاسم بن حمود (¬70)، وفي سنة 448 هـ/1056 م تمكن ابن حبوس من دخول مالقة منهياً حكم الحموديين في هذه المدينة أيضاً (¬71)، ولكن بني عباد وجدوا في احتلال مالقة من قبل قوات ابن حبوس تحدياً لهم، فأرسلوا قواتهم لاحتلالها ولكنهم بعد معركة عنيفة بين الطرفين سنة 458 هـ/1066 م خسر فيها الإشبيليون معظم جنودهم إلا من نجا بالفرار من الميدان (¬72)، واستمر النزاع سجالاً بين الطرفين لسنوات أخرى، تبودلت فيها السيطرة على المناطق العديدة (¬73)، مع فداحة خسائر الطرفين، وتعرض الكثير من مناطق الأندلس إلى الخراب والدمار. ومع طول سنوات حكم باديس بن حبوس بلغت غرناطة في عهده كأقوى الدويلات القائمة آنذاك " إذ كانت تمتد من بسطة شرقاً حتى استجة ورنده غرباً، ومن بياسة وجيان شمالاً حتى البحر جنوباً " (¬74)، وكانت هذه الدويلة مسؤولة عن حماية الدويلات والإمارات البربرية " وباديس هو الذي حصن مدينة غرناطة، وغدت منذ عهده من أهم قواعد الأندلس الجنوبية، وأنشأ قصبة غرناطة فوق أنقاض قلعتها القديمة وسميت باسمها القديم القلعة الحمراء ... وأنشأ له جيشاً قوياً مرابطاً من قومه صنهاجة وغيرهم، وبذل له المال الوفير، ووطد الدولة، ونظم مراتبها وعمالاتها " (¬75). وبعد وفاة باديس سنة 465 هـ/1073 م تولى أمر دويلة غرناطة حفيده عبد الله بن بلكين الذي كان حدثاً لم يقو على إدارة البلاد، ففقدت الدويلة ديمومتها واستقرارها وعاد بنو عباد يهاجمون أملاكها (¬76)، مما أجبر عبد الله على محالفة ألفونسو السادس ¬_______ (¬70) ابن عذاري: 3/ 242. (¬71) ابن الخطيب، الإحاطة: 1/ 443. (¬72) ابن الخطيب، الإحاطة 1/ 444. (¬73) في سنة 458 سيطر ابن حبوس على قاعدة اركش، بناء على رغبة زعماء هذه القاعدة بعد أن عجزوا عن حمايتها أمام غارات بني عباد، وعاد بنو عباد ليسيطروا على القاعدة المذكورة ويمدوا نفوذهم على سائر منطفة شذونة. ينظر: دول الطوائف: 132. (¬74) عنان، دول الطوائف؛ 139. (¬75) عنان، المصدر السابق: 139. (¬76) سيطر بنو عباد على جيان سنة 466 هـ وهي من أهم قواعد دويلة غرناطة الشمالية.

وترضيته بأموال باهظة (¬77) وبدأت أحوال هذه الدويلة تجنح للتفسخ عندما بدأ الصراع بين أفراد الأسرة الحاكمة نفسها، فاستقل تميم بن باديس بحكم مالقة وما جاورها، وبدأ صراع بين الأخوين، أهدرت خلاله قوى هذه الدويلة واستمر حكم عبد الله حتى دخول القوات المرابطية غرناطة سنة 483 هـ (¬78). 6 - دويلة بلنسية: بلنسية من القواعد المهمة في شرق الأندلس، تداولها العديد من المتغلبون بعد انفراط عرى الوحدة السياسية في البلاد، وأول من سيطر عليها الصقالبة الذين وجدوا فيها ملاذاً أميناً لهم، عندما خرجوا من قرطبة إبان الفتنة التي اضطرم لظاها بعد مقتل الحاجب عبد الرحمن شنجول آخر العامريين. حكمت بلنسية لفترة من قبل مجاهد العامري، ثم غادرها إلى دانية بعد أن انتقل حكم المدينة إلى الفتيان العامريين من الصقالبة وكان على رأسهم الفتيان مبارك ومظفر، اللذان اشتركا معاً في إدارة وحكم المدينة وما يتبعها من المدن والمناطق، وإن كان لمبارك التقدم في الرتبة والرئاسة على زميله الآخر، وقامت سياستهما على فتح أبواب المدينة للوافدين من أبناء جلدتهم الصقالبة، والعناصر الأخرى المناصرة لهم، مما أضاف قوة إلى قوة الموجودين في المدينة منهم (¬79). وكانت بلنسية على علاقات طيبة مع معظم مدن شرق الأندلس وفي صراع مستمر مع حكام سرقسطة الذين كانوا يرومون التوسع على حساب مناطق شرق الأندلس. انتهت دولة هذين الفتيين سنة 408 هـ لتحكم من قبل لبيب العامري ومجاهد العامري، ولكن الأمور لم تستو لهما، فعندما دب النزاع بينهما واشتد الخلاف حسم الأمر بتقديم عبد العزيز بن عبد الرحمن شنجول سنة 411 هـ/1021 م (¬80). ولكن هذا التقديم لم يكن ليرضي كبار الصقالبة فعمد خيران الصقلبي صاحب المرية ومرسية وأوريولة من باب المنافسة الشرعية والمحافظة على ما يملكه إلى ترشيح محمد بن عبد الملك بن المنصور ابن أبي عامر ولقب بالمعتصم، لكن الظروف التي ¬_______ (¬77) تعهد بدفع عشرين ألف دينار سنوياً. (¬78) ابن الخطيب، الإحاطة: 1/ 146. (¬79) ابن بسام: ق 3 ج 1: 15 - 19. وينظر عنان، دول الطوائف: 16، وما بعدها. (¬80) ابن بسام: ق 3 ج 1: 20 و 21 و 249.

قدمت المعتصم هي نفسها التي أجلته عن موقعه وأبعدته عن شرق الأندلس لينفرد خيران بالسلطة في المناطق التي يسيطر عليها حتى وفاته سنة 419 هـ/1029 م (¬81)، فخلفه زهير العامري الذي قتل عندما حاول غزو غرناطة سنة 429 هـ/1038 م (¬82)، واستغل عبد العزيز خلو المرية من الزعامة فسيطر عليها وعلى معظم المناطق القريبة منها عدا مدينة جيان التي أصبحت ضمن أملاك دويلة غرناطة، وإزاء هذه التطورات قرر مجاهد العامري مهاجمة دويلة بلنسية. وفي سنة 433 هـ/1041 م وقعت الحرب بين القوتين، تبادل فيها الطرفان النصر والهزيمة، وانجلى الموقف أخيراً عن دخول عبد العزيز مدينة شاطبة وتعزيز سلطانه في مدن شرق الأندلس، واستمرت دويلته آمنة الجانب حتى وفاته سنة 452 هـ/1061 م (¬83)، فولي بعده ولده: عبد الملك الملقب بنظام الدولة وبالمظفر، وفي عهده آل أمر بلنسية للمأمون بن ذي النون صاحب طليطلة وأصبحت ضمن أملاكه سنة 457 هـ/1065 م (¬84). واستمرت بلنسية تحكم من قبل ذي النون حتى وفاة المأمون سنة 467 هـ/1075 م فاستقل بها أبو بكر بن عبد العزيز - الذي كان نائباً عن ذي النون في حكمها - فحكمها دون منازع، واستعان بملوك الممالك الإسبانية الشمالية لرد الهجمات عنها مقابل دفع الأموال الكبيرة إليهم. وحكم عشر سنوات، وتوفي سنة 478 هـ فناب عنه ولده: أبو عمرو عثمان، الذي بدأ ولايته مع سقوط مدينة طليطلة في يد القشتاليين (¬85)، وكان لهذا الحدث نتائجه السلبية على عموم بلاد الأندلس، ومصير دولة بلنسية بوجه خاص. فحينما استولى ألفونسو السادس على طليطلة " من يد صاحبها القادر بن ذي النون، حفيد المأمون، فقد تعهد له أو وعده ضمن عهوده لقاء الاستيلاء على المدينة، أن يمكنه من استرداد بلنسية التي خرجت عن طاعته، بل قيل إنه وعده بمعاونته على افتتاح دانية وشنتمرية الشرق إذ كان يعلم أنه بتمكين القادر من الاستيلاء على هذه المدن فإنها تغدو في الواقع تحت حمايته، ويغدو شرق الأندلس، واقفاً تحت سيادته، عن طريق القادر " (¬86). ¬_______ (¬81) ابن خلدون: 4/ 162. (¬82) ابن الخطيب، الإحاطة 1/ 527. (¬83) ابن بسام، ق 3 ج 1: 250، ابن سعيد: 2/ 300. (¬84) ابن سعيد: 2/ 300، ابن خلدون: 4/ 161. (¬85) ابن خلدون: 4/ 162. (¬86) عنان، دول الطوائف: 227.

وقد تمكن القادر من دخول بلنسية بعد أن خلع أهلها أبا عمرو عثمان وقامت دولة بني ذي النون في هذه المدينة (¬87) تحت وصاية ألفونسو السادس وتحت رحمة جنده المرابطين فيها، والذين باتوا يشكلون عبئاً ثقيلاً نتيجة إلحاحهم في طلب الأموال، وزادت حالة المدينة سوءاً عندما تحول القادر إلى حاكم متعسف لا يهمه المصلحة العامة بقدر ما تهمه مصالحه الذاتية وإرضاء الحلفاء المسلطين عليه، حتى اضطر علماؤها إلى الهجرة والخروج عنها، ولم ينته هذا الضيق والعسف إلا عندما دخل المرابطون الأندلس، وانسحبت قوات ألفونسو من بلنسية للإشتراك في العمليات العسكرية ضد المرابطين (انتصر فيها هؤلاء بعدئذٍ في واقعة الزلاقة سنة 479 هـ/1086 م)، وحاول القادر مثله مثل حكام دويلات الطوائف التقرب من المرابطين، لكنه لم يحظ بطائل، فعادت أمور بلنسية إلى الاضطراب، وشعر بخطورة الموقف عندما استغل المنذر بن هود حاكم لاردة وطرطوشة الفرصة وحاصر بلنسية سنة 481 هـ/1088 م. فاستعان القادر بحليفه ألفونسو السادس والمستعين ابن هود حاكم سرقسطة منافس المنذر، ولكن لكل واحد من هذين أهدافه وأطماعه في دويلة بلنسية، وعندما وصلت قوات المتحالفين قرر المنذر فك الحصار ومغادرة مواقعه لتحل محل قواته قوات المستعين التي ضمت في صفوفها فرقة هن الفرسان المرتزقة الإسبان يقودها السيد الكمبيادور الذي سبق له أن خدم والد المستعين وجده من قبل. وتشير المصادر التاريخية إلى اتفاق سري بين المستعين والسيد الكمبيادور خلاصته غزو المدينة واقتسام أملاكها، بحيث تكون جميع الغنائم لقوات الكمبيادور والمدينة نفسها من نصيب المستعين، ويبدو من سير الأحداث بعد ذلك محاولة نكث كل طرف بالآخر، ومحاولة كل واحد العمل لحسابه الخاص بعد أن تمكن القادر من إجراء محالفات سرية بين الطرفين كل على حدة محاولاً الإيقاع بينهما، وحاول كسب السيد الكمبيادور الذي رحب بعروض القادر، ورفض مهاجمة مدينة بلنسية بحجة كون القادر يتمتع بحماية ألفونسو السادس وإن الهجوم عليه يعني الخروج عن طاعة ملكه ملك قشتالة (¬88). ومنذ ذلك الحين انفض الحلف الذي كان يربط المستعين بالسيد الكمبيادور الذي بدأ يجوب مدن شرق الأندلس ويفرض على حكامها المبالغ الطائلة. واستمر على تلك ¬_______ (¬87) ابن خلدون: 4/ 162. (¬88) عنان، دول الطوائف: 241.

الأعمال سنوات عديدة، وكانت بلنسية تدفع له سنوياً قرابة مئة ألف دينار لقاء حماية المدينة والحرب نيابة عن القادر، حتى ساءت الأحوال الإقتصادية وعمت الشكوى جميع السكان، فقاد قاضيها أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن جحاف المعافري ثورة بمعاونة قوات المرابطين أنهت حكم المقتدر وأوصلته إلى الإعدام سنة 485 هـ/1029 م واختير ابن جحاف رئيساً لإدارة شؤون المدينة (¬89). وأمام هذه التطورات قرر السيد الكمبيادور احتلال مدينة بلنسية واسترجاعها من يد المرابطين، وبدأ بسلسلة من المفاوضات السرية بينه وبين ابن جحاف يمنيه بحكم هذه المدينة ويؤمن حمايته بشرط إخراج المرابطين منها وانتهت المفاوضات بينهما على البنود الآتية: 1 - أن يغادر المرابطون المدينة دون أن يعترضهم أحد. 2 - أن يسلم ابن جحاف للسيد أموال القادر. 3 - أن تسلَّم له الأموال التي كانت مقررة له سابقاً " كجزية سنوية ". 4 - تبقى ضاحية الكدية " إحدى ضواحي المدينة " بيد السيد. 5 - أن يرتد الجيش القشتالي إلى جباله. ولا خلاف فشروط الاتفاق باستثناء الشرط الخامس والذي لم ينفذ في الأصل هي في صالح السيد الذي استغل ذلك استغلالاً بشعاً وبات يهدد المدينة وأمنها حتى غزاها سنة 488 هـ/1095 م (¬90)، وقبض على ابن جحاف وأسرته وقتلهم جميعاً، وقصة تعذيب ومقتل ابن جحاف مشهورة في كتب المؤرخين (¬91)، وظلت بلنسية تحت حكم السيد حتى وفاته سنة 492 هـ/1099 م فحكمتها زوجته خمينا التي تولت الدفاع عنها ضد المرابطين (¬92). ثم دخلها ألفونسو السادس في سنة 495 هـ/1102 م وقرر إخلاءها بعد أن دمرها تدميراً تاماً، ثم دخلها المرابطون في نفس السنة لتعود إلى حظيرة العروبة والإسلام (¬93). ¬_______ (¬89) ابن عذاري: 3/ 305 (الذيل) و 4/ 32؛ ابن الخطيب، أعمال الأعلام: 182. (¬90) ابن عذاري: 3/ 306، و 4/ 36. وينظر: عنان، دول الطوائف: 242. (¬91) ينظر، ابن بسام: ق 3 ج 1: 99، ابن الآبار، التكملة: 1/ 240، ابن عذاري: 4/ 37. (¬92) عنان، دول الطوائف: 248. (¬93) ابن بسام، ق 3 ج 1: 101، ابن عذاري: 4/ 41 و 42.

7 - دويلة سرقسطة: تعد دويلة سرقسطة، أو الثغر الأعلى (¬94) من أكبر الدويلات القائمة في البلاد مساحة، وكانت تتميز فضلاً عن ذلك بموقعها المتاخم لدول الممالك الإسبانية الشمالية " بين قطلونية من الشرق، ونافارا أو نبرة من الشمال الغربي، وقشتالة من الجنوب والغرب " (¬95)، وتعد هذه الدويلة من أقدم الدويلات الأندلسية استقلالاً عن السلطة المركزية، ذلك أن موقعها النائي في شمال شرقي الجزيرة الأندلسية كان يحتم عليها دائماً الذود عن وجودها من جميع الأطماع المضطرمة حولها (¬96). تولى حكم هذا الثغر يحيى بن عبد الرحمن التجيبي سنة 379 هـ/989 م بإقرار من المنصور ابن أبي عامر، وظل حاكماً عليه حتى وفاته سنة 408 هـ/1017 م فخلفه ولده المنذر الذي يعد أول حاكم لدويلة سرقسطة، حيث تلقب كغيره من حكام الدويلات بالألقاب السلطانية فتسمى بذي الرياستين ولقب بالمنصور. واشتركت هذه الدويلة في الأحداث الجارية على الساحة الأندلسية، فقاتلت قواتها بجانب الأندلسيين ضد البربر الذين كانوا تحت قيادة زاوي بن زيري الصنهاجي سنة 409 هـ/1018 م، ومع خسارة المعركة أيقن المنذر عدم جدوى هذه المنازعات لكون أهدافها لا تحقق له أية امتيازات أو مكاسب. فبدأ يراهن على دخول مدينة بلنسية بعد أن أصابتها الاضطرابات، نتيجة تنافس الصقالبة على الاستئثار بحكمها بعد وفاة مبارك العامري سنة 408 هـ، وقد تمكن مجاهد العامري من صد قوات المنذر ومنعه من دخول المدينة، واستمر الصدام بين الطرفين حتى تم إعلان عبد العزيز بن عبد الرحمن شنجول سنة 411 هـ/1021 م حاكماً على بلنسية وما يلحق بها من المدن عندئذٍ قرر المنذر الانسحاب إلى سرقسطة بعد أن انسحب مجاهد العامري إلى قواعده في دانية (¬97). ومن الظواهر السلبية التي رافقت عصر المنذر، تلك العلاقات المشبوهة التي كانت تربطه بأمراء الممالك الإسبانية الشمالية، فقد كان على علاقة مع أمير برشلونة رامون بوريل، وشانجة أمير نافار، وألفونسو الخامس ملك ليون، وقد بالغ المنذر في التقرب من هؤلاء الأمراء والملوك حتى أسخط عليه العامة، فرمته بشتى أوصاف الخضوع ¬_______ (¬94) ينظر خليل السامرائي، الثغر الأعلى الأندلسي: 39 وما بعدها. (¬95) عنان، دول الطوائف: 264. (¬96) عنان، المصدر السابق: 264 و 265. (¬97) ينظر: دويلة بلنسية " المبحث السابق ".

والخيانة (¬98)، مات سنة 414 هـ/1023 م وتناوب على حكم دويلة سرقسطة بعده اثنان من أسرة بني تجيب أولهما: يحيى بن المنذر الذي خلف والده وتلقب بالمظفر وفي زمانه أغار أمير برشلونة على أراضي دويلة سرقسطة واستولى على بعض القلاع والمناطق المهمة (¬99)، وثانيهما: المنذر بن يحيى الذي تولى حكم سرقسطة بعد وفاة والده سنة 420 هـ/1029 م وتلقب بمعز الدولة، واغتيل سنة 430 هـ/1039 م (¬100)، وباغتياله ينتهي حكم بني تجيب، لتبدأ أسرة أخرى في حكم سرقسطة وما والاها وهي أسرة بني هود (¬101) وعميدها قائد مشهور من قواد بني تجيب هو: سليمان بن محمد بن هود، حكم سرقسطة سنة 431 هـ/1039 م، وتلقب بالمستعين وتميزت سنوات حكمه بالصراع المرير مع المأمون بن ذي النون حاكم طليطلة وكانت المنطقة الواقعة بين الدولتين، من ناحية الجنوب الغربي من دويلة سرقسطة وناحية الشمال الشرقي من دويلة طليطلة، موضع الاحتكاك بين الطرفين. حيث دارت معارك دامية في سنة 436 هـ/1044 م وما بعدها بين قوات الطرفين وقد ألجأت هذه الحروب الطرفين إلى التحالف مع حكام الممالك الإسبانية لقاء الأموال الطائلة فتحالف ابن هود مع ملك قشتالة فرناندو، وتحالف المأمون بن ذي النون مع ملك نافار غرسية، فاستمر " ملكا قشتالة ونافار يعملان بكل ما بوسعهما على إذكاء هذه الفتنة، فيغير الأول على أراضي طليطلة لحساب ابن هود، ويغير الثاني على أراضي سرقسطة لحساب ابن ذي النون، ولم تخمد هذه المعركة الانتحارية بين الأميرين المسلمين إلا بعد وفاة ابن هود في سنة 438 هـ/ 1046 م " (¬102). ومن سوء سياسة سليمان بن هود تقسيمه دويلة سرقسطة بين أولاده الخمسة، فولى ولده أحمد مدينة سرقسطة ويوسف مدينة لاردة، ومحمد قلعة أيوب، ولب مدينة وشقة، والمنذر مدينة تطيلة. وعندما توفي سليمان بن هود سنة 438 هـ استقل الأبناء كل في مدينته، وبدأ النزاع بينهم حتى تمكن أحمد حاكم مدينة سرقسطة والملقب بالمقتدر التغلب على جميع أملاك أخوته باستثناء ما كان تحت حكم أخيه يوسف ولم يحدث هذا ¬_______ (¬98) ابن عذاري: 3/ 175 وما بعدها. وينظر: ابن خلدون 4/ 163. (¬99) عنان، دول الطوائف: 27. (¬100) ابن عذاري: 3/ 178 وما بعدها و221 و 222. (¬101) ابن الآبار، الحلة السيراء 2/ 246، ابن خلدون: 4/ 163. (¬102) عنان، دول الطوائف: 272.

فقط بل نكل أحمد المقتدر بأخوته تنكيلاً ضجت منه العامة وطالبت بخلعه (¬103)، ورجحت كفة منافسه يوسف صاحب لاردة، واستجدّت ظروف طارئة أعلت كفة المقتدر مرة أخرى (¬104)، وقوت مكانته في هذه الدويلة بعد أن تمكن من استرداد كافة القواعد التابعة لدويلة سرقسطة باستثناء مدينة لاردة (¬105)، ثم احتل مدينة طرطوشة سنة 452 هـ/ 1060 م منهياً بذلك حكم الصقالبة في هذا الثغر (¬106). ومن الأحداث المأساوية التي وقعت في عهد أحمد المقتدر احتلال مدينة بربشتر من قبل النورمانديين سنة 456 هـ/1064 م فقد خرج النورمانديون من قاعدتهم نورماندي (¬107)، يريدون الأندلس، فحاصروا مدينة وشقة إحدى مدن دويلة سرقسطة، وعندما فشلوا في اقتحامها توجهوا إلى مدينة بربشتر التي تعرضت لحصار القوات الغازية، فترة أربعين يوماً، ولم يفكر المقتدر بن هود بنجدة المدينة لكونها من أعمال أخيه يوسف الذي تخاذل بدوره عن تقديم أي عون لها فتركها تلاقي مصيرها. وعلى الرغم من صمود المدينة وبسالة قواتها في الدفاع ورد الغزاة، إلا أنها سقطت ودخلها النورمانديون واستباحوها ودمروا عمائرها واقترفوا في سكانها من المناكير ما لم يقترفه آدمي قبلهم، فعبروا بتلك الأعمال عن حقيقتهم الوحشية وسيرتهم الهمجية، وقد كان صدى هذه النكبة قد عم بلاد الأندلس، مما عجل في العمل على استرجاعها وتطهيرها من دنس الغزاة، وقد سارت قوات المقتدر في جمادى الأولى سنة 457 هـ/1065 م فعلاً وتمكنت من تحرير المدينة بعد معركة شديدة هزم فيها النورمانديون وحلفاؤهم الموجودون معهم للدفاع عنها (¬108)، ووقعت للمقتدر بعد ذلك وقائع مع جيرانه من الممالك الشمالية (ارجون، ونافار، وقشتالة) فقد كانت هذه الممالك تتحين الفرص ¬_______ (¬103) ابن عذاري: 3/ 222 و 223. (¬104) تفاصيل ذلك في: البيان المغرب: 3/ 223. (¬105) ابن عذاري: 3/ 224. (¬106) اضطربت الأمور في طرطوشة ولم يتمكن الفتى نبيل أحد فتيان الصقالبة من تدارك الأمور، فاستغل المقتدر الفرصة وزحف لاحتلالها، واضطر نبيل الصقلبي إلى تسليم المدينة دون قتال، ويعد ثغر طرطوشة من المناطق المهمة لأنه مخرج سرقسطة إلى البحر، إذا استثنينا ثغر طركونة الواقع على حدود إمارة برشلونة وكان من أعمال لاردة. دول الطوائف: 73، 74. (¬107) تقع في شمال غرب فرنسا، وقد حصل عليها النورمانديون سنة 229 هـ بعد حروب ومفاوضات مع شارل الثالث الملقب البسيط. (¬108) تفاصيل الخبر عن حادثة بربشتر في الذخيرة، لابن بسام ق 3 ج 1: 178 - 190؛ ابن عذاري: 3/ 225.

للنيل من هذه الدويلة سواء باقتطاع أقاليمها أو ابتزاز أموالها، وهذه الظروف نفسها كانت العامل في التجاء المقتدر إلى محالفة بعض ملوك هذه الممالك وبذل الأموال الطائلة لهم ضد البعض الآخر (¬109). وعلى الرغم من ذلك فقد كان المقتدر أحد كبار حكام الطوائف، تميز بمقدرة سياسية وعسكرية عالية على أن مشاريعه وأعماله كانت تنطوي أحياناً على بعض الصفات السيئة، وتمتعت سرقسطة في وقته بمكانة مميزة ومرموقة فقد كان بلاطه يضم كبار علماء العصر ومشاهيرهم في العلوم والآداب، وكان المقتدر نفسه عالماً من علماء عصره شغوفاً بدراسة الفلسفة والفلك والرياضيات وكان قصره المسمى بقصر الجعفرية نسبة إلى كنيته (أبو جعفر) من أكبر وأضخم قصور ذلك العصر وقد اشتهر في تاريخ الفن الإسلامي باسم دار السرور وكان أروع ما فيه بهوه الرائع الذي زينت جدرانه بالنقوش والتحف الذهبية البديعة، فيسمى لذلك بالبهو الذهبي أو مجلس الذهب. ولما سقطت سرقسطة في يد الإسبان شوهت معالم هذا القصر البديع وأدخلت فيه تعديلات وتغييرات عديدة قضت على محاسنه وزخارفه العربية (¬110). مات المقتدر سنة 474 هـ/1081 م وقد اقترف نفس الخطأ الذي اقترفه والده من قبل، فقد قسم دويلة سرقسطة بين ولديه فخص ولده الأكبر يوسف المؤتمن بسرقسطة وأعمالها (¬111)، وولده المنذر بلاردة وطرطوشة ودانية، وعادت الحرب الأهلية بين الطرفين واستعان كل طرف على الآخر بمرتزقة الممالك الإسبانية الشمالية، فتحالف المؤتمن مع السيد الكمبيادور صديق والده القديم واستعان المنذر بملك أرجوان وأمير برشلونة، ودارت بين الطرفين سلسلة من الصدامات خربت على أثرها العديد من المدن والحصون ولم تجن الأطراف المتنازعة غير المزيد من الخسائر في الرجال والأموال. ولم يحكم المؤتمن أكثر من أربع سنوات فتوفى سنة 478 هـ/1085 م فخلفه في حكم سرقسطة وأعمالها ولده: أحمد المستعين، والذي لم يضف جديداً على سياسة والده فاستمر في التحالف مع السيد واشترك في الصراع حول السيطرة على بلنسية " وقد سبق الحديث عن ذلك " وقد دخل المستعين بعد فشله من احتلال بلنسية في صراع وحروب شديدة مع مملكة أرجون التي باتت تهدد دويلته من الشمال، وساقت تلك ¬_______ (¬109) ينظر، عنان، دول الطوائف: 280. (¬110) عنان، المصدر السابق: 283. (¬111) ابن خلدون: 4/ 163.

الحروب المستعين إلى طلب العون من ملك قشتالة مقابل دفع مبالغ كبيرة من المال، ولكن قوات أرجون تمكنت من احتلال مدينة وشقة سنة 489 هـ/1096 م (¬112) التي تعد ثاني مدينة في دويلة سرقسطة، ودارت بعد ذلك معارك شديدة بين الطرفين آخرها معركة (فالتيرا) سنة 503/ 1110 م التي قتل فيها المستعين وارتدت قواته منسحبة باتجاه قاعدة سرقسطة (¬113)، وخلف عبد الملك الملقب بعماد الدولة والده المستعين فشهد دخول المرابطين سرقسطة أواخر سنة 503 هـ لينهوا حكم أسرة بني هود الذي استمر أكثر من سبعين سنة (¬114). 8 - دويلة دانية والجزائر الشرقية: تمكن مجاهد العامري أحد موالي المنصور ابن أبي عامر من السيطرة على مدينة دانية خلال فترة اضطراب الأندلس، وحكمها باسمه ثم تغلب على الجزائر الشرقية في حدود سنة 405 هـ/1014 م (¬115). وبحكم الموقع الجغرافي لدانية من الأندلس فقد تخلصت هذه المدينة من المنازعات التي شغلت حكام الطوائف سنين عديدة، وقامت سياسة مجاهد العامري على بناء وتحصين قواعد دويلته والاهتمام ببناء قوات عسكرية برية وبحرية، أعدت منذ البداية لمهمات تتعدى حدود الأندلس، وكانت أولى تلك المهمات تتحدد في تنفيذ مخططاته الرامية للسيطرة على جزر البحر المتوسط، ومنها جزيرة سردينيا التي احتلت سنة 406 هـ/1015 م (¬116)، والتعرض للمدن الإيطالية جنوه وبيزا ولوني التي أصابتها قواته البحرية مرات عديدة. ولكن العامري لم يتمكن من الاحتفاظ بجزيرة سردينيا طويلاً ¬_______ (¬112) ابن خلدون: 4/ 163. (¬113) ابن خلدون: 4/ 163. (¬114) على أن سقوط سرقسطة لم يكن آخر العهد ببني هود ذلك أن عماد الدولة عبد الملك بن المستعين استقر بقاعدة روطة الحصينة ... يشهد الصراع المضطرم بين المرابطين والممالك الإسبانية الشمالية حول امتلاك سرقسطة، فلما سقطت بأيديهم وضع نفسه تحت حماية سيدها الجديد ألفونسو ... واستمر على حاله حتى توفي في روطة ... سنة 524 هـ/1130 م فخلفه في الإمارة ولده أبو جعفر أحمد بن عبد الملك .. واستمر في حكمه لروطة ... حتى حمله ألفونسو ملك قشتالة ... على التنازل عنها وعوضه عنها بقسم من مدينة طليطلة في سنة 534 هـ /1139 م. (¬115) ابن عذاري: 3/ 155. (¬116) ابن خلدون: 4/ 164، ابن الخطيب، أعمال الأعلام 219.

فاضطر إلى الانسحاب منها بعد أن خسر المعركة أمام قوات التحالف الصليبي الذي قاده البابا بندكتوس الثامن وضم فيما ضم قوات جنوه وبيزا البحرية وذلك في سنة 407 هـ/ 1016 م والعام الذي يليه. وعلى الرغم من هذا الفشل الذي أصاب قوات مجاهد العامري، فقد ظل من أبرز القادة البحريين الذين عرفوا في ذلك العصر وكان اسمه يثير الذعر والخوف والاضطراب في الأوساط الأجنبية وفي موانئ البحر المتوسط خاصة، وظلت سفنه تجوب البحر المتوسط وتغير على المدن الإيطالية وتقطع عليها خطوط مواصلاتها سنين عديدة (¬117). وأما الصفحة الأخرى البارزة في دويلة العامري، فتتمثل بالنشاط العلمي والأدبي الذي حظي باعتناء زائد من قبله، مع سعيه الدائم إلى دعوة العلماء واقتناء مؤلفاتهم النادرة والجديدة (¬118). ويعد أبو عمرو الداني (¬119) إمام القراءات في زمانه، وابن عبد البر (¬120)، وابن سيده (¬121)، من أشهر علماء العصر على الإطلاق فقد طارت مؤلفاتهم شرقاً وغرباً، وهم الذين رفدوا الحياة العلمية بكل جديد ونفيس في مجالات تخصصاتهم المختلفة. مات مجاهد العامري سنة 436 هـ/1044 م بعد أن حكم دانية والجزائر الشرقية زهاء ثلاثين سنة، وخلفه على الحكم ولده: علي الملقب بإقبال الدولة والذي نهج على سياسة والده في الداخل والخارج، وفي عهده ضمت دانية إلى دويلة سرقسطة سنة 468 هـ/1076 م عندما سيطر عليها المقتدر بن هود (¬122). أما الجزائر الشرقية والتي تعد ميورقة من أهم جزرها ففد كانت تحت حكم عبد الله المرتضي الذي استبد بحكمها حتى وفاته سنة 468 هـ وخلفه مساعده في حكم الجزيرة مبشر بن سليمان، وفي عهده تعرضت ميورقة لهجوم الأساطيل الغربية المتحالفة (بيزا الإيطالية وأمير برشلونة وفرنسا) بعد أن بارك البابا هذه الحملة التي ضربت حصاراً على الجزيرة سنة 508 هـ/1114 م وصمدت له صموداً رائعاً على الرغم من قطع المحاصرين ¬_______ (¬117) عنان، دول الطوائف: 194 و199. (¬118) ابن بسام: ق 3 ج 1: 23، ابن عذاري: 3/ 156. (¬119) عثمان بن سعيد الأموي شيخ القراءات في عصره مات سنة 444 هـ بدانية، الصلة: 405. (¬120) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر خرج من قرطبة وسكن دانية ومات بها سنة 463 هـ/ الصلة: 677. (¬121) من أشهر علماء اللغة في عصره له من المؤلفات المحكم وغيره مات سنة 458 هـ. ينظر: ألبير مطلق، الحركة اللغوية في الأندلس: 57. (¬122) ابن عذاري: 3/ 157 أو 228، ابن خلدون: 4/ 164.

لكافة الإمدادات والمؤن عنها، وخلال الحصار توفي مبشر بن سليمان، وتولى قيادة المقاومة أبو الربيع سليمان الذي لم يتمكن من الصمود طويلاً فسقطت مدينة ميورقة سنة 508 هـ/1114 م ودخلتها القوات المتحالفة بعد أن فني معظم المدافعين عنها، فنهبها الغازون عن آخرها وقتلوا جميع من صادفوه حياً من سكانها، واستمرت القوات المتحالفة في عبثها وتخريبها للمدينة حتى حررها المرابطون سنة 509 هـ/1115 م من سيطرة قوات التحالف الغربية عليها (¬123). الكيانات المستقلة (دويلات صغيرة) وقامت في الأندلس دويلات أو إمارات صغيرة حكمت من قبل الأسر المتنفذة واتخذت من مدنها مراكز ومقرات لها. ولم يكن لهذه الدويلات أو الإمارات كبير شأن فهي لم ترق إلى مصاف الدويلات السابقة، بيد أنها كانت محوراً يثير النزاع بين الدويلات الأخرى ومنها على سبيل المثال: أ - بنو طاهر في مدينة مرسية: وعميد هذه الأسرة هو أبو بكر أحمد بن إسحاق بن طاهر أحد العلماء المعروفين وكان رئيس مدينة مرسية مدة تزيد على ست وثلاثين سنة، وبوفاته سنة 455 هـ خلفه ولده محمد بن طاهر وفي عهده سقطت مرسية بيد بني عباد سنة 471 هـ (¬124). ب - بنو برزال في قرمونة: ورأس حكومتها أبو عبد الله محمد بن عبد الله البرزالي وكان نفوذه يمتد إلى مدينة استجة والمدور، وقد تقلب البرزالي المذكور تحت طاعة القوى المختلفة من دويلات الطوائف حتى سيطر بنو عباد على أملاكه سنة 459 هـ (¬125). ج - بنو يفرن في رندة: ورأسهم أبو النور هلال بن دوناس اليفرني الذي حكم حتى وفاته سنة 449 هـ/ 1057 م وخلفه ولده أبو النصر فتوح والذي انتهت على يده إمارة رندة وضمت إلى دويلة إشبيلية سنة 457 هـ/1065 م (¬126). ¬_______ (¬123) ابن خلدون: 4/ 165، وينظر: عنان، دول الطوائف: 221 وما بعدها. (¬124) ابن بسام: ق 3 ج 1: 24 وما بعدها، وينظر: عنان، دول الطوائف: 176، (¬125) ابن عذاري (الذيل) 3/ 311 وما بعدها، وينظر: المصدر السابق: 148. (¬126) ابن عذاري (الذيل) 3/ 312 وما بعدها، وينظر: عنان، المصدر السابق: 152.

د - بنو دمر في مورور: وزعيمهم نوح بن أبي تزيدي الدمري حكم ابتداء من سنة 403 هـ/1013 م لغاية 433 هـ/1041 م وخلفه ولده محمد والذي مات في حبس ابن عباد 449 هـ/1057 م، واستمر بنو دمر يحكمون هذه المدينة حتى سنة 458 هـ/1066 عندما احتلها بنو عباد (¬127). هـ - بنو خزرون في أركش: وزعيمهم أبو عبد الله محمد بن خزرون المتغلب على أركش في سنة 402 هـ واستمر في حكمها حتى وفاته سنة 420 هـ/1029 م فأعقبه ولده عبدون وآخرون من هذه الأسرة حتى سقوطها في يد بني عباد سنة 461 هـ/1068 م (¬128). سمات عصر دويلات الطوائف: استمر عصر دويلات الطوائف في الأندلس أكثر من ثمانين سنة، تنازعت فيه الدويلات القائمة أسباب الفرقة والخلاف، ودخلت في أتون النزاع المرير، وتحملت البلاد ما تحملت من نتائج ذلك الانحلال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتقع تبعية هذا الانحلال على جميع عناصر المجتمع الأندلسي بدون استثناء، فالجميع عملوا على تكوين الدويلات في المناطق التي وجدوا فيها، واصطنعوا لأنفسهم الشرعية التي هي في الأساس الاعتماد على القوة العسكرية لفرض سلطانهم على من هم أضعف حالة من حكام تلك الدويلات. وقد قررنا سابقاً أن من بين أسباب سقوط الخلافة الأموية في الأندلس واضطراب الأحوال فيها: غياب القيادة القادرة على الفعل والحسم وانعدام الإدارة المخلصة القادرة على التفاعل مع أهداف القيادة في سبيل توحيد البلاد، فضلاً عن غياب الشرعية والذي يعني غياب الولاء للحاكم، وعجز الحكام عن ملء الفراغ الذي أحدثه إلغاء الخلافة الأموية نهائياً من الأندلس سنة 422 هـ، فكل ذلك حوّل القيادات الحاكمة في الأندلس إلى قيادات لدويلات إقليمية وعنصرية تقوقعت في مناطق محدودة ولم تتمكن من فرض ¬_______ (¬127) ابن عذاري (الذيل) 3/ 295، وينظر: عنان، المصدر السابق: 154. (¬128) ابن عذاري: 3/ 271، وينظر: عنان، المصدر السابق: 155.

سلطانها الفعلي الدائم خارج حدود مناطقها الأصلية. ومن خلال العرض السابق لدويلات الطوائف القائمة في الأندلس، يمكن إجمال أهم السمات الأساسية المشتركة لهذا العصر بما يأتي: 1 - انفراط عرى الوحدة الوطنية، وتحول البلاد إلى وحدات أو كيانات صغيرة تسمى بدويلات الطوائف، تتميز كل منها بكيان خاص قائم على مبدأ الزعامة لأسرة من الأسر. والاعتماد على قوة عسكرية لتنفيذ أهدافها وإن كانت تلك القوة تتكون في معظم الأحيان من خليط من العناصر الموالية لهذه الأسرة أو تلك. ونظام الحكم قائم على أساس مبدأ الوراثة، وغالباً ما كان هذا النظام سبباً في حدوث النزاع بين أفراد الأسرة الواحدة، لا سيما عندما تقسم أملاك الدويلة بين أكثر من واحد من أبناء الحاكم. 2 - توجه جميع الدويلات القائمة نحو العمل لمصالحها الذاتية، دون أي حساب للقضايا القومية، أو حتى مصلحة الجماعة المنضوية تحت لوائها، وكان حكام هذه الدويلات ضعافاً في وطنيتهم ودينهم، ولم يولوا الكرامة الشخصية أي اهتمام فعندما سقطت بربشتر، وطليطلة لم نجد من بين حكام هذه الدويلات من سارع إلى إنجادها، بل إن المقتدر بن هود لم يحرك ساكناً عندما سقطت بربشتر في يد النورمانديين لكونها من أملاك أخيه يوسف، وكان " بينهما نزاع شخصي " حتى أجبر أخيراً أمام غضبة وثورة الشعب إلى إرسال قواته وتطهير المدينة من دنس النورمانديين. أما طليطلة فسقوطها هز الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، ولم نجد من أولئك الحكام إلا المواقف المتخاذلة والمشينة. 3 - الصراع العنيف بين هذه الدويلات، لكسب ما يمكن كسبه من القلاع والحصون والمدن، وقد فقدت الأندلس جراء ذلك الصراع الألوف من أبنائها، وتعرض كثير من المناطق إلى الخراب والدمار، وفقد الأمن، وساءت الأحوال الإقتصادية نتيجة الاضطراب والفوضى التي كانت تصيب المناطق المتنازع عليها. 4 - دخول جميع دويلات الطوائف بشكل أو بآخر في سلسلة من المحالفات مع أمراء وملوك إسبانيا الشمالية أعداء الأندلس التقليديين، وأصبحت تلك المحالفات جزءًا من السياسة الخارجية لدويلات الطوائف، وغاية تلك المحالفات اقتسام أملاك الدويلات الأخرى، حتى باتت المحالفات تشكل خطراً كبيراً على معظم الدويلات مادياً، نتيجة دفع الأموال الكبيرة لتلك الدويلات مقابل مساعدات معينة، ومعنوياً لتدخلها في سياسة الدويلات القائمة في الأندلس حتى فقدت أكثر الدويلات استقلالها الذاتي، بل وأصبح

رؤساؤها يرسمون سياساتهم العدائية للنيل من الدويلات الأخرى، وكان ذلك هدف سعت إليه الممالك الإسبانية الشمالية ومنذ البداية لإضعاف كل طرف من الطرفين المتنازعين. 5 - حرص كافة حكام الطوائف على الإرتسام بسمات الملك والتلقب بشتى الألقاب الملوكية والسلطانية وزاد بعضهم أن اصطنع لدويلته وحكمه الشرعية والخلفية اللازمة لتسويغ أعماله وفرض سلطانه على الآخرين، عن طريق تنصيب الخلفاء بطريقة تثير السخرية والاستهجان، كما فعل بنو عباد عندما نصبوا خلف الحصري وادعوا أنه الخليفة هشام المؤيد، وكاتبوا في ذلك حكام الطوائف يدعونهم لمبايعته والدخول في طاعته. أو كما فعل صاحب دانية والجزائر عندما نصب المعيطي خليفة وهو شخص من العامة فبايعوه مقتفين بذلك دعوى بني عباد. وبعد: فإذا كان ثمة من حسنة لهذه الدويلات وسمة إيجابية تذكر لها فهي توجهاتها العلمية " فقد كانت في الفترات القليلة التي تجانب فيها الحرب الأهلية تتمتع بقسط لا بأس به من الرخاء وتغمرها الحركة والنشاط، وكان ملوك الطوائف بالرغم من طغيانهم المطبق ... من حماة العلوم والآداب وإنها لظاهرة من أبرز ظواهر عصر الطوائف، أن يكون معظم الملوك والرؤساء من أكابر الأدباء والشعراء والعلماء وأن تكون قصورهم منتديات زاهرة، ومجامع حقة للعلوم والآداب والفنون، وأن يحفل هذا العصر بجمهرة كبيرة من العلماء والكتاب والشعراء الممتازين، ومنهم بعض قادة الفكر الأندلسي والفكر الإسلامي بصفة عامة " (¬129). ¬_______ (¬129) ينظر: عنان، دول الطوائف: 423 وما بعدها.

الفصل الثالث عصر المرابطين 484 - 540 هـ/ 1092 - 1145 م.

الفَصْلُ الثَّالِث عصر المرابطين 484 - 540 هـ/1092 - 1145 م. الأندلس ولاية مرابطية: في الوقت الذي كانت فيه الأندلس تعيش عصر دويلات الطوائف المتنازعة فيما بينها 422 - 484 هـ/1031 - 1092 م، كانت منطقة المغرب الأقصى (مقر دولة المرابطين) تتقاسمها عدة دويلات يمكن إرجاعها إلى أربع قوى وهي: 1 - قبائل غمارة من الشمال وموطنها جبال الريف. 2 - إمارة برغواطة ومقرها إقليم تامسنا (عاصمتها مدينة شالة). 3 - الإمارات الزناتية وهي: إمارة بني خزرون في درعة وسجلماسة، وإمارة بني زيري في فاس، وإمارة بني يفرن في سلا وتادلا، وإمارة بني توالي (يخفش) في منطقة فازاز في منطقة الأطلس الأوسط. 4 - مجموعة البجليين في منطقة السوس ومجموعة الوثنيين في نواحي الأطلس الكبير (¬1). وفي الوقت الذي أوجد فيه داعية المرابطين الديني عبد الله بن ياسين قوة سياسية من الملثمين (المرابطين) خلال الأعوام 429 - 444 هـ، قامت هذه القوة خلال الفترة 444 هـ- 476 هـ بالقضاء على إمارات المغرب الأقصى المتنازعة ووحدتها سياسياً، قد دخلت هذه الدولة الفتية في علاقات متشابكة مع إمارة بني حماد في الجزائر، وإمارة بني زيري في تونس، ومع إمارات الطوائف بالأندلس وهي موضع البحث (¬2). ¬_______ (¬1) السامرائي، خليل، " علاقات المرابطين مع إمارات المغرب الأقصى "، ص 127 - 129. (¬2) حسن أحمد محمود، تيام دولة المرابطين، ص 327.

تميز عصر دويلات الطوائف في الأندلس بالحروب المستمرة بين ملوك هذه الدويلات، كما تميز أيضاً بتبعية أغلبية أمراء الطوائف لملوك الإمارات الإسبانية في الشمال وأخص ولاءهم لألفونسو السادس ملك قشتالة، الذي اتخذ صوراً وأشكالاً مختلفة. وعلى الرغم من سياسة الولاء هذه، إلا أنها لم تجد نفعاً، فقد كان هدف ألفونسو السادس إسقاط هذه الدويلات الواحدة بعد الأخرى، وكان هدفه الأول مدينة طليطلة قلب الأندلس، فسيطر عليها عام 478 هـ/1085 م بالتعاون مع جيوش إسبانية وأوروبية، واتخذها عاصمة لدولته، ومركزاً يشن منها الغارات المتكررة على مدن الأندلس المجاورة (¬3). إزاء هذا المصاب الجلل، تزعم صالح العلماء والفقهاء في الدعوة إلى توحيد الأندلس، من أجل رد كيد ألفونسو السادس، ووضع حد لمطامعه التوسعية على حساب الأراضي الأندلسية، إلا أن هذه الدعوة لم تأتِ بالنتيجة المطلوبة، أمام الانهيار النفسي لأكثر ملوك الطوائف (¬4)، فاتجهت أنظار الشعب وصالح العلماء وبعض الأمراء صوب المغرب الأقصى، باتجاه القوة الفتية التي ظهر كيانها السياسي وهي دولة المرابطين. بعد سقوط مدينة طليطلة بيد الإسبان عام 478 هـ، ازداد عبث الإسبان في سائر أنحاء الأندلس، فقرر أمراء الطوائف -وعلى رأسهم المعتمد به عباد أمير إشبيلية- دعوة المرابطين من أجل رد خطر الإسبان، فجاءت هذه الدعوة بعد ثلاثة أشهر من سقوط مدينة طليطلة (¬5). إن فترة تحول الأندلس إلى ولاية مرابطية مرت بالمراحل الآتية: 1 - الجهاد المشترك بين المرابطين وملوك الطوائف ضد الممالك الإسبانية 479 - 483 هـ. كانت الخطوة الأولى التي اتخذها أمير المرابطين يوسف بن تاشفين في هذا المجال هي العبور بقواته إلى الأندلس في ربيع الأول من عام 479 هـ/حزيران 1086 م ¬_______ (¬3) السامرائي، علاقات المرابطين، ص 126 وبعدها. (¬4) السامرائي، " الدعوة إلى توحيد الأندلس في أيام الطوائف "، ص 82 وبعدها. (¬5) ابن الخطيب: أعمال الأعلام؛ ص 245 - لين بول، العرب في إسبانيا، ص 165.

من أجل نصرة أهل الأندلس، والإعداد لإرجاع مدينة طليطلة إلى دولة الإسلام (¬6). رحب ملوك الطوائف بهذه الخطوة، وساهموا بقواتهم من أجل الجهاد في سبيل الله، وإنقاذ الأندلس من خطر الإسبان. وبعد أن وحدوا الجهود سارت القوات المشتركة صوب سهل الزلاقة شمالي بطليوس بروح جهادية عالية. تمني النفس بالنصر أو الاستشهاد في سبيل الله (¬7). وفي الوقت نفسه كان ألفونسو السادس محاصراً مدينة سرقسطة قاعدة مملكة بني هود، فلما وصلت إلى مسامعه هذه الاستعدادات الإسلامية، ترك حصار سرقسطة وسار بقواته صوب بطليوس بعد أن أرسل صريخة إلى دول أوروبا التي سارعت بإرسال الإمدادات إليه (¬8). وبعد استعدادات عسكرية من الطرفين، وقعت معركة الزلاقة في يوم الجمعة، 12 رجب من عام 479 هـ/تشرين الأول 1086 م، انهزمت فيها قوى الإسبان والأروبيين، وطعن ألفونسو السادس ملك قشتالة وهرب مع شلة من جنوده صوب مدينة طليطلة. وكانت معركة الزلاقة مع المعارك المهمة في بلد الأندلس، استبشاراً للمسلمين في العدوتين، على الرغم من عدم استرجاع مدينة طليطلة من سيطرة الإسبان (¬9). بعد معركة الزلاقة رجع يوسف بن تاشفين إلى المغرب بعد أن ترك حاميات مرابطية في الأندلس تساعد القوات الأندلسية في التصدي لهجمات الإسبان التي بدأت تشن غاراتها على الأندلس انتقاماً لهزيمتها في الزلاقة. وفي الوقت نفسه ازداد عبث الإسبان الموجودين في حصن الييط في شرقي الأندلس، والذين كرروا هجماتهم على مدن لورقة ومرسية، فاستنجد المعتمد بن عباد، وبعض فقهاء الأندلس بأمير المرابطين يوسف به تاشفين مرة أخرى، فعبر إلى الأندلس ثانية في ربيع الأول من عام 481 هـ/1088 م وسار صوب حصن الييط، بعد أن توافدت ¬_______ (¬6) ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 90 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 100. (¬7) النباهي، المرقبة العليا، ص 97 - عنان، دول الطوائف، ص 321 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 404. (¬8) ينظر، ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 94 (وطبعة أخرى ص 146)، الناصري، الاستقصا، ج 2، ص 32 - الطيبي، " واقعة الزلاقة "، ص 18. Piddl, The Cid, P: 217 (¬9) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 130 - المراكشي، المعجب، ص 195 - الحلل الموشية، ص 52 - 53 السامرائي، علاقات المرابطين، ص 179 وبعدها.

إليه جيوش أمراء الطوائف (¬10). شددت القوات الإسلامية الحصار على هذا الحصن لمدة أربعة أشهر، وقد أعيتها مناعة الحصن وحلول فصل الشتاء، فانسحبت هذه القوات صوب مدينة لورقة (¬11). وخلال هذه الفترة استعان الإسبان المحاصرون في الحصن بملكهم ألفونسو السادس الذي أنجدهم مسرعاً وخلصهم من الخطر بعد أن دك أسوار الحصن، وانسحب صوب طليطلة لا يلوي على شيء، لأنه كان يخشى أن تتكرر هزيمة الزلاقة (¬12). تخلصت القوات الإسلامية من خطر حصن الييط دون الدخول في معركة حاسمة، ورجع يوسف بن تاشفين إلى المغرب بعد أن ترك حاميات مرابطية بالأندلس تتصدى لهجمات الإسبان وبخاصة في الشرق. وكان من نتائج عبور أمير المرابطين إلى الأندلس اكتشاف الخلافات العميقة بين ملوك الطوائف، التي توحدها ظاهرياً مخاطر الإسبان، إلا أنه سرعان ما تعود هذه الخلافات من جديد، بالإضافة إلى التعاون السري بين بعض ملوك الطوائف وألفونسو السادس ملك قشتالة. فكان على يوسف بن تاشفين أن ينسحب من ميدان المعركة ويترك الأندلس فريسة للإسبان، أو أن يعتمد على نفسه وقواته فقط لمواصلة الجهاد، ويتطلب هذا الأمر خلع ملوك الطوائف (¬13). 2 - خلع ملوك الطوائف وتوحيد الأندلس تحت سيادة المرابطين: قرر أمير المرابطين يوسف بن تاشفين خلع أمراء الطوائف، والاعتماد على نفسه في مواجهة خطر الإسبان، وقد دفعه إلى هذا العمل عدة أمور: أ - الخلافات الشديدة والمنازعات بين ملوك الطوائف، وقد فشلت جميع جهود يوسف بن تاشفين في إزالة هذه الخلافات (¬14). ب - الموقف الحرج الذي أحاط بالقوات المرابطية الموجودة في بلد الأندلس، حيث قطع ملوك الطوائف الميرة والتموين عن هذه القوات، فأحرج مركزها، فساء هذا ¬_______ (¬10) ينظر، ابن الخطيب، الحلل الموشية، ص 54 - 55 أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 90 - عنان، دول الطوانف، ص 335. (¬11) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 99 (وطبعة أخرى ص 153) - ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 143. (¬12) ابن الخطيب، الحلل الموشية، ص 57. (¬13) السامرائي، علاقات المرابطين، ص 191 - 192. (¬14) الأمير عبد الله، كتاب التبيان، ص 89.

الأمر يوسف بن تاشفين (¬15). ج - قدم المرابطون تضحيات كبيرة في سبيل إنقاذ بلد الأندلس من الخطر الإسباني في معارك الزلاقة وحصن الييط. وقد اعتبر ملوك الطوائف هذه التضحيات أموراً فرضتها الأخوة الإسلامية، وبذلك عاد هؤلاء الملوك إلى منازعاتهم، كما عادوا إلى التعاون مع ملوك الإسبان والارتماء في أحضانهم، بل تطور الأمر إلى الكيد لقوات المرابطين الموجودة في بلد الأندلس (¬16). بعد أن اطمأن يوسف بن تاشفين إلى الأسباب التي تمكنه من خلع ملوك الطوائف، عزز هذا الأمر بصفة شرعية حيث أفتى الفقهاء بالأمر. وكان أهل الأندلس يدركون أن الانتصار في معركة الييط لم يكن بالمستوى الجهادي المطلوب، وقد أكد الفقهاء لعامة الشعب أن الخصومات بين ملوك الطوائف هي السبب في ذلك كله (¬17). عزز يوسف بن تاشفين موقفه حيال خلع ملوك الطوائف من ناحيتين: الأولى: الحصول على فتاوى فقهاء المشرق الإسلامي أمثال الغزالي والطرطوشي، قد وصلت فتاواهم إليه عام 493 هـ، وقد بدأ فعلاً بخلع ملوك الطوائف منذ عام 483 هـ. والثانية: الحصول على تأييد فقهاء الأندلس وعامة الناس الذين أكثروا من شكواهم إليه بعد العبور الثاني، وكشفوا ليوسف بن تاشفين النقاب عن سوء ومكر ملوك الطوائف، وحرضوه على خلعهم، وكان على رأس هؤلاء الفقهاء (أبو جعفر بن القليعي) قاضي قرطبة، الذي عبر إلى المغرب وأخبر أمير المرابطين ببعض الأمور التي تتعلق بملوك الطوائف وبخاصة الأمير عبد الله بن بلقين ملك غرناطة (¬18). تضافرت العوامل التي اعتمدها أمير المرابطين في خلع ملوك الطوائف فعبر بقواته إلى الأندلس في أوائل عام 483 هـ. ولم يبدأ بعزل ملوك الطوائف، بل بدأ بمحاربة الإسبان ليقطع أي اتصال لهم مع حلفائهم من ملوك الطوائف (¬19). فسار يوسف بن ¬_______ (¬15) ابن الخطيب، الحلل الموشية، ص 57 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 187. (¬16) ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 104. (¬17) علي أدهم، المعتمد بن عباد، ص 270. (¬18) الأمير عبد الله، كتاب التبيان، ص 320، ص 487 - ابن الخطيب، أعمال، ج 3/ 250. (¬19) ينظر، ابن الأثير، الكامل، ج 10، ص 189 - النويري، نهاية الأرب، ج 22؛، ص 182 - محمود، قيام دولة المرابطين، ص 302.

تاشفين بقواته صوب مدينة طليطلة عاصمة مملكة قشتالة وشدد حولها الحصار، ووصل في زحفه إلى مدن الحدود مما يلي شمالي طليطلة، ثم حاصر مدينة قلعة رباح الواقعة على الطريق المؤدية إلى مملكة قشتالة (¬20). تصدى لهذا الزحف المرابطي ألفونسو السادس ملك قشتالة فانسحبت القوات المرابطية دون أن تدخل في معركة حاسمة مع الإسبان، ولم تشترك القوات الأندلسية في هذه الحملة، مما أدى إلى تذمر يوسف بن تاشفين، إضافة إلى أن ملوك الطوائف أحسوا بنوايا يوسف بن تاشفين نحوهم فباتوا يترقبون الأمور الجسام (¬21). عاد أمير المرابطين بقواته من أحواز طليطلة صوب الجنوب، بعد أن قطع الصلة بين ملوك الطوائف والإسبان ليضع بداية النهاية لملوك الطوائف. القضاء على ممالك الطوائف 483 - 509 هـ ثمة ظاهرتان يمكن ملاحظتهما في هذا الموضوع: الأولى: - إن أكثر ممالك الطوائف سيطرت عليها القوات المرابطية نتيجة تعاون ملوكها مع الإسبان وموقفهم المضاد للمرابطين، ولهذا سيطرت القوات المرابطية على هذه الممالك تباعاً: فسيطرت على مملكة غرناطة عام 483 هـ/1090 م، وعلى مملكة إشبيلية عام 483 - 484 هـ/1091 م، وعلى مملكة المرية عام 484 هـ/1091 م، وعلى مملكة مرسية عام 484 هـ/1091 م وعلى مملكة بطليوس عام 488 هـ/1095 م، وعلى إمارة البونت عام 496 هـ/1103 م، وعلى إمارة شنتمرية الشرق (سهلة بني رزين) عام 497 هـ/1104 م، وعلى مملكة سرقسطة عام 503 هـ/1110 م. وقد تمت هذه السيطرة بعد جهود كبيرة قامت بها القوات المرابطية في مقاومة الخطر الإسباني المساعد لملوك الطوائف أولاً، وبمقاومة ملوك الطوائف الذين تصدوا للقوات المرابطية ثانياً (¬22). ¬_______ (¬20) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 99 وطبعة أخرى ص 153 - أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 93. (¬21) عنان، دول الطوانف، ص 340 - محمود، قيام دولة المرابطين، ص 303. (¬22) السامرائي، علاقات المرابطين، ص 97 - 244.

الثانية: - إن بعض ممالك الطوائف مثل مملكة بلنسية ومملكة الجزائر الشرقية دخلتها القوات المرابطية لإنقاذها من خطر هجمات الإسبان، أي أن هذه الممالك هي التي طلبت العون من المرابطين فبعد أن كانت مملكة بلنسية مسرحاً لهجمات الإسبان 479 - 495 هـ وخاصة هجمات السيد الكمبيادور (فارس قشتالي مغامر)، الذي عاث في المنطقة فساداً، وأرهق أهلها، وتصدى للقوات المرابطية خلال هذه الفترة الطويلة. وبعد موت الكمبيادور عام 492 هـ/1099 م تعاونت زوجته خمينا مع ألفونسو السادس من أجل التصدي للقوات المرابطية التي دخلت المدينة عام 495 هـ/1102 م بعد إرهاق شديد فوجدوها أطلالاً دارسة (¬23). أما الجزائر الشرقية (البليار) فقد تعرضت لهجمات الأساطيل الإسبانية والإيطالية في عام 508 هـ/1114 م، وبعد مقاومة عنيفة دخلت هذه الأساطيل أهم جزرها وهي جزيرة ميورقة وعملت فيها الخراب والدمار. فاستعان أهل الجزائر الشرقية بالمرابطين الذين أنجدوهم بأسطول بحري دخل الجزائر في عام 509 هـ/ 1116 م وبذلك تدخل الجزائر الشرقية في حوزة المرابطين (¬24). جهاد المرابطين للممالك الإسبانية 483 - 542 هـ: كانت الممالك الإسبانية المعاصرة لهذه الفترة هي: أ - مملكة قشتالة وليون 483 - 542 هـ وكان أشهر ملوكها: 1 - ألفونسو السادس 458 - 502 هـ/1065 - 1109 م. 2 - أوراكة ابنته 502 - 520 هـ/1065 - 1126 م. 3 - ألفونسو السابع (السليطين) 520 - 552 هـ/1126 - 1157 م. يبدو لنا من استعراض الروايات التاريخية التي تناولت المعارك العسكرية بين المرابطين ومملكة قشتالة وليون خلال هذه الفترة، أن هذه المعارك مرت في مرحلتين: المرحلة الأولى 483 - 523 هـ: في هذه المرحلة كان التفوق العسكري للجيوش المرابطية التي بادرت بالهجوم ¬_______ (¬23) حسين، الحياة العلمية في مدينة بلنسية، ص 128 - 140. (¬24) السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 179 - 182 - محمود علي مكي، " وثائق مرابطية جديدة "، ص 185 - 186 - سالم، تاريخ البحرية الإسلامية، ص 244.

على مدينة طليطلة عاصمة قشتالة وأحوازها، فاسترجعت بعض المدن والحصون المحيطة بها، كما انتصرت القوات المرابطية على القوات القشتالية في معركة حاسمة وهي معركة اقليش الواقعة شرقي طليطلة في عام 501 هـ/1108 م حيث انهزمت فيها القوات الإسبانية وقتل قائدها الأمير (سانشو) ابن ألفونسو السادس. وبعد هذا الانتصار كررت القوات المرابطية هجومها على مدينة طليطلة وأوشكت أن تسترجعها إلى دولة الإسلام وبخاصة في عام 507 هـ/1114 م. المرحلة الثانية 523 - 542 هـ: بعد أن خسرت القوات المرابطية في معركة القلاعة عام 523 هـ أمام هجمات قوات مملكة أرغون الإسبانية (سنذكرها فيما بعد)، بدأت قوات مملكة قشتالة بتكرار الهجوم المستمر على مدن الأندلس بقيادة ملكها الطموح (السليطين)، ويبدو لنا أن القوات القشتالية اتخذت لها عدة محاور، من أهمها: أ - محور قرطبة، حيث قامت القوات الإسبانية بمهاجمة قرطبة وأحوازها عدة مرات في عام 524 هـ/1130 م، وفي عام 528 هـ/1133 م وفي عام 536 هـ/1142 م، وفي عام 538 هـ/1143. ب - محور إشبيلية، قامت القوات القشتالية بمهاجمة إشبيلية والمدن المجاورة لها في عام 526 هـ/1132 م، وفي عام 536 هـ/1142 م وعام 538 هـ/1143 م. ج - محور بطليوس وغربي الأندلس، قامت هذه القوات بهجومها عام 528 هـ/ 1134 م، وفي عام 532 هـ/1137 م، وفي عام 536 هـ/1142 م. وبلغ من شدة هجوم القوات القشتالية، أنها وصلت إلى أحواز مدن قرطبة وإشبيلية وألقت الرعب في نفوس أهلها، ولا ينكر دور القوات المرابطية في هذه الفترة التي كرست جل استعدادتها العسكرية من أجل التصدي للقوات الإسبانية، وكانت القوات المرابطية في أغلب الأحيان تنتزع النصر من القوات القشتالية انتزاعاً، وفي بعض الأحيان خسرت المعارك وفقدت خيرة رجالها وقادتها. ومما عرقل مساعي المرابطين الجهادية هذه، نشاط الموحدين في عدوة المغرب وبداية سيطرتهم على أهم المدن والحصون المرابطية، وكذلك بسبب الثورات المتعاقبة التي قامت في بلد الأندلس وتهدف إلى تخليص الأندلس من الحكم المرابطي (¬25). ¬_______ (¬25) السامرائي، علاقات المرابطين، ص 250 - 276.

ب - مملكة البرتغال 483 - 542 هـ: ملوكها خلال هذه الفترة: 1 - الأمير هنري البرجوني (الرنك) زوج تيريزا ابنة ألفونسو السادس وتوفي في عام 505 هـ/1112 م. 2 - تيريزا: الوصية على عرش ابنها (ألفونسو هنريكيز) 505 - 522 هـ/1112 - 1128 م. 3 - ألفونسو هنريكيز (ابن الرنك) 522 - 553 هـ/1128 - 1158 م. إن جهاد المرابطين مع مملكة البرتغال مر في مرحلتين: المرحلة الأولى: 483 - 533 هـ: ففي هذه المرحلة اتخذت القوات المرابطية من مدينة بطليوس قاعدة عسكرية تخرج منها الحملات الجهادية صوب الشمال إلى أراضي مملكة البرتغال، فاستطاعت القوات المرابطية استرجاع بعض المدن المهمة من سيطرة الإسبان ومن أهمها مدن: يابرة واشبونة م وشنترين وذلك في عام 505 هـ/1112 م، ومدينة قلمرية وذلك في عام 511 هـ/1117 م (¬26). المرحلة الثانية 533 - 542 هـ: بعد الصلح الذي تم بين ملك قشتالة (السليطين) وملك البرتغال (ابن الرنك) عام 533 هـ/1139 م وجه ملك البرتغال جهوده من أجل السيطرة على بعض القواعد الأندلسية القريبة من حدود إمارته. فتصدى للقوات المرابطية في غربي الأندلس وانتصر عليها في موقعة (أوريك) على ضفة نهر التاجة. كما استغلت إمارة البرتغال ثورة أهل الأندلس على المرابطين، فسيطرت على مدن شنترين وباجة وماردة واشبونة، أي إنها استرجعت معظم المدن التي استردها المرابطون في المرحلة الأولى (¬27). ج - مملكة برشلونة 483 - 542 هـ: وأشهر ملوكها فى هذه الفترة: 1 - رامون برنجير الثاني 468 - 485 هـ/1076 - 1092 م. ¬_______ (¬26) ينظر، المراكشي، المعجب، ص 228 - 232 - ابن عذاري، البيان ج 4، ص 64 - عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 81. (¬27) ابن الأثير، الكامل، ج 11، ص 106 - عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 527.

2 - رامون برنجير الثالث 485 - 525 هـ/1092 - 1131 م. 3 - رامون برنجير الرابع 525 - 557 هـ/1131 - 1162 م (¬28). واصلت مملكة برشلونة الإسبانية توسعها على حساب أراضي الثغر الأعلى (مملكة سرقسطة) منذ عام 483 هـ/1090م، حيث سيطرت على مدينة طركونة، وفق حملة صليبية باركها البابا أوربان الثاني (¬29). وقد حاولت القوات المرابطية عدة مرات استرجاع ثغر طركونة وبرشلونة، حيث أرسلت القوات المرابطية البرية في عام 495 هـ/1102 م وفي عام 508 هـ/1115 م إلى برشلونة وتوغلت في أراضيها، إلا أنه كان نصراً محدوداً وخسر المرابطون خيرة رجالهم في هذه الحملات (¬30). كما أرسلت حملات مرابطية بحرية إلى منطقة برشلونة، وأسرت الكثير من أهلها وبخاصة (الربرتير) -الذي دخل في خدمة المرابطين فيما بعد- وذلك في عام 511 هـ/1117 م (¬31). وبعد سقوط المرية بيد الإسبان عام 542 هـ شجعهم الأمر على غزو مدينة طرطوشة، التي كان لها أهمية عند الإسبان باعتبارها أعظم ثغور الشمال الشرقي البحرية، كما كانت مأوى المسلمين المجاهدين الذين كثيراً ما كانوا يرابطون في هذا الثغر، ويكررون هجماتهم على مملكة برشلونة وأرغون وشواطئ فرنسا، حتى اعتقدت الممالك الإسبانية أن المسلمين بطرطوشة ربما يستطيعون إسقاط مملكة برشلونة ومملكة أرغون، بل ربما يستطيعون أن يرجعوا سرقسطة إلى عهدها الإسلامي (¬32). لهذا ركزت مملكة برشلونة على مدينة طرطوشة، فهاجمتها بقوات إسبانية وأوروبية باركها البابا، فسيطرت عليها عام 543 هـ/1148 م (¬33). د - مملكة أرغون 483 - 542 هـ: وأشهر ملوك هذه المملكة الإسبانية: 1 - بيدرو الأول 489 - 499 هـ/1096 - 1105 م. ¬_______ (¬28) ابن القطان، نظم الجمان، ص 219 (حاشية) - ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، من 100 (حاشية 3). (¬29) عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 116. (¬30) السلاوي، الاستقصا، ج 2، ص 58 - مؤنس، " الثغر الأعلى "، ص 112. (¬31) ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 66 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 193. (¬32) علام، الدولة الموحدية بالمغرب، ص 176. (¬33) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 126 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 441.

2 - ألفونسو الأول المحارب 499 - 529 هـ/1105 - 1134 م. 3 - دون راميرو الراهب (أخ المحارب) 529 - 532 هـ/1134 - 1137 م. 4 - رامون برنجير الرابع ملك برشلونة 525 - 557 هـ. ورث عرش أرغون بعد أن تنازل الراهب عن هذا العرش إلى صهره ملك برشلونة ولذا لقب ملك برشلونة هذا (كونت برشلونة وأمير أرغون) (¬34). ومما يلاحظ في هذا المجال أن ألفونسو السابع (السليطين) ملك قشتالة فرض نوعاً من الهيمنة والسيطرة على بقية أمراء الممالك الإسبانية. فقد اعترف ملك أرغون (الراهب راميرو 529 - 532 هـ) بأنه يحكم أرغون في ظل ملك قشتالة، وأعلن الاعتراف نفسه ملك النافار، كما أعلن رامون برنجير الرابع ملك برشلونة الاعتراف نفسه (¬35). وكرر هذا الملك محاولاته من أجل استرجاع أهم قواعد الثغر الأعلى فبدأ منذ عام 503 هـ/1110 م يهاجم سرقسطة قاعدة الثغر الأعلى والمدن الأخرى، فقام بمحاولتين في عام 504 هـ/1111 م من أجل السيطرة على سرقسطة ففشل (¬36). ونتيجة لسقوط بيت المقدس بيد الأوروبيين عام 492 هـ/1099 م، عبرت قوات أوروبية إلى إسبانيا وبدأت تعاون ملك أرغون من أجل استرداد أهم المدن الأندلسية، فبدأ ألفونسو المحارب بمحاصرة مدينة تطيلة عام 511 هـ/1117 م واحتلها، وبذلك انهار الخط الدفاعي لمدينة سرقسطة. وفي عام 512 هـ/1118 م شدد الحصار على مدينة سرقسطة، تساعده قوات أوروبية، واستمر هذا الحصار زهاء سبعة أشهر، وحاصر الإسبان المدينة اقتصادياً إلى جانب الهجمات المتكررة عليها. ففي رمضان من عام 512 هـ/1118 م دخل ألفونسو المحارب وحلفاؤه المدينة، وحول مسجدها الجامع إلى كنيسة سميت بكنيسة (لاسيو Laseo) ، واتخذ من مدينة سرقسطة عاصمة لمملكة أرغون الإسبانية. وبسقوط سرقسطة أصبحت قواعد الثغر الأعلى الأخرى مهددة أمام زحف ألفونسو المحارب، الذي سيطر على مدينة روطة المنيعة في العام نفسه. ثم سيطر في عام 513 هـ/1120 م على مدينة طرسونة، كما فرض سيطرته على مدينة قلعة أيوب وكانت أمنع ما تبقى من معاقل الثغر الأعلى (¬37). ¬_______ (¬34) السامرائي، علاقات المرابطين، ص 289. (¬35) أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 176 - السامرائي، علاقات المرابطين، ص 290. (¬36) ابن عذاري، البيان، ج 4 ص 54 - عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 74. (¬37) ينظر، أرسلان، الحلل السندسية، ج 1، ص 105 - السامرائي، علاقات، ص 294 - 300.

وإزاء هذه الانتصارات المتلاحقة التي أحرزها ألفونسو المحارب، ازداد نشاطه العسكري في السيطرة على المعاقل المنيعة في منطقة الثغر الأعلى، ففي عام 514 هـ/ 1120 م انتصر على القوات المرابطية في معركة قتندة، في حيز دروقة من عمل سرقسطة، واستشهد من المسلمين الآلاف ومن بينهم العديد من الفقهاء والعلماء (¬38). كما قام ملك أرغون ألفونسو المحارب بحملته المدمرة عام 519 - 520 هـ والتي اخترق بها بلد الأندلس من أقصاه إلى أقصاه متحدياً المسلمين فيها ومتعاوناً مع بعض معاهدي الإسبان الذين سهلوا له هذه المهمة، وكانت هذه الحملة، حملة تَحد كشفت عن ضعف الدفاع في الأندلس، وأن خطط المرابطين منذ نكبة سرقسطة وقتندة لم تكن كفيلة بصد عدوان الإسبان، كما كشفت عن مبلغ خطر المعاهدين الإسبان الذين نعموا بالسلام والأمن في ظل الحكم العربي بالأندلس (¬39). ومن المعارك الأخرى المهمة التي انتصر فيها ألفونسو المحارب على القوات المرابطية هي معركة القلاعة عام 323 هـ/1129 م الواقفة في شرقي الأندلس، وفتحت الأبواب أمام شدة الهجمات الإسبانية على مدينة بلنسية وما جاورها من الحصون (¬40). بعد أن تجاوز ألفونسو المحارب خلافاته مع ملك قشتالة (السليطين) عام 524 هـ/ 1130 م، جهز قواته صوب ما تبقى من قواعد الثغر الأعلى، وكان هدفه الاستيلاء على لاردة وافراغة ومكناسة، ثم الاستيلاء على ثغر طرطوشة. فهاجم مدينة مكناسة عام 527 هـ/1133 م وسلمت أمورها للملك الإسباني، ثم زحف نحو مدينة إفراغه فتصدت له القوات المرابطية، ودارت تحت أسوار هذه المدينة معركة من أعنف المعارك في هذه الفترة انتصر بها المرابطون لأول مرة، ضد ملك أرغون في رمضان من عام 528 هـ/17 تموز 1134 م، وبعد هذه المعركة مات ألفونسو المحارب بأيام. وقد كان لنصر المرابطين في إفراغة صدى عميق في سائر أنحاء الأندلس، حيث أعادت للمرابطين سمعتهم العسكرية، ولو أنهم لم يستغلوا هذا النصر ويزحفوا إلى سرقسطة من أجل إرجاعها إلى دولة الإسلام (¬41). ¬_______ (¬38) ينظر، ابن الآبار، المعجم، ص 7 (رقم 3) - ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، ج 6، ص 219 (رقم 640) - ابن بشكوال، الصلة، ص 144 (رقم 330). (¬39) السامرائي، علاقات، ص 304 - 308. (¬40) ابن القطان، نظم الجمان، ص 111 - عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 541 - 542 (باب الوثائق). (¬41) ينظر، ابن القطان، نظم الجمان، ص 223 - الحمبري، الروض المعطار، ص 25 - السامرائي، علاقات، ص 315 - 318.

أما بقية مدن الثغر الأعلى مثل لاردة وإفراغة وأقليش فقد سقطت بيد الإسبان عام 544 هـ/1149 م (¬42). ومن خلال استعراض جهاد المرابطين للممالك الإسبانية نلاحظ ما يأتي: 1 - تزعم ألفونسو السادس ملك قشتالة جبهة الإسبان ضد المرابطين إلى وفاته عام 501 هـ، ثم تزعمها ألفونسو الأول المحارب، وبعد وفاته عام 528 هـ تزعمها ألفونسو السابع ملك قشتالة. أي وجود الملك الإسباني القوي حسب مقتضيات الأمور. 2 - اتسمت المعارك المتبادلة بين الجانب المرابطي والإسباني بعنفها وقوتها، وقد عزز كل جانب معاركه بروح دينية عالية تزعمها رجال الدين من الطرفين، من أجل إحراز النصر وكسب المعركة. 3 - على الرغم من الروح الجهادية العالية التي تمتع بها الجيش المرابطي في الأندلس، وانتصاراته في معارك مهمة ضد الإسبان، إلا أن هذا الجيش لم يستطع استرجاع أية مدينة أندلسية مهمة سيطر عليها الإسبان خلال مراحل الصراع، ابتداءً من مدينة طليطلة، ومروراً بغربي الأندلس وإلى منطقة الثغر الأعلى. 4 - أثقلت الحروب الجهادية هذه كاهل الجيوش المرابطية في الأندلس، وفقدت خيرة قادتها، مما أضعف هذه الجيوش فيما بعد، والتي انشغلت في مقاومة ثورة أهل الأندلس، وحركة المهدي في عدوة المغرب، مما شجع الإسبان على مواصلة توسعهم على حساب بلد الأندلس، والسيطرة تباعاً على أهم قواعده (¬43). الأندلس ولاية موحدية 540 - 620 هـ/1145 - 1223 م: تضافرت عوامل متعددة في إضعاف المرابطين سواء في شمال أفريقية أو في الأندلس، ولعل ضعف الأمراء الذين تولوا الحكم بعد علي بن يوسف بن تاشفين (500 - 537 هـ) كان في مقدمة الأسباب، بالإضافة إلى ظهور نشاط الموحدين في عدوة المغرب، هذا النشاط الذي مر في مرحلتين: الأولى: مرحلة أبي عبد الله محمد بن تومرت، وقد بدأت هذه المرحلة من عام 515 هـ إلى ¬_______ (¬42) ابن الآبار، التكملة، ج 1، ص 76 - ابن الخطيب، أعمال، ص 259. (¬43) السامرائي، علاقات، ص 322 - 323.

عام 524 هـ. وقد أسس محمد بن تومرت دعوة على أساس ديني قوامها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أساس قبلي وهو الصراع بين القبائل البربرية قبيلة لمتونة (المرابطين)، وقبيلة هرغة من مصمودة (الموحدين). واتخذ محمد بن تومرت حصن (تينملل) مقراً له ولدعوته، وحاولت القوات المرابطية في هذه المرحلة السيطرة على هذا الحصن ففشلت (¬44). الثانية: مرحلة عبد المؤمن بن علي 524 - 543 هـ والتي توجت بسقوط دولة المرابطين، وقيام دولة الموحدين، وذلك من خلال معارك دامية يطول شرحها (¬45). وفي الأندلس منيت الفوات المرابطية بهزائم متكررة أمام القوات الإسبانية، واستطاعت الممالك الإسبانية استرداد أهم المدن والقواعد الأندلسية تباعاً، كما وضحنا ذلك. إضافة إلى قيام بعض حركات التمرد ضدهم والتي عرفت باسم حركات المريدين وبخاصة في الجنوب الغربي من الأندلس، ومثل هذه الحركات، وبأهداف مختلفة قامت في شرقي الأندلس، وفي وسط وجنوب الأندلس. ويتبين لنا من خلال دراسة هذه الحركات التي قامت بين الأعوام 539 - 541 هـ، وهي سنة عبور الموحدين إلى الأندلس، أن أكثر ثوار الأندلس ضد المرابطين هم من الفقهاء والقضاة وأعلام الأدب، وهذا يعود إلى المركز والنفوذ اللذين تمتعوا بهما في ظل دولة المرابطين، حتى تركزت فيهم عناصر الزعامة المحلية، فلما بدأ سلطان المرابطين بالأفول كما ذكرنا، قام هؤلاء الفقهاء والعلماء بحركاتهم من أجل استرداد سلطانهم القومي، إلا أن معظم هذه الحركات تم القضاء عليها إما بواسطة القوات المرابطية الموجودة في ولاية الأندلس، أو بانضواء قادتها تحت لواء الدولة الموحدية (¬46). أ - عبور الموحدين إلى الأندلس: كان أول جيش أرسله الموحدون إلى الأندلس في عام 541 هـ وذلك من أجل إزالة ¬_______ (¬44) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 68 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 228 - علام، الدولة الموحدية، ص 72 وما بعدها - عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 184. (¬45) السامرائي، علاقات، ص 508 وما بعدها. (¬46) ينظر، المراكشي، المعجب، ص 277 وما بعدها - علام، الدولة الموحدية، ص 146 وما بعدها السامرائي، علاقات، ص 324 وما بعدها.

ما بقي فيها للمرابطين من سلطان، ومن أجل القضاء على الزعامات المحلية التي ظهرت في الأندلس في خاتمة حكم المرابطين. ولعل في مقدمة الأسباب التي دفعت الموحدين إلى ذلك، الحفاظ على كيان الإسلام في بلد الأندلس، إضافة إلى الحفاظ على كيانهم في عدوة المغرب من هجوم مرابطي محتمل من الأندلس. ومما شجعهم على التطلع لبلد الأندلس أيضاً الدعوات الرسمية والشخصية التي تلقوها من العلماء والحكام المحليين الذين رحبوا بقدوم الموحدين، وفي مقدمتهم: علي بن عيسى بن ميمون قائد الأسطول في مدينة قادس، والثائر ابن حمدين القاضي زعيم ثورة قرطبة، والثائر أبو الغمر بن عزون زعيم ثورة مدينة شريش على المرابطين وغيرهم كثير (¬47). على أثر ذلك قرر عبد المؤمن بن علي إرسال ثلاثة جيوش إلى الأندلس عبرت في عام 541 هـ/1146 م وسيطرت على مدن الجنوب مثال طريف والجزيرة الخضراء، كما أعلن أهل شريش ولاءهم للموحدين، وقد سماهم الموحدون تقديراً لذلك (السابقون الأولون) (¬48). ثم زحفت القوات الموحدية إلى غربي الأندلس، فسيطرت على مدن لبلة وبطليوس وشلب وباجة ويابرة بكل سهولة حيث أعلن حكامها الولاء للوافد الجديد. إلا أن المدينة المهمة التي امتنعت على الموحدين في غربي الأندلس، والتي شددوا عليها الحصار براً وبحراً هي مدينة إشبيلية، إلا أن القوات الموحدية اقتحمتها في شهر شعبان من عام 541 هـ/1147 م بعد أن أبيدت بعض القوات المرابطية فيها (¬49). إلا أن معظم مدن غربي الأندلس -ما عدا شريش- تمردت على الحكم الموحدي، وكان هذا التمرد بزعامة مدينة اشبيلية التي انهزمت منها القوات الموحدية. ولما وصلت هذه الأنباء إلى عبد المؤمن بن علي في عدوة المغرب، أرسل جيشاً جديداً إلى الأندلس أعاد السيطرة على معظم مدن غربي الأندلس (¬50). واستطاعت الجيوش الموحدية السيطرة على مدينة قرطبة، بعد تفاهم وتعاون مع حاكم قرطبة (يحيى بن غانية المرابطي) الذي فضل التعاون مع الموحدين من أجل التخلص من خطر الإسبان ¬_______ (¬47) أبو رميلة، علاقات الموحدين، ص 196 وما بعدها. (¬48) الناصري، الاستقصا ص 104 - أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 222. (¬49) ابن الأثير، الكامل، ج 11، ص 47 - الناصري، الاستقصا. ج 2، ص 105. (¬50) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 234 - علام، الدولة الموحدية، ص 184 - عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 329.

وبالذات ملك قشتالة، فدخلت القوات الموحدية قرطبة في عام 543 هـ/1148 م (¬51). ومن قرطبة أخذت القوات الموحدية ترسل سراياها إلى المدن والحصون المجاورة في وسط الأندلس، فسيطرت على مدينة أبدة وبياسة، وسيطرت بعض السرايا الأخرى على حصن شلير وأركش وبرشانة (¬52). وقام صاحب مالقة (أبو الحكم بن حسون)، الذي كان يخشى هجمات بقايا القوات المرابطية القريبة منه، ويخشى كذلك الخطر الموحدي الزاحف، فتعاون مع الجند الإسبان لرد هذه المخاطر، لكن سكان المدينة ثاروا عليه فقتلوه في عام 547 هـ/1152 م، وبعدها دخلت القوات الموحدية مدينة مالقة (¬53). وبقيت مدينة غرناطة آخر معاقل المرابطين في الأندلس، فحاول يحيى بن غانية المرابطي إقناع حاكم غرناطة المرابطي (ميمون بن بدر اللمتوني) بالاستسلام للموحدين، فامتنع ميمون بشدة. وفي هذه الفترة مات يحيى بن غانية في عام 343 هـ/1148 م، واستمر ميمون حاكم غرناطة في عناده إلى عام 551 هـ 1156 م فنزل عن مدينة غرناطة للموحدين بعد أن حصل على الأمان من زعيم الموحدين الخليفة عبد المؤمن بن علي (¬54). انتهز الإسبان ثورة أهل الأندلس على المرابطين، فاستولوا على مدينة المرية في عام 542 هـ/1147 م، وأصرت القوات الموحدية بعد سيطرتها على مدن وسط الأندلس على استرجاع هذه المدينة البحرية المهمة، فجهزت قواتها البرية وأساطيلها البحرية وحاصرت المدينة بقيادة أبي سعيد والي غرناطة الموحدي، وهو ابن الخليفة عبد المؤمن، وبعد حصار دام سبعة أشهر فتح الموحدون المدينة ودخلوها في أواخر عام 552 هـ/1157 م بعد أن فشلت جهود الممالك الإسبانية وأعوانها من القوات الأوروبية في استرجاع المدينة (¬55). ¬_______ (¬51) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 191 - زيني دحلان، الفتوحات الإسلامية، ج 1، ص 319 - الناصري، الاستقصا، ج 2، ص 105. (¬52) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 126 (وطبعة أخرى ص 193) - ابن أبي دينار، المؤنس، 111 - أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 229 - أبو رميلة، علاقات، ص 103. (¬53) ابن الخطيب، أعمال، ص 255 - عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 319. (¬54) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 235 - الناصري، الاستقصا، ج 2، ص 106 - علام، الدولة الموحدية، ص 187. (¬55) المراكشي، المعجب، ص 211 - زيني دحلان، الفتوحات، ج 1، ص 320 - مراجع الغناي، قيام دولة الموحدين، ص 115.

ب - علاقات الموحدين السياسية بالإمارات الأندلسية المستقلة: 1 - علاقة الموحدين مع ابن مردنيش أمير شرقي الأندلس: استطاع أبو عبد الله محمد بن سعد بن محمد بن سعد بن مردنيش الجذامي بالولاء (وهو من المولدين) (¬56)، بالتعاون مع إبراهيم بن أحمد بن مفرج بن همشك (المقطوع الأذن)، الاستقلال في منطقة شرقي الأندلس، وعزز هذا الأمر بالتعاون مع الممالك الإسبانية وبعض الدول الأوروبية، ففي عام 543 هـ/1148 م عقد معاهدة صلح مع جمهورية بيزا مدتها عشر سنوات، وكذلك مع جمهورية جنوه، وجرت الهدايا المتبادلة بينه وبين ملك انكلترا، وبسبب هذا التعاون لقبه البابا بـ (صاحب الذكر الحميد)، وعرف أيضاً باسم الملك (¬57). أوجدت معاهدة تطيلة التي عقدت بين ملك قشتالة وملك أرغون عام 545 هـ/ 1151 م والتي اتفق الملكان فيها على تقسيم بلاد الأندلس، فكان نصيب ملك أرغون شرقي الأندلس والاستيلاء عليها يشترط أن يتولى حكم مدينتي مرسية وبلنسية بصفته تابعاً لملك قشتالة، حالة من الذعر عند ابن مردنيش الذي أسرع إلى عقد محالفات مع هذين الملكين تعهد بأن يدفع خمسين ألف مثقال ذهباً سنوياً إلى كل منهما (¬58). ونتيجة لارتماء ابن مردنيش في أحضان الإسبان، ثار عليه أهل شرقي الأندلس وبخاصة أهل لورقة وبلنسية، واستطاع ابن مردنيش القضاء عليها، مما أغضب هذا الأمر الدولة الموحدية التي كانت لها علاقة بالثوار، ولهذا أرسل الخليفة عبد المؤمن رسالة إلى ابن مردنيش حول هذا الأمر (¬59). وبعد ذلك أخذ ابن مردنيش يغزو بلاد الأندلس التابعة للموحدين بغية الاستيلاء عليها، ففي عام 554 هـ/1160 م سار بقواته من مرسية بالتعاون مع قوات إسبانية، فسيطر على مدينة جيان ثم واصل سيره إلى مدينة قرطبة فشدد عليها الحصار ولم تقع بيده لصمود أهلها وواليها (¬60). ¬_______ (¬56) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 232، حاشية 1. (¬57) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 109، حاشية 1 - مراجع الغناي، قيام دولة الموحدين، ص 119. (¬58) ابن الخطيب، أعمال، ص 260 - الإحاطة، ج 2، ص 124 - A History Medieval Spain. P: 232. (¬59) كنون، النبوغ المغربي، ج 2، ص 101 - 103. (¬60) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 116.

ثم واصل سيره إلى مدينة إشبيلية فحاصرها ثلاثة أيام، ففشل في السيطرة عليها لقوة المقاومة أيضاً (¬61)، وفي عام 555 هـ/1160 م بعث ابن مردنيش جيشاً بقيادة إبراهيم بن همشك للاستيلاء على قرطبة، فحاصرها ولاقت الأمرَّين من هذا الحصار، وقتل واليها بسبب كمين دبر له، إلا أن أهلها أحسنوا الدفاع عنها، وبعدها سار ابن همشك إلى مدينة قرمونة فاستولى عليها بالتعاون مع أحد زعمائها المدعو عبد الله بن شراحيل (¬62). وحاول ابن همشك السيطرة على إشبيلية فشدد عليها الحصار، وأنزل بها أفدح الخسائر، مما دعى واليها السيد أبا يعقوب يوسف أن يستنجد بوالده الخليفة عبد المؤمن. وكانت الخطوة الأولى التي قام بها عبد المؤمن بهذا الصدد هو المباشرة فوراً ببناء قاعدة حربية في جبل طارق عرفت باسم مدينة الفتح، انجز بناءها في شهر ذي القعدة من عام 555 هـ/1160 م وبعد الإنجاز عبر الخليفة عبد المؤمن إلى الأندلس واجتمع هناك بزعماء الموحدين والأندلسيين، وقبيل رجوعه أمر قواده بمواصلة غزو ابن مردنيش وقتاله (¬63). فكانت أول مدينة استرجعها الموحدون من ابن مردنيش وحليفه ابن همشك هي مدين قرمونة وذلك في مطلع عام 557 هـ/1161 م (¬64). عزز الموحدون قواتهم في مدن إشبيلية وقرطبة، فأصبح من العسير السيطرة عليهما من قبل قوات ابن مردنيش وحليفه، إلا أن الحليف ابن همشك سار صوب غرناطة وبالتعاون مع يهود المدينة ودخلها، فتحصن الموحدون في قصبتها واستمروا في مقاومة الغزاة، وفي الوقت نفسه بعثوا صريخهم إلى الخليفة عبد المؤمن، وكذلك استنجد ابن همشك بحليفه ابن مردنيش، فسارت قوات الطرفين إلى غرناطة فكان اللقاء في مرج الرقاد (بظاهر غرناطة) فحلت الهزيمة بالموحدين وذلك في عام 557 هـ. ونكل ابن همشك بأهل غرناطة وأسرى الموحدين أبشع تنكيل (¬65) ولما بلغت أخبار معركة مرج الرقاد الخليفة عبد المؤمن أرسل جيشاً كبيراً عبر إلى الأندلس وعهد بقيادته إلى ابنه أبي ¬_______ (¬61) ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 40. (¬62) أبو رميلة، علاقات الموحدين، ص 115. (¬63) عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 377 - 386. (¬64) مراجع الغناي، قيام دولة الموحدين، ص 128. (¬65) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 188 - 193 - ابن الخطيب، أعمال، ص 261 - 263 الإحاطة، ج 1، ص 300 - 301 - علام، الدولة الموحدية، ص 195 - ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 50.

يعقوب يوسف، اتجه صوب غرناطة من أجل استرجاعها. وفي الوقت نفسه سار ابن مردنيش -بعد أن وصلت إليه أنباء عبور هذا الجيش- صوب غرناطة لنجدة حليفه ابن همشك تعاونهُ قوات إسبانية، فعسكر قبالة غرناطة يفصله نهر حدرة عن حليفه. وبعد أن شحذت همم الموحدين هاجموا غرناطة في رجب من عام 557 هـ/1162 م انهزم فيها ابن همشك وقتل الكثير من قواته، فدخلت القوات الموحدية المدينة منتصرة، ولم يستطع ابن مردنيش تقديم المساعدات لحليفه، وكان يرى بأم عينيه هزيمة الحليف الذي لاحقته القوات الموحدية فأوقعت بقواته الخسائر الكبيرة (¬66). عزم الموحدون على غزو بلاد ابن مردنيش والقضاء عليه، فكانت الخطوة الأولى التي اتخذوها في هذا المجال: أولاً نقل العاصمة من إشبيلية إلى قرطبة، وثانياً تحصين مدينة غرناطة، وثالثاً عبر الخليفة عبد المؤمن إلى الأندلس في ربيع الأول من عام 558 هـ/1163 م. ولكن هذه الأمور تعثرت بوفاة الخليفة الموحدي فجأة في جمادى الآخرة من العام نفسه 558 هـ، وظهر الخلاف بين أولاده حول أمر الخلافة ولم يحل هذا الخلاف حتى عام 563 هـ، فاستفاد ابن مردنيش من هذه الأحوال، وسار بقواته صوب غرناطة، إلا أن القوات الموحدية تصدت له، فرجع ابن مردنيش منسحباً إلى بلاده (¬67). وصلت إمدادات إضافية من المغرب إلى الأندلس، فسارت القوات الموحدية صوب بلاد ابن مردنيش في عام 560 هـ/1165 م فاتحة الحصون والقلاع الواقعة في الطريق، فوصلت إلى مشارف مدينة لورقة. فلما وصلت هذه الأخبار إلى ابن مردنيش خشي سقوط لورقة بيد الموحدين، فسار بقواته تعاونهُ فرقة من الإسبان صوب لورقة، والتي ارتد عنها الموحدون الذين ساروا صوب مرسية، فأسرع إليها ابن مردنيش، فكان اللقاء بين الطرفين في ذي الحجة من عام 560 هـ/تشرين الأول 1165 م، في معركة فحص الجلاب، فانهزم ابن مردنيش وانسحب إلى مرسية، فلحقه الموحدون وشددوا عليه الحصار، ثم انسحبوا دون أن تقدم لنا الروايات تعليلاً لذلك (¬68). ¬_______ (¬66) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 199 - 201 - علام، الدولة الموحدية، ص 196 - ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 52 - 53. (¬67) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 205، ص 269 - 270 - مراجع الغناي، قيام دولة الموحدين، ص 136 - 137. (¬68) ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 63 - 65 - ابن صاحب الصلاة، المن، ص 272 - 280 - عنان، عصر، ص 16 - 17 - مراجع الغناي، قيام دولة الموحدين، ص 140.

وفي عام 562 هـ/1167 م قام والي غرناطة الموحدي بالسيطرة على بعض حصون ابن مردنيش أمثال حصن لبسة قرب وادي أش، وحصن بسطه، كما ألحق هذا الوالي هزائم متكررة بقوات ابن مردنيش وحلفائه الإسبان (¬69). بدأ الضعف والوهن يدب في إمارة ابن مردنيش، وذلك بسبب: تذمر الرعية منه والتي أثقلها بالضرائب لسد وإشباع رغبات الفرق الإسبانية التي اعتمد عليها، مما جلبت له عداوة كبار قواده، إضافة إلى سوء العلاقات بين ابن مردنيش وصهره يوسف بن هلال، وإبراهيم بن همشك، فقامت الحروب والمنازعات فيما بينهما، فكان من نتائجها انضمام إبراهيم بن همشك إلى الموحدين (¬70). استمرت الحروب أكثر من سنة بين الحليفين السابقين، وإزاء اشتداد هجمات ابن مردنيش، استغاث ابن همشك بالموحدين حتى عبر بنفسه إلى عدوة المغرب يطلب العون منهم، فأعانوه لما رأوا صدق عزمه. وعبر إبراهيم بن همشك مع القوات الموحدية التي عبرت إلى الأندلس لقتال ابن مردنيش في عام 566 هـ/1171 م، والتي استقرت في قرطبة، ثم واصلت سيرها إلى بلاد ابن مردنيش، ويممت صوب مرسية، بعد أن استولت على الحصون والقلاع الواقعة في الطريق بما فيها مدينة لورقة التي استنجدت بالموحدين، وجزيرة شقر كذلك، كما خرجت طاعة المرية على ابن مردنيش وأعلنت الولاء والطاعة للموحدين (¬71). خلال هذا الوقت كانت القوات الموحدية محاصرة لمدينة مرسية وأذاقت ابن مردنيش الأمرَّين. ولما عبر الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف إلى الأندلس في عام 566 هـ/1171 م ونزل بإشبيلية، ذهب إليه أخوه السيد أبو حفص قائد الجيوش الموحدية المحاصرة لابن مردنيش وجلب معه الأعيان والولاة الذين أعلنوا الولاء للموحدين. انتهز ابن مردنيش هذا الأمر فهاجم جزيرة شقر محاولاً استرجاعها إلا أنه فشل أمام ضربات واليها، فرجع إلى مرسية يعاني من مرضه الذي مات فيه عام 567 هـ (¬72). وتولى ¬_______ (¬69) أبو رميلة، علاقات، ص 126 - 127 - عنان، عصر، ص 29 - 30. (¬70) أبو رميلة، ص 127 - 131 - ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 83. (¬71) ابن صاحب الصلاة، المن، ص 406 - 407. (¬72) ابن صاحب الصلاة، المن، ص 407 - 409 - مراجع الغناي، قيام دولة الموحدين، ص 147 - ينظر ابن الخطيب، أعمال، ص 262 - الإحاطة، ج 2، ص 127 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 268 - المراكشي، المعجب، ص 249 - عنان، عصر، ص 53.

الأمر من بعده ابنه أبو القمر هلال الذي دخل في طاعة الموحدين بعد أن رأى بأن لا جدوى للعصيان (¬73). 2 - علاقة الموحدين مع بني غانية أمراء الجزائر الشرقية: ينتمي بنو غانية حكام الجزائر الشرقية (البليار) إلى قبيلة مسوفة الصنهاجية، واشتهر منهم يحيى ومحمد أولاد علي المسوفي، أحد رجالات أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وسموا بهذا الاسم نسبة إلى أمهم غانية، وهو تقليد مرابطي معروف (¬74). وتولى يحيى ومحمد أعمالاً إدارية في الأندلس، واشتهر منهما محمد بن غانية الذي بعثه أمير المسلمين علي بن يوسف إلى الجزائر الشرقية لإصلاح ما فسد من أمورها على يد الوالي المرابطي وأنور بن أبي بكر اللمتوني، وذلك في عام 520 هـ/ 1126 م (¬75). عاصر محمد بن علي المسوفي المعروف بابن غانية أفول نجم المرابطين في عدوة المغرب والأندلس، وقيام دولة الموحدين التي ورثت المرابطين في حكم بلاد العدوتين، فعزز ابن غانية حكمه في هذه الجزائر النائية واستمر ولاؤه للمرابطين ولدولة بني العباس، وأصبحت جزائره ملجأ للفارين من فلول لمتونة والمرابطين الذين لقوا الرعاية والأمان في ظل حكم هذه الأسرة، واستمر محمد بن غانية يحكم الجزائر الشرقية إلى عام 550 هـ/1155 م (¬76). خلف محمد بن غانية أربعة أولاد، وهم عبد الله وإسحاق والزبير وطلحة، فبعد منازعات بين هؤلاء الأخوة استطاع إسحاق أن يحكم هذه الجزر، واستمر على سياسة أبيه في استقبال فلول لمتونة الوافدين عليه (¬77). واعتمد إسحاق بن غانية على أسطول قوي، حسبت له الممالك الإسبانية وجمهوريات جنوه وبيزا والبندقية ألف حساب ودفع ملوكها الأموال الطائلة لهذا الأمير وعقدوا معه المعاهدات لضمان تحرك أساطيلهم ¬_______ (¬73) أبو رميلة، علاقات، ص 139 - 142 - ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 95. (¬74) العبادي، دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، ص 331. (¬75) المراكشي، المعجب، ص 268 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 242. (¬76) مراجع الغناي، سقوط دولة الموحدين، ص 172 - عنان، دولة الإسلام، عصر المرابطين والموحدين، ص 145. (¬77) أبو رميلة، علاقات، ص 145 - 146.

التجارية بحرية في حوض البحر المتوسط، وذلك في عام 572 هـ/1177 م (¬78). كان بنو غانية في الجزائر الشرقية يشعرون بالأمان خلال قتال ابن مردنيش للموحدين، ولكن بعد وفاة ابن مردنيش وسيطرة الموحدين على شرقي الأندلس عام 567 هـ/1172 م، شعر إسحاق بن غانية بالخطر فأخذ في مصانعة الموحدين والتودد إليهم بإرسال الهدايا الثمينة إلى حكامهم (¬79). ثم بعث الموحدون كتبهم إلى إسحاق بن غانية في عام 578 هـ/1183 م يدعونه فيها إلى الدخول في طاعتهم، فامتنع عن ذلك بعد مشاورات طويلة مع أتباعه. ولما استشهد في عام 579 هـ/1184 م خلفه ابنه علي في الحكم، الذي استغل الظروف السيئة التي مرت بها دولة الموحدين والمتمثلة في فشل قواتهم أمام مدينة شنترين ومقتل خليفتهم أبي يعقوب يوسف (558 - 580 هـ) في عام 580 هـ/1184 م، ومبايعة الأمير الجديد أبي يوسف يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور (580 - 595 هـ)، وانشقاق بني عبد المؤمن على أنفسهم وامتناع بعضهم عن البيعة للأمير الجديد، فشجعت هذه الظروف علي بن إسحاق بن غانية على التمرد على دولة الموحدين، بل وأكثر من ذلك شحن قواته البحرية وقرر مهاجمة مدينة بجاية قاعدة الحكم في المغرب الأوسط (¬80). هناك جملة أسباب دفعت علي بن إسحاق إلى مهاجمة بجاية: منها معرفة أهل الجزائر الشرقية بأحوال هذه المدينة وأهلها بسبب التبادل بينهما (¬81)، ومنها الدعوات الكثيرة التي تلقاها أمير الجزائر الشرقية من أعيان هذه المدينة يدعونه فيها إلى القدوم (¬82)، ومنها الخطط التي رسمها علي بن إسحاق والتي أملته بالتعاون مع خصوم الموحدين في المنطقة وهم: طوائف العرب من بني هلال، ورياح الذين قضى الموحدون على ثورتهم عام 576 هـ/1181 م، ثم الاعتماد على معونة بني حماد أصحاب بجاية الذين قضى الموحدون على ملكهم، بالإضافة إلى الاعتماد على بني مطروح في ¬_______ (¬78) المراكشي، المعجب؛ ص 269 - عنان، دولة الإسلام، عصر المرابطين والموحدين، ص 146 - 147. (¬79) أبو رميلة، علاقات، ص 147. (¬80) ينظر، الحميري، الروض المعطار، ص 190 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 243 - مراجع الغناي، سقوط دولة الموحدين، ص 177. (¬81) الغبريني، عنوان الدراية، ص 24. (¬82) المراكشي، المعجب؛ ص - 270.

طرابلس، وعلى قراقوش التقوي مملوك صلاح الدين الأيوبي (¬83). سار الأمير علي بن إسحاق بالأسطول الذي يقوده رشيد الرومي، ونزل بجاية فسيطر عليها بسهولة لخلوها من وسائل الدفاع، وذلك في عام 580 هـ - 581 هـ/1184 - 1185 م (¬84). تصدى والي بجاية الموحدي (أبو الربيع سليمان) للقوات الغازية، فانهزم أمامها إلى تلمسان فتحصن بها تحسباً للظروف (¬85). وسار علي بن إسحاق بقواته فاتحاً المدن المهمة أمثال: مليانة ومازونة وأشير والقلعة، وامتنعت عليه مدينة قسنطينة. وقطع علي بن غانية الخطبة للموحدين في البلاد التي استولى عليها، وأمر بالدعاء للخليفة العباسي الناصر لدين الله (575 - 622 هـ) (¬86). ولما علم الخليفة الموحدي المنصور (580 - 595 هـ) جهز جيشاً برياً قوياً وعهد قيادته إلى ابن عمه السيد أبي زيد بن أبى حفص، وجهز الأسطول البحري الذي خرج من سبتة معاوناً الجيش البري وفق خطة حربية واحدة (¬87). استطاعت الجيوش الموحدية المشتركة استرجاع المدن التي استولى عليها ابن غانية تباعاً، ودمرت الأسطول البحري وأسرت قائده رشيداً الرومي وذلك في عام 581 هـ/ 1185 م، فهرب علي بن إسحاق وأخوه يحيى وأعوانهما إلى جوف الصحراء فعجز الموحدون عن اللحاق بهم (¬88). وصل بنو غانية إلى منطقة الواحات ببلاد الجريد وكسبوا ود قبائل العرب من بني رياح وبني جشم بالعطايا والهبات، وفي هذه الأثناء بلغ علي بن إسحاق بن غانية نزول شرف الدين قراقوش بقواته الغز بلدة الحامة في جهات طرابلس، فراسله من أجل التعاون بينهما لرفع راية بني العباس هناك، واتفقا على تقسيم البلاد التي يستوليان عليها سوية، فالبلاد الواقعة غربي بونة أي المغربين الأوسط والأقصى من حق علي بن ¬_______ (¬83) عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 148 - 149 - أبو رميلة، علاقات، ص 150. (¬84) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 243 - مراجع الغناي، سقوط دولة المرحدين، ص 177 - 178. (¬85) ابن الأثير، الكامل، ج 11، ص 206. (¬86) الغبريني، عنوان الدراية، ص 15، ص 24 - ابن خلدون، العبر ج 6، ص 191، ص 243 - المراكشي، المعجب، ص 272 - أبو رميلة، علاقات، ص 152 - 154. (¬87) مراجع الغناي، سقوط دولة الموحدين، ص 181. (¬88) أبو رميلة، علاقات، ص 155.

إسحاق بن غانية، وأما البلاد الواقعة شرقي بونة فمن حق قراقوش، وكان هذا الاتفاق في عام 581 هـ/1185 م (¬89). وبعد هذا الاتفاق حاول علي بن إسحاق السيطرة على البلاد التي أصبحت من ضمن حقه، فهاجم مدينة أشير واستولى عليها، إلا أن القوات الموحدية استرجعت المدينة بعد مقتل قائد الجيش المهاجم (¬90). ثم سار علي بن غانية إلى مدينة توزر فاستولى عليها بعد عناء وذلك في عام 582 هـ/1186 م (¬91)، ثم قصد جزيرة باشر وهي بالقرب من تونس فاستولى عليها، ثم حاصر مدينة تونس، ولكن يبدو أن علي بن غانية قد فشل في الاستيلاء عليها، فقصد في عام 582 هـ مدينة قفصة فحاصرها واستولى عليها بمعاونة أهلها (¬92). وفي الوقت نفسه استولى قراقوش بمعاونة بعض العرب من بني ذياب على جبل نفوسة ثم سار يساعدهُ مسعود بن زمام شيخ بني رياح وسيطر على طرابلس وما جاورها (¬93). وبعد ذلك انضم قراقوش بقواته إلى قوات علي بن إسحاق بن غانية فقصدوا بلاد أفريقية (دولة تونس) فملكوها جميعاً ما عدا مدينتي تونس والمهدية لقوة تحصيناتهما، وبعدها تلقب علي بن غانية بلقب أمير المسلمين وأقام الدعوة للخلافة العباسية في هذه البلاد (¬94)، واتبع ذلك سفارة ابنه وكاتبه عبد البر إلى بغداد فلقيا الترحاب من الخليفة الناصر الذي طلب بدوره من صلاح الدين الأيوبي أن يناصر بني غانية في أعمالهم (¬95). رأى الخليفة المنصور الموحدي أن أمر بني غانية وحليفهم قراقوش بلغ درجة كبيرة من الخطورة، فسار بقواته في عام 582 هـ/1186 م صوب تونس، وبعد أن استراح فيها بدأ بإرسال قواته لمقاتلة بني غانية المرابطين قرب مدينة قفصة، فأوقع بنو غانية هزيمة منكرة بالقوات الموحدية التي رجعت فلولها مدحورة إلى تونس، وذلك في عام 583 هـ/ ¬_______ (¬89) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 191، ص 243 - A.Bell, Les Benou Ghanya, P: 56 - 57. (¬90) عنان، عصر المرابطين والموحدين، ص 154. (¬91) أبو رميلة، علاقات، ص 157. (¬92) ابن الأثير، الكامل، ج 11، ص 212. (¬93) أبو رميلة، علاقات، ص 157. (¬94) ابن الأثير، الكامل، ج 11، ص 211 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 192. (¬95) سعد زغلول " العلاقة بين صلاح الدين والمنصور الموحدي " مجلة كلية آداب الإسكندرية، ج 6 - 7، لسنة 1952 - 1953، ص 95 - 96.

1187 م (¬96)، وعرفت هذه المعركة بمعركة سهل عمرة (¬97). كان لهزيمة سهل عمرة وقع مؤثر في نفس الخليفة المنصور الموحدي الذي سار بنفسه من تونس في رجب من عام 583 هـ/1187 م واتجه جنوباً صوب القيروان، ومن هناك بعث كتاباً إلى ابن غانية وحلفائه ينذرهم بوجوب الدخول في الطاعة، فلم يكتف علي بن غانية بعدم رد الجواب بل اعتقل أيضاً سفير الخليفة الموحدي (¬98). بعدها سار المنصور بقواته صوب الحمة فنشبت المعركة بين الطرفين في شعبان من عام 583 هـ/1187 م وانتهت هذه المعركة بهزيمة ابن غانية وحليفه قراقوش، حيث استطاع خليفة الموحدين دخول قابس فسيطر على اتباع قراقوش وماله من ذخائر ومتاع، فأرسلها جميعاً إلى مراكش (¬99). ثم سار الخليفة المنصور صوب مدينة توزر ففتحها ثم دخل مدينة قفصة وأرجعهما إلى الطاعة، ثم رجع إلى مدينة تونس (¬100). نتيجة انتصار خليفة الموحدين هذا، خذل قراقوش وابن زيان زعيم الغز حليفهم ابن غانية، فراسلوا خليفة الموحدين طالبين العفو منه والدخول في طاعته. وبعدها سار المنصور لضرب قبائل العرب التي تعاونت مع ابن غانية فألحق بهم الهزائم وهجّر زعماء الخلاف وأتباعهم إلى بلاد المغرب الأقصى، وبعد أن رتب أمور تونس غادرها إلى مراكش في عام 584 هـ/1188 م (¬101). وفي العام نفسه 584 هـ/1188 م مات علي بن إسحاق بن غانية بعد أن فشل في الاستيلاء على بلاد الجريد (¬102). وتولى الأمر أخوه يحيى بن إسحاق بن غانية الذي بدأ ولايته بالحرب مع قراقوش، الذي أعلن العصيان على الموحدين أولاً، ومن ثم سيطر على بعض المناطق التي كانت تحت سيطرة علي بن إسحاق بن غانية ثانياً (¬103). ¬_______ (¬96) مراجع الغناي، المرجع السابق، ص 218 - عنان، المرجع السابق، ص 161. (¬97) ابن الأثير، الكامل، ج 11، ص 212 - المراكشي، المعجب، ص 273 - Bell, op. Cit, P: 77- 78. (¬98) أبو رميلة، علاقات، ص 161. (¬99) محمد المرزوقي، قابس، ص 183 - Bell, op. Cit, P: 82 (¬100) المراكشي، المعجب، ص 273 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 244 - الناصري، الاستقصا، ج 2، ص 144 - ابن الأثير، الكامل، ج 11، ص 212. (¬101) أبو رميلة، علاقات، ص 163 - جوليان، تاريخ أفريقيا الشمالية، ج 2، ص 149. (¬102) المراكشي، المعجب، ص 273 - الحميري، الروض المعطار، ص 191. (¬103) محمد المرزوقي، قابس، ص 189.

تصدى يحيى بن غانية لقراقوش فهزمه في موضع محسن بالقرب من طرابلس، ثم سار ابن غانية صوب طرابلس ودخلها عنوة، بعد أن وصلته إمدادات عسكرية من أخيه عبد الله حاكم ميورقة، وأسر حاكم طرابلس ياقوت مولى قراقوش الذي بقي أسيراً في ميورقة إلى أن دخلها الموحدون (¬104)، ثم سار ابن غانية صوب قابس وشدد الحصار عليها فدخلها عنوة في عام 591 هـ/1195 م (¬105). خلال عصر الخليفة الموحدي أبي عبد الله محمد الناصر (595 - 610 هـ) تجددت الحروب بين الموحدين وابن غانية في إفريقية خلال 595 - 597 هـ بعد أن سيطر ابن غانية على أكثر بلاد افريقية، حيث سار السيد أبو الحسن بن السيد أبي حفص بقواته لملاقاة ابن غانية فأصيب بالهزائم المنكرة، وأجبرت فلوله على الفرار، وكان ذلك بالقرب من مدينة قسنطينة (¬106). وفي الوقت نفسه تنافس يحيى بن إسحاق بن غانية وأحد قادة الموحدين المدعو ابن عبد الكريم على مدينة المهدية، فاستطاع ابن غانية السيطرة عليها بعد مفاوضات ومناورات طويلة ذهب ابن عبد الكريم وولده ضحية هذا الأمر (¬107). واستكمل ابن غانية سيطرته على إفريقية، فسيطر على مدينة باجة ثم دخلت مدينة بسكرة وبونة في طاعته (¬108). ثم سار ابن غانية بعد ذلك صوب مدينة تونس في عام 599 هـ/1203 م ودخلها بعد حصار طويل، وقبض على السيد أبي زيد وأعوانه (¬109)، ثم سار صوب جبل نفوسة فأرجعه إلى الطاعة بعد إعلان أهله العصيان (¬110)، وبذلك أصبح ابن غانية سيد إفريقية بلا منازع وخطب فيها لبني العباس في بغداد (¬111). وخلال حروب بني غانية في بلاد إفريقية حصلت أمور في الجزائر الشرقية غيرت موازين القوى فيها، ففي عام 581 هـ/1186 م استطاع قائد الخليفة الموحدي المنصور علي بن الربرتير الذي كان معتقلاً في جزيرة ميورقة (الخليفة الموحدي أرسل سفيره علي ¬_______ (¬104) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 194 - عنان، المرجع السابق، ص 195. (¬105) أيضاً، ج 6، ص 194 - محمد المرزوقي، قابس، ص 192. (¬106) ينظر، المراكشي، المعجب، ص 314 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 246. (¬107) الوزير السراج، الحلل السندسية، ص 255 Bell, op. Cit, P111. (¬108) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 195 - عنان، المرجع السابق، ص 255. (¬109) ابن أبي دينار، المؤنس، ص 115 - الوزير السراج؛ المرجع السابق، ص 256. (¬110) أبو رميلة، علاقات، ص 172. (¬111) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 248.

هذا إلى الجزائر الشرقية يدعو أهلها إلى الطاعة. فسجنه بنو غانية هناك) أن ينتهز غياب معظم أمراء بني غانية في أفريقية فيتصل ببعض الجنود المسيحيين المرتزقة الذين كانوا في خدمة بني غانية والراغبين في العودة إلى بلادهم، فوعدهم بتحقيق ذلك، فقام معهم بانقلاب ضد حكم بني غانية، وانضم إليهم حاكم الجزيرة السابق محمد بن إسحاق بن غانية الذي كان أخوته قد خلعوه واعتقلوه بالجزيرة، فأقامه الثوار حاكماً على الجزيرة باسم الموحدين ثم عاد علي بن الربرتير إلى مراكش بعد أن سرح الجند المسيحيين وأعادهم إلى بلادهم حسب الوعد (¬112). على أن نفوذ الموحدين على جزيرة ميورقة لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما علم بنو غانية في أفريقيا بأخبار هذا الإنقلاب فسارع الأمير عبد الله بن غانية بالرجوع إلى الجزيرة عن طريق صقلية، واستطاع عبد الله دخول الجزيرة ففر أخوه محمد إلى الأندلس حيث ولاه الموحدون حكم مدينة دانية (¬113). وفي الوقت نفسه حاول الخليفة المنصور إنقاذ جزيرة ميورقة. فأرسل الأسطول إليها إلا أن زمام الأمور كان قد أفلت من يده، وبخاصة وأن أسطول ملك أراجون الإسباني بيدرو الثاني تدخل لصالح أهل ميورقة (¬114). إلا أن جزيرتي يابسة ومنورقة وقعتا تحت سيطرة الموحدين في عام 583 هـ/1187 م وبقيت كبرى الجزر ميورقة خارجة عن طاعة الموحدين (¬115)، وحاول عبد الله بن غانية استرجاع هاتين الجزيرتين فلم يفلح (¬116). ولما استفحل أمر بني غانية في إفريقية، أدركت الدولة الموحدية أن القضاء عليهم في إفريقية، يجب أن يسبقه القضاء على مركز قوتهم في جزيرة ميورقة، لأن هذه الجزيرة كانت بمثابة المورد الذي يغذي بني غانية في إفريقية بالرجال والعتاد، لذلك رأى الخليفة الموحدي الناصر لدين الله (595 - 610 هـ) أن استقرار نفوذ الموحدين في إفريقية لن يستتب إلا إذا استولى على جزيرة ميورقة قاعدة بني غانية، ولهذا صمم على السيطرة عليها (¬117). ¬_______ (¬112) مراجع الغناي، سقوط دولة الموحدين، ص 215 - عنان، المرجع السابق، ص 157 - العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس، ص 360. (¬113) أبو رميلة، علاقات، ص 175. (¬114) العبادي، المرجع السابق، ص 361. (¬115) عنان، المرجع السابق، ص 158. (¬116) أبو رميلة، علاقات، ص 177. (¬117) العبادي، المرجع السابق، ص 367 - مراجع الغناي، المرجع نفسه، ص 228.

ففي عام 599 هـ/1203 م خرجت الأساطيل الموحدية من ثغر دانية فنزلت جزيرة يابسة ومنها هاجمت جزيرة ميورقة، فدخلتها بعد عناء كبير، وقتل عبد الله بن غانية على يد رجل من الأكراد يعرف باسم عمر المقدم (¬118)، وبذلك دخلت الجزائر الشرقية في طاعة الموحدين (¬119). ثم بعد ذلك تفرغ الخليفة الموحدي لقتال بني غانية في بلاد إفريقية فسيّر إليهم الجيوش في عام 601 هـ/1204 م والتي قادها بنفسه ويعاونها الأسطول البحري، وخلال الأعوام من 601 هـ إلى عام 631 هـ (وهي السنة التي مات فيها يحيى بن إسحاق بن غانية) بدأت رياح المعارك تهب في غير صالح بني غانية في بلاد إفريقية، فاستطاعت الجيوش الموحدية استرجاع مدن إفريقية تباعاً من أيدي بني غانية بعد أن ألحقت بهم الهزائم المتكررة (¬120). 3 - علاقة الموحدين مع محمد بن هود بالأندلس: كان محمد بن هود أول من ثار على الموحدين في الأندلس، فهو سليل أسرة بني هود أصحاب مملكة سرقسطة. سيطر المرابطون عليها عام 503 هـ/1110 م وانتزعوها من عماد الدولة بن أبي جعفر بن هود، ثم انتهز ابنه سيف الدولة فرصة ثورة الأندلسيين على المرابطين سنة 539 هـ/1145 م فقام بثورة على المرابطين، كما ساعد الثوار الآخرين حتى أصبح أميراً على شرقي الأندلس، ثم استشهد عام 540 هـ/1146 في موقعة البسيط ضد الإسبان. لم تشترك أسرة بني هود بعد هذا التاريخ في الأعمال السياسية أو العسكرية خلال فترة طويلة من عصر الموحدين. فلم يشتهر منهم أحد إلا هذا (محمد بن هود) الذي قام بالثورة على الموحدين سنة 625 هـ/1228، فقد اشتهر منذ عام 614 هـ/1217 م بعد استرجاعه حصن شنفيرة من الإسبان في شرقي الأندلس (¬121). عزز محمد بن هود حركته ببعض الخرافات التي سمعها من البعض لتبرير الثورة ضد الموحدين (¬122)، وانضم إليه طوائف من الجند وبعض عصابات اللصوص؛ وبدأ ¬_______ (¬118) المراكشي، المعجب، ص 315. (¬119) أبو رميلة، علاقات، ص 179 - 180. (¬120) ينظر: ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 197 - الزركشي، تاريخ الدولتين، ص 14 - 19 - الناصري، الاستقصا، ج 2، ص 204 - أبو رميلة، علاقات، ص 181 - 192 - Bell, Op. Cit, P: 172. (¬121) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 248 - 252 - الحميري، الروض المعطار، ص 116. (¬122) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 279.

حركته في رجب عام 625 هـ/1228 م متخذاً من حصن الصخور -الصخيرات- مقراً له، ويقع هذا الحصن على نهر شقورة بالقرب من مرسية، ومنى نفسه واتباعه بأنه سيمتلك كل الأندلس، وأنه سيعيد الدعوة للخلافة العباسية (¬123). بدأ محمد بن هود أول أعماله بالسيطرة على مدينة مرسية وقبض على واليها الموحدي، فخطب محمد بن هود (سمى نفسه المتوكل على الله) لنفسه وللخليفة العباسي في بغداد المستنصر بالله (623 - 640) (¬124)، رافعاً الأعلام السود شعار العباسيين (¬125). أدرك الموحدون خطورة هذا الأمر فسار إليه والي بلنسية ولكن حلت به الهزيمة فعاد إلى شاطبة، ومنها بعث صريخه إلى خليفة الموحدين المأمون (621 - 629 هـ) الموجود في إشبيلية يطلب منه العون. سار المأمون بقواته صوب مرسية، وألحق الهزيمة بابن هود، ثم رجع المأمون إلى إشبيلية في أوائل عام 626 هـ/1229 م، وعجل العبور إلى مراكش لاضطراب أمرها، وترك أمر ابن هود يزداد قوة (¬126). أعلنت مدن شرقي الأندلس ولاءها لابن هود، كما أعلنت مدينة إشبيلية طاعتها له، وبعدها سار محمد بن هود وراء الخليفة المأمون، فوجده في جزيرة طريف يهم بالعبور إلى المغرب، فقامت بينهما معركة في رمضان من عام 626 هـ/1229 م عرفت بموقعة طريف، انهزم فيها المأمون ونجا بعبوره إلى المغرب فاستولى ابن هود على جبل الفتح والجزيرة الخضراء (¬127). نتيجة هذا الأمر دخلت معظم قواعد الأندلس في طاعة ابن هود، وألحق أهل الأندلس الأذى والضرر بجند الموحدين، ولم يبق فيها خارج طاعته غير مدينتي بلنسية ولبلة (¬128). وفي الوقت نفسه أعلنت بعض المدن في عدوة المغرب ولاءها لمحمد بن هود أمثال مدينة سبتة ومدينة رباط الفتح، كما أن رسائل طوائف من عرب الخلط في ¬_______ (¬123) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 129 - الحميري، الروض المعطار، ص 118. (¬124) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 309 - ينظر، ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 269. (¬125) ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب، ص 271. (¬126) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 130 - الناصري، الاستقصا، ج 2 ص 208 - عنان، المرجع السابق، ص 392 - أبو رميلة، علاقات، ص 196. (¬127) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 303 (حاشية رقم 1) - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 280 - Scott, Moorish Empire Vol, 2, P: 348. (¬128) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 296 - أبو رميلة، علاقات، ص 200.

المغرب ومراكش تعلن ولاءها له، وذلك من عام 629 هـ/1232 م في بداية عهد الخليفة الرشيد الموحدي (629 - 640 هـ) (¬129). وعزز محمد بن هود هذا الأمر بالتقليد العباسي لشرعية حكمه، فوصله في عام 629 هـ أو في عام 631 هـ/1234 م كتاب الخليفة العباسي المستنصر يحمله إلى الأندلس حسن الكردي الملقب بالكمال فقرأت رسالة الخليفة على الناس في غرناطة حيث كان محمد بن هود موجوداً (¬130). عزز هذا الكتاب أمر ابن هود في الأندلس حتى أن المتمردين عليه رجعوا إلى طاعته بعد وصول هذه الرسالة العباسية، فقد رجع إلى طاعته محمد بن يوسف بن نصر الذي ثار على ابن هود عام 629 هـ/1232 م واستقل في مدينة جيان ودعا للأمير أبي زكريا الحفصي أمير إفريقية (¬131). في بداية أمر المتوكل محمد بن هود قام بصد هجمات الممالك الإسبانية على قواعد الأندلس، إلا أنه عندما انهزم عام 627 هـ/1230 م أمام قوات الفونسو التاسع ملك ليون، تكالبت عليه بقية الممالك الإسبانية، فرأى المتوكل بن هود بأن لا قِبل له في مجاهدة الإسبان فقرر عقد معاهدات الصلح مع ملوك ليون وقشتالة (¬132). ففي سنة 632 هـ/1235 م عقد الصلح مع ملك قشتالة مقابل أموال طائلة يدفعها ابن هود، إلا أن هذا الصلح لم يلزم ملك قشتالة فاستولى في العام التالي 633 هـ/1236 م على مدينة قرطبة ولم يستطع ابن هود إنقاذها (¬133). توفي محمد بن هود عام 635 هـ/1237 م، فخلفه في الحكم ابنه الواثق بالله محمد بن هود الذي خلع طاعة العباسيين وخطب للحفصيين بأفريقية (¬134). ¬_______ (¬129) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 279 - 280 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 254 - 255 - الناصري، الاستقصا، ج 2، ص 219. (¬130) عنان، المرجع السابق، ص 411 - 412. (¬131) ابن خلدون؛ العبر، ج 6، ص 170. (¬132) أبو رميلة، علاقات، ص 205. (¬133) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 183. Scott, op. Cit, 2, 360 (¬134) أبو رميلة، علاقات، ص 206.

4 - علاقة الموحدين بأبي جميل زيان: من سلالة يوسف بن سعد بن مردنيش أمير شرقي الأندلس في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين. وقد استخدم الموحدون ابناء آل مردنيش في حكم الولايات وقيادة الأساطيل بعد سيطرتهم على الأندلس (¬135). كان يحكم بلنسية في أواسط عام 620 هـ/1224 م أمير موحدي هو أبو زيد عبد الرحمن من سلالة عبد المؤمن، وكان فرناندو الثالث ملك قشتالة إذ ذاك يعتبر بلنسية جزءاً من كورة طليطلة ومن ثم فهي من حصة مملكة قشتالة. ولهذا فقد تصدى للهجوم عليها، فأحس أبو زيد بضعفه أمام ملك قشتالة، فدخل في طاعته، وفي الوقت نفسه كانت لخايمة الأول ملك أرغون الأطماع نفسها، فخاف منه أبو زيد واتفق معه على أن يقدم له خمس خراج بلنسية ومرسية كجزية سنوية. فكان هذا الأمر من أهم أسباب قيام محمد بن يوسف بن هود في مرسية، وثار على أبي زيد في بلنسية أبو جميل زيان وطرده منها (¬136). سار أبو جميل زيان بقواته فاستولى على مدينة دانية، وكذلك سيطر على جنجالة في عام 626 هـ/1229 م، واعترف بطاعته أبناء عمومته في جزيرة شقر وشاطبة، لكنهما ما لبثا أن خلعا طاعة ابن عمهما، وبايعا محمد بن هود (¬137). ومعنى ذلك فقد استفحل الخلاف بين محمد بن هود وبين أبي جميل زيان (¬138). لجأ السيد أبو زيد الموحدي إلى ملك أرغون الإسباني يستمد منه العون لاسترداد مدينتي بلنسية ومرسية، فوافق الملك الإسباني على ذلك لقاء غلات كثيرة يقدمها أبو زيد له. سار أبو زيد بالقوات الإسبانية صوب بلنسية ومرسية إلا أن الظروف لم تكن مواتية له، فرجع إلى أرغون وشرح الأمر لحليفه الملك الإسباني وطلب أن يكون تابعاً له، فأعطاه الملك الإسباني بعض الحصون، وأشارت بعض الروايات أن السيد أبا زيد اعتنق المسيحية هناك (¬139). وخلال السنوات من عام 630 هـ - 631 هـ/1233 م إلى عام 636 هـ/1238 م شدد ¬_______ (¬135) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 272. (¬136) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 304 (حاشية) - أبو رميلة، علاقات، ص 207 - 209. (¬137) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 280. (¬138) عنان، المرجع السابق، ص 395. (¬139) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 305، ج 1، ص- 3 - 31 - ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 167 - عنان، المرجع السابق، ص 398.

ملك أرغون خايمة الأول الحصار على مدينة بلنسية، فسيطر أولاً على أهم حصونها، ثم سار صوب بلنسية تساعده قوات أوروبية، وقد صمد أبو جميل زيان طيلة الوقت لصد هذا الهجوم الإسباني غير أنه لم يفلح في النهاية، كما لم تفلح القوات الحفصية القادمة من تونس بحراً أن تقدم له المساعدات، فسقطت بلنسية بيد ملك أرغون عام 636 هـ وترك أبو جميل زيان المدينة ورحل إلى جزيرة شقر واتخذها مركزاً لحكمه، وبعدها قطع الخطبة للعباسيين وخطب للحفصيين في إفريقية (¬140). إلا أن أبا جميل زيان لم يمكث طويلاً في شقر حيث أخرجه منها أحد قواد ملك أرغون الإسباني، فسار أبو جميل زيان إلى مدينة دانية فاتخذها مقراً لحكمه، وفي عام 636 هـ/1239 م سار أبو جميل زيان إلى مرسية وسيطر عليها وحكمها باسم الحفصيين أمراء إفريقية، (¬141). قلد الحفصيون الأمير زيان ولاية شرقي الأندلس، إلا أنه لم يتمتع طويلاً بهذه الولاية، لأن الواثق بالله محمد بن هود خلعه عنها في أواخر عام 637 هـ/1240 م وأعلن ولاءه للحفصيين (¬142). وفي الوقت نفسه لم يستطع ابن هود الصمود أمام هجمات ملك قشتالة الفونسو بن فرناندو الثالث، الذي يطمع بالسيطرة على مدينة مرسية، فأعلن ابن هود تبعيته لهذا الملك الإسباني واعترف بأنه يحكم مرسية بصفته تابعاً لملك قشتالة (¬143). 5 - علاقة الموحدين بابن نصر: هو محمد بن يوسف بن الأحمر الأنصاري يرجع نسبه إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، اشتهرت أسرته بقيادة الجند في ناحية أرجونة من أعمال ولاية جيان (¬144). ونظراً لكثرة هجمات الممالك الإسبانية على قواعد المسلمين أولاً، ولعجز محمد بن هود في صد هذا العدوان، تطلع السكان إلى قيادة محمد بن يوسف بن الأحمر في حصن أرجونة واعتبروه المنقذ والقائد المنتظر الذي سيخلص البلاد من خطر ¬_______ (¬140) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 285 - أبو رميلة، علاقات، ص 211 - 212. (¬141) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 310 - ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 170، ج 6، ص 285 - عنان، المرجع السابق، ص 457. (¬142) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 285. (¬143) Altamira, A History of Spain, P: 173. (¬144) الحميري، الروض المعطار، ص 12 - المقري، أزهار الرياض، ج 1، ص 167.

الإسبان (¬145). فأعلن ابن نصر ثورته في عام 629 هـ/1232 م في حصن أرجونة، فدخلت في طاعته وادي أش وبسطة وشريش وجيان وقرطبة وقرمونة. وتسمى ابن نصر على ذلك بأمير المسلمين وخطب للخلافة العباسية منافساً في ذلك لابن هود (¬146). أدرك ابن هود مدى خطورة قيام ابن نصر ودخول بعض البلاد في طاعته، فقد اعتبره ابن هود خارجاً عنه من ناحية، ومزاحماً له في حكم الأندلس من ناحية أخرى. فقامت بينهما الحروب وحلت الهزيمة بابن هود ثلاث مرات آخرها في عام 633 هـ أو عام 634 هـ (¬147). بدأت دولة ابن نصر بالاتساع على أثر وفاة ابن هود في عام 635 هـ/1238 م، فأول المدن المهمة التي دخلت في طاعته مدينة غرناطة في هذا العام نفسه (¬148). وفي العام نفسه سيطر ابن نصر على مدينة المرية، وفي عام 636 هـ/1239 م أعلنت مدينة مالقة الولاء والطاعة لابن نصر (¬149). في عام 637 هـ/1240 م قطع ابن نصر الخطبة للعباسيين، وخطب للموحدين في مراكش، على عهد الخليفة الموحدي الرشيد (629 - 640 هـ)، ولما توفي الرشيد عام 640 هـ/1243 م قطع ابن نصر الخطبة للموحدين، وخطب للحفصيين في إفريقية (¬150). واستمر ابن نصر يدعو للحفصيين حتى عام 647 هـ/1249 م، فقطعها عنهم وهي سنة وفاة الأمير الحفصي أبي زكريا، وتسمى ابن نصر بعدها بأمير المسلمين (¬151). لم يستطع ابن نصر الوقوف في وجه الإسبان أو رد غزواتهم المتواصلة على ¬_______ (¬145) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 278 - المقري، نفح الطيب، ج 2، ص 97، ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 190. (¬146) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 182 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 94، 95 - ينظر، ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 279. (¬147) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 279. (¬148) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 98 - 99. (¬149) أبو رميلة، علاقات، ص 216. (¬150) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 95 - 97 - عنان، المرجع السابق، ص 432. (¬151) ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 190 - ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 36 - الإحاطة، ج 2، ص 99.

الأندلس، فعقد الصلح مع ملك قشتالة فرناندو الثالث في عام 643 هـ/1246 م، وجاء فيه: أن يتنازل ابن نصر لملك قشتالة عن مدينة جيان وأحوازها، وأن يعترف ابن نصر بالولاء والطاعة لملك قشتالة وأن يدفع له مائة وخمسين ألف دينار، وأن يعاونه في حروبه ضد أعدائه، وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة النيابي بصفته من الأمراء التابعين للملك الإسباني (¬152). ¬_______ (¬152) أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 430 - 434 - عنان، المرجع السابق ص 433 - Altamira, op. Cit, P: 173.

جهاد الموحدين للممالك الإسبانية أشهر الممالك الإسبانية المعاصرة لدولة الموحدين في الأندلس هي: 1 - مملكة قشتالة، وأشهر ملوكها حتي قيام مملكة غرناطة. أ- السليطين (ألفونسو السابع) ابن الكونت ريموند البرجوني حكم قشتالة وليون تحت إشراف أمه أوراكة ابنة ألفونسو السادس 520 - 552 هـ/1126 - 1157 م. وبعد عصره انقسمت مملكة قشتالة وليون فكان لكل منها حكم مستقل: أ - قشتالة، وأشهر ملوكها بعد السليطين: 1 - شانجة الثالث 552 - 553 هـ/1157 - 1158 م. 2 - ألفونسو الثامن (النبيل) 553 - 611 هـ/1158 - 1214 م. 3 - فراندة الثالث 611 - 650 هـ/1214 - 1252 م حكم قشتالة وأضيفت إليه ليون كذلك. 4 - ألفونسو العاشر (العالم) 650 - 681 هـ/1252 - 1282 م. ب - ليون، وأشهر ملوكها بعد السليطين: 1 - فراندة الثاني (الملقب الببوج) 552 - 584 هـ/1157 - 1188 م. 2 - ألفونسو التاسع بن الببوج 584 - 628 هـ/1188 - 1230 م. ثم دخلت مملكة ليون تحت سيطرة مملكة قشتالة كما هو موضح أعلاه. 2 - مملكة البرتغال: 1 - ألفونسو بن الرنك 553 - 581 هـ/1158 - 1185 م.

2 - شانجة الأول 581 - 608 هـ/1185 - 1211 م. 3 - ألفونسو الثاني 608 - 620 هـ/1211 - 1223 م. وجاء بعده شانجة الثاني وألفونسو الثالث. 3 - مملكة أرغون وبرشلونة: بعد أن اعتزل ردمير الراهب الحكم عام 531 هـ/1137 م انتقل حكم أرغون إلى رامون برنجي الرابع ملك برشلونة الإسباني 525 - 557 هـ/1162 م كما بينا أعلاه ويأتي بعده: 1 - ألفونسو الثاني 557 - 593 هـ/1162 - 1196 م. 2 - بطرة الثاني (الكاثوليكي) 593 - 610 هـ/1196 - 1213 م. 3 - جايمش الأول (الغازي) 610 - 675 هـ/1213 - 1276 م. جهاد الموحدين للممالك الإسبانية ورث الموحدون دولة المرابطين في مجاهدة الممالك الإسبانية هذه، وكان أول عمل قام به عبد المؤمن بن علي (المتوفى عام 558 هـ/1163 م) لهذا الغرض هو بناء مدينة الفتح على سفح جبل طارق والتي كمل بناؤها في عام 555 هـ/1160 م لكي تكون معسكراً موحدياً في الأندلس تنطلق منه الجيوش لمجاهدة الإسبان (¬153). وبعد أن افتتح عبد المؤمن هذه المدينة رجع إلى المغرب بعد أن وفر حامية قوية من الموحدين والأندلسيين، وجعل غرناطة مركزاً دفاعياً قوياً، كما نقلت العاصمة من إشبيلية إلى قرطبة سنة 557 هـ. ثم بدأ عبد المؤمن يجهز الجيوش لرد عدوان الممالك الإسبانية، وسار بها من مراكش إلى مدينة الرباط (رباط الفتح)، ولكن عبد المؤمن مرض ومات في عام 558 هـ كما ذكرنا، وتولى الأمر من بعده أبو يعقوب يوسف (558 - 580 هـ) الذي أمر هذه الجيوش بالرجوع إلى بلادها حتى يتخذ قراراً جديداً. في عام 560 هـ عبرت حملة عسكرية موحدية إلى الأندلس لتعزيز دفاعات بعض المناطق ضد هجمات الممالك الإسبانية، كما حدث صدام مسلح مع محمد بن سعد بن مردنيش في ¬_______ (¬153) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 147.

مرسية، والذي كانت له صلات ودية مع عدد من ملوك إسبانيا، حيث بلغ عدد المرتزقة الإسبان في جيشه. في لقاء له مع الجيش الموحدي، ما يقرب من (13) ألف مقاتل، وكان النصر في هذا اللقاء للموحدين وعرفت هذه المعركة بفحص الجلاب على بعد 12 كم جنوبي مدينة مرسية، وتوفي ابن مردنيش بعد ذلك (¬154). خلال هذه الأحداث كان ملك البرتغال ألفونسو بن الرنك وبعض المغامرين يهددون الحصون الإسلامية في غربي الأندلس، ففي عام 542 هـ/1147 م استطاع ملك البرتغال بالتعاون مع قوات صليبية من الإنجليز والألمان والهولنديين، متجهين نحو المشرق، أن يستولي على مدينة لشبونة، ثم استولى على مدينة شنترين. وفي عام 555 هـ/1160 م استولى على قصر أبي دانس (قصر الفتح) (¬155). وفي الوقت نفسه قام مغامر برتغالي يسمى (العلج جراندة الجليقي) فاستولى على بعض مدن غربي الأندلس (¬156). عبرت قوات موحدية إلى الأندلس للحد من خطر الممالك الإسبانية، واستطاع الموحدون في الأندلس من عقد معاهدة صلح مع فراندة الثاني (الببوج - الأحمق أو الكثير اللعاب) ملك ليون، إلا أنه خرق هذه المعاهدة وهاجم قواعد الأندلس عام 570 هـ/1174 م فردت القوات الموحدية والأندلسية على هذا الأمر بأن هاجمت مدينة لذريق الليوني وتسميها الرواية الإسلامية باسم (السبطاط) (¬157). عبر الخليفة الموحدي أبو يعقوب إلى الأندلس عام 566 هـ وبقي فيها زهاء خمسة أعوام إلى عام 571 هـ يحارب الممالك الإسبانية، إلا أنه لم يجن ثماراً طيبة ولم يحرز النصر الكبير، وبعدها عاد إلى مراكش. فجدد الإسبان هجومهم على الأندلس فقام ملك قشتالة ألفونسو الثامن بمهاجمة الأراضي الأندلسية، فتصدت له القوات الموحدية قرب طلبيرة عام 578 هـ (¬158). وبعدها عبر الخليفة الموحدي إلى الأندلس في عام 580 هـ واتجه صوب مدينة شنترين ونازلها في عدة معارك، إلا أن الخليفة أبا يعقوب أمر ¬_______ (¬154) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 258 - 260 - ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 272 - 273. (¬155) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 272 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 461. (¬156) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 274 - عنان، المرجع السابق، ج 2، ص 26 - 43. (¬157) المراكشي، المعجب، ص 400، ص 453 - ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 219 - 220. (¬158) عنان، المرجع السابق، ج 2، ص 93 - 100.

بالانسحاب فجأة قبل افتتاحها، ثم أصيب في المعركة وتوفي بعد قليل في ربيع الآخر من عام 580 هـ/تموز 1184 م. تولى الخلافة ابنه ولقب بالمنصور (580 - 595 هـ). وبعد أن نظم أمور دولته عبر إلى الأندلس عام 586 هـ/1190 م وذلك لرد اعتداءات ملك البرتغال الجديد شانجة الأول الذي سيطر على مدينة شلب الأندلسية بمعاونة القوات الصليبية وكان ذلك في عام 585 هـ/1189 م (¬159). استطاع خليفة الموحدين بعد معارك جهادية عنيفة من استرجاع مدينة شلب وقصر الفتح (قصر أبي دانس) وذلك في عام 587 هـ/1191 م، ورجع بعدها إلى عدوة المغرب (¬160). في عهد ملك قشتالة ألفونسو الثامن (النبيل) عقد مع الموحدين معاهدة أمدها خمس سنين (586 - 591 هـ) (¬161). فلما انتهت مدة المعاهدة بدأ ملك قشتالة بمهاجمة الأراضي الإسلامية، فعبر إليه المنصور الموحدي بجيوش كبيرة فكان اللقاء قرب حصن الارك قرب مدينة قلعة رباح في عام 591 هـ/1195 م فأحرز الموحدون النصر الكبير وافتتحوا حصن الارك ولحقت هزيمة منكرة بالقشتاليين (¬162). وبعد هذه المعركة عقدت هدنة بين الطرفين ابتداءً من عام 594 هـ/1198 م ولمدة عشر سنوات أو أكثر (¬163). في عام 595 هـ توفي الخليفة المنصور، فخلفه ابنهُ الناصر لدين الله (595 - 610 هـ) الذي كانت سنه دون العشرين. بدأ الفونسو الثامن في عام 606 هـ/1209 م -قبل انتهاء أجل الهدنة- مهاجمة الأراضي الأندلسية، وعاونه في ذلك بطرة الثاني ملك أرغون، فبعث أهل الأندلس بصريخهم إلى خليفة الموحدين الذي جهز جيوشه وعبر إلى الأندلس عام 607 هـ/1211 م، فالتقى الناصر بألفونسو الثامن عند حصن العقاب عام 609 هـ/ 1212 م وكانت تساعده جيوش صليبية تولى البابا (انوصان الثالث) إعدادها، وانتهى اللقاء ¬_______ (¬159) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 462 - 463. (¬160) الحلة السيراء، ج 2، ص 272 - 273 - الذيل والتكملة، ج 5، ص 191 - المراكشي، المعجب، ص 356. (¬161) ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 7، ص 4 - الحجي، المرجع السابق، ص 463. (¬162) ينظر المراكشي، المعجب، ص 352 وبعدها - الحميري، الروض المعطار، ص 12 - 13 - المقري، نفح الطيب، ج 4، ص 381 - عنان، المرجع السابق، ج 2، ص 211 - 214 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 484 - 490. (¬163) المراكشي، المعجب، ص 360 - المقري، نفح الطيب، ج 4، ص 382 - عنان، المرجع السابق، ج 2، ص 234، ص 288.

بهزيمة جيش الناصر وتشتت قوة الموحدين (¬164)، ثم عاد الناصر إلى مراكش حيث توفي عام 610 هـ/1213 م، ربما كمداً من نتيجة الهزيمة في معركة العقاب التي عُدت نذيراً بانحلال الدولة الموحدية (¬165). خلف الناصر ابنه أبو يعقوب الملقب بالمستنصر بالله (610 - 620 هـ)، الذي عقد معاهدة سلم مع ملك قشتالة الجديد (فراندة الثالث)، ولكن الأندلس خسرت في هذه المرة بعض المدن، منها قصر الفتح (قصر أبي دانس) التي سيطر عليها ملك البرتغال (ألفونسو الثالث) بمساعدة أساطيل ألمانية وذلك في عام 614 هـ (¬166). توفي المستنصر فجأة دون عقب عام 620 هـ/1224 م وخلفه أبو محمد عبد الواحد عم أبي المستنصر الذي خلع بعد عدة أشهر، وتمت مبايعة عبد الله الملقب بالعادل (621 - 624 هـ) ثم تلته بيعة أخيه المأمون (624 - 629 هـ) ثم بيعة ابنه الرشيد (629 - 640 هـ) (¬167). هذا التبدل السريع في تنصيب الخلفاء تبعه اعتداء ملوك إسبانيا على الأراضي الأندلسية وسيطرتهم على كثير من المدن والحصون، حيث قام ملك قشتالة فردلند الثالث بقسط وافر في هذا المجال، كما أن هذا الأمر أدى إلى ظهور زعامات محلية في عدوة المغرب أهمها: 1 - في المغرب الأقصى ظهرت دولة بني مرين وكان المؤسس لهذه الدولة الأمير عبد الحق بن محيو (توفي عام 614 هـ). اتخذ ملوكها فاس ومراكش عواصم لهم. 2 - في المغرب الأوسط، استقل بنو زيان، أعلن زعيمهم يغمراسن بن زيان الاستقلال في تلمسان عام 633 هـ. 3 - في المغرب الأدنى استقل بنو حفص بزعامة (عبد الله بن عبد الواحد بن أبي حفص) حوالي عام 623 هـ (¬168). كما أن أخطار هذا الضعف انعكس على الوجود الموحدي في بلد الأندلس، ففي ¬_______ (¬164) ينظر، المراكشي، المعجب، ص 399 - الحميري، الروض المعطار ص 137 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 383 - المقري، نفح الطيب، ج 4، ص 383 - عنان، المرجع السابق، ج 2، ص 313 - الحجي، المرجع السابق، ص 490 - 497. (¬165) الحجي، المرجع السابق، ص 464. (¬166) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 273، ص 295 - التكملة، ج 2، ص 596 (رقم 1577). (¬167) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 265 - 270 - الإحاطة، ج 1، ص 141، ص 409. (¬168) ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 154، ص 349 - الناصري، الاستقصا، ج 3، ص 6.

عام 627 هـ/1230 م سقطت جزيرة ميورقة بيد ملك أرغون (جايمش بن بطرة) الذي عاونته جيوش أوروبية من إيطاليا وفرنسا (¬169). أما جزيرة اليابسة فسقطت بعد أختها الكبرى بسنوات قليلة (¬170). ولكن جزيرة منورقة لم تسقط إلا بعد حوالي ستين سنة، أي في عام 686 هـ/1287 م بيد القوات الارغونية (¬171). هذا الأمر المضطرب في الأندلس أدى إلى ظهور زعامات محلية أدت إلى قيام مملكة غرناطة بزعامة بني الأحمر، وفي المدة ما بين ضعف الدولة الموحدية وقيام مملكلة غرناطة (نحو عام 635 هـ أو بعدها) سقطت عدة حواضر أندلسية بيد الممالك الإسبانية (¬172). أولى الحواضر المهمة الأندلسية التي سقطت هي مدينة قرطبة وذلك في عام 633 هـ/1236 م حيث دخلتها القوات القشتالية بزعامة ملكها فراندة بن الفنش (فرناندو الثالث) (¬173). وخلال الأعوام من 631 هـ/1233 م إلى عام 636 هـ/1238 م تعرضت مدينة بلنسية إلى هجمات ملك أرغون جايمش الأول الملقب بالغازي وساعدته جيوش أوروبية باركها البابا (جريجوري التاسع)، واستطاع حاكم بلنسية أبو جميل زيان أن يقاوم هذا الهجوم الصليبي فترة من الزمن، إلا أن المدينة سقطت أمام شدة الحصار، ولم تنفع استغاثاته لأمراء عدوة المغرب (¬174). تلا ذلك سقوط عدد من المدن القريبة مثل: جزيرة شُقر في أواخر عام 639 هـ (¬175)، ومدينة دانية في عام 641 هـ (¬176)، ومدينة جيان في عام 643 هـ (¬177)، ومدينة ¬_______ (¬169) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 318، التكملة، ج 1، ص 155 - 156 رقم (400) - المقري، نفح الطيب، ج 4، ص 469 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 383. (¬170) عنان، المرجع السابق، ج 2، ص 408. (¬171) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 276 - 277. (¬172) الحجي، المرجع السابق، ص 471 - 472. (¬173) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 332 - الإحاطة، ج 1، ص 551. (¬174) ينظر؛ ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 127، ص 303 - التكملة، ج 1، ص 121 ص 900، ص 901 - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 273 - الحجي، المرجع السابق، ص 473 - 479. (¬175) المقري، نفح الطيب، ج 4، ص 472. (¬176) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 303. (¬177) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 383، ص 551، ج 2، ص 99.

شاطبة في عام 644 هـ (¬178)، ومدينة مرسية في عام 664 هـ (¬179)، أما مدينة إشبيلية فسقطت بيد ملك قشتالة (فرناندو الثالث) عام 646 هـ/1248 م وذلك بعد أعمال حربية استمرت لعدة سنوات، وحصار طويل دام حوالي سنة ونصف (¬180). هكذا سقطت بيد ملوك الإسبان ومن ساعدهم من الصليبيين عدد من قواعد الأندلس في هذه المدة التي عاصرت نهاية الدولة الموحدية، إلا أن المسلمين في الأندلس استطاعوا الحفاظ على بعض المناطق في جنوبي البلاد، حيث قامت مملكة غرناطة، وبالإمكان تسميتها بالأندلس الصغرى، بعد انهيار الأندلس الكبرى (¬181). ¬_______ (¬178) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 303. (¬179) أيضاً، ج 1، ص 63، ج 2، ص 316 - التكملة، ج 2، ص 652، ص 656 - ابن خلدون العبر، ج 4، ص 365. (¬180) ينظر، ابن الآبار، التكملة، ج 2، ص 903 (رقم 2121)، ج 1، ص 124 (رقم 311) - الحميري، الروض المعطار، ص 22 - المقري، نفح الطيب، ج 4؛ ص 472 - 473 - ابن أبي زرع، الذخيرة، ص 73. (¬181) الحجي، المرجع السابق، ص 483.

الفصل الرابع عصر مملكة غرناطة (الأندلس الصغرى)

الفَصْلُ الرَّابِع عصر مملكة غرناطة (الأندلس الصغرى) 635 - 897 هـ/1238 - 1492 م. الدكتور خليل إبراهيم السامرائي. استمرت الدولة الموحدية في المغرب تواجه القوى الناهضة حتى عام 668 هـ/ 1261 م حيث ورثتها دولة بني مرين. أما في الأندلس فقد ضعفت القوات الموحدية أمام هجمات الممالك الإسبانية، وسقطت أهم حواضر الأندلس بيد الإسبان، لذا رأى أهل الأندلس أنه لا بد لهم من القيام بعمل دفاعي يحفظ لهم ما بقي من بلدهم، ولهذا ظهرت زعامات محلية أندلسية منها زعامة أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر والملقب بالشيخ والغالب بالله، فقامت مملكة غرناطة، التي عمرت ما يزيد على قرنين ونصف، وتوالى على حكمها خلال ذلك ما يربو على عشرين حاكماً (سلطاناً)، وقد تمتع كثير من هؤلاء السلاطين بصفات جيدة وقدرات ممتازة (¬1). مؤسس هذه المملكة محمد بن يوسف بن الأحمر (635 - 671 هـ/1238 - 1272 م)، وقد بينا ظروف قيام إمارته في الفصل السابق. ومملكة غرناطة تشمل ثلاث ولايات كبيرة: ولاية غرناطة في الوسط، وولاية المرية في الشرق، وولاية مالقة في الجنوب (¬2). وهذه هي المنطقة التي استطاع بنو الأحمر الاحتفاظ بها ما يقارب قرنين ونصفاً من الزمان. وكان لهذا الصمود أسباب على الرغم من تحالف الممالك الإسبانية وتعاهدها على إسقاط مملكة غرناطة، وفي طليعة هذه الأسباب: ¬_______ (¬1) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 563 وبعدها. (¬2) ابن الخطيب؛ الإحاطة، ج 1، ص 115 - 119 - عنان، نهاية الأندلس، ص 55.

1 - بعد مملكة غرناطة عن متناول أيدي الممالك الإسبانية، فهي محصورة في الزاوية الجنوبية لشبه جزيرة الأندلس، كما أن موقعها هذا سهل عليها الاتصال بعدوة المغرب، طالبة العون منهم كلما اشتد عليها الضغط الإسباني، وكانت الدولة المرينية أكبر عون لهذه المملكة الأندلسية. 2 - دربت مملكة غرناطة سكانها على حمل السلاح والتهيؤ باستمرار لملاقاة العدو (¬3)، كما أضيفت إلى هذه القوة، قوة الوافدين إلى مملكة غرناطة، وهم المسلمون الفارون أمام هجمات الممالك الإسبانية، فبعد سقوط الحواضر الأندلسية بيد الإسبان لجأ الكثير من مقاتلة هذه المدن إلى مملكة غرناطة واعتبروها ملاذاً لهم أمام هذه المخاطر فأضافوا قوتهم إلى قوة سكان المملكة المحاربين. 3 - لا ينكر دور عامل الجهاد في سبيل الله الذي التزم به سكان هذه المملكة، في صمود هذه المملكة لفترة طويلة أمام هجمات الإسبان، فعامل الجهاد هو الذي فتح الأندلس من قبل، وهو دوماً يحميها من الخطر الإسباني الزاحف (¬4). علاقة مملكة غرناطة مع الممالك الإسبانية: أهم الممالك الإسبانية المعاصرة لمملكة غرناطة هي: 1 - مملكة قشتالة: بعد خلع ألفونسو العاشر (العالم) سنة 681 هـ/1282 م ورثه ابنه: أ - شانجة الرابع الملقب بالباسل، وعقد هذا معاهدة سلام مع مملكة غرناطة (681 - 695 هـ/1282 - 1295 م). ب - فردلند الرابع (695 - 712 هـ/1295 - 1312 م). ج - ألفونسو الحادي عشر وكان طفلاً وضع تحت الوصاية، (712 - 751 هـ/ 1312 - 1350 م) وفي عهده حدث اللقاء الهائل بين المسلمين بقيادة شيخ الغزاة أبي سعيد عثمان بن أبي العلاء، وبين جند قشتالة وأعوانهم، فهزمت القوات الإسبانية وذلك في عام 718 هـ/1318 م. ولما بلغ ألفونسو الحادي عشر أشده قام بنشاط واسع في مهاجمة الأراضي الإسلامية، وكان منها وقعة طريف عام 741 هـ، وهو الذي حاصر جبل طارق ¬_______ (¬3) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 40. (¬4) ينظر، الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 519 - 523.

وفشل في إسقاطه وفشا الوباء في جيشه فتوفي عام 751 هـ. د - بطرة الأول الملقب بالقاسي 751 - 769 هـ/1350 - 1369 م وعلى بطرة الأول وفد ابن خلدون في إشبيلية سفيراً لملك غرناطة محمد الخامس في عام 765 هـ/ 1363 م، وبعد مقتله جاء: هـ - هنري الثاني (إنريق) 769 - 780 هـ/1369 - 1379 م. و - يوحنا الأول 780 - 792 هـ/1379 - 1390 م. ز - إنريق (هنري الثالث) 792 - 809 هـ/1390 - 1406 م. ح - يوحنا الثاني 809 - 858 هـ/1406 - 1454 م. ط - إنريق (هنري الرابع) الملقب بالعاجز 858 - 879 هـ/1454 - 1474 م. ي - إيزابيل 879 - 910 هـ/1474 - 1504 م. وكانت ايزابيل قد تزوجت سنة 874 هـ/1469 م ابن عمها فراندة الذي ورث عرش أرغون باسم فراندة الخامس (¬5). 2 - مملكة أرغون: لما توفي جايمش الأول عام 675 هـ/1276 م خلفه: أ - بطرة الثالث 675 - 684/ 1276 - 1285 م. ب - ألفونسو الثالث 684 - 690 هـ/1285 - 1291 م. ج - جايمش الثاني 690 - 727 هـ/1291 - 1327 م. د - ألفونسو الرابع 727 - 736 هـ/1327 - 1336 م. هـ - بطرة الرابع 736 - 789 هـ/1336 - 1387 م. و - يوحنا الأول 789 - 798 هـ/1387 - 1395 م. ز - مرتين الأول 798 - 813 هـ/1395 - 1410 م. ح - فراندة الأول 813 - 818 هـ/1410 - 1416 م. ط - ألفونس الخامس 818 - 846 هـ/1416 - 1442 م. ¬_______ (¬5) ينظر: ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 335 - عنان، نهاية الأندلس، ص 180 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 526، ص 528.

ي - يوحنا الثاني 846 - 884 هـ/1442 - 1479 م. ك - فراندو الخامس 884 - 921 هـ/1479 - 1516 م. تزوج ابنة عمه إيزابيل ملكة قشتالة، فبوحدة هذه الممالك الإسبانية تسقط غرناطة عام 898 هـ/1492 م. كان محمد بن يوسف بن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة يحاول تجنب التصادم مع الممالك الإسبانية، وتمادى أحياناً في ذلك إلى درجة مهينة (¬6). وفي عام 660 هـ/1261 م قامت مملكة قشتالة بمهاجمة مملكة غرناطة، إلا أن قوات بني الأحمر بمساعدة المجاهدين من المغرب ردت كيد المعتدي، فأثار هذا الأمر حفيظة ملك قشتالة ألفونسو العاشر الذي ضاعف الهجوم فسيطر على عدة حصون، فاستغاث بنو الأحمر بأهل المغرب وتونس، فوصلت بعض الإمدادات إلى طريف (¬7). ونظراً لتعاون ألفونس العاشر ملك قشتالة مع جايمش الأول ملك أرغون واللذين سيطرا على مدينة مرسية وحاصرا غرناطة بعد ذلك أولاً، ونظراً للخلافات الأسرية في عائلة بني الأحمر ثانياً، عقد ملك غرناطة الصلح مع ألفونسو العاشر عام 665 هـ/ 1276 م، وتنازل عن مدينة شريش وعدد من الحصون (¬9)، هذا الإنهيار الجديد حرك مشاعر أبي البقاء صالح بن شريف الرندي فأطلق قصيدته المشهورة في رثاء الأندلس (¬10): لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغرُّ بطيب العيش إنسان قبيل وفاة ابن الأحمر عام 671 هـ/1272 م كرر ألفونسو العاشر هجومه على حصون مملكة غرناطة، فطلب ابن الأحمر العون من السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق الملقب بالمنصور، لكن النجدة لم تصل إلا بعد وفاة ابن الأحمر، فوصلت أيام محمد الثاني الملقب بالفقيه (671 - 701 هـ) (¬11). ¬_______ (¬6) ينظر، فرحات، غرناطة، ص 26 وبعدها. (¬7) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 98. (8) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 172 - فرحات، غرناطة، ص 29 - 30. (¬9) عنان، نهاية الأندلس، ص 49. (¬10) انظر، الذيل والتكملة، ج 4، ص 136 (رقم 263) - المقري، أزهار الرياض، ج 1، ص 47 - نفح الطيب، ج 4، ص 486. (¬11) الحجي، المرجع السابق، ص 536.

أرسل السلطان المريني الجيوش التي عبرت إلى جزيرة طريف في شهر ذي الحجة عام 673 هـ/1275 م، ثم لحق بها السلطان في شهر صفر من عام 674 هـ، فنظم أمورها وأعدها لملاقاة القشتاليين، فكانت معركة استجة في ربيع الأول عام 674 هـ/1175 م بين الجيوش الأندلسية والمرينية التي يقودها السلطان المريني، وجيوش قشتالة بقيادة الأمير الدون نونيودي لار (¬12) صهر ملك قشتالة ألفونسو العاشر، فحازت جيوش المسلمين النصر وتشتت الجيش القشتالي وقتل قائده، ثم إن السلطان المريني المنصور ذهب إلى الجزيرة الخضراء للإستراحة ليعود بعدها إلى أراضي قشتالة. كما حاصر مدينة إشبيلية التي طلبت الأمان والصلح فأجابهم إلى ذلك وعاد إلى الجزيرة الخضراء، ومنها عبر إلى المغرب في أواخر رجب عام 674 هـ، وبعد أن ترك في الجزيرة الخضراء ثلاثة آلاف فارس لمعاونة مملكة غرناطة في رد هجمات مملكة قشتالة (¬13). عاد سلطان المرينيين فعبر الأندلس عام 677 هـ/1278 م وتوغل في أراضي مملكة قشتالة، ثم عاد إلى عدوة المغرب. وبعدها بدأ ملك غرناطة يتوجس من السلطان المريني، فتحالف محمد الثاني الفقيه مع ملك قشتالة الفونسو العاشر الذي أنزل قواته في الجزيرة الخضراء (¬14). أرسل السلطان المنصور ابنه الأمير أبا يعقوب في أسطول كبير في أوائل عام 678 هـ/1279 م، فاصطدم مع الأسطول القشتالي الذي انهزم واضطرت قواته إلى ترك الجزيرة الخضراء، ثم بعث السلطان المريني إلى ابن الأحمر يطلب منه التفاهم والتعاون لصد الأخطار الإسبانية. فعقد التحالف الذي بموجبه أصبحت مدينة مالقة لبني مرين لتكون قاعدةً للقوات المرينية التي تعبر إلى الأندلس (¬15). وقعت خلافات أسرية في مملكة قشتالة بين ألفونسو العاشر وابنه شانجة الرابع، وذلك في عام 681 هـ/1282 م، فعبر السلطان المريني إلى الأندلس للمرة الثالثة مستغلاً ¬_______ (¬12) تسميه الرواية الإسلامية باسم دننه - ذونونة، ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 565 - ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 316، ص 321. (¬13) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 370، ص 393 - ج 7، ص 396 وبعدها - المقري، نفح الطيب، ج 1، ص 449 - ج 4، ص 385 - عنان، نهاية الأندلس، ص 100 - فرحات، غرناطة، ص 33 - ابن أبي زرع، الذخيرة السنية، 148 وما بعدها. (¬14) فرحات، غرناطة، ص 34 - ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 329 وما بعدها. (¬15) الحجي، المرجع السابق، ص 539. أيضاً، ص 331، ص 335.

هذه الظروف ومساعداً بعضهم على البعض الآخر (¬16). توفي الفونسو العاشر طريداً عام 683 هـ/1284 م فانفرد ابنه شانجة الرابع في حكم قشتالة. وعبر السلطان المريني للمرة الرابعة إلى الأندلس في صفر من عام 684 هـ، واشتبك مع جيوش قشتالة في البر والبحر فانتصر عليها، فرغب شانجة الرابع في طلب الصلح، فأرسل وفداً من الأحبار إلى السلطان المريني ووضعت شروط الصلح (¬17). كان من نتائج الود والتفاهم بين مملكة غرناطة والمرينيين أن عبرت مجموعة من المجاهدين إلى الأندلس للمرابطة فيها، ليكونوا على أهبة الاستعداد لمجاهدة الممالك الإسبانية، عُرفت هذه المجموعة بـ " مشيخة الغزاة " ورئيسها باسم (شيخ الغزاة) وهي من المناصب العسكرية التي أُنشئت في هذه الفترة، وتولى بنو العلاء (من أقارب السلطان المريني) قيادة المشيخة، وتولى رئاسة المشيخة عبد الله بن أبي العلاء حتى استشهد في عام 693 هـ، فكانت بعد ذلك لأخيه أبي سعد عثمان بن أبي العلاء (¬18). توفي السلطان المريني المنصور عام 685 هـ/1285 م في الأندلس، بعد حياة حافلة بالجهاد، وورث حكم المرينيين ابنه أبو يعقوب يوسف، وكان له دور كبير في مجاهدة الممالك الإسبانية إلى جانب أمراء مملكة غرناطة وبخاصة إلى جانب محمد الفقيه الذي جنح أحياناً إلى مهادنة ملوك الإسبان، وأحياناً تعاون معهم ضد بني مرين (¬19). توفي محمد الفقيه وورثه ابنه السلطان محمد الثالث المخلوع 701 - 708 هـ/1302 - 1309 م، فبدأ أمره بمصالحة المرينيين أولاً، وبمحاربة مملكة قشتالة ثانياً التي عقدت معه هدنة أمدها ثلاث سنوات (¬20)، وبعد خلعه تولى أمر غرناطة السلطان نصر بن محمد 708 - 713 هـ/1309 - 1314 م، فتقرب هذا السلطان إلى المرينيين فأعاد إليهم مدينة سبتة وزوج إحدى شقيقاته إلى أبي الربيع المريني، وفي عهده أرسل فراندة الرابع ملك قشتالة ¬_______ (¬16) ينظر، ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 338، ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 333 - الإحاطة، ج 1، ص 564 - المقري، نفح الطيب، ج 5، ص 120 - أزهار الرياض، ج 1، ص 61 - عنان، نهاية الأندلس، ص 81، 105 - 107. (¬17) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 563 - ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 393 - عنان، نهاية الأندلس، ص 106 - ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 358 - 363. (¬18) ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 771 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 16، ص 38 - المقري، نفح الطيب، ج 1، ص 453 - ج 4، ص 385 - عنان، نهاية الأندلس، ص 107. (¬19) ينظر، فرحات، غرناطة، ص 36 - ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 373 - 374، ص 380. (¬20) ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 228 - فرحات، غرناطة، ص 37.

جنده إلى جبل طارق ومدينة المرية بمعاونة ملك أرغون خايمي الثاني، بالرغم من المعاهدة القائمة بينه وبين سلطان غرناطة، وقعت قرب المرية معركة قادها عثمان بن أبي العلاء شيخ الغزاة ضد جند أرغون الذين أُصيبوا بهزيمة منكرة، إلا أن جبل طارق بعد الحصار الشديد لها أرغمت على التسليم (¬21). أُرغم نصر على التنازل عن عرش غرناطة عام 713 هـ ليتولى أمرها إسماعيل الأول 713 - 725 هـ/1314 - 1325 م الذي اشتهر بالعدل والعفة (¬22)، واهتم بأمر الجهاد. وحين قام القشتاليون بمهاجمة الأراضي الإسلامية استنجد إسماعيل ببني مرين وسلطانهم أبي سعيد، الذي رفض المساعدة لعدم استجابة إسماعيل لمطالب معينة (¬23). زحف الجيش القشتالي على غرناطة بجيش كبير بقيادة (دون بطرة ودون خوان) الوصيين على ملك قشتالة الفونسو الحادي عشر، وسارت معهم قوات إنكليزية ذات نزعة صليبية، فوقعت المعركة في ربيع الثاني عام 718 هـ/مارس 1318 م قرب مدينة غرناطة وكان قائد الجيش الإسلامي شيخ الغزاة أبا سعيد عثمان بن أبي العلاء الذي أحرز النصر ورد كيد الأعداء (¬24). بعد اغتيال إسماعيل الأول عام 725 هـ خلفه ولده محمد الرابع 725 - 733 هـ/ 1325 - 1333 م، وفي عهده استطاع مسلمو غرناطة بالتعاون مع بني مرين من استعادة جبل طارق عام 733 هـ/1333 م بعد أن سيطر عليه الجيش القشتالي منذ عام 709 هـ (¬25). أما نهاية محمد الرابع فلم تكن أفضل من نهاية أبيه، فاغتيل أيضاً فخلفه أخوه يوسف الأول 733 - 755 هـ/1333 - 1354 م الذي كان من أبرع ملوك بنى الأحمر، وفي عهده حدثت معركة بحرية في عام 740 هـ انهزم فيها المسلمون، واشتركت فيها قوات من قشتالة وأرغون والبرتغال، وبارك البابا هذه الحملة، ودخلت جيوشهم مملكة غرناطة (¬26). ¬_______ (¬21) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 75 - الحجي، المرجع السابق، ص 541. (¬22) فرحات، غرناطة، ص 40. (¬23) الحجي، المرجع السابق، ص 541. (¬24) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 373 - ج 7، ص 520 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1 ص 389 - المقري، نفح الطيب، ج 1، ص 449 - 450 - ج 5، ص 510 - عنان، نهاية الأندلس، ص 118، ص 171 - فرحات، غرناطة، ص 41. (¬25) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 93 - 94 - فرحات، غرناطة، ص 42. (¬26) الحجي، المرجع السابق، ص 543.

استنجد سلطان بني الأحمر بالأخوة المرينيين فعبر سلطانهم إلى الأندلس، ووقعت معركة بين الطرفين في جمادى الأولى من عام 741 هـ/تشرين الأول 1340 م استعمل المسلمون فيها المدافع التي تقذف النيران (¬27). لكن المسلمين خسروا المعركة وعاث الإسبان فساداً في المعسكر الإسلامي وغنموا ما فيه، ووقعت هذه المعركة قرب طريف ولذا عرفت بوقعة طريف (¬28). وعلى أثرها عقد السلطان المريني أبو الحسن الصلح مع بطره الأول ملك قشتالة، ووضعا قواعد لافتكاك الأسرى الذين كان من بينهم ابن السلطان (أبو عمر تاشفين) (¬29). وفي عام 750 هـ/1349 م سار ملك قشتالة ألفونسو الحادي عشر بقواته وحاصر جبل طارق، ولكن الوباء فشا في جيشه، وذهب ملك الإسبان ضحيته، فاضطر جيشه، بعد قرابة سنة من بدء الحصار، إلى ترك الحصار والانسحاب، فتخلصت مدينة جبل طارق من الخطر (¬30). استمرت مملكة قشتالة على سياستها من العبث في أراضي مملكة غرناطة ناقضة العهود، ولكن صلحاً عقد بين مملكة غرناطة وبين ملك أرغون بيدرو الرابع (¬31). بعد اغتيال يوسف الأول عام 755 هـ/1354 م مرت مملكة غرناطة بوضع مضطرب توالى على عرشها أمراء ضعاف لم يكونوا بمستوى المسؤولية، قد خلع بعضهم أكثر من مرة. كما وحَّدت الممالك الإسبانية جهودها من أجل استصفاء مملكة غرناطة وتوزيع تركتها فيما بينهم، وبارك البابا هذه الخطوة، إلا أنها تعثرت فترة من الزمن. وفي الوقت نفسه عقد صلح بين مملكة غرناطة وبين الممالك الإسبانية أرغون وقشتالة، كالصلح الذي عقده السلطان محمد السادس (الغني بالله) 795 - 810 هـ/1393 - 1408 م ¬_______ (¬27) عنان، نهاية الأندلس، ص 127. (¬28) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 375 - ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 106 - المقري، نفح الطيب، ج 1، ص 452 - ج 5، ص 14 - 15، ص 413 - عنان، نهاية الأندلس، ص 128 - فرحات، غرناطة، ص 44. (¬29) التعريف بابن خلدون، ص 50 - المقري، نفح الطيب، ج 5، ص 413. (¬30) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 394، ج 7، ص 632، ص 776 - ابن بطوطة، الرحلة، ص 665 - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 335 - ابن الخطيب، ريحانة الكتاب، ج 1، ص 140. (¬31) ابن الخطيب، كناسة الدكان، ص 103 - 105، ص 164 - 165 - الحجي، المرجع السابق، ص 549.

مع ملك قشتالة (¬32). وفي عهد يوسف الثالث 810 - 820 هـ/1408 - 1417 م جدد الهدنة مع مملكة قشتالة لمدة سنتين، وبعدها رفض القشتاليون تجديد الهدنة، فسيطروا على بعض الحصون وأصبح هذا السلطان تابعاً لهم (¬33). تبع يوسف الثالث عدة أمراء اختلفت قدراتهم بين القوة والضعف، وفي عهدهم دخلت مملكة غرناطة في حروب جهادية مع مملكة قشتالة الإسبانية خسرت فيها غرناطة بعض القواعد والحصون المهمة. وكان سقوط مدينة جبل طارق بيد القشتاليين في عام 867 هـ/1462 م على عهد السلطان سعد بن إسماعيل 858 - 868 هـ/1454 - 1464 م قاصمة الظهر لمسلمي غرناطة، حيث حال هذا الأمر دون وصول الإمدادات من عدوة المغرب إلى الأندلس، هذه الإمدادات التي بدأت بالضعف منذ بداية ضعف الدولة المرينية التي سقطت عام 869 هـ/1464 م، وحلت محلها دولة فتية هي دولة بني وطاس، ولكنها لم تكن في مستوى الدولة المرينية من حيث تقديم الإمدادات إلى الأندلس (¬34). اتحدت مملكتا قشتالة وأرغون في عام 884 هـ/1479 م على أثر الزواج الذي تم بين فراندة الخامس ملك أرغون وايزابيلا ملكة قشتالة في عام 874 هـ. فبعد هذا الاتحاد بدأت مفاوضاتهم مع مملكة غرناطة حيث طلبا من سلطانها أبي الحسن علي 868 - 887 هـ/1464 - 1482 م شروطاً ثقيلة، رفضها السلطان الغرناطي، ففتح الباب أمام المناوشات المتبادلة (¬35). فهاجم فراندة الخامس ملك أرغون غرناطة، واستولت قواته على مدينة الحمة (الحامة) الواقعة جنوب غربي غرناطة، فأمعنت في أهلها قتلاً، وذلك في المحرم من عام 887 هـ/1482 م، ثم زحف هذا الملك إلى مدينة لوشة وحاصرها، ولكن حاميتها استبسلت في الدفاع عنها وردت الغزاة على أعقابهم (¬36). تولى حكم غرناطة أبو عبد الله الصغير ولايته الأولى 887 - 888 هـ/1482 - 1483 م ¬_______ (¬32) فرحات، غرناطة، ص 52. (¬33) فرحات، غرناطة، ص 52 - 53 - الحجي، المرجع السابق، ص 549. (¬34) فرحات، المرجع السابق، ص 55 - 56. (¬35) فرحات، المرجع السابق، ص 58. (¬36) عنان، نهاية الأندلس، ص 202 - الآثار الباقية، ص 335 - فرحات، المرجع السابق، ص 60 - حتاملة، محنة مسلمي الأندلس، ص 22.

الذي خاض معركة حامية ضد جيوش قشتالة فهزمهم، ثم قاد جيشاً آخر فاتجه نحو قرطبة، وانتصر في عدة معارك، إلا أنه أُسر في معركة عند قلعة اللسانة وأخذ أسيراً، وتولى أمر غرناطة والده أبو الحسن علي 888 - 890 هـ/1483 - 1485 م. ثم أطلق سراح أبي عبد الله الصغير عام 890 هـ/1485 م بعد توقيع اتفاق لصالح قشتالة. وتولى أمر غرناطة أبو عبد الله الزغل 890 - 892 هـ/1485 - 1487 م ثم عاد أبو عبد الله الصغير مرة ثانية إلى عرشه 892 - 897 هـ/1487 - 1491 م. وخلال هذه الأحداث هاجمت القوات القشتالية مدينة لوشة مرة أخرى فدخلتها في عام 891 هـ بشروط لصالح قشتالة، ثم قامت حروب أسرية بين العم (الزغل) وابن أخيه (أبي عبد الله الصغير) انتهت بتقسيم مملكة غرناطة (¬37). بدأ ملك قشتالة يشدد ضرباته على المدن الأندلسية الباقية ويرهقها بالحصار، وكان يخرب ما حول مدينة غرناطة من أجل التهيؤ لدخولها. وأثناء ذلك عقد الزغل عام 895 هـ/1489 م معاهدة مع ملك قشتالة، فترك الأندلس إلى الجزائر (¬38). وبعد سقوط الحصون والمدن الأندلسية بيد الإسبان لم يبق سوى غرناطة، فأرسل الإسبان إلى السلطان أبي عبد الله يطلبون إليه تسليم غرناطة وفقاً لشروط معينة، فجمع السلطان أعوانه وأجمعوا على الرفض (¬39). وفي ربيع عام 897 هـ/نيسان 1491 م حاصر الملكان الإسبانيان مدينة غرناطة، وأنشأ المحاصرون مخيماً تحول إلى مدينة أسموها (سانتافي/الإيمان المقدس). وقد خرج مقاتلو غرناطة عدة مرات لشل مخططات الإسبان وإفشالها، وكان على رأسهم موسى بن غسان الذي نسجت حوله الأساطير (¬40). ودام الحصار سبعة أشهر صمد خلالها الغرناطيون، وفشلت كل محاولات الاقتحام المتكررة. ومع بداية شهر محرم من عام 897 هـ/أواخر عام 1491 م ونتيجة اليأس وانتشار الجوع والمرض، اجتمع أعيان المدينة واتفقوا على تسليمها، ما عدا القائد موسى الذي رفض القرار، وخرج من الاجتماع مغاضباً واختفى أثره، ثم أُرسل الوزير أبو القاسم بن عبد الملك للمفاوضة، ¬_______ (¬37) ينظر، المقري، نفح الطيب، ج 4، ص 523 - 529 - فرحات، المرجع السابق، ص 62 - حتاملة، محنة مسلمي الأندلس، ص 27، ص 33. (¬38) المقري، نفح الطيب، ج 4، ص 522. (¬39) حول حصار غرناطة، ينظر، المقري، نفح الطيب، ج 4، ص 523 - 529. (¬40) فرحات، المرجع السابق، ص 63 - 64.

وتم التوقيع على معاهدة التسليم في 25/كانون الأول 1491 م أي يوم عيد الميلاد - أما شروط التسليم فوردت في وثيقة مشهورة وأهم ما جاء فيها: - 1 - إطلاق الأسرى المسلمين في قشتالة. 2 - تأمين المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. 3 - احتفاظ المسلمين بشرعيتهم وقضائهم ونظمهم بإشراف حاكم إسباني. 4 - تأمين حرية الدين والشعائر والحفاظ على المساجد والأوقاف. 5 - أن لا يدخل مسيحي في مسجد أو دار مسلم. 6 - أن يسير المسلم في ديار الإسبان آمناً لا يحمل علامة مميزة. 7 - أن يجتاز إلى أفريقيا من يشاء من المسلمين في سفن ملك الإسبان لمدة ثلاث سنوات من دون مقابل. 8 - أن لا يقهر مسلم أو مسلمة على التنصر. 9 - أن يعامل الحاكم الإسباني المسلمين بالرفق والعدل. 10 - أن يوافق البابا على الوثيقة (¬41). أما السلطان أبو عبد الله فقد اتفق أن يغادر المدينة إلى منطقة البشرات، حيث يعطى ضياعاً يعيش فيها، ويكون في طاعة ملك قشتالة، كما اتفق أن تقدم غرناطة خمسمائة من أعيانها ضمانة للطاعة، وقد أقسم الملكان على الوثيقة من أجل أن يطمئن المسلمون بذلك، ولكن تلك العهود نقضت فيما بعد. فتحت المدينة أبوابها فجر الثاني من كانون الثاني 1492 هـ/ثاني ربيع الأول 897 هـ، فدخل نفر من القادة القشتاليين وتسلموا مفتاح المدينة من أبي عبد الله الصغير. وفي الصباح دخل الجند غرناطة يقود طليعتها الكونت (دي تنديلا) الذي عين فيما بعد حاكماً لغرناطة، ورفعوا فوق برج الحمراء صليباً فضياً كبيراً وبقربه علم قشتالة وعلم القديس يعقوب (شنت ياقب)، ثم دخل الملكان الحمراء ظافِرَيْن. وفي اليوم نفسه غادر السلطان أبو عبد الله قصره ومعه أهله واتجه إلى منطقة البشرات يذرف دموعه حسرة وألماً على الملك الضائع. وبعد مضي أشهر قليلة على ¬_______ (¬41) فرحات، المرجع السابق، ص 64 - 65 - حتاملة، محنة مسلمي الأندلس، ص 55 - 56 - التنصير القسري، ص 19 وبعدها.

إقامته في منطقة البشرات، أدرك أبو عبد الله أن تلك الحياة الذليلة لا تليق به، فغادر الأندلس إلى عدوة المغرب واستقر في مدينة فاس وتوفي عام 940 هـ/1534 م (¬42). ¬_______ (¬42) ينظر، المقري - نفح الطيب، ج 4، ص 529 - أزهار الرياض، ج 1، ص 68 - عثمان الكعاك، موجز التاريخ العام للجزائر، ص 375 حتاملة، محنة مسلمي الأندلس، ص 69 - 74 - فرحات المرجع السابق، ص 64 - 68 - عنان، نهاية الأندلس؛ ص 257، ص 273، ص 287.

الفصل الخامس المسلمون بعد سقوط غرناطة (الموريسكيون)

الفَصْلُ الخَامِس المسلمون بعد سقوط غرناطة (الموريسكيون) الدكتور خليل إبراهيم السامرائي. لم تنته مصيبة المسلمين في الأندلس بزوال سلطانهم السياسي ورحيل سلطانهم إلى المغرب، بل حلت بهم مصيبة أكبر، حيث نقض الملكان الكاثوليكيان العهد. ووضعا خطة إبادة للمسلمين الباقين في الأندلس لعقيدتهم الدينية، فشكلا محاكم التفتيش التي تتعقب من يؤدي شعائرالإسلام بأية صورة، فكان من جراء ذلك أن أظهر عدد من المسلمين المسيحية وأبطنوا الإسلام، وأطلق على هؤلاء اسم (المورسكيون Los Moriscos) أي المسلمون الصغار. وبقي المسلمون هؤلاء يقاومون الاضطهاد ما يزيد على القرن من الزمان دفاعاً عن عقيدتهم وكيانهم (¬43). أول ظاهرة ملفتة للنظر بعد رحيل السلطان أبي عبد الله الصغير إلى عدوة المغرب، بدأ مسلمو الأندلس بالهجرة من الأندلس إلى المغرب كما جاء في شروط التسليم التي سهلت لهم هذه المهمة وهي: أن الملكين الإسبانيين ملزمان بتوفير السفن لنقل مسلمي الأندلس إلى المغرب مجاناً ولمدة ثلاث سنوات، وبعدها يدفع من يريد العبور دوبلاً واحداً عن كل شخص (الدوبل عملة ذهبية إسبانية قديمة تساوي عشر بزيتات) (المادة السابعة من المعاهدة). فأول من هاجر أهل مالقة الذين نزحوا إلى باديس (مدينة ساحلية تقع في شمال المغرب، اندثرت ويقع مقابلها جزيرة صغيرة باسمها)، وخرج أهل المرية ونزلوا مدينة تلمسان، ونزل أهل الجزيرة الخضراء في طنجة، واستقر أهل رندة وبسطة وحصن مرتيل في تطوان وأحوازها. وهاجر أهل دانية إلى تونس والقيروان والجزائر، ¬_______ (¬43) الحجي، أندلسيات، ج 2، ص 168 - 169 - عنان، " قصة كاتب مورسكي " مجلة العربي، العدد، 131، ص 52 - عنان، " تستور بلد الموريسكيين " مجلة العربي، العدد 156، ص 138.

وخرج أهل لوشة وبعض سكان غرناطة وأهل مرشانة وسكنوا بين مضارب قبيلة غمارة، ونزل أهل برجة وأندرش ما بين طنجة وتطوان، ونزل أهل مدينة شريش ويليش مدينة سلا، وخرج ما بقي من أهل غرناطة ونزلوا بجاية ووهران وسوسة وسفاقس وقابس، وخرج أهل القلعة إلى مدينة أغادير، وهناك آخرون من سكان الأندلس استقروا في الإسكندرية وغيرها من مدن المشرق (¬44). صدرت الأوامر بتعميم مضمون معاهدة التسليم على الأمراء والوزراء والقادة والرهبان والرعية، وأُصدر مرسومٌ يهدد كل من يجرؤ على المساس بما تضمنته هذه المعاهدة. وقد ذيل هذا التوكيد بتوقيع الملكين وتوقيع نجلهما الأمير، وحشد كبير من الأمراء وأشراف الدولة وأحبارها. وأدى الملك فرديناند والملكة إيزابيلا وسائر من حرروا الشروط القسم بدينهم وأعراضهم، أن يصونوا المعاهدة إلى الأبد، وعلى الصورة التي انتهت إليها. من خلال شروط المعاهدة يتبين لنا بأنها كفلت للمسلمين حريتهم ولغتهم وشعائرهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم، باستثناء حمل الأسلحة. ولكن الذي يبدو أن الملكين الإسبانيين لم يكونا صادقين فعلاً. حيث بدأ تعصبهم ونقضهم للمواثيق منذ دخولهم غرناطة 2/كانون الثاني 1492 م، إذ صدرت الأوامر بإحراق كميات كبيرة من الكتب العربية، لكي يسهل على الإسبان إبعاد المسلمين عن مصادر عقيدتهم ومن ثم القضاء عليهم بسرعة (¬45). ومن أول الخطوات التي رسمتها الملكة إيزابيلا المتعصبة من أجل تنفيذ سياسة التنصير القسري للمسلمين، أنها اعتمدت على مجموعة من الأحبار والرهبان، ومنحتهم مناصب في البلاط الملكي، فكان من أخطرهم (الأب خمنيس) مطران طليطلة. وإذا كانت الممالك الإسبانية قد اضطهدت المدجنين (المسلمون الذين ظلوا على دينهم) خلال استردادها القواعد الأندلسية قبل سقوط غرناطة، إلا أنه بعد السقوط أصبح الأمر أكثر خطورة فحرموا من حمل السلاح، وفرضت عليهم الضرائب القادمة خلال 1495 - 1499 م دون غيرهم من السكان. ¬_______ (¬44) حتاملة، محنة مسلمي الأندلس، ص 75 - 76 - عنان، نهاية الأندلس، ص 311. (¬45) حتاملة، التنصير القسري، ص 60 - عنان، نهاية الأندلس، ص 316 - عنان " تراث الأندلس الفكري " مجلة العربي، العدد 99، ص 106.

منذ اللحظة الأولى لدخول الإسبان غرناطة، تم توزيع مساحات شاسعة من الأراضي على النبلاء الإسبان، فأصبح ملاكوها المسلمون أتباعاً للنبلاء هؤلاء. وفي عام 1498 م أجريت عملية عزل العناصر الإسلامية عن المجتمع الإسباني، ووضعوا في أماكن معينة، ليسهل السيطرة عليهم والقضاء عليهم في حالة الثورة (¬46). كانت نتيجة هذه السياسة التعسفية التي رافقها إحراق خمنيس للكتب العربية وجعلها أثراً بعد عين أن تأججت نار الثورة بين المسلمين. وفي الوقت نفسه عين الأب خمنيس رئيساً لديوان مجمع قضاة الإيمان الكاثوليكي (محاكم التفتيش)، والتي تأسست في إسبانيا منذ القرن الثالث عشر الميلادي (¬47). ولقد أقام الملكان الكاثوليكيان محاكم التفتيش أولاً في إشبيلية عام 1480 م وفي جميع المدن الأندلسية التي سيطروا عليها، وكانت هذه المحاكم سلاحاً فتاكاً بيد الكنيسة تسحق به كل من لم يذعن لأوامرها (¬48). فكان من نتائج سياسة خمنيس التعسفية قيام عدة ثورات أهمها: 1 - ثورة البيازين في غرناطة عام 1499 م/904 هـ: كانت صدور المسلمين تغلي كالمراجل نتيجة نقض الإسبان لعهودهم ومواثيقهم، وتفجرت ثورتهم عندما اعتدى أحد رجال الشرطة وخادم للأب خمنيس على فتاة مسلمة في حي البيازين في غرناطة، فهاجموا المعتدين، ففر الخادم وقبضوا على رجل الشرطة فقتلوه. ومن ثم سارت جموع الثوار إلى دار الأب خمنيس الواقع قرب قصر الحمراء للقضاء عليه، لعلمهم بأن هذه الحادثة هي من تخطيطه. واختار الثوار أربعين رجلاً منهم يمثلون حكومة موريسكية مستقلة عن الإسبان. احتمى خمنيس في بيت حاكم مدينة غرناطة الإسباني (الكونت دي تنديا) مستغلاً المحبة والاحترام بين هذا الحاكم والموريسكيين. أغلق الثوار الطرقات أمام الحملات العسكرية التي أرسلتها السلطات ورموها بالحجارة، واستنجدت السلطات بمطران غرناطة (الأب تالا فيرا) الذي يحظى باحترام الموريسكيين فهدأ من ثورة الموريسكيين واقتنعت حكومتهم بأقواله، والتي لا تعدو مجرد الوعود لأن مطران غرناطة وغيره يعملون أولاً وآخراً لصالح المسيحية والممالك الإسبانية. ¬_______ (¬46) حتاملة، التنصير القسري، ص 65. (¬47) عبد العظيم رمضان " محاكم التفتيش " مجلة العربي، العدد 258، ص 48. (¬48) حتاملة، التنصير القسري، ص 66 - 68 - عنان، نهاية الأندلس ص 323، ص 329.

حاولت السلطات تهدئة أهالي حي البيازين بأساليب ماكرة، منتظرة الفرصة الملائمة للقضاء عليهم. وفي الوقت نفسه هربت حكومة الموريسكيين (حكومة الأربعين) من غرناطة إلى إقليم البشرات خشية التنكيل بهم أو ملاحقتهم من قبل السلطات. وبعد إخماد هذه الثورة عام 1499 م قرر ملك غرناطة الإسباني تأسيس محاكم التفتيش في غرناطة، والتي تتبعت المسلمين بالتعميد، كما منعت أي موريسكي من الدخول إلى غرناطة حتى لا يختلط بأهلها فيثير فيهم روح الثورة. كما حُرم على المسلمين اللجوء إلى الكنائس لعلها تخفف عنهم عقوبة الإعدام. ولم يبق أمام هؤلاء الموريسكيين سوى اللجوء إلى المعاقل المنيعة في رؤوس الجبال ومن هناك يشنون الغارات على القوات الإسبانية التي كانت تلاحقهم باستمرار وتبيد مجموعات كبيرة منهم. إضافة إلى ذلك أصدر الملكان في 20/تموز/1501 م أمراً يحرم على الموريسكيين ممارسة أي عمل يمت إلى عقيدتهم ولغتهم بصلة، مما دفع الكثير من الموريسكيين إلى الالتحاق بإخوانهم في رؤوس الجبال (¬49). 2 - ثورة البشرات عام 1501 م/906 هـ: كان من نتائج ثورة الموريسكيين في محلة البيازين في غرناطة، أن ثار إخوانهم في منطقة البشرات الواقعة في جنوبي غرناطة. فأرسلت الحكومة الإسبانية حملة عسكرية للقضاء على هذه الثورة، قادها (الكونت تنديا) -القائد الذي قام بالدور نفسه في ثورة البيازين- وغيره، ففي طريقها كانت تمر على القرى فتجدها مقفرة من رجالها الأشداء الذين التحقوا بثوار البشرات، فتحرق القرى بعد قتل النساء والأطفال والشيوخ. ولحق بهذه الحملة الملك الإسباني فردينداد وبعض قواده، الذين احتلوا بعض القرى والحصون في الطريق مثل (وادي لكوين) ومدينة (لانخرون) و (لوشار) و (قونقه) و (اندرش) ولقيت الحملة الإسبانية مقاومة عنيفة من الموريسكيين الذين دافعوا عن مدنهم ببسالة (¬50). ¬_______ (¬49) حتاملة، التنصير القسري، ص 77 - 79 - الحجي، المرجع السابق، ص 572 - عنان، نهاية الأندلس، ص 323. (¬50) ينظر، فهمي هويدي، " في بلاد الموريسيك غرباء الأندلس " مجلة العربي، العدد 228، ص 71.

ومن مدينة المرية خرجت حملة إسبانية أخرى تجاه البشرات، فأوقعت هذه الحملات الخسائر الكثيرة بالموريسكيين وأخذت الكثير منهم كرهائن. وفي عام 1502 م كانت الثورات قد أُخمدت عموماً في جميع أراضي البشرات وما جاورها، واضطهد الإسبان الموريسكيين اضطهاداً لا نظير له، فنسفوا مساجدهم، وقتلوا نساءهم وأطفالهم وتعرضوا لحرب إبادة مكشوفة، لأن الموريسكيين في نظر الإسبان مجرد عبيد ورقيق. وأخيراً وضع الموريسكيون المغلوبون على أمرهم أمام أحد الخيارين: إما التنصير القسري، أو التهجير خارج إسبانيا، وانسحب هذا الأمر إلى مدجني قشتالة وليون (¬51). ونتج عن هذه الأحداث، تحويل مسجد غرناطة إلى كنيسة، وكذلك حول مسجد البيازين إلى كنيسة ومدرسة سميت (كنيسة المخلص). وفي مدينة غرناطة نُصِّر قسراً أكثر من خمسين ألف شخص، كما أجبر مسلمو الأندلس على لبس السراويل والقبعات، وأجبروا على ترك لغتهم وتقاليدهم وأسمائهم العربية، وحملوا على اعتناق المسيحية، واستعمال اللغة والتقاليد والأسماء الإسبانية (¬52). وعلى الرغم من كل وسائل العنف والإرهاب التي استعملتها السلطات ومحاكم التفتيش في تنصير الموريسكيين، إلا أنهم استمروا في ممارسة شعائر دينهم بصورة سرية فكانوا يؤدون فروض الصلاة سراً في بيوتهم، وكانوا يغلقون بيوتهم يوم الأحد موهمين السلطات بأنهم ذهبوا إلى الكنيسة، وعندما يتم تعميد أطفالهم في الكنائس يبادرون إلى غسلهم بعد رجوعهم إلى بيوتهم مباشرة، وكانوا يعقدون حفلات الزواج على الطريقة الإسلامية سراً بعد إجراء الاحتفال العلني في الكنيسة. ولهذا أصبحت تعاليم الإسلام وممارساته تقاليد موروثة، يتوارثها الأبناء عن الآباء جيلاً بعد جيل في حلقات مغلقة، لها صفة المجالس السرية. وقد تعرض بعض هذه الأسر إلى الاضطهاد والإبادة بسبب زلة لسان من صبي يعيش حالة الإزدواجية (¬53). وبعد فشل ثورات الموريسكيين في داخل إسبانيا، أرسلوا استغاثتهم إلى إخوانهم المسلمين لعلهم يساندونهم في محنتهم، ومن هذه الصرخات: 1 - بعثوا باستغاثتهم إلى عدوة المغرب، لأن المغرب أقرب البلاد الإسلامية لهم، إلا أن الحالة السياسية المفككة للمغرب في هذه الفترة منعته عن إرسال النجدات إلى ¬_______ (¬51) حتاملة، التنصير القسري، ص 83 - 86. (¬52) حتاملة، التنصير القسري، ص 86 - عنان، نهاية الأندلس، ص 328 وبعدها. (¬53) حتاملة، التنصير القسري، ص 111 - 112.

الأندلس، كما كان سابقاً. 2 - أرسل الموريسكيون إستغاثتهم الأولى إلى السلطان بايزيد الثاني سلطان العثمانيين (1481 - 1512 م)، واتفق هذا السلطان مع السلطان المملوكي في مصر قايتباي (1468 - 1496) على إرسال أسطول بحري لنجدتهم عن طريق صقلية (¬54). إلا أن ظروف السلطانين السيئة حالت دون إرسال مثل هذا الأسطول، فاكتفى السلطان بايزيد بإرسال كتاب إلى الملكين الكاثوليكيين، بعد ثورة البيازين عام 1499 م، لم يكن له أي أثر يذكر. ومع ذلك استنجد به الموريسكيون مرة أخرى، فكانت استغاثتهم على شكل قصيدة مؤثرة مطلعها (¬55): سلام كريم دائم متجدد ... أخص به مولاي خير خليفة ويبدو أن تاريخ هذه الاستغاثة كان بعد عام 1501 م، ولم يحرك السلطان العثماني ساكناً، وذهبت الاستغاثة الموريسكية في مهب الريح. 3 - أرسل الموريسكيون استغاثتهم إلى الملك الأشرف قانصوه الغوري (1501 - 1516 م) سلطان دولة المماليك البرجية في مصر، وأوضحوا له ما وصلت إليه حالهم من إكراه على الارتداد، وانتهاك للحرمات. ودعوه ليتوسط لدى الملكين لكي يحترما معاهدات الاستسلام، ويوقفا الأعمال البربرية ضدهم. فأرسل سلطان مصر وفداً لملكي إسبانيا، بأنه سيجبر المسيحيين المقيمين في بلاده على الدخول في الإسلام بالقوة، إذا لم يحترم الملكان الإتفاقيات المعقودة بينهم وبين مسلمي الأندلس. أرسل الملكان الإسبانيان وفداً إلى مصر في عام 1501 م يتزعمه رئيس كاتدرائية غرناطة، والذي استطاع أن يغرر بسلطان مصر ويوحي له بأن الموريسكيين في حالة جيدة، ومعاملتهم حسنة، وأن لهم الحقوق والواجبات التي يتمتع بها الإسبان. ولم يتابع سلطان مصر الأمر لأنه كان مشغولاً بحركات السلطان سليم الأول، وذهب قانصوه الغوري ضحية لهجوم سليم الأول على بلاد الشام في معركة مرج دابق عام 1516 م (¬56). ¬_______ (¬54) علي محمد حمودة، تاريخ الأندلس السياسي، ص 302 - عنان، نهاية الأندلس، ص 324 - عنان، " تستور بلد الموريسكيين " مجلة العربي، العدد 156، ص 138. (¬55) انظر القصيدة، المقري، أزهار الرياض، ج 1، ص 109 - 115. (¬56) حتاملة، التنصير القسري، ص 99 - 100.

وعندما خابت الآمال التي كان يعلقها مسلمو الأندلس على إخوانهم في الدين في بلاد المغرب والمشرق، لم يبق أمامهم سوى خيارات ثلاث هي: الموت أو التنصير القسري، أو الهجرة القسرية خارج البلاد. فضل الكثير منهم البقاء في بلادهم، والقبول بالأمر الواقع، والتنصير القسري -ولو بالظاهر- حيث صعب عليهم مفارقة الأوطان العزيزة. وهناك فريق آخر أبت عليه عزة الإسلام أن يعيش ذليلاً، أو متنصراً، فترك البلاد وهاجر إلى مصر وبلاد الشام وبلاد عدوة المغرب، وقسم منهم ذهب مع الرحلات الاستكشافية إلى أمريكا الوسطى والجنوبية. ولم يكتف الملكان الإسبانيان بتنصير وتهجير الموريسكيين. بل لاحقوهم إلى دار هجرتهم وبخاصة بلاد المغرب العربي التي تعرضت مدنه -التي سكنها الموريسكيون- لغارات الإسبان البحرية (¬57). ¬_______ (¬57) حتاملة، التنصير القسري، ص 100 - 103 - عنان، نهاية الأندلس، ص 384 وبعدها - عنان، " تستور بلد الموريسكيين " مجلة العربي، العدد 156، ص 139، ص 141.

الباب الخامس حضارة العرب في الأندلس

البَابُ الخَامِس حضارة العرب في الأندلس الفصل الأول: تاريخ الفكر العربي في الأندلس الفصل الثاني: النظم العربية في الأندلس الفصل الثالث: أثر الحضارة العربية في الأندلس على أوروبا الدكتور خليل إبراهيم السامرائي

الفصل الأول تاريخ الفكر العربي في الأندلس

الفَصْلُ الأَوَّل تاريخ الفكر العربي في الأندلس بدأ العرب عملية فتح الأندلس في عام 92 هـ، واستكمل فتحها عام 95 هـ وبدأ العصر الإسلامي الأول فيها، والذي يعرف باسم عصر الولاة (95 - 138 هـ). شهد هذا العصر كثيراً من الحملات العسكرية التي سارت إلى الشمال لإخضاع المتمردين الإسبان، أو العبور وراء جبال البرتات لوضع حد لهجوم الفرنجة، أو فتح أراضٍ جديدة وراء هذه الجبال. وتميز هذا العصر بعدم الاستقرار السياسي بسبب المنازعات القبلية الكثيرة فيه، والذي أدى إلى تعاقب أربعة وعشرين والياً لحكم هذه الولاية (¬1)، فأدى هذا الأمر إلى عدم استقرار المجتمع الأندلسي في هذا العصر، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أكثر الداخلين إلى الأندلس في هذه الفترة كانوا جنوداً وحكاماً، اهتموا بالأمور السياسية والعسكرية بالدرجة الأولى. ومع ذلك فقد عرفت الأندلس في عصر الولاة نوعاً من الثقافة، كانت اللبنة الأولى لبناء صرح حضارة العرب فيها. فقد دخل الأندلس في فترة الولاة مجموعة من الصحابة والتابعين، رافقوا عمليات الفتح أو بعدها (¬2)، وكان واجبهم الأول بعد الجهاد تفقيه الناس بأمور الدين، وتخطيط المساجد في أمهات المدن الأندلسية المفتوحة، والتركيز على علوم الدين واللغة أولاً (¬3). ويبدو لنا أن أماكن التعليم في هذا العصر كانت لا تتجاوز حلقات المساجد أولاً، والكتاتيب التي ورد لها ذكر في أواخر عصر الولاة ثانياً (¬4). ¬_______ (¬1) هيكل، الأدب الأندلسي، ص 58 - الحجي، المرجع السابق، ص 207 وما بعدها. (¬2) ينظر، المراكشي، المعجب، ص 19 - 10 - المقري، نفح الطيب، ج 2، س 51 وما بعدها - هيكل، المرجع السابق، ص 60 - 61 - الحجي، المرجع السابق، ص 149 وبعدها. (¬3) صاعد، طبقات الأمم، ص 62. (¬4) كريم عجيل حسين، الحياة العلمية، ص 208، ص 223.

وفي هذا العصر ظهرت البوادر الأولى للأدب العربي المتمثل في الشعر والنثر والخطابة، فهناك أبيات من الشعر نُسبت إلى فاتح الأندلس الأول طارق بن زياد منها: ركبنا سفيناً بالمجاز مقيَّرا ... عسى أن يكون الله منّا قد اشترى (¬5) ونسب إليه الخطبة المشهورة: " أيها الناس، أين المفر ... "، فلو صحت نسبة هذين النصين إلى طارق بن زياد، لقررنا أن هذين النصين كانا أول أدب عربي ظهر في الأندلس خلال عصر الولاة، إلا أن الشك يدور حول نسبة هذين النصين إلى طارق بن زياد، وقد قدم بعض الباحثين دراساتهم في هذا المجال (¬6). إلا أن بعض المصادر حفظت لنا بعض الشعراء في عصر الولاة ونماذج من شعرهم، ويأتي في طليعتهم: أبو الأجرب جعونة بن الصمة الذي هجا الصميل بن حاتم زعيم القبائل القيسية ومن ثم مدحه بعد ذلك، وكذلك بكر الكنائي، وقد سأل أبو نواس عباس بن ناصح عندما التقى به في العراق عن هذين الشاعرين وعن نماذج من شعرهما. ومن شعر جعونة: ولقد أراني من هواي بمنزل ... عال ورأسي ذو غدائر أفرعُ والعيش أغيد ساقط أفنانه ... والماء أطيبه لنا والمرتع (¬7) ومن شعراء هذا العصر أيضاً، الوالي أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي 125 - 128 هـ/743 - 746 م، والذي كان يلقب بعنترة الأندلس (¬8)، ومن شعره: فليت ابن جواس يخبر أنني ... سعيت به سَعْيَ امرئ غير عاقلِ قتلتُ به تسعين تحسب أنهم ... جذوع نخيل صُرِّعت في المسايل ولو كانت الموتى تباع اشتريته ... بكفي وما استثنيت منها أناملي (¬9) هذه النماذج البسيطة من الشعر قالها شعراء مشارقة وفدوا إلى الأندلس، فهو ¬_______ (¬5) المقري، نفح الطيب، ج، ص 124. (¬6) الحجي، المرجع السابق، ص 57 وبعدها - هيكل، المرجع السابق، ص 69 وبعدها، السامرائي، " طارق بن زياد بين الخطبة وإحراق السفن " مجلة آفاق جامعية. (¬7) ينظر، ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 131 - 132 - المقري، نفح الطيب، ج 2، ص 156 - الضبي، بغية الملتمس، ص 261 (رقم، 626). (¬8) الضبي، بغية الملتمس، ص 276 - رقم (686)، الحميدي، جذوة المقتبس، ص 200 رقم (402) - مجهول، أخبار مجموعة، ص 56 - 60. (¬9) الحميدي، المصدر السابق، ص 200 - 201 - ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ص 18 - 19.

يتناول المدح والهجاء والفخر والحماسة على غرار شعر المشرق، ولا أثر للأندلس على هذه النماذج التي قيلت، سوى أنها قُرئت في أرض الأندلس ليس إلا. وبجانب الخطبة المنسوبة إلى طارق بن زياد، فإن ظروف العصر تتطلب الخطب الحماسية أولاً في مجال الحروب الجهادية أو في مجال الحروب القبلية، كما أن دعاة الإسلام في الأندلس يتطلب الأمر منهم إلقاء الخطب الدينية في أيام الجمعة أو أوقات الدعوة ثانياً (¬10). والكتابة كانت ضرورية تقتضيها ظروف الفتح وإدارة البلاد، وإعطاء المواثيق وكتابة المعاهدات. ومن أشهر كتابات هذا العصر عهد موسى بن نُصير إلى تُدمير، وعهد بنبلونة، ورسالة يوسف الفهري آخر ولاة الأندلس إلى عبد الرحمن الداخل (¬11). ومن أشهر كتاب هذا العصر خالد بن يزيد كاتب يوسف الفهري، وكذلك أمية بن زيد الذي دخلَ الأندلس مع جنود بلج بن بشر، واتصل بخالد بن يزيد فجعله كاتباً معه (¬12). وكانت الخصائص الفنية لهذا النثر هي خصائص النثر المشرقي نفسه الذي كان معروفاً في عصر بني أمية، فهو يميل إلى الإيجاز، ويعنى بقوة العبارة أكثر من عنايته بتجميلها، ثم خلوه من المقدمات الطويلة (¬13). وفي الوقت نفسه لم يتوفر لفاتحي الأندلس التأثر بالثقافة القوطية المحلية، نظراً لضعف هذه الثقافة، وضيق أفقها، واقتصارها على المجال الديني بصورة خاصة. إضافة إلى أن ظروف الأندلس السياسية في عصر الولاة، أوجدت فيها جواً لا يلائم أي تقدم في مضمار الثقافة، لانهماك الناس بالمنازعات الكثيرة التي سيطرت على مسرح الأحداث، لذا اقتصر اقتباس الأندلسيين من الثقافة في هذا العصر على ما هو ضروري من المشرق العربى، لتمشية أمور الحياة وفق أحكام الدين الإسلامي. أما في مجال العلوم الصرفة، فكان أهل الأندلس منذ الفتح حتى بداية عصر الإمارة يعتمدون في الطب على كتاب مترجم من كتب المسيحيين يقال له الإبرشيم (المجموع - الجامع) (¬14). ¬_______ (¬10) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 34 - مؤلف مجهول، أخبار مجموعة، ص 61 - هيكل، المرجع السابق، ص 65. (¬11) ينظر، الحميري، الروض المعطار، ص 62 - 63 - العذري، نصوص عن الأندلس، ص 4 - 5 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 86. (¬12) ابن عذاري، البيان المغرب، ج 2، ص 45 - 46. (¬13) هيكل، المرجع السابق، ص 66 - 67. (¬14) أحمد بدر، دراسات في تاريخ الأندلس، ج 1، ص 169 - 170 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 207.

من المعروف أن الحضارة الأندلسية لم تنشأ فجأة، بل مرت في أدوار مختلفة، وخضعت لمؤثرات حضارية مشرقية تربطها بالوطن الأم باعتبارها جزءاً منه، كما خضعت أيضاً لمؤثرات حضارية محلية بحكم البيئة التي نشأت فيها (¬15). ففي عصر الولاة كانت الأندلس تابعة للسيادة الأموية سواء في بلاد الشام أم في قرطبة، ولهذا كان من الطبيعي أن تتأثر بالمظاهر الحضارية الشامية جميعاً، وهو ما يسمى بالتقليد الشامي: فمن الناحية الدينية، اعتنق الأندلسيون في هذه الفترة مذهب الإمام الأوزاعي (عبد الرحمن بن يحمد الأوزاعي 88 - 157 هـ) (¬16)، الذي كان من المجاهدين الذين رابطوا في مدينة بيروت لصد غارات العدو البيزنطي البحرية، ولهذا اهتم مذهبه بالتشريعات الحربية وأحكام الجهاد، وهذا الاهتمام كان يناسب وضع الأندلسيين في هذه الفترة من حياتهم القائمة على حروب الجهاد، ولهذا اعتنقوا هذا المذهب. وتختلف الروايات حول العالم الأول الذي نقل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس فترجح بين القاضي الغرناطي أسد بن عبد الرحمن (توفى عام 150 هـ) وصعصعة بن سلام الشامي الأندلسي (توفى عام 192 هـ أو 202 هـ) (¬17) أما الحياة الأدبية في الأندلس في هذا العصر فقد كانت صدى لحياة الشام الأدبية، فالشعر الذي قاله أشهر شعراء هذه الفترة -وقد ذكرنا بعضهم- كان يحاكي شعر الفرزدق والأخطل وجرير بالمشرق (¬18). وإذا أخذنا بالتقسيم السياسي لعصر الإمارة 138 - 316 هـ حسب منهج الدكتور أحمد بدر (¬19)، وهو على الترتيب الآتي: 1 - عصر التأسيس 138 - 172 هـ/756 - 788 م (عصر عبد الرحمن الداخل). 2 - عصر التوطيد 172 - 206 هـ/788 - 822 م (عصر هشام الأول 172 - 180 هـ، وعصر الحكم بن هشام 180 - 206 هـ). ¬_______ (¬15) العبادي، المرجع السابق، ص 316. (¬16) ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 3، ص 127. (¬17) ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس، ج 1، ص 74 (رقم 239) - الذهبي، العبر في خبر من غبر، ج 1، ص 309. (¬18) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 37 - 47 - السامرائي، " أثر العراق الحضاري على الأندلس "، ص 6. (¬19) دراسات في تاريخ الأندلس، ج 1، ص 72 وما بعدها.

3 - عصر الاستقرار والازدهار 206 - 273 هـ/822 - 886 م وهو عصر عبد الرحمن الأوسط 206 - 238 هـ وعصر ابنه الأمير محمد 238 - 273 هـ. 4 - عصر الحرب الأهلية، 273 - 300 هـ/886 - 912 م، وهو عصر الأمير المنذر بن محمد 273 - 275 هـ وعصر الأمير عبد الله بن محمد 275 - 300 هـ، نرى أن الملامح الشامية للحضارة العربية دخلت الأندلس في عصر الولاة وعصر التأسيس من عصر الإمارة، وأن الملامح الحجازية دخلت في عصر التوطيد من عصر الإمارة، كما أن الملامح العراقية دخلت في عصر الاستقرار والإزدهار من عصر الإمارة وما تلاه من عصور (¬20). أما التأثير الحجازي، فبدأ في عصر التوطيد، ولعل السبب الذي أدى إلى ضعف التأثير الشامي على الأندلس هو أن سليمان وعبد الله من أولاد الداخل قد تمردوا على أخيهم الأمير هشام، وكان وراءهما الحزب الشامي في الأندلس، فلما انتصر الأمير هشام على إخوانه، هربوا إلى شمالي أفريقية، وضعف الحزب الشامي بالأندلس، فنتج عن ذلك ضعف شأن التأثير الشامي الذي سيطر على الأندلس، وبذلك نجد الأندلسيين، وبخاصة أميرهم، يبحثون عن آفاق حضارية جديدة غير الشامية، فاهتدوا إلى الملامح الحجازية. وكان الحجاز في القرن الثاني للهجرة مركزاً حضارياً هاماً للفنون والموسيقى، والعلوم الدينية، ففي مجال الفنون، ظهرت الممارسات الموسيقية الأولى في الحجاز وهي عبارة عن الموسيقى العربية الأصلية الممزوجة بالمؤثرات الفارسية والبيزنطية نتيجة حركة الفتوحات العربية، وكان هناك تنافس بين مكة والمدينة في هذا المجال. وسرعان ما انتقل هذا الفن إلى الأندلس عن طريق الجواري والمغنين الذين رحلوا إلى الأندلس ونقلوا معهم هذه المظاهر الحضارية. وفي المقدمة تأتي المغنية (عجفاء) التي أثارت إعجاب الأندلسيين في عهد الأمير هشام، ويأتي بعدها الثنائي الغنائي الحجازي (علون وزقون) في عهد الأمير الحكم (¬21). أما في مجال العلوم الدينية، فقد كانت المدينة المنورة مركز العلوم الدينية، وقد توج نضوج هذه العلوم وجود الإمام مالك بن أنس فيها (توفي عام 179 هـ) صاحب ¬_______ (¬20) السامرائي، " أثر العراق الحضاري "، ص 2. (¬21) المقري، نفح، ج 3، ص 130 - سالم، قرطبة حاضرة الخلافة، ج 2، ص 86.

كتاب الموطأ الذي يعني (السهل الواضح)، وقد ذاعت شهرة الإمام مالك في العالم الإسلامي، فأقبل الأندلسيون على اعتناق مذهبه في عهد الأمير هشام. وشاع هذا المذهب في الأندلس بعد أن استهوى الأمير هشام ومن حوله من الفقهاء ورواد الحديث، تاركين مذهب الأوزاعي. والروايات تعزو هذا التحول إلى الإعجاب المتبادل بين مالك والأمير هشام، هذا الإعجاب الذي جسده الفقهاء الأندلسيون تلاميذ مالك، دون أن يرى أحدهم الآخر (¬22). بالإضافة إلى التعاطف بين الأمير هشام ومالك الناجم عن عداوة الاثنين للعباسيين، إذ ساند الإمام مالك ثورة محمد ذي النفس الزكية في المدينة عام 145 هـ ضد الخليفة العباسي المنصور، وقد أفتى مالك بجواز تحلل المسلمين من بيعة المنصور، ولذا لقي كبير عناء من العباسيين (¬23). كذلك لا يُنسى دور علماء الأندلس الذين رحلوا إلى الحجاز ودرسوا على يد الإمام مالك، فنقلوا مذهبه إلى الأندلس، وفي مقدمتهم أبو عبد الله زياد بن عبد الرحمن اللخمي (توفي عام 204 هـ أو قبلها) والملقب بـ (شبطون) الذي أدخل مذهب مالك إلى الأندلس، وأخذه عنه يحيى بن يحيى الليثي (عاقل الأندلس) كما لقبه الإمام مالك. وتذكر الروايات أن يحيى بن يحيى أخذ عن الإمام مالك بالذات وروى عنه الموطأ، وتعتبر روايته من أصح الروايات (¬24). ويليه عيسى بن دينار الفقيه المشهور، وعبد الملك بن حبيب السلمي الذي أخذ من طبقة أصحاب مالك وعاد إلى الأندلس ليدون كتاب الواضحة (¬25). وتعلل الروايات أن الشبه الكبير بين طبيعة أهل المغرب والأندلس وطبيعة أهل الحجاز، من حيث البساطة، كان من أسباب انتشار المذهب المالكي في مغرب العالم الإسلامي. ولهذا إن عقلية أهل المغرب والأندلس كانت تغلب عليها نزعة أهل الحديث، وجانبوا نزعة أهل الرأي والقياس (مذهب أبي حنيفة) (¬26). ¬_______ (¬22) إبراهيم بيضون، الدولة العربية في إسبانيا، ص 224 - بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس. ص 43. (¬23) المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص 340 - ابن الأثير، الكامل، ج 5، ص 532. (¬24) ابن فرحون، الديباج المذهب، ج 2، ص 352 - عبد البديع، الإسلام في إسبانيا، ص 40. (¬25) ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 260 - 271 (رقم 816) - ج 1، ص 203 (رقم 610)، ج 2، ص 180 (رقم 1556) - أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 3، ص 48 - 49 أحمد بدر، المرجع السابق، ج 1، ص 173. (¬26) العبادي، المرجع السابق، ص 326 - 327 - أحمد أمين، المرجع السابق، ج 3، ص 29.

ولم يقف الأمر عند انتشار المذهب المالكي في الأندلس في هذه الفترة فقط، بل تعداه إلى انتشار قراءة أهل المدينة للقرآن - وبالذات قراءة نافع بن عبد الرحمن (توفي عام 169 هـ) (¬27) للقرآن (قارئ أهل المدينة) في الأندلس. وينسب إلى الغازي بن قيس إدخال هذه القراءة على عهد الأمير الداخل، وقد امتدح الإمام مالك هذه القراءة. وكذلك قلدت الأندلس الحجاز في تنقيط القرآن وتشكيله (¬28). وحاول المذهب الحنفي طرق أبواب الأندلس، إلا أن ولاة الأمر فيها وبخاصة الأمير هشام أغلقوا الأبواب دون دخول هذا المذهب (¬29). أما الأدب الأندلسي في فترة التأسيس والتوطيد، فسار على النهج التقليدي المشرقي من فخر وحماسة ومدح، إلا أنه أيضاً ظهرت بوادر أوليات الأدب الأندلسي، فهناك التجديد الموضوعي، وتزعمه الشاعر أبو المخشي عاصم بن زيد العبادي، الذي يتحدث في شعره عن محنته حين فقد بصره، فعبر عن هذه المحنة تعبيراً إيحائياً بسيطاً مؤثراً، وذلك حيث ذكر زوجته وخضوعها للأعداء بسبب فقدان عائلها لنور عينيه، وهذا ما يسمى بالتجويد الفني: خضعت أم بناتي للعدا ... إذ قضى الله بأمر فمضى ثم أخذ الشاعر يجسم محنة فقدان البصر، فيجعل من يصاب بها: وإذا نال العمى ذا بصر ... كان حياً مثلُ ميت قد ثوى (¬30) أما الأمير عبد الرحمن الداخل فكان شاعراً مقلداً، إلا أنه ركز على الجانب العاطفي عند وصفه للنخلة بشعره المعروف (¬31). ومن شعراء هذا العصر أيضاً الأمير الحكم بن هشام الذي وصف بالبلاغة والفصاحة وغلب على شعره الجانب الحماسي والعاطفي (¬32). أما الشاعر عباس بن ناصح الثقفي فكانت له رحلة مشرقية، وبعد رجوعه إلى الأندلس عينه الأمير الحكم على قضاء الجزيرة الخضراء مع شذونة، واشتهر شاعرنا ¬_______ (¬27) عياض، ترتيب المدارك، ج 3 - 4، ص 348 - الزبيدي، طبقات النحويين، ص 254 - حازم غانم، الحياة العلمية، ص 168. (¬28) ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 345 (رقم 1015) الحميدي، المصدر السابق، ص 324 (رقم 748) - ابن القوطية، تاريخ، ص 25. (¬29) العبادي، المرجع السابق، ص 327 - 328. (¬30) هيكل، المرجع السابق، ص 86 وبعدها. (¬31) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 60 - المقري - نفح، ج 2، ص 76. (¬32) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 79 - 80.

هذا بالمدح والفخر وتناول أحياناً الزهد (¬33). وحسانة بنت أبي الحسين التميمية، فهي أولى الشواعر الأندلسيات، وشعرها مزيج من الرثاء والشكوى والمدح وطلب العون، فهو شعر يتسم بالتجويد الفني والتركيز العاطفي (¬34). واستمر النثر في هذه الفترة يسير على الأسلوب نفسه، الذي سار عليه في عصر الولاة، فمن نماذج النثر: خطب الأمراء يحثون بها أصحابهم وجنودهم على القتال، ووصايا الأمراء لأولادهم، ومن أشهر الكتاب في هذه الفترة فطيس بن عيسى، وخطاب بن زيد، اللذان كانا كاتبين للأمير هشام ثم لابنه الأمير الحكم، وكذلك حجاج العقيلي كاتب الحكم (¬35). وإذا كان الشاعر عباس بن ناصح الثقفي ذا شهرةٍ أدبية، فشهرته العلمية تعادل شهرته السابقة، فقد كان بارعاً في الهندسة والفلك والفلسفة (¬36). ونبغ في عهد الأمير الحكم أبو القاسم عباس بن فرناس، الذي برع منذ فتوته في الفلسفة والفلك والكيمياء، وهو أول من استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وضع آلة فلكية تعرف بالميقاتة لتعريف الوقت، وحاول الطيران كما هو مشهور (¬37). وعاصره أيضاً يحيى بن الحكم الغزال، وبالرغم من اشتهاره بالشعر، إلا أنه كان عالماً بالفلسفة والفلك، وله أرجوزة طويلة في أبواب العلم لم تصلنا (¬38)، واشتهر هذان العالمان في عصر الأمير عبد الرحمن بن الحكم، أي فترة الإزدهار. وفي فترة الاستقرار والإزدهار من عصر الإمارة 206 - 273 هـ هبت رياح التأثير العراقي الذي ازدهر في هذه الفترة لعوامل كثيرة، على الأندلس، وفي الوقت نفسه توفرت في الأندلس عوامل جذب لهذه الحضارة، منها: رغبة الأمير عبد الرحمن الأوسط 207 - 238 هـ في ترك سياسة الإنعزال عن العراق التي سار عليها آباؤه، وأن ¬_______ (¬33) المقري نفح، ج 1، ص 161 - هيكل، المرجع السابق، ص 105 - 106. (¬34) أيضاً. ج 1، ص 488 - أيضاً، ص 107 وبعدها - سالم، قرطبة، ج 2، ص 170 - بالنشا، تاريخ، ص 57. (¬35) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 68 - هيكل، المرجع نفسه، ص 110 - 113. (¬36) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 252 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 161. (¬37) ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس، ص 296 (رقم 881). (¬38) محمد صالح البنداق، يحيى بن الحكم الغزال، ص 28.

يساير حركة الإزدهار الحضاري التي اشتهرت بها بغداد، ففتح أبواب الأندلس أمام التيارات العراقية. بالإضافة إلى بروز مظاهر الترف والرفاه في المجتمع الأندلسي بسبب الإزدهار الاقتصادي الأندلسي، مع الأخذ بنظر الاعتبار إقبال أهل الأندلس على الحياة الفكرية بسبب الاستقرار السياسي وما تبعه من نشاط اقتصادي (¬39). ويأتي في مقدمة من اهتموا بالحركة العلمية الأمير عبد الرحمن الأوسط الذي كان عالماً بالشريعة والفلسفة، وقد شبه بالمأمون العباسي في طلبه للكتب الفلسفية (¬40). وكذلك ابنه الأمير محمد الذي أنشأ نواة مكتبة القصر، كما أنه أقطع أحد العلماء الوافدين من المشرق إقطاعاً، وعنه روى الحديث (¬41). وقد ساعد الناس في مسعاهم هذا حصول تطورات ملائمة في عهدهم، منها انتقال صناعة الورق، بعد انتشارها في المشرق، إلى الأندلس وإقامة مراكز لصناعته في مدينة طليطلة وشاطبة (¬42). وهناك عوامل عديدة ساعدت على انتقال مظاهر الحضارة العراقية إلى الأندلس في هذه الفترة وهي: 1 - الوفود: تذكر لنا بعض الروايات أن الأمير الحكم أو الأمير عبد الرحمن الأوسط أرسل وفداً إلى العراق برئاسة العالم عباس بن ناصح لدراسة الآثار العلمية المنقولة إلى العرب عن اليونان واستنساخها له. وبعد رجوع الوفد حمل معه كتاب الحساب الهندي المعروف عند العرب باسم السند هند (¬43). وبذلك دخلت الأرقام الهندية الأندلس، ومنها انتقلت إلى أوروبا، ومعنى هذا أن الوفد الأندلسي عرف هذا الكتاب واطلع عليه في العراق. لأن العرب عرفوا في العصر العباسي الأول كتاب السد هانتا في الرياضيات من الهنود، وقد أمر الخليفة المنصور 136 - 158 هـ بترجمته إلى العربية، فترجمه إبراهيم بن حبيب الفرازي، وعرف هذا الكتاب باسم السند هند، وألف الفرازي على غراره كتاباً عرف باسم السند هند الكبير. ¬_______ (¬39) السامرائي، " أثر العراق الحضاري "، ص 9 وما بعدها - سالم، قرطبة، ج 2، ص 161. (¬40) المراكشي، المعجب، ص 48 - السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص 522. (¬41) ابن الآبار، التكملة؛ ج 1، ص 8. (¬42) أحمد بدر، المرجع السابق، ج 1، ص 176. (¬43) ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 45 - بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس، ص 45 - السامرائي، دراسات في تاريخ الفكر العربي، ص 341 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 161.

وفي عصر المأمون 198 - 218 هـ طلب من العالم محمد بن موسى الخوارزمي تصحيح هذا الكتاب، ويذكر الخوارزمي شكلين للأرقام الهندية كان يكتبهما العرب، بقي أحدهما المعروف بالأرقام الهندية، وهو الذي ساد في مشرق العالم الإسلامي، بينما اندثر الشكل الآخر المعروف بالأرقام الغبارية الذي ساد في مغرب العالم الإسلامي، ومنها انتقل إلى أوروبا، وهو أصل الأرقام العربية الآن (¬44). 2 - الرحلة في طلب العلم: قام العديد من طلاب العلم الأندلسيين بالرحلة إلى العراق للتزود بالعلوم من منابعها، وقد أمضى بعضهم سنوات طويلة تجاوزت العشرين سنة أحياناً من أجل هذه المهمة، أمثال محمد بن عبد السلام الخشني (¬45)، وأنفق الكثيرون القسم الأكبر من ثرواتهم في شراء الكتب التي أدخلوا منها الكثير إلى الأندلس، بالإضافة إلى أن غيرهم حملوا العلم رواية في الصدور (¬46). ومن نماذج هؤلاء العلماء يحيى بن الحكم الغزال الذي رحل إلى بغداد ودرس الشعر العربي في العراق هناك وقلّد أبا نواس في شعره (¬47). وكذلك عبد الله بن محمد بن قاسم الذي رحل إلى العراق ودرس فيه المذهب الظاهري ونقل أصوله إلى الأندلس، وعالم الحديث المشهور محمد بن وضاح، رحل إلى المشرق ودرس على أيدي كبار علماء الحديث ومن أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل (¬48). كذلك اشتهر عبد الله بن مسرة بن نجيح بالفلسفة وعلم الكلام وقام برحلته المشرقية إلى العراق ونزل البصرة في أواخر عصر الإمارة مع أخيه. وقد وُصف عبد الله هذا بكونه أشقر شديد الحمرة مما جعل أحد شيوخه في البصرة يحذره مازحاً " إياك أن يبيعك أهل البصرة يا صقلبي "، ثم رجع إلى الأندلس يبشر بهذه العلوم التي درسها في العراق (¬49). وقد ازدهرت مدرسة ابن مسرة الفلسفية في عصر الخلافة. ¬_______ (¬44) هونكة، شمس العرب، ص 84 - أحمد نصيف الجنابي، الرياضيات عند العرب، ص 35 - 36 - عبد المنعم ماجد، تاريخ الحضارة الإسلامية، ص 223. (¬45) الحميدي، المصدر السابق، ص 68 - (رقم 100). (¬46) أحمد أمين، المرجع السابق، ج 3 ص 23. (¬47) البنداق، المرجع السابق، ص 57 - 58، ص 82. (¬48) ابن الفرضي. المصدر السابق، ج 1، ص 219 (رقم 655)، ج 2، ص 15 (رقم 1136). (¬49) صاعد الطليطلي، طبقات، ص 28 - 29 - ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 217 (رقم 652).

3 - دور التجار: فتحت أبواب الأندلس أمام التجار المشارقة، وبخاصة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، فبجانب نقل التجار للسلع والبضائع إلى الأندلس، نقلوا معهم بعض الكتب العلمية وباعوها في أسواق الأندلس، حيث اشتراها علماء الأندلس واستفادوا منها في تنمية حركتهم العلمية. وقد كان في مقدمة هؤلاء التجار محمد بن موسى الرازي (توفي عام 273 هـ) وهو جد أسرة الرازي التي اشتهرت بكتابة التاريخ في عصر الخلافة (¬50). وكذلك دخل كتاب العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي إلى الأندلس على يد تاجر أهداه إلى الأمير عبد الرحمن الأوسط، وبدا هذا الكتاب عسير الفهم على أهل البلاط، وبعد أن اطلع عليه العالم عباس بن فرناس فسره وسهل فهمه لأهل الأندلس (¬51). 4 - هجرة العلماء إلى الأندلس: نتيجة الاضطراب السياسي في المشرق، هاجر بعض العلماء إلى الأندلس، فلقوا الترحاب والرعاية في ربوعها، فكان الأمر كما يقول أحمد أمين: " ... علماء يضيق بهم الشرق من الفاقة فيرحلون إلى الغرب، وعلماء من الغرب يعوزهم العلم فيرحلون إلى الشرق ... " (¬52). ومن العلماء الذين رحلوا من المشرق إلى الأندلس في هذه الفترة، محمد بن موسى الرازي وهو من مدينة الري في إيران، ورأس عائلة المؤرخين المشاهير في عصر الخلافة (أحمد بن محمد وابنه عيسى بن أحمد). وكان محمد بن موسى الرازي تاجراً مشرقياً اتصل بالأمير محمد وعمل لديه في التجسس على أوضاع المشرق، وهو الذي ألّف كتاب الرايات في التاريخ (¬53). وفي عصر الإزدهار تقدمت العلوم الطبية في الأندلس، وقد ساهم في تقدمها بعض الأطباء المشارقة الذين رحلوا إلى الأندلس، فعلموا أهلها وما وصل إليه أهل العراق في الطب. ويأتي في مقدمتهم إسحاق بن عمران العراقي الأصل الذي رحل إلى الأندلس (¬54). وإذا كان رائد الحركة الطبية في الأندلس في هذا العصر أحمد بن إياس ¬_______ (¬50) ينظر، العبادي، المرجع السابق، ص 34 - أحمد بدر، المرجع السابق، ج 1، ص 177، ص 186. (¬51) أحمد بدر، المرجع السابق، ج 1، ص 184. (¬52) ظهر الإسلام، ج 3، ص 233. (¬53) الحميدي، المصدر السابق، ج 3، ص 104 (رقم: 175) - عبد البديع، المرجع السابق، ص 68. (¬54) أحمد أمين، المرجع السابق، ج 3، ص 233.

(حمدين بن أبا) الذي ينسب إليه يسون حمدين (شراب) وهو يتألف من مائة صنف من الأعشاب، فقد كان أستاذه طبيباً عراقياً من حران هاجر إلى الأندلس في فترة الإزدهار، وهذا الطبيب المشرقي هو الذي أدخل للأندلس معجوناً لأوجاع الجوف، كان يبيع السقية منه بخمسين ديناراً، وكان حمدين أحد خمسة أطباء أخذوا العلم منه (¬55). وأدت هذه العوامل إلى انتشار بعض العلوم التي تعتبر عراقية النشأة في الأندلس، وقد شهدت فترة الإزدهار من عصر الإمارة دخول النتاج العربي العراقي من علوم اللغة والنحو، فنرى عبد الرحمن بن موسى الهواري يدرك الأصمعي في العراق ويأخذ منه علم النحو مباشرة، ولكنه لم يكتف بذلك بل سلك مسلك علماء البصرة بأن داخل الأعراب وتردد في بواديها وحفظ الكثير (¬56). وكذلك محمد بن عبد السلام الخشني الذي قضى في العراق خمسة وعشرين عاماً، فأخذ علم اللغة والنحو والشعر الجاهلي من شيوخ يروونها عن طبقة المشاهير في هذا الباب كالأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى وسيبويه، ومن أشهر شيوخه سهل بن محمد السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي (¬57). كذلك قام جودي بن عثمان النحوي (توفي عام 198 هـ) بلقاء الكسائي والفراء وأبي جعفر الرؤاسي أثناء رحلته للمشرق، وهو أول من أدخل للأندلس كتاب الكسائي (¬58). ساهم التأثير الحضاري الشرقي في تطوير حضارة العرب في الأندلس، ابتداءً من فترة الازدهار في عصر الإمارة، وما تلاها من عصور، إلا أن هذا التأثير لقي في البداية معارضة شديدة من بعض العلماء ورجال البلاط ضد علماء الأندلس الذين تأثروا بالحضارة العراقية أمثال العالم والأديب المعروف عباس بن فرناس الذي لقي الأمرين من جراء ذلك، ولم يخفف عن هؤلاء العذاب، إلا رعاية الأمير عبد الرحمن الأوسط لهم (¬59). كما أن التطور الحضاري في الأندلس خلال هذه الفترة زاد وكبر من حجم ¬_______ (¬55) ابن جلجل، طبقات الأطباء، ص 93 - 94 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 114 (حاشية 1) - سالم، قرطبة، ج 2، ص 211. (¬56) ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 257 - 258 (رقم 778). (¬57) الحميدي؛ المصدر السابق، ص 68 (رقم 100) - الحموي، معجم الأدباء، ج 11، ص 113 - ج 12، ص 44. (¬58) الزبيدي، طبقات، ص 256 - عبد البديع، المرجع السابق، ص 73. (¬59) ينظر، محمد صالح البنداق، المرجع السابق، ص 37 - العبادي، المرجع السابق، ص 364 - عبد البديع، المرجع السابق، ص 56 - 57.

ظاهرة الاستعراب بالأندلس، أي إقبال الإسبان على تعلم اللغة العربية وآدابها، وتقليد العرب في عاداتهم الإجتماعية. وإزاء هذا الأمر -الذي كان للتيار الفكري العراقي تأثير واضح في كل هذه المتغيرات- كان لبعض رجال الدين الإسبان المتعصبين موقف معادٍ لهذا التيار. وإذا صحت ظاهرة الاستشهاد (الانتحار الديني) في قرطبة 235 - 244 هـ/ 850 - 859 م، ومحورها الطعن بالإسلام ومبادئه وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم علناً في المساجد والساحات العامة أولاً، ومحاولة إعادة بعض من أسلم حديثاً من الإسبان إلى دينه القديم ثانياً، والتي ذكرتها المراجع الأوروبية (¬60)، فنحن نميل إلى أن هذه الحملة التي قادها الغُلاة تعود إلى ظاهرة التطور الحضاري الأندلسي في هذا العصر بسبب التأثيرات الحضارية المشرقية (¬61). ويعد منهج تفسير القرآن بالمأثور، من أبرز المناهج التي اشتهرت في الأندلس، وتزعم هذا المنهج فيها العالم الفقيه بقي بن مخلد (توفي عام 276 هـ) في أواخر عصر الإزدهار، وقد ألف كتاباً في تفسير القرآن بلغ فيه درجة من الجودة والإتقان (¬62). له رحلة مشرقية، وبعد عودته إلى الأندلس لاقى الأمرين من بعض الفقهاء ولم ينقذه من هذا الوضع الحرج إلا المناظرة المشهورة لأعدائه الفقهاء (¬63). واستمرت شهرته في العصور التالية. وعلى الرغم من سوء الأحوال السياسية الداخلية للأندلس التي عَجَّت بالفتن والمنازعات في عصر الحروب الأهلية (273 - 300 هـ) -وهو العصر الأخير من فترة عصر الإمارة-، إلا أن هذه الفترة شهدت تقدماً ملحوظاً في الأدب الأندلسي، وبخاصة في مجال الشعر، الذي ظهرت فيه اتجاهات مختلفة، فهناك الاتجاه القومي العربي، إذ وقف بعض الشعراء العرب يمتدحون العروبة ويمدحون العرب ويفاخرون بهم ضد المولدين، كما وقف بعض الشعراء المولدين موقف المعادي للعرب ودعوا إلى الخلاص منهم، وقد تكون هذه الحركة متأثرة بحركة الشعوبية في المشرق، وهذا هو الإتجاه الثاني قال شاعر العرب: منازلنا معمورة لا بلاقع ... وقلعتنا حصن من الضيم مانع ¬_______ (¬60) ينظر، بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 485 - الحجي، أندلسيات، ج 2، ص 27 - لين بول، المرجع السابق، ص وبعدها - بيضون، المرجع السابق، ص 224 - 245 - Provençal. op. Cit, 1, P: 226. (¬61) السامرائي، " أثر العراق الحضاري "، ص 22. (¬62) ابن حزم، رسالة في فضل الأندلس، ص 162 - 163. (¬63) ابن الفرضي، المصدر السابق، ص 91 رقم 283 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 109 - 110.

ورد عليه الشاعر الشعوبي المدجني: منازلهم منهم قفار بلاقع ... تجاري السفى فيها الرياح الزعازع (¬64) .. وبرز أيضاً الشعر الذي وصف المعارك الحربية، نظراً لكثرة المعارك بين الأمراء الأمويين في هذه الفترة والخارجين عليهم، وللشاعر والعالم عباس بن فرناس شعرٌ في هذا المجال وكذلك الشاعر سعيد بن جودي السعدي (¬65). والاتجاه الآخر في الشعر في هذه الفترة، هو نشأة الموشحات في عهد الأمير عبد الله. وكان مخترع الموشحات في عصر هذا الأمير مقدم بن معافى القبري (¬66)، وكان هذا الأمر استجابة إلى ازدهار الغناء في الأندلس منذ دخول زرياب الأندلس أولاً، ونتيجة لامتزاج العرب بالإسبان ثانياً (¬67). والموشح شعر فصيح، وكلمة الموشح مأخوذة من الوشاح، كالقلادة مُرصع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقيها وجنبيها (¬68). ومن أشهر شعراء هذه الفترة ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد، واستمرت شهرته إلى عصر الخلافة (¬69). أما النثر فقد تطور في هذه الفترة، وكثر عدد الأدباء المشتغلين به، فكان للأمير عبد الله، الكاتب موسى بن زياد وعبد الله بن محمد بن أبي عبده وعبد الله بن محمد الزجالي (¬70)، كما أن بعض المسيحيين ذوي الأصول الإسبانية عملوا في الكتابة للأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط أمثال (قومس بن أنتنيا) الذي أسلم فيما بعد (¬71). وقد كان الجاحظ (توفي 255 هـ) ذا شهرة لدى الأندلسيين في هذه الفترة، وقد وصلت بعض كتبه إليهم مثل كتاب البيان والتبيين، كما كان يقصده بعض علماء الأندلس للتلمذة على يديه (¬72). وقد وجدت نماذج لبعض الرسائل والمحاورات والتوقيعات في هذا العصر تدل على تقدم النثر الأندلسي في هذه الفترة (¬73). ¬_______ (¬64) ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 62 - هيكل، المرجع السابق، ص 143. (¬65) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 111 - 112 - ابن حيان، المقتبس، ج 3، 29. (¬66) ابن خلدون، المقدمة، ص 584 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 99. (¬67) الحجي، تاريخ الموسيقى الأندلسية، ص 38 - 39. (¬68) جودت الركابي، في الأدب الأندلسي، ص 293. (¬69) ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج 1، ص والمقدمة. (¬70) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 120 - ابن حيان، ج 3، ص 6. (¬71) ابن القوطية، تاريخ، ص 82 - 83 - هيكل، المرجع السابق، ص 170. (¬72) معجم الأدباء، ج 16، ص 104. (¬73) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 154 - حازم عبد الله، النثر الأندلسي، ص 73 - 74 - عنان، دولة الإسلام، 1/ 350.

وفي هذه الفترة دخل الأندلس المذهب الشافعي، ويرجع دخوله إلى الفقيه قاسم بن محمد بن سيار القرطبي (توفي عام 278 هـ) (¬74). ونشطت كذلك مدرسة ابن مسرة في هذه الفترة، وما يليها من عصور، كما سنوضح ذلك. ونشطت العلوم الطبية في هذه الفترة، ومن أشهر الأطباء (ابن ملوكة النصراني) الذي كان يصنع الأدوية بنفسه، ويفصد العروق، وكذلك (إسحاق الطبيب) (¬75). أما عصر الخلافة الأندلسية 300 - 422 هـ، فهو عصر النضوج للعلوم والفكر الأندلسي، ونظراً لطول هذه الفترة أولاً، ولتسهيل دراسة الفكر الأندلسي خلال هذا العصر ثانياً، نقسم هذا العصر إلى ثلاثة أقسام: - 1 - فترة الخلافة 300 - 366 هـ وتولى الحكم فيها الخليفة الناصر 300 - 350 هـ وابنه الحكم المستنصر، 350 - 366 هـ. 2 - فترة الحجابة 366 - 399 هـ وهي الفترة التي سيطر فيها الحاجب المنصور وأولاده على الخلافة الأندلسية. 3 - فترة الفتنة، 399 - 422 هـ والتي أدت إلى قيام عصر الطوائف. نهضت الحركة العلمية في فترة الخلافة 300 - 366 هـ نهضة شاملة، وكان من مظاهرها اتضاح الشخصية العلمية للأندلس واستقلالها. فقد شجع الناصر وابنه الحكم العلماء المشارقة القادمين إلى الأندلس وأغدقا عليهم العطاء. وكانوا قد جلبوا الكتب القيمة، وترجموا الكتب الأجنبية المهمة، وحثوا على التأليف والبحث في مختلف المجالات. فإذا كان الناصر قد أحسن استقبال الوافد أبي علي القالي وجعله مؤدباً لابنه الحكم، فإن الخليفة الحكم اشتهر بحبه للكتب، فقد كانت له مكتبة تضم 400 ألف مجلد، وكان يحرص على اقتناء الكتب من أي مصدر (¬76)، فلذلك نهضت الأندلس علمياً في شتى الميادين خلال هذه الفترة: ففي مجال الترجمة، ترجم إلى العربية خلال هذه الفترة أهم كتابين: الأول كتاب هيروشيش المؤلف باللاتينية، والذي يحوي أخبار الروم في العصور القديمة وسير ¬_______ (¬74) ابن الفرضي، تاريخ، ج 1، ص 355 - 357 (رقم 1049). (¬75) ابن جلجل، ص 98 - ابن أبي أصيبعة، ص 488. (¬76) صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، ص 66 - المقري، نفح، ج 1، ص 180، ص 186.

ملوكهم (¬77)، وكتاب ديسقوريدس في الطب والصيدلة (¬78)، وقد استعانت الخلافة الأندلسية بالدولة البيزنطية من أجل ترجمة هذين الكتابين (¬79). أما في مجال اللغة، فقد تأسست في هذه الفترة مدرسة للدراسات اللغوية في الأندلس، وذلك بعد قدوم أبي علي القالي، الذي وفد على الأندلس عام 330 هـ/941 م وحمل القالي إلى الأندلس كثيراً من علم المشرق وأدبه، وبالذات دواوين اُمرئ القيس وزهير والنابغة والخنساء والأخطل وجرير والفرزدق وغيرهم (¬80). هذا بالإضافة إلى كتب الأخبار واللغة. كما ألف كثيراً في الدراسات اللغوية، وأملى على طلبته الأندلسيين كتابه الأمالي (¬81). وبالعكس رحل علماء أندلسيون في اللغة إلى بلاد المشرق، أمثال محمد بن يحيى بن عبد السلام (توفي 358 هـ)، رحل إلى مصر ولقي فيها ابن النحاس، وأخذ عنه كتاب سيبويه، وعاد إلى الأندلس (¬82). ويعني هذا تطور الدراسات اللغوية في الأندلس في هذه الفترة، وبرز علماء أفذاذ في هذا المجال أمثال (أبي بكر الزبيدي) وكان مؤدّباً للأمير هشام بن الحكم المستنصر (¬83). وأبي بكر بن القوطية المشهور بعلم التاريخ أيضاً (¬84). وفي الحقل التاريخي، أشهر من ظهر في هذه الفترة، أحمد بن محمد بن موسى الرازي (توفي عام 324 هـ) ولقب بالتاريخي لكثرة اشتغاله بالتاريخ (¬85). وله عدة مؤلفات قد ضاعت. وإذا كان كتاب (تاريخ افتتاح الأندلس) لأبي بكر بن القوطية أشهر مؤرخي هذه الفترة يظهر فيه ميل المؤلف إلى القوط أولاً ويكثر الحديث عن المولدين وحركاتهم ثانياً (¬86)، فإن كتاب (أخبار مجموعة) لمؤلف مجهول الذي ظهر في هذه الفترة يتعصب ¬_______ (¬77) ابن خلدون، العبر، ج 2، ص 88 - مؤنس، تاريخ الجغرافية، ص 31. (¬78) ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ص 494. (¬79) حازم غانم، الحياة العلمية، ص 165 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 166. (¬80) ينظر خليل الكبيسي، " أبو علي القالي "، ص 231 وبعدها - سالم، قرطبة، ج 2، ص 164. (¬81) ينظر، ابن بسام، الذخيرة، 1/ 14 - 15 - ابن خير، الفهرسة، ص 325 - ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 480 - ابن الفرضي، المصدر السابق، ج 1، ص 69 (رقم 223) - الحميدي، المصدر السابق، ص 164 (رقم 303). (¬82) الزبيدي، طبقات، ص 310. (¬83) ابن الفرضي، المصدر السابق، رقم (1357) - ابن خير، الفهرسة، ص 311، ص 345. (¬84) الحميدي، المصدر السابق، ص 76 (رقم 111) - ابن خلكان، وفيات الأعيان، ج 1، ص 512. (¬85) المقري، نفح، ج 4، ص 108 - طه، نشأة التدوين التاريخي، ص 78. (¬86) ينظر، ابن الفرضي، تاريخ، (رقم 1318) - ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص 812 - المقري - نفح، ج 2، ص 85.

للعرب عامة ولقريش خاصة، وإلى الأمويين بصورة أخص (¬87). واشتهر كذلك المؤرخ عريب بن سعيد (توفي عام 369 هـ)، وله كتابه المشهور (صلة تاريخ الطبري). وعريب هذا اشتهر بالطب أيضاً (¬88). وممن عرفوا بكتابة التراجم في هذه الفترة أبو عبد الله الخُشني (توفي عام 361 هـ) صاحب كتاب (تاريخ قضاة قرطبة) (¬89). ومع تطور علم التاريخ في هذه الفترة تطور علم الجغرافية أيضاً، فقد كان أحمد بن محمد الرازي مؤرخاً وجغرافياً في آن واحد، وله كتاب باسم (مسالك الأندلس) (¬90). ويعاصره الجغرافي محمد بن يوسف الوراق (توفي عام 363 هـ) الذي دخل في خدمة الخليفة الحكم وألف كتاباً عن مسالك إفريقية (¬91). واشتهرت هذه الفترة بالرحلات الجغرافية، ويأتي في مقدمتها رحلة إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي (من أهل القرن الرابع الهجري) قام برحلات إلى بلاد أوروبا وقابل خلالها البابا يوحنا الثاني عشر في عام 350 هـ، وبعدها التقى بإمبراطور ألمانيا أوتو عام 354 هـ (¬92). وقدم لنا معلومات قيمة خلال هذه الرحلة (¬93). أما في مجال العلوم الدينية: فبجانب شيوع المذهب المالكي في الأندلس كما بينا، والذي كان من أقطابه في هذه الفترة، يحيى بن عبد الله بن يحيى الليثي (¬94) (توفي عام 367 هـ)، وأبو بكر بن القوطية اللغوي والمؤرخ، شاع المذهب الشافعي بعد أن أدخله إلى الأندلس قاسم بن محمد بن سيار (توفي عام 278 هـ)، وأصبح من أقطابه في هذه الفترة أسلم بن عبد العزيز بن هاشم (¬95)، وأحمد بن عبد الوهاب بن يونس الذي عاصر الحكم المستنصر (¬96). وكذلك انتشر المذهب الظاهري وكاد من أقطابه المنذر بن ¬_______ (¬87) هيكل، المرجع السابق، ص 188. (¬88) بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 206 - 207. (¬89) الخشني، قضاة قرطبة، المقدمة - بالنثيا، المرجع السابق، ص 767 - 770. (¬90) ابن حزم، رسالة في فضل الأندلس، ص 156. (¬91) الحميدي المصدر السابق، ص 97 (رقم 160) - مؤنس، تاريخ الجغرافية، ص 73. (¬92) العذري، نصوص عن الأندلس، ص 7 - البكري، جغرافية الأندلس وأوروبا، ص 155 - Al - Hajji, Andalusian, P 228 - 271. (¬93) حازم غانم، الحياة العلمية، ص 210. (¬94) ابن الفرضي، تاريخ، (رقم 1597). (¬95) الحميدي، المصدر السابق، (رقم 322). (¬96) ابن الفرضي، تاريخ، (رقم 154).

سعيد البلوطي خطيب جامع الزهراء المشهور (¬97). أما في مجال تفسير القرآن، فاشتهر العالم عثمان بن محمد بن محاسن (توفي عام 356 هـ)، وكان له باع طويل في علم التفسير (¬98)، وكذلك ابن القوطية اللغوي والمؤرخ (¬99)، واشتهر ابن الحجام يعيش بن سعيد الوراق الذي ألف مسند حديث بأمر الخليفة الحكم المستنصر (¬100). أما العلوم العقلية فأخذت مكانها في الفكر الأندلسي خلال هذه الفترة، وكان الطب في مقدمة العلوم التي ازدهرت، ومثل هذا الإزدهار ترجمة بعض الكتب الطبية الأجنبية إلى العربية كما وضحنا، وكذلك شهرة الأطباء ويأتي في مقدمتهم سعيد بن عبد ربه، الذي كانت له طريقة خاصة في معالجة الحميات، وكذلك أحمد بن يونس وأخوه عمر اللذان اشتهرا بتحضير الأدوية وعلاج أمراض العيون (¬101). واشتهر محمد بن عبدون الجبلي برحلته المشرقية عام 347 هـ/958 م وتزود من علوم البصرة ومصر ثم رجع إلى الأندلس عام 360 هـ/970 م وخدم الخليفة الحكم المستنصر وابنه هشاماً المؤيد بالطب (¬102). وقد ذاعت شهرة هؤلاء الأطباء وغيرهم، حتى وفد بعض ملوك الإسبان إلى أطباء الأندلس لعلاج ما استعصى من أمراضهم (¬103). ونتيجة ازدهار الطب والصيدلة في هذه الفترة، أسس الخليفة الحكم المستنصر ديوان الأطباء، يسجل فيه اسم كل طبيب يحترف مهنة الطب والصيدلة، وإذا ما ارتكب خطأ يتوجب العقاب أسقط اسمه من هذا الديوان (¬104). وتقدمت الدراسات الرياضية في هذه الفترة وكان من روادها عبد الله بن محمد المعروف بالسري أيام الخليفة الحكم، وكذلك أبو بكر بن عيسى الذي كان يعقد مجالس العلم على أيام الخليفة الحكم أيضاً، وكان مشهوراً بالحساب والهندسة والفلك. وكذلك العالم أبو غالب حباب بن عبادة الفرضي (عاش أيام الخليفة الناصر) الذي اشتهر بالحساب وله تأليف جيد في حساب الفرائض (¬105). واشتهر أبو ¬_______ (¬97) المقري، نفح، ج 1، ص 172 - 175، ص 266 - 269. (¬98) ابن الفرضي، تاريخ، (رقم 901). (¬99) أيضاً، رقم 1318. (¬100) أيضاً، رقم 1612 - الحميدي، جذوة، رقم 916. (¬101) ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء؛ ج 2، ص 41، ص 46. (¬102) صاعد الأندلسي، طبقات، ج 81 - ابن جلجل، طبقات، 115 - ينظر عن أشهر أطباء هذه الفترة، سالم، قرطبة، ج 2، ص 212 - 213. (¬103) لين بول، قصة العرب، ص 121. (¬104) ابن أبي أصيبعة؛ عيون الأنباء، ص 494 - سالم، قرطبة؛ ج 2، ص 208. (¬105) صاعد، طبقات، ص 67 - 68.

عبيدة مسلم بن أحمد (صاحب القبلة) (توفي عام 304 هـ) بالأمور الفلكية، وكان عالماً بالحساب والنجوم وقد عارضه ببعض الأمور ابن عبد ربه الأندلسي (¬106). أما الفلسفة، فقد ورث هذا العلم محمد بن عبد الله بن مسرة (269 - 319 هـ/882 - 931 م) عن أبيه عبد الله بن مسرة (توفي عام 286 هـ/899 م) حيث ذهب الوالد إلى المشرق، وسار على نهجه الابن الذي رحل أواخر عهد الأمير عبد الله (توفي عام 300 هـ) إلى المشرق أيضاً، ثم عاد إلى الأندلس في مطلع القرن الرابع الهجري، فأظهر الزهد والورع، إلا أنه أخذ يبث تعاليمه بين تلاميذه، فظهرت المدرسة المسرية التي انتمى لها بعض المفكرين الأندلسيين أمثال: محمد بن مفرج المعافري، وخليل بن عبد الملك القرطبي، وطريف الروطي وغيرهم (¬107)، إلا أن الفقهاء شنوا حملة شعواء ضد المدرسة المسرية اعتباراً من عام 340 هـ/951 م وساعدتهم السلطات الرسمية (¬108)، إلا أن رعاية هذه المدرسة رجعت في عهد الخليفة الحكم (350 - 366 هـ) نظراً لسياسته المتسامحة مع المفكرين (¬109). ونهض الأدب الأندلسي في فترة الخلافة نهضة كبيرة، ساعد عليها ما كان من رقي سياسي ونهوض وتفوق اجتماعي. وأخذت هذه النهضة الأدبية عدة مظاهر منها: ظهور بعض الاتجاهات الجديدة في الشعر. وقد مثله ابن عبد ربه أحسن تمثيل، وكلذلك أبو الحزم جهور بن عبد الله بن أبي عبدة من الأسرة المشهورة (¬110). وكذلك ظهور الأنواع الجديدة في النثر: فإلى جانب الأسلوب القديم للنثر والذي يسمى النثر الخالص، ظهر نوع جديد من النثر يسمى بالنثر التأليفي ويتألف من فرعين: الفرع الأول يسمى التاريخ الأدبي ويمثله كتاب (أخبار الشعراء بالأندلس) لمؤلفه محمد بن هشام المرواني، وكتاب (شعر الخلفاء من بني أمية) لمؤلفه عبد الله بن محمد بن مغيث، ومن المؤسف أن أكثر هذه المؤلفات قد ضاع (¬111)، أما الفرع الثاني فهو التأليف الأدبي، ويعني ظهور كتب ¬_______ (¬106) ينظر، ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 1420 - الحميدي، جذوة، ترجمة رقم 822 - الضبي، بغية، ترجمة رقم 1372 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 209. (¬107) ابن الآبار، التكملة، ج 1، ص 385، ص 309 - هيكل، المرجع السابق، ص 191. (¬108) ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 26 - 29. (¬109) ينظر، حازم غانم، المرجع السابق، ص 244 - هيكل، المرجع السابق، ص 191. (¬110) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 247 وبعدها - المقري، نفح، ج 1، ص 304. (¬111) ابن بشكوال، الصلة ترجمة رقم 546 - الحميدي، جذوة، ترجمة رقم 1959 - بالنثيا، المرجع السابق، ص 385.

أدبية بمفهوم القرن الثالث والرابع الهجري لكلمة أدب، وأحسن نموذج لكتب هذا الفرع، هو كتاب (العقد الفريد) لمؤلفه ابن عبد ربه الأندلسي. ومن مظاهر النهضة الأدبية الأخرى، تطور الإتجاهات الأدبية القديمة المعروفة، وكذلك وفرة النتاج الأدبي وتنوعه، إضافة إلى شيوع الأدب بين الأندلسيين شيوعاً جعله من أبرز سمات الحضارة الأندلسية في هذه الفترة (¬112). ومن أشهر شعراء هذه الفترة بعد ابن عبد ربه الأندلسي، الشاعر أبو الحسن محمد بن هانئ الأزدي (326 - 362 هـ) (¬113). أما فترة الحجابة 366 - 399 هـ/وهي فترة حكم الخليفة هشام الثاني، فقد سيطر الحاجب المنصور وأولاده من بعده على أمور الدولة، وهيمنوا على الخلافة الأندلسية، فكان بداية البوار. ووصف هذا العصر بأنه: " عصر القوة التي تحمل الضعف، والانتصار الذي ينطوي على الهزيمة ... " (¬114). سارت الثقافة الأندلسية في فترة الحجابة، بقوة الدفع التي كانت سائدة في عصر الخلافة. ومن أولى الملاحظات على علوم هذا العصر، أنه لم نر أي تقدم ملحوظ وجد في أي ميدان من ميادين المعرفة، ولا نرى أعلاماً بارزين في أي فرع من فروع الثقافة، باستثناء تلك البقية الباقية من أعلام فترة الخلافة. وربما كان من عوامل استمرار الدفع للثقافة الأندلسية في هذه الفترة، هو أن الحاجب المنصور كان على صلة قديمة بالثقافة، وقد ارتبط بها منذ نشأته، وأنه كان مصاحباً للعلماء، ويروى عنه: بأنه كان له مجلس علمي يضم كبار علماء عصره، وأن هذا المجلس كان يعقد اجتماعات دورية أسبوعية يحضره المنصور طيلة إقامته بقرطبة (¬115). ولذا نرى نماذج قليلة للعلماء في مجال اختصاصاتهم، ففي العلوم اللسانية (النقلية) نرى استمرار بعض علماء فترة الخلافة إلى فترة الحجابة: ففي علم التفسير نجد محمد بن عبد الله المقري (340 - 420 هـ) (¬116)، وفي علم القراءات نرى عبد الله بن محمد القضاعي (توفي عام 378 هـ) الذي كان يقرأ على قراءة الإمام ورش (عثمان بن سعيد) (¬117). ومن أعلام الحديث في هذه الفترة ¬_______ (¬112) هيكل، المرجع السابق، ص 194، ص 355 - 356. (¬113) ينظر، الحميدي، جذوة، ترجمة رقم 157 - ابن دحية، المطرب، ص 192 وبعدها - ابن الآبار، التكملة، ترجمة رقم 350. (¬114) هيكل، المرجع السابق، ص 267. (¬115) ابن الآبار، الحلة، ج 1، ص 268. (¬116) السيوطي، طبقات المفسرين، ص 5. (¬117) حازم غانم، المرجع السابق، ص 172.

عبد الرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس (توفي عام 402 هـ) (¬118)، وألَّف العالم يحيى بن شراحيل (توفي عام 372 هـ) كتاباً في توجيه حديث الموطأ للإمام مالك، واشتهر كتاب تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي في هذه الفترة أيضاً (¬119). أما في مجال العلوم الصرفة (العقلية) فاشتهر العالم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (توفي عام 404 هـ) وهو صاحب كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) وهو كبير جراحي الأندلس في هذه الفترة (¬120). أما إمام العلماء في الرياضيات والفلك في هذه الفترة فهو أبو القاسم مسلمة المجريطي (توفي عام 398 هـ)، وهو الذي عني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي وحوله من السنين الفارسية إلى السنين العربية (¬121). وثاني الملاحظات على علوم هذا العصر هي: خمول الدراسات الفلسفية ويعود سبب ذلك إلى مقاومة الحاجب المنصور لهذه الدراسات، من أجل إرضاء عامة الناس، وكسب تأييد الفقهاء. ومن أبرز أعماله في هذا المجال إحراقه لكتب الفلك والمنطق والفلسفة التي كانت تمتلئ بها مكتبة الحكم المستنصر (¬122). وبهذا خمدت روح البحث العلمي، وقيدت الحرية الفكرية، وتهيب الناس من دراسة العلوم العقلية، وقد تخفى بعض العلماء، وهرب القسم الآخر نحو المشرق للتخلص من الاضطهاد (¬123). وثالث الملاحظات على علوم هذه الفترة، هي ازدهار الدراسات اللغوية، والتي دفعت بعوامل من المشرق الإسلامي وليس بسبب ذاتي، حيث وَصَل في هذه الفترة اللغوي المشرقي الأديب صاعد البغدادي (أبو العلاء صاعد بن أبي الحسن بن عيسى) إلى الأندلس عام 380 هـ في أيام الحاجب المنصور، فاستقبله المنصور أحسن استقبال (¬124). ولقي صاعد البغدادي الأمرَّين في الأندلس، وتصدى له بعض علمائها ¬_______ (¬118) ابن بشكوال، الصلة، ج 1، ص 309 - بالنثيا، المرجع السابق، ص 395. (¬119) ابن الفرضي، تاريخ ترجمة رقم 1598. (¬120) الحجي، الحضارة الإسلامية، ص 58 - ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 573. (¬121) صاعد، طبقات، ص 93 - ابن القفطي، تاريخ الحكماء، ص 326 - طوقان، تراث العرب العلمي، ص 257 هـ حكمت نجيب، دراسات، ص 211 - الحجي، الحضارة الإسلامية، ص 51 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 210. (¬122) سالم، قرطبة، ج 2، ص 162 - بالنثيا، المرجع السابق، ص 65. (¬123) ينظر: النباهي، المرقبة العليا، ص 77 - 79 - هيكل، المرجع السابق، ص 270. (¬124) المراكشي، المعجب، ص 19 وما بعدها - المقري، نفح، ج 2، ص 86 وما بعدها - ابن خلكان، وفيات، ج 1، ص 229 - ابن بسام، الذخيرة، ق 4، م 1، ص 8 وما بعدها.

ودخلوا معه في محاورات علمية انحدرت أحياناً إلى درجة المكائد، إلا أن هذه المحاورات وجهود صاعد اللغوية أدت إلى تنشيط الحركة اللغوية في فترة الحجابة. وكان كتاب الفصوص الذي ألفه صاعد ذا أثر كبير في تغذية الدراسات اللغوية والأدبية في الأندلس (¬125). وسار الأدب في فترة الحجابة بقوة الدفع التي كانت في فترة الخلافة، فظل على ما كان عليه من أنواع. بل إن بعض الظواهر الأدبية الجيدة التي أينعت في فترة الخلافة، قد اختفت في فترة الحجابة، وكان ذلك بسبب تأثر الأدب بالظروف السياسية الاستبدادية والأوضاع الثقافية المقيدة. وأهم أنواع الشعر التي نالت حظاً كبيراً في هذه الفترة، هو شعر المجون الذي يعكس حالة المجتمع المتردية، وشعر المديح الذي كان بمثابة أبواق دعاية للحكم الاستبدادي، وشعر الاستعطاف، وشعر النقد السياسي (¬126). ومن أشهر شعراء الفترة ابن دراج القسطلي، الذي غلب طابع المدح على أغلب شعره (¬127). أما النثر، فقد توقف النوع التأليفي، واستمر النثر الخالص، ولكن أهم ما يلاحظ على أسلوب النثر في هذه الفترة، ظهور أثر طريقة ابن العميد (وزير عضد الدولة البويهي توفي عام 360 هـ) (¬128)، تلك الطريقة التي تميل إلى الإطناب، وتعتمد على السجع والجناس، مع ذكر بعض الأمثال أو الإشارات التاريخية، مع تدعيم النثر بالشعر. وليس من شك في أن حياة الترف ومظاهر الفخامة في فترة الحجابة، كانت من أسباب الاستجابة إلى هذه الطريقة من أسلوب النثر خلال هذه الفترة. وكذلك آثار ابن العميد ومن نحوا طريقته كالصاحب بن عباد الفارسي (من وزراء البويهيين أيضاً توفي عام 385 هـ ولقب بالصاحب لأنه كان يصحب ابن العميد، وكان إسماعيل بن عباد أديباً بارعاً في فن الترسل وله رسائل منشورة) (¬129)، قد وصلت إلى الأندلس قبيل فترة ¬_______ (¬125) المقري، نفح، ج 2، ص 77 - هيكل، المرجع السابق، ص 271 - 272 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 164. (¬126) هيكل، المرجع السابق، ص 273 وما بعدها. (¬127) ينظر، ابن دحية، المطرب، ص 156 - ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 466 - ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 4، ص 272 - ديوان ابن دراج، ص 37 وما بعدها - الحميدي، جذوة رقم 186 - ابن بشكوال، الصلة، رقم 75 - الضبي، بغية، رقم 342. (¬128) العبادي، ني التاريخ العباسي، ص 171 - 172. (¬129) نشرت رسائل الصاحب بن عباد في القاهرة عام 1947 برعاية شوقي ضيف وعبد الوهاب عزام، ينظر، العبادي، في التاريخ العباسي، ص 172.

الحجابة، فيما وصل من تراث المشرق خلال القرن الرابع الهجري، وبخاصة في فترة الخلافة، ولكن أثر هذه الطريقة قد ظهر في فترة الحجابة (¬130). أما فترة الفتنة 399 - 422 هـ، فهي فترة التفكك والانحلال، والتي أدَّت إلى سقوط الخلافة الأندلسية وقيام عصر الطوائف (¬131). وكان من نتائج هذه الفتنة، أن تعطل النشاط الثقافي وبخاصة في قرطبة، فأغلقت المدارس وانحلت حلقات الدرس، وقتل بعض العلماء وخاصة ابن الفرضي صاحب كتاب (تاريخ علماء الأندلس) عام 403 هـ، وهاجر البعض من قرطبة إلى شرقي الأندلس كابن حزم حيث يلتمس شيئاً من الأمن. وعلى الرغم من كل ذلك لم تخمد أنفاس الحركة العلمية في الأندلس خلال هذه الفترة، فقد كانت هناك بقية من العلماء الأندلسيين الذين أدركوا الإزدهار في فترة الخلافة، أو انتفعوا بقوة الدفع في فترة الحجابة، فحفظوا للأندلس كثيراً من علمها وثرائها على الرغم مما كان فيها من فتنة مبيرة كما يقال. ومن أشهر هؤلاء العلماء: أبو عمر أحمد بن محمد بن الجسور وكان أحد شيوخ الحديث (¬132)، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الرهوني وكان مؤدباً محدثاً مجوداً للقرآن (¬133). كما كان هناك بعض العلماء ممن وفدوا إلى الأندلس من أقطار مشرقية، وكان لهم فيها حينذاك دور علمي كبير، ومن أشهر الوافدين إلى الأندلس في هذه الفترة أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد المصري، وكان أديباً نسابة، حافظاً للحديث عالماً بالأخبار (¬134). كذلك كان في بعض الأقاليم الأندلسية البعيدة عن مركز قرطبة، حظ من النشاط العلمي، وقد كان شرقي الأندلس من تلك الأقاليم التي نعمت ببعض الأمن، فعُرفت بعض المدن هناك في هذه الفترة بحياة علميّة لا بأس بها (¬135). وبرز في الأندلس خلال فترة الفتنة عالمان جليلان لهما دور بارز في ثقافة الأندلس هما: أبو محمد بن حزم (384 - 456 هـ) وأبو مروان بن حيان (377 - 469 هـ). فابن حزم انصرف إلى العلم بعد سقوط الخلافة الأندلسية وتجول في ربوع الأندلس وبخاصة في شرقها ناشراً مذهبهُ الظاهري، ولقي ¬_______ (¬130) هيكل، المرجع السابق، ص 334. (¬131) ينظر، السامرائي، علاقات المرابطين، ص 32 وما بعدها. (¬132) هيكل، المرجع السابق، ص 350. (¬133) ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 595. (¬134) أيضاً، ترجمة رقم 758. (¬135) كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 123 - تشراكوا، مجاهد العامري، ص 143.

الأمرَّين من علماء المالكية وبالذات من أبي الوليد الباجي داعية الوحدة في الأندلس. أما ابن حيان فعلى الرغم من توليه بعض المناصب الإدارية في هذه الفترة، إلا أنه انصرف إلى كتابة الأدب والتاريخ، واشتهر بكتابه المقتبس (¬136). وتأثر الأدب بأحداث الفتنة تأثراً كبيراً، فنرى أولاً انتشار أدب التلهي والنفاق والتفاهة، أو ما يسمى بأدب الهروب، وثانياً ظهر أدب التأمل والنقد أو ما يسمى بأدب المراجعة. وقد كان الشعر مجال النوع الأول (أدب الهروب) وكان النثر مجال النوع الثاني (أدب المراجعة)، ومن هنا خطا النثر خطوات واسعة حتى سبق الشعر، فظهرت أنواع نثرية جديدة وجادة، أتاح لها انطواء بعض الأدباء وعكوفهم جواً ملائماً فيه تأمل وفيه مراجعة، مما ساعد على التخيل والنقد والتحليل (¬137). ومن أشهر شعراء هذه الفترة أبو عامر بن شُهيد (382 - 426 هـ) (¬138) وأبو محمد بن حزم الذي سيعاصر الطوائف. وفي مجال النثر، فقد اشتهر هذان العالمان أيضاً، فإبن شُهيد له رسالة التوابع والزوابع وهي قصة خيالية يحكي فيها ابن شُهيد رحلة في عالم الجن (¬139). أما أبو محمد بن حزم فأشهر كتاب له في هذا المجال، هو طوق الحمامة في الألفة والأُلاَّف، ويتناول فيه دراسة عاطفة الحب بشكل مفصل واعتمد أسس التجربة والتحليل النفسي في منهجه (¬140). أما عصر الطوائف 422 - 484 هـ، فعلى الرغم من الفرقة السياسية التي ضربت أطنابها ببلد الأندلس خلال هذه الفترة، لكن رافقها نشاط الحركة العلمية والأدبية وذلك لرعاية ملوك الطوائف العلماء والأدباء، ولأن معظمهم كان من رجال الأدب، فبذلك غدت قصورهم منتديات أدبية ومجامع حقة للعلوم والفنون (¬141). وبما أن الأندلس لم تكن دولة موحدة في هذه الفترة. ونظراً لتعدد أمرائها وتفاوتهم في رعاية الحركة الأدبية، فسوف نشير إلى أهم ممالك الطوائف التي رعت الحركة الأدبية: ¬_______ (¬136) ينظر، هيكل، المرجع السابق، ص 351 - 363. (¬137) هيكل، المرجع السابق، ص 364. (¬138) الحميدي، جذوة، رقم 232. (¬139) ينظر، أحمد ضيف، بلاغة العرب في الأندلس، ص 48 - زكي مبارك، النثر الفني، ج 1، ص 261 - هيكل، المرجع السابق، ص 377 وما بعدها. (¬140) ينظر، طوق الحمامة، ص 2 وما بعدها - الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم، ص 225. (¬141) عنان، دول الطوائف، ص 423.

في المقدمة تأتي مملكة بني عباد في إشبيلية فقد كان المعتضد وابنه المعتمد من رواد الحركة الأدبية ولهم أشعارهم المختارة وعاش في ظلهما أشهر شعراء هذه الفترة أبو بكر بن عمار وابن زيدون صاحب ولادة بنت الخليفة المستكفي (هو محمد بن عبد الله بن الناصر 414 - 416 هـ) (¬142). ويأتي بعدهما شاعران مشهوران هما أبو بكر بن اللبانة وابن حمديس الصقلي (¬143). ورعى بلاط المرية الحركة الأدبية (¬144)، فبالإضافة إلى نبوغ ولاة الأمر فيها بالشعر وهم أسرة بني صمادح، فعاصرهم ومدحهم أبو عبد الله محمد بن عبادة المعروف بابن القزاز، وأبو الفضل جعفر بن شرف القيرواني، وأبو حفص بن الشهيد وغيرهم (¬145). وكان ملوك بطليوس وهم بنو الأفطس من حماة الأدب والشعر، ومن أشهر الشعراء الذين عاشوا في كنفهم، الوزير الشاعر عبد المجيد بن عبدون، الذي اشتهر بمرثيته لبني الأفطس (القصيدة العبدونية) وبنو القبطرنة الثلاثة، ومن أشهر كتابهم أبو بكر بن قزمان (¬146). ورعت مملكة سرقسطة الحركة الأدبية والعلمية والفلسفية، وكان في مقدمة الشعراء الذين احتضنتهم هذه المملكة هو أبو عمر أحمد بن محمد بن دراج القسطلي (¬147). ورعى مجاهد العامري أمير مملكة دانية والجزائر الشرقية الحركة الأدبية، وأحاط نفسه بعدد ضخم من الأدباء والشعراء، ومن أشهرهم، أبو عامر أحمد بن شهيد، وأحمد بن رشيق وأبو حفص أحمد بن برد وغيرهم (¬148) أما الممالك الأخرى فكانت رعايتها للحركة الأدبية أقل مما ذكرنا عن هذه الممالك، وبعضها لم يذكر لها شهرة أدبية (¬149). لكن عموماً يمكن القول أن اتجاهات أدبية جديدة ظهرت في هذا العصر -وبخاصة في الشعر- مثل: شعر الرثاء، مثله عبد المجيد بن عبدون، والشعر الفلسفي الذي مثله ¬_______ (¬142) ينظر، صلاح خالص، اشبيلية، ص 135 وبعدها. (¬143) ينظر، سعد إسماعيل شلبي، البيئة الأندلسية، ص 335 وبعدها. (¬144) أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 34 وبعدها. (¬145) ينظر، ابن بشكوال، الصلة، رقم 298 - ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 92 وبعدها - إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 71. (¬146) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 236 - المقري، نفح، ج 2، ص 136 - عنان، دول الطوائف، ص 428 - 429. (¬147) الضبي، بغية الملتمس، رقم 342. (¬148) تشراكوا، مجاهد العامري، ص 231 وما بعدها - حازم عبد الله، ابن شهيد الأندلسي، ص 26 وما بعدها. (¬149) ينظر، إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 74 وما بعدها.

ابن حزم، وعبد الجليل بن وهبون المرسي، وشعر الزهد يمثله ابن الريوالي الفقيه وأحمد الإقليشي، وأبو بكر العبدري وغيرهم. وشعر الغزل الذي شاع في هذا العصر نظراً لضعف الوازع الديني، والتحلل من القيم الخلقية، ومثل هذا الإتجاه السراج المالقي شاعر بني حمود، وابن الحداد، وابن زيدون وغيرهم، والشعر الشعوبي الذي مثله أبو عامر أحمد بن غرسية الذي عاش في مملكة دانية. وشعر النكبات، والذي صور نكبة بربشتر بصورة خاصة في منطقة الثغر الأعلى عندما احتلها النورمان عام 456 هـ وعاثوا فيها فساداً (¬150). وبجانب الحركة الأدبية ازدهرت العلوم الدينية وبخاصة في بلاط بني صمادح حيث كان المعتصم بن صمادح وغيره يعقدون مجالس الفقهاء في كل جمعة ويتدارسون كتب التفسير والحديث (¬151)، ورعت مملكة دانية العلوم القرآنية وكان رائدها شيخ القراء أبا عمرو الداني (¬152)، وتزعم الدراسات الفقهية العالمان أبو محمد علي بن حزم وأبو الوليد سليمان بن خلف الباجي داعياً توحيد الأندلس في أيام الطوائف (¬153)، وكان من رواد الدراسات النحوية العلامة اللغوي أبو الحسن علي بن سيده (توفي عام 458 هـ) صاحب كتاب (المحكم) (¬154). واشتهرت الدراسات التاريخية والجغرافية في الأندلس خلال هذه الفترة، وكان من رواد الحركة التاريخية ابن حيان المعروف بكتاب المقتبس، والعالم ابن حزم صاحب كتاب (جمهرة أنساب العرب) و (كتاب نقط العروس) (¬155)، والعالم أبو عمر يوسف بن عبد البر الذي ألف كتاب (الاستيعاب في معرفة الأصحاب)، وكتاب (الدرر في اختصار المغازي والسير). وكان رائد الدراسات الجغرافية في عصر الطوائف أبا عبيد البكري (ت 487 هـ) وهو صاحب كتاب (المسالك والممالك) وكتاب (معجم ما استعجم) (¬156). ¬_______ (¬150) ينظر، سعد إسماعيل شلبي، البيئة الأندلسية، ص 308 وما بعدها، ص 425 وما بعدها، ص 438 وما بعدها، ص 502 وما بعدها - إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 117 وما بعدها - محمد مجيد السعيد، الشعر في ظل بني عباد، ص 77 وما بعدها. (¬151) إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 71 - أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 248. (¬152) تشراكوا، مجاهد العامري، ص 239. (¬153) السامرائي، " الدعوة إلى توحيد الأندلس في أيام الطوائف "، ص 82 وما بعدها. (¬154) عنان، دول الطوائف، ص 434 - ينظر، كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 401 وما بعدها. (¬155) ينظر، الحميدي، جذوة، ترجمة (رقم 874) - كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 466 وما بعدها - عمر فروخ، ابن حزم الكبير، ص 101 وما بعدها. (¬156) البكري، جغرافية الأندلس، ص 29 وما بعدها - عنان، دول الطوائف، ص 430.

أما العلوم الصرفة فنالت اهتمام أمراء الطوائف، ويأتي في مقدمتهم المقتدر بن هود وولده المؤتمن أمير سرقسطة، حيث كانا من العلماء البارزين في الرياضيات والفلك والفلسفة (¬157). وكان العالم أبو الفتوح ثابت بن محمد بن الجرجاني مشرقي المنبت، رحل إلى الأندلس عام 406 هـ وعاش في ظلال مملكة دانية، واشترك في عملية فتح سردانية. اشتهر بالفلسفة والفلك والمنطق (¬158). واشتهرت بلنسية بطبيبها أبي محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الذهبي (توفي عام 456 هـ) (¬159). وفي مجال الرياضيات وعلم الفلك، فكان من أشهرهم أبو إسحاق بن إبراهيم بن يحيى الزرقالي صاحب الجداول الفلكية الشهيرة (توفي عام 480 هـ)، وأبو القاسم أصبغ بن السمح الغرناطي (توفي عام 438 هـ) وكان بارعاً في الهندسة والفلك (¬160). واشتهر أبو عبد الله بن أحمد السرقسطي (توفي عام 488 هـ) بعلم الأعداد والهندسة والنجوم (¬161). أما إسحاق بن قسطار، فكان يهودياً يعمل في خدمة مجاهد العامري. فله خبرة جيدة بالطب وبعلم المنطق والفلسفة (¬162). ورافق ازدهار الحركة الفكرية في الأندلس في عصر الطوائف، ذيوع المكتبات العامة والخاصة التي شملت أنفس وأجود أنواع الكتب، فقد رعت مملكة إشبيلية هذه الظاهرة وكذلك مملكة المرية، ومملكة بطليوس وطليطلة. وأشهر مكتبة خاصة كانت تعود إلى الوزير أحمد بن عباس وزير زهير العامري (¬163)، واشتهرت مكتبة أبي محمد عبد الله بن حيان بن فرحون الأروشي (توفي عام 487 هـ) في مدينة بلنسية، وكانت له همة عالية في اقتناء الكتب (¬164). ويبدو لنا تطور الحركة الفلسفية في عصر الطوائف، وبخاصة بعد دخول رسائل إخوان الصفا على يد أبي الحكم الكرماني (توفي عام 458 هـ) فوجدت في شبه الجزيرة إقبالاً كبيراً (¬165). ومن الذين كان لهم حس فلسفي في عصر الطوائف ابن حزم ¬_______ (¬157) المقري، نفح، ج 2، ص 126 وما بعدها. (¬158) الحميدي، جذوة، رقم 344. (¬159) صاعد، طبقات، ص 109 - كريم عجيل، الحياة العلمية، 478. (¬160) عنان، دول الطوائف، ص 435. (¬161) صاعد، طبقات الأمم، ص 94. (¬162) تشراكوا، مجاهد العامري، ص 251. (¬163) عنان، دول الطوائف، ص 436 - 437. (¬164) ابن بشكوال، الصلة، رقم 634 - الضبي، بغية، رقم 920. (¬165) بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 17.

الظاهري، الذي أحدث في الأندلس دوياً علمياً هائلاً بمذهبه الظاهري ومناظرته الفقهاء وأهل الأديان، وكان كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه (¬166). إلا أن علم الفلسفة كان من العلوم الممقوتة في الأندلس على أيام الطوائف، ولا يستطيع صاحب هذا العلم إظهاره (¬167). وقد أحرق المعتضد أمير إشبيلية كتب ابن حزم الظاهري إرضاءً للمالكية وعلى رأسهم أبو الوليد الباجي (¬168). وكان لابن حزم تلاميذ عاشوا بعده وورثوا بعض علمه، ومنه الحس الفلسفي، ومن أشهرهم ولده (أبو رافع الفضل)، الذي اجتمع عنده بخط أبيه من تأليفه نحو أربعمائة مجلد (¬169) ويبدو لنا من هذه الرواية أن المعتضد لم يحرق كتب ابن حزم كلها لأن أبا رافع هذا كان من رجال ولده المعتمد واستشهد في معركة الزلاقة عام 479 هـ، وإن اضطهاد المعتضد لهذا العالم لم يكن في أغلب الظن علمياً بقدر ما هو اضطهاد سياسي (¬170). وهناك من لازم ابن حزم وأكثر الأخذ منه دون أن يتظاهر بذلك أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي (توفي عام 488 هـ) صاحب كتاب (جذوة المقتبس)، ومن تلاميذه أيضاً الراضي بن المعتمد الذي أشرف على المذهب الظاهري وبرع في الأصول (¬171)، ويبدو أن الفتن التي عصفت بملوك الطوائف شغلت ملوك قرطبة عن تعقب الفلاسفة ومحاكمتهم، ومع ذلك فقد بيعت المكتبات العامة والخاصة التي كانت تزين قصور قرطبة بأبخس الأثمان وتناولها الناس وقرأوا منها بعض بحوث الفلسفة. ولما أمن الناس أظهروا ما لديهم في الفلسفة من كتب وأخذوا يهتمون بالعلم الرياضي وصناعة المنطق، وكان المعتمد نفسه يصدق بالتنجيم (¬172). ويظهر أن مملكة سرقسطة بالذات كانت مأوى وحامياً للفلسفة والفلاسفة في عهد المقتدر بن هود (438 - 473 هـ) وابنه يوسف المؤتمن (473 - 477 هـ) (¬173) وإلى بلاطهما ¬_______ (¬166) ابن كثير، البداية والنهاية، ج 12؛ ص 92 - عمر فروخ، ابن حزم، ص 161 وما بعدها. (¬167) المقري، نفح، ج 6، ص 168. (¬168) سعد إسماعيل شلبي. البيئة الأندلسية، ص 47 (ح: 8). (¬169) ابن خلكان، وفيات، ج 3، ص 13. (¬170) السامرائي، علاقات، ص 426 - 427. (¬171) ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 71 - معجم الأدباء، ج 18، ص 282 وما بعدها. (¬172) عبد الوهاب عزام، المعتمد بن عباد، ص 277 - محمد عبد المنعم خفاجة، قصة الأدب في الأندلس، ج 1، ص 159 - 160. (¬173) بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 454.

لجأ أبو الحكم الكرماني، وفيها استقر المقام بالفيلسوف ابن باجة، ولقيت رسائل إخوان الصفا إقبالاً كبيراً من أهلها (¬174). وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية 484 - 540 هـ، فنتج عن ذلك الانفتاح الفكري الأندلسي على المغرب، حيث انتقلت الثقافات الأندلسية المتنوعة إلى المغرب، كما انتقل أبناء المغرب من قادة ورعية لينهلوا من علوم الأندلس والتزود من معارفها (¬175). وعلى الرغم من إشارة بعض الروايات إلى ضمور الحركة الفكرية الأندلسية في ظل دولة المرابطين عما كانت عليه أيام ملوك الطوائف (¬176)، إلا أن الحركة العلمية والأدبية في الأندلس لبثت خلال العهد المرابطي تحتفظ بكثير مما كان لها أيام الطوائف من قوة وحيوية، كما درس أكثر عمال المرابطين في الأندلس على أيدي أشهر العلماء (¬177). واعتمد أمراء المرابطين وولاتهم قادة الفكر الأندلسي في تسيير أعمالهم، فنرى اعتماد يوسف بن تاشفين على الأديب الأندلسي عبد الرحمن بن أسباط، ولما توفي عام 487 هـ، استعان أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بالعالم محمد بن سليمان الكلاعي الإشبيلي المعروف بابن القصيرة، الذي كان استخدامه في البلاط المرابطي بداية لاحتشاد أعلام الكتابة الأندلسيين للخدمة فيه (¬178). واحتشد في البلاط المرابطي إلى جانب ابن القصيرة عدد من أعلام الكتاب وأئمة البلاغة، منهم وزير بني الأفطس وصاحب المرثية المشهورة عبد المجيد بن عبدون الذي كتب ليوسف بن تاشفين وقيل لابنه علي وتوفي عام 520 هـ (¬179) إضافة إلى الكاتب أبي عبد الله محمد بن مسعود بن أبي الخصال الذي كتب لعلي بن يوسف ثم عزله فيما بعد وتوفي عام 540 هـ (¬180) ولا ننسى خدمات الفتح بن خاقان الإشبيلي الذي خدم في قصور أمراء الطوائف، ثم التحق بخدمة أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي قتل ¬_______ (¬174) سعد شلبي، البيئة الأندلسية ص 49. (¬175) كنون، النبوغ المغربي، ج 3، ص 149 - السامرائي، علاقات، ص 410. (¬176) كنون، النبوغ المغربي، ج 1، ص 74. (¬177) راجع على سبيل المثال، ابن الآبار، المعجم، ج 8، ص 15، ص 20، ص 281 وغير ذلك. (¬178) ابن بشكوال، الصلة، ترجمة (رقم 1253) - الفتح بن خاقان، قلائد، ج 5، ص 104 - عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 440. (¬179) ابن خاقان، قلائد، ص 35 - كنون، النبوغ المغربي، ج 1، ص 87. (¬180) ابن بشكوال، الصلة، رقم 1294 - بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 123.

عام 529 هـ بمراكش (¬181). ونوى من خلال دراسة ترجمة هؤلاء الكتاب وغيرهم، أنهم كانوا يتمتعون بمكانة مرموقة في البلاط المرابطي ويحملون لقب (ذو الوزارتين) أمثال أبي بكر بن القصيرة، وأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال الغافقي (¬182). وخلال العصر المرابطي ظهر في الأندلس الكثير من أعلام المحدثين والفقهاء، فقسم منهم تعاون مع ولاة المرابطين في الأندلس، وقسم آخر ذهب إلى مراكش ودخل في خدمة المرابطين هناك، ومن أشهرهم: الفقيه أبو محمد عبد الحق بن غالب المحاربي (توفي 542 هـ) من أهل غرناطة، ويبدو أنه تعاون مع المرابطين في الأندلس ومدحهم بأشعاره (¬183). والفقيه أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري من أهل المرية، ودخل في خدمة المرابطين في أواخر أيامهم، ثم انحاز إلى دولة الموحدين إلى أن توفي بمراكش عام 559 هـ (¬184). ومنهم الفقيه عبد الله بن محمد بن عبد الله النفري المعروف بالمرسي (453 - 538 هـ) ولد ودرس بمرسية، ثم انتقل إلى مدينة سبتة وتولى الخطابة بجامعها، ورجع إلى الأندلس وتوفي في قرطبة (¬185). كما نبغ في العصر المرابطي بعض أئمة اللغة في الأندلس، ومنهم أحمد بن عبد الجليل المعروف بالتدميري، نشأ في المرية، وسكن بجاية في ظل بني حماد ثم توفي في مدينة فاس عام 555 هـ (¬186). وأما عن العلوم، فقد حظيت الأندلس بنهضة علمية في هذه الفترة، والتي كانت امتداداً للنهضة الفكرية التي ظهرت في عصر الطوائف. وكان في مقدمة العلماء الذين ظهروا في عصر السيطرة المرابطية أبو بكر محمد بن يحيى بن الضائع التجيبي المعروف بابن باجة (توفي عام 533 هـ) وأصله من سرقسطة نشأ فيها في أواخر مملكة بني هود، ونبغ في الرياضيات والفلك والفلسفة، ولما ولي الأمير أبو بكر بن إبراهيم المسوفي، وهو ابن عم يوسف بن تاشفين وحكم سرقسطة عام 508 هـ، استوزر أبا بكر بن باجة ¬_______ (¬181) ابن الآبار، المعجم، ص 313. (¬182) السامرائي، علاقات، ص 414. (¬183) الضبي، بغية، ترجمة 1103 - ابن دحية، المطرب، ص 91. (¬184) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 182. (¬185) ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 650. (¬186) ابن الآبار، التكملة، رقم 175.

وأغدق عليه رعايته وعنايته، بالرغم مما كان ينسب إليه من الآراء الفلسفية. ولما سقطت سرقسطة بيد الإسبان عام 512 هـ غادرها ابن باجة إلى إشبيلية ثم إلى شاطبة، ومنها نزح إلى المغرب وتوفي في مدينة فاس عام 533 هـ (¬187). واشتهرت أسرة بني زهر بالطب، وكان عميدها عبد الملك بن محمد بن زهر الإيادي، وخلفه في المهنة ولده زهر بن عبد الملك الذي أصبح عمدة عصره في الطب وتوفي عام 525 هـ بقرطبة ودفن في إشبيلية (¬188). وجاء من بعده ولده عبد الملك بن زهر الذي ذاع صيته في المغرب والأندلس، واتصل بالمرابطين، وصنف للأمير أبي إسحاق بن يوسف بن تاشفين كتابه المعروف (الاقتصاد في صلاح الأجساد)، كما له كتاب في الطب مشهور باسم (التيسير)، توفي في إشبيلية عام 557 هـ (¬189)، وقد كتب وصفاً دقيقاً لبعض الأمراض وبخاصة التهاب غشاء القلب وأعراض السرطان (¬190). وأشهر أطباء العصر أيضاً علي بن عبد الرحمن الخزرجي، من أهل طليطلة برع بالطب إلى جانب تمكنه في الفقه، ولما استولى الإسبان على طليطلة عام 478 هـ، رحل في بلاد الأندلس واستقر أخيراً في قرطبة وتوفي فيها عام 499 هـ (¬191). وشاركهُ في الاهتمام بالطب أيضاً أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت (460 - 529 هـ) من أهل دانية، إلا أنه قضى معظم حياته متنقلاً بين مصر وأفريقية (¬192). واشتهر بالزراعة في الأندلس خلال هذه الفترة العلاّمة الزراعي أبو عبد الله محمد بن مالك التغنري من قرية تغنر من أعمال غرناطة، ودرس العلوم الزراعية على يد ابن البصال الطليطلي، وله كتاب (زهر البستان ونزهة الأذهان) (¬193). أما النهضة الأدبية في الأندلس فقد ارتفعت فوق مستوى الانحلال الذي شهده ¬

(¬187) القفطي، أخبار العلماء، ص 265 - السامرائي، علاقات، ص 416 - 417 ينظر، السامرائي، دراسات، ص 378 - 379 هـ سليم طه التكريتي " ابن باجة " مجلة العربي، العدد 166، ص 166 وما بعدها. (¬188) عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 473. (¬189) ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ص 517. (¬190) السامرائي، دراسات في تاريخ الفكر العربي، ص 324 - أنور الرفاعي، الإنسان العربي والحضارة، ص 456 - عز الدين فراج، فضل علماء المسلمين، ص 252. (¬191) عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 471. (¬192) ابن خلكان، وفيات، ج 2، ص 99، القفطي، أخبار العلماء، ص 57. (¬193) عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 474.

عصر الطوائف، لأن دولة المرابطين اعتمدت الدين في كثير من أمورها، وأنها وجهت نشاطها إلى مجاهدة الإسبان، وكذلك مرت الأندلس بفترة من الجد وتركت الحياة التي اعتادت عليها في أيام الطوائف، مما أدى إلى تغير نوعي في مستوى الحياة الأندلسية، وبخاصة الأدبية منها. فلم نر ذلك التحرر والانطلاق في نظم الشعر الذي يمثل التغزل بالطبيعة وجمالها، ووصف جمال المرأة، وبعض مظاهر الحياة الإجتماعية الماجنة (¬194). وعلى هذا الأساس وجهت اتهامات إلى المرابطين بعدم الذوق الأدبي، وكسوف شمس الأدب في عهدهم، بل غولي بالأمر إلى حد اتهامهم بعدم معرفة اللسان العربي (¬195). إن مثل هذا الاتهام يمثل بعض وجوه العصبية الأندلسية لتبيان حالة أهل المغرب بأنهم أقل حضارة وأقل نصيباً في تقدير الشعر من أهل الأندلس، فالأمر لا يعدو أكثر من نقمة الأندلسيين على المرابطين، بأكثر مما يدل على تغير من حال الأدباء والشعراء. فالشعراء الذين كانوا في ظل أمراء الطوائف أكثرهم أدرك عصر المرابطين وعاش الكثير من أحداثه، وبذلك يمكن نفي مثل هذا الاتهام، والجزم بأن الشعر الأندلسي لم يمت في عصر المرابطين، وأن كل ما حدث: أن الشعر كيَّف نفسه بما يلائم الظروف الجديدة التي أحاطت به (¬196). لقد كان قدوم المرابطين إلى الأندلس بداية عهد جديد يؤذن بتواري العاهل الأندلسي وقيام عاهل مرابطي لكل منهما ذوقه الأدبي، وموقفه من الشعر والشعراء، فلا ينكر أن طبقة الشعراء أصبحت في الظل على عهد المرابطين وتقدمت عليها طبقة الفقهاء (¬197). فنرى نتيجة ذلك أن بعض شعراء الأندلس أمثال ابن خفاجة (توفي عام 533 هـ) وابن أخته يحيى بن عطية بن الزقاق (توفي عام 529 هـ) لم يتأثروا كثيراً بقدوم المرابطين، كما كان حالهم في عصر الطوائف (¬198)، وكذلك دفع الأمر بعض أدباء الأندلس إلى جمع تراثهم الأدبي والحفاظ عليه من الضياع فصنف ابن بسام (توفي عام 542 هـ) كتابه المشهور (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وصنف الفتح بن خاقان (توفي عام 535 هـ) كتابي قلائد العقيان ومطمح الأنفس. وقد أشار ابن بسام -بصورة خاصة- ¬_______ (¬194) حركات، المغرب عبر التاريخ، ص 394 - الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم، ص 48 وما بعدها. (¬195) محمد عبد المنعم خفاجة، قصة الأدب في الأندلس، ج 2، ص 338. (¬196) إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 79. (¬197) سعد إسماعيل شلبي، دراسات أدبية في الشعر الأندلسي، ص 153. (¬198) سعد شلبي، دراسات أدبية، ص 154.

إلى أن الكساد قد أصاب الشعر في الأندلس بعد انقراض عصر ملوك الطوائف (¬199). كما نلاحظ الكثير من شعراء الأندلس في هذا العهد تركوا البلاد وهاجروا إلى الخارج واستقر قسم منهم في الجزائر الشرقية (البليار) وقسم في تونس والجزائر، بعيداً عن سلطان المرابطين أمثال الشاعر ابن اللبانة، والشاعر ابن حمديس الصقلي (¬200). وعندما وجد فريق من الشعراء نفسه مضطراً على البقاء في الأندلس، اضطر إلى المداهنة، وإلى توجيه أشعاره إلى الفقهاء والكتاب الأندلسيين الذين تولوا مناصب الوزارة والكتابة للمرابطين. ونظراً لأن هؤلاء لم يكونوا في ثراء ملوك الطوائف أو هيبتهم الأدبية، فقد هبط الشعر الرسمي عن مستواه، وصار سلساً إلى درجة تقرب من الضعف، كما كثر فيه الاستعطاف، والترحيب بالسادة الجدد، والتندر بعيوب ملوك الطوائف (¬201). وإذا كان مقدم بن معافى القبري (توفي عام 299 هـ) قد ابتكر الموشحات الأندلسية، فإنها تطورت في عصر الطوائف على يد الشاعر أبي بكر عبادة بن ماء السماء (توفي عام 422 هـ) (¬202)، ثم تبعه الشاعر ابن اللبانة والأعمى التطيلي وغيرهما، في عصر المرابطين مما يدل على غلبة ذوق العوام، وإلى التهاون في استعمال اللغة العربية (¬203)، فمال هؤلاء الشعراء الفحول إلى نظم هذه الموشحات لأنهم كانوا يعيشون في مجتمع يميل إلى كل ما هو شعبي (¬204). وقد أدى هذا الأمر إلى ظهور شعر الزجل الذي اشتهر به محمد بن عبد الله بن قزمان (توفي عام 554 هـ) (¬205)، وإذا رأينا الموشح يعتمد نظم القوافي، فالزجل يمثل مظهراً من مظاهر ضعف اللغة العربية وفقدان سلطانها الكامل على الشعراء (¬206). ¬_______ (¬199) السامرائي، علاقات، ص 420. (¬200) سعد شلبي، دراسات أدبية، ص 155 - 156. (¬201) راجع، ديوان ابن خفاجة الأندلسي، ص 116، ص 198. (¬202) محمد مجيد السعيد، الشعر في ظل بني عباد، ص 267 - 268. (¬203) محمد مجيد السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 395 - السامرائي، علاقات، ص 421. (¬204) السامرائي، دراسات، ص 405. (¬205) ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 100 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 100. (¬206) نماذج من موشحة ابن اللبانة: للدموع إذ تقطر. في الخد أسطر. تحفظ الهوى ظاهر. منها النواظر وأشهر نموذج للموشحات، موشحة ابن الخطيب: =

ولكن مع كل هذا فقد رعت دولة المرابطين الحركة الأدبية، وظللت على رجالها وأدخلهم سلاطينها في خدمتهم، فعلي بن يوسف استعان بالوزير أبي القاسم ابن الجد المعروف بابن الأحدب، وبأبي بكر بن محمد المعروف بابن القبطرنة، كما أن الأديب والفيلسوف ابن باجة خدم أمير سرقسطة المرابطي أبا بكر إبراهيم المعروف بابن تافلويت ونظم له الموشح المعروف بمطلعه: جرر الذيل أيما جر ... وصل الشكر منك بالشكر فطرب ابن تافلويت لهذا الموشح الذي ختم بقوله: عقد الله راية النصر ... لأمير العلا أبي بكر (¬207) ولأمير سرقسطة قصة معروفة مع هذا الأديب (¬208). كما أن الدولة المرابطية شجعت الحركة الأدبية، ودل على ذلك المؤلفات العديدة التي ظهرت في هذه الفترة مثل: قلائد ابن خاقان، وذخيرة ابن بسام، وصلة ابن بشكوال ومسهب الحجاري وغيرها (¬209). هذه الرعاية التي حظي بها أدباء الأندلس من قبل أمراء المرابطين، أثرت في الأدب الأندلسي تأثيراً محسوساً، فظهر بمظهر القوة، واختفت منه عناصر الضعف التي كانت سائدة عليه أيام ملوك الطوائف، فانتحى الشعراء في شعرهم مناحي الجد والتوقر بدل ما كانوا منغمسين فيه من المجون والبطالة، وذلك نتيجة ارتفاع معنويات أهل الأندلس عموماً بما أحرزوه من نصر على أعدائهم بفضل جهود المرابطين، بعدما كانوا أذلة أمام ¬_______ = جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس ينظر، السعيد، الشعر في ظل بني عباد، ص 258 - السامرائي، دراسات، ص 405 ومن نماذج الزجل. ما أعجب حديثي ... اشى هذا الجنون نطلب وندبر ... أمراً لا يكون وكم ذا نهون ... أمراً لا يهون ينظر، محمد عبد المنعم خفاجة، قصة الأدب في الأندلس، ج 1، ص 232. كامل كيلاني، نظرات، ص 289 - عنان، عصر المرابطين، ق 1، ص 453 - 454. (¬207) سالم، قرطبة، ج 2، ص 98، ص 184 وما بعدها. (¬208) ابن خاقان، قلائد، ص 3 - 4 - السامرائي، علاقات، ص 423. (¬209) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 211 - ابن سعيد، المغرب، ج 2، ص 108 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 451.

هجمات الإسبان (¬210). ومن مميزات الحركة الأدبية في الأندلس في عصر المرابطين ظهور فن المقامات، وأول من تأثر بمقامات الحريري الأديب أبو طاهر محمد التميمي السرقسطي (توفي بقرطبة عام 538 هـ) فله كتاب (الخمسين مقامة اللزومية) وهي المعروفة بالمقامات السرقسطية وقد عارض بها مقامات الحريري، كما وضع الأديب محارب بن محمد الوادي آشي مقامة في مدح القاضي عياض بن موسى السبتي (توفي عام 544 هـ)، كما أن الأديب أبا عبد الله محمد بن القرطبي وضع مقامة سماها المقامة العياضية الغزلية (¬211). ولم تلق الحركة الفلسفية رواجاً وتقدماً في الأندلس في العهد المرابطي وذلك لاعتماد هذه الدولة المذهب المالكي أساساً لكل أمورها، وبذلك لا تميل إلى الخوض في علوم الفلسفة (¬212)، ولكن مع هذا وجد من درس هذا العلم خلال هذه الفترة، أمثال العالم أبي بكر بن باجة المعروف، والعالم أبي الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الضرير، من أهل سرقسطة الذي سكن مراكش ومات فيها عام 520 هـ (¬213). وتوجت دولة المرابطين موقفها من الفكر الفلسفي، بإحراق كتب الإمام الغزالي، وأصدرت أوامرها إلى معظم مدن الأندلس والمغرب في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف، بهذا الأمر، لاعتقاد أهل الفقه بأن كتبه مليئة بآراء المتكلمين ومذاهب الصوفية (¬214). كما ذهب ضحية سلوك الفقهاء هذا أبو الحسن علي بن جودي (توفي 530 هـ)، وهو تلميذ ابن باجة، حيث اتهم بدينه فلاحقته السلطات، ففر وتحول إلى قاطع طريق مع عصابة تعمل بين الجزيرة الخضراء وقلعة خولان (¬215). وأصبحت الأندلس ولاية موحدية 540 - 620 هـ، فبدأ عصر جديد للحركة الفكرية، فقد أعطى الموحدون الحريات للنشاطات العلمية والأدبية، سوى ما يخالف مبادئ فكرة التوحيد التي يعتمدها محمد بن تومرت (¬216) فقدروا العلماء، واستدعوهم إلى ¬_______ (¬210) كنون، النبوغ المغربي، ج 1، ص 92. (¬211) ينظر، إحسان عباس، تاريخ الأدب، ص 195 - حازم عبد الله، النثر الأندلسي، ص 324. (¬212) المراكشي، المعجب، ص 172 - فيليب حتي وآخرون، تاريخ العرب (مطول)، ج 2، ص 645. (¬213) السامرائي، علاقات، ص 429. (¬214) ينظر، ابن القطان، نظم الجمان، ص 14 - 15 - المراكشي، المعجب، ص 173 - بروفنسال، الإسلام فى المغرب والأندلس، ص 153 - السلاوي، الإستقصا، ج 2، ص 57 - محمد مجيد السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 63، ص 72. (¬215) ابن سعيد، المغرب، ج 2، ص 109 - السعيد، الشعر في عهد المرابطين، ص 72. (¬216) عبد الله علي علام، الدعوة الموحدية بالمغرب، ص 151 وما بعدها.

قصورهم وأحاطوهم بالرعاية، ومالوا إلى دراسة مختلف العلوم بما فيه الفلسفة، وبذلك امتاز عصرهم بسعة الأفق وحرية الفكر (¬217). ومن الملاحظ في هذا العصر أن الحركة الأدبية في الأندلس وبخاصة الشعر والنثر قد تقدمت على العلوم الأخرى، ومما دفعها في هذا المجال النكبات التي لحقت بأهل الأندلس، خلال العصر الموحدي، وعصر الانهيار الذي أدى إلى قيام مملكة غرناطة، فعبرت النفوس الملتاعة بالمراثي البليغة، من الشعر والنثر، ما يدمي القلوب ويحرق النفوس (¬218). في أيام الموحدين انكمش سلطان الفقهاء لابتعاد ولاة الأمر عن علم الفروع واهتمامهم بظاهر النصوص من قرآن وحديث نبوي، فنمت بدلهم طبقة من الصالحين الأتقياء، الذين دفعوا العلوم الدينية إلى الإمام. ودراستنا للعلوم الدينية في الأندلس من خلال تتبع تراجم رواد هذه العلوم يمكن أن نقسم هؤلاء العلماء إلى ثلاثة أقسام: 1 - الأول: الذين اشتهروا بعلوم القرآن والحديث والفقه: العلامة الحافظ أبو الربيع بن سالم الحميري (شهيد معركة أنيشة عام 634 هـ) برع في الحديث والفقه، وهو أستاذ ابن الآبار (¬219). والأخوان عبد الله وداود أولاد حوط الله الأنصاري، توفي عبد الله عام 612 هـ، وتوفي داود عام 621 هـ، اشتهرا بعلم القراءات وعلم الحديث (¬220). ومن أشهر علماء الحديث أيضاً عبد الله بن الحسن الأنصاري ويعرف بابن القرطبي (توفي عام 611 هـ) (¬221). ومن أعظم فقهاء هذا العصر محمد بن عبد الله بن الجد الفهري، الذي اشتهر بدراسة الفقه والحديث (توفي عام 586 هـ) (¬222). أما ابن موجوال فاشتهر بدراسة القراءات والحديث، إلى جانب اشتهاره بالورع والزهد توفي عام 566 هـ (¬223). وغيرهم كثير. ¬_______ (¬217) السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 64 - 65. (¬218) عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 649. (¬219) ابن الآبار، التكملة، ترجمة (رقم 1991). (¬220) أيضاً، ترجمة رقم (2099) - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 503. (¬221) أيضاً، ترجمة، رقم (2097). (¬222) ابن الآبار، التكملة (رقم 1496). (¬223) أيضاً، ترجمة (رقم 2050).

2 - الثاني: العلماء الذين مزجوا بين دراسة الفقه والحديث ودراسة الأدب، ومن أشهرهم محمد بن خير بن عمر (502 - 575 هـ) وهو صاحب كتاب الفهرسة (¬224). وعبد الله بن يحيى الحضرمي النحوي ويعرف بابن صاحب الصلاة (517 - 578 هـ)، ومن شعره: وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى ... بدهر غدا ذو النقص فيه مؤملا ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... بها الحر يشقى واللئيم ممولا (¬225) واشتهر بالشعر أيضاً الفقيه والمحدث مفوز بن طاهر المعارفي (517 - 590 هـ). ومن نظمه: وقفت على الوادي المنعم دوحه ... فأرسلت من دمعي هنالك واديا وغنّت به ورق الحمام عشية ... فأذكر أياماً مضت ولياليا (¬226) 3 - الثالث: العلماء الذين غلبت عليهم صفة التصوف، ويأتي في مقدمتهم المقرئ والزاهد الورع موسى بن حسين بن عمران الميرتلي، (توفي عام 604 هـ) ومن شعره في الزهد: سليخة وحصير ... ليت مثلي كثير وفيه، شكراً لربي ... خبز وماء نمير وفوق جسمي ثوب ... من الهواء ستير قررت عينا بعيشي ... فدون حالي الأمير (¬227) وقطب هذا القسم محيي الدين بن عربي (560 - 638 هـ) فبجانب دراسته للحديث، مال إلى التصوف وشغف به حتى ملك عليه كل جوارحه، إضافة إلى هذا كله كان شاعراً مبدعاً له قصائد في الشعر الرقيق الجيد، في العشق الإلهي (¬228). ¬_______ (¬224) ابن خير، الفهرسة، ص ي مقدمة الكتاب. (¬225) ابن الآبار، التكملة رقم 2066 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 662. (¬226) ابن الآبار، التكملة، ترجمة رقم 1844. (¬227) أيضاً، ترجمة رقم 1731 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 666. (¬228) ينظر، عبد اللطيف الطيباوي، محاضرات في تاريخ العرب والإسلام، ص 230 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 679 - 680 - السامرائي، دراسات، ص 287 - بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 371 وما بعدها.

أما العلوم اللغوية والنحوية، فقد ازدهرت في الأندلس في هذا العصر، ومما يلفت النظر في عصر الموحدين، هو ظهور أعلام كبار في النحو، لهم اجتهادات وآراء جديدة في هذا الميدان (¬229). ومن أشهرهم أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن المعروف بابن مضاء القرطبي (توفي عام 592 هـ) (¬230)، وعلي بن محمد بن علي بن خروف الحضرمي (توفي عام 609 هـ) (¬231)، ومن علماء اللغة والنحو في هذا العصر أيضاً ابن أبي ركب، مصعب بن محمد الخشني (توفي عام 604 هـ) (¬232)، وكذلك أبو علي عمر بن محمد الإشبيلي الشلوبيني والذي يعتبر إمام النحويين في هذا العصر (562 - 645 هـ) (¬233). ومن أشهر رواد علم التاريخ وكتابه ورواته في الأندلس خلال هذه الفترة محمد بن أبي خالد المري الإلبيري، من أهل غرناطة (533 - 602 هـ) فكان عارفاً بتاريخ من نزل بالأندلس قديماً من العرب (¬234). أما إمام المؤرخين، وأعظم أقطاب الرواية والتاريخ من هذه الفترة هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي المعروف بابن الآبار (595 - 658 هـ) فقد عاصر أحداث الأندلس خلال العصر الموحدي وشارك في مجريات أمورها، وترك لنا مؤلفات في غاية الأهمية منها (الحلة السيراء - التكملة لكتاب الصلة - إعتاب الكتاب) وغيرها (¬235). ورعت دولة الموحدين العلوم الصرفة. وفي مقدمتها علوم الطب وتزعمت أسرة آل زهر الأندلسية الإشبيلية حركة الطب في هذه الفترة فكان أبو العلاء زهر بن عبد الملك بن زهر (توفي عام 525 هـ) طبيباً خاصاً لعبد المؤمن بن علي أول حاكم للموحدين، وكان هذا الحاكم يكره الأدوية وقد احتاج إلى مسهل فأعطاه هذا الطبيب ثمار العنب بعد أن سقى شجرة العنب بماء فيه دواء مسهل (¬236). ثم ¬_______ (¬229) السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 68. (¬230) ابن فرحون، الديباج المذهب، ج 1، ص 8 - 2 (رقم 92) - أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 3، ص 95 - 98. (¬231) الحموي، معجم الأدباء، ج 15، ص 75 - ابن الزبير، الصلة، ترجمة (رقم 245) - المقري، نفح، ج 3، ص 184. (¬232) ابن الآبار، التكملة رقم 1785 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 684. (¬233) ينظر، القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص 218 - المقري، نفح، ج 3، ص 490 - ج 4، ص 9، ص 472. (¬234) ابن الآبار، التكملة ترجمة رقم 1530 - عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 655. (¬235) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، مقدمة المحقق ص 13 وما بعدها - ينظر عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 704، ص 705 - 708. (¬236) عمر فروخ، تاريخ العلوم عند العرب، ص 289 - جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 312.

اشتهر من بعده حفيده أبو بكر محمد بن عبد الله بن زهر بن عبد الملك، طبيباً خاصاً للخليفة الموحدي المنصور ومن جاء بعده، ولما توفي عام 595 هـ دفن بروضة الأمراء إكراماً له (¬237). ومن أشهر العشابين والنباتيين في الأندلس خلال العصر الموحدي أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج الأموري المعروف بالعشاب وبابن الرومية (561 - 637 هـ) (¬238)، وخلفه من بعده تلميذه ضياء الدين عبد الله بن أحمد المالقي المشهور بابن البيطار (توفي عام 646 هـ) (¬239). ومن أشهر علماء الرياضيات علي بن خلف الأنصاري الشلبي الذي كان حياً عام 565 هـ (¬240). واشتهر أبو بكر محمد بن أحمد الرقوطي المرسي بالرياضيات والهندسة والطب، ويتقن عدة لغات، وقد بقي في وطنه مرسية بعد تغلب الإسبان عليها عام 664 هـ، ولم يغادرها. وبنى له ملك الإسبان (خايمة الأول) مدرسة علم فيها المسلمين والمسيحيين واليهود العلوم التي برع بها، وحاول ملك الإسبان عبثاً أن يُغريه باعتناق المسيحية، ثم غادر مرسية إلى مملكة غرناطة ودخل في خدمتهم يعلم أبناء المسلمين علومه التي تفوق بها، توفي أواخر القرن السابع الهجري (¬241). أما الفكر الفلسفي، فدخل عصره الذهبي في عهد الموحدين، وتمتع الفلاسفة بمكانة مرموقة في بلاط الموحدين، وأعطيت لهم الحرية المطلقة في عملهم شريطة ألا تنشر هذه التعاليم على العامة، لأن الموحدين كانوا يعتبرون الفلسفة نوعاً من الحقائق الباطنية المحصورة في فئة المتنورين (¬242). واشتهر هذا العصر بأعظم فلاسفة الأندلس، ويأتي في مقدمتهم ابن طفيل (أبو بكر ¬_______ (¬237) ينظر، ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ج 2، ص 67 - المراكشي، المعجب، ص 142 وما بعدها - ابن الآبار، التكملة، ترجمة (رقم 1499) - المقري، نفح، ج 2، ص 247 - ج 3، ص 434 - ج 7، ص 9. (¬238) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 215 وبعدها - ابن فرحون، الديباج المذهب، ج 1، ص 191 ترجمة رقم 69 - المقري، نفح، ج 3، ص 185. (¬239) ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء، ج 2، ص 133. (¬240) ابن الزبير، صلة الصلة، ترجمة رقم 201. (¬241) عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 718. (¬242) أولبري، الفكر العربي، ص 211 - 212.

محمد بن عبد الملك توفي عام 581 هـ) (¬243). مؤلف رواية (حي بن يقظان)، وكان بطلها حي يعيش في جزيرة لا يسكنها أحد من الناس، وليس له علاقة بأحد من أهل الجزائر الأخرى. بحث بعقله بحثاً منطقياً متدرجاً من البسيط إلى المركب حتى وصل إلى الاعتقاد بالله وغرضه من ذلك: أن يبين أن الشرع يتفق مع العقل (¬244)، والفيلسوف الآخر المشهور أبو الوليد محمد بن أحمد المعروف بابن رشد شيخ الفلاسفة في الأندلس (توفي عام 595 هـ) (¬245). ودافع ابن رشد عن الفلسفة في كتابه تهافت التهافت، ورد بعنف على الإمام الغزالي (توفي عام 505 هـ)، ووضح ابن رشد في كتب أخرى بأن الفلسفة لا تتنافى مع الدين، وألف كتاباً صغيراً سماه (فصل المقال فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال) (¬246). وقد اتهم ابن رشد بالزندقة لكثرة أبحاثه، فأحرقت كتبه الفلسفية جميعها في عهد دولة الموحدين، على عهد الخليفة المنصور، واحتفظ له بالكتب الطبية والرياضية (¬247). وكذلك الفيلسوف موسى بن ميمون القرطبي اليهودي الأصل، والذي اعتنق الإسلام ودخل في خدمة الموحدين، وبعدها غادر المغرب إلى مصر ودخل في خدمة البلاط الأيوبي في مصر إلى أن توفي عام 602 هـ (¬248). أما الحركة الأدبية فقد ازدهرت في الأندلس خلال عصر الموحدين، وذلك بسبب تذوق الخلفاء الموحدين للشعر الجيد، مع تقديرهم لشعر المديح والإشادة. وبلغ الشعر في الأندلس مستوى عالياً من الإزدهار والقوة، وأظله الموحدون برعايتهم، وتبارى الشعراء الأندلسيون في مدح الخلافة الموحدية والإشادة بها. حتى إن هذه النهضة الشعرية لم تخبُ في عصر الانهيار، أواخر العهد الموحدي - بل زادتها المحنة قوة، فنظم الشعراء قصائد الرثاء والقصائد المبكية، مما يشهد بأن الشعر الأندلسي، قد بلغ ¬_______ (¬243) المراكشي، المعجب، ص 311 - أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 500 - محمد عبد المنعم خفاجة - قصة الأدب ج 1، ص 147 - أولبري، الفكر العربي، ص 212. (¬244) السامرائي، دراسات، ص 258 - محمد أحمد المليجي " ابن طفيل "، مجلة العربي، العدد 145، ص 127. (¬245) النباهي، المرقبة العليا، ص 111 - ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 154 - أولبري، الفكر العربي، ص 213. (¬246) أحمد أمين، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 158. (¬247) أنور الرفاعي، الإنسان العربي والحضارة، ص 516 - خودا بخش، حضارة الإسلام، ص 148 - أبو رميلة، علاقات، ص 391 - 392. (¬248) عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 723 - 724.

في تلك الفترة الصعبة من حياة الأندلس، ذروة قوته وروعته. ولما كانت الرغبة لدى الخلفاء الموحدين في سماع المديح، فظهر في الشعر الأندلسي هذا الفن، فلما عبر عبد المؤمن بن علي إلى الأندلس استدعى الشعراء، وسمع من كثير منهم، وكان ممن أنشده من الأندلسيين الأصم المرواني وابن سيِّد (اللص) والرصافي البلنسي وغيرهم، وكانت له ملاحظات نقدية على قصائدهم تدل على تذوقه للشعر ومعرفته الواسعة به (¬249). والخليفة الموحدي المنصور لما انتصر على الإسبان في معركة الارك عام 591 هـ اجتمع لديه عدد كبير من الشعراء، فلم يكن الوقت يسمح لإلقاء كل شاعر قصيدته، فألقى كل شاعر بيتين أو ثلاثة من قصيدته (¬250). ولكن بعد خلافة الناصر (610 هـ)، خبا هذا النوع من الشعر لاضطراب أحوال الدولة وعدم تذوق ولاة الأمر شعر المديح (¬251). وفي هذا العصر عالج شعراء كثيرون فن الغزل، فمنه الغزل العفيف، كقصيدة الفيلسوف والشاعر ابن طفيل الذي زار محبوبته ليلاً بعد نوم الناس، وعلى الرغم من الشوق والتلهف لم ينسيا العفة والخلق الشريف (¬252). وشاركه في هذا الاتجاه الشاعر أبو الروح عيسى بن خليل (توفي عام 629 هـ) (¬253). ولكن غزل ابن سعيد الأندلسي وغيره، يبتعد عن التحشم والوقار (¬254). وظهر في هذا العصر في الأندلس شواعر غزلات أمثال حفصة الركونية التي توفيت عام 586 هـ (¬255)، ويمثل شعرها قصة غرام جريء في مجتمع إسلامي يحرص على سلوك معين وتقاليد وأعراف (¬256). وشعر الشكوى ظهر في هذه الفترة، بسبب وقوع الشاعر في الأسر، أو ينفى من بلده لأي سبب. وممن امتحن بالنفي والتغريب عن وطنه الشاعر أبو الحسن سهل بن محمد بن مالك الغرناطي (توفي عام 639 هـ)، فيصور حالته البائسة وهو غريب بعيد عن ¬_______ (¬249) المراكشي، المعجب، ص 282، ص 285، ص 286. (¬250) المقري، نفح، ج 4، ص 172 - بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 126 - 127. (¬251) السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 88. (¬252) ينظر المراكشي، المعجب، ص 313. (¬253) المقري، نفح، ج 2، ص 608. (¬254) السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 166. (¬255) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 499، ص 227. (¬256) السعيد، نفس المرجع، ص 183.

الوطن والأهل (¬257). واشتهر الشاعر ابن حزمون (توفي عام 614 هـ) بشعر الهجاء حتى وصف بأنه: بذيء اللسان (¬258). وهناك بعض الشعراء الذين تميزوا بالهجاء السياسي أمثال (أبي عبد الله محمد بن الصفار القرطبي توفي عام 639 هـ) فالبرغم من كونه أعمى مشوَّهاً، هجا المستنصر الموحدي، وتخفى في مدن المغرب من خطره (¬259). وبرز في الأندلس خلال هذا العصر شعراء الزهد ويمثلهم أبو عمران موسى بن عمر المارتلي الإشبيلي (¬260). وكذلك أبو جعفر بن الوكيل (توفي عام 551 هـ)، ومن شعره: أسير الخطايا عند بابك واقف ... له عن طريق الحق قلب مخالف قديماً عصى عمداً وجهلاً وعزة ... ولم ينهه قلب من الله خائف (¬261) وضمن هذا الفن ظهرت القصائد النبوية الطويلة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعداد معجزاته، والتشوق إلى زيارة ضريحه وإلى غير ذلك، ومن أشهر شعراء هذا الفن ابن الجنان (توفي عام 640 هـ) والشاعر علي بن إبراهيم الأنصاري (توفي عام 571 هـ)، والشاعرة أم السعد بنت عصام الحميري المعروفة بـ (سعدونة) توفيت (عام 640 هـ) (¬262). ويعتبر العصر الموحدي في الأندلس عصر بزوغ الشعر الصوفي ونضوجه، وأحسن من يمثله محيي الدين بن عربي (توفي عام 638 هـ) المار ذكره (¬263). وبرز في الأندلس خلال العصر الموحدي، ونتيجة استرداد الإسبان لمعظم المدن الأندلسية، وما لحق أهلها من الأذى والضرر، نوع من الشعر يسمى رثاء المدن، مع الصريخ إلى نجدتها، وأحسن من مثل ذلك عالمنا الشهير ابن الآبار بقصيدته السينية المشهورة: ¬_______ (¬257) السعيد، أيضاً، ص 235. (¬258) المراكشي - المعجب، ص 373 - عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، ج 5، ص 240. (¬259) السعيد، المرجع السابق، ص 252. (¬260) ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 406. (¬261) المقري، نفح، ج 2، ص 599. (¬262) ينظر، المقري، نفح، ج 7، ص 432، ص 440 - 470 - أزهار الرياض، ج 3، ص 226 - 282 - ينظر، محسن جمال الدين. احتفالات الموالد النبوية، ص 20 وما بعدها - السعيد، المرجع السابق، ص 269 وما بعدها. (¬263) ينظر، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 6، ص 339 - أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 3، ص 72 - 73.

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا (¬264) ويشاركه في ذلك أبو البقاء الرندي في قصيدته النونية: لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغرّ بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان (¬265) ومن أشهر كتاب الأندلس في هذا العصر الرحالة ابن جبير البلنسي صاحب كتاب الرحلة المشهور (توفي عام 614 هـ) (¬266). واشتهرت أسرة بني عياش الأندلسية بالكتابة ودخل أفرادها في خدمة خلفاء الموحدين، أمثال أبي الحسن بن عياش، ومحمد بن عبد العزيز بن عياش وعلي بن عياش (¬267). ومن أشهر كتاب الأندلس خلال هذا العصر أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي صاحب الرسائل المشهورة (¬268). واشتهرت الأندلس أيضاً بالمكتبات، مما حدا بخلفاء الموحدين أن يجلبوا من الأندلس أشهر الكتب ووضعوها في الخزانة العلمية بمدينة مراكش (¬269). وقد نقل الخليفة الموحدي يوسف إحدى المكتبات الخاصة من مدينة إشبيلية إلى مكتبته بقصر الخلافة بمراكش دون علم صاحب المكتبة أو استئذانه (¬270). واستخدم الموحدون نساخين وخطاطين من أهل الأندلس لنسخ المؤلفات العلمية، فكان من أشهر هؤلاء أبو العباس بن الصغيرة من أهل المرية، وقد عينه الخليفة يوسف أميناً لمكتبته العلمية (¬271). أما عصر مملكة غرناطة 635 - 897 هـ، فقد اتخذت هذه المملكة العربية الأخيرة في الأندلس مذهب الإمام مالك أساساً لكل أمورها (¬272). ولا شك كان للمذهب المالكي دوره الفعال في عملية تنظيم هذه الدولة، وكان لرجال المذهب سلطان قوي في الجانب الفكري والسياسي (¬273). ¬_______ (¬264) المقري، نفح، ج 4، ص 457 - أزهار الرياض، ج 3، ص 207. (¬265) المقري، نفح، ج 4، ص 487 - أزهار الرياض، ج 1، ص 47 - السعيد، المرجع السابق، ص 322 - 323. (¬266) رحلة ابن جبير، ص 23. (¬267) عنان، عصر الموحدين، ق 2، ص 698. (¬268) القلقشندي، صبح الأعشى، ج 6، ص 534 - 535. (¬269) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 184 - أبو رميلة، علاقات، ص 397. (¬270) المراكشي، المعجب، ص 238 - 239. (¬271) أبو رميلة، علاقات، ص 399. (¬272) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 38. (¬273) فرحات، غرناطة، ص 154.

وكان أبرز علماء المذهب المالكي، الفقيه أبا سعيد فرج بن لب (701 - 782 هـ) وكان من أشهر أساتذة المدرسة النصرية ومن تلاميذه: إبراهيم بن موسى بن محمد الغرناطي (توفي عام 790 هـ) صاحب كتاب (أصول الفقه)، ومحمد بن سراج (توفي عام 848 هـ) وعرف بفتاويه المتعددة، وأبو عبد الله محمد بن علي الفخار الإلبيري، والفقيه محمد بن محمد الأنصاري السرقسطي (توفي عام 861 هـ) وكانت له شهرة واسعة، وقد شارك السلطان النصري في جنازته لما كان يتمتع به من سمعة وشهرة (¬274). وقد أفتى هذا الفقيه السرقسطي: بأن الإسبان لا يحق لهم من حيث المبدأ بيع أراضي المسلمين التي انتزعوها منهم، لأنهم في الأساس ليسوا أصحابها، وإنما هي أرض إسلامية، ولكن أوضاع المسلمين الذين هم تحت رحمة الإسبان (وهم المدجنون) هي أوضاع خاصة، لذا جاز لهم شراء تلك الأراضي تلبية لحاجاتهم المعيشية (¬275). وشهد المجتمع النصري حركة زهد قوية في أوساط العامة والخاصة، فكثر الزهاد والمتصوفون. فبالإضافة إلى أوضاع هذه الدولة الخاصة، ساعد على ازدهار حركة الزهد قدوم مهاجرين من الهند وسمرقند وتبريز وخراسان فاستقروا في الأندلس وساهموا في إبراز تيار الزهد، وقد زارهم ابن بطوطة خلال رحلته الأندلسية (751 - 752 هـ) (¬276). ويشير ابن الخطيب إلى وجود رباطات المتصوفين في حي البيازين بغرناطة بإشراف أبي أحمد جعفر الخزاعي الذي كان يجمع المصلين كل ليلة لقراءة القرآن، وعقد حلقات الذكر، وسماع أشعار المتصوفة ولا سيما أشعار الحلاج (¬277). واشتهرت الزاهدة عائشة بنت عبد الله الأندلسي، التي أمضت حياتها داخل حجرة صغيرة، منصرفة لعبادتها، حتى اتهمت بالجنون (¬278). وترك أبو عبد الله محمد بن المحروق أحد زعماء مدينة غرناطة الطيبات واعتزل في رباط ابن المحروق، وفي رباط العقاب المشهور على سفح جبل مشرف على غرناطة قضى الزاهد ابن سبعين والششتري قسماً من حياتهما (¬279). ومن أقطاب التصوف في مملكة غرناطة، أبو الحسن علي بن فرحون القرشي ¬_______ (¬274) المقري، نفح، ج 2، ص 52، ص 699 - ج 3، ص 617 - ج 5، ص 355، ص 429. (¬275) فرحات، غرناطة، ص 155. (¬276) رحلة ابن بطوطة، ج 2، ص 769. (¬277) الإحاطة، ج 1، ص 461 - 463 - فرحات، غرناطة، ص 156. (¬278) المقري، نفح، ج 5، ص 306. (¬279) فرحات، غرناطة، ص 157.

القرطبي (توفي عام 751 هـ) (¬280) وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى الأنصاري المرسي (توفي عام 751 هـ أيضاً) وله كتاب (زهرة الأكمام) في قصة يوسف، وأبو عبد الله محمد الأنصاري المالقي (649 - 754 هـ) وله كتاب (بغية السالك في أشرف المسالك) في مراتب الصوفية وطرائق المريدين (¬281). ومن خلال ما زودتنا به الروايات نفهم أن المراكز الفكرية ودور التعليم المهمة كانت موجودة في المدن الرئيسية كغرناطة ومالقة والمرية ووادي آش، وكانت الكتاتيب منتشرة في القرى والأرياف، وأعظم مدرسة بنيت في هذا العهد المدرسة اليوسفية بغرناطة عام 750 هـ/1349 م بناها السلطان يوسف الأول، كما عرفت باسم المدرسة العلمية والمدرسة النصرية. بدأت أولاً تدرس العلوم الدينية، ثم أصبحت تهتم بأكثر أنواع المعرفة والفكر، وقصدها الطلبة من سائر مناطق مملكة غرناطة، ونالت شهرة واسعة حتى أوفد عليها طلاب العلم من عدوة المغرب، بالإضافة إلى هذا كله وجد المؤدبون الخاصون لأولاد السلاطين (¬283). وكتب على باب المدرسة بعض الأبيات: يا طالب العلم هذا بابه فتحا ... فادخل تشاهد سناه لاح شمس ضحى واشكر مجيدك من حل ومرتحل ... إذ قرب الله من مرماك ما نزحا وشرفت حضرة الإسلام مدرسة ... بها سبيل الهدى والعلم قد وضحا أعمال يوسف مولانا ونيته ... قد طرزت صحفاً ميزانها رجحا (¬284) وكانت المدرسة النصرية تعرض لائحة من الكتب مع أسماء الأساتذة الذين يقومون بتدريسها: فالقرآن الكريم يحتل الصدارة، ثم يأتي بعده كتاب الموطأ للإمام مالك. وبعد ذلك ظهر كتاب (تحفة الحكماء في نقاط العقود والأحكام) للقاضي أبي بكر بن عاصم الغرناطي. واهتمت مدرسة غرناطة بتعليم اللغة والأدب، فاعتمدت كتاب سيبويه وكتاب الأغاني وآثار الجاحظ ومقامات الهمذاني والحريري، كما اعتمدت شعر العرب فكان ديوان الحماسة وديوان المتنبي من الكتب المفضلة. ولا نعرف بالتحديد عدد السنوات التي كان يقضيها الطلاب في هذه المدرسة قبل تخرجهم، إنما المتفوقون منهم ¬_______ (¬280) المقري، نفح، ج 5، ص 226. (¬281) عنان، نهاية الأندلس، ص 467. (282) فرحات، غرناطة، ص 158. (¬283) المقري، نفح، ج 5، ص 268، - ج 7، ص 108، ص 166، ص 282. (¬284) المقري، نفح، ج 5، ص 457 - فرحات، غرناطة، ص 160.

كانوا يحصلون على إجازة خطية يمنحون بموجبها حق تدريس مادة معينة أو كتاب معروف (¬285). وشهدت مملكة غرناطة نهضة علمية كان من روادها محمد بن الرقاح المرسي الذي اشتهر بالهندسة والرياضيات، ومارس الطب أيضاً، وتوفي عام 715 هـ. ونبغ أبو يحيى بن رضوان الوادي آشي وتوفي سنة 757 هـ، ووضع قصيدة في علم الفلك بعنوان (المنظوم من علم النجوم) ووضع رسالة في الاسطرلاب (¬286). ومن أشهر أطباء هذا العصر محمد بن إبراهيم الأنصاري المعروف بابن السراج فكان طبيب السلطان محمد الثاني الخاص، وكان يداوي الفقراء مجاناً ويوزع أمواله على المحتاجين. وكذلك الطبيب يحيى بن هذيل التجيبي حكيم غرناطة وفيلسوفها (توفي عام 753 هـ) وكان استاذاً لابن الخطيب (¬287). وكان محمد الشقوري طبيب دار الإمارة أيام السلطان يوسف الأول وله كتاب (تحفة المتوسل وراحة المتأمل). وفي المرية لمع اسم الطبيب والشاعر والمؤرخ أحمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري (توفي عام 770 هـ) وله كتاب عن الوباء الذي عصف بالأندلس عام 749 هـ/1348 م بعنوان (تحصيل غرض القاصد في تفصيل المرض الوافد) (¬288). ولا ننسى في هذا المجال لسان الدين ابن الخطيب، الذي سنذكره فيما بعد، وكان أيضاً من الأطباء المشهورين وله عدة كتب طبية منها: (رسالة تكوين الجنين) و (مقنعة السائل في المرض الهائل) يصف فيه أعراض الوباء الكبير (¬289). ومن الابتكارات الطبية التي توصل إليها أطباء العصر النصري، منها: ما توصل الطبيب المالقي الحسن بن محمد بن الحسن القيسي حيث قدم دواء ضد سموم الحيات إلى السلطان يوسف الأول (¬290). واستعان الغرناطيون بحشائش معينة توضع فوق المكان الملتهب فتشفيه وبخاصة مرض النقرس. كما استعملوا الضماد في مداواة عرق النسا. ويؤكد ابن الخطيب في كتابه (مقنعة السائل) أن مرض الطاعون ينتقل بالعدوى ويختفي في ثياب المريض، محاولاً بذلك الإشارة إلى ¬_______ (¬285) فرحات، غرناطة، ص 160 - 161. (¬286) فرحات، غرناطة، ص 162. (¬287) المقري، نفح، ج 3، ص 52، ص 258. (¬288) أيضاً، ج 1، ص 24، (حاشية) - ج 6، ص 33 - 37. (¬289) فرحات، غرناطة، ص 163. (¬290) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 467.

وجود الجراثيم مما لم يكن معروفاً في ذلك الوقت (¬291). ووضع الطبيبان ابن خاتمة وابن الخطيب جملة من الإرشادات والنصائح الطبية، من أجل إبعاد سكان مملكة غرناطة من خطر الوباء الكبير أو الطاعون الأسود. وتوجت مملكة غرناطة جهودها الطبية ببناء المستشفى (البيمارستان) في مدينة غرناطة على أيام السلطان محمد الخامس، وبناء دار للعجزة ومأوى للعميان في عصر السلطان محمد الأول (¬292). ونالت الحركة اللغوية تقدماً كبيراً في ظل مملكة غرناطة وكان من أشهر روادها: أبو بكر محمد بن إدريس القضاعي (توفي عام 707 هـ) وله كتاب (الختام المفضوض عن خلاصة علم العروض)، والعالم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم النحوي (626 - 708 هـ)، وكان عالماً بالقرآن والحديث، وكانت له حظوة عند السلطان أبي عبيد الله محمد بن الأحمر، وله كتاب (صلة الصلة). ومن علماء اللغة كذلك، أبو عبد الله محمد بن علي الفخار الذي كان شيخ النحاة الأندلسيين في عصره، وعليه درس ابن الخطيب وابن زمرك وتوفي بغرناطة عام 754 هـ (¬293). وابن مالك الأندلسي (640 - 686 هـ) صاحب الألفية المشهورة، من أهل جيان، الذي رحل إلى المشرق تاركاً الأندلس المضطربة (¬294). ونالت الدراسات التاريخية حظوة كبيرة في عهد هذه المملكة، ومن الشخصيات المشهورة في حقل التاريخ أبو جعفر أحمد بن علي بن خاتمة الأنصاري (توفي عام 770 هـ) وله كتاب (مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية). وكذلك القاضي المشهور أبو الحسن علي بن عبد الله النباهي (713 - بعد عام 793 هـ) وكان من خصوم ابن الخطيب ومن الساعين إلى هلاكه، وله كتاب (تاريخ قضاة الأندلس) وكتاب (نزهة البصائر والأبصار) في تاريخ الدولة النصرية (¬295). وأما كتب لسان الدين ابن الخطيب (713 - 776 هـ) التاريخية فهي أكثر من أن تُعد، ويأتي في مقدمتها (اللمحة البدرية في الدولة النصرية) وكتاب (الإحاطة في أخبار غرناطة) وكتاب (أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام) وكتاب (نفاضة الجراب) وكتاب (كناسة الدكان) وغيرها كثير. ¬_______ (¬291) فرحات، غرناطة، ص 163. (¬292) فرحات، غرناطة، ص 135، ص 164. (¬293) المقري، نفح، ج 5، ص 355. (¬294) عبد العال سالم مكرم " ابن مالك الأندلسي " مجلة العربي، العدد 166، ص 131 وبعدها. (¬295) المرقبة العليا، ص ط المقدمة.

أما الحركة الأدبية في مجال الشعر والنثر فقد ازدادت في ظل مملكة بني الأحمر وكان روادها لسان الدين ابن الخطيب وابن زمرك، واستمر الإزدهار مرافقاً للوجود العربي حتى سقوط غرناطة، فكأن القلم والسيف تعاهدا على الجهاد ومواصلة الطريق حتى النفس الأخير (¬296). والأعلام من الأدباء الذين أوصلوا الحركة الأدبية إلى هذا التفوق في عهد مملكة غرناطة هما: 1 - لسان الدين ابن الخطيب (توفي عام 776 هـ)، الذي ترك لنا قصائد شعرية في أغراض متنوعة ولا سيما في المدح والسياسة، وله موشحات مشهورة، ومن أهمها: جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس ومن خلال مناصبه السياسية التي تقلدها في دولة بني الأحمر، وكان قريباً من الأحداث ومشاركاً فيها، فجاءت كتبه التاريخية مصادر أساسية لكل ما يتعلق بتلك المرحلة من الوجود العربي من الأندلس، وله رسائل مشهورة منها السلطانية ومنها الفلسفية ومنها الإخوانيات (¬297). 2 - أبو عبد الله محمد بن يوسف الصريحي المعروف بابن زمرك (733 - 797 هـ) تلميذ ابن الخطيب، والساعي إلى قتل أستاذه عام 776 هـ وقد ترك لنا ابن زمرك مجموعة قصائد في المدح والوصف والغزل، كما برع في الموشحات (¬298). ومن الشخصيات الأدبية التي عاصرت ابن الخطيب أبو سعيد فرج بن لب (توفي عام 782 هـ)، وكان شاعراً يتسم شعره بالرقة والسهولة (¬299). ويختتم رواد الحركة الأدبية الأمير إسماعيل بن يوسف بن محمد بن الأحمر (توفي عام 807 هـ) صاحب كتاب (نثير فرائد الجمان في نظم فحول الزمان) وفيه تناول سير الكتاب والشعراء المشهورين في القرن الثامن للهجرة، كما له كتاب (نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان) وفيه يتحدث عن شعر الملوك من بني الأحمر وبني مرين وبني حفص وبني عبد الواد، وكذلك عن شعر وزراء الأندلس وقضاتها (¬300). ¬_______ (¬296) فرحات، غرناطة، ص 168. (¬297) عنان، نهاية الأندلس، ص 472 وبعدها - فرحات، غرناطة، ص 176 وما بعدها. (¬298) أيضاً، ص 482 وبعدها - أيضاً، ص 180 وما بعدها. (¬299) المقري، نفح، ج 5، ص 509 - 511. (¬300) عنان، نهاية الأندلس، ص 485 - 486.

الفصل الثاني النظم السياسية العربية في الأندلس

الفَصْلُ الثَّانِي النظم السياسية العربية في الأندلس أهم النظم السياسية التي سنتناول دراستها في الأندلس هي: 1 - نظام الخلافة. 2 - نظام الحجابة والوزارة. 3 - نظام الإدارة. 4 - نظام الشرطة. 1 - نظام الخلافة: فتحت الأندلس عام (92 - 95 هـ) على عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (86 - 96 هـ) فأصبحت ولاية تابعة للخلافة الأموية في بلاد الشام، ولما سقطت الخلافة الأموية بالمشرق عام 132 هـ حاول والي الأندلس يوسف الفهري (129 - 138 هـ) أن يكون أميراً مستقلاً لا يتبع أحداً بعد سقوط خلافة الأمويين. إلا أن وصول عبد الرحمن ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك الملقب بالداخل، غير الأمور وجعل الأندلس إمارة أموية بدأ فيها عهد جديد يسمى عصر الإمارة الأندلسية 138 - 316 هـ، وهي إمارة وراثية حكمتها الأسرة الأموية (أسرة عبد الرحمن الداخل) وتولاها الإبن عن والده، أو الأخ عن أخيه، أو الحفيد عن جده كما هو معروف، وعاصرت هذه الإمارة دول إسلامية ذات نظام خلافي، وهي الدولة العباسية 132 - 656 هـ، ودولة الأدارسة 172 - 296 هـ ودول الخوارج وهي دولة بني مدرار في سجلماسة 140 - 296 هـ ودولة بني رستم في تاهرت 144 - 296 هـ والدولة الفاطمية في المغرب 296 - 362 هـ.

فالدولة العباسية يحكمها خليفة من سلالة العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الخليفة الشرعي الذي يعترف بخلافته عموم المسلمين، قياساً إلى وحدة الخلافة الإسلامية من الناحية النظرية، وبقيت الإمارة الأموية في الأندلس تقدر وحدة الخلافة الإسلامية، إلى أن قامت الدولة الفاطمية من منطقة المغرب عام 296 هـ. وعلى الرغم من أن دول الخوارج ودولة الأدارسة تسمي حاكمها الإمام أولاً، وعلى الرغم من أن بعض أئمة الخوارج من سجلماسة أعلنوا ولاءهم للخلافة العباسية، ثانياً (¬1). فإن الإمارة الأموية في الأندلس لم تخرج من التقليد حتى قامت الخلافة الفاطمية في المغرب، التي أسقطت دول الخوارج ودولة الأدارسة ودولة الأغالبة (184 - 296 هـ) فأصبحت هذه الخلافة وجهاً لوجه مع الإمارة الأموية في الأندلس لا يفصلهما إلا المضيق، ودخلت هاتان الدولتان في صراعات مريرة، من أشهر مظاهرها إعلان الخلافة الأندلسية عام 316 هـ من قبل الأمير عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ) الذي لقب من هذا العام ولقب الذين جاء من بعده وإلى عام 422 هـ بلقب الخليفة الأندلسي - وبذلك كسرت قاعدة وحدة الخلافة الإسلامية، وأصبحت للخلافة ثلاثة نظم من العالم الإسلامي، وهي: الخلافة العباسية والخلافة الفاطمية والخلافة الأندلسية، وبرر الفقهاء تعدد الخلفاء إذا كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك، واعترفوا بشرعية خليفتين للمسلمين في آن واحد بشرط أن يكون بينهما مسافة كبيرة ومسافة شاسعة لمنع الاصطدام والفتن بين المسلمين (¬2). من الناحية التاريخية الواقعية كانت الإمارة الأموية في الأندلس، إمارة وراثية مستقلة سياسياً عن خلافة المشرق العباسية، ولها علاقات ودية مع دول الخوارج. إلا أنه من الناحية الروحية فإن الإمارة الأموية في الأندلس لم تعترف بالخلافة العباسية، إلا فترة وجيزة، تراوحت بين عدة أشهر، وعدة سنوات من حكم عبد الرحمن الداخل (138 - 172 هـ) ثم قطعت الخطبة للخليفة العباسي (¬3). ويلاحظ أن أمراء بني أمية الذين حكموا الأندلس قبل الناصر، وإن كانوا قد قطعوا ¬_______ (¬1) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 6 ص 130. (¬2) ينظر، العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 379. (¬3) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 35 - 36 - ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 60 - 61 - ابن أبي دينار، المؤنس، ص 42 - 43، ص 97. - المقري، نفح، ج 4، ص 59 - العبادي، دراسات، ص 57 - 58.

الدعاء لبني العباس، الا أنهم لم يلقبوا أنفسهم بلقب خليفة واكتفوا بلقب الأمير أو بني الخلائف أو الإمام (¬4). وهناك روايات تذكر أن عبد الرحمن الداخل لم يخطب للعباسيين طيلة حياته، ولم يخطب الأمراء من بعده كذلك لبني العباس (¬5). ويبدو لنا أن الأمير عبد الرحمن الداخل لم يخطب لبني العباس، ولكن في الوقت نفسه، نراه هو والأمراء الذين تولوا الأندلس من بعده لم يلقبوا بلقب خليفة المسلمين، احتراماً للخليفة الشرعي حامي الحرمين الشريفين، وهو الخليفة العباسي (¬6). هذا هو الأصل النظري للخلافة الإسلامية، غير أن مجريات الأمور وتغيرات الظروف حتمت كسر هذا الأصل، فقامت الخلافة الأندلسية عام 316 هـ وذلك للأسباب الآتية: 1 - قيام الدولة الفاطمية في شمال أفريقية عام 296 هـ، وهي ذات أطماع مكشوفة تجاه الأندلس. 2 - ضعف الخلافة العباسية في المشرق أيام الخليفة المقتدر (295 - 320 هـ) واستبداد القواد الأتراك بها وعبثهم في شؤون الخلافة. 3 - الاستجابة لرغبة الأندلسيين في أن يكون أميرهم خليفة للمسلمين، وبخاصة بعد قضائه على أهم حركات التمرد، فأصبح الأمير بحاجة إلى رفع مكانة الأمير السياسية والدينية (¬7). هكذا لقب الناصر نفسه، " الناصر لدين الله أمير المؤمنين " وأصدر منشوراً يتضمن ذلك (¬8). وهكذا تحولت الأندلس من إمارة إلى خلافة، واستمر لقب خليفة في ذرية عبد الرحمن الناصر من بعده حتى سقوط الدولة الأموية في الأندلس عام 422 هـ (¬9). ¬_______ (¬4) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 58، ص 64، ص 65 - المقري، نفح، ج 1، ص 198. (¬5) ينظر، المسعودي، التنبيه والإشراف، ص 332 - ابن أبي دينار، المؤنس، ص 42 - 43 - فريدة الأنصاري، الإمارة الأموية، ص 85. (¬6) العبادي، دراسات، ص 58. (¬7) ينظر، ابن خلدون، المقدمة، ص 228 - العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 380 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 300. (¬8) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 198 - سالم، تاريخ المسلمين، ص 319. (¬9) العبادي، دراسات، ص 61.

ونظام الخلافة في الأندلس يقوم على أساس التوريث أيضاً، ويستند إلى السياسة أولاً ثم إلى الدين ثانياً، عكس الخلافة الراشدة التي قامت على الشورى والانتخاب. وفي الوقت الذي نجد فيه الخليفة العباسي (يحكم بتفويض من الله) كما قال الخليفة المنصور: " إنما أنا سلطان الله في أرضه "، وإن الخليفة الفاطمي يرى نفسه إماماً معصوماً من الخطأ، ولا يسأل عما يفعل، نرى الخليفة الأندلسي يقدم نفسه للناس بصفة، إنسان عادي يخطئ ويصيب، والناس أحرار في نقده، كما فعل قاضي قرطبة المنذر بن سعيد البلوطي (¬10). الذي أخذ ينتقد الخليفة الناصر على الأموال الطائلة التي صرفها في بناء مدينة الزهراء، وهو جالس في مسجد الزهراء، وكان رد فعل الخليفة الأندلسي أنه أقسم أن لا يصلي وراء هذا القاضي، ورفض اقتراح عزله عن الخطبة والقضاء (¬11). من هذا نرى أن نشأة الخلافة الأندلسية تخالف نشأة الخلافة في الممالك الإسلامية الأخرى، فهي عبارة عن عقد بين الحاكم والمحكوم، في حين أن الخلافة العباسية تقوم على أساس الميراث عن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلافة الفاطمية تقوم على الحق الطبيعي الموروث الذي يأتي عن طريق فاطمة الزهراء (¬12). استمرت الخلافة الأموية في الأندلس تجمع بين السلطتين الزمنية والروحية، إلى أن جاء الحاجب المنصور وأولاده من بعده، فانتزعوا منها السلطة الزمنية اعتباراً من عام 366 هـ، فاستبدوا بالأمر وأصبح حال الخلافة الأندلسية كحال الخلافة العباسية أيام سيطرة البويهيين (334 - 447 هـ) وسيطرة السلاجقة (447 - 590 هـ)، وكحال الخلافة الفاطمية بعد سيطرة الوزراء عليها بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر عام 478 هـ. ومعروف تاريخياً أن فترة الحجابة انتهت عام 399 هـ، وبدأت فتنة الخلافة الأندلسية وتسمى الفتنة المبيرة 399 - 422 هـ، التي كانت مليئة بالفتن والاضطرابات، وتصارعت فيها عناصر البربر والصقالبة وأهل قرطبة، وحكمها عدة خلفاء ضعفاء يتجاوز عددهم 14 خليفة حكم بعضهم أكثر من مرة (¬13). وفي سنة 422 هـ سقطت الدولة الأموية بعد عزل آخر خلفائها هشام الثالث المعتد ¬_______ (¬10) النباهي، تاريخ قضاة الأندلس (المرقبة العليا)، ص 69 - 70. (¬11) العبادي، دراسات، ص 63. (¬12) العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 381 - 382. (¬13) ينظر، الحميدي، جذوة المقتبس، ص 18 وبعدها - هيكل، الأدب الأندلسي، ص 342 (هامش 2).

بالله، وإجلاء من تبقى من المروانية عن قرطبة، وأعلن الوزير أبو الحزم بن جهور إلغاء الخلافة وأصبح الأمر شورى فظهرت حكومة الجماعة في قرطبة (¬14)، ثم قامت دويلات الطوائف في سائر أنحاء الأندلس. لا ينكر أن معظم ملوك الطوائف كانوا في قرارة أنفسهم يتطلعون إلى الخلافة، فقد كان كل واحد منهم يود أن يصل إليها (¬15)، وأن تتجمع له الصفات المعنوية التي كان يتمتع بها الخلفاء الأمويون، إلا أنه لم يجرأ أحدهم على ذلك، ولو أنهم تلقبوا بألقاب الخلفاء. فنرى مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية ينصب (أبا عبد الله بن عبد الله بن الوليد ويعرف بالمعيطي وهو من بني أمية) (¬16). شبه خليفة، وسماه بأمير المؤمنين المستنصر بالله (¬17). كما قام الحاجب إسماعيل بن عباد بإرسال الرسل إلى جميع أنحاء الأندلس يطلب الدخول في طاعة الخليفة المزعوم (هشام المؤيد) الذي اختلفت الروايات في مصيره. وقد استجاب لذلك الكثير من ملوك الطوائف أمثال: مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، وعبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، وأبي الحزم جهور صاحب قرطبة، وبني ذي النون ملوك طليطلة (¬18). ولعل هذه الظاهرة التي سمتها بعض المراجع بـ (وهم الخلافة) يقصد بها وجود خليفة يتمتع ظاهرياً بنوع من القوة والنفوذ وذلك إرضاء لعامة أهل الأندلس الذين ما زالوا يذكرون الأوقات الطيبة عن الخلافة الأموية، هذا إلى جانب المظاهر الروحانية والدينية التي تحيط بالخلافة. فقد كان للخليفة وحده حق الإمامة والزعامة الدينية، لذلك لم يكن من السهل على أكثر أمراء الطوائف أن يحتلوا مكان الخليفة، لأنهم كانوا مجرد حكام صغار لا ينحدرون من سلالات معروفة تتناسب مع وقار الخلافة وهيبتها (¬19). وقد وجهت انتقادات لاذعة لأمراء الطوائف الذين اتخذوا ألقاب الخلفاء استكمالاً لمظاهر السلطان والعظمة (¬20)، وقد أشار إلى ذلك الشاعر (أبو علي الحسن بن رشيق) بقوله: ¬_______ (¬14) عنان، دول الطوائف، 22. (¬15) السامرائى، علاقات، 40 وما بعدها. (¬16) ابن بشكوال، الصلة، ج 1، ص 269 ترجمة رقم (593). (¬17) ابن الأثير، الكامل، ج 9، ص 280. (¬18) ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 278 - 279 - عنان، دولة الطوائف، ص 99. (¬19) تشراكوا، مجاهد العامري، ص 40 - السامرائي، علاقات، ص 46 - 47. (¬20) عنان، دولة الطوائف، ص 14 - 15.

مما يزهدني في أرض أندلس ... أسماء مقتدر فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد (¬21) انتهى عصر الطوائف، بدخول الأندلس ضمن أملاك الدولة المرابطية فأصبحت الأندلس ولاية مرابطية يحكمها أمراء مرابطيون تابعون لحكام المرابطين في مراكش، إلا أنه يلاحظ أن الدولة المرابطية أعلنت ولاءها المبكر للخلافة العباسية، وبالذات اعتباراً من عام 450 هـ، وأرسل حكام المرابطين السفارات إلى بغداد لهذا الغرض وأشهرها سفارة العالم أبي بكر عبد الله بن محمد المعافري وولده القاضي أبي بكر (485 - 493 هـ). كما اتخذ المرابطون اللون الأسود شعاراً لهم، ومن المعروف أن هذا اللون هو شعار العباسيين، وضربوا على نقودهم لقب الخليفة العباسي، ولقب حاكم المرابطين إسمه باسم أمير المسلمين (¬22). ثم خضعت الأندلس لدولة الموحدين، وحكمها ولاة تابعون لحكام الموحدين في المغرب. ورأى الموحدون أنهم أحق الناس بالخلافة، ولأنهم دون غيرهم الموحدون المؤمنون، فأقاموا لأنفسهم خلافة شرعية خاصة، ولقبوا أنفسهم بأمراء المؤمنين، وعززوا ذلك بانتمائهم إلى بيت رسول الله عن طريق الأدارسة، واتخذوا اللون الأخضر شعاراً لهم (¬23). وكان من أهداف الخلفاء الموحدين النزوح نحو المشرق وفرض خلافتهم على مشرق العالم الإسلامي، ومعنى ذلك أن الموحدين لا يعترفون بالخلافة العباسية (¬24). ولما ثار محمد بن هود على الموحدين عام 625 هـ وأقام إمارة مستقلة له، لقب نفسه بأمير المسلمين مقلداً بذلك أمراء المرابطين، فقطع الخطبة للموحدين وخطب للخليفة العباسي، ونشر الرايات السود (¬25). وفي عام 631 هـ وصل إلى الأندلس أبو علي حسن بن علي الكردي المقب بالكمال قادماً من بغداد رسولاً من قبل الخليفة ¬_______ (¬21) ابن الأثير، الكامل، ج 9، ص 284 - ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 244 - الحموي، معجم الأدباء، ج 19، ص 37 - 38. (¬22) ينظر، السامرائي، علاقات، ص 377 وما بعدها. (¬23) المراكشي، المعجب، ص 245 - ص 255 - العبادي، دراسات ص 110 - عبد الله علي علام، الدعوة الموحدية بالمغرب، ص 166. (¬24) العبادي، دراسات، ص 114، ص 116. (¬25) أبو رميلة، علاقات، ص 196.

العباسي المستنصر بالله (623 - 640 هـ)، حاملاً كتاب تقليد ابن هود ولاية الأندلس، ولقبه المتوكل أمير المسلمين، والراية السوداء، والخلع والهدايا (¬26). كذلك لما ثار أبو جميل زيان على الموحدين عام 626 هـ، دعى للخليفة العباسي المستنصر بالله أيضاً (¬27). ومملكة غرناطة التي حكمتها الأسرة النصرية بالوراثة، فقد أعلن أمراء هذه الأسرة ولاءهم للخلافة العباسية حيناً ولملوك بلاد عدوة المغرب حيناً آخر، ولقب أمراؤهم بلقب السلطان وأمير المسلمين، مع العلم أن ألقاباً أخرى غلبت على بعضهم كالمخلوع والزُغل والزغيبي. وعرف بعض سلاطينهم بالقوة، ووقع البعض الآخر تحت سيطرة الوزراء (¬28). 2 - نظام الحجابة والوزراء: أ - الحجابة: الحاجب منصب إداري مشرقي، مهمته إدخال الناس على الخليفة حسب مقامهم وأهمية أعمالهم (¬29). ولكن هذا المنصب في الأندلس الذي أوجده الأمير عبد الرحمن الداخل (138 - 172 هـ) وقلده أخلص رجاله، من أمثال: يوسف بن بخت وعبد الواحد ابن مغيث الرومي وغيرهم (¬30)، هو بمثابة رئيس الوزراء الذي يعتبر حلقة الوصل بين الأمير الأموي وبين وزرائه (¬31). واعتمدت الإمارة الأموية على أسر معينة فولت رؤساءها الحجابة مثل أسرة أبي عبدة، وأسرة ابن شُهيد وغيرهما. ففي عهد الأمير هشام 172 - 180 هـ تولى الحجابة أبو أمية عبد الغافر بن أبي عبدة، وكان حاجب الأمير الحكم بن هشام 180 - 206 هـ أخاه أبا عبدة عبد العزيز (¬32). ويخبرنا ابن عذاري بأن حجاب الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ) هما عيسى بن شهيد وابن أبي عبدة (¬33). ¬_______ (¬26) عنان، عصر الموحدين، ص 411 - 412. (¬27) أبو رميلة، علاقات، ص 208. (¬28) فرحات، غرناطة، ص 69 - 72 - أبو رميلة، علاقات، ص 215 - 216. (¬29) حسن إبراهيم حسن وآخر، النظم الإسلامية، ص 186. (¬30) إبراهيم الدوري، عبد الرحمن الداخل، ص 230 وما بعدها. (¬31) ابن خلدون، المقدمة، ص 240 - ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 1، ص 450 - 451. (¬32) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 30 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 251. (¬33) البيان المغرب، ج 2، ص 93.

وتولى عيسى بن الحسن بن أبي عبدة الحجابة للأمير محمد (238 - 273 هـ) بعد وفاة الحاجب عيسى بن شُهيد. ووصفت لنا بعض الروايات بساطة هذا الحاجب وسلامة نيته (¬34). وشغل أبو عثمان عبيد الله بن محمد بن الغمر بن أبي عبدة حاجب الأمير محمد في عهد والده الأمير عبد الله (275 - 300 هـ). ويبدو لنا أن هذا المنصب الإداري (حاجب أولاد الأمراء) لا يعطي صلاحيات الحاجب نفسها الذي يكون بمثابة رئيس الوزراء. وربما يعني الوزير الخاص للأمير الولد في عهد والده. وقد استغنى الأمير عبد الله عن منصب الحجابة آخر أيامه مكتفياً بوصيفه بدر بن أحمد الصقلبي الذي كان ينظم أموره (¬35). وكان بدر مولى الأمير الناصر من أشهر حجاب هذا الأمير (300 - 350 هـ)، واشتهر الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي بتولي هذه الخطة على أيام الخليفة الحكم (350 - 366 هـ) (¬36). وبعد وفاة الحكم عام 366 هـ سيطر الحاجب المنصور على مقاليد الأمور وعرفت هذه الفترة 366 - 399 هـ بفترة الحجابة تولى أمرها الحاجب المنصور وأولاده من بعده وقد أحاط الحاجب المنصور نفسه بهالة من الأبهة والفخامة حتى إن الوزراء وغيرهم كانوا يقبلون يديه، كما أنه حجر على الخليفة هشام وساواه في المراتب (¬37). ولما سقطت الخلافة الأندلسية، وقامت على أنقاضها دويلات الطوائف، اتخذ بعضهم لقب الحاجب مثل سابور الفارسي، وهو أول المستقلين في منطقة بطليوس. وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، وأحمد بن قاسم أمير البونت (¬38). وعندما أصبحت الأندلس ولاية مرابطية، لم نر في نظم المرابطين من حمل إسم الحاجب، وكذلك الحال بالنسبة لدولة الموحدين. إلا أن الوزير أحياناً في دولة الموحدين يقوم مقام الحاجب، أي إختصاصه هنا رئيس تشريفات، فهو الذي يحجب الخليفة عن الخاصة والعامة ويأذن للوفود بالدخول عليه مع تقديم كل فرد بذكر إسمه ¬_______ (¬34) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 25 - 29. (¬35) ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 4. (¬36) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 158، ص 251. (¬37) أيضاً، ج 2، ص 279 - العبادي، دراسات، ص 150. (¬38) الحميري، الروض المعطار، ص 56 - العبادي، دراسات، ص 150 - 151.

ونسبه وبلده (¬39). ولكن وجد حجاب للمهدي بن تومرت وللخلفاء الموحدين الآخرين، ولكن الذي يبدو أن هؤلاء لم يكونوا بمثابة رئيس وزراء، بل عملهم يقتصر على خدمة الخليفة الموحدي ومرافقته في حله وترحاله (¬40). ووجد لقب الحاجب في مملكة غرناطة أي بمعنى رئيس الوزراء، وكان له نفوذ كبير (¬41). وكان الحاجب يوجه الهيئة الحاكمة ويتولى رئاسة القصر الملكي، والسلطان محمد الرابع هو أول من أوجد هذا المنصب عام 729 هـ/عندما عين أبا النعيم رضوان حاجباً له وسلمه إدارة المملكة السياسية والعسكرية (¬42). ب - الوزارة: وجد نظام الوزارة في الأندلس منذ قيام الإمارة الأموية. وكانت وزارة متعددة المناصب، لها رئيس وزارة يسمى الحاجب، وهو حلقة اتصال بين الوزراء والأمير. وهذا التعدد في عدد الوزراء لا نجده في المشرق، حيث كانت السلطة مركزةً في يد وزير واحد، وقلما وجد وزيران. أما في الأندلس فلكل ناحية من نواحي الإدارة العامة لها وزير يختص بها، وهناك بيت خاص لانعقاد مجلس الوزراء في قصر الإمارة (¬43). وبعد أن توطدت الأمور للأمير عبد الرحمن الداخل (138 - 172 هـ)، إستوزر عدة أشخاص من رجاله الأكفاء منهم: أبو عبده حسان بن مالك وابنه عبد الغافر؛ وشهيد بن عيسى بن شُهيد، وثعلبة بن عبيد الجذامي وغيرهم (¬44). وعَدّل الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ) نظام الوزراء، فقسمها إلى عدة وزارات مختلفة، وألزم وزراءه الحضور يومياً إلى بيت الوزارة الذي خصصه لهم في قصر الإمارة، وذلك من أجل مشاورتهم في جميع أمور الدولة (¬45). ومن أشهر وزراء هذا الأمير حسن بن عبد الغافر ¬_______ (¬39) ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 457. (¬40) المراكشي، المعجب، ص 338 - العبادي، دراسات، ص 158 - 159. (¬41) العبادي، دراسات، ص 230. (¬42) فرحات، غرناطة، ص 74. (¬43) ابن خلدون، المقدمة، ص 239 - 40 - ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 1، ص 450 - العبادي، دراسات، ص 144 - 146. (¬44) ينظر، مؤلف مجهول، أخبار مجموعة، ص 76 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 246 - 247، ج 2، ص 30 - ابن عذاري، البيان المغرب، ج 2، ص 48 - إبراهيم الدوري، عبد الرحمن الداخل، ص 236 وبعدها. (¬45) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 80 - العبادي، دراسات، ص 142 - 143.

ابن أبي عبدة (¬46). وأقر الأمير محمد بن عبد الرحمن 238 - 273 هـ حاجب أبيه عيسى ابن شُهيد ومعظم الوزراء الذين كانوا يتولون خدمة أبيه (¬47). كما أن الأمير محمد وضع نظاماً جديداً للوزارة يمتاز فيه الوزراء بنوع من التعظيم، وقدم الوزراء الشاميين على الوزراء البلديين وأعلاهم في الجلوس على كراسيهم ببيت الوزارة (¬48). وفي عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) ازداد عدد الوزراء، واحتلت أسرة أبي عبدة مكانة في هذا العصر حيث تولى خمسة أفراد منها الوزارة في آن واحد (¬49). واستمر الأمير عبد الله على سياسة والده الأمير محمد في تقديم الوزراء الشاميين على الوزراء البلديين. فقد اجتمع في عهده وزير شامي وهو موسى بن حُدير، ووزير بلدي وهو عيسى بن أحمد بن محمد أبي عبدة. وأراد عيسى التقدم على صاحبه معتزاً بمكانة أبيه الوزير القائد أبي العباس صاحب الفضل في إنقاذ الإمارة من الضياع، لكن الأمير عبد الله آثر أن يظل الأمر كما رسمه أبوه للوزارة، أي قرر أن يظل بنو حدير متقدمين على بني أبي عبدة (¬50). وفي عهد الخليفة الناصر (300 - 350 هـ) استمرت أسرة أبي عبدة تتولى المناصب الوزارية وقد اعتمد عليها الناصر اعتماداً كبيراً في الشؤون الإدارية والحربية (¬51). وفي عهد هذا الخليفة أطلق لقب (ذو الوزارتين) على بعض الوزراء والحجاب في الأندلس، فقد أطلقه الناصر على وزيره أحمد بن عبد الملك بن شُهيد عام 327 هـ (¬52)، وهو لقب تشريفي مثل لقب (ذو السيفين) الذي منحه الحكم لقائده غالب بن عبد الرحمن، بعد أن قلده سيفين عقب انتصاره على بقايا الأدارسة عام 364 هـ (¬53). ¬_______ (¬46) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 29 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 274. (¬47) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 290. (¬48) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 137 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 120 - 121. (¬49) ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 5 - 6 - ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، ص 104 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 146، ص 245، ص 247. (¬50) ابن حيان؛ المقتبس، ج 2، ص 196 - 197 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 120 - 121. (¬51) ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 97، ص 210، ص 215، ص 242 - ابن عذاري، البيان المغرب، ج 2، ص 158، ص 160، ص 164. (¬52) المقري، نفح، ج 1، ص 333 - 334. (¬53) سالم، دراسات، ص 148 - 149 - Provençal, op. cit, 3, P: 21-22

وفي فترة الحجابة 366 - 399 هـ قلت أهمية الوزير، مما فرض عليه من الخضوع للحاجب وتقبيل يديه، وبذلك ضعفت شخصية الوزير، ومما يدل على ذلك أن زيري ابن عطية زعيم قبيلة مغراوة الزناتية في المغرب احتقر لقب وزير الذي أنعم عليه به الحاجب المنصور، بعد مساعدته في إخماد حركة الحسن بن كنون (¬54). ولما سقطت الخلافة الأندلسية وقام عصر الطوائف. انحطت مرتبة الوزير وصار هذا المنصب يمنح للطبقة الوسطى من الموظفين والكتاب وشيوخ القرى. كذلك زاد استعمال الألقاب التشريفية المزدوجة مثل: ذو الوزارتين وذو الرياستين، وذو المجدين وذو السيادتين (¬55). ولكن مع هذا وجد وزراء مشهورون في هذه الفترة أمثال أبي بكر بن عمار وزير المعتمد بن عباد، والوزير ابن الحضرمي وزير المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، والوزير ابن الحديدي وزير المأمون بن ذنون صاحب طليطلة. وغيرهم كثير (¬56). وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، واحتل الوزير في عهدهم مكاناً مرموقاً، وكان الشخص المقرب من السلطان، وكان يستشيره في كل الأمور (¬57). ووجد في دولة المرابطين نوعان من الوزراء: 1 - وزراء عسكريون، وهم من قرابة السلطان، ومن قبائل لمتونة وصنهاجة. 2 - وزراء كتاب وهم من الفقهاء. ومن الوزراء الأندلسيين الذين اعتمد عليهم السلطان المرابطي علي بن يوسف، الوزير الفقيه مالك بن وهيب الإشبيلي، وهو الذي أشار على هذا السلطان بقتل محمد ابن تومرت لما استفحل أمره (¬58). واشتهر كذلك الوزير أبو بكر بن باجة العالم المشهور (¬59). وفي عهد الموحدين، اعتمدوا نظام الوزارة بجانب مشيخة الموحدين وعرفوا بإسم ¬_______ (¬54) السلاوي، الاستقصاء، ج 1، ص 211 - العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 448. (¬55) العبادي، دراسات، ص 151. (¬56) ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 66، ص 89، ص 98. (¬57) حسن أحمد محمود، قيام دولة المرابطين، ص 362 - العبادي، دراسات، ص 151. (¬58) المراكشي، المعجب، ص 252 - 253. (¬59) السامرائي، علاقات، ص 417.

العشرة أو أهل الجماعة (¬60). وكان منصب الوزير من المناصب المهمة، وقد شغله عدد من أبناء الخلفاء وإخوتهم ولذا سموا بالسادة أو الأسياد، وهؤلاء الوزراء الأسياد يتخذون غالباً وزراء يعاونوهم (¬61). ومن الوزراء أصحاب الأصول الأندلسية الذين وزروا للخلفاء الموحدين، أبو العلاء إدريس بن إبراهيم بن جامع وزير الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (558 - 580 هـ)، وكان والده إبراهيم بن جامع من مدينة شريش الأندلسية وكان من أعوان ابن تومرت، وأصبح لأبي العلاء مكانة مرموقة في البلاط الموحدي (¬62). وكذلك الوزير أبو بكر محمد بن عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر الأيادي (توفي عام 595 هـ) الذي كان وزيراً للخليفة يعقوب المنصور (580 - 595 هـ)، وكان دائم التردد بين المغرب والأندلس (¬63). وكان وزير الموحدين أحياناً يقوم بمهمة الإشراف على الأندلس وتفقد أحوالها، وبعضهم شارك في معارك الجهاد الأندلسية التي خاضتها القوات الموحدية والأندلسية ضد الممالك الإسبانية، واستشهدوا فيها (¬64). ونرى كذلك أن بعض حكام مدن الأندلس الموحدين يُعين لهم وزير يساعده في إدارة الولاية (¬65). أما نظام الوزارة في عهد مملكة غرناطة، فكان له مكانة عالية، وكان الوزير دائماً ينوب عن السلطان، وهو الذي يهيمن على شؤون الدولة المدنية والعسكرية، ولذا كثيراً ما كان الوزير الغرناطي يلقب بألقاب تدل على قوة نفوذه مثل: لقب الرئيس وعماد الدولة، وذي الوزارتين وغير ذلك (¬66). وتقلد منصب الوزارة في مملكة غرناطة أشخاص من علية القوم، وأشخاص عاديون، وأحياناً من أرقاء الإسبان (¬67). ¬_______ (¬60) القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص 126 - علام، الدولة الموحدية بالمغرب، ص 67. (¬61) العبادي، دراسات، ص 157. (¬62) المراكشي، المعجب، ص 316. (¬63) السلاوي، الاستقصا، ج 2، ص 179 - 180. (¬64) المراكشي، المعجب، ص 359 - العبادي، دراسات، ص 166، ص 168. (¬65) ابن عذاري، البيان الموحدي، ص 67. (¬66) ينظر، العبادي، دراسات، ص 230. (¬67) ابن الخطيب، اللمحة البدرية. ص 94، ص 115 - فرحات، غرناطة، ص 74 - 75.

وكان لوزراء بني الأحمر أدوار سياسية مهمة من خلال المهمات التي أوكلت إلى بعضهم، فالوزير ابن الخطيب ذهب سفيراً إلى فاس، ثم أرسل مرة أخرى إلى عدوة المغرب كي يطلب عون المرينيين لصد الخطر الإسباني. والوزير ابن زمرك قام بتسع رحلات إلى بلاد الإسبان من أجل عقد معاهدات صلح، وبعض الوزراء قاد بعض الحملات العسكرية أمثال الوزير أبي النعيم رضوان (¬68). واكتفى بعض سلاطين غرناطة بوزير واحد، بينما نجد في عهد السلاطين الآخرين عدة وزراء، ووصل عددهم إلى خمسة وزراء، واشتهرت بعض العائلات بتولي أبنائها مناصب الوزارة مثل عائلة آل الأمين وبني عبد البر وبني سراج وغيرهم (¬69). 3 - النظام الإداري (ولاية الأقاليم): ترددت الأندلس، في ارتباطها الإداري، بين ولاية الشمال الأفريقي والإشراف المباشر لمركز الخلافة. وعندما تكون الأندلس تابعة لولاية الشمال الأفريقي يقوم والي القيروان بتعيين ولاة الأندلس، مثل الحر بن عبد الرحمن الثقفي (توفي عام 100 هـ)، وعنبسة بن سحيم الكلبي (توفي عام 107 هـ). ثم اتبعت الأندلس مركز الخلافة الأموية في دمشق أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) من أجل الإسراع في الإنجاز والإشراف المباشر، فعين السمح بن مالك والياً عليها (توفي عام 102 هـ) (¬70). لكنها عادت ولاية تابعة لأفريقية في ولاية عنبسة (استشهد عام 107 هـ)، ومن جاء بعده (¬71). وهكذا ترددت تبعية الأندلس بين الإشراف المباشر للخلافة عليها، وبوساطة ولاية الشمال الأفريقي، حسب مقتضيات الأمور (¬72). لكن قد تفرض ظروف الأندلس أحياناً تعيين والٍ بسرعة، فيتفق أهل الأندلس على شخص معين يولونه أمر الأندلس، حتى يأتي غيره، ويؤيد الخليفة أو والي أفريقية هذا. كما حدث بعد مقتل عبد العزيز بن موسى، إذ عين أهل الأندلس الوالي أيوب بن حبيب اللخمي (رجب - ذو الحجة 97 هـ). كذلك الحال عند استشهاد السمح (عام 102 هـ). ¬_______ (¬68) أيضاً، ص 122 - ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 306. (¬69) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 52، ص 63، 71، ص 79 - فرحات، غرناطة، ص 77. (¬70) ابن عذاري، البيان، ج 2، 26. (¬71) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 29. (¬72) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 132، ص 137.

وفي هذه الحال يكتب بالأمر إلى والي الشمال الأفريقي لإقراره أو تعيين غيره (¬73). وكانت الأندلس، أغلب فترة الولاة (95 - 138 هـ) تابعة لولاية أفريقية، وكانت مدينة أشبيلية قاعدة الولاية، ثم انتقلت إلى مدينة قرطبة ذات الموقع المتوسط بين الساحل والداخل (¬74). استفاد عرب الأندلس من النظام الإداري الذي وجدوه بالأندلس، فعدلوا به بعض الشيء، في عصر الولاة (95 - 138 هـ)، بحسب ما اقتبسوه من النظم الإدارية المشرقية، ومال أهل الأندلس في التنظيم الإداري نحو الأقسام الإدارية الصغيرة تسهيلاً لتوفير الأمن وتنظيم الأمور المالية (¬75). ويبدو أن النظام الإداري للأندلس لم تتضح معالمه إلا في أواخر عصر الولاة، وذلك عندما قسم الوالي يوسف الفهري (129 - 138 هـ) الأندلس إلى خمس ولايات وهي: ولاية الأندلس (ولاية باطقة) وتقع بين نهر وادي يانة والبحر المتوسط، وأشهر مدنها قرطبة، وقرمونة، إشبيلية، ومالقة، والبيرة، وجيان، وإستجة. وولاية طليطلة (ولاية قرطاجنة القديمة) وتمتد بين جبال قرطبة حتى نهر دويرة، وأشهر مدنها: طليطلة ومرسية ولورقة وشاطبة ودانية وبلنسية ووادي الحجارة وقونقة. وولاية ماردة (ولاية جليقية القديمة - لوجدانيا) وتمتد فيما وراء نهر وادي يانة شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً، وأشهر مدنها: ماردة وباجة وأشبونة وإسترقة وسمورة وشلمنقة. وولاية سرقسطة (ولاية كانتبرية القديمة) وتمتد من ساحل البحر المتوسط عند طركونة وبرشلونة إلى جبال البرنية وبلاد البشكنس، وأشهر مدنها: سرقسطة وطركونة وبرشلونة ولاردة وطرطوشة ووشقة. وولاية أربونة (ولاية الثغر) في الأراضي الفرنسية وتشمل مصب نهر الرون، وأشهر مدنها: أربونة وقرقشونة ونيم وماجلونة (¬76). نلاحظ من كل هذا أن الوالي الكبير في قرطبة مسؤول عن الولاة الخمسة لهذا التنظيم الإداري، وكل والٍ فرعي مسؤول عن ولايته، لأن كل ولاية تتبعها مجموعة مدن وهي الكور، وكل كورة يتبعها عدة أقاليم (قرى كبيرة)، وكل إقليم يتبعه عدة أجزاء ¬_______ (¬73) مؤلف مجهول، أخبار مجموعة، ص 25 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 27، ص 29. (¬74) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 132 - سالم، قرطبة، ج 1، ص 30 - 31. (¬75) مؤنس، فجر الأندلس، ص 554، ص 577. (¬76) عنان، دولة الإسلام، ج 1 ص 132 - 133.

(أرياف) (¬77). وقد أورد لنا العذري الكثير من أسماء الأقاليم والأجزاء التابعة لكورة بلنسية ولكورة سرقسطة، وذكر لنا أقاليم البيرة وأجزاءها، وكدلك أقاليم إشبيلية، وأقاليم قرطبة (¬78). في عصر الإمارة (138 - 316 هـ)، أصبحت الأندلس إمارة مستقلة قاعدتها قرطبة، وتولى أمرها الداخل وذريته من بعده، كما هو معروف. ويبدو لنا خلال هذه الفترة أن النظام الإداري في الأندلس بقي على حاله السابق، واعتمد الداخل والأمراء من بعده في إدارة الثغور والولايات والكور على جماعة مختارة من الأعوان المخلصين، ومن أفراد البيت الحاكم، مع الاعتماد على أسر اشتهرت في الأندلس، مثل أسرة أبي عبدة، وأسرة بني شُهيد وأسرة مغيث الرومي وغيرهم. فمثلاً أعطى عبد الرحمن الداخل ولاية إشبيلية إلى حسان بن مالك (أبو عبدة)، وقضى هذا الوالي على حركات التمرد هناك، وضبط أحوال الولاية، وأصبح لهذه الأسرة (أسرة أبي عبدة) نفوذ كبير في هذه الولاية (¬79). وخلال عصر الإمارة هذا استجدت عدة ظواهر فيما يتعلق بالنظام الإداري: 1 - الظاهرة الأولى: فقدت الأندلس ولاية أربونة (ولاية الثغر)، حيث استرجعتها فرنسا، كما زحفت عبر جبال البرتات وسيطرت على مدينة برشلونة عام 185 هـ/801 م، وجعلت هذه المدينة قاعدة لولاية فرنسية تسمى بالثغر القوطي أو المارك الإسباني ويتألف من مدن جيرونة وسولسونة وبرشلونة وأربونة وغيرها. وبذلك أصبحت هذه الولاية الفرنسية سداً حاجزاً بين المسلمين في الأندلس وبلاد فرنسا، وحاولت إمارة الأندلس استرجاع هذه المناطق فلم تلق نجاحاً كبيراً، ما عدا حملات عسكرية جهادية تكتفي بالنصر أحياناً على الأعداء دون استرجاع المدن (¬80). ¬_______ (¬77) مؤنس، فجر الأندلس، ص 579 وما بعدها. (¬78) نصوص عن الأندلس، ص 17، ص 20، ص 24، ص 90، ص 109، ص 124. (¬79) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 68 - مؤلف مجهول، فتح الأندلس، ص 67 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 146 - ابن خلدون، تاريخ - ج 4، ص 135. (¬80) ينظر، النويري، نهاية الأرب، ج 22، ص 21 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 223 السامرائي، الثغر الأعلى ص 241 - Provençal, op, cit, I, 128. - رينو، غزوات، ص 165 - 166.

2 - الظاهرة الثانية: في أواخر عصر الولاة، وبداية عصر الإمارة بدأت الفلول الإسبانية تجمع نفسها، فأقامت لها إمارات صغيرة في الشمال الإسباني مستغلة سوء الأحوال في الأندلس، فظهر المارك الإسباني، وقامت إمارة النافار، وإمارة أشتوريش (إمارة ليون) (¬81). فظهرت إمارات حدودية أندلسية مقابلة لهذه الإمارات الإسبانية، تسمى بالثغور الأندلسية، وهذه الثغور ثلاثة هي: 1 - الثغر الأعلى: ويشمل في الجغرافية الأندلسية ولاية سرقسطة وأعمالها. وتعتبر مدينة سرقسطة قاعدة لهذا الثغر، ويواجه هذا الثغر المارك الإسباني وإمارة النافار. 2 - الثغر الأوسط: يشمل ولاية طليطلة، وكانت قاعدته الأولى مدينة سالم ثم أصبحت مدينة طليطلة، ويواجه هذا الثغر إمارة ليون بالدرجة الأولى. 3 - الثغر الأدنى: ويشمل المنطقة الواقعة بين نهر دويرة ونهر التاجة، ومن أشهر مدن هذا الثغر مدينة قورية ومدينة قلمرية، وكانت مدينة قورية عموماً قاعدة لهذا الثغر. وأصبح مدلول مصطلح الثغور في الجغرافية الأندلسية يعني هذه الثغور الثلاثة (¬82). ومن سكنها يطلق عليه لقب ثغري (¬83). وتأتي أهمية هذه الثغور من كونها أصبحت المراكز المهمة التي تنطلق منها الجيوش الأندلسية لمجاهدة الإمارات الإسبانية التي ظهرت في الشمال والتي أخذت تسترجع المدن الأندلسية تباعاً. كما أصبحت هذه الثغور مركزاً مهماً لحركات التمرد ضد حكومة الإمارة في قرطبة، وقد أحرجت مركزها في كثير من الأحيان. ¬_______ (¬81) أرسلان، الحلل السندسية، ج 2، ص 113 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 159. (¬82) ينظر: ابن بشكوال، الصلة، ج 1، ص 14. (¬83) السامرائي، الثغر الأعلى، ص 39 وما بعدها.

3 - الظاهرة الثالثة: فتح الجزائر الشرقية عام 290 هـ/903 م بقيادة عصام الخولاني وذلك في عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ). وأصبحت هذه الجزائر تابعة إدارياً إلى الأندلس وعين عصام الخولاني أول عامل أندلسي عليها (¬84). ويبدو لنا أن النظام الإداري أصيب بالإرتباك خلال عصر الأمير عبد الله، نظراً لقيام حركات التمرد في سائر أنحاء الأندلس، ولم يبق لحكومة الإمارة في قرطبة سلطان حقيقي إلا في منطقة العاصمة وأحوازها (¬85). وقد بذل هذا الأمير قصارى جهده من أجل إعادة سلطان قرطبة على الولايات، وكذلك فعل الأمير عبد الرحمن الناصر (300 - 316 هـ) قبل أن يعلن الخلافة الأندلسية، وقد بدأ عصره بقمع هذه الفتن وسار بنفسه يعاونه خيرة قوّاده في إخماد حركات التمرد، وقد أفلح في ذلك (¬86). ولعل القضاء على حركات التمرد هذه من الأسباب التي دفعت هذا الأمير إلى إعلان الخلافة (¬87). ويبدو خلال عصر الخلافة (316 - 422 هـ) أن النظام الإداري هو استمرار لهذا النظام منذ عصر الإمارة، ولكن الشيء الجديد الذي استحدث خلال عصر الخلافة، هو إيجاد إمارة الثغور إيجاداً مستقلاً، وأعطيت إمارة الثغر الأعلى أهمية كبيرة (¬88). وبعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بالخليفة الناصر وجيشه أمام جيوش مملكة ليون الإسبانية عام 327 هـ/939 م في معركة الخندق (¬89)، اهتم الناصر بأمور الثغور الأندلسية واستمر في إعطاء إدارتها إلى الأسر المتنفذة فيها وهي أسرة بني تُجيب وأسرة بني ذي النون وبني الطويل وبني رزين، وكان يغدق عليهم الصلات والهدايا، وكان يزودهم كل عام بالعدد والسلاح من أجل الاستمرار في مدافعة ممالك الإسبان (¬90). ¬_______ (¬84) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 164 - السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 16. (¬85) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 323. (¬86) ينظر، نهلة شهاب أحمد " أسرة أبي عبدة ودورها في تاريخ الأندلس " حيث وضح دور هذه الأسرة في قمع الفتن الداخلية خلال عصر الإمارة. (¬87) العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 380. (¬88) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 315. (¬89) المسعودي، مروج، ج 1، ص 162 - مجهول، أخبار مجموعة، ص 156 - ابن الأثير، الكامل، ج 8، ص 358 - ابن الخطيب، أعمال، ص 36 - المقري، نفح، ج 1، ص 363. (¬90) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 421.

وفي عام 335 هـ/946 م عني الناصر بتجديد مدينة سالم وهي أقصى مدن الأندلس الشمالية الغربية على حدود مملكة ليون، فحصّنها وزودها بالعتاد والرجال، وكانت قد خربت من جرّاء غزوات الإسبان المتكررة (¬91). وسار عبد الرحمن الناصر على خطى جده الداخل في الاسترابة من القبائل العربية، وأقصى زعماءها عن مناصب النفوذ والإدارة، فعهد الخليفة الناصر المناصب المهمة إلى الموالي والصقالبة (¬92)، ولكن في عهد ولده الخليفة الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) اعتمد على خيرة الرجال في الجيش والإدارة، سواء من العرب أو البربر، ويأتي في مقدمتهم الحاجب المنصور والحاجب جعفر بن عثمان المصحفي. وكان القائد غالب بن عبد الرحمن الناصري والي مدينة سالم من رجالات الحكم المهمين، وهو الذي قلده الخليفة الحكم سيفين مذهبين من ذخائر سيوفه وسماه (ذا السيفين) (¬93). واعتمد الحاجب المنصور على نظام إداري متين مما مكنه من مواصلة الجهاد المستمر للممالك الإسبانية والانتصار عليها دائماً، ولذا وصف بمواصلة الحزم والحذر، ودائم السهر، لمراقبة أحوال البلاد (¬94). واضطرب النظام الإداري على ضوء اضطراب الأندلس السياسي خلال عصر الفتنة 399 - 422 هـ، كما هو معروف، وأصبح ولاة المدن في حل من تبعيتهم لقرطبة عاصمة الخلافة، واستقل كل والٍ وحاكم في منطقته وبذلك قام عصر الطوائف. وفي هذا العصر لم يتوفر في الأندلس نظام إداري موحد، بل إن كل مملكة من ممالك الطوائف لها نظامها الإداري، فهناك الأمير المقيم في قاعدة الإمارة، ولديه مجموعة من العمال أو الولاة الذين يعينهم لإدارة المدن والحصون التابعة لإمارته، ومن أجل ضمان السيطرة العسكرية على جميع أنحاء الإمارة الطائفية، نظراً لحرج هذه الإمارات بعضها أمام بعض، وأمام الممالك الإسبانية في الشمال (¬95). لذا نرى أن ملوك الطوائف يعهدون إدارة المدن والحصون المهمة إلى إخوانهم وأبنائهم وإلى أعوانهم المخلصين. ولكن حب الزعامة أولاً وبعد العامل عن مراقبة سيده ¬_______ (¬91) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 304. (¬92) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 450. (¬93) ابن حيان، المقتبس، تحقيق الحجي، ص 236. (¬94) ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 58، ص 74 - 75. (¬95) محمد بن عبود، التاريخ السياسي والاجتماعي لإشبيلية، ص 107.

ثانياً، وضحت لنا ظاهرة تمرد العمال على أسيادهم في عصر الطوائف، كما هو الحال في مملكة غرناطة ومملكة إشبيلية ومملكة سرقسطة ومملكة بطليوس وغيرها (¬96). وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية تتبع مراكش في عدوة المغرب، وعين لها قائد أعلى وهو الحاكم العام أو أمير الأندلس، وللمدن قادة آخرون خاضعون للقائد العام، ومهمة هؤلاء الإشراف على النواحي العسكرية والإدارية بالدرجة الأولى. وكانت الأندلس أيام المرابطين مقسمة إلى ست ولايات هي: غرناطة وقرطبة وإشبيلية وبلنسية ومرسية وسرقسطة (سقطت عام 512 هـ قبل انتهاء العصر المرابطي). وكانت مدينة قرطبة عاصمة الإمارة المرابطية ثم انتقلت في أوائل عهد علي بن يوسف إلى غرناطة، وفي أواخر عهده أعاد العاصمة إلى قرطبة مرة أخرى (¬97). وكانت مناصب الولاية المحلية في الأندلس، وقفاً على الأمراء والقادة المرابطين، ولا سيما أقرباء الحكام، وكان في مقدمة هؤلاء الأمير سير بن أبي بكر اللمتوني والي إشبيلية، ومحمد بن الحاج والي بلنسية وسرقسطة والأمير أبو محمد مزدلي والي قرطبة، والأمير وأنور بن بكر والي الجزائر الشرقية (¬98). وكان اختيار الوالي يقوم على أساس مكانته وعدالته وعلمه، وإذا أظهر شيئاً من التقصير يعزل أو ينقل إلى مكان آخر. وكان التأكيد والتوصية بحسن السيرة والرفق بالناس أمراً أساسياً، سواء بالنسبة لحاكم الدولة المرابطية أم للولاة والحكام المحليين (¬99). وأصبحت الأندلس ولاية موحدية، وكانت قاعدة الحكومة الموحدية في الأندلس مدينة إشبيلية، لأنها كانت أول قاعدة أندلسية نادت بطاعة الموحدين، ولأنها أول مدينة سيطر عليها الموحدون. إلا أن عبد المؤمن بن علي في أواخر أيامه أمر ولده أبا يعقوب يوسف والي إشبيلية، أن ينتقل إلى قرطبة ويتخذها قاعدة الحكم الموحدي في الأندلس لأنها تقع في وسط الأندلس. وبعد فترة قصيرة رجعت إشبيلية قاعدة للحكم طيلة العهد الموحدي (¬100). وإذا كانت نظم الحكم المرابطية للأندلس يغلب عليها الطابع العسكري، ¬_______ (¬96) ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 64، ص 88، ص 272. (¬97) عنان، عصر المرابطين، ص 60، ص 144، ص 415. (¬98) أيضاً، ص 415. (¬99) ينظر، الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 448 - 449. (¬100) عنان، عصر الموحدين، ص 618 - 619، ص 641.

فإن النظم الموحدية كانت أميل إلى الطابع المدني. وكانت ولاية الأندلس في العهد الموحدي تنقسم إلى عدة ولايات وهي: ولاية الغرب وتشمل شلب ويابره وباجة وماردة وبطليوس. وولاية إشبيلية وتشمل شريش وشذونة وقرمونة وإستجة وقرطبة وجيان، وولاية غرناطة وتشمل وادي آش والمنكب والمرية ومالقة والجزيرة الخضراء. وولاية بلنسية وتشمل قسطلونة وشاطبة ودانية والجزائر الشرقية. وولاية مرسية وتشتمل على لقنت ولورقة وأريولة (¬101). وكان يتولى حكم هذه الولايات عادة أبناء الخليفة الموحدي وإخوته أو أقرباؤه وأصهاره. وكان يتولى منصب الحاكم العام للأندلس على الأغلب واحد من أبناء الخليفة أو إخوته، وكان أول من تولاها من أبناء الخليفة السيد أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وذلك في عام 551 هـ. وكان لكل ولاية أندلسية حكومتها المحلية التي تضم إلى جانب الوالي الموحدي، الوزير والكاتب وصاحب الجباية عدا المناصب الدينية (¬102). ومملكة غرناطة الواقعة في الطرف الجنوبي من الأندلس، شملت ثلاث ولايات كبيرة ولاية غرناطة في الوسط وفيها العاصمة غرناطة، وولاية المرية في المشرق، وولاية مالقة في الجنوب والغرب (¬103). ومجموع أقاليم هذه المملكة كما يخبرنا ابن الخطيب ثلاثة وثلاثون إقليماً (¬104). وكانت هذه الأقاليم خاضعة لسلطة العمال والولاة الذين يختارهم السلطان النصري من ثقات رجاله، فيتخذ الولاة من قصبة المدينة (قلعتها) مقراً لولايتهم. ولكن بعض الولاة كانوا بحكم نفوذهم وقوتهم يفرضون أنفسهم على الأقاليم ويتوارثون حكمها فيقرهم السلطان على مقاطعاتهم بعد أن يظهروا الطاعة ويؤدوا الأموال (¬105)، ولعب الكثير من حكام الأقاليم دوراً كبيراً في تقرير مصير الحكم خلال هذا العصر، كما حصل خلال حكم السلطان محمد الثاني الفقيه (672 - 701 هـ) مثلاً (¬106). ¬_______ (¬101) عنان، عصر الموحدين، ص 641. (¬102) ينظر، الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 498، ص 500 - عنان، عصر الموحدين، ص 642. (¬103) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 115 - 119 - عنان، نهاية الأندلس، ص 55. (¬104) اللمحة البدرية، ص 28. (¬105) فرحات، غرناطة، ص 84. (¬106) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 58 وبعدها. ينظر، ص 66 - 67، ص 75.

4 - نظام الشرطة: بدأت ولاية الشرطة في الأندلس منذ عصر الأمير عبد الرحمن الداخل، (138 - 172 هـ) بعدما شعر بخطر اليمانية عليه بعد الانتصار في معركة المسارة، وذلك عندما منعهم من نهب قصور قرطبة (¬107). وأسند إدارتها إلى عبد الرحمن بن نعيم، ومن بعده للحصين بن الدجن العقيلي (¬108). وأول من تولى قيادة الشرطة من أسرة أبي عبدة هو عبد الغافر بن أبي عبدة، حيث تولاها للأمير هشام (172 - 180 هـ) (¬109). والأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ) هو الذي ميز ولاية السوق عن أحكام الشرطة المسماة بولاية المدينة، فأفردها وقرر لواليها ثلاثين ديناراً في الشهر، ولوالي المدينة مائة دينار (¬110). ويبدو أن صاحب المدينة كان يشرف على الخدمات العامة في العاصمة، إضافة إلى صلاحيات ولاية الشرطة العليا، ويستخدم سلطة جهاز الشرطة أيضاً في التحقيقات المدنية (¬111). وقسمت ولاية الشرطة إلى قسمين: ولاية الشرطة العليا (الكبرى) وجعل لصاحبها الحكم على أهل المراتب السلطانية والضرب على أيديهم في الظلامات، وعلى أيدي أقربائهم من أهل الجاه. وجعل لصاحبها كرسياً بباب دار الإمارة، وفي خدمته عدة رجال ينفذون أوامره. وولاية الشرطة الصغرى. وجعل لصاحبها الحكم على عامة الناس (¬112). وأخبرتنا بعض الروايات، أنه في عام 317 هـ/930 م استحدث منصب ولاية الشرطة الوسطى التي أعطيت إلى سعيد بن سعيد ابن حدير (¬113). وفي عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) تولى ولاية الشرطة العليا (صاحب المدينة) أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي عبدة، وكذلك أبو عثمان عبيد الله بن محمد الغمر بن أبي عبدة (¬114). وفي بداية عهد الأمير عبد الرحمن الناصر (300 - ¬_______ (¬107) إبراهيم الدوري، عبد الرحمن الداخل، ص 251. (¬108) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 355. (¬109) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 61. (¬110) خلاف " صاحب الشرطة " ص 63. (¬111) ابن خلدون، المقدمة، ص 251 - 252 - بدر، دراسات، ج 1، ص 165. (¬112) أيضاً، ص 251 - خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 64، ومجلة أوراق، ص 73. (¬113) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 202. (¬114) ابن القوطية، تاريخ، ص 104 - ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 146.

350 هـ) حصرت ولاية الشرطة العليا في أولاد الوزير القائد أبي العباس أحمد بن محمد، فتولاها أولاده الثلاثة: عباس وعبد الله وعيسى، وتولاها كذلك حفيده أحمد ابن عيسى (¬115). ونجد في أحداث القرن الرابع الهجري أن صاحب المدينة كان مستقلاً عن صاحب الشرطة، ونستدل على ذلك بما قاله ابن حيان في أحداث عام 361 هـ: " نظر الوزير صاحب المدينة بقرطبة جعفر بن عثمان مع صاحب الشرطة والسوق أحمد بن نصر فيما عهد إليه الخليفة المستنصر بالله " (¬116). واستمر كذلك أيام الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) الأنواع الثلاثة للشرطة، العليا والوسطى والصغرى (¬117). وأعطيت لصاحب الشرطة صلاحيات واسعة في الأندلس، تصل أحياناً إلى تنفيذ حكم الإعدام دون الرجوع إلى الحاكم (الخليفة) (¬118). وقد أشار ابن عبدون لهذه الخطة وسمى صاحبها الحاكم، وذكر لنا الصفات الجليلة التي يجب أن تتوفر فيه (¬119). ويبدو أن هذه الصفات كانت نظرية، فوجد عملياً من تولى أمر الشرطة من وصف بالتأخر في عقله وعلمه أمثال أمية بن أحمد بن حمزة القرشي الأموي (توفي عام 393 هـ) (¬120)، ومحمد بن يحيى بن قاسم القيسي (توفي عام 411 هـ)، وحسن بن محمد بن ذكوان (توفي عام 451 هـ) (¬121). ووجدت لدينا روايات تشير إلى أن صاحب الشرطة قد كلف بأعمال خارج اختصاصه، فمثلاً نرى صاحب الشرطة أحمد بن نصر شارك مع غيره في تشييد محراب المسجد الجامع على عهد الخليفة الحكم المستنصر (¬122). كما كلفه الخليفة المستنصر - بعد أن أعطاه ولاية السوق، بتوسيع المحجة العظمى بسوق قرطبة لضيقها وهدم ¬_______ (¬115) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 97، ص 107، ص 210، ص 215 - ابن عذاري، البيان المغرب، ج 2، ص 159 - 160، ص 167، ص 193، ص 196 - 197. (¬116) ابن حيان، المقتبس، تح الحجي، ص 66. (¬117) أيضاً، ص 59 - خلاف، " صاحب الشرطة " ص 65، ومجلة أوراق، ص 72 - 76. (¬118) ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 54. (¬119) ثلاث رسائل أندلسية في الحسبة، ص 11. (¬120) ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 266. (¬121) ابن بشكوال، الصلة، ترجمة (312)، ترجمة رقم (1102). (¬122) ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 167.

الحوانيت من أجل التوسيع، وكذلك كلفه بنقل دار البرد من غربي قرطبة إلى دار الزوامل التي بالمصارة من طرف قرطبة. وكلف أيضاً بقضاء كورة جيان (¬123). وشارك أصحاب الشرطة أيضاً في عصر الحكم المستنصر في عمليات الجهاد حيث خرجوا عام 364 هـ مع جيش الصائفة (¬124). وكان صاحب الشرطة أحياناً هو قائد الجيش في بعض الولايات الأندلسية، حيث يكلفه الخليفة في بعض المهام، كما هو حال صاحب الشرطة العليا وقائد بلنسية وطرطوشة هشام بن محمد بن عثمان (¬125). وفي عام 361 هـ أعطى الخليفة الحكم الشرطة الوسطى لمحمد بن أبي عامر وجعله أيضاً قاضي القضاة (¬126). وكان الخليفة الحكم يعهد لصاحب الشرطة والسوق بأعمال البر كتوزيع الأموال على الفقراء والمساكين (¬127). ومارس صاحب الشرطة بعض المهام الدبلوماسية، ففي عام 360 هـ كلف الخليفة الحكم صاحب الشرطة هشام بن محمد بن عثمان وقائد طرطوشة وبلنسية أن يصحب الوفود الإسبانية الوافدة إلى العاصمة، وربما كان ذلك لقرب منطقة عمله من الممالك الإسبانية (¬128). وتخبرنا بعض النصوص أن وظيفة صاحب الشرطة وصاحب المدينة كانت تجمع في وظيفة واحدة أحياناً في عهد الخليفة هشام المؤيد، حيث جمعت لمحمد بن أبي عامر (¬129)، الذي عم في زمنه الأمن في مدينة قرطبة (¬130). وتولى خطة الشرطة بعض العلماء والفقهاء في فترة الحجابة أمثال سعيد بن أحمد بن حدير الذي تولى الشرطة في بداية عهد هشام المؤيد (¬131). والأديب أحمد بن أبان المتوفى عام (382 هـ) (¬132)، وغيرهم. ¬_______ (¬123) ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 167 - ابن حيان، المقتبس، تح الحجي، ص 66، ص 71. (¬124) ابن حيان، المقتبس، تح الحجي، ص 216. (¬125) أيضاً، ص 47 - 48. (¬126) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 247. (¬127) ابن حيان، المقتبس، ص 77. (¬128) ابن حيان، المقتبس، ص 20 - 21 - خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 70. (¬129) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 266 - المقري، نفح، ج 4، ص 88. (¬130) أيضاً، ج 2، ص 266 - خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 70 - 71. (¬131) ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 190. (¬132) أيضاً ترجمة رقم 531 - ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 6.

ونرى من خلال تراجم أصحاب الشرطة في عصر الحكم المستنصر والحاجب المنصور، أن صاحب الشرطة قام بأكثر من عمل إداري ودبلوماسي وعمراني وعسكري إلى جانب عمله الرئيسي (¬133)، وذكرت بعض المصادر التاريخية (¬134)، بتلقب ابن حيان المؤرخ بصاحب الشرطة، ويبدو أن هذا اللقب كان لقباً فخرياً أو تشريفياً ليس إلا (¬135). وفي عهد الفتنة 399 - 422 هـ، تعرض صاحب الشرطة للعزل والقتل نظراً لتعاقب الخلفاء في هذه الفترة، والذي كان كل خليفة جديد يعمل على تعيين صاحب شرطة من رجاله وعزل السابق وربما يقتله، حيث صلب الخليفة محمد بن هشام حاكم المدينة عبد الله بن عمر عندما سيطر على قرطبة عام 399 هـ (¬136). وفي أيام الخليفة محمد المهدي تولى الفقيه أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن حزم الحكم بالجانب الغربي من قرطبة (¬137). ولعل هذه الرواية تدل على أن خلفاء الفتنة ربما قسموا قرطبة إلى مناطق وعينوا على كل منطقة منها صاحب شرطة، أو أن كثرة الحوادث في الجانب الغربي كانت مدعاة لهذا التعيين، أو ربما لأن الجانب الغربي هو الذي تقع فيه بيوت الأغنياء فهي بحاجة إلى حماية (¬138). وذكر لنا ابن بشكوال في ترجمته لمحمد بن قاسم بن محمد الأموي (الجالطي) أنه تقلد أحكام الشرطة للخليفة هشام بن الحكم، وكان محموداً في عمله، وقتله البربر يوم دخولهم قرطبة عام 403 هـ (¬139)، وكذلك قتلوا صاحب الشرطة الآخر العالم عبد الله بن حسين (ابن الغربالي) (¬140). وممن ولي الشرطة في عهد الفتنة وذكرهم ابن بشكوال دون أن نستطيع تحديد وقت عملهم في هذه الخطة: محمد بن يونس (توفي عام 418 هـ) (¬141)، ومحمد بن ¬_______ (¬133) خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 72. (¬134) ابن خير، الفهرسة، ص 326 - المقري، نفح، ج 2، ص 102. (¬135) ابن حيان، المقتبس، ج 2، مقدمة المحقق، ص 44. (¬136) ابن عذاري، ج 3، ص 54 - 55. (¬137) ابن بشكوال، الصلة ترجمة رقم 86. (¬138) خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 74 - مجلة أوراق، ص 77. (¬139) الصلة - ترجمة، رقم 1060. (¬140) ابن الآبار، التكملة، ترجمة رقم 1277. (¬141) الصلة، ترجمة رقم 1109.

يحيى (ابن الخفارية) توفي عام 411 هـ (¬142). وأحمد بن الحسين (¬143)، ومحمد بن محمد ابن إبراهيم القبسي (¬144). وفي عصر الطوائف اتسمت خطّة الشرطة بالاستقرار، واعتمد كل أمير من أمراء الطوائف على صاحب شرطة، واختاروه من البيوتات الأندلسية المعروفة (¬145). ففي مملكة غرناطة في عهد أسرة بني زيري شغل هذه الوظيفة بربر صنهاجة، وأيضاً اليهود. وفي قرطبة عهد أبو الوليد بن جهور إلى الفقيه حسن بن محمد بن ذكوان (توفي عام 451 هـ) أحكام الشرطة والسوق ثم رفع إلى قاضي الجماعة (¬146). وتولى أيضاً في هذا العهد الفقيه عبد الرحمن بن مخلد أحكام الشرطة والسوق حتى وفاته عام 437 هـ (¬147). وتولاها أيضاً في عهد الجهاورة مضافة إلى خطة السوق الوزير أبو بكر محمد بن الليث ابن حريش، والذي استمر يمارس هذه الوظيفة في عهد الطوائف بعد سقوط إمارة الجهاورة، حيث نراه يمارس أعماله في عام 457 هـ وعرضت عليه مجموعة قضايا في مدينة قرطبة، وعندما تختلف عليه الأمور يشاور الفقهاء والقضاة وغيرهم لحل الإشكال (¬148). وفي مملكة بني عباد تولى أحكام الشرطة الفقيه محمد بن مكي (توفي عام 474 هـ) وجمعت له مع السوق والأحباس وأمانة الجامع (¬149). وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، وتزودنا الروايات بأن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن مخلد تولى الأحكام بقرطبة مدة طويلة وتوفي سنة 515 هـ (¬150). وإذا أخذنا بنظر الاعتبار رسالة ابن عبدون (توفي عام 520 هـ) في الحسبة، وهو من الذين خدموا في بلاط علي بن يوسف، والتي تشير إلى منع طوائف الحشم والعبيد التابعين لولاة ¬_______ (¬142) أيضاً ترجمة رقم 1102. (¬143) أيضاً ترجمة رقم 127. (¬144) أيضاً ترجمة رقم 1142. (¬145) خلاف، " صاحب الشرطة "، ص 75. (¬146) ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 312. (¬147) أيضاً، ترجمة رقم 703. (¬148) ينظر، خلاف، " صاحب الشرطة في الأندلس "، مجلة أوراق، ص 78 وما بعدها. (¬149) أيضاً، ترجمة رقم 1210. (¬150) ابن بشكوال، الصلة، ترجمة رقم 746.

الأمر من التلثم -وهو شعار المرابطين- وأن لا يتلثم إلا صنهاجي أو لمتوني أو لمطي، فهذا يدل على مراقبة المرابطين لأحوال الرعية، وربما كلف بالأمر صاحب الشرطة أو صاحب السوق (¬151). وكان منصب صاحب الشرطة من المناصب الإدارية المهمة في الدولة الموحدية، وتبدو أهميته خاصة عند اضطراب الأمور، وكان يشغل هذا المنصب رجال من ذوي المكانة الرفيعة في الدولة ومن كابر الوزراء. ويبدو لنا من الرسالة التي وجهها عبد المؤمن بن علي عام 543 هـ إلى الأعيان والمشيخة في الأندلس، والتي تنحصر في خمسة أمور هي: وجوب التزام الدقة في تطبيق الأحكام الشرعية، ووجوب الكف عن أخذ أية مغارم أو مكوس لا تبيحها الشريعة، ولا يجوز الحكم في مواد الحدود بالإعدام أو تنفيذه قبل الرجوع إلى الخليفة، ويجب تحريم الخمور ومطاردتها في سائر أنحاء الدولة، ويجب حماية أموال الدولة وعدم التصرف بها بدون حق (¬152)، يتبين لنا من هذا كله الإشارة إلى بعض اختصاصات صاحب الشرطة والمدينة والسوق وتحديدها، على الرغم من عدم ورود اسمهم. وقد سار خلفاء الموحدين على هذا النهج فيما بعد كما فعل الخليفة يوسف بإصدار رسالة مشابهة في عام 561 هـ موجهة إلى أخيه والي قرطبة (¬153). وفي مملكة غرناطة، أعطيت صلاحيات واسعة للقاضي. وكان يعاونه في تصريف القضايا الثانوية قاض مساعد يعرف بصاحب الأحكام، ولعله هو صاحب الشرطة (¬154). ويعاونه أيضاً صاحب السوق المسؤول عن أمور السوق بصورة عامة، كما أنه مسؤول عن تطبيق فروض الدين، وملاحقة المنكرات (¬155). ومن أبرز رجال الحسبة والشرطة في مملكة غرناطة القاضي أبو بكر محمد بن فتح الأنصاري الإشبيلي (توفي عام 698 هـ) (¬156). وكان صاحب الشرطة يعرف في مملكة غرناطة باسم متولي الشرطة، وصاحب المدينة وصاحب الليل. وكان يساعده حراس يجوبون الشوارع ويراقبون ¬_______ (¬151) عنان، عصر المرابطين، ص 432 - 433. (¬152) عنان، عصر المرابطين، ص 400 - 401. (¬153) عنان، عصر الموحدين، ص 619 - 620. (¬154) النباهي، تاريخ قضاة الأندلس، ص 5. (¬155) فرحات، غرناطة، ص 101 - 102. (¬156) النباهي، تاريخ قضاة الأندلس، ص 125 - 126.

الطرقات، وقد أطلق عليهم إسم الدرابين الذين كانوا يحملون السلاح وتصحبهم الكلاب (¬157). النظم العسكرية: وندرس فيها الجيش والبحرية: 1 - الجيش: عندما بدأ طارق بن زياد بتنفيذ خطة فتح الأندلس، عام 91 هـ/710 م أرسل حملة استطلاعية بقيادة أبي زرعة طريف بن مالك المعافري، وكانت هذه القوة الاستطلاعية تتألف من أربعمائة راجل ومئة فارس (¬158). وفي رجب من عام 92 هـ/711 هـ عبر القائد طارق بن زياد على رأس جيش من العرب والبربر قوامه سبعة آلاف رجل، ثم أنجدهم موسى بن نصير بخمسة آلاف مقاتل من العرب والبربر، وضمت الحملة أيضاً سبعمئة رجل من السودان (¬159). وفي رمضان عام 93 هـ/712 م عبر موسى بن نصير إلى الأندلس يرافقه جيش عربي قوامه ثمانية عشر ألف رجل، معظم هؤلاء من القبائل اليمانية، وبقية العشائر العربية الأخرى التي كانت موجودة في القيروان، وضمت الحملة أعداداً كبيرة من رجال قريش البارزين، إضافة إلى الإداريين ورجال الدين (¬160). ومعنى هذا أن الجيش الإسلامي الذي قام بعملية فتح الأندلس يتألف من العرب والبربر وقليل من السودانيين. فتحت جنوب ووسط الأندلس خلال الأعوام 92 - 94 هـ/711 - 713 م، ودارت معارك عنيفة كمعركة وادي البرباط والمعارك الجانبية التي تم بها فتح قرطبة أو إشبيلية وغيرها من مدن الجنوب والوسط (¬161)، أما الشمال الإسباني فتم فتحه في فترة لا تتجاوز ثمانية أشهر من عام 95 هـ وإذا استعرضنا النصوص المتوفرة لدينا فيما يخص سير ¬_______ (¬157) فرحات، غرناطة، ص 90. (¬158) المقري، نفح، ج 1، ص 254. (¬159) ينظر، مجهول، أخبار مجموعة، ص 7 - ابن الأثير، الكامل، ج 4، ص 561 - 563. (¬160) ذنون، الفتح، ص 162. (¬161) ينظر، مجهول، أخبار مجموعة، ص 15 - ابن عذاري، ج 2، ص 13 - المقري، نفح، ج 1، ص 277.

الجيش في الشمال الإسباني يتبين لنا أن معظمه قد فتح صلحاً، وأن معاقله الحصينة فتحت أبوابها للمسلمين دون مقاومة، ما عدا بعض المدن الواقعة على البحر قاومت الفتح، وارتضوا دفع الجزية وعاشوا بسلام في ظل الحكم العربي، عكس ما رأيناه في جنوبي الأندلس حيث بذل الفاتحون طاقات كبيرة في فتح مدنه، حيث بقي موسى بن نصير أكثر من عام يفتح أو يعيد فتح المدن في جنوبي الأندلس قبل أن يلتقي مع قائده طارق بن زياد قرب طليطلة (¬162). كما أن أراضي الشمال الإسباني والتي حددت بالأراضي الواقعة شمالي نهر الوادي الكبير (¬163)، فقد فتحت صلحاً ورضي أهلها بدفع الجزية والعيش بسلام في ظل حكم العرب كما بيّنا، أما الأراضي الجنوبية فتعتبر أرض عنوة، أي فتحت بالحرب، فوزعت على المحاربين وأعطيت لهم سجلات بتمليكها (¬164). أما فيما يخص سكن المسلمين في أراضي الشمال الإسباني، أرض الصلح، فقد أشار المقري بقوله: " وكان العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين " (¬165)، ويعني هذا أنهم استقروا خاصة في المناطق التي تعد غير مأهولة بالسكان، وزاولوا فيها الزراعة، ويبدو أنهم كانوا يؤدون العشر إلى الدولة (¬166). ومنذ بداية عصر الولاة 95 - 138 هـ تدخل الجيش في أمر إدارة الأندلس، عندما قام قادة الجند بقتل والي الأندلس عبد العزيز بن موسى عام 97 هـ، وولوا مكانه أيوب ابن حبيب اللخمي (¬167). الذي لم ينعم بالولاية طويلاً، فاستبدل بالحر بن عبد الرحمن الثقفي (97 - 100 هـ) الذي وصل إلى قرطبة ومعه أربعمئة رجل، وأول عمل قام به إصلاح الجيش ومطاردة المعتدين من الجند واتبع معهم سياسة شديدة الوطأة (¬168). ويبدو أن عملية اصطحاب الأتباع كلما يأتي والٍ إلى الأندلس، مع اهتمامه في إصلاح شؤون الجيش أصبحت خطة ثابتة خلال عصر الولاة، لأن بقاء المسلمين في الأندلس ¬_______ (¬162) السامرائي، الثغر الأعلى، ص 89. (¬163) مؤنس، فجر الأندلس، ص 625. (¬164) ينظر، نص الرسالة الشريفية، ص 207 - 208 - الغساني، رحلة الوزير، ص 113. (¬165) نفح، ج 1، ص 276. (¬166) مؤنس، فجر الأندلس، ص 628. (¬167) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 24. (¬168) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 73.

كان متوقفاً على قوة الجيش ومدى مقارعته للأعداء من الإسبان في الشمال، أو المتمردين في داخل الولاية. وبذلك أصبح الاهتمام بالجيش -وهو جيش غير نظامي قائم على إمداد القبائل العربية والبربرية حكومة الوالي بالرجال عند الجهاد- وتنظيم رجاله من أولى الأعمال المهمة التي يقوم بها والي الأندلس، فنرى مثلاً اهتمام عبد الرحمن الغافقي في ولايته الثانية بالجيش، وعني بإصلاحه وتنظيمه، وأنشأ فرقاً قوية مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة من ضباط العرب (¬169). وهذا ما مكنه من قيادة الجيش عبر الأراضي الفرنسية فكانت موقعة بلاط الشهداء المعروفة عام 114 هـ. ومن الأمور الأخرى التي يمكن ملاحظتها خلال عصر الولاة، أن الولاة الذين حكموا الأندلس بعد معركة بلاط الشهداء عام 114 هـ، يصطحبون معهم جيشاً منتخباً من جند أفريقيا لتعزيز حكمهم أولاً، ولإخماد حركات التمرد في الشمال الإسباني ثانياً. والظاهرة الأخرى التي برزت في عصر الولاة، هو قيام الكور المجندة، وهي الأماكن التي وزع فيها الجيش الشامي (جيش بلج بن بشر القشيري)، بعد أن لعب الوالي بلج دوراً كبيراً في أحداث ولاية الأندلس المعروفة، وفي عهد الوالي أبي الخطار حسام بن ضرار الكلبي (125 - 127 هـ) فرق الجند الشامي في الكور مقابل أن يؤدوا خدمة عسكرية (¬170)، وقد حرص الوالي أبو الخطار في هذا التوزيع على أن تكون الكور التي ينزلون بها مشابهة إلى حد كبير للأماكن التي جاءوا منها من المشرق، ولعل ذلك محاولة من هذا الوالي لبعثرة طاقاتهم بعد أن رأى خطرهم يكمن في وجودهم بمنطقة واحدة (¬171). فأنزل أهل حمص في مدينة إشبيلية، وأهل دمشق أنزلهم غرناطة، وأهل الأردن أنزلهم مالقة، وأهل مصر أنزلهم مرسية (تدمير)، وأهل قنسرين أنزلهم جيان، وفرض على كل قبيلة أن تجبي غلة تلك الناحية التي نزلت فيها، وتأخذ عطاءها منها والزيادة لبيت المال (¬172). وتعهدت حكومة الولاية بعدم التدخل في شؤونهم أو شؤون الإقليم (¬173). وما يلاحظ كذلك في عصر الولاة، أن قادة جيوش الثغور زجوا أنفسهم في ¬_______ (¬169) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 85. (¬170) بدر، دراسات، ج 1، ص 59. (¬171) بيضون، الدولة العربية، ص 125. (¬172) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 61 - 62 - ابن القوطية، تاريخ، ص 45 - الحميري، الروض المعطار، ص 181 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 109. (¬173) مؤنس، فجر الأندلس، ص 221، ص 511 - 512.

الخلافات الداخلية، بدل أن يصرفوا طاقاتهم لصد خطر الأعداء. فنرى عبد الرحمن بن علقمة عامل أربونة أقصى ثغور الأندلس يشارك بجيشه ضد جيش بلج القشيري والتقى الجيشان في موقع (أقوة بر طوره) من إقليم ولبه، واستطاع عبد الرحمن بن علقمة من إصابة بلج مما أدى إلى موته في اليوم التالي، ولكن خسر عبد الرحمن العدد الكبير من جيشه (¬174)، فخسرت بذلك قاعدة أربونة خيرة المجاهدين (¬175). رجع والي أربونة إلى قاعدته في عهد الوالي أبي الخطار، إلا أن عامل أربونة تمرد مرة ثانية على الوالي يوسف الفهري (129 - 138 هـ) مما أدى إلى مقتله، ففقدت قاعدة أربونة واليها الشجاع، وأصبحت عرضة لهجمات القوات الفرنسية التي استرجعتها عام 141 هـ (¬176). أما الجيش في عصر الإمارة 138 - 316 هـ، فبدأ الأمير الأول الداخل بإنشاء جيش يعتمد عليه في تثبيت حكمه وحشد له المتطوعة والمرتزقة من سائر الطوائف، وبلغت قواته نحو مائة ألف مقاتل، هذا عدا الحرس الخاص الذي يتكون من الموالي والبربر والرقيق الصقالبة، وقد بلغت قواته نحو أربعين ألف (¬177). وبدأ الداخل ينظر بعين الريبة إلى الجند العربي فأسقط ألويتهم بعد أن قامت ضده ثورات عربية أشهرها التي قادها العلاء بن مغيث (¬178). واعتمد الداخل بالدرجة الأولى على البربر بناءً على مشورة أحد أقربائه، وأحسن استقبال من وفد إليه من بربر العدوة الذين انخرطوا في جيش الداخل. فكانوا يده الحديدية التي يضرب بها أعداءه (¬179)، كما استعان بعنصر الصقالبة الذين كانوا يشترون بالمال ويدربون على أعمال الفروسية والقتال وعلى الطاعة العمياء للدولة والإخلاص لها (¬180). ¬_______ (¬174) ينظر، ابن عبد الحكم، فتوح، ص 100 - مجهول، أخبار مجموعة، ص 141 - 44 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 33. (¬175) مؤنس، فجر الأندلس، ص 287. (¬176) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 38 - المقري، نفح، ج 3، ص 26 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 149. (¬177) ينظر، المقري، نفح، ج 3، ص 37، ج 4، ص 36 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 200. (¬178) الحميري، الروض، ص 36. (¬179) ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 60 - إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 21. (¬180) دوزي، تاريخ مسلمي إسبانيا، ج 1، ص 235 - إبراهيم الدوري، عصر عبد الرحمن الداخل، ص 250.

وإذا كان الأمير هشام 172 - 180 هـ قد اهتم بالجيش، وهيأه لمعارك الجهاد، إلا أنه في الوقت نفسه رتب في ديوان الجند أرزاقاً لأسر الشهداء، كما افتدى أسرى المسلمين ولم يبق في عهده منهم أحد في قبضة العدو (¬181). ولكن نرى الأمير الحكم (180 - 206 هـ) يستكثر الموالي والحشم في الجيش، وأنشأ الحرس الخاص، وفي عهده أكثر من جلب الصقالبة، وكان هؤلاء الصقالبة على الأغلب من الرقيق والخصيان الذين يؤتى بهم من بلاد الفرنج وحوض نهر الدانوب وغيرها، وكان يؤتى بهم أطفالاً من الجنسين ويربون تربية إسلامية، ثم يدربون على أعمال الفروسية والإدارة، وتولوا مناصب مهمة، وبلغ عددهم في عهد الحكم زهاء خمسة آلاف (¬182). وكان للحكم فرقة من الحرس الخاصة معظمهم من فيء أربونة ورثهم عن والده هشام، وقد أبلوا في الدفاع عنه يوم الربض أحسن البلاء. وكانت للحكم ألفا فرس من الجياد الصافنات مرتبطة على شاطئ النهر تجاه القصر، ويشرف عليها جماعة من العرفاء الجيدين (¬183). ومعنى هذا أن الأمير الحكم أسس فرقاً من الجيش النظامي وخاصة بعد فشل ثورة الربض عام 202 هـ التي قام بها الفقهاء ضده، والتي كادت تطيح بعرشه، فكوّن لنفسه فرقة من الحرس الخاص عرفوا باسم الصقالبة، وسموا أيضاً الخرس لعجمة ألسنتهم (¬184). واستمر أمراء الأندلس من إكثار الموالي والصقالبة وجعلهم حرساً خاصاً لهم، فقد اصطفى الأمير عبد الرحمن الأوسط مثلاً خمسة آلاف مملوك، ثلاثة آلاف فارس يرابطون إزاء باب القصر فوق الرصيف، وألفا رجل على أبواب القصر المختلفة (¬185). واهتم الأمير محمد بتقوية الجيش وذلك نتيجة الظروف الصعبة التي مرت بها الأندلس في عهده، وتلقي الأرقام عن عدد الفرسان الذين يحشدون في مختلف الكور والمدن لغزوات الصوائف، ضوءاً على مدى قوة الجيش الأندلسي في عهده، فكورة غرناطة (2900)، وجيان (2200)، وقبره (1800)، وباغه (900)، موتاكرنا (269) والجزيرة (290) وأستجة (1200)، وقرمونة (185)، وشذونة (6790)، ورية (2607)، وشريش (342) وفحص البلوط (400)، ومورور (1403)، وتدمير (200)، أما قرطبة ¬_______ (¬181) مجهول، أخبار مجموعة، ص 120 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 229. (¬182) ابن الأثير، الكامل، ج 6، ص 128 - المقري، نفح، ج 1، ص 159. (¬183) مجهول، أخبار مجموعة، ص 129 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 79. (¬184) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 277 - السامرائي " التعبئة العسكرية "، ص 40. (¬185) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 277.

العاصمة فكانت تختار الرقم قياساً لقدراتها، ويحشد أبناؤها بطريق التطوع خلافاً لأهل النواحي الأخرى. وكانت هذه الفرق تسمى بفرق الفرسان المستنفرين الذين يجري استنفارهم أوقات الصوائف، أو كلما بدرت من العدو حركة اعتداء على أهل الثغور، ويضاف إلى هذه الفرق حشود المتطوعين في سبيل الله. وبذلك ندرك مدى حجم جيش الأندلس خلال هذه الفترة، والذي كان هذا الأمير دائماً يقود الجيش إلى أرض العدو ويمكث فيها أكثر من ستة أشهر (¬186). ويلاحظ في عصر الإمارة أنها اعتمدت على قادة عسكريين مشهورين ينتمون إلى أسر أندلسية معروفة، فكان لهم دور كبير في قمع الفتن الداخلية أولاً، ولهم الدور نفسه في محاربة الممالك الإسبانية ثانياً. فمثلاً أسرة ابن أبي عبدة، اشتهر رجالها في إخماد حركات التمرد وبخاصة في عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) التي عجت الأندلس بحركات المتمردين، فتصدّى رجالها لهذه الحركات التي كان من أشهرها حركة عمر بن حفصون وإبراهيم بن حجاج، واشتهر في هذه الأسرة أبو العباس أحمد بن محمد أبي عبدة الوزير وأولاده عباس وعيسى. فقد اعتمد هذا القائد بالدرجة الأولى على نخبة مختارة من رجاله يبلغ عددهم ثلاثمئة فارس يعتمد عليهم في حروبه، من مجموع جيشه الذي استكثر فيه الرجال وشجعان أهل الثغور، وابتاع العبيد حتى بلغ عدد جيشه خمسة آلاف فارس عدا المشاة (¬187). كما اشتهرت هذه الأسرة في مجاهدة الممالك الإسبانية، وأحرز أفرادها النصر في كثير من المعارك (¬188)، واستشهد بعض رجالها في معارك الجهاد أمثال الوزير أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي عبدة (¬189). كما كان لها دور بارز في صد هجوم النورمان على الأندلس عام 245 هـ في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273 هـ) (¬190). وأسرة مغيث الرومي أيضاً اشتهرت بحروب الجهاد ضد الممالك الإسبانية واشتهر ¬_______ (¬186) ينظر، ابن عذاري، ج 2، ص 111 - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 311. (¬187) ينظر، ابن القوطية، تاريخ، ص 107 - 108 - ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 129. (¬188) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج، ص 319 - 320 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 98 - 99 - النويري " نهاية الأرب، ج 22، ص 55. (¬189) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 135 - 136 - السامرائي. الثغر الأعلى، ص 222. (¬190) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 308 - العذري، نصوص عن الأندلس، ص 118.

من رجالها القائد عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث وبخاصة في عهد الأمير الحكم والأمير عبد الرحمن، وأخيه القائد عبد الملك (¬191). كما اعتمدت حكومة الإمارة على أسر عربية ومولدة وبخاصة في مناطق الثغور، وكلفتها مهمة مجاهدة الممالك الإسبانية القريبة من أراضيها، أمثال أسرة بني تُجيب العربية وأسرة بني الطويل وبني عمروس وأسرة بني قسي المولدة في منطقة الثغر الأعلى، وأسرة بني سالم البربرية وأسرة بني ذي النون البربرية في منطقة الثغر الأوسط. وعلى الرغم من وجود علاقات متشابكة بين هذه الأسر أولاً وبينها وبين حكومة قرطبة وصفت أحياناً بالعداء، إلا أن هذه الأسر وبخاصة في عصر الإمارة كان لها دور مشرف في مجاهدة الممالك الإسبانية المجاورة لها أحياناً بمفردها، وأحياناً بالإشتراك مع قوات قرطبة الزاحفة إلى الشمال (¬192). ومما يلاحظ أيضاً في عصر الإمارة أن الأمير الأندلسي أحياناً يخرج بنفسه إلى الشمال الإسباني في حملات الصوائف من أجل تأديب الممالك الإسبانية، أو رد اعتدائها على الأراضي الأندلسية، وأحياناً أيضاً يرسل ولي عهده في قيادة الجيش مع صحبة خيرة قواته. فمثلاً الأمير الناصر خرج عام 311 هـ إلى بلاد النافار وسميت هذه الغزوة بغزوة بنبلونة، ورجع إلى قرطبة بعد أربعة أشهر، بعد أن دمر أهم مدن وحصون النافار (¬193). والأمير عبد الرحمن الأوسط سار بنفسه عام 225 هـ إلى مملكة ليون وافتتح الكثير من حصونها (¬194). وفي عام 235 هـ أرسل الأمير عبد الرحمن الأوسط إبنه المنذر إلى مملكة ليون أيضاً، وأحرز النصر هناك (¬195)، وهناك عشرات الأمثلة لهذا الأمر. وبقيت هذه المظاهر العامة نفسها، مستمرة في عصر الخلافة 316 - 422 هـ. وقد بدأ الخليفة الناصر (300 - 350 هـ) اهتمامه بالجيش الذي أصبح عماد الدولة وسياج الملك، فسهر على إصلاح الجيش الذي أضناه الكفاح ضد حركات التمرد وضد الممالك الإسبانية، وحشد له الجند من سائر أنحاء الأندلس والمغرب، واستكثر من ¬_______ (¬191) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 81 - 82 - ابن الخطيب، أعمال، ص 19 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 166، ص 168، ص 201. (¬192) ينظر، السامرائي، الثغر الأعلى، ص 337 وما بعدها. (¬193) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 189. (¬194) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 85 - النويري، نهاية الأرب، ج 22، ص 46. (¬195) ابن الأثير، الكامل، ج 7، ص 51.

الأسلحة والذخائر. وقد صقلت الحروب والغزوات المستمرة كفاءة الجيش ودرّبته، وأمدته بطائفة من أمهر القادة وأشدهم بأساً في الحروب، وكان إقدام الخليفة على تولي قيادة الجيش بنفسه مجدداً لعهد الحماسة الحربية والانتصارات الباهرة (¬196). واستمر الخليفة الناصر يعتمد على الصقالبة في جيشه وبوّأهم مكانة مرموقة في الجيش والقصر. وكان لهذه السياسة التي أسرف الناصر في اتباعها، أسوأ الأثر في نفوس الزعماء العرب، وفي انحلال قوى الجيش المعنوية. وهذه الأمور من الأسباب التي أدت إلى هزيمة الناصر في معركة الخندق عام 327 هـ/939 م التي خاضها ضد مملكة ليون. والتي نجا منها وقليل من أتباعه بأعجوبة (¬197). وبعد هذه المعركة لم يخرج الناصر إلى محاربة الأعداء، واكتفى بتزويد الأسر المتنفذة في منطقة الثغر الأعلى والثغر الأوسط بالمال والعتاد والرجال لكي يقوموا بواجب الجهاد سنوياً ضد الممالك الإسبانية المجاورة (¬198). واستمر الخليفة الحكم المستنصر 350 - 366 هـ يعتمد على الصقالبة، وأعطاهم قيادة الجيش وأهم المناصب. وكان في الوقت نفسه يراقب تحركات الممالك الإسبانية بدقة، على الرغم من ميل هذه الممالك إلى المهادنة والسلم مع حكومة قرطبة (¬199). ومع هذا كان الخليفة الحكم يقود أحياناً الجيوش بنفسه إلى الشمال الإسباني، كما حصل في عام 352 هـ، وأحياناً يعهد قيادة الجيش إلى القائد غالب بن عبد الرحمن، وحيناً آخر يكلف قادة أسرة بني تجيب العربية أمراء سرقسطة بهذه المهمة (¬200). وفي فترة الحجابة 366 - 399 هـ وعندما سيطر الحاجب المنصور على الأمور، قام بتنظيم الجيش، فأنشأ فرقاً جديدة من البربر وبخاصة من زناتة وصنهاجة، ومن الجند الإسبان من ليون والنافار وقشتالة، وبذل لهم الأموال السخية، واجتذب قلوبهم بماله وعدله. وغير الحاجب المنصور أنظمة الجيش القديمة، فقدم رجال البربر، وأخر زعماء العرب وأقصاهم من مناصبهم، وفرق جند القبيلة الواحدة في صفوف مختلفة، وكانوا ¬_______ (¬196) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 446. (¬197) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 5، ص 435. (¬198) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 421. (¬199) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 512، ص 514. (¬200) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 236، ص 241.

من قبل ينتظمون في صف واحد. وإذا كان الخليفة الناصر قد بدأ بسحق القبائل العربية وإضعاف قوتها، فإن الحاجب المنصور كمّل المهمة نهائياً (¬201). كما أنه عمل على تصفية الصقالبة، وخصومه الآخرين، ولما توفي عام 392 هـ كان عدد الفرسان المرتزقة عنده، والذين حارب بهم عشرة آلاف وخمسمائة، وفرسان الثغور مقارب من هذا العدد أيضاً (¬202). واشتهر الحاجب المنصور بغزواته المتكررة إلى الشمال الإسباني، وزودتنا الروايات بالكثير من أسماء هذه الغزوات التي اعتمد فيها على قوة جيشه المرتزق، والتي لم يهزم في أحدها (¬203). وكان عدد الجيش المرابط يتضاعف وقت الصوائف بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة، وقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف ستة وأربعين ألفاً، وكان عدد المشاة يتضاعف كذلك، وقد يبلغ المائة ألف أو يزيد. وكان المنصور يقتني الخيول لاستخدامها في الجهاد، ومطايا الركوب، ودواب الأحمال، وقد بلغت وحدها أربعة آلاف جمل خصصت لحمل الأمتعة والأثقال. وأما عن عدة الحرب، فقد كان المنصور يحتفظ بكميات عظيمة من الخيام والسهام والدروع، وعدد من المجانيق وغيرها من آلات الحصار (¬204). ومما يؤثر عن علاقة المنصور بجيشه، أنه كان لقوة ذاكرته، يعرف كثيراً من جنده بالإسم، أو يعرف على الأقل كثيراً مما امتاز منهم خلال المعارك بالشجاعة، ويدعوهم إلى مائدته باستمرار عقب كل انتصار (¬205). خلال فترة الفتنة 399 - 422 هـ، وقع الصراع بين جند الأندلس الذين انقسموا إلى فريقين متصارعين، الأندلسيون في جانب، والبربر في جانب آخر. وقد لحق البربر خلال هذه الفترة أذى كبير، إلا أنهم استعادوا قواتهم ودخلوا قرطبة وسيطروا عليها عام 403 هـ. وهناك ظاهرة أخرى في هذه الفترة هي استعانة بعض خلفاء هذه الفترة بالجند المرتزقة من نصارى الشمال الإسباني، الذين لعبوا دوراً كبيراً في أحداث هذه الفترة (¬206). ¬_______ (¬201) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 531. (¬202) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 286، ص 301. (¬203) العذري، نصوص عن الأندلس؛ ص 74 وما بعدها. (¬204) ابن الخطيب، أعمال، ص 99، ص 101 - 102 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 571. (¬205) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 572. (¬206) السامرائي، علاقات، ص 34 وما بعدها.

ثم قام عصر الطوائف، وتحولت فيه الأندلس إلى دويلات متنازعة. فهناك دويلات الأندلسيين، ومن أشهرها بنو عباد في إشبيلية وبنو جهور في قرطبة وبنو هود في سرقسطة، وبنو صمادح في المرية والعامريون في بلنسية والمرية، ودويلات الصقالبة، إمارة مجاهد العامري في دانية، وإمارة خيران وزهير في المرية ومرسية ونبيل في طرطوشة، وهناك دويلات البربر، وهم بنو زيري في غرناطة، وبنو برزال في قرمونة، وبنو يفرن في رندة وبنو الأفطس في بطليوس، وبنو ذي النون في طليطلة (¬207). امتازت هذه الدويلات بأن كل مجموعة منها اعتمدت على عناصر عسكرية من بني جلدتها. ومن ثم دخلت في حروب داخلية، لأن كل أمير يريد أن يوسع ملكه ويمد سلطانه على حساب جيرانه من أمراء الطوائف سواء بالقوة أو بالحيل السياسية. وهناك ظاهرة أخرى نراها في هذا العصر هي استعانة أكثر أمراء الطوائف بالممالك الإسبانية التي كانت ترسل لهم فرق المرتزقة لكي تعين بعضهم على البعض الآخر، ليس من أجل تحقيق هدف سامي، بل من أجل العمل على تمزيق وحدة الصف العربي في بلد الأندلس وقد نجحوا (¬208). وكلنا يعرف الخدمات التي كان يقدمها الكمبيادور الفارس القشتالي لبلاط سرقسطة حتى استأسد على بعض ملوك الطوائف وسيطر على بلنسية وعاث فيها فساداً وما جاورها من الممالك (¬209). وتوجت الأحداث هذا العصر بسقوط طليطلة عام 478 هـ بأيدي قوات الفونسو السادس ملك قشتالة الإسباني، واتخذها عاصمة لدولته، حينها أدرك أمراء الطوائف خطر التوسع الإسباني، فاستنجدوا بالإخوة المرابطين فكانت معركة الزلاقة عام 479 هـ، حيث بدأ دور الجهاد المشترك بين دولة المرابطين وملوك الطوائف ضد الممالك الإسبانية (479 - 483 هـ) حيث قامت معركتان مهمتان هما معركة الزلاقة عام 479 هـ ومعركة حصن الييط عام 481 هـ (¬210). ثم أصبحت الأندلس ولاية مرابطية بعد عزل أمراء الطوائف من قبل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين المرابطي. وقد اعتمدت الدولة المرابطية على الجيش في تأسيس كيانها أولاً، وفي الجهاد المشترك مع أمراء الطوائف ضد الممالك الإسبانية ثانياً، وفي خلع ملوك الطوائف والإنفراد في مجاهدة الإسبان ثالثاً. ولما كان الجهاد أساس وجود ¬_______ (¬207) ينظر، تشراكوا، مجاهد، ص 52 - 55. (¬208) ينظر، السامرائي، علاقات، ص 69 وما بعدها. (¬209) ينظر، كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 128 وما بعدها. (¬210) السامرائي، علاقات، ص 170 وما بعدها.

القوات المرابطية بالأندلس، فقد رابط في الأندلس سبعة عشر ألف فارس مرابطي، سبعة آلاف بإشبيلية وقواعد الغرب، وألف فارس بقرطبة، وألف فارس كذلك بغرناطة، وأربعة آلاف فارس في الشرق، والأربعة آلاف الباقية موزعة على مختلف القواعد والثغور لرد هجمات الممالك الإسبانية. وكان الفارس المرابطي في الأندلس يتقاضى خمسة دنانير في الشهر، غير نفقته الخاصة وعلف فرسه، ومن أظهر منهم شجاعة وتفوق عهد إليه بولاية موضع ينتفع بفوائده (¬211). أما جند أهل الأندلس في الجيش المرابطي داخل الأندلس، فعبارة عن وحدات خاصة، تحمل أعلام المدن التي تنتمي إليها، مثل أشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية ومرسية وغيرها. إلا أن القوات الأندلسية لم يكن لها شأن كبير في الجيش المرابطي الذي كان يعتمد على نفسه وقيادته بصورة خاصة (¬212). وكان عماد الجيش المرابطي الفرسان الذين بلغوا في عهد يوسف بن تاشفين نحو مئة ألف فارس من مختلف القبائل، هذا غير المشاة من الرماة وغيرهم. وأنشأ يوسف حرسه السود الخاص من عبيد الصحراء من غانة ويتألف من نحو ألفي مقاتل، دربوا أحسن تدريب حتى غدوا قوة ضاربة، وأبلوا بلاءً حسناً في معركة الزلاقة، وأنشأ يوسف بن تاشفين قوة كبيرة خاصة من فرسان زناتة ولمطة وجزولة عرفت باسم الحشم، كما أنشأ فرقة خاصة لحرسه من الإسبان، ومعظمهم من المعاهدين الذين اعتنقوا الإسلام، وقد نمت هذه الفرقة في عهد ولده علي، حتى غدت فرقة كبيرة في الجيش المرابطي، ويقودها فارس قشتالي يسمى الربرتير، واشتركت هذه الفرقة (تسمى أيضاً الجند الروم) مع الجيش المرابطي في معارك عديدة (¬213). وفي معارك الجهاد التي خاضتها القوات المرابطية ضد الممالك الإسبانية اشتركت معها عناصر من عرب بني هلال -الذين جاؤوا إلى إفريقية بالأصل لتدمير مملكة بني مناد الصنهاجية مدفوعة من قبل الدولة الفاطمية، إلا أن هذه القبائل وظفت من قبل المرابطين والموحدين في معارك الجهاد- (¬214) وقد استشهد الكثير منهم وبخاصة في ¬_______ (¬211) الحلل الموشية، ص 57 وما بعدها - عنان، عصر المرابطين، ص 419 - 420. (¬212) روض القرطاس، ص 89، عنان، عصر المرابطين؛ ص 419. (¬213) عنان، عصر المرابطين، ص 418 - السامرائي، علاقات، ص 286 - ينظر، محمد ولد داده، مفهوم الملك في المغرب، ص 120. (¬214) ينظر، ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 21 - ابن خلدون، العبر، ج 6، ص 13 - السامرائي، علاقات، ص 358 وما بعدها.

معركة إقليش عام 501 هـ التي انتصر فيها الجيش المرابطي ضد مملكة ليون الإسبانية (¬215). وعندما تقوم القوات المرابطية بواجب الجهاد في سبيل الله في الأندلس ينضم إليها صفوف المتطوعة من العلماء ومن عامة الناس، وكان لهؤلاء المتطوعة دور كبير في بعض المعارك (¬216). كانت قيادة الجيش المرابطي في الأندلس تعهد إلى خيرة قادة المرابطين، والذين كان معظمهم من أفراد البيت المرابطي، وقد اشتهروا في معارك الجهاد الأندلسية، واستشهد بعضهم. وفي الوقت نفسه يقوم أمير المسلمين المرابطي أو ولي عهده بتفقد القطعات المرابطية في الأندلس ويصلح من أحوالها، وأحياناً يقودها بنفسه في بعض معارك الجهاد. ونظراً لكل هذه الأمور فقد فقدت دولة المرابطين خيرة رجالها الشجعان في بلد الأندلس أثناء قيامها بواجب الجهاد، وهذا من جملة الأسباب التي أدت إلى ضعف أمر هذه الدولة مبكراً (¬217). وبعد سقوط دولة المرابطين، وقيام دولة الموحدين، أصبحت الأندلس ولاية موحدية، وورث الموحدون مهمة مجاهدة الممالك الإسبانية ببلد الأندلس. ولذا نرى أن دولة الموحدين تعتمد على قبائل مصمودة أولاً في إعداد الجيش، ومن ثم استعانت بقبائل بني هلال ثانياً والتي استخدموها في معارك الجهاد بالأندلس (¬218). وكذلك كانت القوات الأندلسية تؤلف بالجيش الموحدي بالأندلس جناحاً هاماً، وتشترك في سائر الغزوات التي قادتها الجيوش الموحدية ضد الممالك الإسبانية، وكانت هذه القوات الأندلسية تشتهر بشجاعتها وتفانيها في معارك الجهاد في سبيل الله من أجل الدفاع عن بلدها الأندلس، وكانت تقاتل في طليعة الجيوش الموحدية لخبرتها في قتال الإسبان، وكثيراً ما تكون سبباً في إحراز النصر، ونرى كذلك أن القادة الموحدين يستمعون باستمرار إلى مشورة القادة الأندلسيين العسكرية (¬219). واستعان الموحدون بفرق عسكرية من المرتزقة الإسبان، وكان من أشهر قادتها ¬_______ (¬215) ابن القطان، نظم الجمان، ص 9 - 10 - مؤنس، " الثغر الأعلى "، ص 129. (¬216) السامرائي، علاقات، ص 280. (¬217) ينظر، السامرائي، علاقات، ص 250 وما بعدها. (¬218) عنان، عصر الموحدين، ص 635. (¬219) عنان، عصر الموحدين، ص 636.

علي بن الربرتير (¬220). وكان الخلفاء الموحدون يعبرون باستمرار إلى الأندلس لتفقد أحوالها العسكرية، وقد بنوا قواعد عسكرية جديدة فيها مثل مدينة الفتح في منطقة جبل طارق، وقاد بعضهم الحملات الجهادية أو عهد بقيادتها إلى أحد أولاده، وكان أفراد البيت الموحدي هم قادة الجيش الموحدي المرابط في الأندلس. فقد رأينا قيادة الخليفة المنصور الموحدي لمعركة الأرك عام 591 هـ الذي انتصر فيها على مملكة قشتالة (¬221). واشترك الخليفة الموحدي الناصر في معركة العقاب عام 609 هـ ضد مملكة قشتالة، فاندحر المسلمون فيها كما هو معروف (¬222). ولم تصمد مملكة غرناطة هذه الفترة الطويلة أمام هجمات الإسبان، لو لم يكن لها جيش منظم قوي أولاً، تسانده جموع المتطوعة في سبيل الله التي ترى أن بقاءها مقتصر على حملها للسلاح ثانياً. وقوة هذا الجيش النصري تعتمد على: جودة التحصينات النصرية في مملكة غرناطة التي تتألف من الأبراج والحصون والقلاع وبخاصة أبراج الطلائع وهي أبراج للمراقبة (¬223). كان السلطان النصري قائداً للجيش أو يعهد بقيادته إلى أفراد الأسرة الحاكمة، أو أشهر رجالات الدولة، وقد عني السلاطين بهذا الجيش الذي يتوقف عليه بقاء المملكة، وأنشأوا له ديواناً يرعى مصالحه (¬224). وبجانب الجيش النصري توجد مشيخة الغزاة: وتتألف من المجاهدين المغاربة الذين أرسلتهم الدولة المرينية إلى مملكة غرناطة لمساعدتها في حروب الجهاد، ولها رئيس من بني مرين يسمى بشيخ الغزاة، وكان لهذه المشيخة دور مشرّفٌ في معارك الجهاد بالأندلس (¬225)، ومع هذا زجوا أنفسهم في الخلافات الداخلية مع سلاطين بني الأحمر (¬226). وفي أواخر العصر النصري وبعد اشتداد الضغط الإسباني على مملكة ¬_______ (¬220) ابن القطان، نظم الجمان، ص 96 - ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 193. (¬221) ينظر، الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 490 - أبو رميلة، علاقات، ص 236 وما بعدها. (¬222) أبو رميلة، علاقات، ص 255 وما بعدها. (¬223) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 115، ص 125. (¬224) فرحات، غرناطة، ص 87. (¬225) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 771 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 16، ص 38 - المقري، نفح، ج 4، ص 385 - عنان، نهاية الأندلس، ص 107. (¬226) ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية، حيث يذكر شيخ الغزاة عند كلامه عن سلاطين غرناطة.

غرناطة عمد رؤساء الجند إلى إنشاء فرق صغيرة لها تنظيمها الخاص وهي شبه مستقلة عن الجيش النظامي، تباغت معسكرات العدو وتلحق به الدمار (¬227). وفي أواخر العهد النصري أيضاً ظهر سلاح البارود في مملكة غرناطة، وعند الإسبان، فكانت المدن تختزن منه كميات كبيرة، كما دخلت المدفعية ميادين الحرب في مجال الدفاع عن المدن (¬228). التعبئة العسكرية في الأندلس: فتح المسلمون الأندلس (92 - 95 هـ) وأفادوا من وديان أنهارها الممتدة على هيئة خطوط مستعرضة بين الشرق والغرب، وجعلوا منها خطوطاً دفاعية لحماية دولتهم من أخطار الدول الإسبانية. فاتخذوا من وادي نهر الأبرو خطاً دفاعياً أول وسموه بالثغر الأعلى، كما اتخذوا من وادي نهر التاجة خطاً دفاعياً ثانياً وسموه بالثغر الأوسط والأدنى (¬229). وقد كان الثغر الأعلى أسبق الثغور الأندلسية في الظهور، وبخاصة بعد انتهاء موسى بن نصير وطارق بن زياد من إتمام فتح الشمال الإسباني، فظهر الثغر الأعلى مجاوراً لأرض العدو وهي بلاد فرنسا، وامتد هذا الثغر في عصر الولاة (95 - 138 هـ) إلى مدينة أربونة التي تعتبر أقصى ثغر بالأندلس (¬230). أما الثغران الأوسط والأدنى فقد ظهر بعد قيام الممالك الإسبانية من الركن الشمال الغربي من إسبانيا وبداية توسعها على حساب أراضي الأندلس وبخاصة عند بداية عصر الإمارة. وبذلك بدأ الصراع المستمر بين المسلمين والإسبان ولهذا اعتبرت الأندلس في نظر المسلمين ثغراً للدولة الإسلامية وأرضاً للجهاد والمرابطة، ولقد فرض هذا الوضع عليها أن تجند أبناءها منذ الصغر ليكونوا على أهبة الاستعداد (¬231). ولما لم يكن في الأندلس بادئ الأمر جيش نظامي قائم بذاته فقد كانت القبائل العربية والبربرية التي سكنت الأندلس تمد الدولة بالجيوش اللازمة للجهاد. وقد استمر هذا النظام العسكري إلى أيام الأمير الحكم (180 - 206 هـ)، فقد رأى هذا الأمير أن يؤسس فرقاً من الجيش النظامي وبخاصة بعد فشل حركة الربض عام 202 هـ التي قام بها الفقهاء، والتي كادت تطيح بعرشه، فكون ¬_______ (¬227) فرحات، غرناطة، ص 90. (¬228) فرحات، غرناطة، ص 95. (¬229) البكري، جغرافية الأندلس، ص 95 (هامش 4). (¬230) تقويم البلدان، ص 183. (¬231) السامرائي، " التعبئة العسكرية "، ص 40.

لنفسه فرقة من الحرس الخاص عرفوا باسم الصقالبة، وسموا أيضاً الخرس لعجمة ألسنتهم (¬232). إن معظم الحملات العسكرية التي خرجت من قرطبة إلى الشمال الإسباني كان لها نظام خاص في التجمع والسير. فكان النفير العام يعلن في جميع أنحاء البلاد للخروج إلى الجهاد، فيتوافد الجنود من مختلف ولايات الأندلس متجهين إلى العاصمة. وفي منطقة في شرقي قرطبة كان يعسكر هذا الحشد الكبير في مكان متسع يسمى (ساحة العرض أو ساحة الحشد أو فحص السرادق) (¬233). وبعد أن يكتمل شمل الجنود يخرج إليهم الأمير الأموي من قصره وسط الهتاف والتكبير فيعسكر مع جنده ويستعرض أسلحتهم المختلفة، ويعين قائد الحملة. وقبل الرحيل كان الأمير أو الخليفة وجنوده يقيمون صلاة عامة في المسجد الجامع بقرطبة، يتبعها الدعاء بالنصر، ثم يخرج الجيش براياته وأعلامه إلى الجهة المرسومة له. وخلال سيره ينضم إليه قواد وأمراء الثغور الأندلسية وعمال المدن بجيوشهم وأتباعهم، ثم يتقدم الجميع لملاقاة العدو (¬234). ولما كانت المنطقة التي يسير فيها الجيش من مناطق الثغور إلى الممالك الإسبانية، منطقة جبلية وعرة، فكان من العادة أن يتقدم الجيش فرقة استطلاعية لمعرفة أخبار العدو ومعرفة المسالك والممرات الصحيحة بين الجبال الوعرة؛ ويختار لهذه المهمة الرجال الموثوق بأمانتهم وإخلاصهم لتهيئة المسالك الصالحة لسير الجيش وسط هذه الجبال الوعرة - وقد صادف خلال سير العمليات العسكرية إلى الشمال الإسباني، أن الجيش الأندلسي في إحدى حملاته ضل الطريق فأصابه كبير عناء، ومات عدد كبير من أفراده وذلك في عام 178 هـ (¬235). ويبدو ومن سير العمليات العسكرية أن المسلمين في الأندلس أثناء لقائهم العدو - وعلى عادة المسلمين في حروب الجهاد. يرددون شعارات إسلامية معينة تحفزهم على الاستبسال في الجهاد. فتذكر بعض الروايات أن مسلمي الأندلس كانوا يرددون شعار (يا محمد) صلى الله عليه وسلم بينما الإسبان يرددون شعار (ياسنتياجو) (¬236)، وكانوا يتصايحون ويولولون ¬_______ (¬232) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 277 - العبادي، الصقالبة في إسبانيا، ص 7 - 11. (¬233) ابن حيان، المقتبس، تح الحجي، ص 43 - سالم، تاريخ المسلمين، ص 300. (¬234) السامرائي، " التعبئة العسكرية "، ص 40. (¬235) ابن الأثير، الكامل، ج 6، ص 144. (¬236) العبادي، " صور لحياة الحرب والجهاد "، مجلة البينة، العدد 9، ص 92.

ليضعفوا قلوب المسلمين (¬237). وسنتياجو هذا هو القديس يعقوب أحد أتباع السيد المسيح عليه السلام، الذي اخترع الإسبان وجوده في أقصى شمال غربي إسبانيا لتعزيز مقاومتهم ضد المسلمين، وقامت حول هذا المزار مدينة نمت بسرعة هي مدينة شنت ياقب المقدسة (¬238)، وغدا هذا المزار من أشهر المزارات الإسبانية. وعندما يفكر الإسباني في سنتياجو فإن قلبه ينبض بالعزة الوطنية وتتملكه الحماسة الدينية (¬239). وقد أقسم أكثر من ملك أو قائد إسباني بأنه رأى سنتياجو رأي العين قبل المعركة أو خلالها ممتطياً جواداً أبيض وملوحاً بسيف براق، ثم يأخذ في معاونتهم على قتال المسلمين في المعركة حتى يكتب لهم النصر، ولهذا أطلقوا عليه إسم قاتل المسلمين (¬240). وقد زودتنا الروايات بمعلومات جيدة عن تعبئة الجيش الأندلسي عند لقاء العدو، حيث يتقدم الرجالة بدروعهم ورماحهم الطوال، وخلفهم الرماة المهرة، ثم تليهم الخيالة. كما وصفت هذه الروايات التعبئة العسكرية التي يتمسك بها كل قسم من أقسام هذا الجيش، وأشارت إلى وجود مبارزات فردية قبل وقوع المعركة (¬241). وقد وضحت صور التعبئة العسكرية الأندلسية عندما أصبحت الأندلس ولاية مرابطية وولاية موحدية. كان ترتيب المعركة عند المرابطين يقوم على نظام خماسي، فيتقدم الجيش الجند المشاة ووحدات الفرسان الخفيفة وحملة القسي والرماة، ويرتبون في الجناحين. ويتكون القلب من وحدات الفرسان الثقيلة، وهي التي تحسم المعركة عموماً، وكانت قوات المؤخرة يقودها أمير المسلمين -إذا كان مصاحباً للجيش- أو قائده المكلف، وتتألف من صفوة الجند وقوى الحرس الخاصة، وكان لكل قسم من القوات المقاتلة قائده الخاص (¬242). وقد طبق هذا النظام أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في معركة الزلاقة. فقسم الجيش إلى مقدمة وعليها المعتمد بن عباد، وميمنة وعليها المتوكل بن الأفطس، وميسرة وعليها أهل شرقي الأندلس ومؤخرة وعليها سائر أهل الأندلس. أما المرابطون فجعلهم في كمائن متفرقة تخرج من كل جهة عند اللقاء (¬243). وقد قضى الليل ¬_______ (¬237) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 177. (¬238) الحميري، الروض المعطار، ص 115. (¬239) لودر، إسبانية شعبها وأرضها، ص 61. (¬240) السامرائي، " التعبئة العسكرية "، ص 41. (¬241) الطرطوشي، سراج الملوك، ص 331 وما بعدها. (¬242) عنان، عصر المرابطين، ص 418 - 419. (¬243) الحلل الموشية، ص 47.

كله يرتب الصفوف ويعد العدة لكل احتمال حتى أنه غير مواضع قواته دون أن يشعر به أحد (¬244). وعندما تقدمت طلائع الإسبان بقيادة البرهانس وهاجمت القوات الأندلسية من أجل القضاء عليها لكي تتفرغ لمهاجمة الجيش المرابطي والقضاء عليه (¬245). إلا أن يوسف بن تاشفين أنقذ الجيش الأندلسي بإمداده بقوات مرابطية بقيادة داود بن عائشة، وأردفها بأخرى بقيادة سير بن أبي بكر (¬246)، وعمل يوسف بن تاشفين على تطويل المعركة من أجل إجبار الإسبان على ترك مواقعهم. وبالفعل تركت الجيوش الإسبانية مواقعها وتتبعت قوات أهل الأندلس، فباغت أمير المرابطين معسكر الإسبان من الخلف واستولى عليه وأضرم فيه النار، فاضطرت القوات الإسبانية إلى التراجع لإنقاذ معسكرها. وما كاد جيش أهل الأندلس يعلم بذلك حتى انقلب من الفرار إلى الهجوم وأطبق على الإسبان من الخلف، فأصبحوا بين القوات الأندلسية والقوات المرابطية (¬247). وأردف بطل المعركة هذه الخطة، بخطط عسكرية أخرى ألقت الرعب في صفوف الإسبان، فقد نظم يوسف بن تاشفين فرق من المشاة السودان المسلحين بالسهام ودرق اللمط (¬248)، والذين طعنوا خيول الإسبان بسهامهم فجمحت بركابها وولت الأدبار، كما تتبع بعضهم الفونسو السادس وطعنه في إحدى ركبتيه (¬249). كما استعمل يوسف بن تاشفين الجمال التي أرعبت خيول الإسبان، واستعمل الطبول التي كان لها دويّ مرعب تهتز له الأرض، وترتعد له فرائص الفرسان (¬250). ومعنى هذا أنه طبق معظم الخطط العسكرية المرابطية في هذه المعركة التي أحرز بها المسلمون النصر المبين على مملكة قشتالة عام 479 هـ. واهتمت الدولة الموحدية بالجيش وأوكلت شؤونه إلى ديوانين، الأول يسمى ديوان العسكر ويشرف على كل ما يتعلق بشؤون الجيش، والثاني ديوان التمييز، وهو جهاز تطهير الخصوم والمتخاذلين وإبعادهم من الجيش. وكان الخليفة الموحدي عندما يعتزم الجهاد يقوم بزيارة قبر مهدي الموحدين، وقبور آبائه في منطقة تينملل، يستمد من هذه ¬_______ (¬244) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 94. (¬245) محمود، قيام دولة المرابطين، ص 277. (¬246) ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 138 - الحميري، الروض المعطار، ص 92. (¬247) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 95 - 96 - السامرائي، علاقات، ص 178. (¬248) ابن خلكان، وفيات، ج 2، ص 367. (¬249) ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 138. (¬250) السامرائي، علاقات، ص 179.

الزيارة البركة والتشجيع (¬251). واعتمدت الجيوش الموحدية خطة المربع في التعبئة العسكرية وخلاصتها: تصنع دارة مربعة في بسيط المعركة، يقف من جهاتها الأربع صف من الرجال بأيديهم القنا الطوال، ومن ورائهم أصحاب الدروق والحراب صفاً ثانياً، ومن ورائهم أصحاب المخالي المملوءة بالحجارة صفاً ثالثاً، ومن وراء هؤلاء الرماة رابعاً. وفي وسط المربعة ترابط قوى الفرسان. وكانت صفوف الفرسان تخصص لها أمكنة معينة في جميع جوانب المربع، وتفتح لها مخاريج سريعة تستطيع أن تنطلق منها ثم تعود إلى أماكنها الداخلية دون أن تخل بنظام المشاة. وعند المعركة يقوم بالهجوم الأول قوات المتطوعة المجاهدة، تؤازرها القوات الخفيفة، فإذا استطاع العدو أن يرد هؤلاء، وأن يتقدم حتى مواقف الجنود النظامية، وقف حملة الحراب أمامه كالسد الحديدي الذي لا يخترق، واستقبله الرماة من حملة القسي والنبال بسيل من الحجارة والسهام. وإذا استطاع العدو أن يخترق الصف الأول وهم حملة الحراب استقبله حملة السيوف والدروع، ويبادر الفرسان إلى معاونتهم. وإذا استطاع العدو بعد كل ما تقدم، أن يتغلب على القلب والجناحين، فعندئذ يقوم الجيش الموحدي بالضربة الأخيرة، وتتقدم قوات الضلع الرابع من المربع وهي الاحتياطي المكون من صفوة الجند ولا سيما الحرس الخاص ويقودها الخليفة بنفسه، وهذه القوة الاحتياطية (الساقة) كثيراً ما تحرز النصر للقوات الموحدية، وكانت هذه القوة كثيراً ما تمتنع داخل نطاق من السلاسل الحديدية، تبرز من خلالها الحراب الطويلة، فتتصدى للعدو في حالة الاقتراب منها (¬252). وعندما يعبئ الخليفة الموحدي جيشه للقتال تنصب له قبة حمراء يرفع فوقها العلم الموحدي الأبيض، وتحاط بالسلاسل الحديدية الضخمة، وعادة تضرب هذه القبة في مؤخرة الجيش، ويحف بها الحرس الخاص الذين يحملون الرماح الطويلة. وكان الخليفة الموحدي متى ما رأى قواته خلال المعركة في حاجة إلى العون يقود الساقة (المؤخرة) بنفسه ويشد أزر قواته، ويعاونها بذلك على إحراز النصر. وقد تقع الكارثة فيهلك الخليفة كما حدث لأبي يعقوب يوسف في نكبة شنترين، أو يلجأ إلى الفرار، كما حدث للناصر في موقعة العقاب (¬253). واستعملت الطبول في الجيش الموحدي، وكانت تضرب عند الرحيل وعند بدء ¬_______ (¬251) ينظر، عنان، عصر الموحدين، ص 638. (¬252) ينظر، أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 448، عنان، عصر الموحدين، ص 634. (¬253) عنان، عصر الموحدين، ص 636 - ينظر، روض القرطاس، ص 239.

المعركة (¬254). واعتمد الجيش الموحدي على نظام التطوع أيضاً، وتسمى جموعهم بالمطوعة (¬255). وأهم ما تمتاز به الجيوش الموحدية تفوقها في فن الحصار، ومقدرتها على اقتحام المدن المنيعة، ورأينا لهم أمثلة بارزة في حوادث حصار وهران والمهدية بالمغرب، وحصار طرش وحصن القصر (قصر أبي دانس) وشلب بالأندلس. ومما يلفت النظر أن الموحدين لم يقتصروا على استعمال الآلات القديمة في الحصار، بل استعملوا آلات جديدة قاذفة، تقذف الحجارة والكرات الحديدية الملتهبة. فنراهم في حصار لبلة بالأندلس استخدموا آلات تقذف الحديد والحجارة على القوات الإسبانية، وكان يصحبها دوي كالرعد (¬256). وفي مملكة غرناطة، يتألف الجيش النصري من أقسام أو مجاميع. وكل مجموعة تتألف من خمسة آلاف محارب لها أمير، ولها راية كبيرة تميزها، والمجموعة تقسم إلى خمس وحدات، وكل وحدة تتألف من ألف محارب لها قائد، ولها علم أصغر حجماً من الراية. ثم إن كل وحدة تقسم بدورها إلى خمس فرق، وقوام كل فرقة مئتا محارب يقودها نقيب يحمل لواء الفرقة. والفرقة تقسم إلى خمسة أقسام صغيرة، كل قسم يتألف من أربعين رجلاً، وعلى رأس كل قسم عريف يحمل بنداً مميزاً. والقسم يتفرع إلى مجموعات أو زمر تتألف من ثمانية جنود يرأسها نظير، ويربط في رأس رمحه قطعة قماش تسمى العقدة، والتحرك العسكري لهذه الأقسام يجري وفق أوامر تصل من الأعلى إلى الأدنى (¬257). ويلتحق بالجيش مجموعة الأدلاء الذين كانوا في الغالب من سكان المناطق الحدودية ذوي الخبرة بمسالك البلاد. كما كان سلاطين غرناطة يبثون العيون داخل الممالك الإسبانية لمعرفة أخبارها وبخاصة العسكرية؛ ويمنحون عيونهم هؤلاء المكافآت ويعفونهم من الضرائب لأنهم في الغالب ما يكونون من التجار اليهود والإسبان (¬258). وقد زودتنا بعض الروايات بملابس وأسلحة الجيش النصري وفرسان مشيخة الغزاة (¬259). ¬_______ (¬254) الحلل الموشية، ص 115. (¬255) عنان، عصر الموحدين، ص 637. (¬256) عنان، عصر الموحدين، ص 493، ص 640. (¬257) فرحات، غرناطة، ص 91 - 92. (¬258) أيضاً، ص 91. (¬259) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 23 - المقري، نفح؛ ج 1، ص 223.

وكانت خطة الهجوم التي تعتمدها القوات النصرية هي الغارات السريعة في عمق أرض العدو مع تجنب اللقاء بالجيش النظامي. وفي المعارك النظامية حافظ الفرسان المغاربة على الأساليب التقليدية، فاعتمدوا طريقة الكر والفر والدوران حول العدو ومباغتة نقاط الضعف فيه (¬260). البحرية: لما كان مضيق جبل طارق فاصلاً بين عدوة المغرب وبلاد الأندلس، فإن الحملات الاستطلاعية الأولى التي قادها أبو زرعة طريف بن مالك، وحملات الفتح التي قادها طارق بن زياد وموسى بن نصير، ومن ثم تعاقب الجيوش من وإلى الأندلس، فإن كل هذه الأمور تحتاج إلى أساطيل كبيرة لنقل المجاهدين وخيولهم وعتادهم، ولم يقتصر الأمر في أداء هذه المهمة على مراكب يوليان حاكم سبتة (¬261)، ولا على مراكب تجار الروم التي كانت تختلف إلى الأندلس (¬262). بل كان الاعتماد الأول وقبل كل شيء على الأساطيل العربية التي كانت تحت إمرة موسى بن نصير على طول الساحل المغربي (¬263). وقد قدمت دراسات مطولة حول هذا الأمر وحول إحراق طارق بن زياد للسفن، وكل أبدى رأيه (¬264). وعندما أكمل المسلمون فتح الأندلس (92 - 95 هـ) وبدأ عصر الولاة 95 - 138 هـ أطلت جيوش المسلمين على سواحل أندلسية طويلة، تشرف على البحر المحيط (الأطلسي) وخليج بسكاي، وعلى البحر المتوسط، مما يجعلها عرضة لأي هجوم بحري أوروبي معادي. ولذا اعتمد المسلمون على دور الصناعة القديمة التي وجدوها في طرطوشة وطركونة ودانية وإشبيلية والجزيرة الخضراء، كما استفادوا من خدمات الخشب والحديد اللازمة لبناء السفن، فكان ذلك ولا زال موجوداً في الأندلس (¬265). ولدينا خبر يشير إلى توفر وجود السفن أو صناعتها في الأندلس بعد فتحها، مفاده أن ¬_______ (¬260) ينظر، ابن خلدون، المقدمة، ص 271 - فرحات، غرناطة، ص 94. (¬261) مجهول، أخبار مجموعة، ص 6 - المقري، نفح، ج 1، ص 238. (¬262) ابن عذاري، البيان، ج 1، ص 8. (¬263) العبادي، دراسات، ص 17. (¬264) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 62 - السامرائي، " طارق بن زياد بين الخطبة وإحراق السفن " مجلة آفاق جامعية عام 1977. (¬265) ينظر، الحميري، الروض المعطار، ص 102، ص 110، ص 124.

عياش بن شراحيل " دخل الأندلس وقدم بالسفن منها إلى إفريقية سنة مئة " (¬266). وعندما أراد بلج بن بشر القشيري العبور إلى الأندلس، ورفض واليها ذلك صنع بلج قوارب ركبها أتباعه، فهاجموا دار الصناعة بالجزيرة الخضراء، وأخذوا ما فيها من المراكب والسلاح فرجعوا بها إليه، وبعد ذلك استخدمها في عملية العبور إلى الأندلس، كما هو معروف (¬267). وخلال عصر الولاة، عندما قررت جيوش الفرنجة استرجاع مدينة أربونة عام 120 هـ، وكان عاملها عبد الرحمن بن علقمة القائد المشهور، فلما وصلت هذه الأنباء إلى والي الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي أرسل جيشاً بحرياً لنجدتها بقيادة عامر بن الليث (¬268). وقدم هذا الجيش عن طريق البحر نظراً لوجود قبائل البشكنس والقبائل الجبلية الأخرى على طول جبال البرتات والتي تكون حائلاً أو خطراً على الجيش الأندلسي الذاهب إلى فرنسا (¬269). فلما عرف جيش الفرنجة بقدوم هذا الجيش هاجموه بغتة وقتلوا القائد وانهزم بعض المسلمين إلى أربونة، والبعض الآخر ركبوا سفنهم وقد تعقبتهم بعض مراكب الفرنجة وأصابوا الكثير منهم (¬270). وعلى الرغم من أن الأسطول الأندلسي لم يكن قوياً في هذا العصر، حيث ظهر الاهتمام به في عصر الإمارة، فمن المؤكد أن مدن برشلونة وطركونة البحرية قد ساهمت في إرسال سفن النجدة لفك حصار أربونة، هذا إذا علمنا أن مثل هذه المدن كان يكمن عندها المسلمون عند " طلب الفرصة في الغزو " (¬271). وأدرك الوالي يوسف الفهري (129 - 138 هـ) خطورة وضع المسلمين في أربونة المحاصرة من قبل الجيوش الفرنسية، فأرسل جيشاً بقيادة ابنه عبد الرحمن لضبط المدينة وما يليها (¬272). فلم يوفق هذا الجيش في مهمته وذلك بسبب المقاومة الشديدة التي أبدتها القبائل الإسبانية على طول جبال البرتات (¬273)، ويبدو أن المسلمين لم يستخدموا ¬_______ (¬266) الحميدي، جذوة، ص 322 (رقم 742) - ابن الفرضي، تاريخ، رقم 1014. (¬267) ابن القوطية، تاريخ، ص 16. (¬268) رينو، غزوات، ص 138 - سالم، تاريخ المسلمين، ص 148 - مؤنس، فجر الأندلس، ص 283. (¬269) السامرائي؛ الثغر الأعلى، ص 144. (¬270) رينو، غزوات، ص 138 - مؤنس، فجر الأندلس، ص 283. (¬271) الحميري، الروض المعطار، ص 126. (¬272) سالم، تاريخ المسلمين، ص 150. (¬273) رينو، غزوات، ص 144.

البحر هذه المرة، لأن الفرنسيين سيطروا على مدينة ماجلون التي تعتبر مرسى أميناً للسفن الإسلامية القادمة من إسبانيا (¬274)، وبعدها سقطت أربونة بيد الفرنسيين عام 141 هـ، كما هو معروف. وفي عصر الإمارة، 138 - 316 هـ، اهتم الداخل بثغر الجزيرة الخضراء وعهد إدارتها إلى الرماحس بن عبد الرحمن (والي شرطة مروان بن محمد)، واشتهر أفراد هذا البيت بقيادة الأسطول الأندلسي على عهد الأمويين (¬275). كما اعتمد الأمويون بالأندلس على اليمنيين القضاعيين في الأمور البحرية في باديء الأمر، وأنزلوهم في المناطق الساحلية الشرقية وعهدوا إليهم حراسة ما يليهم من البحر وحفظ السواحل، وقد سمي هذا الإقليم بـ (أرش اليمن أي أعطيتهم من الأرض) وكانت بجانة أهم قاعدة لهم في هذا الإقليم (¬276)، ولذا لقب أهلها بالبحريين (¬277). وكان بيت بني الأسود من البيوت البحرية المشهورة في مدينة بجانة، وقد ظهر اسم خشخاش ووالده سعيد بن أسود ضمن قادة الأساطيل التي قاتلت النورمان في عهد الأمير محمد الأول، وسوف نذكرهم فيما بعد. وازداد النشاط البحري في عهد الأمير هشام الأول (172 - 180 هـ) على الساحل الشرقي للأندلس، وكان قوام هذا النشاط حملات بحرية قام بها جماعات من البحارة والمجاهدين، هاجموا فيها بعض الثغور والجزر القريبة (¬278). وقد زاد هذا النشاط أيضاً في عهد الأمير الحكم (180 - 206 هـ) حيث ذكرت بعض الروايات؛ بأن الحكم الأول وجه حملتين إلى الجزائر الشرقية عام 182 هـ وعام 200 هـ (¬279)، مع نشاط بحري. هاجم جزر كورسيكا وسردينية وإيطاليا في عام 190 هـ، وعام 191 هـ، وعام 193 هـ (¬280). وفي عام 205 هـ خرج أسطول أندلسي من ثغر طركونة وسار صوب جزيرة سردينية، فتصدى له أسطول فرنسي، فتغلب عليه الأسطول الأندلسي وأغرق ثمانية مراكب منه وأحرقوا مراكب أخرى (¬281). ولما فتح الأغالبة جزيرة صقلية عام ¬_______ (¬274) طرخان، المسلمون في أوروبا، ص 163. (¬275) العذري، نصوص عن الأندلس، ص 81. (¬276) الحميري، الروض المعطار، ص 37 - 38 - العبادي، دراسات، ص 248. (¬277) العذري، نصوص، ص 86. (¬278) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 266 - السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 157. (¬279) طرخان، المسلمون في أوروبا، ص 103. (¬280) محمود إسماعيل، الأغالبة سياستهم الخارجية، ص 154 - 155 - العدوي، الأساطيل العربية، ص 76. (¬281) رينو، غزوات، ص 190 - 191.

212 هـ، بدأت الأساطيل البيزنطية تهاجم القوات الإسلامية فيها، ففي عام 214 هـ وجه الأمير عبد الرحمن الأوسط (206 - 238 هـ)، حملة بحرية خرجت من ميناء طرطوشة إلى صقلية لتعزيز الحامية الإسلامية فيها (¬282). وفي عام 221 هـ خرج أسطول أندلسي من ثغر طركونة والجزائر الشرقية، وهاجم مرسيلية وما حولها وأثخن فيها، فكانت هذه الحملة مقدمة لحملات أخرى متعاقبة أفلحت في إقامة مراكز عربية في جنوب فرنسا وشمالي إيطاليا (¬283). ويبدو لنا أن الجزائر الشرقية (البليار) عقدت عهداً مع حكومة الإمارة، على الأقل فيما يتعلق بشؤون البحر، ودليلنا على ذلك أن الأمير عبد الرحمن الأوسط سير أسطولاً من ثلثمائة مركب عام 234 هـ إلى أهل الجزائر الشرقية لنقضهم العهد، وإضرارهم بمن يمر بهم من مراكب المسلمين (¬284). ويبدو أنها كانت حملة تأديبية وليست فتحاً منظماً بدليل قدوم رسالة من أهل الجزائر إلى الأمير في عام 235 هـ يستعطفون فيها الأمير ويطلبون السماح، فاستجاب لهم (¬285). مع كل هذا، فإن البحرية الأندلسية كانت لا تزال محدودة في إمكانياتها ووسائلها، فلم تكن لديها القواعد والمحارس والسفن الكافية لحماية جميع سواحلها ولا سيما الغربية منها، ولهذا عجزت عن حمايتها عندما هاجمتها أساطيل النورمان عام 229 هـ وعاثت فساداً في السواحل الغربية، وفي مدينة إشبيلية (¬286). ولما كان الأسطول الأندلسي مرابطاً على الساحل الشرقي، فقد اعتمدت حكومة الإمارة في صد خطر النورمان على جيوشها البرية، واستعانت بقوات من الثغر الأعلى المدربة على حرب العصابات (¬287). وكان لهذا الهجوم النورماني أثر كبير على الأندلس، حيث أدى إلى الاهتمام بالسواحل الغربية للأندلس وبناء التحصينات فيها، حيث بني سور إشبيلية (¬288)، كما ¬_______ (¬282) ابن الأثير، الكامل، ج 6، ص 238 - ابن عذاري، البيان، ج 1، ص 104 - مؤنس، المسلمون في حوض البحر المتوسط، ص 100. (¬283) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 266. (¬284) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 1، ص 89 - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 18. (¬285) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 4 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 89. (¬286) العذري، نصوص عن الأندلس، ص 98 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 87 - ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 49 - مؤنس، غارات، ص 31. (¬287) السامرائي، الثغر الأعلى، ص 273. (¬288) البكري، جغرافية الأندلس، ص 112 - الحميري، الروض، ص 20.

أنشأوا الرباطات على السواحل وأصبحت مركزاً للجهاد (¬289)، وكانت النتيجة المهمة هي إنشاء دار صناعة إشبيلية، وإنشاء المراكب، وزودها بالآلات وقوارير النفط، ووسع على رجال البحر المدربين (¬290). وفي عهد الأمير محمد الأول (238 - 273 هـ) عاد النورمان مرة أخرى وهاجموا ساحل الأندلس في (62) مركباً عام 245 هـ، فوجدوا هذه السواحل قد حرست بالسفن الحربية، وحاولوا اختراق نهر إشبيلية فلم يفلحوا، ثم واصلوا سيرهم إلى الجزيرة الخضراء وأحرقوا مسجد الرايات فيها، ثم عاثوا فساداً في الساحل الإفريقي، ثم توجهوا صوب الساحل الشرقي للأندلس، فاشتبكوا مع القوات الأندلسية في عدة معارك بحرية وبرية، ثم ساروا إلى بلاد فرنسا، وأمضوا فصل الشتاء هناك، ثم رجعوا إلى الجنوب بمحاذاة الساحل الشرقي للأندلس (¬291). وأثناء رجوع سفن النورمان هذه هاجمتها الأساطيل الأندلسية عند مدينة شذونة، وأسرت مركبين من مراكبهم (¬292)، وأحرقت مركبين آخرين، واستشهد جماعة من المسلمين (¬293). ثم سارت مراكب النورمان شمالاً وهاجمت بنبلونة عاصمة النافار وأسرت ملكها غرسية بن ونقة، والذي افتدى نفسه بالمال (¬294). ثم ظهر النورمان مرة ثانية في عهد هذا الأمير عام 247 هـ قرب شواطئ الأندلس، لكنهم وجدوا هذه السواحل قد حرست بالسفن الحربية، كما أن أمواج البحر دمرت لهم 14 مركباً ولم يظفروا بشيء ورجعوا إلى بلادهم (¬295). وفي عهد الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) قام جماعة من المجاهدين الأندلسيين يقدرون بحوالي عشرين شخصاً في عام 276 هـ، ونزلوا الساحل الفرنسي، ولجأوا إلى غابة كثيفة، ثم سيطروا على المناطق المجاورة واستقروا بها، ودعوا إخوانهم من الثغور البحرية للقدوم إليهم، وأرسلوا في طلب العون والتأييد من حكومات المغرب ¬_______ (¬289) مؤنس، غارات، ص 41 - العبادي، دراسات، ص 296 وما بعدها. (¬290) ابن القوطية، تاريخ، ص 88 - العبادي، دراسات، ص 263. (¬291) ينظر، العذري، نصوص، ص 119 - ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 308 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 97 - ابن الخطيب، تاريخ المغرب العربي - ص 173 - 174. (¬292) النويري، نهاية الأرب، ج 22، ص 54. (¬293) ابن الأثير، الكامل، ج 7، ص 90. (¬294) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 309 - العذري، نصوص، ص 119 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 280. (¬295) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 311 - العذري، نصوص، ص 119.

والأندلس (¬296). وعلى مر الزمن أنشأوا لهم سلسلة من المعاقل والحصون أشهرها قلعة فراكسنتيوم الواقعة شمالي مدينة طولون (¬297)، والتي يسميها الجغرافيون المسلمون باسم دويلة جبل القلال (¬298). واستمرت هذه الدويلة إلى عام 365 هـ، وسيطرت على مناطق مهمة من فرنسا وسويسرة وشمالي إيطاليا (¬299). وفي عهد هذا الأمير سير قوة بحرية عام 290 هـ إلى جزيرة ميورقة بقيادة عصام الخولاني، الخبير بشؤون هذه الجزيرة، فحاصرها أياماً وفتحها، وبذلك أصبحت هذه الجزائر ولاية جديدة تابعة للأندلس وتولى أمرها عصام الخولاني 290 - 300 هـ (¬300). وفي عصر الخلافة 300 - 422 هـ، نرى أن الإمبراطور البيزنطي بالتعاون مع هوجو ملك إيطاليا وبروفانس، حاولوا استرجاع قلعة جبل القلال عام 331 هـ، فهاجموها براً وبحراً، إلا أن الاضطرابات الداخلية في مملكة إيطاليا أجبرت هوجو على الانسحاب ومهادنة المسلمين فيها (¬301). ويفهم من رواية العذري أن أسطولاً أندلسياً كبيراً بقيادة محمد بن رماحس ومعه غالب بن عبد الرحمن وسهل بن أسيد خرج من ثغر المرية وغزا سواحل إفرنجة في عام 331 هـ، إلا أن عاصفة هوجاء قذفت به بعيداً عن تلك السواحل (¬302). ويعتقد أن هذه العمليات البحرية التي قام بها الأسطول الأندلسي، كانت تهدف إلى معاونة قاعدة جبل القلال (¬303). وقد جرت مراسلات وسفارات طويلة بين حكومة الناصر بالأندلس وبين أوتو الأكبر إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة حول أمر هذه القاعدة. على أية حال فإن أمر هذه السفارة استمر إلى سنة 344 هـ، لحصول مشكلة دبلوماسية (¬304). ¬_______ (¬296) ينظر، السامرائي، الثغر الأعلى، ص 263. (¬297) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 313. (¬298) ابن حوقل، صورة الأرض، ص 185 - الحموي، معجم البلدان، ج 1، ص 273. (¬299) ينظر، رينو، غزوات، ص 208 وما بعدها - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 425 وما بعدها - El-Hajji, Andalusian, p: 207-227. (¬300) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 164 - السامرائي " الجزائر الشرقية "، ص 162. (¬301) العبادي، دراسات، ص 271. (¬302) نصوص، ص 81. (¬303) العبادي، دراسات، ص 272. (¬304) رينو، غزوات، ص 228 وما بعدها - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 415.

وبين الخليفة الناصر للسفير الأوروبي بأن حكومته ليست لها أية علاقة ولا أية سلطة على جبل القلال، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها. وبذلك أعطت خلافة قرطبة للسلطات الألمانية مطلق الحرية في اختيار السبل المناسبة لعلاج هذه المشكلة (¬305). وفي عهد الخليفة الناصر تولى عبد الله بن عصام الخولاني حكم الجزائر الشرقية 300 - 350 هـ (¬306). ويبدو أن هناك عمالاً تولوا إمارة الجزائر الشرقية خلال هذه الفترة، ومن أشهرهم، رشيق مولى الناصر (مات غريقاً عام 343 هـ)، وكذلك جعفر بن عثمان المصحفي الذي تولى أمر الجزائر عام 333 هـ (¬307). وأمر الخليفة الناصر عام 344 هـ بتأسيس مدينة المرية لتكون القاعدة البحرية المهمة في شرق الأندلس، وأصبحت هي وبجانة بابي الشرق كما يقول ياقوت (¬308). ونظم الخليفة الناصر شؤون البحرية فأنشأ عدداً كبيراً من دور الصناعة في مدن الأندلس: المرية - طرطوشة - الجزيرة الخضراء - مالقة وشلب وغيرها (¬309). ونجح الأسطول الأندلسي في عصر الخلافة بإحباط محاولات المهدي الفاطمي ودعم حركة عمر بن حفصون عام 301 هـ، ثم تمكن الأسطول الأموي من الاستيلاء على مدينة مليلة سنة 314 هـ ومدينة سبتة عام 319 هـ، وكذلك مدينة طنجة. وكرر هذا الأسطوال هجومه البحري على بلاد عدوة المغرب عدة مرات في عام 333 هـ وفي عام 345 هـ (¬310). وفي عهد الخليفة الحكم 350 - 366 هـ فقد أكد على ناحيتين: الأولى الاحتفاظ بسيطرة الأندلس على مضيق جبل طارق، والثانية صد الخطر النورماندي. وعندما تمرد الحسن بن كنون (من بقايا الأدارسة) عام 361 هـ ضد الخليفة الحكم سير إليه الجيوش بقيادة وزيره محمد بن القاسم بن طلمس، ثم لحقت به الأساطيل الأندلسية بقيادة قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس. وفي البداية أحرزت القوات ¬_______ (¬305) السامرائى، الثغر الأعلى، ص 264. (¬306) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 164. (¬307) ينظر، ابن الآبار، التكملة، ج 1، ص 13 ترجمة (رقم 16) - الحلة السيراء، ج 1، ص 257 - ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، ج 1، ص 116 ترجمة رقم (154). (¬308) معجم البلدان، ج 5، ص 119. (¬309) ينظر، أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 56 - 57. (¬310) ينظر، العبادي، دراسات، ص 73 - أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 63.

الأندلسية النصر، إلا أن الهزيمة لحقت بها عام 362 هـ وقتل الوزير القائد محمد بن القاسم، فاستاء الحكم لذلك فأرسل قوات الثغور إلى المغرب بقيادة الوزير القائد غالب ابن عبد الرحمن، عام 362 هـ، ثم كتب إلى قائد أسطوله المرابط في طنجة عبد الرحمن ابن رماحس ومعاونيه سعد وقيصر، وغيرهم من القواد الدخول تحت إمرة القائد غالب. وعندما أبحر غالب بجيوشه من الجزيرة الخضراء هبت عاصفة شديدة فرجع إلى ساحل الجزيرة وبعد أيام تحسن الجو فعبر القائد بالأسطول إلى عدوة المغرب، وفي الوقت نفسه اتجه قائد البحر ابن رماحس بأسطوله من طنجة إلى أصيلا كي يتعاون مع الأسطول الأندلسي المرابط هناك، ولكي يكون قريباً من القائد الأعلى غالب، وقد امتدح الخليفة الحكم هذه الخطة. وبتعاون الجيوش المشتركة فشلت حركة الحسن بن كنون عام 363 هـ، واستمرت الأندلس تفرض سيطرتها على مضيق جبل طارق (¬311). وفي عهد الحكم المستنصر هاجم النورمان الأندلس عام 355 هـ، فعاثوا فساداً في منطقة قصر أبي دانس، ودارت معارك بحرية بين الطرفين قتل فيها الكثير. وبعدها تمكن أسطول إشبيلية من اللحاق بالأسطول النورماندي عند مصب وادي شلب فحطم معظمه، واسترد أسرى المسلمين (¬312). أما الغارات النورماندية الأخرى في عام 360 هـ وعام 361 هـ فيبدو أنها لم تستطع النزول إلى الشواطئ الأندلسية بفضل يقظة الأسطول الأندلسي الذي استطاع أن يبدد شملها بسهولة (¬313). وفي سنة 364 هـ استرد الفرنجة حصن فراكسنتيوم (جبل القلال) (¬314). أما الجزائر الشرقية فتولى أمرها الموفق مولى الخليفة الناصر 350 - 359 هـ وجاء من بعده كوثر مولى الخليفة الحكم (359 - 389 هـ) ثم مقاتل مولى الحاجب المنصور 389 - 403 هـ (¬315). اهتم الحاجب المنصور بالأسطول، واستخدمه في تثبيت الحكم الأموي الأندلسي في عدوة المغرب، فبواسطة هذا الأسطول نقل القوات الأندلسية إلى المغرب والتي قضت على حركة الحسن بن كنون عام 375 هـ، وعلى حركة الزعيم المغربي زيري بن ¬_______ (¬311) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 244 - العبادي، دراسات، ص 279 وما بعدها. (¬312) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 239. (¬313) أيضاً، ج 2، ص 239 - ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 314 - العبادي، دراسات، ص 286. (¬314) العبادي، دراسات، ص 304 - 305. (¬315) السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 163.

عطية عام 389 هـ. وكانت مدينة سبتة هي القاعدة البحرية الرئيسية للعمليات الحربية الأندلسية في المغرب، فقد اهتم المنصور بتحصينها وتزويدها بالرجال والسلاح (¬316). واستخدم الحاجب المنصور بعض وحدات الأسطول في حملاته على ساحل قطلونية عام 374 هـ، وفي نقل المشاة من جنوده في المحيط الأطلسي في حملته على جليقية عام 387 هـ وهي الحملة التي دمرت مدينة شنت ياقب (¬317). وفي عام 387 هـ أنشأ المنصور أسطولاً كبيراً في الموضع المعروف بقصر أبي دانس وحمل الأقوات والأسلحة إليه وجهزه بالبحارة المشهورين (¬318). وبعد أن تخلص المنصور من قادة البحر المشهورين عبد الرحمن بن رماحس، وغالب بن عبد الرحمن، لم يتول إمرة البحر من بعدهم ممن يملك كفاءتهم، فبدأ الأسطول الأندلسي بالأفول (¬319). وجاء عصر الطوائف، وتقاسم ملوكه ورثة الأسطول الأندلسي واقتصر النشاط البحري على مراكز المرية ودانية والجزائر الشرقية في الشرق، وإشبيلية في الغرب. استمرت المرية في رعايتها للأسطول سواء في ظل الزعيم الصقلي خيران العامري وأخيه زهير أو في ظل بني صمادح، ولكن هذا الأسطول لم يقم بعمل عسكري بحري كبير كما قام به أسطول دانية والجزائر الشرقية، ما عدا استخدامه للهروب إلى عدوة المغرب من قبل حاكم المرية معز الدولة بن المعتصم بن صمادح عام 484 هـ. استهوى البحر الأمير مجاهد العامري (400 - 436 هـ)، وقرر أن يمد نفوذه البحري وراء هذه الجزائر، وكان نظره يصبو إلى سردينية. فجدد دار الصناعة القديمة. واستكثر السفن والمعدات الحربية. وبدأ مشروعه عام 406 هـ، حيث سار بأسطول مؤلف من 120 مركباً بأحجام مختلفة، وأعطى قيادته لأمير البحر (أبي خروب). وكانت المسافة بين دانية والجزائر الشرقية وبين سردينية تستغرق ثمانية أيام (¬320). وعندما وصل الأسطول الأندلسي لقي مقاومة من أهل الجزيرة، إلا أن القوات الأندلسية استطاعت فتح الجزيرة (¬321). وتم ذلك في ربيع الثاني عام 406 هـ وبدأ مجاهد بتأسيس مدينة فيها، ¬_______ (¬316) أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 73. (¬317) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 295. (¬318) العبادي، دراسات، ص 289. (¬319) ينظر، العذري، نصوص، ص 82. (¬320) ينظر، ابن الخطيب، أعمال، ص 219 - عنان، دول الطوائف، ص 190. (¬321) جذوة المقتبس، ص 353.

وانتقل إليها بأهله وولده وبقي مجاهد وجيشه في سردينية ما يقارب سنة (¬322). وبعدها بدأ مجاهد العامري بمهاجمة سواحل إيطاليا القريبة، فقررت المدن الإيطالية إحباط هذا المشروع وتحالفت مع البابا لتحقيق الأمر. فسارت الأساطيل الإيطالية والأوروبية فحاصرت الجزيرة. ومما أحرج مركز المسلمين فيها تمرد الجند المرتزقة الإسبان في أسطول مجاهد، مع هبوب العواصف العاتية. فحلت الهزيمة المنكرة بالأسطول الأندلسي عام 407 هـ وقتل معظم رجاله، وأسر بعضهم ومنهم ولده علي وأمه (جود) الإسبانية، وأخوه وبعض نسائه (¬323)، ففشل هذا المشروع الكبير، وذكرت بعض الروايات أن مجاهداً العامري هاجم سردينية في عام 410 هـ وعام 441 هـ وأنه وقع أسيراً في أيدي الأعداء، وهذه روايات لا سند لها، لأن مجاهد توفي عام (436 هـ)، إلا أنها تدل على مقدار الفزع الذي أثاره هذا البحار المغامر في سواحل البحر المتوسط الغربية والشمالية بعد حملة سردينية (¬324). ومن الطريف، أن مجاهد العامري كان يحتفل بجزيرة ميورقة في صيف كل عام بعيد المهرجان (عيد العنصرة) في 24 حزيران، فيقوم الأسطول بعرض ومناورات وألعاب يحضرها مجاهد نفسه وأمراء الجزيرة فيما بعد، وقد امتدح الشاعر أبو بكر الداني المعروف بابن اللبانة هذا الاحتفال (¬325). في الفترة المبكرة من عهد المرابطين ساهمت الخدمات البحرية التي قدمتها الأندلس وبخاصة إشبيلية إلى يوسف بن تاشفين هي التي مكنته في القضاء على إمارة سقوت البرغواطي صاحب الأسطول القوي. بعد أن تمت سيطرة المرابطين على سبتة وطنجة أفادوا من دور الصناعة القديمة فيها وأصلحوا سفنها (¬326). وقبيل عبور المرابطين إلى الأندلس لنجدتها تنازل المعتمد بن عباد عن ميناء الجزيرة الخضراء إلى يوسف بن تاشفين، وبذلك تحكم المرابطون في مضيق جبل طارق (¬327). وبعد خلع أمراء الطوائف، أصبحت الأندلس ولاية مرابطية، فأفاد المرابطون من إمكانياتها المادية والبشرية والاستراتيجية في تقوية أسطولهم البحري سواء فيما يتعلق بوجود الموانئ والربط ودور الصناعة والمواد الأولية اللازمة لصناعة السفن، أو توظيف قدرات الأسر ¬_______ (¬322) السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 169. (¬323) جذوة المقتبس، ص 353 - عنان، دول الطوائف، ص 193. (¬324) ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 194. (¬325) المراكشي، المعجب، ص 215 - العبادي، دراسات، ص 315 - 316. (¬326) ينظر، العبادي، دراسات، ص 218 - 220. (¬327) ابن الخطيب، أعمال، ص 282.

الأندلسية التي كان عالمها المفضل البحر مثل أسرة بني ميمون المشهورة (¬328). وعندما ضم يوسف بن تاشفين الأندلس إلى دولته، لم يتعرض بسوء لأمير الجزائر الشرقية (مبشر بن سليمان 486 - 508 هـ) لأن هذه الإمارة تقف حائلاً أمام هجمات الأساطيل الأوروبية ضد الأندلس. لم تصمد الجزائر الشرقية طويلاً أمام هجمات الحملة الأوروبية البحرية الكبيرة عام 508 هـ، وأثناء الحصار توفي أمير الجزائر مبشر، فتولى أمرها أبو الربيع سليمان بن ليون الذي واصل المقاومة، وحاول مغادرة الجزيرة لطلب العون من المرابطين، إلا أنه وقع أسيراً بأيدي الأعداء، فدخلت القوات الأوروبية الجزائر الشرقية عام 508 هـ وعاثت فيها فساداً (¬329). إلا أنّ الأسطول المرابطي لم يصل إلى الجزائر الشرقية، إلا بعد سيطرة العدو عليها (¬330)، وكان الأسطول المرابطي بقيادة أمير البحر (ابن تاقرطاس)، فلما علم الإيطاليون وحلفاؤهم باقتراب هذا الأسطول، انسحبوا من الجزيرة مثقلين بالسبي والغنائم، بعد أن أدركوا أنهم سيخوضون معركة غير مأمونة العواقب، وبعدها دخل المرابطون الجزيرة وشرعوا في تعميرها وذلك من عام 509 هـ (¬331). وبذلك تصبح الجزائر الشرقية ولاية مرابطية يديرها (وانور بن أبي بكر اللمتوني) الذي حكمها إلى سنة 520 هـ، ثم حكمها من بعده بنو غانية وأقاموا فيها إمارة مستقلة (¬332). ولما سيطر روجار الأول على صقلية عام 485 هـ، أخذ النورمان يشنون هجماتهم البحرية على المهدية قاعدة بني زيري في تونس، فاستنجد الزيريون بأبناء عمومتهم المرابطين، فأرسل إليهم أمير المسلمين علي بن يوسف أسطوله البحري بقيادة أبي عبد الله بن ميمون فهاجم صقلية وفتح بعض المدن فيها وسبى الكثير من نسائها وأطفالها انتقاماً لأبناء جلدته في أفريقية. وكان ملوك النورمان في صقلية يتوجسون خيفة ¬_______ (¬328) ينظر، المراكشي، المعجب، ص 279 - ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 123 - العبادي، دراسات، ص 321. (¬329) ينظر، ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 123 - الحميري، الروض المعطار، ص 188. (¬330) القلقشندي، صبح الأعشى، ج 5، ص 257. (¬331) السامرائي، " الجزائر الشرقية "، ص 181. (¬332) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 165 - الحميري، الروض المعطار، ص 188 - محمود علي مكي، " وثائق تاريخية جديدة "، ص 161 - 162.

من الأسطول المرابطي، ولذا نراهم لم يحتلوا المهدية إلا بعد سنة 543 هـ أي بعد سقوط دولة المرابطين بقليل (¬333). ورث الموحدون الأندلس من المرابطين، بما في ذلك الأسطول، وقد خضعت الأجزاء الغربية والوسطى للموحدين بسهولة، وبقي شرقي الأندلس يعارض الانضمام إلى المغرب. فقامت فيه إمارات بحرية مستقلة: أولاها إمارة المرية والتي أصبحت قاعدة بحرية لمهاجمة شواطئ إسبانيا الشمالية وإيطاليا وفرنسا، ونظراً لخطورتها هذه سيطرت عليها الأساطيل والجيوش الإسبانية والأوروبية عام 542 هـ وأصبحت تحت سيطرة الفونسو السابع (السليطين)، إلا أن الموحدين أعادوا المرية إلى حوزتهم عام 552 هـ (¬334). وثانيهما إمارة بني غانية المرابطية التي استقلت في الجزائر الشرقية، وبقيت تقاوم الحكم الموحدي في الأندلس وشمالي إفريقية فترة طويلة كما وضحنا ذلك. ومع هذا فكثيراً ما قامت هذه الإمارة بمهاجمة سواحل قطلونية وجنوبي فرنسا، كما كانت تربطهم بمدن جنوه وبيزا علاقات تجارية طيبة، وفي الوقت نفسه كانوا يهادون الموحدين دفعاً لخطرهم، إلى أن خضعت هذه الجزر لسلطة الموحدين عام 599 هـ (¬335). وعزز الخليفة الموحدي الأول عبد المؤمن بن علي (524 - 558 هـ) سيطرة أسطوله على مضيق جبل طارق من أجل تأمين عبور أساطيله باستمرار بين المغرب والأندلس، فبنى مدينة الفتح على سفح جبل طارق عام 555 هـ (¬336). واهتم هذا الخليفة بتدريب شباب المغرب والأندلس على أعمال الفروسية، وتعلم السباحة وخوض المعارك البحرية، وأولى اهتماماً كبيراً بتدريبهم على ركوب السفن وكيفية قيادتها واستخدامها أثناء القتال (¬337). واهتم بالأسطول كذلك الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف (558 - 580 هـ) وأولاه عنايته، واستخدمه في ضرب أوكار القراصنة في غربي الأندلس أولاً، كما شاركت أساطيله في معارك الجهاد ضد مملكة البرتغال الإسبانية وقاد ¬_______ (¬333) ينظر: ابن عذاري؛ البيان، ج 4، ص 68 - ابن أبي دينار؛ المؤنس، ص 92 - العدوي، المجتمع المغربي، ص 284 - السامرائي، علاقات، ص 375 - 376. (¬334) أشباخ، تاريخ الأندلس، ج 1، ص 234. (¬335) المراكشي، المعجب، ص 344 - العبادي، دراسات، ص 321 - 322. (¬336) المراكشي، المعجب، ص 282 - ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 129 وما بعدها. (¬337) العبادي، دراسات، ص 343.

الأسطول الموحدي غانم بن مردنيش ودمر بعض سفن البرتغاليين وذلك في عام 575 هـ. وتبادل الطرفان النصر والهزيمة في حروب البحر، وقد أسر في إحداها غانم وأخوه أبو العلا وأطلقا بفدية كبيرة (¬338). وأراد هذا الخليفة أن يقود الجيوش بنفسه لتأديب مملكة البرتغال فعبر إلى الأندلس وحاصر مدينة لشبونة براً وبحراً، ثم حاصر مدينة شنترين، إلا أنه أصيب بهزيمة منكرة، واستشهد على أثرها عام 580 هـ (¬339). ومن أشهر قادة أساطيله أمير البحر أبو العباس الصقلي، وعلي بن الربرتير اللذان قادا أساطيله في معارك الجهاد هذه (¬340). وفي عهد الخليفة يعقوب المنصور (580 - 595 هـ) بدأ الأسطول البرتغالي بالتعاون مع الأساطيل الصليبية الأخرى الفرنسية والألمانية، بمهاجمة ثغور الأندلس الغربية وبخاصة مدينة شلب فسيطروا عليها عام 585 هـ، مما زاد في حراجة أمر الأسطول الموحدي. واستطاع هذا الخليفة الرد على هذا الهجوم الصليبي بأن عبر بقواته إلى الأندلس وهاجم أساطيل البرتغال في غربي الأندلس وانتصر عليها وذلك في عام 586 هـ، فاسترد مدينة شلب وقصر أبي دانس (¬341). وفي عهد الخليفة الناصر (595 - 611 هـ) سيطرت الدولة الموحدية على الجزائر الشرقية عام 599 هـ بعد إعداد حملة بحرية كبيرة خرجت من دانية بقيادة ابن عمه أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن، والتي أفلحت في هذه المهمة (¬342). كما هاجم الأسطول الموحدي مملكة أرغون وأحرز على أساطيلها النصر وذلك عام 607 هـ (¬343). وبعد هزيمة هذا الخليفة في معركة العقاب عام 609 هـ، بدأت المدن الأندلسية تتساقط بأيدي الممالك الإسبانية، وبدأ بعض زعماء الأندلس بالاستقلال أمثال محمد بن يوسف بن هود في مرسية، ومحمد بن يوسف بن نصر بن الأحمر في أرجونة وغرناطة. وقد اعتمد ابن هود على الأسطول الأندلسي في هذه الفترة، وقد وضحنا كيف سيطر على سبتة ورباط الفتح وسلا في عدوة المغرب بعض الوقت. وبعد اغتيال ابن هود عام 635 هـ، بدأت مملكة غرناطة في الظهور على مسرح الأحداث. أما الممالك الإسبانية فقد سيطرت على قرطبة عام 633 هـ، وعلى إشبيلية وقادس ¬_______ (¬338) ينظر، ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 232 - العبادي، دراسات، ص 347 وما بعدها. (¬339) ابن أبي زرع، روض القرطاس، ص 141 - أشباخ، تاريخ الأندلس، ج 2، ص 74. (¬340) ابن القطان، نظم الجمان، ص 96 - العبادي، دراسات، ص 354 - 355. (¬341) المراكشي، المعجب، ص 356 - العبادي، دراسات، ص 362 - 364. (¬342) المراكشي، المعجب، ص 394. (¬343) العبادي، دراسات، ص 369.

عام 646 هـ، فصار لهم منفذ إلى مضيق جبل طارق، كما سقطت بلنسية عام 636 هـ، وجزيرة ميورقة عام 627 هـ وجزيرة يابسة عام 633 هـ وجزيرة منورقة عام 686 هـ (¬344)، وبقيت مملكة غرناطة فترة من الزمن تجاهد الإسبان إلى أن سقطت. وملكت مملكة غرناطة ساحلاً طويلاً يمتد من المرية إلى مضيق جبل طارق والجزيرة الخضراء، مما جعلها تعتمد على أسطول قوي في مجاهدة الإسبان، كما جاهدتهم في البر. ومن قادة الأسطول الغرناطي المشهورين أسرة بني الرنداحي، وكذلك القائد الوزير أبو الحسن بن كماشة (¬345). وفي أعوام 706 هـ، 707 هـ، 708 هـ عمد السلطان محمد الثالث النصري (701 - 708 هـ) إلى مهاجمة جزر البليار، كما ضربت أساطيله سواحل مملكة أرغون الإسبانية (¬346). وأولت هذه الدولة رجال الأسطول برعايتها وأعطتهم أجوراً عالية (¬347). وحرصت مملكة غرناطة باستمرار على أن يكون مضيق جبل طارق مفتوحاً أمام النجدات المغربية، وبعيداً عن سيطرة الإسبان، كي يضل اتصالها بالعدوة المغربية مستمراً. وقد أضطرت غرناطة إزاء هذا الأمر إلى التنازل للمغرب عن بعض قواعدها الجنوبية المطلة على المضيق مثل جبل طارق والجزيرة الخضراء وطريف، ويتولى المغرب مهمة الدفاع عن هذه القواعد. وقد أدركت الممالك الإسبانية أهمية هذا الأمر فحاولت فرض سيطرتها على المضيق واحتلال قواعده كي تحول دون وصول الإمدادات المغربية إلى الأندلس (¬348). النظم الاجتماعية: خلال وبعد إتمام فتح الأندلس هاجرت أعداد كبيرة من المسلمين إليها، وكان أكثرهم من شمال إفريقية واستقروا في سائر أنحاء الأندلس. وليس من الصحيح أن المسلمين العرب استأثروا بأحسن النواحي في الأندلس (¬349). وإذا وجد بأن بعض مسلمي البربر قد سكنوا بعض النواحي الجبلية، فإن هذا يتناسب مع ما اعتادوا عليه من ¬_______ (¬344) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 318 - 319 - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 275 - 277 - العبادي، دراسات، ص 373 - 375. (¬345) ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 247 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 200. (¬346) فرحات، غرناطة، ص 96. (¬347) العبادي، دراسات، ص 399. (¬348) ينظر، فرحات، غرناطة، 96 - العبادي، دراسات، ص 400 - 401. (¬349) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 71 - مؤنس، فجر الأندلس، ص 128، 388.

الشمال الإفريقي (¬350). مع العلم بأن هناك نواحي سهلة خصبة سكنها مسلمون من البربر (¬351)، مع غيرهم من المسلمين مثل كورة فحص البلوط الواقعة شمالي قرطبة ومدينتها غافق، وكورة السهلة وحاضرتها شنتمرية (شنتمرية الشرق)، والتي كان بنو رزين البربر من سكانها (¬352). وسكنها كذلك قبائل هوارة ومديونة البربرية، وتقع هذه الكورة بين سرقسطة وطليطلة والتي وصفت بالخصب (¬353). كما كان من رجالات البربر الداخلين الأندلس في حملة طارق بن زياد ومنهم (رزين البرنسي) كانت له أراضٍ زراعية بجوار قرطبة اشتهرت بزراعة الزيتون، وقد اشتراها عبد الرحمن الداخل من ورثته (¬354). هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هناك أراضٍ في الشمال الإسباني كانت توصف بالخصب ووفرة الخيرات (¬355). وخلاصة القول: أن سكنى المسلمين في الأندلس من عرب وبربر كانت حسب الرغبة قياساً لنوع الحياة السابقة وطبيعة الأرض التي اعتادوا عليها قبل العبور. فقد كانت الأرض الجبلية تناسب البربر لأنهم يرغبون سكنى الجبال والصحاري (¬356). كما يلاحظ أن بعض العرب سكنوا الجبال، وبعض البربر سكنوا السهول. وهذا حسب ما يرغب كل فريق دون إجبار أو إكراه (¬357). وسمي المسلمون الأوائل الذين عبروا مع موسى بطالعة موسى أو البلديين، وأغلبهم من القبائل اليمانية أصحاب الميل إلى التعمير والاستقرار، فقويت الصلات بينهم وبين الأرض وأهلها (¬358). ثم تبعتهم هجرات عربية أخرى بقيادة بلج بن بشر القشيري ودخلت الأندلس عام 123 هـ بما يقارب عشرة آلاف وعرفوا بطالعة بلج أو الشاميين (¬359). ثم الطالعة الثانية أو المسماة عسكر العافية التي رافقت الوالي أبا الخطار (125 - 127 هـ) (¬360). وقد وزع هذا الوالي طالعة بلج على ¬_______ (¬350) بدر، دراسات، ج 1، ص 49 - 50. (¬351) ينظر، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 499 - 502. (¬352) ابن سعيد، المغرب، ج 2، ص 427 - ابن حزم، جمهرة، ص 500. (¬353) ابن الآبار، الحلة، ج 2، ص 108 - ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 181. (¬354) ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 234 - المقري، نفح، ج 1، ص 446 - 468. (¬355) مؤنس، رحلة الأندلس، 351. (¬356) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 7، ص 23. (¬357) مؤنس، فجر الأندلس، ص 370 وما بعدها، ص 387 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 139. (¬358) مؤنس، فجر، ص 215 - ذنون، التنظيم الإجتماعي في الأندلس، ص 2. (¬359) مجهول، أخبار مجموعة، ص 37 - ابن الأثير، الكامل، ج 5، ص 251. (¬360) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 34.

الكور والتي سميت بالكور المجندة (¬361). وإذا عرفنا بأن ولاة الأندلس اهتموا بإدارة البلاد وتنظيمها مع حسن السياسة بالرعية، فلا بد أنهم اهتموا بنشر الإسلام والدعوة له بين الإسبان. ويجد الباحث أخباراً لمثل هذا الأمر في عملية فتح الشمال الإفريقي حيث يرسل الدعاة والفقهاء بجانب الجيش الفاتح لشرح مبادئ الإسلام (¬362). وربما نستدل من ذلك أن حملة طارق بن زياد إلى الأندلس ضمّت عدداً من الفقهاء مهمتهم تفقيه الجند ونشر الإسلام بين سكان المدن المفتوحة بجانب الجهاد في سبيل الله. ولعل الإثني عشر رجلاً من العرب في جيش طارق بن زياد هم الفقهاء (¬363). كما أن جيش موسى الذي عبر به إلى الأندلس بأعداده (18 ألف) مقاتل فيهم صحابي واحد وهو المنيذر الإفريقي، وعدد من التابعين (¬364). إن دور هؤلاء الفقهاء من التابعين -ما عدا الحربي- يدور حول تفقيه الناس أمور الإسلام وشرحه بيسر للإسبان الذين بدأوا يعتنقون الإسلام الذي أزال عنهم الحالة السيئة التي كانوا يعيشون بها قبل الفتح. وبجانب هدا الدور بنيت المساجد، فنرى موسى بن نصير يبني أول مسجد في الجزيرة الخضراء عرف بمسجد الرايات (¬365). كما أسس حنش بن عبد الله الضعاني -مهندس المساجد في الأندلس- مساجد مدن البيرة وقرطبة وسرقسطة وغيرها (¬366). ومعروف لدينا في العصر الأول دور المسجد، الذي يتجاوز مراسيم العبادة، إلى دورِه العلمي والثقافي في نشر تعاليم الإسلام قبل ظهور المدارس. كما وردت إشارة إلى المعلمين في عصر الولاة الذين يعلمون الصبيان قراءة القرآن، مما يدل على اهتمام واسع بنشر الإسلام (¬367). وتخبرنا الروايات عن انتشار ¬_______ (¬361) ينظر، ابن القوطية، تاريخ، ص 20 - مجهول، أخبار مجموعة، ص 46 - ابن الآبار، الحلة، ج 1، ص 61 - 62 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، 102 - 104 ذنون، التنظيم الإجتماعي، ص 3. (¬362) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 145. (¬363) المقري، نفح، ج 1، ص 239. (¬364) ينظر، ابن الآبار، التكملة ترجمة رقم 1847 - ابن الفرضي، تاريخ، ترجمة رقم 383، رقم 391، رقم 633، رقم 915 - ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 49. (¬365) العذري، نصوص، ص 118 - الحميري، الروض المعطار، ص 75. (¬366) ينظر، جذوة المقتبس ترجمة رقم 403 - بغية الملتمس ترجمة رقم 687 - العذري، نصوص، ص 22 - 23 - ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 92. (¬367) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 68.

الإسلام المبكر في الأندلس وكثر اتباعه، فلما رغب الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) في نقل المسلمين من الأندلس، وشاور بذلك والي الأندلس السمح بن مالك الخولاني، تخلى عن هذه الفكرة عندما عرف بأن المسلمين قد كثروا في الأندلس وأنهم في قوة ومنعة (¬368). كما تشير الروايات إلى أن الوالي عقبة بن الحجاج السلولي (116 - 121 هـ) كان عندما يؤسر الأعداء يعرض عليهم الإسلام، فأسلم على يديه ألفا رجل (¬369). ونظراً لسماحة تعاليم الإسلام، وعدالة رجاله، أقبل الإسبان على الدخول في الإسلام، وقد رجحنا إسلام يوليان المبكر حاكم سبتة، كما أن الرواية العربية تشير إلى إسلام قسي الزعيم البشكنسي الذي ذهب إلى الشام وأسلم على يدي الوليد بن عبد الملك (¬370). ومهدي بن مسلم، وهو من قدماء قضاة قرطبة، ومن أبناء المسالمة (الإسبان الذين دخلوا الإسلام، وأطلق على أولادهم لقب المولدين) أيام والي الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي، وكان من أهل العلم والورع (¬371). كما كان اختلاط الإسبان بالمسلمين بأساليب مختلفة ساعد على نشر الإسلام بين الإسبان، ومن هذه الأساليب: المصاهرات والتي بدأت مبكرة في عصر الولاة، ولدينا بعض الأمثلة تدل على هذه الظاهرة، فتخبرنا الروايات أنه لما اختلفت سارة القوطية بنت المند بن غيطشة (ملك القوط قبل لذريق) مع عمها أرطباس (¬372)، ذهبت إلى الخليفة هشام بن عبد الملك تشكو ظلامتها من عمها فأنصفها. والظاهر أنها أسلمت ثم تزوجت في الشام من عيسى ابن مزاحم وقدما إلى الأندلس وسكنا مدينة إشبيلية (¬373). وقد أنجبت سارة من عيسى: إبراهيم وإسحاق، ولما توفي عيسى عام 138 هـ تزوجها عُمير بن سعيد فولدت له حبيب (¬374) كما تزوج والي الأندلس الأول عبد العزيز بن موسى من أيلة ( Egiliona) أرملة لذريق آخر ملوك القوط، وتسميها الرواية العربية أم عاصم (¬375). وبعض الروايات ¬_______ (¬368) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 26 - ابن القوطية، تاريخ، ص 39. (¬369) أيضاً، ج 2، ص 29 - المقري، نفح، ج 3، ص 19. (¬370) ابن حزم، جمهرة، ص 502 - الحجي، أندلسيات، ج 2، ص 11. (¬371) الخشني، قضاة قرطبة، ص 9 - النباهي، المرقبة العليا، ص 42. (¬372) ينظر، مؤنس، فجر الأندلس، ص 504. (¬373) المقري، نفح، ج 1، ص 267 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 159 - 160. (¬374) ابن القوطية، تاريخ، ص 30 - 32. (¬375) مجهول، أخبار مجموعة، ص 20 - ابن القوطية، تاريخ، ص 37 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 23 - المقري، نفح، ج 1، ص 281.

تجعلها ابنة لذريق، ويفهم من رواية ابن عذاري أنها بقيت على دينها (¬376). ولكن يستبعد أن تبقى أم عاصم غير مسلمة، والأكثر قبولاً -إذا كان أمر هذا الزواج موثوقاً- أن زواجه بأرملة لذريق قد تم بعد إسلامها (¬377). كما أشارت الروايات إلى أن أحد قواد الوالي وهو زياد بن نابغة التميمي تزوج إحدى بنات أمراء الإسبان أيضاً (¬378). وربما حصل لكثير من رجالات الأندلس في هذا العصر أمثال هذه المصاهرات، إذا عرفنا أن فاتحي الأندلس دخلوها رجالاً دون نساء على العموم. وحين بدأ عصر الإمارة عام 138 هـ كان الإسلام قد تثبتت أركانه بعد أن دخل الإسبان فيه، كما رأوا من سماحة الإسلام وحسن خلق أهله، ومن بقي على دينه (العجم أو المستعربون من النصارى) ارتضى حكم المسلمين، وقد أشاد الكثير من الباحثين الغربيين بسياسة الفتح العربي لإسبانيا وآثارها الاجتماعية التي حطمت سلطة الأشراف والطبقات العليا، وحسنت أحوال الطبقات الفقيرة (¬379). ومعنى هذا أن المجتمع الأندلسي في عصر الولاة أصبح يتألف من العرب (البلديون والشاميون) والبربر، والمسالمة المولدون والموالي (وهم موالي بني أمية من العرب والبربر وغيرهم) العجم أو المستعربون واليهود (¬380). وقد عاشت جميع هذه الفئات تحت ظل راية الإسلام وتجمعها سماحة العرب في الحكم والنظم ببلد الأندلس، وساهمت في تطور نظمه الاجتماعية. ومن الملاحظ أن الهجرات العربية إلى الأندلس انتهت بنهاية عصر الولاة، فلم يفد منهم إلى الأندلس بعد ذلك إلا أفراد أو بيوت أو جماعات قليلة. أما البربر فقد كان تيار هجرتهم متصلاً، بحكم الجوار أولاً، وبحكم الجاذبية الخاصة التي كانت للأندلس على بربر الشمال الإفريقي ثانياً، ولأسباب سياسية وعسكرية ثالثاً (¬381). ¬_______ (¬376) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 24. (¬377) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 159. (¬378) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 23. (¬379) ينظر، عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 63 وما بعدها - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 171 - سالم، تاريخ المسلمين، ص 130. (¬380) عن هذه العناصر وتكويناتها ينظر، سالم، تاريخ المسلمين، 119 وما بعدها - ذنون، التنظيم الاجتماعي 2 وما بعدها. (¬381) مؤنس، فجر الأندلس، ص 379.

أما عصر الإمارة 138 - 316 هـ، فقد حدثت فيه تطورات اجتماعية مهمة، ففترة التأسيس 138 - 172 هـ (عصر الداخل) وفترة التوطيد 172 - 206 هـ (عصر هشام والحكم)، تميزت بعدة ظواهر اجتماعية منها: كسر شوكة الأرستقراطية العربية، التي بدأ بها الأمير الداخل، وأحل محلها وحدة اجتماعية تشمل عصبية القبائل، وقد استخدم أمراء هذه الفترة الموالي بكثرة، واستعانوا بأقوام أعجمية في الجيش وبخاصة الصقالبة الذين أكثر منهم الأمير الحكم كما وضحنا. وفي هذه الفترة أيضاً برزت فئة المولدين وأصبح لها كيانها ومكانتها في المجتمع الأندلسي. ولا شك أن وجود مثل هذه الفئة قد زاد من الأكثرية الملمة بالأندلس، وصبغ الحياة الإسبانية بصبغة أكثر إسلامية وعروبة (¬382). ولكن في الوقت نفسه زاد تمرد المولدين في هذه الفترة مما أحرج مركز الإمارة وكلفها الكثير، فتمردوا في مدينة ماردة عام - 190 هـ وفي مدينة طليطلة عام 181 هـ، أي إنهم تمركزوا في مناطق الثغور لمناعتها العسكرية، وقد اجتمعت هذه الحركات على التخلص من حكم قرطبة مع إجماعها على كره العرب (¬383)، كتيار شعوبي. ومن مظاهر هذا العصر ظهور شخصية المرأة في مجال الفن، وهذا بداية التأثير الحجازي على الأندلس. فقد استقدم الداخل بعض الجواري المدنيات وأسس لهن بالقصر داراً عرفت بدار المدنيات، لأن أغلبهن كن في المدينة التي اشتهرت بفنون الموسيقى والغناء. وكان من هؤلاء المغنيات المدنيات: فضل وعلم والعجفاء. كما كانت الجارية قلم وأصلها إسبانية من سبي البشكنس، ولكنها أُدبت في المدينة، لها دور مميز في هذه الفترة وعملت في دار المغنيات مع صواحبها (¬384). ويأتي بعدهما الثنائي الغنائي الحجازي (علون وزرقون) في عهد الأمير الحكم (¬385). وشهدت الأندلس في هذه الفترة بداية الترف الاجتماعي المتمثل في بناء المنيات (قصور ريفية) خارج قرطبة كقصر الرصافة الذي بناه الداخل على سفح جبل قرطبة، وكذلك القصر الذي بناه ابنه عبد الله في مدينة بلنسية وأطلق عليه إسم الرصافة أيضاً (¬386). وقد حرص الداخل على جعل قرطبة صورة من دمشق في منازلها البيضاء ¬_______ (¬382) هيكل، الأدب الأندلسي، ص 76. (¬383) بدر، دراسات، ج 1، ص 130 وما بعدها. (¬384) المقري، نفح، ج 2، ص 118 - كحالة، أعلام النساء، ج 4، ص 219. (¬385) أيضاً، ج 3، ص 130 - سالم، قرطبة، ج 2، ص 86. (¬386) بدر، دراسات، ج 1، ص 158.

ذات الأحواش الداخلية المزينة بالأزهار والورد ونافورات المياه، واشتهر الداخل بأنه كان يرسل بعض رجاله إلى المشرق لجلب أشجار الفاكهة من بلاد الشام (¬387). وقد أدى هذا الاستقرار الاجتماعي إلى أن يفتح المجتمع الأندلسي عيونه على بواكير الحضارة المشرقية (¬388). وفي فترة الازدهار 206 - 273 هـ، تقدمت الأندلس في مجال الرقي الاجتماعي والحضاري، وقد ساعد على هذا رغبة أمراء هذه الفترة في الإصلاح والانفتاح أولاً، كما ساعد عليه كذلك ازدهار اقتصاديات الأندلس ثانياً. وقد أدى هذا الازدهار الاقتصادي إلى بروز مظاهر الترف والرفاه في حياة الأمراء وأقرانهم من أثرياء المجتمع الأندلسي على الأقل. ويتمثل هذا الترف في فتح أبواب الأندلس لتجارة العراق، فدخلته البضائع العراقية كالملابس وأدوات الزينة، وتذكر لنا بعض الروايات أن الأمير عبد الرحمن الأوسط اشترى من أحد التجار عقداً كان للسيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد بمبلغ عشرة آلاف دينار، وأهداه إلى زوجته (¬389). وبالإضافة إلى مظاهر العيش الواسع للأمراء وكبار رجال الدولة الذي وفرته الأموال التي حصل عليها أفراد المجتمع الأندلسي، وانعكس هذا على شراء الجواري المشرقيات الحاذقات بالأدب وفنون الغناء كجواري الأمير عبد الرحمن الأوسط اللواتي جلبهن من بغداد (¬390). وانعكس أيضاً على بناء عدة منى (جمع منية) وهي عبارة عن قصر ريفي في ضواحي المدينة ضمن حدائق غناء (¬391). كما جاءت هجرة زرياب إلى الأندلس عام 206 هـ فأحدث في مجتمعها تغييراً كبيراً بما أدخله من عادات جديدة، وبما أشاعه من تقاليد راقية، وبما بعثه في المجتمع الأندلسي من روح التأنق والتجمل، بالإضافة إلى إشاعة الموسيقى والغناء وتأسيس أول مدرسة أندلسية لهذين الفنين (¬392). ¬_______ (¬387) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 37 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 60 - العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 318. (¬388) هيكل، الأدب الأندلسي، ص 77. (¬389) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 91. (¬390) المقري، نفح، ج 1، 136 - ج 4، ص 136. (¬391) السامرائي، " أثر العراق الحضاري "، ص 13. (¬392) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 2، ص 87 - المقري، نفح، ج 4، ص 118 - بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس، ص 48 وما بعدها - لين بول، قصة العرب في إسبانيا، ص 79 - الحجي، تاريخ الموسيقى الأندلسية، ص 33 وما بعدها.

ولقد كان من نتائج وفود زرياب وانتشار مستحدثاته الاجتماعية والفنية أن شاع في المجتمع الأندلسي حب الترف والتأنق والأخذ بمتع الحياة، كما شاع كذلك الشغف بالموسيقى والتعلق بالغناء، والتورط أحياناً في اللهو والمجون. وقد ساعد على ذلك تحرر بعض الأمراء في هذه الفترة، مع وفرة الأموال، وانتشار الكروم والترخص في عصر الأنبذة وشربها، ثم كثرة القيان من مشرقيات وإسبانيات، مع وفرة الغلمان وخاصة من الصقالبة (¬393). ومما لا شك فيه أن هذا الأمر قد أدى إلى نوع من التحلل الاجتماعي وبعض الشرور التي أصابت الإمارة في هذه الفترة. نتيجة الانفتاح الفكري والاجتماعي الأندلسي على المشرق في هذه الفترة، هبت التيارات المشرقية إلى الأندلس وأثرت في عقلية شعبها. ونرى هناك ظاهرة إقبال الإسبان في هذه الفترة على تعلم اللغة العربية وآدابها وتقليد عرب الأندلس في عاداتهم من مأكل وملبس وأمور اجتماعية أخرى. إزاء هذا الأمر كان لبعض رجال الدين الإسبان موقفٌ مُعادٍ لهذا التيار، أطنبت الروايات الغربية في ذكرها. هذا الموقف تصفه هذه الروايات بظاهرة الاستشهاد أو الانتحار الديني، وانحصرت أهداف هذه الظاهرة التي قامت منذ عام 235 هـ وإلى عام 244 هـ في محورين: الأول - محاولة إعادة بعض من أسلم حديثاً إلى دينه القديم من جديد، والثاني: الطعن بالإسلام ومبادئه وشتم رسول الله علناً في المساجد والساحات العامة. وقد عالجت حكومة قرطبة هذه الظاهرة بحكمة وحنكة فزال خطرها بعد حين (¬394). وفي فترة الحرب الأهلية 275 - 300 هـ، ساد المجتمع الأندلسي نوع من الاضطراب بسبب اشتعال نواحي الأندلس بحركات التمرد والتي قاد معظمها المولدون -الذين يحملون عناصر الكره للعرب باستمرار، وكان زعيمهم عمر بن حفصون- وغيرهم، والذين تعاونوا مع الممالك الإسبانية من أجل إسقاط الحكم العربي بالأندلس، فظهرت في المجتمع الأندلسي خلال هذه الفترة ظاهرة الزهد، وتزعمها بعض العلماء والفقهاء وحتى بعض أفراد البيت الأموي أمثال الزاهد أحمد بن معاوية الملقب بالقط، فرابطوا في الثغور احتجاجاً على روح التحلل والفساد التي سادت ¬_______ (¬393) هيكل، الأدب الأندلسي، ص 121 - 122 - ينظر، خالد الصوفي، تاريخ العرب في الأندلس (منشورات الجامعة الليبية)؛ ص 221 وما بعدها. (¬394) ينظر، لين بول، العرب في إسبانيا، ص 28 وما بعدها - بيضون، الدولة العربية، ص 244 وما بعدها - سالم، تاريخ المسلمين، ص 241 - 242. Provençal, op. cit; p: 255-239

المجتمع الأندلسي (¬395). كما أن حالة الفوضى التي عمت بلد الأندلس خلال هذه الفترة دفعت بعض النفوس إلى طلب الطمأنينة والبحث عن الأُنس في مجلس غناء أو حلقة سماع أو جماعة ندمان، هروباً من الحالة المتردية التي يعيشها المجتمع الأندلسي (¬396). بالإضافة إلى أن حالة التحضر الاجتماعي بقيت مستمرة في المجتمع الأندلسي خلال هذه الفترة، حتى في حالة اضطراب الحالة السياسية. وكان من المظاهر الاجتماعية لهذه الفترة تمزق المجتمع الأندلسي وانفصام عرى الوحدة بين أبنائه فنرى تكتل العرب في جهة، والإسبان تكتلوا أيضاً وكذلك البربر والمولدون، فبرزت فيهم زعامات تؤيد الفرقة وتذكي نار العنصرية (¬397). إلا أن هذا الأمر حسم في عصر الخلافة 300 - 422 هـ فقد استطاع عبد الرحمن الناصر أن يعيد إلى العرب في الأندلس وحدتهم، فقضى على كل الزعامات، وبرزت بصورة واضحة ظاهرة القومية الأندلسية. فإذن الظاهرة الاجتماعية الأولى التي يمكن ملاحظتها هي وحدة المجتمع العربي في الأندلس، ومن ثم انصراف سكانه إلى العمل بجد ونشاط، فتكاثرت الأموال سواء للدولة أو للأفراد. مما أدى إلى أن يتأنق الأندلسيون حكاماً وشعباً في البناء. فبنى الناصر مدينة الزهراء ومدينة المرية وغيرها، وقد أطنبت الروايات التاريخية في وصف هذه المدن (¬398). كما وصلت العاصمة قرطبة في هذه الفترة إلى أوج جمالها وأناقتها فازدحمت بالقصور والحدائق الغناء والنافورات الكثيرة والحمامات الوفيرة وغيرها (¬399). ومما يشير إلى الرخاء الاقتصادي في عصر الخلافة، تلك الهدايا الثمينة التي قدمها الوزراء إلى الناصر والحكم المستنصر، فهدية الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد عام 327 هـ إلى الخليفة الناصر وهدية الحاجب جعفر المصحفي إلى الخليفة الحكم المستنصر، تعتبران من أشهر الحوادث الاجتماعية في هذا العصر، وتدلان على رفاء المجتمع الأندلسي أيضاً (¬400)، على الرغم من وضوح ظاهرة الاستغلال في جمعها. ¬_______ (¬395) ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 262 - 263. (¬396) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 3، الخاص بعصر الأمير عبد الله، ففيه نماذج بمثل هذه الأمور. (¬397) هيكل، الأدب الأندلسي، ص 122، 181 - 182. (¬398) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 231 - نجلة العزي، مدينة الزهراء. (¬399) سالم، قرطبة، ج 2، ص 19 وما بعدها - سالم، تاريخ المسلمين، ص 292 وما بعدها. (¬400) ينظر، ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 138، ص 144 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 460، ص 512.

ويلاحظ في فترة الخلافة أيضاً علاقات المصاهرة مع الإسبان ويروى أن الخليفة الناصر كان حفيد سيدة نافارية، وكان هو نفسه ابن جارية إسبانية تسمى مزنة (¬401). وأطرف ما في الأمر أن طوطة ( Toda) الملكة الوصية على عرش النافار (توفيت عام 349 هـ) كانت عمة الناصر من جهة الأمومة كما تذكر بعض الروايات اللاتينية (¬402). والخليفة الحكم المستنصر تزوج من امرأة نافارية وهي صبح (أم الخليفة هشام المؤيد)، وهي التي ساعدت الحاجب المنصور على تمكنه من السلطة من الأندلس (¬403). كما كانت هناك علاقات مصاهرة بين أسرة بني قسي المولدة حكام الثغر الأعلى وبين حكام النافار في الشمال الإسباني (¬404). وبطبيعة الحال فإن الأمر ينعكس على عامة الشعب، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار حالة الجهاد المستمرة في هذه الفترة مع الممالك الإسبانية فيقع الكثير من الأسرى بيد المسلمين. وفي فترة الحجابة تزوج الحاجب المنصور من تريسا إبنة برمودة الثاني ملك ليون (¬405). ومن ثم تزوج من إبنة شانجة الثاني بن غرسية ملك النافار والمسماة عبدة، وكانت من خيرة نسائه ديناً وجمالاً وكان ولده عبد الرحمن (شنجول) لقب على هذا الأساس تصغيراً لإسم جده لأمه شانجة (¬406). وحفل عصر الحجابة بالمنشآت العمرانية كمدينة الزاهرة ذات القصور المنيفة والحدائق الغناء. ومن ثم ابتنى إلى جانبها مدينة جميلة ذات قصر وحدائق رائعة وكان يرتادها للنزهة وسماها العامرية، كما اشتهر ببناء القناطر وغيرها (¬407). كما عرف عصره بمجالس الأنس والراحة، وكان للحاجب المنصور مثل هذه المجالس، وكان يشاركه وزرائه في رحلات أنس في نهر الوادي الكبير (¬408). ووصف ¬_______ (¬401) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 156. (¬402) الحجي، أندلسيات، ج 1، ص 83 - 84 - Provençal, op. cit, I, P: 392 (¬403) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 253 - ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 194. (¬404) ينظر، السامرائي، الثغر الأعلى، ص 340 وما بعدها. (¬405) الحجي، أندلسيات، ج 1، ص 79. (¬406) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 38 - ابن الخطيب، أعمال، ص 66، ص 73 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 583. (¬407) ينظر، البيان، ج 2، ص 287 - 288، ص 299 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 575. (¬408) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 299.

بمعاقرة الخمر، ولازمته هذه الصفة طوال حياته (¬409). وربما نميل إلى أنها من التهم التي ألصقت به. وبسبب حملات الجهاد الكثيرة التي قادها الحاجب المنصور والتي تكلل معظمها بالنصر، فقد امتلأت الأندلس في عصره بالغنائم والسبي من بنات الإسبان، فأقبل الناس على الزواج من الإسبانيات تاركين بنات الأحرار، فكان الرجل صاحب البنت يغالي في تجهيز بنته من أجل الإقبال على الزواج منها (¬410). وهكذا عادت إلى المجتمع الأندلسي في فترة الحجابة بعض الأمراض الاجتماعية التي كان قد برئ منها في عصر الخلافة. فقد أدى استخدام الحاجب المنصور للمرتزقة من البربر والصقالبة ومسيحيي الإسبان، إلى نوع من الانفصال بين الشعب والجيش، وأحياناً إلى وجود الكراهية بينهما. كما أن سلوك الحاجب المنصور في الوصول إلى السلطة، قد أدى إلى تفشي روح الطمع، وشيوع التطلع إلى الغلبة، هذا بالإضافة إلى مجالس اللهو والشرب التي ولع بها الحاجب المنصور مع ظهوره بمظهر المتعصب للدين والحامي لمبادئه (¬411). وازداد تفكك المجتمع الأندلسي خلال فترة الفتنة 399 - 422 هـ، وساد الاضطراب والقلق عامة الناس بسبب الصراعات السياسية المريرة، واختلف الناس في مشاربهم من أجل التخلص من هذا الوضع المضطرب، فمنهم من غرق في الملذات أمثال محمد بن هشام بن عبد الجبار الذي وصف بالخلاعة والمجون (¬412). ومنهم من يميل إلى العزلة، ومنهم من جارى الأحداث ودخل في معترك الفتنة وذاق خيرها وشرها (¬413). ثم سقطت الخلافة الأندلسية عام 422 هـ وقام بالأندلس عصر الطوائف فاهتز المجتمع الأندلسي المتعدد الأجناس والذي يتألف من العرب والبربر والصقالبة والمستعربين وغيرهم. فمع انتشار القلق الاجتماعي وشيوع الاضطراب والعنف، تشكلت التكتلات العرقية فأصبحت الوسيلة الوحيدة للحصول على الأمن، فقامت ¬_______ (¬409) عنان، دولة الإسلام؛ ج 2، ص 578 - هيكل، الأدب الأندلسي- ص 268. (¬410) ينظر، المراكشي، المعجب، ص 84. (¬411) ينظر، هيكل، الأدب الأندلسي، ص 268 - 269. (¬412) ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 79 - 80. (¬413) ينظر، هيكل، الأدب الأندلسي، ص 348 - 349.

إمارات الطوائف المعروفة. وامتاز هذا العصر بالحروب المستمرة بين أمراء الطوائف، وحتى بين الإمارات ذات الأصل الواحد (¬414). وكان الجشع الفردي والحرص على الكسب وإيثار المصلحة الشخصية عوامل تطغى أحياناً على جميع الاعتبارات الأخرى في هذه الفترة، وأحياناً داخل الإمارة نفسها (¬415). وأفرز هذا الوضع السياسي للأندلس، وجود طبقة الخاصة التي كبرت وتنوعت في كل بلاط من بلاطات أمراء الطوائف، وهناك الطبقة العامة. وتخلل هذا العصر وجود طبقة واعية أدركت مصير الأندلس وما وصل إليه من تفكك، فجابت بلاد الأندلس تدعو إلى الوحدة ولمّ الشمل ومن أبرز زعماء هذه الطبقة ابن حزم وأبو الوليد الباجي (¬416). وقد قاسى الشعب الأندلسي في ظل حكم أمراء الطوائف الأمرّين. فبجانب الفتن الداخلية، قاسى الشعب من جشع ملوك الطوائف الذين جعلوا من إماراتهم ضياعاً خاصة وجعلوا رعاياهم عبيداً، ينهبون أموالهم، وثمار كدهم، إرضاءً لشهواتهم في إنشاء القصور الباذخة، واقتناء الجواري والعبيد، والانهماك في حياة الترف، هذا بالإضافة إلى دفع الإتاوات إلى ملوك الإسبان والارتماء في أحضانهم من أجل البقاء والمحافظة على كرسي مهزوز، فأصيب الشعب بخيبة أمل مريرة (¬417)، وساد التمزق النفسي في المجتمع الأندلسي وعلت أصوات الرحيل عن الأندلس، وبخاصة بعد سيطرة النورمان على مدينة بربشتر عام 456 هـ، وسيطرة ألفونسو السادس على طليطلة عام 478 هـ (¬418). وبرزت في هذا العصر عصابات الأشرار التي قادها الكمبيادور وغيره والتي عاثت في بلد الأندلس فساداً، كما ظهرت مجموعة من الشخصيات القلقة المغامرة التي قدمت خدماتها لأي أمير تلقى عنده العون والتأييد، أمثال شخصية الشاعر ابن عمار وزير المعتمد بن عباد، وبعض الفقهاء الذين أوقع عليهم بعض المؤرخين مسؤولية تضييع الأندلس (¬419). وكان أكثر ملوك الطوائف يتسمون بضعف الإيمان والعقيدة، والاستهتار بأحكام ¬_______ (¬414) ينظر، محمد بن عبود، التاريخ السياسي، ص 30. (¬415) ينظر، كتاب التبيان، ص 90، ص 95، ص 106 وما بعدها. (¬416) ينظر، السامرائي " الدعوة إلى توحيد الأندلس "، ص 82 وما بعدها. (¬417) إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 39، ص 41. (¬418) ينظر، السامرائي، علاقات، ص 47 - 48. (¬419) إحسان عباس، الأدب الأندلسي، ص 34، ص 37.

الدين، وهو ما سجله عليهم ابن حزم في كتاباته، وكانت قصورهم المترفة الأنيقة تزدان بمجالس الشعر والأدب، وتحفل في الوقت نفسه بمجالس الأنس والطرب، والنساء والغلمان والخمر (¬420)، وهذه أمور شغلت حيزاً كبيراً في آداب هذا العصر وشعره. وكانت مجتمعات الطوائف المرهقة المنحلة تتأثر بهذه الروح الإباحية، وتميل إلى اقتناء المتعة المادية واللذة الحسية بمختلف ضروبها، وكان هذا الانحلال الشامل يجتاح يومئذ سائر طبقات المجتمع الأندلسي (¬421). ومع كل هذا فقد احتلت المرأة الأندلسية مكانة محترمة في عصر الطوائف، وألف فيها الأندلسيون الكتب مثل كتاب (طوق الحمامة في الألفة والأُلاّف) لابن حزم (¬422). كما نالت نصيبها الوافر من العلوم والفنون والآداب (¬423)، كولادة بنت الخليفة المستكفي مثلاً (¬424). وتمتعت الأندلس منذ انضوائها تحت سيادة المرابطين باستقرار سياسي وهدوء إجتماعي، فتحررت في ظل هذا العهد من كثير من المكوس والمغارم الظالمة التي فرضها ملوك الطوائف لإرضاء جشع ملوك الإسبان من جانب، وللإنفاق على قصورهم المترفة التي شهدت أنواع البذخ والإسراف (¬425). وقد شعر عامة الشعب الأندلسي في هذا العهد بنوع من التحسن المادي في حياته لأنهم انصرفوا إلى الأعمال السلمية، وإلى تحصيل أقواتهم في هدوء وسلام بينما حمل المرابطون مسؤولية الجهاد بالدرجة الأولى، وبذلك عم الرخاء والعيش الرغيد بلد الأندلس في عهد يوسف وإبنه علي (¬426). وليس من السهل بمكان تصور المكانة الاجتماعية للمرأة الأندلسية في العصر المرابطي، إذ أن الروايات التي أشارت لهذا الموضوع اهتمت فقط بمنزلة المرأة الصنهاجية والتي تمتعت بنصيب كبير من الحرية سمح لها بالتدخل في مناحي الحياة ¬_______ (¬420) ينظر ابن عبدون، في القضاء والحسبة، ص 47. (¬421) عنان، عصر الطوائف، ص 424. (¬422) ينظر، الطاهر مكي، دراسات عن ابن حزم، ص 224 وما بعدها. (¬423) سعد شلبي، البيئة الأندلسية، ص 58. (¬424) المقري، نفح، ج 5، ص 336 وما بعدها - السامرائي، علاقات، ص 459. (¬425) جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، ج 5، ص 159 - 161 - سعد شلبي، البيئة الأندلسية، ص 54 - 55. (¬426) ينظر، الحلل الموشية، ص 59.

المختلفة (¬427). وليس في هذه الروايات ما يوضح مقدار انعكاس ذلك على المرأة الأندلسية، فانتقال التقاليد والقيم الاجتماعية لا يتم بصورة سريعة، وإنما يتطلب وقتاً طويلاً لتقبل تلك الأمور واستساغتها (¬428). ولكن يمكننا أن نستنتج من هذه الروايات منزلة المرأة وقيمتها الاجتماعية في الأندلس خلال هذه الفترة، فالقصائد المدبجة بمدحهن أو رثائهن تشير بلا شك إلى ما يكنه الرجل إتجاههن من ود واحترام، وتدل على ما كان لهن من سلطة واسعة في الحياة الإدارية (¬429). ثم نحس بارتفاع صوتها الأدبي وحريتها في التعبير عن مشاعرها بصراحة في مجالس تعقدها مع شعراء العصر كالمجالس الني ذكرتها المصادر للشاعرة (نزهون الكلاعية) مع الشاعر الأعمى المخزومي (¬430). وكان الأندلسيون يحترمون المرأة ويقدرونها، سواء كانت زوجة أو جارية. فنستدل من تشددهم في بيع الجواري - بحيث يتطلب شرائهن حضور كاتب العقود وتبيان الأسباب المقنعة التي تطلب الجارية من أجلها بكل دقة (¬431)، على مدى تقديرهم للمرأة، وقد قوى المرابطون في الأندلس الشعور باحترام المرأة ربة الدار ومحاربة الكثير من وسائل اللهو والمجون التي سادت في عصر الطوائف، وذلك طبقاً لما يقتضيه المثل الأعلى البربري الذي ظل متعلقاً بنظام إجتماعي أولي يقوم على الأمومة أولاً، وتشدد المرابطون في تطبيق مبادئ الإسلام ثانياً (¬432). كما أن بعض الأحداث السياسية دفعت يوسف بن تاشفين أن يتبع سياسة مشددة ضد اليهود في الأندلس، وبخاصة يهود اليسانه (¬433)، ولكن هذا لم يمنع من استخدام اليهود في أعمال الكتابة في الأندلس. فتشير بعض المصادر إلى أن والي غرناطة المرابطي (أبو عمر ينالة اللمتوني) كان له كاتب يهودي (¬434). كما وجدت طائفة من اليهود في المغرب تزاول أعمالها نهاراً في المدن المغربية، وقد حرم عليهم أمير ¬_______ (¬427) بروفنسال، الإسلام في المغرب والأندلس، ص 299. (¬428) السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 49. (¬429) إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 31. (¬430) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 424 - 426. (¬431) حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، ج 4، ص 643. (¬432) السامرائى، علاقات، ص 461. (¬433) أشباخ، تاريخ الأندلس، ص 482. (¬434) ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 77.

المسلمين علي بن يوسف المبيت فيها ليلاً، وذلك كإجراء وقائي من خطر اليهود (¬435). كما شهدت منطقة المغرب العربي في ظل المرابطين وفود طائفة جديدة من النصارى المعاهدين الذين غُرِّبوا من الأندلس عام 520 هـ، وذلك نتيجة تعاون هؤلاء مع ألفونسو الأول المحارب ملك أرغون أثناء حملته المدمرة على الأندلس 519 هـ، وقد أفتى قاضي الجماعة أبو الوليد محمد بن رشد بتغريبهم ونفيهم إلى المغرب (¬436). ولا ينكر أن هذا التغريب لم يشمل جميع المعاهدين، كما أن أمراء المرابطين حرصوا على حسن الرعاية لهؤلاء سواء في الأندلس أو المغرب. فقد حصل أن معاهدي غرناطة رفعوا عريضة إلى علي بن يوسف ضد عاملها المرابطي (أبو عمر حفيد يوسف بن تاشفين) يحتجون فيها على سوء سيرته معهم، فاستدعاه علي إلى مراكش وأحاله إلى جلسة تحقيقية انتهت بالحكم عليه بالسجن (¬437). إزاء هذه الأحداث، أشارت بعض المراجع إلى أن أهل الذمة عاشوا مضطهدين في دولة المرابطين (¬438). ولكن الأمر لا يعدو، وكما بيناه أعلاه، إلا احتياطات ضرورية للأمن، إضافة إلى أنّ اليهود والمسيحيين عملوا في جباية الأموال في ظل دولة المرابطين (¬439). ثم مال المرابطون إلى ألوان الترف بعد اختلاطهم بالأندلسيين واطلاعهم على أساليب الحياة في المدن الأندلسية، وبخاصة وأن عهد الطوائف عرف صوراً كثيرة من المجون والخلاعة (¬440)، مما جعلهم يتأثرون بحياة الرفاهية والمتعة التي كان يحياها أبناء الأندلس (¬441). وقد استنكر محمد بن تومرت هذه الأحوال على المرابطين وحاربها بشتى الوسائل (¬442). ولما كان اللثام شعار المرابطين، فقد اتخذ بعض العامة وبخاصة في الأندلس اللثام ¬_______ (¬435) عبد العواد، الحياة الإدارية، ص 414. (¬436) ابن الآبار، المعجم، ص 160 - سالم، قرطبة، ج 1، ص 144. (¬437) ميراندة، " علي بن يوسف "، ص 174 - 175. (¬438) ينظر، حتي، تاريخ العرب، ج 2، ص 646 - بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ج 2، ص 188 - عبد البديع، الإسلام في إسبانية، ص 34 - 35. (¬439) أشباخ، تاريخ الأندلس، ج 2، ص 238. (¬440) أحمد ضيف، بلاغة العرب في الأندلس، ص 43. (¬441) حسن أحمد محمود، قيام دولة المرابطين، ص 422 - 423. (¬442) السامرائي، علاقات، ص 464.

زياً لهم تطاولاً على الناس وترفعاً (¬443)، ومن هنا حتم ابن عبدون بأن اللثام لا بد أن يكون خاصاً بالصنهاجي أو اللمتوني أو اللمطي بالأندلس (¬444). وخلال الحكم المرابطي للأندلس تلوح لنا ظاهرة اجتماعية جديرة بالإشارة وهي ظاهرة المدجنين، أي الأندلسيين الذين بقوا في مدنهم تحت سيطرة الممالك الإسبانية. هذه الممالك التي بدأت تسيطر على أهم قواعد الأندلس اعتباراً من عام 478 هـ حيث سيطر ألفونسو السادس على مدينة طليطلة واتخذها عاصمة لمملكته. وتلا هذا التاريخ سيطرة الإسبان على قواعد أندلسية خلال الحكم المرابطي. وقد تعرض هؤلاء المدجنون إلى الاضطهاد والتنصير والإفناء بعد انتصار المرابطين في معركة الزلاقة عام 479 هـ. وبمرور الزمن تعرضت هذه الجماعات إلى الانحلال والانقراض بتوالي الأجيال، وانقطاع الصلة بمواطن العروبة والإسلام، فأخذوا يفقدون الكثير من أخلاقهم وتقاليدهم ولغتهم. ومع ذلك فقد ظلت بقايا قليلة منهم، رغم الإرهاب، محتفظة بعروبتها حتى أواخر القرن السادس عشر الميلادي (¬445). وانضوت الأندلس تحت الحكم الموحدي القائم على الدين أيضاً، فسادت حياة الجهاد والخشونة على البلاد في البداية، وكرس خلفاء الموحدين جهودهم في إشاعة الأمن والاستقرار في ولاياتهم. ولما بلغ الخليفة عبد المؤمن عودة بعض الناس إلى مجالس الغناء والطرب أصدر مرسوماً عام 556 هـ إلى ولاته بمطاردة هؤلاء وإزالة المنكرات (¬446). وسار على نهجه ولده أبو يعقوب يوسف (558 - 580 هـ) فنعمت الأندلس في عهده بالاستقرار والهدوء، ووصف هذا الخليفة بالتدين ورغبته في الجهاد (¬447)، وتوفي متأثراً بجراحه كما هو معروف. وفي عهد الخليفة المنصور (580 - 595 هـ) جاهر بالمذهب الظاهري وجعله المذهب الرسمي. وطارد علم الفروع، وحارب المذهب المالكي وعمل على إزالته من المغرب والأندلس (¬448). وهذا الأمر رغم كونه عقائدياً، إلا أن له صفة إجتماعية تتعلق بمعتقدات الناس اليومية. كما نشط هذا الخليفة بمطاردة مظاهر الفساد والفجور حتى أنه منع صنع الثياب ¬_______ (¬443) إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، ص 46. (¬444) ثلاث رسائل أندلسية، ص 28. (¬445) بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ص 507 وما بعدها. (¬446) أبو رميلة، علاقات، ص 430. (¬447) السعيد، الشعر في عهد المرابطين والموحدين، ص 31. (¬448) المراكشي، المعجب، ص 354 - 355.

الحريرية (¬449). وقد نال هذا الخليفة إعجاب عامة الناس وأنزلوه منزلة الأولياء وحاكوا حوله الأساطير، التي تعبر عن خيال العامة التي ازداد تعلقها بهذا الخليفة (¬450). وبعد موت هذا الخليفة أخذت دولة الموحدين بالأفول، ولا سيما بعد معركة العقاب عام 609 هـ. وتولى بعد الناصر ملوك ضعفاء لعبت بهم الأهواء وتجاسرت عليهم العامة، فأوجدت هذه الحالة نوعاً من القلق والتمزق النفسي في بلد الأندلس، فأكثر الشعراء من الشكوى، الشكوى من الدهر ومن الظلم ومن الفقر ومن الفساد (¬451). هذا بالإضافة إلى ميل ولاة الأمر إلى شراء الجواري وتعليمهن الغناء، فقد كان لدى (أبو علي بن يبقى) والي مالقة جارية علمها الغناء فطلبها منه أبو العلاء المأمون فلم يستجب لطلبه، فلما تولي المأمون الخلافة عام 626 هـ أحضر إليه أبا علي وضرب عنقه في إشبيلية (¬452). وكان للمرأة مكانة مرموقة بالأندلس في عصر الموحدين، وهو استمرار للعصر السابق، ونستدل من آراء ابن رشد فيلسوف الموحدين علو المكانة التي وصلت إليها المرأة. فإبن رشد يرى أنه لا اختلاف بين الرجال والنساء في الطبع وإنما هو اختلاف في الكم، أي أن طبيعة النساء تشبه طبيعة الرجال، ولكن النساء أضعف من الرجال في الأعمال. فطالب بإفساح المجال للنساء بالعمل وإعطائهن حرية التفكير (¬453). ولعل هذه النظرة هي التي شجعت الشعراء على رثاء زوجاتهم دون أي خجل، وخير مثال رثاء ابن جبير زوجته أم المجد بديوان شعر كامل (¬454). وفي عصر الموحدين يلمع إسم الشاعرة حفصة الركونية، وأخريات غيرها (¬455)، كن يقلن غزلاً صريحاً دون حرج أو خوف من عرف إجتماعي (¬456). وتزوج الخلفاء الموحدون من سبايا الإسبان، واعتباراً من عهد الخليفة أبي يعقوب يوسف، ولهذا كان بعض أولاده وأولاد أولاده من هؤلاء الإسبانيات (¬457). وتميز هذا ¬_______ (¬449) عنان، عصر الموحدين، ص 142 - ينظر، أبو رميلة، علاقات، ص 431. (¬450) المقري، نفح، ج 4، ص 382 - السعيد، الشعر في عهد المرابطين، ص 33. (¬451) السعيد، الشعر، ص 217 وما بعدها. (¬452) أبو رميلة - علاقات، ص 431. (¬453) أحمد أمين، ظهر الإسلام، ج 3، ص 257. (¬454) عبد الله المراكشي، الذيل والتكملة، ج 5، ص 608. (¬455) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 491 وما بعدها - المقري، نفح، ج 1، ص 292. (¬456) السعيد، الشعر، ص 51. (¬457) المراكشي، المعجب، ص 336، ص 404.

العصر أيضاً بإسلام بعض أمراء الإسبان، وبخاصة من مملكة قشتالة، حيث لجأ إلى الموحدين وأعلن إسلامه وتسمى باسم (أبو زكريا) وأصبح قائداً في الجيش الموحدي. ووجد بالمقابل أن أحد أمراء الموحدين اعتنق المسيحية (¬458). واضطهد خلفاء الموحدين يهود الأندلس، وخيرهم عبد المؤمن بن علي بين الموت أو الهجرة إلى الشمال الإسباني أو الإسلام. فأسلم منهم طائفة ولحقت أخرى بدار الحرب (الشمال الإسباني)، وشمل الأمر المسيحيين كذلك (¬459). وهذا يدل على سياسة متعصبة تنافي سماحة تعاليم الإسلام وموقفه من أهل الذمة. كما أجبر الخليفة أبو يوسف يعقوب (580 - 595 هـ) يهود المغرب على التحلي بزي خاص، يميزهم عن غيرهم (¬460). ومن الطبيعي أن ينسحب هذا الأمر على ولاية الأندلس الموحدية. وعلى كل حال فإن النصارى في الأندلس كانوا أكثر حرية من اليهود، فلم يميزوا بلباس معين، كما أن الشعب الأندلسي يحس تجاههم بروابط عريقة لا يمكن أن يقارن بموقفه من اليهود (¬461). وفي عصر مملكة غرناطة، فإن العناصر السكانية في المجتمع النصري تتألف من العرب والبربر وبعض الجاليات الإسلامية التي وصلت الأندلس قادمة من الهند وخراسان وإيران وسكنت ضواحي غرناطة (¬462). وهذه العناصر تشكل طائفة المسلمين بالمملكة. وسادت في هذه المملكة موجة الاعتزاز بالعروبة وبالانتماء إلى قبائلها وخصائصها (¬463). وحظي المسيحيون برعاية هذه المملكة وحمت الكثير من سكان الشمال الإسباني الذين لجأوا إليها واعتنق قسمٌ منهم الإسلام. كما سهلت هذه المملكة للمسيحيين الإسبان حرية التجارة (¬464). وبالإضافة إلى هؤلاء وجد الأسرى الذين كثر وجودهم في مملكة غرناطة بسبب حروب الجهاد. وقسم من هؤلاء الأسرى اعتنق الإسلام فعرف هؤلاء بالمرتدين، وقد لاقوا الأمرين بعد سيطرة الإسبان على مدن هذه الدولة (¬465). ¬_______ (¬458) أبو رميلة، علاقات، ص 463 - 464. (¬459) ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، ج 5، ص 281. (¬460) المراكشي، المعجب، ص 383. (¬461) السعيد، الشعر، ص 53، ص 58. (¬462) ينظر، ابن بطوطة، الرحلة، ج 2، ص 769. (¬463) ينظر، المقري، نفح، ج 1، ص 447 - ج 5، ص 7، ص 16، ص 479. (¬464) فرحات، غرناطة، ص 108، ص 110. (¬465) أيضاً، ص 112.

ووجدت طائفة في مملكة غرناطة تسمى (الفكاكين) ومهمتها تسهيل تبادل الأسرى بين مملكة غرناطة والممالك الإسبانية، وقد عرف الفكاكون بالاستقامة والصدق وتمتعوا بثقة الطرفين، ونالوا أجوراً عالية بدل أتعابهم (¬466). وفي الوقت الذي استقبل فيه السلطان محمد الخامس عام 766 هـ ثلاث مائة عائلة يهودية هربت من اضطهاد القشتاليين، مع لجوء يهود البليار وقطلونية إلى مملكة بني الأحمر، إلا أن بعض سلاطين بني الأحمر أجبروا اليهود على وضع شارة تميزهم عن المسلمين، ومنعوا من ركوب الجياد (¬467)، ولقي هؤلاء اليهود الاضطهاد عندما سقطت مملكة غرناطة بيد الإسبان. وكانت للمرأة مركز جيد في مجتمع غرناطة، وقد عرف هذا المجتمع عدداً منهن اشتهرن في ميادين الأدب والعلم والسياسة، ومثال على ذلك: مريم أم إسماعيل التي كانت محظية لدى يوسف الأول، وكان لها الدور البارز في خلع محمد الخامس. وتزعمت الصراع على السلطة عائشة الحرة زوجة أبي الحسن علي بن الأحمر وخليلته ثريا، وهذا ما دفع بملك بني الأحمر إلى الهاوية. ومن النساء اللواتي اشتهرن في اللغة والأدب حمدونة بنت زياد وحفصة بنت الحاج الركونية، وأم الحسن بنت أبي جعفر الطنجالي التي لمع إسمها في حقلي الطب والأدب (¬468). وعلى الرغم من عدم الاستقرار السياسي في هذه المملكة فقد ظهرت فيها مجالس اللهو والترف حيث الشراب والرقص والغناء. ومعنى هذا أن المجتمع الغرناطي لم ينس حياة المرح حتى في أيام المحن، ولم تغمره الكآبة إلا عندما دق الإسبان أبواب غرناطة (¬469). وكان الطاعون الأسود الذي انطلق من آسيا الوسطى عام 735 هـ ووصل إلى أوروبا ماراً ببلاد إيطاليا وفرنسا ومنها إلى إسكندنافيا في عام 748 هـ، وصلت رياحه إلى البليار وبرشلونة وبلنسية والمرية في عام 749 هـ، ثم انتقل إلى مالقة، فحصد آلاف الناس من سكان مملكة غرناطة، وبخاصة مدن غرناطة وبلش ومالقة. كما عرف المجتمع النصري ¬_______ (¬466) فرحات، غرناطة، ص 113 - 114. (¬467) ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 84 - المقري، نفح، ج 1، ص 223 - فرحات، غرناطة، ص 115 - 116. (¬468) ينظر، المقري، نفح، ج 4، ص 318 - فرحات، غرناطة، ص 122. (¬469) فرحات، غرناطة، ص 138 - 139.

الاهتمام بالصحة العامة، واشتهر المارستان في غرناطة والذي بني في عهد السلطان محمد الخامس، وكان هذا البناء مؤلفاً من جناحين واحد للرجال وآخر للنساء وكل جناح يتألف من طبقتين. بينهما بهو كبير في وسطه بركة ماء تصب فيها النافورات (¬470). كما كانت رياضة الصيد وسباق الخيل ورمي الجريد من أهم أعمال التسلية في المجتمع النصري، ولعلها تمارين عسكرية مبسطة يتدرب عليها أفراد المجتمع الذي تتطلب ظروفه اليقظة والحذر والبسالة على الدوام (¬471). النظم القضائية: تعتبر خطة القضاء بالأندلس من أعظم الخطط عند الخاصة والعامة وذلك لتعلقها بأمور الدين، مع احترام ولاة الأمر فيها لهذه الخطة وتطبيقها على أنفسهم وحاشيتهم إذا اقتضى الأمر ذلك (¬472). وخلال عصر الولاة 95 - 138 هـ كانت الأندلس في فترة قلقة تعتمد الجهاد في سبيل الله في الشمال الإسباني أو وراء جبال البرتات، بالإضافة إلى بعض الصراعات الداخلية. ومعنى هذا أن صفة الجندية كانت غالبة على أهلها. ولهذا سمي القاضي في هذه الفترة بقاضي الجند (¬473). وهذا تقليد قضائي موجود في شمال إفريقية خلال هذه الفترة (¬474). وأشهر قضاة الجند المسلمين في الأندلس خلال عصر الولاة ثلاثة هم: القاضي مهدي بن أسلم، وهو من أبناء المسالمة، والقاضي عنترة بن فلاح والقاضي يحيى بن زيد التجيبي (¬475). ومن خلال تراجم هؤلاء القضاة يتبين لنا ما يلي: 1 - إن بعضهم، القاضي يحيى بن زيد، على رواية إنه تولى قضاء الأندلس بأمر من الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) (¬476). وفي رواية أخرى إن والي ¬_______ (¬470) ينظر، فرحات، غرناطة، ص 134 - 135. (¬471) ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 90 - المقري، نفح، ج 7، ص 174. (¬472) ينظر، المقري، نفح، ج 1، ص 217 - الحجي، القضاء، 211. (¬473) الخشني، قضاة قرطبة، ص 14. (¬474) ينظر، المالكي، رياض النفوس، ج 1، ص 57 - الدباغ، معالم الإيمان، ج 1، ص 202. (¬475) ينظر، الخشني، قضاة قرطبة، ص 8 - 14 - النباهي، المرقبة العليا، ص 42 - 43 - ابن الآبار، التكملة، ج 2، ص 731. (¬476) النباهي، المرقبة العليا، ص 43 - الخشني، قضاة قرطبة، ص 14.

إفريقية حنظلة بن صفوان الكلبي إلى الأندلس الوالي أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي (125 - 128 هـ) ووجه معه يحيى بن يزيد التجيبي قاضياً (¬477). 2 - والي الأندلس هو الذي يعين قاضي الجند، كما هو حال القاضي مهدي بن أسلم الذي ولاه هذا المنصب والي الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي (116 - 121 هـ) (¬478). 3 - وصف جميع هؤلاء القضاة بالورع والتقوى، مع تميزهم بالتحري عن الحق، وإرجاعه إلى أهله، مع براعتهم في البلاغة والخطابة (¬479). 4 - كان هؤلاء القضاة يتقبلون النقد من الناس، ويصلحون أمورهم على ضوء هذا النقد، لأن القاضي يجب أن يكون صافي السريرة كورعه وتقواه في الظاهر، كما حصل للقاضي عنترة بن فلاح (¬480). 5 - وجد تقليد قضائي أندلسي خلال هذه الفترة بكتابة عهد تولية القاضي من قبل الوالي، ووجد أيضاً من باب إكرام القاضي أن القاضي نفسه كتب عهد التولية لنفسه كما حصل للقاضي مهدي بن أسلم (¬481). ومن خلال هذا العهد نرى: أ - التلطف مع الخصوم والاستماع لكل ما يقولون، وهذا تقليد إسلامي منذ فجر الإسلام. ب - تعقد مجالس القضاء في المسجد. ج - وردت في العهد وظائف تابعة لمنصب القضاء وهي: 1 - وظيفة الفتيا والمشورة وأعوان القاضي (المعينون). 2 - الشهود والمزكون (الذين يزكون حجج الخصوم). 3 - الاستعانة بالقاضي إبراهيم بن حرب. ولا توجد لدينا معلومات عن هذا القاضي (¬482)، لكن يبدو لنا أن هذا القاضي كان قاضي الجماعة في قرطبة، وأن مهدي ¬_______ (¬477) الخشني، قضاة قرطبة، ص 14. (¬478) النباهي، المرقبة العليا، ص 42. (¬479) الخشني، قضاة قرطبة، ص 9 - النباهي، المرقبة العليا، ص 43. (¬480) أيضاً، ص 13. (¬481) ينظر، الخشني، ص 9 وما بعدها. (¬482) مؤنس، فجر الأندلس، ص 648.

ابن أسلم والقضاة الآخرين كانوا قضاة الجند الذين يفصلون في أمر الجند في العاصمة أو عندما يخرجوا معهم في معارك الجهاد، ودليلنا على ذلك، أنه على الرغم من وضوح منصب قاضي الجماعة بقرطبة في عصر الإمارة (¬483)، لكن بقي منصب قاضي الجند بقرطبة وتولاه محمد بن بشير (توفي عام 198 هـ) (¬484). 6 - واحترم الحكم العربي في الأندلس خلال هذه الفترة أهل الذمة من اليهود والمسيحيين، وجعل لهم الحرية الكاملة في اختيار قضائهم وفض المنازعات التي تقع بينهم بموجب قوانينهم الخاصة ولا تتدخل الدولة في أمورهم، ولهذا وجد اسم قاضي العجم أو القومس. وفي الحالات التي يقع فيها الخصام بين مسلم وذمي يقوم القاضي المسلم بفض المنازعات، ولذا يجلس هذا القاضي في رحبة المسجد لكي يتمكن أهل الذمة الوصول إليه بيسر (¬485). وفي عصر الإمارة 138 - 316 هـ، استقرت الدولة العربية في الأندلس وبدأت نظمها تظهر أكثر وضوحاً مما كانت عليه في عصر الولاة. ولذا نرى في هذا العصر الاهتمام بنظم القضاء، وقد سار عبد الرحمن الداخل وأولادهُ وأحفادهُ الذين حكموا الأندلس من بعده على اختيار القضاة الجيدين الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم. ولهذا نرى من خلال كتب التاريخ التي تترجم حياة كل أمير أموي تشير إلى أهم قضاته (¬486)، ونرى من خلال الكتب الأندلسية التي اهتمت بالقضاء أنها تروي حياة القاضي مشيرة إلى اسم الأمير الذي ولاه القضاء (¬487). ولنظام القضاء في هذا العصر عدة مميزات أهمها: 1 - قاضي العاصمة قرطبة يسمى قاضي القضاة أو قاضي الجماعة وكانت سلطته لا تتجاوز حدود الإقليم أو المدينة نفسها. وكان للمدن والأقاليم الأندلسية الأخرى قضاة لا علاقة لهم بقاضي الجماعة، ولكن أحياناً كان الأمير يستشير قاضي الجماعة في تعيين ¬_______ (¬483) الخشني، قضاة قرطبة (المقدمة ز). (¬484) النباهي، المرقبة العليا، ص 21. (¬485) ينظر، مؤنس، فجر الأندلس، ص 447، ص 526 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 141، ص 158. (¬486) ينظر، ابن عذاري، ج 2، ص 48 وما بعدها - الخشني، قضاة قرطبة، ص 15 وما بعدها. (¬487) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 43 وما بعدها - الخشني، قضاة قرطبة، ص 15 وما بعدها.

قضاة الأقاليم، وأحياناً يقوم بمهمة التحقيق مع قضاة الإقليم عندما يكلفه الأمير بذلك (¬488). وقاضي الجماعة يقيم في العاصمة، وبقي منصب قاضي الجند الذي يرافق الجيوش في حلها وترحالها، وربما جمع المنصبان في شخص واحد كالقاضي يحيى بن زيد التجيبي فإنه كان قاضي الجماعة وقاضي العسكر لخروجه مع الأمير في الغزوات (¬489). 2 - ومن خلال دراسة نظام القضاء في عصر الإمارة، نرى إحجام عدد كبير من الفقهاء والعلماء على تولي خطة القضاء، وقد تذرعوا بحجج كثيرة للتخلص من تولي هذا المنصب، فمنهم من هرب بعد إجباره على تولي القضاء، ومنهم من تعرض للخطر بسبب امتناعه، لأن هذا الامتناع كان يغضب الأمير الأموي، الذي يوشك أن يفتك بهذا الرجل، ومنهم من مد عنقه لضربه بالسيف تحدياً لسلطة الأمير وامتناعاً عن قبول هذا المنصب. وأكثر الأحيان يخضع الأمير الأموي لرغبة الممتنع، ولكن يترجاه أن يشير عليه بمن يصلح أن يتولى هذا الأمر (¬490). 3 - من المعروف أن للقاضي راتباً حددته له الدولة من بيت المال (¬491)، ولكن نرى في الأندلس أن بعض القضاة أمثال محمد بن إسحاق بن السليم كان يصيد السمك في نهر قرطبة ويقتات من ثمنها ولا يؤخذ رزقاً من الدولة (¬492). ووجد من قضاة الأندلس من امتنع عن أخذ الأجور عن يوم العطل والجمع، وعن الأيام التي لم ينظر فيها للقضاء بسبب انشغاله بأمور أخرى أمثال القاضي سليمان بن أسود الغافقي، وعمر بن شراحيل المعافري وغيرهم، ومنهم من بقي على حاله لم يغيره المنصب أمثال القاضي محمد بن سلمة الذي بقي يسكن داراً للإيجار (¬493). 4 - وجد في نظام القضاء الأندلسي خلال عصر الإمارة، نظام المناوبة على منصب ¬_______ (¬488) الخشني، قضاة قرطبة، المقدمة ح. (¬489) مؤنس، فجر الأندلس، ص 645 - إبراهيم الدوري، عبد الرحمن الداخل، ص 244. (¬490) ينظر، النباهي، المرقبة العليا؛ ص 12 وما بعدها. (¬491) ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 1، ص 218. (¬492) ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 214 (هذا نموذج في عصر الخلافة ضربناه مثلاً للتدليل). (¬493) ينظر، الخشني، قضاة قرطبة، ص 22 - 73، ص 95.

قاضي الجماعة بقرطبة، فيعطى عاماً لقاضي، وعاماً لقاضي آخر، وقد تناوب على هذا المنصب القاضي معاوية بن صالح الحضرمي والقاضي عمر بن شراحيل المعافري، وإذا نسي الأمير (وبخاصة في عصر الداخل) عملية المناوبة يذكره القاضي صاحب الدور بهذا الأمر (¬494). 5 - وعهد إلى القاضي بجانب منصبه الرسمي أعمالاً أخرى، فالأمير عبد الرحمن الداخل كلف القاضي معاوية بن صالح الحضرمي بأن يذهب إلى بلاد الشام لجلب أخته أم الأصبغ، وهو الذي جلب للأندلس بعض تحف أهل الشام منها الرمان والذي عرف فيما بعد بالرمان السفري (¬495). وبجانب القضاء تولى هذا القاضي أيضاً الصلاة في المسجد الجامع وكذلك الخروج في الجيش للجهاد في سبيل الله، حيث خرج هذا القاضي مع الأمير الداخل في غزوة سرقسطة التي حارب بها ابن الأعرابي. والقاضي الفرج بن كنانة الذي خرج مع القائد عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى الشمال الإسباني يمارس الجهاد ورابط هناك (¬496). 6 - ونرى من خلال دراستنا لنظام القضاء الأندلسي في عصر الإمارة، تميز القضاة بصفة الورع والتقوى والصلابة التي تصل أحياناً إلى تحدي الأمير وحاشيته. فنرى مثلاً القاضي نصر بن طريف اليحصبي يقف بصلابة أمام الأمير عبد الرحمن الداخل حول قضية حبيب القرشي (¬497). وكذلك القاضي المصعب بن عمران قاضي الأمير الحكم الذي حكم عدلاً في قضية ضيعة أحد أهالي جيان متحدياً الأمير وقريبه العباس بن عبد الملك الذي اغتصب هذه الضيعة (¬498). وكذلك القاضي محمد بن بشير المعافري الذي تولى القضاء للأمير الحكم على شروط منها: أن أحكامه تطبق على الجميع من الأمير إلى حارس السوق. وبالفعل نفذ أحكامه على الأمير الحكم حول رحى القنطرة، ورفض كذلك شهادة الأمير الحكم في قضية سعيد الخير بن الأمير عبد الرحمن الداخل (عم ¬_______ (¬494) أيضاً، ص 22. (¬495) أيضاً، ص 17. (¬496) ينظر، الخشني، قضاة قرطبة، ص 17 - 18، ص 91 - المرقبة العليا، ص 54. (¬497) النباهي، المرقبة العليا، ص 44. (¬498) أيضاً، ص 46 - الخشني، قضاة قرطبة، ص 26.

الأمير الحكم) (¬499). وكان الموقف الصلب الذي وقفه القاضي سليمان بن الأسود الغافقي في وجه الأمير محمد والي ماردة، في عهد أبيه الأمير عبد الرحمن، في قضية الجارية التي تعود لليهودي، هذا الموقف هو الذي دفع الأمير محمد عندما تولى الحكم أن يعين هذا القاضي، قاضياً للجماعة بقرطبة (¬500). 7 - كان قضاة الأندلس، وبالذات قاضي الجماعة، إذا أشكل عليهم أمرٌ قضائي أو فقهي، استعانوا برأي زملائهم قضاة المشرق، وهذا يدل بوضوح على الصلات الفكرية المتصلة التي تتجاوز الخلافات السياسية. فنرى القاضي يحيى بن معمر قاضي الأمير عبد الرحمن الداخل إذا أشكل عليه أمرٌ كتب به إلى القاضي أصبغ بن الفرج وزملائه في مصر. وكذلك القاضي محمد بن بشير المعافري قاضي الأمير الحكم إذا أشكل عليه الأمر كتب إلى القاضي عبد الرحمن بن القاسم. هذا بالإضافة إلى رحلة بعضهم إلى المشرق بنفسه كرحلة القاضي عامر بن معاوية قاضي الأمير المنذر (¬501). 8 - من المعروف لدينا، أن علماء الأندلس عموماً كانوا يشدون الرحال إلى المشرق للتزود بالعلوم ومن ثم الرجوع إلى الأندلس لينشروها في ربوع بلادهم. ولكن وجد لدينا ومن خلال دراسة نظام القضاء في عصر الإمارة، ونظراً للمكانة الجليلة التي وصل إليها قاضي الجماعة في قرطبة، أن علماء من المشرق رحلوا على الأندلس، وأخذوا منه العلم، أمثال القاضي معاوية بن صالح الحضرمي الذي رحل إليه زيد بن الحباب من الكوفة فسمع منه بالأندلس حديثاً كثيراً (¬502). 9 - وجد خلال دراستنا للقضاء في هذا العصر تهاون بعض القضاة في أحكامهم مما دفع الأمراء إلى عزلهم والاستغناء عن خدماتهم، وهذا التهاون تراوح بين الاستعجال في الأحكام مثل القاضي معاذ بن عثمان الشعباني (¬503)، أو التهاون في إقامة حد شرعي، كتهاون القاضي محمد بن زياد اللخمي في سفك دم ابن أخ عجب حظية ¬_______ (¬499) النباهي، المرقبة العليا، ص 48 - 49 - الخشني، قضاة قرطبة، ص 29. (¬500) ينظر، أيضاً، ص 56 - 57 - أيضاً، ص 73. (¬501) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 45، ص 48 - الخشني، قضاة قرطبة، ص 35، ص 90. (¬502) النباهي، المرقبة العليا، ص 43. (¬503) النباهي، المرقبة العليا، ص 55.

الأمير الحكم الذي اتهم بالزندقة (¬504). 10 - ويبدو كذلك، أن نظام القضاء في الأندلس واعتباراً من عصر الإمارة كان مكتمل الجوانب، فهناك مجلس الشورى أو المشاورة الذي يجمعه الأمير في أمر جلل، ويشمل قاضي الجماعة وفقهاء الأندلس وسمي هذا المجلس بالأندلس بـ (مجلس النشمة)، هذا المجلس هو الذي نظر في قضية ابن أخ عجب المارة الذكر (¬505). وكان كذلك للقاضي أعوان يسمون بـ (أعوان القاضي) وهم الذين يستدعون الخصوم إلى مجلس القضاء في المسجد الجامع (¬506). وهم الذين يسمون أيضاً بـ (القَوَمة)، وهناك الأمناء الذين يعتمد عليهم القاضي وهم الذين يشرفون على التركات والودائع (¬507). كما كان للقاضي كاتب، كما وجد السجن لمعاقبة المخالفين. وهناك صاحب الوثائق الذي يقدم وثائق الدعاوى لكي ينظر فيها القاضي (¬508). وفي عصر الخلافة 316 - 422 هـ، استمرت هذه القواعد العامة للقضاء ثابتة الأركان، تنمو وتزدهر تحت رعاية خلفاء قدروا أهمية القضاء فاختاروا لهذا المنصب أفقه الناس وأكثرهم علماً وتديناً. فنرى القاضي الصلب الذي لا يخشى في الحق لومة لائم أمثال المنذر بن سعيد البلوطي الذي تعرض للناصر علناً وانتقده على إسرافه في بناء مدينة الزهراء، وكان رد فعل الناصر أنه أقسم أن لا يصلي وراءه في مسجد الزهراء. وكان يذهب إلى قرطبة ويصلي في مسجدها (¬509). ونجد كذلك الصلاحيات الواسعة التي أعطيت للقاضي، فكان الناصر إذا خرج من العاصمة استخلف على قصره القاضي أسلم ابن عبد العزيز، بالإضافة إلى تكليف القاضي بمهمات أخرى مثل السفارات إلى كبار الأمراء، والإشراف على الثغور، وقيادة الجيوش إلى الشمال الإسباني أمثال القاضي محمد بن عبد الله بن أبي عيسى، والقاضي الحسن بن عبد الله الجذامي (¬510). ¬_______ (¬504) الخشني، قضاة قرطبة، ص 59 وما بعدها. (¬505) ينظر، الخشني، قضاة قرطبة، ص 59، ص 92، ص 101. (¬506) النباهي، المرقبة العليا، ص 57 - الخشني، قضاة، ص 108. (¬507) ينظر ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 2، ص 417، ص- 42 - الخشني، قضاة، ص 110. (¬508) الخشني، قضاة، ص 114 - 115. (¬509) النباهي، المرقبة العليا، ص 66 وما بعدها - ص 83. (¬510) أيضاً، ص 60 - ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 2، ص 294.

من المميزات المهمة التي ظهرت في النظام القضائي خلال عصر الخلافة هي: 1 - أسرف بعض القضاة أمثال القاضي أسلم بن عبد العزيز في ضرب الجناة والمخالفين بالسياط (¬511)، ويبدو أن هذه الظاهرة أصبحت مكروهة لدى القضاة الآخرين، فلهذا نرى القاضي أحمد بن بقي بن مخلد والقاضي محمد بن يبقى بن زُرب، لم يضربا أحداً بالسياط، إلا من استحق ذلك من الفسقة والمارقين (¬512). 2 - تولى القاضي مهمات جديدة خلال هذه الفترة، وهي مطاردة المذاهب الفلسفية بالأندلس، وبخاصة مطاردة أتباع مدرسة ابن مسرة الفلسفية المشهورة، فتولى هذه المهمة القاضي محمد بن يبقى بن زرب بمطاردة أتباع هذه المدرسة، ومقارعتها فكرياً كذلك بوضع كتاب يرد فيه على آراء ابن مسرة (¬513). كما تولى بعض قضاة قرطبة محاربة الملاهي ومجالس الطرب، ويأمر أتباعه بكسر أدواتهم (¬514). 3 - في عصر الخلافة وبالذات في فترة الحجابة، سمي قاضي الجماعة بقرطبة بقاضي القضاة وأول من تسمى به القاضي أبو العباس أحمد بن عبد الله بن ذكوان، وهو الذي شارك المنصور في معظم غزواته، وأفرد له بيتاً خاصاً داخل القصر لكي يكون قريباً من الحاجب المنصور حتى يشاوره في معظم الأمور (¬515). 4 - ضمت إلى قاضي القضاة مناصب أخرى مهمة كمنصب الوزارة الذي أضيف إلى ابن ذكوان (¬516)، وصاحب المظالم (ولاية المظالم) التي أعطيت إلى القاضي أبي المطرف عبد الرحمن بن محمد بن فطيس، مع خطة الوزارة أيضاً والصلاة (¬517)، وهي صلاحيات واسعة جداً كما نرى. وخلال فترة الفتنة 399 - 422 هـ نرى أن نظام القضاء أصابه الخلل الذي عم سائر نظم الأندلس، ومن المميزات الجديدة التي ظهرت في هذه الفترة: ¬_______ (¬511) الخشني، قضاة قرطبة، ص 108 - ص 113. (¬512) النباهي، المرقبة العليا، ص 63، ص 78 - الديباج المذهب، ج 2، ص. (¬513) أيضاً، ص 78. (¬514) الخشني، قضاة قرطبة، ص 119. (¬515) النباهي، المرقبة العليا، ص 84. (¬516) أيضاً، ص 86. (¬517) أيضاً، ص 87 - ظافر القاسمي، نظام الحكم، ج 2، ص 577.

1 - انتهاك حرمة القضاء، وإهانة القاضي الذي أصبح أضحوكة وألعوبة بيد الغوغاء، كما حصل للقاضي يحيى بن وافد اللخمي الذي تخلص من الصلب بأعجوبة، إلا أنه سجن ومات في سجنه عام 404 هـ (¬518). 2 - تعطيل خطة القضاء أكثر من ثلاث سنوات خلال هذه الفترة وبالذات في عهد حكم سليمان بن الحكم (المستعين 403 - 407 هـ) وقد أعادها بنو حمود مرة أخرى وعهدوا بها إلى القاضي عبد الرحمن بن بشر (¬519). ولما سقطت الخلافة الأندلسية عام 422 هـ كان للقضاة نصيب وافر من تركتها، فأبو الحزم بن جهور قاضي الجماعة في قرطبة أسس دولة الجهاورة فيها (¬520). والقاضي إسماعيل بن عباد قاضي إشبيلية، أسس بها إمارته فقامت إمارة بني عباد فيها (¬521). والقاضي محمد بن الحسن الجذامي النباهي الوزير القاضي في إمارة بلقين بن باديس في غرناطة ومالقة، حيث تولى خطة القضاء والوزارة في جميع كورة رية (¬522) ونرى خلال عصر الطوائف عدة مظاهر فيما يتعلق بالقضاء: 1 - جرف تيار الفتنة بعض القضاة، وركضوا وراء أهوائهم فأيدوا الفرقة والانقسام، وكانوا أكبر عضد لأمراء الطوائف في تبرير طغيانهم وظلمهم وتزكية تصرفاتهم (¬523). 2 - تزعم صالح العلماء وخيرة القضاة الدعوة إلى توحيد الأندلس في أيام الطوائف، مدفوعين للقيام بهذا العمل سواءً حسبة لله تعالى، أو بتكليف من بعض أمراء الأندلس ويأتي في مقدمة هؤلاء القضاة الصالحين: القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (¬524). وشاركه في هذه المهمة ابن حزم الأندلسي من خلال نقده اللاذع لملوك الطوائف، وكذلك ابن حيان (¬525). ¬_______ (¬518) النباهي، المرقبة العليا، ص 88 - 89. (¬519) أيضاً، ص 89. (¬520) عنان، دولة الطوائف، ص 21 وما بعدها. (¬521) محمد ابن عبود، التاريخ السياسي، ص 44 وما بعدها. (¬522) النباهي، المرقبة العليا، ص 92. (¬523) ينظر، عنان، دولة الطوائف، ص 420 - 421. (¬524) السامرائي، " الدعوة إلى توحيد الأندلس "، ص 82 وما بعدها. (¬525) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 254 - المقري، نفح، ج 4، ص 453 - الحجي، التاريخ الأندلسي، ص 345.

3 - تزعم بعض القضاة ثورة بعض المدن الأندلسية ضد حكامها الخاضعين لملوك الإسبان. وتأتي في مقدمة هذه المدن، مدينة بلنسية التي ثار أهلها على حاكمها القادر ابن ذي النون بقيادة قاضيها أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن جحاف المعافري، فقتلوه عام 485 هـ، وتولى أمرها هذا القاضي (¬526). حاصر الكمبيادور بلنسية على أثر هذه الثورة واستمر حصاره لها من عام 485 هـ إلى عام 487 هـ فدخلها غاضباً، وأهان أهلها، وأحرق علمائها، وأول من وقع عليه الحرق قاضيها ابن جحاف المعافري وذلك في عام 488 هـ (¬527). 4 - ساهم الفقهاء والعلماء والقضاة في تهيئة الأمور لعبور المرابطين إلى الأندلس خلال عصر الطوائف. سواء أولئك الفقهاء الذين عبروا إلى عدوة المغرب يطلبون العون من أمير المرابطين، أم أولئك القضاة الذين أرسلهم بعض أمراء الطوائف إلى المغرب وهم: قاضي بطليوس أبو إسحاق بن مقنا، وقاضي غرناطة القليعي، وقاضي إشبيلية أبو بكر بن أدهم، إلى يوسف بن تاشفين للاتفاق معه على خطة العبور إلى الأندلس (¬528). وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، واعتمدت الدولة المرابطية الدين في جميع أحكامها واعتمدت كثيراً على العلماء والفقهاء. ومن مميزات قضاء الأندلس خلال هذه الفترة: 1 - اشتراك القضاة في حروب الجهاد ضد الممالك الإسبانية التي دخلت حرباً ضروساً ضد المرابطين في الأندلس. فلما انهزمت القوات المرابطية أمام قوات ألفونسو الأول المحارب ملك أرغون عام 514 هـ في معركة قتندة، استشهد كثير من المسلمين في هذه المعركة ومن بينهم العديد من العلماء والفقهاء منهم القاضي أبو على الصدفي (452 - 514 هـ) والقاضي أبو عبد الله محمد بن يحيى المعروف بابن الفراء قاضي المرية (¬529). وممن حضر هذه المعركة أيضاً القاضي الإشبيلي أبو بكر بن العربي (¬530). ¬_______ (¬526) ينظر، ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس، ص 103 - ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 31 - 32 - ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 179، ص 182، ص 203 - The cid and his Spain, P: 295-300 (¬527) ينظر، كريم عجيل، الحياة العلمية، ص 135 وما بعدها. (¬528) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 98 - 99 - السامرائي - علاقات، ص 157، ص 167 - 168. (¬529) ينظر، ابن بشكوال، الصلة، ترجمة (رقم 330) وترجمة رقم (1261) - المقري، نفح، ج 2، ص 90 - 93 - أزهار الرياض، ج 3، ص 153 - 154. (¬530) المقري، نفح، ج 4، ص 461 - أزهار الرياض، ج 3، ص 154.

2 - مشاركة القضاة في هذا العصر في أحداثه السياسية المهمة، وأفتوا بأمور خطيرة أقرتها دولة المرابطين. يتمثل هذا بدور قاضي الجماعة بقرطبة أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد الذي عبر إلى الأندلس وقابل أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وشرح له أحوال الأندلس، وما أصابها من حملة ألفونسو المحارب المدمرة عام 519 هـ بسبب استدعاء المعاهدين له، فأفتى بتغريبهم وإجلائهم من أوطانهم عقاباً لهم على هذا التآمر (¬531). أخذ علي بن يوسف بهذه الفتوى، وصدر عهده إلى جميع بلاد الأندلس بتغريب المعاهدين إلى عدوة المغرب، فنفيت منهم جموع غفيرة في رمضان عام 521 هـ (¬532). 3 - في عام 503 هـ صدرت أوامر علي بن يوسف بحرق كتب الغزالي وبخاصة كتاب إحياء علوم الدين، فتم إحراقها في المغرب والأندلس، واستمرت دولة المرابطين في سياستها هذه إلى آخر عهدها، حيث وجهت رسالة في عام 538 هـ من قبل تاشفين ابن علي إلى أهل بلنسية، يحدد فيها مناط الفتيا ومصدر الأحكام وهو مذهب مالك، ومحاربة البدع وكتبها وبخاصة كتب الغزالي (¬533). وقد استند الفقهاء في تبرير ذلك إلى احتواء كتاب الإحياء على علم الكلام والفلسفة. وهذا الأمر يدل على أن الدولة كانت خاضعة لسلطة الفقهاء، ويدل أيضاً على أن المذهب المالكي كانت له السيطرة على الجميع (¬534). وربما كان ذلك بسبب ما وجد في كتاب الإحياء من هجوم على طبقة العلماء والفقهاء الذين يتخذون من العلم والدين مطية لتحقيق أطماع دنيوية من ثراء وجاه. وقد عارض بعض قضاة الأندلس عملية الإحراق هذه، ويأتي في مقدمتهم قاضي المرية أبو الحسن البرجي (¬535). 4 - كلفت الدولة المرابطية بعض قضاة الأندلس بمهمات سياسية ودبلوماسية كبيرة. فقد أرسل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين عبدَ الله بن محمد العربي المعافري ¬_______ (¬531) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 4، ص 72 - 73 - النباهي، المرقبة العليا، ص 98 - 99 - ابن فرحون، الديباج المذهب، ج 2، ص 248 ترجمة (رقم 72). (¬532) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 114. (¬533) ابن القطان، نظم الجمان، ص 14 - 15 - السامرائي، علاقات، ص 430 - 431. (¬534) كنون، النبوغ المغربي، ج 1، ص 76. (¬535) السامرائي، علاقات، ص 431.

وولده محمد الملقب أبو بكر قاضي إشبيلية في سفارة إلى بغداد (485 - 493 هـ) من أجل إحضار تفويض الخلافة العباسية بصحة ولاية يوسف بن تاشفين، ووجوب طاعته، وإحضار فتوى من الإمام الغزالي بهذا المعنى (¬536). وقد أفلحت هذه السفارة في مهمتها (¬537). 5 - تزعم الفقهاء والقضاة ثورة أهل الأندلس على المرابطين في السنوات الأخيرة من الحكم المرابطي بالأندلس. وكان من الزعماء الفقيه محمد بن المنذر الذي سيطر على مدينة باجة (¬538). وكذلك القاضي حمدين بن محمد بن حمدين التغلبي الذي سيطر على قرطبة ولقبوه أمير المسلمين المنصور بالله (¬539). وتزعم قاضي غرناطة الثورة ضد المرابطين وهو (أبو الحسن علي بن عمر بن أضحى) (¬540). وفي مدينة مالقة ثار قاضيها (أبو الحكم بن حسون) على المرابطين ودعا لنفسه وحاصر المرابطين في المدينة حتى أخرجهم منها (¬541). وكذلك ثار في جيان قاضيها يوسف بن عبد الرحمن بن جزي وأنشأ بها حكومة مستقلة (¬542). وفي بلنسية تجمع الثوار تحت زعامة قاضيها أبي عبد الملك مروان بن عبد العزيز الذي قبل الأمر مكرهاً (¬543). ومن الملاحظ أن أكثر ثوار الأندلس ضد المرابطين هم من الفقهاء والقضاة وأعلام الأدب، وهذا يعود إلى المركز والنفوذ الذي تمتعوا به في ظل دولة المرابطين حتى تركزت فيهم عناصر الزعامة المحلية، فلما بدأ سلطان المرابطين بالأفول قام هؤلاء الفقهاء والقضاة بزعامة مدنهم من أجل استرداد سلطانهم القومي. إلا أن معظم هذه الثورات تم القضاء عليها إما بواسطة القوات المرابطية المتواجدة في ولاية الأندلس، أو بانضواء قادتها تحت لواء الدولة الموحدية الجديدة (¬544). ¬_______ (¬536) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 105 وما بعدها. (¬537) ينظر، السامرائي، علاقات، ص 389 وما بعدها. (¬538) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 203. (¬539) النباهي، المرقبة العليا، ص 103 - علام، الدولة الموحدية، ص 154. (¬540) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 211 - 212. (¬541) السامرائي، علاقات، ص 331 - 332. (¬542) ابن الخطيب، أعمال، ص 259 - عنان، عصر المرابطين، ص 321. (¬543) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 2، ص 219 - علام، الدولة الموحدية، ص 166. (¬544) عنان، عصر المرابطين، ص 318 - إحسان عباس، تاريخ الأدب الأندلسي، 39.

ثم أصبحت الأندلس ولاية موحدية، وتميز النظام القضائي فيها بعدة مميزات وأهمها: 1 - يقوم الخليفة الموحدي بتعيين قضاة الجماعة في سائر المدن الكبرى، دون تدخل ولاة هذه المدن. وشمل هذا الإجراء الأندلس التي يعين لها قضاة من أبنائها، إلا أن الدولة الموحدية أحياناً تولي القضاء ببعض المدن الأندلسية بعض المشهورين من قضاة المغرب، ومثال على ذلك أن أبا عبد الله محمد بن يخلفتين التلمساني ولي قضاء مرسية ثم قضاء قرطبة، وأن ابن جبل الهمداني من أهل وهران ولي قضاء إشبيلية عام 592 هـ (¬545). وفي الوقت نفسه كان الخليفة الموحدي يختار لقضاء الجماعة بمراكش بعض القضاة البارزين من أهل الأندلس أمثال أحمد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن بقي بن مخلد قاضي القضاة بالمغرب وهو من أهل قرطبة، وغيره (¬546). وهذا يعود إلى تفوق القضاة الأندلسيين في الفقه المالكي، وفي ممارسة الأحكام وتطبيقها (¬547). 2 - عانت الأندلس خلال حكم الموحدين من خطر الممالك الإسبانية، ودارت رحى الحرب بين الطرفين على أراضيها، وقد شارك الكثير من قضاة الأندلس خلال هذه الفترة في معارك الجهاد أمثال القاضي محمد بن حسن صاحب الصلاة الذي استشهد في وقعة العقاب عام 609 هـ، وكذلك القاضي إبراهيم بن أحمد الأنصاري الذي استشهد في جزيرة ميورقة عام 627 هـ عندما هاجمتها الأساطيل الأوروبية والإسبانية، والقاضي أبو الربيع سليمان بن موسى الحميري الكلاعي الذي استشهد عام 634 هـ في معركة أنيشة قرب بلنسية (¬548). 3 - في هذه الفترة التي شهدت ثورات ابن هود وابن غانية على الموحدين. فإن هؤلاء الأمراء اهتموا بالقضاء وولوه خيرة القضاة في مناطق نفوذهم. فالأمير محمد بن يوسف بن هود عهد بقضاء مالقة إلى القاضي محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن النباهي، وكذلك ولّى قضاء قرطبة للقاضي ربيع بن عبد الرحمن الأشعري (¬549) أما الأمير ¬_______ (¬545) ينظر، ابن الآبار، التكملة، ترجمة رقم 1616، ورقم 1719. (¬546) النباهي، المرقبة العليا، ص 117. (¬547) عنان، عصر الموحدين، ص 628. (¬548) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 115، ص 117، ص 119. (¬549) النباهي، المرقبة العليا، ص 112، ص 118.

إسحق بن محمد بن غانية أمير ميورقة، فعهد بقضاء الجزيرة إلى إبراهيم بن أحمد الأنصاري الشهيد (¬550). 4 - أعطيت صلاحيات واسعة لبعض القضاة بالأندلس، فأضيفت إلى أعمالهم أيضاً النظر في الحسبة والنظر في أمر الشرطة وغيرها من الأعمال. ومن القضاة الذين تولوا مثل هذه الأمور القاضي عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الخزرجي الملقب بابن الفرس (524 - 597 هـ) (¬551). وفي عصر مملكة غرناطة كان يطلق على رئيس القضاة اسم قاضي الجماعة وقاضي الحضرة وقاضي غرناطة. ويليه مرتبة قضاة مالقة والمرية ووادي أش ورندة وبسطة وسواها من المدن الكبرى في المملكة، ولقاضي الجماعة سلطة على سائر القضاة فيشرف على أعمالهم ويرشدهم، ويراقب سلوكهم، ويتأكد من صحة الأحكام التي تصدر عنهم. إلا أن تلك السلطة كانت مبدئية لأن السلطان النصري كان يصدر مرسوماً يعرف باسم (ظهير ملكي) يعين بموجبه قضاة الأقاليم دون الرجوع إلى قاضي الجماعة (¬552). ومن أشهر قضاة الجماعة بغرناطة في هذه الفترة القاضي يحيى بن عبد الرحمن الأشعري (توفي عام 639 هـ)، والقاضي أبو بكر محمد الأشبرون، الذي تولى أيضاً السوق والشرطة (توفي عام 671 هـ) (¬553). ومن أشهر قضاة المملكة والذين تولوا القضاء في مدينة مالقة القاضي الحسن بن محمد بن الحسن الجذامي النباهي، وكان صلباً في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان لا يقبل شهادة من يأكل الحرام (¬554). وشارك القضاة في معارك الجهاد التي خاضتها مملكة غرناطة ضد الممالك الإسبانية التي كانت تهدف إلى ابتلاع هذه المملكة. ففي عهد السلطان محمد الرابع (725 - 733 هـ) تولى منصب قاضي الجماعة الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الأشعري المالقي والذي استشهد في عهد السلطان يوسف الأول (733 - 755 هـ) في معركة طريف (¬555). ¬_______ (¬550) أيضاً، ص 116 - 117. (¬551) أيضاً، ص 110. (¬552) فرحات، غرناطة، ص 97. (¬553) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 124، ص 125. (¬554) أيضاً، ص 128. (¬555) ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية (سيرة أمراء بني نصر).

وقام قاضي الجماعة في مملكة غرناطة بمهام دبلوماسية، فالسلطان محمد الخامس أرسل القاضي أبا البركات الحاج إلى بلاط فاس في مهمة سياسية. وعندما كانت المملكة في آخر أيامها انتقل قاضي الجماعة ابن الأزرق إلى مصر ليطلب النجدة من المماليك في عهد السلطان قايتباي، وكذلك بعثة القاضي أبي بكر يحيى بن مسعود المحاربي إلى المغرب (¬556). النظم الاقتصادية: عندما تم لقاء موسى بن نصير وطارق بن زياد عام 94 هـ/713 م، وسارا سوية صوب طليطلة ينتظران انتهاء فصل الشتاء، من أجل استكمال فتح الشمال الإسباني، ضرب موسى بن نصير أول عملة ذهبية ليدفع منها رواتب جنده. ومعروف أن ضرب العملة كان من حق الخليفة نفسه، لكن الذي يبدو أن موسى قد خول بهذا الأمر من قبل الخليفة، سواء في أفريقية أو في الأندلس. وقد كان المسلمون يتعاملون خلال عام 92 وإلى عام 94 هـ بإسبانيا بالعملة الإفريقية التي ضربها موسى في عام 90 هـ. وقد رسمت هذه الدنانير الأندلسية الجديدة على هيئة العملة الإفريقية وكانت لاتينية عربية، ففي ناحية منها كتب (محمد رسول الله) يحيط به نص لاتيني على هيئة دائرة، وفي الناحية الأخرى نجمة ذات ثمان أذرع حولها كتابات لاتينية، ويلي ذلك تاريخ سكها وهو عام 97 هـ، وكذلك ضرب موسى عملة برونزية صغيرة لاتينية الكتابة (¬557). ولعلنا لا نميل إلى وجود الكتابة اللاتينية على النقود لأن الدولة الأموية عربت نقودها زمن الخليفة عبد الملك بن مروان (65 - 86 هـ) (¬558). وقد وضحت لنا بعض الدراسات، بأن موسى ضرب أول النقود الإسلامية في الأندلس، وكانت نسخاً لشكل نقود البلاد القديمة سواء من ناحية النوعية أو من ناحية الكتابة عليها بأحرف لاتينية والاحتفاظ بالرسوم التي كانت عليها قبلاً. والشيء الجديد فيها استبدال التعابير المسيحية بأخرى إسلامية ووضع التاريخ الهجري عليها (¬559). وإذا استثنينا وجود والٍ للأندلس، وقاضٍ إلى جانبه يسمى قاضي الجند، نجد ¬_______ (¬556) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 140 - ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 95 - فرحات، غرناطة، ص 100. (¬557) مؤنس، فجر الأندلس، ص 101. (¬558) ينظر، حسن إبراهيم حسن وأخر، النظم الإسلامية، ص 221. (¬559) ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 26.

بعض الوظائف التي يمكن أن نعتبرها وظائف مالية، مثل: صاحب أزمة الأرض والخراج، وصاحب الغنائم (¬560). إلا إننا لم نعثر على إشارة تدل على إرسال أموال من هذا البلد الغني سواء إلى والي إفريقية أو إلى خليفة دمشق (¬561). ما عدا الغنائم التي أخذها موسى وطارق عند رجوعهما إلى الشام. فالغالب أن عامل الأندلس كان ينفق أموال الأندلس على الجند والحملات العسكرية والمرافق العامة (¬562). جاء في نص الرسالة التشريفية: " وأما سائر النصارى الذين كانوا في المعاقل المنيعة، والجبال الشامخة، فأقرهم موسى بن نصير على أموالهم ودينهم بأداء الجزية، وهم الذين بقوا على ما حيز من أموالهم بأرض الشمال، لأنهم صالحوا على جزاء منها مع أداء الجزية ... " (¬563). كما جاء في النص أيضاً: " ... وإنه لما هزم لذريق لم يقف المسلمون بعد ذلك ببلد إلا أذعنوا إلى الصلح. ولذلك بقي الروم فيها على أرضهم وأموالهم يبيعون ويباع منهم " (¬564). كما يذكر لنا المقري بعد وصول موسى إلى الشمال الإسباني فيقول: " ... وأطاعت الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية " (¬565). ومعنى هذا أن أراضي الشمال الإسباني التي ذكرتها هذه المصادر، والتي حددت بالأراضي الواقعة شمالي نهر الوادي الكبير (¬566)، قد فتحت صلحاً ورضي أهلها بدفع الجزية والعيش بسلام في ظل الحكم العربي الإسلامي. أما الأراضي الجنوبية، أي التي تقع جنوبي نهر الوادي الكبير، فتعتبر أرض عنوة أي فتحت بقوة السيف فوزعت على المحاربين وأعطيت لهم سجلات بتمليكها (¬567). وقد خمس السمح هذه الأرض، أي مسحها وقرر عليها الخراج بنسبة الخمس (¬568). وكانت مصادر الأموال: الغنائم عن طريق الجهاد، والجزية التي يدفعها أهل الذمة ¬_______ (¬560) مؤنس، فجر الأندلس، ص 638 - 639. (¬561) بدر، دراسات، ج 1، ص 34. (¬562) مؤنس، فجر الأندلس، ص 610. (¬563) الرسالة الشريفية، ص 205 - ينظر ملحق رقم 1، Dozy, I, h, vol, P: 71-111 (¬564) أيضاً، ص 206 - الغساني، رحلة الوزير، ص 113. (¬565) نفح، ج 1، ص 273، ص 276. (¬566) مؤنس، فجر الأندلس، ص 625. (¬567) ينظر، نص الرسالة الشريفية، ص 207 - 208 - الغساني، رحلة الوزير، ص 113 - محمود علي مكي، " رواد الثقافة الدينية الأولى بالأندلس " مجلة البينة، عدد 6 (الرباط: 1962)، ص 56 - ملحق رقم 1. Dozy, I, h. (¬568) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 74.

بواسطة القومس (¬569)، والموارد التي يدفعها أهل البلاد بموجب معاهدات الصلح، وموارد الزراعة من قبل الفاتحين العرب بأراضيهم التي تملكوها وسكنوها، كما كان المزارعون القوط الذين يشتغلون بزرع الأرض، يدفعون للمالك أو للقبيلة المالكة ثلثي أو ثلاثة أخماس المحصول. فكان من أثر ذلك أن تحسنت أحوال المزارعين، كما أدى في الوقت نفسه إلى تقسيم الملكية وتمزيق الملكيات الكبيرة، كذلك تحسنت حال العبيد لأن المسلمين كانوا يعاملونهم بأفضل مما كان القوط يعاملونهم (¬570)، هذا بالإضافة إلى موارد الزكاة التي يدفعها أغنياء المسلمين بالأندلس. فتح المسلمون أرض الأندلس بأشكال مختلفة، فبعضها فتح عنوة (أرض الجنوب) وبعضها وجده المسلمون خالياً فاستوطنوه، وبعضها نزل أهله على الصلح فاحتفظوا بأراضيهم وجرى التعامل بينهم وبين الفاتحين بموجب شروط معاهدة معقودة بين الطرفين. وهذه الشروط بصورة عامة شملت أمرين: الأول أن يدفع هؤلاء جزية على رؤوسهم، والثاني خراجاً على أراضيهم، وكان على الأغلب جزءاً من غلة الأرض يعادل الثلث أحياناً والربع حيناً آخر حسب طيب الأرض وغلتها (¬571). وما عدا ذلك، فإن جميع الأراضي الأخرى التي وقعت بيد المسلمين سواء منها المفتوحة عنوة، أو الخالية التي هرب منها أصحابها من النبلاء ورجال الكنيسة. فتقاسمه الفاتحون على أساس نزول كل قوم فيما طاب له من الأرض (¬572). أما حق بيت المال في هذه الأراضي، فلم يحاول موسى بن نصير أن يقتطعه من الأراضي كلٌ حسب طريقة فتحها، أي أن يعامل قسماً منها كفيء، ويعامل القسم الآخر كغنيمة، بل عاملها كلها معاملة الغنيمة، ولم يحاول موسى أن يأخذ من الأراضي والسبي إلا الخمس، وبعد أن أخذ من خمس السبي ما اختاره لحمله إلى دمشق وترك بقيته (أي السبي) على أرض الخمس كي يثلث مال المسلمين، وعرف هؤلاء باسم الأخماس وأطلق على أبنائها بنو الأخماس (أولاد الأخماس) (¬573). ونظراً لضيق الوقت وسرعة استدعاء موسى إلى الشام بقيت بعض الأراضي دون تخميس، وقد تعلل ¬_______ (¬569) مؤنس، فجر الأندلس، ص 597. (¬570) صلاح خالص، إشبيلية، ص 47 وما بعدها - عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 75. (¬571) ينظر، رواية الرازي في الرسالة الشريفية، افتتاح الأندلس، ص 211 - بدر، دراسات، ج 1، ص 41. (¬572) المقري، نفح، ج 1، ص 258. (¬573) نص الرسالة الشريفية، افتتاح الأندلس، ص 204 - 205 - مؤنس، فجر الأندلس، ص 624.

الفاتحون برغبتهم بالعودة إلى المشرق، فأرضاهم الخليفة الوليد بإقرارهم على ما بأيديهم من الأراضي، معتبراً هذه الأراضي ثغراً، وتوجد دلائل على قيامه بإقطاع أراضي لغيرهم تشجيعاً على الإقامة في الأندلس (¬574). وفي عهد الوالي السمح بن مالك الخولاني الذي كلف بإكمال التخميس وتمييز أرض العنوة عن أرض الصلح ليصح التخميس. ومن هذا نستدل بأن الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) كان يرى أن بعض أراضي الأخماس كانت في أيدي الفاتحين، كما أن بعض أراضي الخراج - أي أراضي الصلح، اختلطت بغيرها وربما اشتراها الفاتحون من أصحابها فانقلبت من أرض خراجية تدفع نسبة عالية من الضرائب (مثالثة أو مرابعة) إلى أرض عشرية، وقد منع عمر بن عبد العزيز هذا العمل في المشرق، وربما أراد أن يطبقه في المغرب. وفي كلا الحالتين ما يعرض مصالح النازلين في الأندلس، فأعلنوا عن رغبتهم بالرجوع إلى المشرق، فأقرهم عمر على ما بأيديهم وعلى ما سجله لهم الوليد وموسى وأمر واليه السمح بأن يقر القرى بأيدي أصحابها. وأن يقطع الجند المرافقين له (عددهم ما يقارب 500 رجل) من أراضي الأخماس (¬575). وهذه الطريقة في تقسيم أراضي الأندلس جعلت بعض الفقهاء يعتبرون أن أرض الأندلس لم تقسم تقسيماً شرعياً، ونجد هذا الرأي عند ابن حزم القرطبي وغيره، وبلغ من شيوع فكرة اللاشرعية من تملك أرض الأندلس أن أحد الباحثين في الفلاحة علل خصب أراضي تدمير (مرسية) وطيب ثمرها لأن أهلها صالحوا موسى فلم يملك منها شيء إلا عن حق (¬576)، ومعنى هذا أن كثيرين كانوا يرون أن تقسيم أرض الأندلس تحكمت فيه الغلبة وليس الشرع، ومن الطبيعي أن يحصل النزاع حول ملكيتها، وأن تحاول الأطراف المختلفة من عناصر وقبائل الفاتحين أن تقتطع أكبر قسم منها، وبهذا كانت قضية توزيع الأراضي عاملاً في كل نزاع بين فاتحي الأندلس (¬577). عرفت الأندلس بالغنى وخصبة الأرض ووفرة الموارد الاقتصادية حتى وصفت بجنة ¬_______ (¬574) نص الرسالة الشريفية، ص 206 - 207. (¬575) بدر، دراسات، ج 1، ص 42 - 43. (¬576) ينظر، الزهري، كتاب الجغرافية، ص 100 - 101. (¬577) بدر، دراسات، ج 1، ص 44.

الخلد حيث قال الشاعر ابن خفاجة: يا أهل أندلس! لله دركم ... ماء وظل وأنهار وأشجار ما جنة الخلد إلا في دياركم ... ولو تخيرت هذي كنت أختار (¬578) ولهذا نرى بلج وجماعته الشاميين رغبوا ببلاد الأندلس عندما دخلوها واستطيبوا مواردها، فأحدثوا الفتن المعروفة والتي ذهب بلج ضحيتها، فوزع الوالي الجديد أبو الخطار أتباع بلج على الكور فأنزلهم على ثلث أموال أهل الذمة مقابل أن يؤدوا الخدمة العسكرية، فسميت هذه الكور بالكور المجندة (¬579). وكان من أغراض التقسيم الإداري في الأندلس، ضبط الضرائب، ويعني ذلك أن الأقليم يعتبر وحدة مالية في نظر الدولة، وكل إقليم يضم عدداً من القرى. فهناك قرى تدفع العشور، وهي قرى الحبوب والزراعات، وقرى تؤدي جبايات تحدد بحسب طبيعة إنتاجها وهي نواحي الثمار والأشجار والزيتون والغابات. وأحسن مثال لذلك أقاليم سرقسطة عند العذري (¬580)، حيث يتضح منها بأنها تحديدات زراعية تعنى بالري والأنهار والعيون وما تسقيه. والتقسيم الزراعي في أساسه مالي، لأن الذين يرسمونه ينظرون إلى ما يغله كل قسم وما يؤديه من جباية (¬581). وقد عمل الوالي يوسف الفهري 129 - 138 هـ على تعديل نظام الضرائب فاقتضى ثلث الدخل من كل ولاية، ولكنه أمر بمراجعة السجلات القديمة، واستبعاد الأموات منها، وكانت الضرائب ما تزال تجبى طبقاً للإحصاء القديم، فكان في ذلك إرهاق للسكان، فقرر يوسف أن تجبى الضرائب من الأحياء فقط، وأسقطها عمن توفوا، واكتسب بذلك عطف كثير من الإسبان المسيحيين بصورة خاصة (¬582). كما كانت بعض الدلائل تشير إلى غنى بعض ولاة الأندلس وكبار زعمائها، فكان الصميل بن حاتم يمتلك داراً كبيرة وتقع خلف هذا الدار عقدة الزيتون المشهورة التي تضم مائة ألف شجرة، وكانت أمواله كثيرة (¬583). وهناك قناة عامر المنسوبة إلى عامر بن ¬_______ (¬578) ديوان ابن خفاجة، ص 86. (¬579) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 61 - 62. (¬580) نصوص عن الأندلس، ص 23 - 24. (¬581) مؤنس، فجر الأندلس، ص 585. (¬582) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 132. (¬583) ابن القوطية، افتتاح، ص 29.

عدي من أشراف بني عبد الدار بالأندلس وتقع غربي قرطبة (¬584). وكان لبني غافق قرية كاملة بشرق إشبيلية وهي مرنيانة (مرجانة الغافقيين) (¬585). وهناك الضياع الواسعة التي تضم القصور الكبيرة والتي تسمى بالبلاط مثل: بلاط مغيث الرومي وبلاط الحر (¬586). وكان أبو عثمان شيخ موالي بني أمية يمتلك إقطاعاً كبيراً بقرية طُرش من كورة قرطبة (¬587). وهناك أملاك أرطباس الواسعة التي وزع بعضها على زعماء الأندلس أمثال الصميل (عقدة الزيتون بالمدور) وأبي عثمان (طُرش) وعبد الله بن خالد (الفنتين قرب لوشة). وأبي عبدة (حسان بن مالك) غربي الأندلس (منطقة إشبيلية) (¬588). وفي عصر الإمارة 138 - 316 هـ حرص أمراء الأندلس على تنمية المواد الزراعية، وذلك بالاهتمام ببعض الثمار والبذور. فنرى الأمير الداخل يحرص على جعل قرطبة صورة من دمشق في منازلها البيضاء ذات الأحواش الداخلية المزينة بالأزهار والورد ونافورات المياه. واشتهر الأمير الداخل بأنه كان يرسل بعض رجاله إلى المشرق لجلب أشجار الفاكهة من بلاد الشام، فنسمع عن أحد رجاله المدعو سفر بن عبيد الكلابي والذي تنسب إليه أسماء بعض الفواكه التي غرسها في جنانه بكوره رية وأثمرت مثل التين السفري والرمان السفري، ثم اهتم بها الأمير الداخل وغرسها في منيته، وانتشرت بذلك زراعتها في سائر أنحاء الأندلس (¬589). وبلغ من اهتمام الأندلسيين بالزراعة أنه عندما حل المذهب المالكي بالأندلس محل مذهب الأوزاعي -هذا المذهب الجديد لا يقر زراعة الأشجار بالمساجد عكس مذهب الأوزاعي- بقي أهل الأندلس مقلدين مذهب الأوزاعي في مجال الزراعة (¬590). عدا هذه الإشارات تعوزنا المعلومات الدالة بدقة على مدى التقدم الزراعي في الأندلس حتى عهد عبد الرحمن الأوسط. إنما تكثر لدينا الشواهد نسبياً عن قيام ¬_______ (¬584) مجهول، أخبار مجموعة، ص 63. (¬585) ذنون، الفتح، ص 219 - 220. (¬586) ينظر، مؤنس، فجر الأندلس، ص 633. (¬587) مجهول، أخبار مجموعة، ص 24. (¬588) ينظر، ابن القوطية، افتتاح، ص 28 - 30 - المقري، نفح، ج 3، ص 267 - 269 - ذنون، الفتح، ص 417. (¬589) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 37 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 60 - العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 318 - بدر، دراسات، ج 1، ص 148. (¬590) الحميدي، المصدر السابق، ص 244 (ترجمة رقم 510).

نشاط تجاري واسع النطاق، وعن ازدياد في الثروة وعن تضاعف في واردات الدولة زمن الأمير عبد الرحمن الأوسط دون فرض ضرائب جديدة (¬591). حيث فتح هذا الأمير أبواب الأندلس للتجار المشارقة والبضائع المشرقية كالملابس وأدوات الزينة التي سرعان ما انتشرت بين أفراد المجتمع الأندلسي (¬592). وبما أن الزراعة في هذه الفترة كانت أهم منبع للثروة، ونظراً لاستحالة قيام نشاط تجاري واسع في تلك الأيام دون الاعتماد على زراعة مزدهرة، لذلك يمكن القول: بأن الزراعة في الأندلس استمرت في الازدهار منذ بداية عهد الإمارة، وأنها وصلت إلى مرحلة متقدمة خلال فترة الازدهار. كما أنه يستنتج من بعض الأعمال التي قام بها عبد الرحمن الأوسط، أن الصناعة كانت متقدمة إلى الحد الذي تم فيه إنشاء دارٍ خاصة للطراز تصنع فيها ملابس خاصة لرجال الدولة (¬593). وبدا على أهل الأندلس الاهتمام بالأسطول، وازداد هذا الاهتمام في عصر الإمارة وبخاصة بعد هجوم النورمان على الأندلس، فكان من نتيجة قيام هذا الأسطول أنه شارك بصورة فعالة في معارك الجهاد ضد الممالك الإسبانية، وقام بفتح بعض المناطق الجديدة (البليار). وتركزت فعاليات الأسطول الأندلسي في سواحل البحر المتوسط حتى أنه ساعد الأسطول الأغلبي في إتمام فتح صقلية، أما النشاط التجاري للأندلس في عصر الإمارة فكان مقتصراً على العموم مع العالم الإسلامي، لأن الغارات البحرية الأندلسية المتبادلة مع الشواطئ الإيطالية والفرنسية كانت تسود هذه الفترة. ومعنى هذا كان مركز النشاط التجاري الأندلسي يشمل جزءًا من الشاطئ الشرقي للأندلس وهو الجزء الممتد من قرطاجنة شمالاً إلى الجزيرة الخضراء جنوباً. وهذا الجزء يقابل الشاطئ الأفريقي الممتد من سبتة غرباً إلى بجاية شرقاً (¬594). وقامت على هذا الساحل الشرقي الأندلسي موانئ مهمة تقوم فيها دور الصناعة مثل دانية ولقنت (¬595)، والمرية مركز جماعة البحريين الذين امتهنوا التجارة أولاً ومهاجمة السواحل الأوروبية ثانياً (¬596). وكان الأندلسيون يحملون إلى بلاد المغرب منتجاتهم ¬_______ (¬591) ينظر، ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 46. (¬592) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 91 - العبادي، في التاريخ، ص 340. (¬593) بدر، دراسات، ج 1، ص 149. (¬594) ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 152 - 153. (¬595) الحميري، الروض المعطار، ص 76، ص 170. (¬596) أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 38 وما بعدها.

الصناعية الراقية بالإضافة إلى منتجاتهم الزراعية التي لا توجد بالمغرب، وكذلك ما يرد من الأندلس إلى المشرق كان يصرف عموماً في الأسواق الأفريقية، ويحمل من ثم إلى هناك، كما هو حال بضاعة العبيد البيض (الصقالبة) الذين يشير إليهم ابن حوقل بقوله: " وجميع من على وجه الأرض من الصقالبة الخصيان فمن جلب الأندلس " (¬597). أما أهم الأشياء التي كانت تأتي من المغرب إلى الأندلس هي الحبوب والفستق (من مدينة قفصة) وكذلك العبيد السود يؤتى بهم إلى الأندلس وإلى سائر بلاد الإسلام، لأن سوق تجمعهم كان في مدينة زويلة أقصى جنوب ليبيا (¬598). وكانت حركة النقل التجارية ناشطة جداً بين الأندلس وشواطئ المغرب، وبصورة خاصة شواطئ المغرب الأوسط والأقصى الممتدة من بجاية حتى سبتة لأنها مقابلة للمراسي الأندلسية. وكانت دول الخوارج في المغرب تُنظم حركة التجارة مع الأندلس خلال هذه الفترة، وبالذات الدولة الرستمية في الجزائر، والدولة المدرارية في سجلماسة (¬599). ونظراً لهذا النشاط التجاري وجدت جاليات أندلسية أقامت في مدن المغرب الساحلية إما بصورة مؤقتة، كما هو الحال في مدينة أصيلة، حيث كانت تقام سوق جامعة ثلاث مرات في السنة: في عاشوراء والعيدين، أو بصورة دائمة ويختلطون مع سكان المغرب وكانوا يلتمسون حمايتهم مقابل حصة معينة من الأرباح أو كمية من المال، كما هو الحال في مدينة مليلة (¬600). وكثيراً ما تقوم الجاليات الأندلسية ببناء مدن جديدة بالاشتراك مع غيرها حيناً كما هو الحال في مدينة أصيلة، أو وحدها حيناً آخر كما هو الحال في مدن تنس (بين وهران والجزائر، التي أنشأها أهل البيرة وتدمير عام 262 هـ ومدينة وهران التي أنشأها الأندلسيون البحريون عام 290 هـ (¬601). ويلاحظ أن غالبية المراكز الأندلسية، أقيمت على شواطئ المغرب الأوسط، وهو أمر يعود إلى قرب سواحله من الأندلس، وإلى الحماية التي وفرتها لهم الدولة الرستمية ¬_______ (¬597) صورة الأرض، ص 106. (¬598) ينظر، البكري، ص 11 - بدر، دراسات، ج 1، ص 154. (¬599) ينظر، محمود إسماعيل، الخوارج في المغرب الإسلامي. (¬600) البكري، المصدر السابق، ص 88 - ينظر، ليلى أحمد نجار، العلاقات بين المغرب والأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر، ص 49. (¬601) ينظر، ابن حوقل، صورة الأرض، ص 79 - البكري، المصدر السابق، ص 62، ص 112.

بسبب علاقتها الودية مع الإمارة الأموية بالأندلس (¬602). أدى النشاط الاقتصادي الذي ذكرناه إلى بروز مظاهر الترف والرفاه في المجتمع الأندلسي، فانعكس ذلك على ازدياد الواردات التي وصلت إلى مليون دينار أحياناً فظهرت مظاهر الترف في بلاطات الأمراء وقصور الطبقة العليا، متمثلاً في بناء القصور (المنية) وفي اقتناء الجواري والعبيد البيض (الصقالبة)، وفي منح الهدايا والهبات للشعراء والمغنين، فمثلاً كان المغني المشرقي زرياب يقبض مخصصات شهرية قدرها مائتا دينار، كما أن كلاً من أبنائه الأربعة كان يأخذ عشرين دينار شهرياً، وقد تسلم زرياب في إحدى المناسبات هدية قدرها ثلاثة آلاف دينار (¬603). وانعكس هذا الرخاء أيضاً في الأعمال العمرانية التي قام بها الأمراء، المتمثلة في بناء المساجد الجديدة أو توسيع المساجد القديمة، وفي بناء الأسوار، وفي بناء مدن الثغور وغيرها. كما أحدث النشاط الاقتصادي تطوراً إدارياً وعسكرياً في الأندلس، ففي عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط أسس دار السكة ونتيجة لذلك تضاعف عدد النقود المتداولة وبخاصة ذات القيم المتوسطة والدنيا، ويلاحظ من بقايا النقود الباقية تحسن مفاجئ ابتداء من عام 229 هـ في إتقان الضرب (¬604). وانعكس هذا الأمر أيضاً على وزراء الدولة وكبار رجالها سواء من حيث طبقاتهم أو من حيث أرزاقهم، حيث وصل راتب الوزير إلى 350 دينار شهرياً (¬605). وكان من نتائج التطور الاقتصادي توسع مدينة قرطبة التي غصت بسكانها، حتى أخذ الناس يبنون خارجها وتجاوزوا على المقابر، مما جعل قاضي قرطبة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط إلى إصدار حكم يثبت فيه حدود مقبرة الربض (¬606). واضطر الأمير الأوسط لمواجهة المشاكل الناجمة عن هذا التضخم إلى إسناد مهمة مراقبة الموازين والمكاييل والمبيعات إلى المحتسب، والخدمات العامة تركت إلى صاحب المدينة، ومشكلات الأمن عهد بها إلى صاحب الشرطة (¬607). ¬_______ (¬602) ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 156. (¬603) ينظر، صلاح خالص، إشبيلية، ص 58 - 59. (¬604) ينظر، بدر، دراسات، ج 1، ص 158 - 159، ص 163. (¬605) ينظر، ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 123 - 124. (¬606) ينظر، سالم، قرطبة، ج 1، ص 163 - 168 - بدر، دراسات، ج 1، ص 165. (¬607) ابن سعيد، المغرب، ج 1، ص 46 - بدر، دراسات، ج 1، ص 165.

كما أدت زيادة واردات الدولة بسبب هذا النشاط الاقتصادي إلى الإكثار من شراء العبيد السود والبيض، فأكثر الأمير الحكم من شرائهم وزاد عليه الأمير عبد الرحمن الأوسط حتى وصل عددهم في حرسه الخاص إلى خمسة آلاف شخص. كما أن عدد أفراد الجيش النظامي زاد لقدرة الأمير على استخدام عنصر جديد هو عنصر المرتزقة الذين يخدمون مقابل رزق معين ويحترفون الخدمة العسكرية (¬608). اعتباراً من عصر الإمارة وما بعده، وجدت ظاهرة جديدة لها علاقة بالاقتصاد الأندلسي، وهي ظاهرة إحراق المزارع من قبل الإسبان عندما يغيرون على الأراضي الإسلامية، أو من قبل المتمردين على حكومة الإمارة والذين زاد أمرهم في فترة الحروب الأهلية. وبالمقابل تقوم جيوش الإمارة بحرق زروع المتمردين عندما تحاصرهم كوسيلة من وسائل إضعاف مقاومتهم وإجبارهم على الطاعة (¬609). ووجدت في عصر الإمارة ظاهرة فرض الضرائب المرهقة على الشعب من قبل بعض الأمراء، مع حصول المجاعات وسنوات القحط في الأندلس، فالأمير الحكم سخطت عليه العامة بسبب ما فرضه هذا الأمير من عشور مرهقة على المواد الغذائية، وكان العامة يجاهرون بذم الأمير والطعن في سيرته، مما مهد قيام حركة الربض المشهورة (¬610). ومن عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن فقد أبدى تشدداً في جمع العشور وقد نصحه الوزير عبد الرحمن بن غانم صاحب المدينة بأن يسقط العشور متى عدمت الغلات، لأن العشور تفرض على الغلات إذا وهبها الله، وإذا لم يزرع بذر ولم يستغل زرع وجب إسقاطها، فلم يستمع الأمير لنصحه فعزله، وعين مكانه حمدون بن بسيل وكان ظلوماً فاشتط في جمع العشور فأرهق الشعب وتذمروا فوصل تذمرهم إلى الأمير، وتوالت أيضاً في نفس الوقت أعوام القحط والجدب، فاضطر الأمير أن يسقط عن الشعب جزءاً من العشور حتى يستطيعوا مواجهة أعباء الحياة ومواصلة نشاطهم العمراني، فلهج الناس والشعراء مدحاً للأمير. وكان الأمير محمد بارعاً في الأمور المالية، دقيقاً في مراجعة الدخل والخرج، وقد ساعده ذلك في ضبط شؤون الخزانة ¬_______ (¬608) بدر، دراسات، ج 1، ص 165. (¬609) ينظر على سبيل المثال: ابن حيان، المقتبس، ج 3، ص 143 - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 143 - صلاح خالص، إشبيلية، ص 48. (¬610) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 243.

العامة (¬611). وفي عهده أصيبت الأندلس بالقحط والمجاعة في الأعوام 251 هـ - 255 هـ - 260 هـ وكان قحطاً شديداً استمر بضعة أعوام، وكثر بسببه الغلاء والموت، ولكن الأندلس استطاعت أن تصمد للمحنة وأن تتغلب عليها (¬612). وفي عهد الأمير عبد الله، عصر الحرب الأهلية، تمردت معظم مدن الأندلس على حكومة قرطبة، وصار الأمير في البداية يكتفي بأي شكل من أشكال الخضوع لحكومة قرطبة حتى ولو كان إسمياً. ولعل أقصى تعبير عن الطاعة طمح له الأمير عبد الله أن يؤدي له أولئك المتمردون بمقاطعاتهم قطيعاً معيناً من العشور (أي كمية من المال يتم الاتفاق عليها) ولهذا اشتهر في عهده ديوان يسمى ديوان القطع (¬613). كما أن الحملات الكثيرة والمستمرة التي أرسلها الأمير عبد الله لإخضاع المتمردين أدت إلى نضوب موارد الدولة. وفي عصر الخلافة 316 - 422 هـ، بلغت الأندلس مبلغاً كبيراً من الرخاء، وتضاعفت مواردها من الدخل القومي، فبلغت حصيلة الجباية من المكوس وحدها زهاء مليون دينار في السنة، وبلغت في عهد الخليفة الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، وبلغت من المستخلص (وهي الأملاك السلطانية) سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار. وعندما مات الناصر عام 350 هـ خلف في بيت المال عشرين مليون دينار من الذهب. وفي أيام الحاجب المنصور حققت موارد الدخل زيادة عظيمة، ووصل محصل الجباية وحده إلى أربعة ملايين دينار سوى رسوم المواريث وسوى مال السبي والغنائم، واستمرت هذه الزيادة في عهد ولده الحاجب عبد الملك (¬614). فانعكس هذا الرخاء في الأندلس في هذه الفترة على: 1 - بناء المدن الملوكية وصرف الملايين في بنائها، وأشهرها مدينة الزهراء التي بناها الخليفة الناصر، ويبدو لنا كمية الأموال الطائلة التي صرفت على هذه المدينة، إذا عرفنا أن مقدار النفقة السنوية عليها 300 ألف دينار طوال عهد الناصر (325 هـ بدأ البناء، ومات الناصر عام 350 هـ) أي مدى خمسة وعشرين عاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في ¬_______ (¬611) ينظر، ابن عذاري، البيان، ص 2، ص 107. (¬612) عنان، دولة الإسلام، ج 1، ص 312. (¬613) بدر، دراسات، ج 1، ص 251. (¬614) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 690، ص 574.

عهد ولده الحكم (¬615). وهذا الإسراف هو الذي حدى بالقاضي منذر بن سعيد البلوطي أن ينتقد الناصر ويتصدى لهذا التبذير (¬616). وبناء مدينة الزاهرة في عهد الحاجب المنصور حيث بدأ العمل بها عام 368 هـ ولمدة عامين. ثم ابتنى إلى جانبها مدينة جميلة ذات قصر وحدائق للراحة سماها العامرية (¬617). 2 - الاهتمام بالحركة العلمية والإغداق على العلماء وشراء نفائس الكتب بأثمان عالية، وقد اهتم الخليفة الحكم المستنصر بهذا الأمر حيث كان يبعث إلى أكابر العلماء المسلمين من كل قطر بالصلات الجزيلة، للحصول على النسخ الأولى من مؤلفاتهم، فتراه يرسل إلى أبي الفرج الأصفهاني ألف دينار من الذهب ليحصل على نسخة كتابه الأغاني، قبل أن يحصل عليه أحد في العراق. كما أرسل إليه الأصفهاني كتاباً ألفه في أنساب بني أمية فجدد له الحكم الصلات والهدايا (¬618). وفعل الحكم كذلك مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي، إذ بعث إليه بمبلغ كبير ليحصل على النسخة الأولى من شرحه لمختصر ابن عبد الحكم. وأسبغ الحكم رعايته على اللغوي أبي علي القالي الذي وفد من العراق على أبيه الناصر كما هو معروف. وأهدى إليه أبو عبد الله الخشني بعض كتبه ومنها كتاب قضاة قرطبة (¬619). وأهدى إليه مطرف بن عيسى الغساني كتابه المعروف أخبار كورة رية. وكان للحكم طائفة من مهرة الوراقين بسائر البلاد الإسلامية ينقبون له عن الكتب ويحصلون منها على النفيس والنادر. كما كانت له في بلاطه طائفة من البارعين في نسخ الكتب وتحقيقها وتجليدها، وبذل لهم الأموال الكبيرة (¬620). كما شغف الحاجب المنصور في جمع الكتب مقلداً بذلك الخليفة الحكم المستنصر ومن ذلك أن صاعداً البغدادي أهدى إليه كتاب الفصوص فأثابه الحاجب المنصور بخمسة آلاف دينار (¬621)، وعين له راتباً شهرياً قدره ثلاثون دينار. 3 - كما أن هذا الرخاء شجع الأندلس على اتباع سياسة أفريقية جديدة وبخاصة منذ ¬_______ (¬615) ينظر، المقري، نفح، ج 1، ص 265. (¬616) ينظر، النباهي، المرقبة العليا، ص 69 - 70. (¬617) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 535، ص 575. (¬618) ابن الآبار، الحلة السيراء، ج 1، ص 201 - 202. (¬619) الخشني، قضاة قرطبة (المقدمة)، ص 1 - 2. (¬620) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 505 - 506. (¬621) ابن بشكوال، الصلة، ص 238 (ترجمة رقم 541).

إعلان الخلافة الأندلسية عام 316 هـ للتصدي للدولة الفاطمية في شمال أفريقية وأعوانها وبدأت من هذا العصر سياسة أندلسية جديدة للتدخل في إثارة بعض الحركات ضد الفاطميين، إلى جانب السيطرة على بعض مدن الساحل الإفريقي، وإلى إخماد بعض الفتن المغربية أمثال حركة الحسن بن كنون الذي يمثل بقايا الأدارسة. فكان هذا الأمر يتطلب أموال طائلة لإخماد مثل هذه الحركات، إضافة إلى بذل الأموال من أجل استمالة بعض القبائل المغربية (¬622). وشهدت الأندلس خلال عصر الخلافة مجاعات متعددة أصابت الأندلس بالقحط والمجاعات، ففي عهد الخليفة الناصر (300 - 350 هـ)، حل قحط شديد بالأندلس عام 302 - 303 هـ فنقصت الأقوات وارتفعت الأسعار وبلغ قفيز القمح في قرطبة بثلاثة دنانير، وبلغت الشدة بالناس مبلغاً عظيماً، وانتشر الوباء مع القحط، وكثر الموت، وهلك كثير من الرؤساء والوجهاء. قام الخليفة الناصر ببذل الأموال وتوزيع المؤن لشعبه وشاركهُ في الأمر كثير من رجالات الدولة، فكان لمجهودهم أثر كبير في التخفيف من آثار هذه المحنة (¬623). وفي عام 317 هـ حلت مجاعة جديدة بالأندلس نتيجة احتباس المطر، فغلت الأسعار على نحو ما حدث في عام 303 هـ، فخرجت كتب الخليفة الناصر إلى جميع العمال على الكور بالأمر بصلاة الاستسقاء، وفي عام 324 هـ وقع محل جديد بالأندلس فاحتبس المطر وجفت الزروع، وبذل الناصر الأموال لمعالجة الأزمة وبذلك قال الشاعر: نعم الشفيع إلى الرحمن في المطر ... مستنزل الغيث بالأعذار والنذر (¬624) وعاد المحل والقحط يعصف بالأندلس عام 329 هـ فعم الجفاف البلاد. وأصيب النظام الاقتصادي وبخاصة التجاري في قرطبة بهبوط كبير نتيجة الحريق الكبير الذي دمر أسواق قرطبة في عام 324 هـ (¬625). وفي عهد الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) وقعت ¬_______ (¬622) ينظر التفاصيل، العبادي، في التاريخ العباسي والأندلسي، ص 393 - ص 398 وما بعدها - ص 423 وما بعدها - ص 444 وما بعدها - ليلى أحمد نجار، العلاقات بين المغرب والأندلس، ص 54 وما بعدها. (¬623) ابن عذاري، البيان، ص 2، ص 166. (¬624) ينظر، ابن حيان، المقتبس، ج 5 الخاص بعصر الخليفة عبد الرحمن الناصر - ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 199. (¬625) عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 425.

بالعاصمة الخلافية مجاعة عظيمة، فبذل الحكم للفقراء والمعوزين في سائر أرباض قرطبة والزهراء من الأموال ما يكفل أقواتهم ويسد عوزهم (¬626). وبجانب ثراء الدولة الذي تمثل في البناء والهيئات، نرى ثراء كبار رجالات الدولة، الذي اخترع بعضهم تقديم الهدايا الكبيرة والثمينة إلى خلفاء هذا العصر، في الوقت الذي كان فيه عامة الناس في عوز شديد بسبب احتباس المطر وظهور المجاعات المستمر وبسبب غلاء الأسعار وقلة الأجور للعامل البسيط. فتذكر بعض الروايات أن أجور العمال الذين كانوا يشتغلون في بناء مدينة الزهراء كانت تتراوح بين الدرهم والنصف وثلاثة دراهم تبعاً لمقدرتهم الحرفية، في حين كان راتب أحمد بن عبد الملك بن شهيد وزير الناصر خمسمائة دينار في الشهر، وقد رفعه الخليفة إلى ألف دينار فيما بعد، هذا مع العلم أن الدينار كان يعادل على العموم عشرة دراهم (¬627). وأول من ابتدع تقديم الهدايا إلى الخليفة الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد، وكان منها خمسمائة ألف مثقال من الذهب، ومائتا أوقية من المسك والعنبر، وثلاثون شقة من الحرير المرقوم بالذهب، ومائة فرس مسرجة، وعشرون بغلاً عالية الركاب، وأربعون وصيفاً، وعشرون جارية، وغيرها، وذلك في عام 327 هـ، وهذا مما يدل على مدى ثراء الوزراء ورجالات الدولة الأموية بالأندلس (¬628). كما أهدى الحاجب جعفر بن عثمان بن نصر المصحفي هديته الكبيرة إلى الخليفة الحكم المستنصر مقلداً بها هدية ابن شهيد للخليفة الناصر (¬629). كما كانت بداية حياة الحاجب المنصور الوظيفية الإشراف على عبد الرحمن وهشام أولاد الخليفة الحكم ثم تولى إدارة الخزانة العامة وأمانة دار السكة. فاستغل هذه المناصب المالية، فقدم هديته المشهورة إلى الأميرة صبح زوجة الخليفة الحكم وأم الخليفة هشام الثاني، فبدد أموال الخزينة فاتهمه الخليفة الحكم بالتبذير، فسد الحاجب المنصور هذا العجز بالاستدانة من صديقه الوزير ابن حُدير (¬630). وفي هذا العصر أمر الخليفة الناصر بتنظيم العملة وتثبيتها. فأمر في عام 316 هـ باتخاذ دار السكة داخل مدينة قرطبة لضرب الدنانير والدراهم، وولى أمرها أحمد بن محمد بن حُدير الذي بذل جهده في الاحتراس من المدلسين وكان لهذا أثره في تثبيت ¬_______ (¬626) ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 236. (¬627) ينظر، صلاح خالص، إشبيلية، ص 55 - ص 58. (¬628) ابن خلدون، العبر، ج 4، ص 138. (¬629) أيضاً، ج 4، ص 144 - عنان، دولة الإسلام، ج 2، ص 511 - 512. (¬630) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 251 - 252.

العملة واستقرار التعامل (¬631). ومن هذا التاريخ وما بعد أصبحت ولاية السكة من الوظائف المالية المهمة في الدولة يعهد بإدارتها إلى خالص الرجال (¬632)، إلى جانب ولاية السوق وولاية الخزانة والضياع (¬633). وقد ساعد الاستقرار السياسي عموماً في عصر الخلافة على تنشيط حركة الصناعة والتجارة، وقد اشتهرت موانئ الأندلس الشرقية بموانئها التجارية وبخاصة بعد بناء مدينة المرية قاعدة الأسطول الأندلسي في عام 344 هـ، والتي أصبحت مدينة تجارية وصناعية مهمة. وأصبحت مركزاً للحط والإقلاع (¬634). وبدأت الأوضاع الاقتصادية في الاضطراب عندما بدأ عصر الفتنة 399 - 422 هـ، فمرت بلاد الأندلس في فترة الحروب الأهلية أدت إلى إلغاء الخلافة وقيام عصر الطوائف. عرفت الأندلس بوفرة خصبها وكثرة مواردها الزراعية والتي كانت مناطق الأرياف أهم مصادر هذه الثروة المتمثلة في الزيتون واللوز والرمان والتين والحبوب. وأما المعادن فهي من أهم الثروات الطبيعية التي جاءت بها أرض الأندلس، وبتنوعها تعددت مناطق استخراجها، وبخاصة اشتهرت الأندلس بالرخام والذهب (¬635). كما اشتهرت الصناعات في مختلف أنحاء الأندلس حيث تخصصت كل ناحية في إنتاج صناعة معينة. فعلى سبيل المثال تخصصت مرسية في صناعة الطرز الذهبية والأساور المذهبة والسكاكين والأسلحة، أما المرية ومالقة فقد اشتهرتا بصناعة الخزف والأواني الزجاجية والأقمشة. واشتهرت غرناطة بصناعة البلد وهو ثوب حريري ملون. ومن إشبيلية شاعت صناعة الأقواس والرماح والسهام بالإضافة إلى صناعة السرج المزينة وغيرها (¬636). إن الوصف العام للحياة الاقتصادية في الأندلس كما أورده ابن سعيد ونقله المقري، جاء في مصادر متأخرة عن القرن الخامس الهجري/عصر الطوائف، إلا أن هذا الوصف يطابق أحوال هذا القرن وذلك: 1 - إن النباتات والحيوانات التي وجدت في الأندلس خلال هذه الفترة كانت ¬_______ (¬631) ابن حيان، المقتبس، ج 5 عصر الناصر. (¬632) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 2، ص 208. (¬633) أيضاً، ج 2، ص 199، ص 205. (¬634) ينظر، الحميري، الروض المعطار، ص 183 - سالم، تاريخ مدينة المرية، ص 18 - عنان، الآثار الأندلسية الباقية، ص 265. (¬635) ينظر، المقري، نفح، ج 1، ص 187. (¬636) المقري، نفح، ج 1، ص 188.

معروفة في البلاد منذ أربعة قرون، وذلك أن أحوال المناخ لم تتغير، كما إن البلاد لم تشهد أية ظاهرة طبيعية كبرى، ما عدا سنوات القحط والمجاعة والتي سرعان ما تزول. 2 - إن المعادن والمنتوجات الصناعية الأخرى المذكورة في هذا المصدر كانت تستغل على نطاق واسع خلال فترة الطوائف وقبلها أي في عهد الإمارة والخلافة الأموية. وبالإضافة إلى ذلك شهد عصر الطوائف تشييد أفخم القصور وأجمل المنشآت، والتي كانت تتطلب استهلاك قسط وفير من الذهب والفضة والمواد الأخرى المستعملة في التزيين والزخرفة (¬637). ومع ذلك فقد اختص عصر الطوائف بازدهار الزراعة حيث شغف ملوك الطوائف بإنشاء الحدائق والبساتين. وقد ظهر في هذا العصر عدة من علماء النبات والزراعة ولا سيما في طليطلة وإشبيلية حيث كانت حدائق بني ذي النون وحدائق بني عباد تشغل مساحات واسعة وتتطلب عناية الخبراء. وكان من أشهر علماء النبات والفلاحة في طليطلة ابن وافد الذي أشرف على حدائق بني ذنون. وكذلك العالم أبو عبد الله بن بصال المشهور بتجاربه العلمية الناجحة من توليد الغراس، ومكافحة الآفات الزراعية، وخلف لنا كتابه المشهور الفلاحة. وعالم إشبيلية الزراعي أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج صاحب كتاب (المقنع)، وكذلك أبو عبد الله محمد بن مالك الطغنري من أهل غرناطة وتلميذ ابن بصال وصاحب كتاب (زهر البستان ونزهة الأذهان) (¬638). وأما عن الصناعات في عصر الطوائف فقد كانت رائجة، ومن أشهرها صناعة الحديد والنحاس والزجاج والنسيج، وكانت صناعة النسيج على الأخص من أهم الصناعات في أيام الطوائف، وكان بمدينة المرية وحدها خمسة آلاف منسج، تنتج أفخم وأجمل أنواع الأقمشة (¬639). وكانت دول الطوائف ذات الثغور مثل إشبيلية والمرية وبلنسية ودانية وسرقسطة تجني من التجارة الخارجية أرباحاً كبيرة (¬640). ومما يدلل على وفرة خيرات الأندلس ونشاط تجارتها خلال هذه الفترة أن أمير دانية والجزائر الشرقية علي بن مجاهد العامري بعث مركباً كبيراً محملاً بالمؤن والأطعمة ¬_______ (¬637) محمد بن عبود، التاريخ السياسي، ص 166 - 167. (¬638) ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 441 - 442. (¬639) ينظر أبو الفضل، تاريخ مدينة المرية، ص 209 وما بعدها. (¬640) عنان، دولة الطوائف، ص 442.

عام 447 هـ وأرسله إلى الإسكندرية مغيثاً أهل مصر التي كانت تمر بأزمة اقتصادية وهي أيام الشدة العظمى (¬641). ولكن في الوقت نفسه في عام 448 هـ حصلت مجاعة كبرى في إشبيلية لدرجة اضطر فيها الناس إلى دفن كل ثلاثة أو أربعة أشخاص في قبر واحد، وأن المساجد خلت من المصلين. كما إن قفيز الحنطة (ثلاثين كيلوغراماً) وصلت قيمته في قرطبة في إحدى فترات القحط ثلاثة دنانير (¬642). كان معظم أمراء الطوائف يمثلون أصحاب النفوذ والأموال الكثيرة، وقد أدى استقلالهم في مدنهم إلى زيادة ثرواتهم. فمثلاً كان بنو عباد حكام إشبيلية -قبل توليهم الحكم- يمتلكون ثلث كورة إشبيلية، وإن بني طاهر الذين تولوا حكم مدينة مرسية كانوا يمتلكون نصف المدينة، وأما أبا الحزم بن جهور الذي تولى أمر قرطبة فقد كان من أغنى أهلها وأفحشهم ثراء. وينطبق الأمر كذلك على أمراء بني الأفطس في بطليوس وأمراء بني ذنون في طليطلة، وأمراء بني هود في سرقسطة وغيرهم (¬643). وعندما تسلط هؤلاء الأمراء بدأوا بشتى السبل في زيادة أموالهم وثرواتهم وذلك عن طريق: مصادرة ممتلكات منافسيهم من أغنياء المدينة الكبار بعد اتهامهم بشتى التهم، كما فعل بنو عباد أمراء إشبيلية (¬644). وكذلك عن طريق مصادرة أراضي الملاكين الصغار، وإرهاق كاهل المزارعين بالضرائب العالية، كما فعل مظفر ومبارك العامريان حكام بلنسية بالفلاحين حتى أنهم لبسوا الجلود والحصر وأكلوا الحشيش، وفر أكثر الفلاحين من قراهم (¬645). والأسلوب الآخر الذي اتبعه ملوك الطوائف في جمع الثروة، هو إثقال كاهل الشعب بالضرائب الباهظة أو توسيع رقعة الإمارة بالوسائل العسكرية، فاشتط جامعو الضرائب في ظلم الناس (¬646). وهذه الأموال الطائلة التي جمعها الأمراء لم ينفقوها في سبيل الشعب ورفاهيته بل استغلت في بناء القصور والمنتزهات، والصرف على مجالس الطرب واللهو، وشراء الجواري، فمثلاً أمير السهلة ابن رزين يدفع ثلاثة آلاف دينار ليشتري مغنية حسناء (¬647). ¬_______ (¬641) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 228 - ابن الخطيب، أعمال، ص 221. (¬642) صلاح خالص، إشبيلية، ص 54. (¬643) ينظر، ابن بسام، الذخيرة، قسم 2، مجلد 1، ص 7 - صلاح خالص، إشبيلية، ص 42 - 43. (¬644) ينظر، عنان، دول الطوائف، ص 34 - 35. (¬645) ينظر، ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 162. (¬646) ابن عبدون، رسالة في الحسبة، ص 169. (¬647) ابن عذاري، البيان، ج 3، ص 308.

ْبالإضافة إلى دفع الإتاوات إلى ملوك الإسبان من أجل الحفاظ على عروشهم المهزوزة (¬648). وبالرغم من القوة الاقتصادية التي كانت تتمتع بها بلاد الأندلس فإن عدم الاستقرار السياسي الذي تميز به عصر الطوائف كان له أثر سيء على الأوضاع الاقتصادية وذلك في مجالين: 1 - إن التقسيمات السياسية عرقلت التعاون الاقتصادي، كما أن عمق وحدة النزاع السياسي بين دول الطوائف زاد من اضطراب الأوضاع. هذا مع العلم أن كل إمارة استقلت اقتصادياً عن الأخرى ولها وسائلها في جمع الأموال واستغلالها، فمعنى ذلك ظهور التمزق الاقتصادي لبلد الأندلس إلى جانب التمزق السياسي. 2 - استغل ألفونسو السادس بصورة خاصة الأوضاع السياسية المتدهورة ببلد الأندلس ففرض شروطهُ المالية على أمرائها من أجل الاستحواذ بثمار الأندلس الاقتصادية والعمل على إضعافها وبالتالي بالسيطرة عليها بالتدريج، ولذا رأينا الغرامات الباهظة التي فرضها على أمراء الطوائف (¬649). فمثلاً طلب ألفونسو من الأمير عبد الله بن بلقين عشرين ألف مثقال. كما وعد ابن عمار وزير المعتمد بن عباد بتسليم ألفونسو السادس خمسين ألف مثقال مقابل مساعدته العسكرية ضد الأمير عبد الله حاكم غرناطة (¬650)، كما فرض ألفونسو السادس على ابن ذي النون مبلغ مائة وخمسين ألف مثقال تضاف إليها خمسمائة أوقية من القمح تدفع لعساكره مقابل أن يعيده إلى حكم طليطلة (¬651). وأصبحت الأندلس ولاية مرابطية، وكانت نقطة الانطلاق في السياسة المالية المرابطية تتمثل في محاولة تطبيق الكتاب والسنة في ميدان السياسة الجبائية، وهي الاعتماد على موارد الزكاة والأعشار والجزية وأخماس غنائم المشركين. ومع هذا وجد في بيت مال يوسف بن تاشفين بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الورق، وخمسة آلاف وأربعين ربعاً من دنانير الذهب المطبوعة (¬652). ولكن توسع الدولة وازدياد مسؤولياتها ¬_______ (¬648) ينظر، صلاح خالص، إشبيلية، ص 43 - 46. (¬649) ينظر، محمد بن عبود، التاريخ السياسي، ص 167 - 168. (¬650) المقري، نفح، ج 1، ص 69. (¬651) أيضاً، ج 1، ص 77 - محمد بن عبود، المرجع السابق، ص 175. (¬652) ينظر، الحبيب الجنحاني، " السياسة المالية للدولة المرابطية "، مجلة المؤرخ العربي، العدد 13، ص 15.

العسكرية دفعت ولاة الأمر إلى فرض الإتاوات على أهل المغرب والأندلس، فنرى يوسف بن تاشفين يفرض أموالاً كثيرة على يهود اليسانة بالأندلس (¬653)، ولجأ علي بن يوسف إلى فرض الإتاوات على مختلف الصنائع والسلع وبخاصة على الصابون والعطور والنحاس والمغازل، كما أنه استخدم المسيحيين الإسبان في تحصيل الجبايات (¬654). ازدهرت الصناعة في بلاد المغرب في ظل المرابطين بعد أن أصبحت الأندلس ولاية تابعة لها، وذلك لأن ولاة الأمر المرابطين استفادوا من خبرات أهل الأندلس في الصناعة (¬655). فزيادة على استعانة ولاة الأمر من المرابطين بصناع ومهرة الأندلس، كانت السفن تسير في قوافل منتظمة تحمل البضائع المختلفة بين المغرب والأندلس. وكان المغرب يمد الأندلس بالغلات وأنواع الطعام المختلفة في العصور السابقة لعهد المرابطين (¬656)، وقد استمر هذا الأمر عندما أصبحت الأندلس ولاية مرابطية. ومن ناحية أخرى، فإن الأندلس كان يصدر إلى المغرب كثيراً من البضائع ومنها الفواكه، وكذلك القطن الجيد المزروع بأرض إشبيلية (¬657)، وكان معدن الزئبق أيضاً ممّا يصدرهُ الأندلس إلى المغرب (¬658)، أما الحصى الملون فإن الأمراء بمراكش كانوا يستوردونه من المرية ليزينوا به بعض أدوات الطعام (¬659). وقد وصف الإدريسي مدينة المرية في عهد المرابطين بازدهار الصناعات الحريرية والمنسوجات الأخرى (¬660). وكانت الأندلس كذلك تصدر الأدوات الخشبية إلى المغرب، وكذلك المنسوجات التي اشتهرت بها مدينة بلنسية (¬661). تميز عهد المرابطين سواء في المغرب أو في الأندلس برفاهٍ اقتصادي في ميداني الزراعة والصناعة، إضافة إلى أنهم كانوا يسيطرون على سجلماسة وهي نهاية طريق مهم للقوافل التي تتاجر بذهب بلاد السنغال. وقد استمر فيضان الذهب عبر هذا الطريق بعد ¬_______ (¬653) عنان، عصر المرابطين، ص 421. (¬654) ابن الأثير، الكامل، ج 8، ص 296 - النويري، نهاية الأرب، ج 22، ص 85. (¬655) السامرائي، علاقات، ص 479. (¬656) ينظر ابن حوقل، صورة الأرض، ص 82. (¬657) الحميري، الروض المعطار، ص 21. (¬658) المراكشي، المعجب، ص 448. (¬659) المقري، نفح، ج 4، ص 206. (¬660) وصف المغرب والأندلس، ص 197 - مورينو، الفن الإسلامي في إسبانيا، ص 419. (¬661) الحميري، الروض المعطار، ص 165 - المقري، نفح، ج 4، ص 207.

أن انقطع وروده عن طريق المسالك الصحراوية الغربية، وظل الدينار المرابطي الذهبي الذي يزن أربع غرامات ونصف (¬662)، مستخدماً لعدة قرون كأهم عملة ذهبية في المغرب (¬663). وقد عثر على كميات كبيرة من الدنانير المرابطية في شمال البلاد الإسبانية وفي غرب فرنسا، مما يدل على نشاط التجارة بين ممتلكات المرابطين وبين سائر بلاد أروبا (¬664)، وحتى يروى أن هذه العملة وصلت إلى القسطنطينية (¬665). ونظراً لضراوة معارك الجهاد التي خاضتها دولة المرابطين ضد الممالك الإسبانية، فقد كثرت غنائم المرابطين من سلاح وحيوانات وأموال وأسرى. وأدى ذلك إلى نشاط تجارة هذه المواد في أسواق الأندلس والمغرب، ولا سيما تجارة الرقيق بالذات (¬666). وعموماً وصف النظام الاقتصادي في الأندلس والمغرب في ظل المرابطين بالرفاء والاستقرار ورخص الأسعار، إلا أن هذا الأمر تبدل في أواخر عهد المرابطين، عندما اضطربت الأوضاع بظهور حركة المهدي بن تومرت، وبتمرد أهل الأندلس على الحكم المرابطي (¬667). وأصبحت الأندلس ولاية موحدية، واتبعت الحكومة الموحدية في شؤون الجباية، سياسة الالتزام بأحكام الشرع على ما يجيزه من الزكاة والعشر. فقد نوهت رسالة عبد المؤمن التي وجهها إلى الطلبة والمشيخة والأعيان بالأندلس في عام 543 هـ إلى المغارم والمكوس والقبالات وتحجير المراسي وغيرها من المظالم، ووجوب القضاء عليها وإجراء العدل في شأنها (¬668). إلا أن هذه الموارد لم تكن كافية لسد متطلبات الدولة الموحدية التي تحملت أمر الجهاد في الأندلس، فاضطرت هذه الدولة إلى البحث عن ¬_______ (¬662) حركات، المغرب عبر التاريخ، ص 203 - عبد العزيز بن عبد الله، مظاهر الحياة المغربية، ج 1، ص 75. (¬663) أرشيبالد، القوى البحرية، ص 387. (¬664) الحبيب الجنحاني، المرجع السابق، ص 20. (¬665) حركات، المرجع السابق، ص 231 - Barbour, Morocco P. 59 (¬666) الصديق بن العربي، طوائف وشخصيات مسيحية بالمغرب، ص 155 - السامرائي، علاقات، ص 484. (¬667) عنان، عصر المرابطين، ص 437. (¬668) عنان، عصر الموحدين، ص 624 - 625.

وجوه جديدة لجمع الأموال. فقام عبد المؤمن عام 554 هـ بمسح بلاد المغرب من برقة إلى السوس الأقصى، وأسقط مقدار الثلث من مساحتها -مقابل الجبال والأنهار والطرقات- وفرض الخراج على الأراضي الصالحة للزرع، وألزم كل قبيلة أن تؤدي قسطها من الزرع والمال (¬669). ومن جهة أخرى، فإن الدولة الموحدية كانت إلى جانب ما يدخل خزائنها من غنائم وأموال المصادرات، إلا أنها لم تحجم عن فرض الضرائب والمكوس على مختلف أنواع المعاملات من البيع والشراء، والصادر والوارد، إضافة إلى ما كانت تستولي عليه من أموال اليهود والمسيحيين الذين بقوا في أراضي الدولة، ولا سيما خلال حركات الاضطهاد والمطاردة (¬670). وكان من الإجراءات المالية الهامة التي قامت بها الخلافة الموحدية مضاعفة وزن الدينار الموحدي، وكان له أثره في تحسين الأمور الاقتصادية وتوفير الثقة في التعامل الاقتصادي (¬671). واستمرت العلاقات الاقتصادية بين المغرب والأندلس قائمة، وقد تمثل ذلك في نشاط التبادل التجاري. فقد اشتهرت المرية وقرطبة بأسواقها وتصدر إلى المغرب الأخشاب والحبوب والمصنوعات والكتان. كما حملت المراكب من المغرب إلى الأندلس أنواع الغلات والحبوب والطعام وتعود بالتين والعنب والقطن وزيت الزيتون. أما المنسوجات فكان أهل مراكش يستوردونها من بلنسية، ومما ساعد على النشاط التجاري، قيام المغرب الأقصى بدور الوسيط بين إقليم السودان في الجنوب والأندلس في الشمال، فكان التجار يحملون الذهب والصمغ إلى الأندلس، ثم يعودون بالمحاصيل الزراعية والمنتجات الصناعية إلى بلاد السودان (¬672). ومن مظاهر عناية الموحدين بالزراعة في الأندلس هو تنفيذ أوامر الخليفة عبد المؤمن باستصلاح أراضي جبل طارق، وغرسها بمختلف أنواع الفاكهة كالتين والعنب والتفاح والسفرجل والمشمش وغيرها. كذلك تم استصلاح أراضٍ واسعة في مدينة إشبيلية بناءً على أوامر الخليفة أبي يعقوب يوسف ثم غرسها بأشجار الزيتون، ثم عني ¬_______ (¬669) روض القرطاس، ص 129 - وطبعة أخرى، ص 198 - 199 - محمد ولد دادة، مفهوم الملك في المغرب، ص 167 - 168. (¬670) عنان، عصر الموحدين، ص 626. (¬671) جوليان، تاريخ أفريقيا الشمالية، ج 2، ص 160. (¬672) أبو رميلة، علاقات، ص 474.

بجلب الماء إليها من الوادي بواسطة قنوات تحت الأرض (¬673). واستمرت الأندلس تنعم بالرخاء والاستقرار الاقتصادي منذ عهد عبد المؤمن إلى أواخر عهد المنصور، شأنها شأن المغرب. فإذا عكر صفو الأمن في بلاد المغرب هجمات القبائل العربية، وهجمات أمراء بني غانية، فإن الأندلس اضطربت سياسياً واقتصادياً بسبب فتن وحركات ابن هود وابن مردنيش وما جرى بينهم من حروب مدمرة أولاً وبسبب هجمات الممالك الإسبانية على المدن الأندلسية التي أسقطت كثيراً من هذه المدن بيد الإسبان بسبب الحصار الاقتصادي وأوشك أهلها على الموت جوعاً ثانياً. فحلت بذلك المحن والنوائب ببلد الأندلس، وقامت الأزمات الاقتصادية وشاع القحط والمجاعة وعم الغلاء (¬674). ومن الجانب الآخر، فإن المعاهدات التجارية التي عقدتها دولة الموحدين مع جمهورية جنوة وبيزا ومع صقلية، سمحت لسفن هذه الدول التردد بأمان في موانئ الأندلس، وبالذات في ميناء المرية، وموانئ المغرب، فنشطت بذلك التجارة بين الطرفين (¬675). ويصعب على الباحث إيجاد دراسة كاملة عن التنظيم المالي في مملكة غرناطة، إلا أنه يمكن تحديد أسس النظم المالية فيها كما يلي: 1 - كان هناك وظيفة المشرف على ممتلكات السلطان الخاصة، وقد أطلق عليه إسم الوكيل. فمحمد بن المحروق كان وكيلاً على ممتلكات السلطان إسماعيل الأول قبل تسلمه منصب الوزارة (¬676). 2 - أبعد سلاطين غرناطة اليهود والمسيحيين عن وظيفة الجباية، عكس دولة المرابطين وغيرها التي اعتمدت عليهم (¬677). 3 - كان سلاطين غرناطة يدفعون الأموال الكثيرة إلى ملوك الإسبان فيروى أن السلطان محمد الأول كان يدفع ربع ما في بيت ماله وقيل بأنه كان يدفع نصف ما موجود في بيت المال، وفي عام 709 هـ رفع فرديناند الرابع الحصار عن الجزيرة ¬_______ (¬673) ينظر، ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، ص 133 - أبو رميلة، علاقات، ص 480. (¬674) ينظر، عنان، عصر الموحدين، ص 627. (¬675) محمد ولد دادة، مفهوم الملك في المغرب، ص 174 - 176. (¬676) ينظر، ابن خلدون، المقدمة، ص 242 - فرحات، غرناطة، ص 79. (¬677) فرحات، غرناطة، ص 79.

الخضراء مقابل خمسين ألف قطعة ذهبية دفعها السلطان أبو الجيوش نصر من بيت المال، كما أن ألفونسو العاشر الحكيم فرض على ابن الأحمر مبلغ خمسين ألف قطعة ذهبية أي ما يعادل سدس ما حوته خزينة الدولة النصرية (¬678). 4 - كانت أهم واردات بيت المال في الدولة النصرية، الجزية التي تؤخذ من أهل الذمة، وصدقات المسلمين وهي الزكاة والعشور على الماشية والمحصولات الزراعية، والضرائب على التجارة، أما ضريبة التجارة البحرية والصيد فمقصورة على ميناء مالقة ومربلة (¬679). ومن موارد بيت المال ضريبة المواريث وغنائم الحروب (¬680). 5 - كانت نقود بني الأحمر في غرناطة من الصنف الممتاز، وكانت نقودهم من أفضل النقود (¬681). ومما يذكر في هذا المجال أن فريقاً من مسيحيي أرغون عمدوا أيام ملكهم بطرة الرابع إلى ضرب عملة مزيفة شبيهة بنقود المسلمين وتاجروا بها مدة مع الغرناطيين، إلا أن هذه النقود المزيفة قد اكتشفت (¬682). وكانت دنانيرهم تتألف من الذهب والفضة والنحاس، وكان الدينار الذهبي يساوي عشرة دراهم فضية، وهناك عملة القيراط وهي نصف الدرهم (¬683). 6 - ازدهرت الزراعة في مملكة غرناطة، وساعد على هذا الازدهار طبيعة الأرض وما حوته الأنهار والوديان والسهول الخصبة واهتموا بقنوات الري. وأهم المحاصيل الزراعية، الكروم الذي يعصرونه في عيد اشتهرت به مملكة غرناطة (¬684)، وكذلك الزيتون والبرتقال والحبوب على أنواعها (¬685). واشتهرت مملكة غرناطة بصناعة الأسلحة كالسيوف والخناجر والدروع والرماح وهذا أمر يتطلبه وضعهم الجهادي ضد الممالك الإسبانية. بالإضافة إلى شهرتهم في ¬_______ (¬678) ينظر، ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 74 - فرحات، غرناطة، ص 80. (¬679) ينظر، أيضاً، ص 40 - أيضاً، ص 81. (¬680) فرحات، غرناطة، ص 81. (¬681) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 40. (¬682) فرحات، غرناطة، ص 81. (¬683) ابن الخطيب، الإحاطة، ج 1، ص 137 - 138. (¬684) ابن الخطيب، اللمحة البدرية، ص 40. (¬685) ينظر، فرحات، غرناطة، ص 141 وما بعدها.

صناعة الصوف والحرير والأقمشة الملونة، كما أتقن الغرناطيون صناعة الخزف وغيرها (¬686). أما تجارة الدولة فكانت نشطة مع مصر وبلاد الشام وشمالي أفريقية، وكذلك مع مملكتي قشتالة وأرغون وبعض جمهوريات إيطاليا وبخاصة مع جمهورية جنوة (¬687)، وساعدها على ذلك موقعها البحري. وتشير الروايات إلى رخص الأسعار في مملكة غرناطة، فرطل اللحم يباع بدرهم (¬688)، وثمانية أرطال من العنب بدرهم أو بدرهمين. وكانت المواد الغذائية في العاصمة غرناطة أغلى من سائر المناطق، ويعود ذلك إلى ازدياد عدد سكانها بعد نزوح أبناء المدن والقرى التي وقعت في أيدي الإسبان إليها (¬689). ¬_______ (¬686) المقري، نفح، ج 1، ص 163 - فرحات، غرناطة، ص 144 - 146. (¬687) فرحات، غرناطة، ص 150 - 151. (¬688) المقري، نفح، ج 1، ص 143 - 144 - ص 211، ص 218. (¬689) ينظر، ابن خلدون، المقدمة، ص 364 - فرحات، غرناطة، ص 146.

الفصل الثالث أثر الحضارة العربية في الأندلس على أوروبا

الفَصْلُ الثَّالِث أثر الحضارة العربية في الأندلس على أوروبا لسنا بحاجة إلى ذكر التفاصيل من أجل التدليل على عصر التخلف الذي ساد أوروبا عندما كانت أمة العرب والإسلام في عصر ازدهارها الفكري، فقد يكفينا في هذا المجال شهادة بعض العلماء الأوروبيين الذين كتبوا عن حضارة العرب وأثرها في تكوين الفكر الأروبي (¬1). بدأ تأثير الحضارة الأندلسية في أوروبا منذ القرن الثامن الميلادي، ولقد اتخذ هذا التأثير صوراً وأشكالاً متعددة نظراً للحالة التي كانت عليها أوروبا حينئذ. ويمكن تمييز ثلاث مراحل لأثر الحضارة الأندلسية في أوروبا ابتداءً من بدايتها الأولى وحتى عصر النهضة وهي: 1 - عصر التأثير غير المباشر: استقر العرب في الأندلس ما يقارب ثمانية قرون بلغت فيها الحضارة العربية الذروة، وكانت هذه الحضارة تشع من حواضر قرطبة وغرناطة وإشبيلية وسرقسطة وطليطلة وغيرها. وكان محبو العلم في أوروبا يهرعون إلى مراكز الحضارة الأندلسية ويقضون السنوات الطوال في الدراسة والتتبع، والإطلاع على كتب العرب فيها. وفي مقدمة هؤلاء الراهب الفرنسي (جربرت دي أورياك) الذي وفد إلى الأندلس على عصر الحكم المستنصر (350 - 366 هـ)، واهتم بصورة خاصة بدراسة العلوم الرياضية وبرع ¬_______ (¬1) ينظر، هونكة، شمس العرب، ص 359 وما بعدها، لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 11 - لوبون، حضارة العرب، ص 675 وما بعدها.

فيها حتى خيل لعامة فرنسا -بعد رجوعه- آنذاك بأنه ساحر (¬2)، وأصبح فيما بعد بابا روما باسم البابا سلفستر الثاني (390 - 394 هـ) وله دوره البارز في نشر علوم العرب في أوروبا (¬3). كما وجدت نسخة لاتينية من حكم بقراط كانت تستخدم في التدريس في مدينة شارتر بفرنسا عام 382 هـ/991 م، فعللت هذه الظاهرة بوجود نفوذ عربي مبكر في فرنسا، لأن هذه النسخة كانت عن أصل عربي، ذلك لأن الغرب اللاتيني كان يجهل في هذا العصر جهلاً تاماً أي شيء من الأصول اليونانية لأعمال اليونان القدماء (¬4). ونستنتج افتراضاً من ظروف هرمان الكسيح (1013 - 1034 م) وهو ابن أمير دالماسيا من أصل سويسري وقد كتب في الرياضيات والتنجيم عن تأثير الحضارة العربية الأندلسية. فهذا الأمير لظروفه المرضية لم يزر الأندلس، إلا أنه استفاد أولاً من ترجمات لأعمال عربية كالتي وجدت في شارتر أو التي عملت لجربرت، واستفاد ثانياً من الطلاب الأوروبيين العائدين من الأندلس والذين كانوا يمرون بدير (ريخناو) الذي يقيم به هرمان ويقضون فيه فترة قبل رجوعهم إلى بلادهم. وعن هؤلاء نقل هرمان كل ما جلبوه من الآلات الفلكية العربية وفي مقدمتها الاسطرلاب (¬5). وإذا كانت هذه الظواهر جهوداً فردية قام بها بعض الأفراد أو بعض الأديرة، فإن بعثات علمية أرسلت إلى الأندلس ذات طابع رسمي من قبل حكومات بعض الدول الأروبية. أخذت البعثات الأوروبية تتوالى تترى على الأندلس بأعداد متزايدة سنة بعد أخرى حتى بلغت سنة 312 هـ في عهد الخليفة الناصر زهاء سبعمائة طالب وطالبة. وكانت إحدى هذه البعثات من فرنسا برئاسة الأميرة (اليزابث) ابنة خال الملك لويس السادس ملك فرنسا. وبعث فيليب ملك بافاريا إلى الخليفة هشام الثاني (توفي حوالي عام ¬_______ (¬2) ينظر، جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 396 وما بعدها - عبد الرحمن بدوي، دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، ص 5 - 6 - رينو، غزوات العرب، ص 296. (¬3) حيدر بامات، دور المسلمين في بناء المدنية الغربية، ص 33 - السامرائي، الثغر الأعلى، ص 8 - دراسات في تاريخ الفكر العربي، ص 385. (¬4) جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 501 - 502. (¬5) هونكه، شمس العرب، ص 140 - سليم طه التكريتي: " أوروبا ترسل بعثاتها إلى الأندلس " مجلة الوعي الإسلامي، العدد 37 (الكويت: 1968)، ص 92.

403 هـ) بكتاب يطلب إليه أن يأذن له بإرسال بعثة من بلاده إلى الأندلس للإطلاع على مظاهر التقدم الحضاري فيها والاستفادة منها. فوافق الخليفة هشام، وجاءت بعثة هذا الملك برئاسة وزيره المدعو (ويلمبين)، الذي يسميه العرب (وليم الأمين) (¬6). وسار ملوك آخرون من أوروبا على هذا النهج، فقد أوفد ملك ويلز بعثة برئاسة ابنة أخيه كانت تضم ثماني عشرة فتاة من بنات الأشراف والأعيان، وقد وصلت هذه البعثة مدينة إشبيلية برفقة النبيل (سفيلك) رئيس موظفي القصر في ويلز الذي حمل رسالة من ملكه إلى الخليفة هشام الثالث (ويبدو أنه هشام المعتد بالله الذي خلع عام 422 هـ)، وكان هدف هذه البعثة كما تقول الرسالة: " فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا ولأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أربعة أركان ... " (¬7). وقد استقبل خليفة الأندلس البعثة أحسن استقبال، ورد على رسالة ملك ويلز، وقد حظيت هذه البعثة باهتمام رجال الدولة الذين قرروا أن يتم الإنفاق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين (¬8). وقد كانت بعثة ملك بافاريا التي ترأسها وليم الأمين تتألف من (215) طالباً وطالبة وزعوا على جميع معاهد الأندلس لينهلوا من مواردها الثقافية. وتخبرنا الروايات بأن ثمانية من أفراد هذه البعثة اعتنقوا الدين الإسلامي ومكثوا في الأندلس ورفضوا العودة إلى بلادهم. ومن هؤلاء الثمانية ثلاث فتيات تزوجن بمشاهير من رجال الأندلس في ذلك الوقت وأنجبن عدداً من العلماء كان منهم عباس بن مرداس الفلكي (¬9). وفي الوقت نفسه عمد بعض ملوك أوروبا إلى استقدام علماء الأندلس لتأسيس المدارس ونشر ألوية العلم والعمران. ففي خلال القرن التاسع الميلادي وما بعده وقعت حكومات هولنده وسكسونيا وإنكلترا على عقود مع حوالي تسعين من الأساتذة العرب في الأندلس بمختلف العلوم، وقد اختير هؤلاء من بين أشهر العلماء الذين كانوا يحسنون اللغتين الإسبانية واللاتينية إلى جانب اللغة العربية، ووقعت تلك الحكومات ¬_______ (¬6) السامرائي، دراسات، ص 386. (¬7) سليم طه التكريتي: " أوروبا ترسل بعثاتها إلى الأندلس "، ص 90. (¬8) السامرائي، دراسات، ص 386 - 387. (¬9) سليم طه التكريتي: " أوروبا ترسل بعثاتها إلى الأندلس "، ص 90 وما بعدها.

عقوداً أخرى مع حوالي مائتي خبير عربي في مختلف الصناعات ولا سيما إنشاء السفن وصناعة النسيج والزجاج والبناء وفنون الزراعة. ولقد أقام بعض المهندسين العرب أكبر جسر على نهر التايمس في بريطانية عرف باسم (جسر هليشم Helichem) وهذه الكلمة تحريف لكلمة هشام خليفة الأندلس الذي أطلق الإنكليز إسمه على هذا الجسر عرفاناً بفضله لأن أرسل إليهم أولئك المهندسين العرب. وكذلك كان المهندسون العرب هم الذين شيدوا قباب الكنائس في بافاريا، ولا تزال توجد بإحدى المدن الألمانية (شتوتغارت) حتى اليوم سقاية ماء تدعى (أميديو Amedeo) وهو تحريف لكلمة أحمد المهندس العربي الذي بناها (¬10). واستمرت عملية التأثير غير المباشر زهاء ثلاثة قرون، وقد عملت على وضع أول خطوة في طريق تغير العقلية الأوروبية. 2 - عصر الترجمة من العربية إلى اللاتينية: يبدأ هذا العصر من منتصف القرن الحادي عشر الميلادي إلى أواخر القرن الثالث عشر، وأول ما اهتم به المترجمون، هو ترجمة العلوم العربية المنقولة عن العلوم اليونانية أولاً، ومن ثم ترجمة العلوم العربية الإسلامية ثانياً. بعد أن استرد الإسبان مدينة طليطلة عام 478 هـ/1085 م أصبحت على الحدود بين دولة العرب في الأندلس وبين الممالك الإسبانية وأوروبا. ولقد امتازت هذه المدينة بكثرة مكتباتها خصوصاً وقد انتقل إليها آلاف المجلدات من المشرق، وبقيت الثقافة العربية فيها حتى بعد سقوطها بيد الإسبان. وقامت فيها حركة ترجمة من قبل هيئة من المترجمين نقلوا فيها كتب العرب إلى اللاتينية. وفي عهد مطران طليطلة (ريموندو 1126 - 1152 م) أسس معهداً للترجمة وعهد برئاسته إلى (دومنجو غنصالفة) الذي برز نشاطه ما بين عام 1130 وإلى عام 1180 م، والذي يعد أشهر رجال الترجمة في العصر الوسيط من العربية إلى اللاتينية عن طريق الإسبانية العامية (¬11). فقد كانت الطريقة في الترجمة أن يقوم يهودي مستعرب -ومن أشهرهم في معهد الترجمة بطليطلة إبراهام بن عزرا- بترجمة النص العربي شفوياً إلى اللغة الإسبانية العامية، ثم يتولى (غنصالفة) الترجمة إلى اللاتينية. ومن بين ما ترجمه ¬_______ (¬10) ينظر، السامرائي، دراسات، ص 387 - سليم طه التكريتي: " أوروبا ترسل بعثاتها إلى الأندلس "، ص 90 وما بعدها. (¬11) السامرائي، دراسات، ص 389.

غنصالفة على هذا النحو مؤلفات الفارابي وابن سينا والغزالي. وشاركه في الترجمة أحياناً (خوان بن داوود) إذ اشتركا سوية في ترجمة كتاب (في النفس) لابن سينا، وشاركه أيضاً المترجمان الإنكليزيان (روبرت الكيتوني وأدلارد الباثي). واشتهر أدلارد الباثي بترجمة جداول في علم الفلك لمسلمة المجريطي عام 1126 م (¬12). واستمرت حركة الترجمة في مدينة طليطلة في القرن الثالث عشر، ووفد إليها علماء أوروبا أمثال (ميخائيل سكوت) الذي ترجم كتباً لابن سينا. ومن كبار المترجمين في طليطلة (ماركوس) شماس طليطلة الذي ترجم بعض مؤلفات جالينوس الطبية -المترجمة إلى العربية أصلاً- كما ترجم القرآن الكريم وبعض كتب علم التوحيد، كما ترجم (هرمانوس المانوس) شرح ابن رشد على كتاب الأخلاق لأرسطو عام 1240 م. ويلاحظ من أعمال ماركوس أن هناك دافعاً دينياً وراء اهتمام الأوروبيين في هذا القرن باللغة العربية، فقد أرادت الكنيسة الكاثوليكية أن تحول المسلمين إلى المسيحية، وأن تربط الكنائس الشرقية بروما بعد توحيدها. ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، لا بد من تعلم العربية، وقد أثمر هذا الاهتمام أولاً بترجمة القرآن إلى اللاتينية تنفيذاً لفكرة بطرس الجليل (رئيس دير كلوني) الذي زار إسبانيا عام 1141 م في مهمة دينية، فأتيحت له فرصة مراقبة بدايات الصراع بين الأندلس والممالك الإسبانية، وكان ذلك أثناء حكم دولة الموحدين (¬13)، وقد توصل إلى أن القوة المسلحة لا تجدي نفعاً في محاربة الإسلام، وإنما ينبغي اللجوء إلى المنطق، وذلك بفهم الخصم أولاً، والإصغاء إلى جدله وحججه ثانياً، وبما أن القرآن هو المرجع الأول لدى المسلمين فقد وجب على الأوروبيين فهمه. ولتحقيق هذه الغاية قام بطرس الجليل بتكليف الراهب الإنكليزي (روبرت الكيتوني) الذي كان يدرس آنذاك الفلك العربي والرياضيات في إسبانيا، أن يترجم القرآن إلى اللاتينية وأجزل له العطاء، وقد لقيت ترجمته رواجاً واسعاً (¬14). ومن الذين اهتموا بالدراسات العربية بدافع ديني هو (رامون لل) من أهل ميورقة الذي برز بعد استرجاع الجزائر الشرقية من يد المسلمين عام 627 هـ/1230 م، فقد درس اللغة العربية تسع سنوات على يد أسير مسلم، ثم نجح في تأسيس معهد لتدريس ¬_______ (¬12) ينظر، أوليري، الفكر العربي، ص 234 - جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 523 - لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 12، ص 120. (¬13) ينظر، السامرائي، دراسات، ص 390. (¬14) ينظر، لوبون، حضارة العرب، ص 677 - لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 12 - 13 - عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 10.

العربية، وكان يؤمن بالحوار مع المسلمين مع الاعتقاد سلفاً بتفوق الدين المسيحي. ولتحقيق هذا الغرض أبحر في عام 1291 م إلى تونس من أجل إجراء مناقشة علنية مع علماء المدينة حول أوجه الخلاف بين المسيحية والإسلام، وقد أدت المناقشة إلى طرده فعاد إلى أوروبا، ثم كرر العودة إلى تونس فثار عليه العوام وقتلوه عام 1316 م (¬15). وفي عهد ألفونسو الحكيم انتشرت حركة الترجمة من العريية إلى الإسبانية، فترجمت كتب كليلة ودمنة، وعشرات من كتب الفلك فكان لهذا أثره في قيام اللغة الإسبانية أولاً، ومن ثم تقدم الدراسات العلمية في إسبانيا وانتقالها إلى أوروبا ثانياً. وأنشأ ألفونسو الحكيم عام 1254 م جامعة إشبيلية وخصصها لدراسة العربية واللاتينية (¬16). 3 - عصر الاستعراب - قمة التأثير العربي: ويمتد هذا العصر من منتصف القرن الثالث عشر حتى منتصف القرن الخامس عشر. وقد اتصف هذا العصر بالقبول الأعمى لكل ما هو عربي، والنظر إليه باعتباره الحجة النهائية. في هذه الفترة نستعرض أثر العلوم العربية المختلفة في تكوين الفكر الأوروبي في مختلف ميادينه: ففي مجال الفكر الفلسفي، عرفت أوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر عن طريق الأندلس مؤلفات أرسطو، وأجزاء من فلسفة أفلوطين وأبرقلس، ومعالم من فلسفة أفلاطون وذلك بواسطة معاهد الترجمة في مدينة طليطلة، إذ قام المترجمون بترجمة كتاب البرهان من منطق أرسطو (أور جانون أرسطو) أي مؤلفات أرسطو المنطقية مثل (التحليلات الثانية - السماء والعالم - الكون والفساد)، كما ترجموا كتاب (الخير المحض) المنسوب إلى أرسطو. فكان لهذه الحركة أثر فعال في إخصاب الفكر الأوروبي الذي سرعان ما خضع لفلسفة أرسطو (¬17). كما أثر الفلاسفة العرب في أوروبا عندما ترجمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية وبعض ¬_______ (¬15) لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 14. (¬16) جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 524 - هونكه، شمس العرب، ص 136 وما بعدها - عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 10. (¬17) ينظر، عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 30 - أرنست بنتس، " الثقافة الإسلامية تنقل الفلسفة اليونانية إلى أوروبا " ترجمة سليم طه التكريتي، مجلة المورد العدد 4 (بغداد: 1981)، ص 466 وما بعدها.

اللغات الأوروبية الحديثة. فترجم يوحنا الإسباني منطق ابن سينا، وترجم غنصالفة بمساعدة يوحنا الإسباني قسم الطبيعيات وقسم النفس وقسم الإلهيات من كتاب الشفاء لابن سينا أيضاً، كما ترجموا كتاب مقاصد الفلاسفة للإمام الغزالي وكتاب ينبوع الحياة لابن جبرول (توفي عام 450 هـ) (¬18). وقد تأثر شيخ المترجمين الأوروبيين غنصالفة بآراء فلاسفة الإسلام، فألف كتاباً نجد فيه آثار الفلسفة الإسلامية، ومن أشهر كتبه التي بدأ فيها تأثير ابن سينا وابن جبرول هو كتاب (صدور العالم - في خلود النفس - في التوحيد)، وعندما بدأ الأوروبيون قراءة كتب فلاسفة الإسلام بدأت النهضة الحقيقية للفكر الفلسفي الأوروبي (¬19). وأول من أدخل فلسفة ابن رشد إلى أوروبا ميخائيل سكوت عام 1230 م، ولم يأت منتصف القرن الثالث عشر حتى كانت جميع كتب هذا الفيلسوف قد ترجمت إلى اللغة اللاتينية (¬20). ورسالة حي بن يقظان لمؤلفها أبي بكر بن طفيل، ترجمت إلى العبرية في القرن الرابع عشر الميلادي، وإلى اللاتينية في القرن الخامس عشر الميلادي، وبتوالي السنون ظهرت ترجمات بلغات مختلفة لهذه الرسالة (¬21). أما أثر التصوف الإسلامي في نشأة التصوف الأوروبي، فقد أثرت آراء الصوفي الأندلسي ابن عباد الرندي (توفي عام 720 هـ) على آراء الصوفي الإسباني يوحنا الصليبي. ومن المعروف أن ابن عباد الرندي كان صوفياً على الطريقة الشاذلية - سبق يوحنا الصليبي بمائتي سنة، ويبدو أن التوافق بين آراء العالمين جاء نتيجة، أن الطريقة الشاذلية كانت واسعة الانتشار في المغرب والأندلس في القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي، ولا بد أنها ظلت عميقة التأثير والانتشار بين المسلمين الذين غلبوا على أمرهم وبقوا في إسبانيا بعد إخراج العرب منها عام 1492 م، وعن هؤلاء تلقى يوحنا الصليبي علمه بالطريقة الشاذلية (¬22). ¬_______ (¬18) شاخت وبوز ورث، تراث الإسلام، ج 2، ص 264 - 265 - عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 30 - 31. (¬19) عبد الرحمن بدوي، دور العرب، 31. (¬20) حسني أحمد، الحضارة العربية، ص 97 - 98. (¬21) ضياء أولكن، " أثر الفكر العربي الإسلامي في الفلسفة الغربية " ترجمة عبد الصاحب السعدي، مجلة المورد، العدد 4، ص 410 - ينظر شاخت وبوز ورث، تراث الإسلام، ج 2، ص 273. (¬22) عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 25 - 27.

وفي مجال التصوف فقد أثر الغزالي في فكر العالم الفرنسي المشهور (بسكال) صاحب الحجة المشهورة في إثبات وجود الآخرة والتي تسمى رهان بسكال، حيث حاول إقناع المنكرين للآخرة الإيمان بوجودها، وهذه الحجة ذكرها الغزالي في معظم كتبه (¬23). أما تفسير الاتفاق بين آراء الغزالي وآراء بسكال حول هذه الحجة، فإن بسكال عرف كلام الغزالي إما عن طريق مستشرق معاصر لبسكال، أو أنه عرف آراء الغزالي أثناء إطلاعه على كتاب (خنجر الإيمان) لريموندو مارتين، والذي ثبت أن بسكال استفاد منه وهو يكتب دفاعه عن الدين (¬24). هذا مع العلم أن الإمام الغزالي عرف في أوروبا بأنه صاحب كتاب مقاصد الفلاسفة، لا صاحب كتاب الإحياء (¬25). كما كان لمحيي الدين بن عربي الأندلسي أثر كبير على عقول النساك الأوروبيين، والذين حببه إليهم أنه دعى إلى وحدة الأديان. ومن المعروف أن أول الفلاسفة الصوفيين من أهل الغرب هو (جوهان أوكهارت) الألماني الذي عاش في القرن التالي لعصر محيي الدين بن عربي (القرن الثالث عشر) ودرس في جامعة باريس التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم (¬26). وأثر محيي الدين بن عربي في دانته الشاعر الإيطالي المشهور الذي استمد مادة غزيرة لكتابه (الكوميديا الإلهية) من التصورات الأخروية الإسلامية، وبخاصة ما ورد منها عند ابن عربي (¬27). أما في مجال الفكر العلمي فتأثير الأندلس كبير جداً، فكانت مدارس الطب الأوروبية تستخدم الكتب الطبية العربية المترجمة إلى اللاتينية وبخاصة كتب الرازي وابن سينا (¬28). فكتاب الحاوي للرازي كان أحد الكتب التسعة التي تتكون منها مكتبة الكلية الطبية في باريس عام 1395 م، وعندما أراد الملك لويس الحادي عشر استنساخه اضطر ¬_______ (¬23) ينظر، إحياء علوم الدين، ج، ص 365 - 366. (¬24) عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 27 - 28 - ضياء أولكن، " أثر الفكر العربي الإسلامي "، ص 412 - 413. (¬25) السامرائي، دراسات، ص 394. (¬26) حسني أحمد، الحضارة العربية، ص 97 - عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، ص 97. (¬27) عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 49 وما بعدها. (¬28) لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 128.

إلى دفع مبلغ كبير من الذهب والفضة مقابل استعارته. وطبع هذا الكتاب مرات عديدة في أوروبا بترجمته اللاتينية. أما كتابه المنصوري فقد ترجم إلى اللاتينية عام 1489 (¬29). أما كتاب التصريف لخلف بن عباس الزهراوي (توفي عام 427 هـ) فقد استمر مدة خمسة قرون العمدة في الأمور الجراحية في أوروبا، وقد ترجم إلى اللاتينية والعبرية عدة مرات. وكتاب القانون في الطب لابن سينا، فقد ترجم إلى اللاتينية وطبع عشرات المرات خلال القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين (¬30). وكان كتاب في العقاقير لماسويه المارديني (توفي عام 406 هـ) الكتاب المدرسي في الصيدلية في أوروبا لعدة قرون، كما كان كتاب الأدوية المفردة لابن وافد (توفي عام 467 هـ) من أهم كتب الصيدلة التي اعتمدت عليها أوروبا في القرون الوسطى (¬31). - وفي مجال الكيمياء فقد ترجم كتاب غاية الحكيم للعالم أحمد بن مسلمة المجريطي الأندلسي (توفي عام 398 هـ) إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر، وبذلك عرف الأوروبيون من العرب تقسيم المواد الكيمياوية إلى نباتية وحيوانية ومعدنية، وما زالت المعدات العربية في مجال الكيمياء، والتي انتقلت إلى الكيمياء الحديثة، تحمل أسماءها العربية الأصيلة (¬32). - أما في مجال الرياضيات، فقد أخذ العرب الأرقام الحسابية من الهند، وعن طريقهم انتقلت الأعداد الغبارية إلى الأندلس، ومنها إلى أوروبا. وأول من أخذ بالأرقام العربية من الأوروبيين جربرت الذي عرف فيما بعد بالبابا سلفستر الثاني، الذي درس في الأندلس وبعدها ألف كتاباً شرح فيه كيفية استخدام الأرقام العربية. إلا أن أوروبا لم تلق بالاً إلى هذا النظام الجديد في البداية، بل كان يُنظر إلى جربرت بعين الشك، وأنه ساحر، كما رُويت عنه الأساطير الشعبية (¬33). وبعد فترة من الزمن تبنت أوروبا الأرقام العربية نتيجة أعمال (ليوناردو دي بيزا) الذي توفي عام 1240 م والذي درس الرياضيات ¬_______ (¬29) لوبون، حضارة العرب، ص 589 - فرات فائق، أبو بكر الرازي، ص 69 وما بعدها. (¬30) حكمت نجيب عبد الرحمن، دراسات، ص 55 - 56، ص 60 - حسني أحمد، الحضارة العربية، ص 89 - عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 22. (¬31) جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 352. (¬32) حسني أحمد، الحضارة العربية، ص 91 - العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، ص 43 - حكمت نجيب، دراسات، ص 276. (¬33) ينظر، السامرائي، الثغر الأعلى، ص 7 - 8.

على يد معلم عربي في شمال أفريقية، وأصدر كتاباً يشرح فيه نظام الأرقام العربية عام 1202 م وكان ذلك بداية تبني أوروبا للأرقام العربية (¬34). وترجمت كذلك كتب الخوارزمي (كتاب الجبر والمقابلة) وكتاب أقليدس في الهندسة (الترجمة العربية) إلى اللغة اللاتينية واستفادت منها أوروبا كثيراً (¬35). - وفي مجال علم الفلك، فقد قام مجموعة من المترجمين الأوروبيين بنقل كتب علم الفلك العربية إلى اللغة اللاتينية، ومثال على ذلك، ترجمة زيج (الجداول) البتاني (توفي عام 317 هـ) إلى الإسبانية بناء على رغبة الملك ألفونسو العاشر ملك قشتالة (1252 - 1284 م) وسمي هذا الزيج (بالجداول الألفنسية) الذي شاع استعماله في أوروبا لعدة قرون (¬36). أما الألواح الفلكية للخوارزمي، فقد ترجمها إلى اللاتينية أدلارد الباثي عام 1126 م، ومؤلفات أبي معشر البلخي (توفي عام 886 هـ) نقلها إلى اللاتينية (خوان الإشبيلي)، ومن خلالها نقل إلى الأوروبيين تفسيراً لظاهرة المد والجزر وارتباطها بالقمر (¬37). ونتيجة اهتمامات العرب الفلكية عرفوا موقع النجم الثابت في الجنوب (سهيل) ويسمى أيضاً غيوم ماجلان، حيث استعان به ماجلان أثناء رحلته حول العالم (1519 - 1522). ومن علماء العرب في الفلك الذين ذكروا هذا النجم عبد الرحمن الصوفي (توفي عام 376 هـ) في كتابه الكواكب الثابتة، وبهذا قدموا خدمة كبيرة لأوروبا في مجال الاستكشافات الجغرافية (¬38). وإذا كان وصول العرب إلى القارة الأمريكية قبل كولمبس أمراً غير مقطوع به، فمن المحقق أنهم وصلوا في المحيط الأطلسي (بحر الظلمات) إلى أمد بعيد وانتهوا إلى بعض جزائره. أما الأمر الذي لا شك فيه أن الفكرة التي نهضت بكولمبس مكتشف القارة الأمريكية (1492 - 1493 م) إنما هي فكرة عملية مستمدة من المؤلفات العربية وبخاصة كتب الجغرافية والفلك. فلولا اقتناع كولمبس باستدارة الأرض لما خطر له أن يصل إلى الهند من طريق الغرب، ولم تكن في أوروبا ¬_______ (¬34) لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 125. (¬35) عز الدين فراج، فضل علماء المسلمين، ص 168، ص 177. (¬36) جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 530 - لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 126 - حسني أحمد، الحضارة العربية، ص 93. (¬37) عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 19. (¬38) السامرائي، دراسات، ص 5403.

يومئذ مؤلفات تشرح هذه الفكرة غير المؤلفات العربية (¬39). وإلى جانب كل هذا تأثرت الجامعات الأوروبية ببعض تقاليد الجامعات العربية وبخاصة التي كانت موجودة بالأندلس. فقد قلدتها في لبس الأردية الخاصة بالأساتذة، وقلدتها في تخصيص أروقة للطلاب حسب جنسياتهم تسهيلاً لاستيعابهم في الجامعة، وقلدتها في منح الإجازات (إجازة التدريس). وقد أكد بعض علماء أوروبا أن كلمة (بكالوريوس اللاتينية) ليست إلا تحريفاً للعبارة العربية (بحق الرواية) والتي تعني الحق في التعليم بإذن من الأستاذ. ولا تزال جامعة كمبردج تحتفظ بإجازة جامعية عربية مبكرة تعود إلى عام 1147 م فيها عبارة بحق الرواية، بينما لم تظهر كلمة بكالوريوس في الإجازات الأوروبية قبل عام 1221 م (¬40). - أما في مجال الأدب، فقد كان للأدب الأندلسي، وبخاصة الشعر، أثر كبير في نشأة الشعر الأوروبي الحديث في إسبانيا وجنوبي فرنسا، ويأتي تأثير الزجل والموشح بالدرجة الأولى، كما يروي المستشرق الإسباني (خليان ريبيرا) الذي درس موسيقى الأغاني الإسبانية ودواوين شعراء التروبادور، وهم الشعراء الجوالة في العصور الوسطى بأوروبا، والمنيسنجر، وهم شعراء الغرام. كما أثبت انتقال بحور الشعر الأندلسي فضلاً عن الموسيقى العربية إلى أوروبا (¬41). وشعر التروبادور يعود إلى أصل عربي، وذلك لوجود أوجه شبه لفظية موسيقية بين ما شاع بأوروبا، وبين ما عرف عن الزجل الأندلسي، وكذلك من حيث المضمون حيث شاع في هذا النوع من الشعر بعض مضامين الشعر العربي وهي التي يطلق عليها حب المروءة الذي شاع في أوروبا، وانتشر في إسبانيا بفضل ابن حزم عن طريق كتابه (طوق الحمامة) (¬42). وقد انتفع شعراء جنوبي فرنسا في القرن الحادي عشر الميلادي من الشعر الأندلسي، حيث وجد شبهٌ بين شعراء التروبادور وبين ابن قزمان الشاعر الأندلسي. وأما سبب ظهور هذا النوع من الشعر في فرنسا قبل إسبانيا فيعود إلى أن جيوم التاسع أحد رواد التروبادور ودوق أكيتانيا تعلم ¬_______ (¬39) ينظر: زكريا هاشم، فضل الحضارة الإسلامية، ص 545 - عبد المنعم ماجد، تاريخ الحضارة الإسلامية، ص 288 - العقاد، " نصيب العرب من حضارة العالم " مجلة العربي العدد 4 (الكويت: 1958)، ص 33. (¬40) لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 131 - 132 - ينظر، غازي محمد الحاجم، " دور المسلمين في تقدم الطب " مجلة التربية الإسلامية، العدد الأول لسنة 1977، ص 37. (¬41) محمد كرد علي، الإسلام والحضارة العربية، ج 1، ص 246 - عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 14. (¬42) ينظر، حيدر بامات، مجالي الإسلام، ص 304 - سعد شلبي، دراسات أدبية، ص 115.

العربية عندما اشترك في حملة صليبية بالمشرق عام (495 - 496 هـ) وأقام مدة بالشام، كما اشترك مع ألفونسو المحارب في معركة قتندة في الأندلس عام 514 هـ، ويعد هذا أول شاعر في اللغات الأوروبية الحديثة، وقد بقي من شعره إحدى عشرة قصيدة (¬43). كما أن سقوط طليطلة بيد الإسبان عام 478 هـ هيأ لكثير من الفرنسيين الاتصال بمسلمي الأندلس والتأثر بهم، كما لم ينقطع في الوقت نفسه تدفق البعوث الدينية وقوافل التجار بين طليطلة والمقاطعات الفرنسية، كل هذه الأسباب جعلت التروبادور الفرنسي أسبق ظهوراً من قرينه الإسباني (¬44). كما أن فكرة الحب النبيل التي تسود الغزل في الشعر البروفنسالي، تعود بالأصل إلى ابن حزم الذي عرضها في كتابه طوق الحمامة في الألفة والألاف، وهو ما يسمى بالحب العذري (¬45). كذلك نجد تأثير القصص العربية على نشأة الأدب القصصي في أوروبا، ولقد قام (بدرو ألفونسو) بترجمة ثلاثين قصة من العربية إلى اللاتينية تحت عنوان (تعليم العلماء) ذكر فيها قصة المرأة التي خانت زوجها الغائب، والذي عاد فجأة فأنقذتها أمها من هذه الورطة بأسلوب ماكر، وقد انتشرت هذه القصة في الأدب الأوروبي (¬46). ومن ناحية أخرى أثرت كليلة ودمنة في الأدب بعد أن ترجمت في عصر ألفونسو الحكم حوالي عام 1250 م إلى الإسبانية، كما ترجمت بعض القصص التي تسربت من ألف ليلة وليلة إلى الأندلس، ومنها حكاية (الجارية تودد) التي ترجمت إلى الإسبانية في القرن الثالث عشر، وأثرت بعد ذلك في إنتاجات كبار أدباء المسرح الإسباني. وبذلك احتل كتاب ألف ليلة وليلة مكانة مهمة في تاريخ الأدب الأوروبي بما يصوره عن الشرق الغامض والساحر، الشرق الذي يزخر بالسحرة والجن، والذي يزخر بالكنوز الرائعة والمغامرات المذهلة، وبذلك أصبحت الصورة نصف الخيالية عن الشرق كما أظهرها الكتاب مجسمة إلى حد كبير في الأدب الأوروبي (¬47). وضمن هذا المجال، نرى دخول كلمات عربية إلى اللغات الأوروبية المختلفة، فقد دخل بعض هذه الكلمات مباشرة من العربية، ودخل بعضها عن طريق اللغة الإسبانية أو اللاتينية التي كانت لغة العلم والأدب في تلك ¬_______ (¬43) السامرائي، علاقات، ص 441 - عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 14. (¬44) بروفنسال، الإسلام في المغرب والأندلس، ص 206، ص 302 - سعد شلبي، دراسات أدبية، ص 118. (¬45) عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 15 - 16. (¬46) السامرائي، دراسات، ص 406. (¬47) لويس يونغ، العرب وأوروبا، ص 127 - 138 - عبد الرحمن بدوي، دور العرب، ص 16.

العصور. فمثلما نجد أثر اللغة العربية في اللغة العلمية لأوروبا، نجدها في الحياة المعيشية أيضاً، وهذا يدل على مدى تغلغل الحضارة العربية في شؤون المعيشة اليومية التي تلازم المرء في داره، وفي موطن عمله، كما تلازمه في جده ولهوه (¬48). وبعد ذلك بدأ في أوروبا عصر الاستقلال الفكري والانطلاق الأوروبي في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، وذلك بظهور طائفة من العلماء اللاتين استطاعت ابتكاراتهم العلمية أن تبدأ عصراً علمياً جديداً في أوروبا طابعه الابتكار والتجديد، أمثال (كوبرنيكوس) و (ليونارد و دافنشي) و (باراسيلوس) وغيرهم (¬49). ومن الملاحظ أن أوروبا في بداية عصر النهضة اتخذت موقفاً معادياً لعلوم العرب، وبدأت تظهر بواكير حركة لهجر مؤلفاتهم. إلا أنها عادت مرة ثانية في بداية القرن الثامن عشر إلى علوم العرب بعد أن أدركت خطأ رجوعها إلى علوم اليونان، أو استقلالها العلمي، ولكن بطريقة استقلالية لتكمل النقص الذي لا زالت ثغراته في حاجة إلى سدها من علوم العرب (¬50). لا ينكر أن دخول الأندلس وصقلية وجنوبي إيطاليا ضمن العالم الإسلامي جعلها مراكز حضارية راقية للفكر العربي. فعن طريقها خلال العصر الإسلامي وبعده، أثر الفكر العربي بالفكر الأوروبي، وذلك للقرب الجغرافي بين هذه المناطق وأوروبا. حيث لا يفصل الأندلس عن بقية أوروبا سوى جبال البرتات، مع العلم أن المسلمين عبروا هذه الجبال وفتحوا مناطق في فرنسا كانت ضمن دولة العرب في الأندلس لفترة من الزمن، كما أن صقلية وجنوبي إيطاليا مرتبطة ارتباطاً مباشراً ببقية شبه الجزيرة الإيطالية. إضافة إلى الاتصال والاحتكاك العسكري والحضاري الذي كان سائداً بين بلاد أوروبا وبين هذه الواحات الفكرية العربية القريبة منها، أو اتصالها بالمشرق الإسلامي عن طريق الحروب الصليبية. وهذا مع العلم بأن أوروبا كانت جادة بأنها إذا أرادت التقدم والتطور عليها أن تتصل بمراكز الفكر والحضارة العربية، ولهذا كان أثر الفكر العربي في الفكر الأوروبي واضحاً (¬51). ¬_______ (¬48) ينظر، جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 533 - لوبون، حضارة العرب، ص 534 - عز الدين فراج، فضل علماء المسلمين، ص 103، ص 128. (¬49) السامرائي، دراسات، ص 408 - 409. (¬50) أوليري، الفكر العربي، ص 249 - جلال مظهر، حضارة الإسلام، ص 533. (¬51) السامرائي، دراسات، ص 409.

قائمة المصادر والمراجع 1 - المصادر ابن الآبار: أبو عبد الله محمد بن عبد الله (توفي: 658 هـ) - التكملة لكتاب الصلة، نشر وتصحيح عزت العطار الحسيني (القاهرة: 1956)، وطبعة أخرى نشر الفريد بل وابن أبي شنب (الجزائر: 1919) وأخرى نشر: الأركون وكونثاليث بالنثيا؛ (مدريد 1915). - الحلة السيراء، تحقيق الدكتور حسين مؤنس، جزءان (القاهرة: 1963). - المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي (القاهرة: 1967) وطبعة أخرى (مدريد: 1885 م). ابن أبي أصيبعة، موفق الدين أحمد بن القاسم (توفي: 677 هـ). - عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق نزار رضا (بيروت: 1965). ابن أبي دينار، أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم الرعيني. - المؤنس في أخبار أفريقية وتونس، تحقيق وتعليق، محمد شمام (تونس: 1967). ابن أبي زرع، أبو الحسن علي الفاسي (كان حياً قبل عام 726 هـ). - الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس (أو بسالة: 1843)، وطبعة أخرى (الرباط: 1973). - الذخيرة السنية في تأريخ الدولة المرينية (الرباط: 1972). ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الجزري (توفي 630 هـ). الكامل في التاريخ، (بيروت: 1965 - 1967) الأجزاء 5 - 9 - 10 - 11.

الإدريسي، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله (توفي 560 هـ). - صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس (من نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، نشر دوزي ودي خويه، (أمستردام: 1969)، وطبعة أخرى (ليدن: 1866). ابن بسام، أبو الحسن علي الشنتريني (توفي 542 هـ). - الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق الدكتور إحسان عباس (بيروت: 1979) - والقسم الثاني - المجلد الأول تحقيق الدكتور لطفي عبد البديع (القاهرة: 1975). ابن بشكوال، أبو القاسم خلف بن عبد الملك الأنصاري (توفي 578 هـ). - كتاب الصلة، قسمان، (القاهرة: 1966). ابن تغري بردي، جمال الدين يوسف الأتابكي (توفي 874 هـ). - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج 4، ج 6، (القاهرة: 1963). ابن بطوطة، محمد بن عبد الله اللواتي (توفي 770 هـ). - رحلة ابن بطوطة، تحقيق ونشر الدكتور علي المنتصر الكتاني، جزءان، (بيروت: 1979). ابن جبير، أبو الحسين محمد بن أحمد البلنسي (توفي 614 هـ). - رحلة ابن جبير، (دار الكتاب اللبناني: مجهول سنة الطبع). ابن جلجل، أبو داود سليمان بن حسان (توفي بعد عام 384 هـ). - طبقات الأطباء، تحقيق، فؤاد السيد، (القاهرة: 1955). ابن حبيب، عبد الملك بن حبيب الألبيري (توفي 238 هـ). - استفتاح الأندلس، تحقيق محمود علي مكي، صحيفة معهد الدراسات الإسلامية، مدريد، ج 5، 1957. ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد، (توفي 456 هـ). - رسائل ابن حزم، تحقيق إحسان عباس (القاهرة: 1954). - جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبد السلام هارون (القاهرة: 1962). - طوق الحمامة في الألفة والألاف، تحقيق حسن كامل الصيرفي (القاهرة: 1964). - نقط العروس، تحقيق شوقي ضيف، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة 133، ج 2، 1951 م.

ابن حوقل، أبو القاسم النصيبي (توفي 367 هـ). - صورة الأرض (بيروت: 1979). ابن حيان، أبو مروان حيان بن خلف (توفي 469 هـ). - المقتبس من أنباء أهل الأندلس، ج 3، تحقيق الدكتور محمود علي مكي (بيروت: 1973). - المقتبس في تاريخ رجال الأندلس، ج 2 نشر ملشور، م. أنطونية، (باريس: 1937). - المقتبس، ج 5، نشر، ب. شالميا، (مدريد: 1979). - المقتبس في أخبار بلد الأندلس، تحقيق عبد الرحمن الحجي، (بيروت: 1965). ابن خرداذبة. - المسالك والممالك، طبعة ليدن. ابن الخطيب، لسان الدين أبو عبد الله محمد التلمساني (توفي 776 هـ). - الإحاطة في أخبار غرناطة، تحقيق محمد عبد الله عنان، (القاهرة: 1973 - 1977) أربعة أجزاء، وطبعة أخرى (القاهرة: 1955). - أعمال الأعلام في من بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام، تحقيق ليفي بروفنسال، (بيروت: 1956). - تاريخ المغرب العربي في العصر الوسيط، تحقيق أحمد مختار العبادي ومحمد إبراهيم الكتابي، (الدار البيضاء: 1964). - (المنسوب) الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، (توفي: 1329 هـ). - ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب، تحقيق محمد عبد الله عنان ج 1 (القاهرة: 1980). - اللمحة البدرية في الدولة النصرية، (بيروت: 1978). ابن خفاجة، أبو اسحاق إبراهيم الأندلسي (توفي 533 هـ). - ديوان ابن خفاجة، تحقيق، مصطفى غازي (الإسكندرية: 1960). ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (توفي 808 هـ). - التعريف بابن خلدون، (دار الكتاب اللبناني: 1979). - كتاب العبر، (بيروت: 1958) وطبعة أخرى، (بيروت: 1979) سبعة أجزاء.

- مقدمة ابن خلدون، (بيروت: 1978). ابن خلكان، شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد (توفي 681 هـ). - وفيات الأعيان، تحقيق محيي الدين عبد الحميد (مكتبة النهضة: 1945) وطبعة أخرى (بيروت: 1968). ابن خير، أبو بكر محمد بن خير بن عمر الإشبيلي (توفي 575 هـ). - فهرسة ما رواه عن شيوخه، (بيروت: 1979). ابن دحية، أبو الخطاب عمر بن الحسن (توفي 633 هـ). - المطرب من أشعار أهل المغرب، تحقيق إبراهيم الأبياري وآخرون (القاهرة: 1945). الزبير، أبو جعفر أحمد (توفي 708 هـ). - صلة الصلة، تحقيق ليفي بروفنسال، (الرباط: 1937). ابن سعيد الأندلسي وأسرته. - المغرب في حلى المغرب، جزءان، تحقيق الدكتور شوقي ضيف، (القاهرة: 1955) وطبعة أخرى (القاهرة: 1964). ابن الشباط: محمد بن علي. - صلة السمط وسمة المرط، تحقيق أحمد مختار العبادي، صحيفة معهد الدراسات الإسلامية، مدريد، العدد: 14، 1967 - 1968. ابن صاحب الصلاة، عبد الملك بن محمد الباجي (توفي بعد 594 هـ). - تاريخ المن بالإمامة، تحقيق الدكتور عبد الهادي التازي، (بيروت: 1964) وطبعة أخرى (بغداد: 1979). ابن عبد الحكم، عبد الرحمن بن عبد الله (توفي 257 هـ). - فتوح مصر والمغرب (القاهرة: 1961). - فتوح مصر وأخبارها، نشر شارلس توري، 1922. ابن عبد ربه، أحمد بن محمد (توفي 328 هـ). - العقد الفريد. ج 1، (بيروت: 1965).

ابن عبد الملك المراكشي، أبو عبد الله محمد بن محمد الأنصاري (توفي 703 هـ). - الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة ج 1، تحقيق الدكتور محمد بن شريفة (بيروت: المكتبة الأندلسية) ج 4، ج 5، ج 6، تحقيق الدكتور إحسان عباس (بيروت: 1964، 1965، 1973). ابن عبدون التجيبي. - في القضاء والحسبة، ضمن مجموعة ثلاثة رسائل أندلسية عن الحسبة، تحقيق ليفي بروفنسال، (القاهرة: 1955). ابن عذاري، أبو العباس أحمد بن محمد المراكشي (توفي بعد 712 هـ). - البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ج 2، تحقيق كولان وبروفنسال (بريل: 1951). - البيان المغرب، ج 3، تحقيق، ليفي بروفنسال (بيروت: مجهول تاريخ الطبع). - البيان المغرب، ج 4، تحقيق إحسان عباس (بيروت: 1967) خاص بالمرابطين. - البيان المغرب/القسم الثالث، تحقيق ميرندة وآخرون، (تطوان: 1960) خاص بالموحدين فسميناه البيان الموحدي. ابن فرحون، برهان الدين إبراهيم بن علي (توفي 799 هـ). - الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، جزءان (القاهرة: 1974). ابن الفرضي، أبو الوليد عبد الله بن محمد، (توفي 403 هـ) - تاريخ علماء الأندلس (القاهرة: 1966). ابن الفقيه. - مختصر كتاب البلدان، طبعة ليدن. ابن قتيبة (المنسوب). - الإمامة والسياسة، الجزء الخاص بالأندلس، منشور ضمن كتاب افتتاح الأندلس، لابن القوطية، مدريد 1926. ابن القطان، أبو الحسن علي بن محمد الكتامي (توفي 628 هـ). - نظم الجمان في أخبار الزمان، تحقيق الدكتور محمود علي مكي، (تطوان: 1965).

ابن القوطية، أبو بكر محمد بن عمر القرطبي، (توفي 367 هـ). - تاريخ افتتاح الأندلس (مدريد: 1868) مطبعة 1926، وطبعة أخرى (بيروت: 1958). ابن كثير، عماد الدين أبي الفدا إسماعيل (توفي 774 هـ). - البداية والنهاية في التاريخ، ج 12 (القاهرة، مطبعة السعادة). ابن الكردبوس، أبو مروان عبد الملك التوزري (من علماء القرن السادس الهجري). - الاكتفاء في أخبار الخلفاء (تاريخ الأندلس)، تحقيق الدكتور أحمد مختار العبادي، (مدريد: 1971). أبو الفدا، عماد الدين إسماعيل (توفي 732 هـ). - تقويم البلدان (باريس: 1840). البكري، أبو عبد الله بن عبد العزيز (توفي 487 هـ). - جغرافية الأندلس وأوروبا، تحقيق الدكتور عبد الرحمن الحجي، (بيروت: 1968). - المغرب في ذكر بلاد أفريقية والمغرب، تحقيق دي سلان، (باريس: 1911)، وطبعة أخرى (الجزائر: 1957). البلاذري، أحمد بن يحيى (توفي سنة 279 هـ). - فتوح البلدان، نشر: دي غويه، ليدن 1866. الحموي، ياقوت الرومي (توفي 626 هـ). - معجم الأدباء، (طبع دار المأمون 1936 والعام التالي). - معجم البلدان، (بيروت: 1956 - 1957) وطبعة أخرى (وستنفيلد). الحميدي، محمد بن أبي نصر (توفي 488 هـ). - جذوة المقتبس، (القاهرة: 1966). الحميري، عبد المنعم السبتي (توفي حوالي 710 هـ). صفة جزيرة الأندلس، منتخبة من الروض المعطار في خبر الأقطار، نشر ليفي بروفنسال، (القاهرة: 1937).

الخشني، أبو عبد الله محمد بن حارث (توفي 361 هـ). - قضاة قرطبة (القاهرة: 1966). الدباغ، أبو زيد عبد الرحمن (توفي 696 هـ). - معالم الإيمان ج 1 تحقيق إبراهيم شبوح (القاهرة: 1968). الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد (توفي 748 هـ). - العبر في خبر من غبر، ج 1، تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد (الكويت: 1960). الرقيق القيرواني، أبو إسحاق إبراهيم (توفي بعد سنة 417 هـ). - تاريخ أفريقية والمغرب، تحقيق المنجي الكعبي، تونس، 1968. الزبيدي، أبو بكر محمد بن الحسن (توفي 379 هـ). - طبقات النحويين واللغويين، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: 1954). الزركشي، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم (توفي: 1289 هـ). - تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية. الزهري، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر (توفي بعد 545 هـ). - كتاب الجغرافية، تحقيق محمد حاج صادق، مجلة الدراسات الشرقية مجلد 21، (دمشق 1968). السراج، الوزير محمد بن محمد الأندلسي (توفي 1149 هـ). - الحلل السندسية في الأخبار التونسية، تحقيق الهيلة (تونس: 1970). السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (توفي 911 هـ). - تاريخ الخلفاء، تحقيق محيي الدين عبد الحميد (القاهرة: 1964). صاعد الأندلسي، أبو القاسم (توفي 462 هـ). - طبقات الأمم، نشر لويس اليسوعي، (بيروت: 1912) وطبعة أخرى (النجف: 1967). الضبي، أحمد بن يحيى (توفي 599 هـ). - بغية الملتمس (القاهرة: 1967) وطبعة (مدريد: 1884).

الطبري، محمد بن جرير (توفي 310 هـ). - تاريخ الرسل والملوك، لندن 1879 - 1901. الطرطوشي، أبو بكر محمد بن الوليد (توفي 520 هـ). - سراج الملوك، (القاهرة: 1289 هـ). عبد الله بن بلقين (توفي 483 هـ). - التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بني زيري في غرناطة (مذكرات الأمير عبد الله)، تحقيق ليفي بروفنسال (القاهرة: 1955). العذري، أبو العباس أحمد بن عمر الدلائي (توفي 478 هـ). - نصوص عن الأندلس، تحقيق الدكتور عبد العزيز الأهواني (مدريد: 1965). عياض، القاضي بن موسى بن عياض (توفي 544 هـ). - ترتيب المدارك، ج 3، تحقيق أحمد بكير محمود (بيروت: 1965). الغبريني، أبو العباس أحمد بن أحمد (توفي 714 هـ). - عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية، تحقيق عادل نويهض (بيروت: 1969). الغساني، محمد بن عبد الوهاب (توفي 1119 هـ). - رحلة الوزير في افتكاك الأسير (تطوان: 1939) والنسخة المخطوطة المحفوظة في المكتبة الوطنية، مدريد رقم (5304). الغزالي، أبو حامد (توفي 505 هـ). - إحياء علوم الدين (القاهرة: 1939). الفتح بن خاقان، أبو نصر، (توفي 529 هـ أو 535 هـ). - قلائد العقيان في محاسن الأعيان، تصحيح محمد العناني (تونس 1966)، وطبعة أخرى (المكتبة العتيقة 1968). القلقشندي، أحمد بن عبد الله (توفي 821 هـ). - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج 5 (القاهرة: 1963). المالكي، أبو بكر عبد الله. - رياض النفوس، تحقيق الدكتور حسين مؤنس، (القاهرة: 1951).

مؤلف مجهول. - أخبار مجموعة (مدريد: 1867 م). مؤلف مجهول. - فتح الأندلس، نشر، كونثاليث (الجزائر 1889). مؤلف مجهول. - مفاخر البربر، نشر بروفنسال، (الرباط، 1937). مؤلف مجهول. ذكر بلاد الأندلس، مخطوط الخزانة العامة بالرباط تحت رقم (85 ج). المراكشي، محيي الدين عبد الواحد بن علي (توفي 647 هـ). - المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العربان (القاهرة: 1963) وطبعة (أمستردام، 1968). المسعودي، علي بن الحسين (توفي 346 هـ). - التنبيه والإشراف (بيروت: 1965). - مروج الذهب ومعادن الجواهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، (القاهرة: 1958). المقري، شهاب الدين أحمد بن محمد التلمساني (توفي 1041 هـ). - أزهار الرياض، تحقيق مصطفى السقا وآخرون (القاهرة: 1939 - 1940). - نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، (بيروت: 1968). النباهي، أبو الحسن عبد الله (توفي 793 هـ). - تاريخ قضاة الأندلس (كتاب المرقبة العليا) (بيروت: لا تاريخ للطبع). النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب (توفي 733 هـ). - نهاية الأرب في فنون الأدب، ج 22 (غرناطة 1917) خاص بالأندلس. الهذيل، علي بن عبد الرحمن. - تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس، مخطوط المكتبة الوطنية، مدريد رقم (5095).

2 - المراجع العربية ابن عبود، محمد. - التاريخ السياسي والاجتماعي لإشبيلية في عهد دول الطوائف، (تطوان: 1983). أبو رميلة، هشام سليم. - علاقات الموحدين بالممالك النصرانية وبالدول الإسلامية في الأندلس/رسالة دكتوراه غير منشورة -كلية الآداب- جامعة القاهرة 1979. أبو الفضل، محمد أحمد. - تاريخ مدينة المرية الأندلسية، (الإسكندرية 1981). أحمد، حسني. - الحضارة العربية. أدهم، علي. - المعتمد بن عباد (بيروت: لا تاريخ للطبع). أرسلان، شكيب. - الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية، (القاهرة: 1936). تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا ... (القاهرة: 1352 هـ). - آرنولد، سيرتوماس. - الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن، (القاهرة: 1971). إسماعيل، محمود. - الأغالبة (184 - 296 هـ) سياستهم الخارجية (القاهرة: 1972). - الخوارج في المغرب الإسلامي، (بيروت: 1976). أشباخ، يوسف. - تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، ترجمة محمد عبد الله عنان، (القاهرة: 1940) وطبعة أخرى (القاهرة: 1958). أمين، أحمد. - تاريخ الفلسفة الإسلامية، مع كتاب مبادئ الفلسفة، (القاهرة: 1964). - ظهر الإسلام، ج 3، (القاهرة: 1962).

الأنصاري، فريدة رؤوف. - الإمارة الأموية في الأندلس على عهد الأمير عبد الرحمن الداخل/رسالة ماجستير غير منشورة -كلية الآداب- جامعة بغداد، 1976. أوليري، دي لاسي. - الفكر العربي ومركزه في التاريخ، ترجمة إسماعيل البيطار، (بيروت: 1972). بالنثيا، أنخل جنثالث. - تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة الدكتور حسين مؤنس، (القاهرة: 1955). بامات، حيدر. - دور المسلمين في بناء المدينة الغربية، (جنيف: لا تاريخ للطبع). - مجالي الإسلام، ترجمة عادل زعيتر، (القاهرة: 1956). بدر، أحمد. - دراسات في تاريخ الأندلس وحضارتها، (دمشق: 1972). - تاريخ الأندلس " عصر الخلافة "، (دمشق: 1974). بدوي، عبد الرحمن. - دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، (بيروت: 1979). بروفنسال، ليفي. - الإسلام في المغرب والأندلس، ترجمة السيد عبد العزيز سالم وآخر، (القاهرة: 1956). - حضارة العرب في الأندلس، ترجمة ذوقان قرقوط، (بيروت: لا تاريخ للطبع). البنداق، محمد صالح. - يحيى بن الحكم الغزال، (بيروت: 1979). بروكلمان، كارل. - تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه أحمد فارس وآخرون، (بيروت: 1965). بن عبد الله، عبد العزيز. - مظاهر الحضارة المغربية، (الدار البيضاء 1957 - 1958).

بول، ستانلي لين. - قصة العرب في إسبانيا، ترجمة علي الجارم، (القاهرة: 1947). بيضون، إبراهيم. - الدولة العربية في إسبانيا، (بيروت: 1978). تشراكوا، كيليا سار نللي. - مجاهد بن عبد الله العامري، (القاهرة: 1961). الجنابي، أحمد نصيف. - الرياضيات عند العرب/الموسوعة الصغيرة العدد 64 (بغداد: 1980). جمال الدين، محسن. - احتفالات الموالد النبوية (بغداد: 1967). جوليان، شارل أندريه. - تاريخ أفريقيا الشمالية، ترجمة محمد مزالي وآخر، ج 3، (الدار التونسية للنشر: 1978) وطبعة أخرى 1958. حتاملة، محمد عبده. - التنصير القسري لمسلمي الأندلس، (عمان: 1980). - محنة مسلمي الأندلس، (عمان: 1977). حتي، فيليب وآخرون. - تاريخ العرب، مطول، (دار الكشاف 1965). الحجّي، عبد الرحمن. - التاريخ الأندلسي، (دمشق: 1976). - تاريخ الموسيقى الأندلسية، (بيروت: 1969). - الحضارة الإسلامية في الأندلس، (بيروت: 1969). - أندلسيات، ج 2، (بيروت: 1969). حركات، إبراهيم. - المغرب عبر التاريخ، (الدار البيضاء، 1965).

حسن، حسن إبراهيم. - تاريخ الإسلام السياسي، (القاهرة: 1948). - النظم الإسلامية (القاهرة: 1939) مع أخر. حسين، كريم عجيل. - الحياة العلمية في مدينة بلنسية الإسلامية، (بيروت: 1976). حسين، حازم غانم. - الحياة العلمية والثقافية في الأندلس/رسالة ماجستير - (الموصل: 1983). حمادة، محمد ماهر. - الوثائق السياسية والإدارية في الأندلس وشمال أفريقيا، الطبعة الأولى، (1980). حمودة، علي محمد. - تاريخ الأندلس السياسي والعمراني والاجتماعي، (القاهرة: 1957). خالص، صلاح. - إشبيلية في القرن الخامس للهجرة، (بيروت: 1965). خطاب، فرات فائق. أبو بكر الرازي، (بغداد: 1973). خفاجة، محمد عبد المنعم. - قصة الأدب في الأندلس، جزءان (بيروت: 1962). خودابخش. - حضارة الإسلام، ترجمة علي حسين الخربوطلي، (القاهرة: 1960). داداه، محمد ولد. - مفهوم الملك في المغرب، (دار الكتاب اللبناني والمصري 1977). الدوري، إبراهيم باس. - عبد الرحمن الداخل في الأندلس وسياسته الخارجية والداخلية، (بغداد: 1982). دوزي، رينهارت. - تاريخ مسلمي إسبانيا، ج 1، ترجمة حسن حبشي وآخرون، (القاهرة: 1963). - ملوك الطوائف، ترجمة كامل كيلاني، (القاهرة: 1933).

ديفز، كارلس. - شارلمان، ترجمة الباز العريني، (القاهرة: 1959). الرفاعي، أنور. - الإنسان العربي والحضارة. الركابي، جودت. - في الأدب الأندلسي، (القاهرة: 1966). رينو، جوزيف. - تاريخ غزوات العرب، ترجمة شكيب أرسلان، (بيروت: 1966). زيدان، جرجي. - تاريخ التمدن الإسلامي، ج 5، راجعه وعلق عليه الدكتور حسين مؤنس، (القاهرة: 1955). سالم، السيد عبد العزيز. - تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس، (بيروت: 1969). - تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، (بيروت: 1962) وطبعة أخرى (بيروت: 1981). - تاريخ مدينة المرية الإسلامية، (بيروت: 1969). - قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس، ج 1، ج 2، (بيروت: 1971 - 1972). السامرائي، خليل إبراهيم. - الثغر الأعلى الأندلسي، (بغداد: 1976). - دراسات في تاريخ الفكر العربي، (الموصل: 1983). - علاقات المرابطين بالممالك النصرانية بالأندلس وبالدول الإسلامية/رسالة دكتوراه غير منشورة - كلية الآداب جامعة القاهرة 1979. نشرت عام 1985. السعيد، محمد مجيد. - الشعر في ظل بني عباد (النجف: 1972). - الشعر في عهد المرابطين والموحدين بالأندلس، (بغداد: 1980). السلاوي، الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري. - الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، (الدار البيضاء: 1954).

شاخت وبوز ورث. - تراث الإسلام، ترجمة حسين مؤنس وآخرون، (الكويت: 1978). شلبي، سعد إسماعيل. - البيئة الأندلسية وأثرها في الشعر عصر ملوك الطوائف، (القاهرة: 1978). - دراسات أدبية في الشعر الأندلسي، (القاهرة: 1973). الصوفي، خالد. - تاريخ العرب في الأندلس، منشورات الجامعة الليبية/كلية الآداب. ضيف، أحمد. - بلاغة العرب في الأندلس، (القاهرة: 1924). طرخان، إبراهيم علي. - المسلمون في أوروبا في العصور الوسطى، (القاهرة: 1966). - دولة القوط الغربيين، (القاهرة: 1958) طه، عبد الواحد ذنون. - الفتح والاستقرار العربي الإسلامي في شمال أفريقيا والأندلس، (ميلانو 1982) نشر دار الرشيد، بغداد. طوقان، قدري حافظ. - تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك، (دار الشروق: 1963). الطيباوي، عبد اللطيف. - محاضرات في تاريخ العرب والإسلام، (دار الأندلس: 1979). العبادي، أحمد مختار. - دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، (الإسكندرية 1968). - في تاريخ المغرب والأندلس، (بيروت: 1978). - الصقالبة في إسبانيا، (مدريد: 1953). - في التاريخ العباسي والأندلسي، (بيروت: 1972). عباس، إحسان. - تاريخ الأدب الأندلسي، عصر الطوائف والمرابطين، (بيروت: 1962).

عبد العواد، حسن علي حسن. - الحياة الإدارية والاقتصادية والاجتماعية في المغرب الأقصى خلال القرنين الخامس والسادس من الهجرة/رسالة دكتوراه غير منشورة - جامعة القاهرة، 1973. عبد البديع، لطفي. - الإسلام في إسبانيا، (القاهرة: 1969). عبد الرحمن، حكمت نجيب. - دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، (الموصل: 1977). عبد الله، حازم. - ابن شهيد الأندلسي، (بغداد: 1984). - النثر الأندلسي في عصر الطوائف والمرابطين، (بغداد: 1980). العدوي، إبراهيم أحمد. - المجتمع المغربي مقوماته الإسلامية والعربية، (القاهرة: 1970). العزي، نجلة العزي. - قصر الزهراء في الأندلس، (بغداد: 1977). علام، عبد الله. - الدعوة الموحدية بالمغرب، (دار المعرفة، القاهرة: 1964). - الدولة الموحدية في عهد عبد المؤمن بن علي، (دار المعارف بمصر: 1971). علي، محمد كرد. - الإسلام والحضارة العربية، ج 1، (القاهرة: 1968). عنان، محمد عبد الله. - دولة الإسلام في الأندلس/القسم الأول (القاهرة: 1969) (القسم الثاني 1969). - دول الطوائف، (القاهرة: 1969). - عصر المرابطين، (القاهرة: 1964). - عصر الموحدين، (القاهرة: 1964). - نهاية الأندلس، (القاهرة: 1966). - الآثار الأندلسية الباقية، (القاهرة: 1961).

الغناي، مراجع. - قيام دولة الموحدين، (بنغازي: 1971). غنيم إسمت. - الإمبراطورية البيزنطية وكريت الإسلامية، (جدة 1977). فراج، عز الدين. فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوروبية، (دار الفكر العريي، 1978). فرحات، يوسف شكري. - غرناطة في ظل بني الأحمر، (بيروت: 1982). فروخ، عمر. - تاريخ العلوم عند العرب، (بيروت: 1970). - ابن حزم الكبير، (بيروت: 1980). القاسمي، ظافر. - نظام الحكم في الشريعة والتاريخ، جزءان (بيروت: 1982). كحالة، عمر رضا. - أعلام النساء، ج 4، (بيروت: 1977). الكعاك، عثمان. - موجز التاريخ العام للجزائر، (تونس: 1925). كنون، عبد الله. - النبوغ المغربي في الأدب العربي، ج 2 (بيروت: 1975). كيلاني، كامل. - نظرات في تاريخ الأدب الأندلسي، (بيروت: 1924). لوبون، غوستاف. - حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، (بيروت: 1979). لودر، دروثي. - إسبانيا شعبها وأرضها، ترجمة طارق فودة، (القاهرة: 1965). لويس، أرشيبالد. - القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط، ترجمة أحمد محمد عيسى (القاهرة: 1960).

ماجد، عبد المنعم. - تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى، (القاهرة: 1978). مطلوب، ناطق صالح. - فهارس شيوخ العلماء في المغرب والأندلس/رسالة دكتوراه غير منشورة - القاهرة، جامعة عين شمس 1978. محمود، حسن أحمد. - قيام دولة المرابطين، (القاهرة: 1975). المرزوقي، محمد. - قابس، (تونس: 1962). مكي، الطاهر أحمد. - دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، (القاهرة: 1977). مورينو، مانويل جوميث. - الفن الإسلامي في إسبانيا، ترجمة لطفي عبد البديع وآخر، (الدار المصرية للتأليف والترجمة، لا تاريخ للطبع). مظهر، جلال. - حضارة الإسلام. مؤنس، حسين. - تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، (مدريد: 1967). - غارات النورمانديين على الأندلس، (القاهرة: 1949). - فجر الأندلس، (القاهرة: 1959). - رحلة الأندلس، (القاهرة: 1963). نجار، ليلى أحمد. - العلاقات بين المغرب والأندلس في عهد عبد الرحمن الناصر/رسالة ماجستير غير منشورة - مكة المكرمة، 1973. هاشم، زكريا. - فضل الحضارة الإسلامية.

هونكة، زيغريد. - شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وآخر، (بيروت: 1969). هيكل، أحمد. - الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، (القاهرة: 1979). يونغ، لويس. - العرب وأوروبا، ترجمة ميشيل أزرق، (بيروت: 1979). 3 - الدوريات ابن العربي، الصديق. - " طوائف وشخصيات مسيحية بالمغرب " مجلة تطوان، العدد الأول، 1956. أولكن، ضياء. - " أثر الفكر العربي الإسلامي في الفسلفة الغربية "، ترجمة عبد الصاحب السعدي، مجلة المورد، العدد 4، بغداد 1981. بتسر أرنست. - " الثقافة الإسلامية تنقل الفلسفة اليونانية إلى أوروبا " ترجمه طه التكريتي، مجلة المورد، العدد 4، بغداد 1981. التكريتي، سليم طه. - " ابن باجة " مجلة العربي، العدد 166. - " أوروبا ترسل بعثاتها إلى الأندلس " مجلة الوعي الإسلامي العدد 37، (الكويت: 1968). الجنحاني، الحبيب. - " السياسة المالية للدولة المرابطية " مجلة المؤرخ العربي، العدد 13. الحاجم، غازي محمد. - " دور المسلمين في تقدم الطب " مجلة التربية الإسلامية، العدد الأول، بغداد 1977. الحجى، عبد الرحمن. - " القضاء ودراسته في الأندلس " مجلة كلية الإمام الأعظم، العدد الأول 1972. خلاف، محمد عبد الوهاب.

- " صاحب الشرطة في الأندلس " مجلة المؤرخ العربي، العدد 13، ومجلة أوراق العدد 3 لسنة 1980 يصدرها المعهد الإسباني العربي للثقافة. رمضان، عبد العظيم. - " محاكم التفتيش " مجلة العربي، العدد 258. السامرائي، خليل إبراهيم. - " جهاد المسلمين وراء جبال البرتات "، مجلة دراسات في التاريخ والآثار، العدد 2 بغداد 1980. - " طارق بن زياد بين الخطبة وإحراق السفن " مجلة آفاق جامعية، جامعة السليمانية 1978. - " أثر العراق الحضاري على الأندلس " مجلة المؤرخ العربي، العدد 2. - " علاقات المرابطين مع إمارات المغرب الأقصى " مجلة زانكو، جامعة السليمانية، مجلد 6، العدد 2 لسنة 1980. - " الجزائر الشرقية -البليار- في أيام الطوائف " مجلة التربية والعلم، العدد 2. - " إمارة كريت الإسلامية "، مجلة جامعة الموصل، أيلول، 1978. - " التعبئة العسكرية الإسلامية في الأندلس " مجلة مكتبة زانكو، العدد 2، جامعة السليمانية لسنة 1977. - " الدعوة إلى توحيد الأندلس في أيام الطوائف " مجلة زانكو، نيسان 1977. طه، عبد الواحد ذنون. - " استقرار القبائل البربرية في الأندلس "، مجلة أوراق، مدريد، العدد: 4، 1980. - " التنظيم الاجتماعي في الأندلس خلال عصر الولاة " ندوة مكتب التربية العربي، في أبو ظبي لعام 1984. - " نشأة التدوين التاريخي في الأندلس " مجلة دراسات، العلوم الإنسانية، الجامعة الأردنية العدد، حزيران 1980. الطيبي، أمين توفيق. - " واقعة الزلاقة المجيدة 479 هـ مقدماتها ونتائجها " مجلة كلية التربية، جامعة الفاتح، العدد السادس لسنة 1976 - 1977 - ليبيا. العبادي، أحمد مختار. - " صور لحياة الحرب والجهاد في المغرب والأندلس " مجلة البينة ج 9، (الرباط:

1962 - 1963). عبد الحميد، سعد زغلول. - " العلاقة بين صلاح الدين الأيوبي والمنصور الموحدي " مجلة كلية الآداب، الإسكندرية، ج 6 - 7 (1952 - 1953). العقاد، عباس محمود. - " نصيب العرب من حضارة العالم " مجلة العربي، العدد 4. عنان، محمد عبد الله. - " تستور بلد الموريسكيين " مجلة العربي، العدد 156. - " تراث الأندلس الفكري " مجلة العربي، العدد 299. - " قصة كاتب مورسكي " مجلة العربي، العدد 131. الكبيسي، خليل إبراهيم. - " أبو علي القالي البغدادي وأثره بالفكر الأندلسي " مجلة المؤرخ العربي، العدد 25. مطلوب، ناطق صالح. - " كتاب الصلة لابن بشكوال، دراسة في منهجه وقيمته العلمية "، مجلة المؤرخين العرب العدد 27. المليجي، محمد أحمد. - " ابن طفيل " مجلة العربي، العدد 145. مكرم، عبد العال سالم. " ابن مالك الأندلسي " مجلة العربي، العدد 166. مكي، محمود علي. - " رواد الثقافة الدينية الأولى بالأندلس " مجلة البينة، العدد 6 (الرباط: 1962). - " وثائق مرابطية جديدة عن عصر المرابطين " صحيفة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد، مجلد 7 - 8 (مدريد 1959 - 1960). مؤنس، حسين. - " الثغر الأعلى الأندلسي في عصر المرابطين ... " مجلة كلية الآداب مجلد 11، ج 2، (القاهرة: 1949). - " رواية جديدة عن فتح المسلمين للأندلس "، صحيفة معهد الدراسات مدريد 18/

74 - 1975. - " المسلمون في حوض البحر الأبيض المتوسط إلى الحروب الصليبية " المجلة التاريخية المصرية، المجلد الرابع، العدد الأول (القاهرة: 1951). - " بلاي وميلاد أشتوريس " مجلة كلية الآداب، القاهرة م 11 ج 1، 1949. المياح، علي. - " العوامل السوقية والتعبوية وأثرها على الفتوحات العربية الإسلامية في فرنسا "، مجلة الجمعية الجغرافية العراقية، م 5 بغداد 1969. ميراندة، أمبروزيو أويثي. - " علي بن يوسف وأعماله في الأندلس " مجلة تطوان، العدد الثالث والرابع (1958 - 1959). هويدي، فهمي. - " في بلاد الموريسيك غرباء الأندلس " مجلة العربي، العدد 228. 4 - المراجع الأجنبية Abadaly Vinyals, Ramon, * " El paso de Septimania del donin. godo alfranco a traves de la inva- sion sarracena (720-768) " Cuadernos de Historia de Espana XIX, 1953, 5-54. Albornoz Sanchez, * " Otra vez Guadalete y Covadoga " Cuadernos de Historia de Espana, I- II, 1944. Amador de los Rio, * Historia social, politica y religiosa de los judios de Espana y Portugal, Madrid, 1875-76. VOL. I. Altamira, Rafael, * A History of Spain From the Beginings to the present day, translated from the Spanish by: Muna Lee, Toronto, Canada, 1949. Baer, Yitzhak, * A History of the Jews in Christian Spain, VOL. I, translated from the Hebrew by Louis Schoffman, philadelphia, 1971.

Ballestros y Beretta, Antonio, * Historia de Espana y su influencia en la historia, universal, VOL. I. Barcelona, 1918. Barbour, N. * Moroco, London, 1965. Bell, F. * Les Benou Ghania, paris, 1903. Casiri, A. * Bebliotheca Arabico-Hispana Lusitania Escurialensis, Madrid, 1770, VOL. II. Garcia Domingues. Jose. * " Invasao e conquista de Lusitania por Muca Ben Nocair e seu filho " Abdalaziz " , Congreso de Estudios Arabes e Islamicos, Actas, held, Cordoba, 1964. * The Cambridge Medieval History, VOL. II, planned by: J.B. Bury, ed: H.M. Gwatking and J.P. Whitney, Cambridge, 1964. * Chronicon Albeldense, or the Chronicle of Albelda, ( ملحق رقم 3 لكتاب أخبار مجموعة طبعة مدريد 1867 ص 163 - 165). Chronicon Moissiacense, or the Chronicle of Moissac, ( ملحق رقم 4 لكتاب أخبار مجموعة، طبعة مدريد 1867 ص 165 - 165). Creasy, Edward. * Fifteen Decisive Battles of the World, London, 1762. Dozy, R * L'Histoire et la litterature des Arabes de l'Espagne, VOL. I, II, Amster- dam, 1965, reprint of Leiden edition, 1881. El-Hadji, A.A, * Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe During the Umayyad Period, Beirut, 1970. Gayangos, Pascual. * The History of the Mohammedan Dynasties in Spain, New-York, London, 1964, reprint of London edition, 1843.

* Isidoro Pacense, or the Chronicle of 754. ( ملحق رقم 2 لكتاب أخبار مجموعة، طبعة مدريد 1867 ص 163 - 165). Isidoro of Seville, * History of the Goths, Vandals, and Suevi, translated from the Latin, by: Guido Donini and Gordon B. Ford, Jr. 2nd edition, Leiden, 1970. Katz, Solomon, * The Jews in the Visigothic and Frankish Kingdom of Spain and Gaul, New-York, 1970. Livemore, H.V. * The Origins of Spain and Portugal, London, 1971. Modoz, Pascual, * Diccionario geografico-estadisico-historico de Espana y sus Posesiones de Ultramar, Madrid, 1848-1850. O'Callaghan,Joseph. * A History of Medieval Spain, New-York and London, 1975. * Paulus Diaconus, ex lib. vi or Paul the Deacon, book 6. ( ملحق رقم 6 لكتاب أخبار مجموعة، طبعة مدريد 1867 ص 167). Pidal, R.M, * The Cid and his Spain, translated from the Spanish by: Harold Sun- derland, London, 1934. Provençal, Levi, * Histoire de L'Espagne Musulmane, Paris, 1950. Rinaud, M. * Incursions of the Muslims into France Piedmont, and Switzerland, translated from the French by: Harun Khan Sherwani, Islamic Cul- ture, IV, 1930. Saavedra, Eduardo, * Estudio sobre la invasion de los arabes en Espana, Madrid, 1892. Scott, S.P. * A History of the Morish Empire in Europe, VOL, II, London, 1904.

Shaw, R.D. * " The Fall of the Visigothic Power in Spain " The English Historical Review, XXI, 1906. Simonet, F.J. * Glosario de voces ibericas y Latinas usandas entre los Mozarabes, Am- sterdam, 1967, reprint of Madrid edition, 1888. Thompson, E.A. * The Goths in Spain, Oxford, 1969. Watt, M. * A History of Islamic Spain, Islamic Surreys 4, Edinburgh, 1967.

تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس يمثل كتابة التاريخ العربي في مساراته المختلفة، وجهات نظر متعددة، ومختلفة كلياً -لما لها من إرتباط وثيق بجملة من الشروط التاريخية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية- ولكن طريقة كتابة فتح العرب لإسبانيا، والتاريخ الأندلسي، يحتاج إلى عدد وفير من الباحثين العرب، ليقدموا دراسات مستنيرة وموضوعية في آن. بحيث امتد الوجود العربي في إسبانيا قرابة الثمانية قرون. ومن خلال هذا " الأرابيسك " الزمني، تبدلت سياسات وآفاق معرفية، وهاجرت عرقيات وإثنيات مختلفة، إلى أن وصل أخيراً تحت أقدام محاكم التفتيش الموغلة في الظلامية والتعصب الديني والمذهبي، وأصبحت تلاحق وتتعقب كل من يؤذي شعائر الإسلام بأية صورة، فكان من جراء ذلك أنه أظهر عدداً من المسلمين " المسيحية " وأبطنوا الإسلام، وأطلقوا على هؤلاء اسم المورسكيون LOS MORISCOS أي المسلمون الصغار. وهذا الكتاب يمثل إضافة مهمّة في حقل الدراسات الأندلسية، والتاريخ الأندلسي لما له من أهمية في استنطاق النصوص العربية القديمة والحديثة على قلّتها، أو النصوص اللاتينية، وتداعياتها، وما تحمله من وجهة نظر محمّلة بعبء أيديولوجي يُدين الوجود العربي في إسبانيا.

§1/1