تاريخ العرب القديم

توفيق برو

مقدمة

المقدمة هذه طبعة ثانية، منقحة ومعدلة، من كتابي "تاريخ العرب القديم" وهو مؤلف حرصت جهدي واستطاعتي كي يفي بحاجة المثقفين من أبناء أمتي إلى معرفة تاريخ أمتنا على الوجه اليسير، فتجنبت الإطالة بما يبعث الملل من جهة، وبذلت جهدي في عرض الأحداث بشكلها العلمي الذي يلتزم التدقيق والتمحيص من جهة أخرى، معتمدًا على مصادر علمية جديرة بالثقة يراها القارئ في الحواشي وفي ثبت المصادر، الأمر الذي يعيق إلى حد ما عملية التبسيط التي يتوخاها القراء عادة. الحق إن التأريخ لشبه جزيرة العرب، وللمدنيات العربية التي تاخمتها في الشمال قبل الإسلام، لهو من الصعوبة بمكان من حيث إمكان تبسيطه؛ لأن البحث العلمي فيه يقتضي عرض وجهات نظر العلماء على مختلف وجوهها. وقد تباينت وجهات نظرهم، في الواقع، تباينًا عظيمًا لقلة ما بين أيديهم من نصوص ومستندات، إن كانت قد حملت بعض التواريخ، فإنها لا تعتمد على تقاويم ثابتة بل متحركة متبدلة حسب تعاقب الأحداث بل الملوك، ولوجود ثغرات كثيرة تتخلل الفترات التي عرف شيء منها في تاريخ هذه المنطقة؛ ولذا غلب التخمين واللجوء إلى الفرضيات على ما قرره العلماء -لا سيما فيما يختص بتواريخ قيام الدول وانقراضها- ولم يكن لنا بد، تجنبا للوقوع في المزالق والانحراف عن نطاق العلمية، من عرض ما لا غنى عن عرضه من شتى وجهات النظر، وإبراز نقاط الاختلاف مهما يكن أمرها، سواء كان لها نصيب من الصحة أو كانت في نطاق الفرضيات، فقد تصبح في المستقبل مسلمات علمية إذا كشفت التنقيبات الأثرية عن نصوص ومستندات يمكن الوثوق بصحتها. عندئذٍ يكون في استطاعة العلماء أن يتبسطوا في كتابة تاريخنا القديم، ويكونوا على ثقة مما يعرضون منه علينا. والواقع أنهم مهتمون بذلك شديد الاهتمام, ولاهتمامهم هذا مبرر ولا شك: فلتاريخ العرب أهمية عظيمة في نظر

الباحثين والمؤرخين على اختلاف جنسياتهم ومواطنهم. ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة أهمها: أولًا: أن العالم العربي -وأخص بالذكر منه قسمه الآسيوي الذي هو موضوع هذا الكتاب- يحتل موقعا جغرافيا فريدا في ميزاته؛ وذلك بتوسطه قارات ثلاث: آسيا التي يقع في الزاوية الغربية - الجنوبية منها، وإفريقيا التي تحاذيه غربًا، وأوروبا التي تتصل به بواسطة الزاوية الجنوبية الشرقية منها عبر الزاوية الشمالية الشرقية من البحر الأبيض المتوسط. فالعالم العربي الآسيوي من العالم القديم بمثابة القلب النابض، كما هو أشبه بجسر يصل جميع هذه القارات بعضها ببعض. وهو -بوصفه محاطًا ببحار وخلجان من جهاته الثلاث الغربية والجنوبية والشرقية- من أفضل المناطق في العالم للنشاط التجاري بفضل تمتعه بميزات من شأنها أن تيسر المواصلات البرية العالمية ولا سيما البحرية، ذلك أنه لا بد لخطوط الملاحة العالمية أن تخترق البحار التي يطل عليها كمسالك تجارية تسلكها بصورة اضطرارية. ثانيًا: أن الجزيرة العربية, التي تعتبر المهد الأصلي للشعوب السامية والمصدر الملهم للروح السامية التي انبثقت عنها جميع الأديان السماوية التوحيدية، قد شهدت -منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا قبل الإسلام، ولا سيما في المناطق الجنوبية منها- انبثاق حضارة غنية بتراثها السياسي والحضاري والاجتماعي، الأمر الذي جعلها موضوع فيض من الدراسات قام بها علماء الآثار والتاريخ منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى الآن. على أن عرب الشمال أيضًا، قبيل الرسالة الإسلامية، قد بلغوا في تطورهم العقلي درجة من التقدم النسبي والاستعداد الفكري كانت كفيلة بجعل الدين الإسلامي -بما جاء به من نظم انقلابية ثورية- ينفذ إلى قلوبهم ويستهوي نفوسهم، كما جعلت قيام نظام اجتماعي يجمع أشتاتهم في دولة واحدة أمرًا محتما. ثالثًا: أن الأمة العربية التي لم يكن لها من حوافز الوحدة السياسية، قبل الإسلام، ما يؤهلها لأن تشكل دولة منظمة موحدة، تأخذ مكانها بين الدول القوية المجاورة لها، قد ارتفعت بفضل الإسلام، وما جاء به من حوافز فكرية وعقائد دينية واجتماعية، إلى مصاف هذه الدول، بل استطاعت أن تقوض أركان هذه الدول، وتبني

على أنقاضها إمبراطورية عربية إسلامية مترامية الأطراف. فظهور الإسلام وانتشاره في شتى أرجاء العالم المعمور حادث كبير في التاريخ؛ إذ بفضله انتقل العرب من دور البداوة إلى دور الحضارة، واستعادوا ما كان لهم من دور حضاري وثقافي مرموق في الجنوب العربي، بعد أن تباعدت الشقة بينهم وبينه عبر القرون، وبدأ العرب بوجه عام يسهمون إسهامًا عظيمًا في خدمة الثقافة والعمران والتقدم البشري، ولعبوا دورًا مهمًّا في تنمية العلوم الطبيعية والاجتماعية، وكان لهم الفضل الأكبر في قيام النهضة الأوروبية اعتبارًا من القرن الخامس عشر؛ فكانت حضارة العرب بمثابة النسغ الذي استمدت حضارة الغرب الأوروبي منه مقومات كيانها. رابعًا: والعالم العربي الآسيوي كان ولا يزال -بسبب موقعه الجغرافي وما تتميز به أراضيه من خصب وما تنتج من محاصيل وفيرة - محطَّ أنظار الفاتحين منذ أقدم العصور، وقبلة الطامعين بخيره الجزيل وغناه العظيم. والجزيرة العربية منه بوجه خاص -نظرًا لما تحتل من موقع جغرافي خاص باعتبارها الطريق المؤدي إلى الشرق الأقصى الغني بموارده، وبسبب احتواء طبقاتها الجوفية على بحر من الذهب الأسود تطفو فوقه- قد ازدادت أهميتها في العصر الحديث، لا سيما في نظر الدول الإمبريالية التي دفعها التهافت على اقتناص هذه الثروة الهائلة إلى الاستماتة في سبيل استعمارها، فوقعت أجزاؤها الجنوبية والشرقية لمدة طويلة فريسة للمطامع الاستعمارية الجشعة، ولا تزال مختلف أجزائها تعاني عقابيل السياسة الاستعمارية التي لا تزال تسعى جاهدة إلى إعاقة التطور العربي الصاعد لتبقى فريسة للجهل والتخلف، ولتظل لقمة سائغة في أفواه الطامعين.

الفصل الأول: دراسة المصادر

الفصل الأول: دراسة المصادر مفهوم التاريخ: تغيرت النظرة إلى التاريخ عما كانت عليه قبل هذا القرن, فأصبح علمًا من العلوم الاجتماعية له قواعد خاصة, إذ استبعدت شواهد التاريخ المبنية على مجرد العقيدة والأسطورة، وجعلت الشك أساسا للدراسة وواسطة للمعرفة1. بل وجب على المؤرخ أن يرجع إلى الآثار المادية والأدبية التي تنبئ عن الماضي، فيستخرج نصوصها وأشكالها، ثم يستنطقها ويخضع رواياتها للتدقيق والنقد، فلا يقبل منها إلا ما ثبت صدقه وصحته، حسب قواعد علمية معينة، ثم يعمد إلى ربط الحقائق المفردة بعضها ببعض ليستخرج منها صورة الماضي أقرب ما تكون إلى الواقع2، ويفسرها تفسيرًا صحيحًا بقدر الإمكان. ومن البديهي أن الصورة المستخرجة للحقائق التاريخية تبقى خاضعة في المستقبل للتعديل حسبما يظهر من أصول ووثائق جديدة، أو ما يكتشف من حقائق كانت مجهولة سابقا، أو ما يوجب تصحيح بعض ما حصل من أخطاء في التدقيق والاستنتاج. كل ذلك يفرض على المؤرخ أن تكون له صفة العالم المجرد من الغايات، الذي لا يميل مع العاطفة والأهواء، سواء أكانت وطنية أم حزبية أم قومية، بل من واجبه أن يلتزم النزاهة والتجرد التامَّيْنِ. يقول الباحث إرنست كاسيرر: "المؤرخ الحقيقي يستبعد كل الاختراعات والخيالات من مؤلفاته ويلتزم الحقيقة التزامًا كليًّا"3. ويعتقد كاسيرر إنه إذا كان

_ 1 جوزيف هورس: قيمة التاريخ "تعريب نسيب الحازن"، ص41. 2 الدكتور قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، ص42-43. 3 إرنست كاسيرر: في المعرفة التاريخية، ص20-21-25.

للتاريخ -في جملة ما له من أهداف- أن يقوم بدور توجيهي وتهذيبي فينبغي ألا يكون ذلك بطريقة مباشرة، بل هو يستطيع أن يحقق دوره في هذه الناحية بصورة أفضل كلما قل سعيه المباشر وراء هذه الغايات, أي أنه يقوم بدوره هذا بمجرد عرض الحوادث والوقائع التي تكون بحد ذاتها عبرة للمطالع والدارس. وفي رأيي، أنه إذا جاز للمؤرخ أن يفسر الحوادث ويعللها، فإنه جائز له أيضًا أن يحاكم أعمال صناع التاريخ، أولئك الرجال من الأمة الذين يسهمون في صنع الأحداث وتوجيهها، وأن ينقد أعمالهم وتصرفاتهم، ويكوِّن الصورة الحقيقية لما قاموا به من منجزات، أو وقعوا فيه من أخطاء، فيعطي العناصر التي تساعد على الحكم لهم أو عليهم. فالمؤرخ يجمع إلى صفة العالم صفة القاضي المحقق الذي يفترض فيه أن يكون حريصًا على النزاهة. فكما يهتم القاضي بالتدقيق في الآثار التي يتركها المتهم، ويجمع الأدلة التي تدينه أو تبرئه، ويتمعن في شهادات الشهود لكي تأتي نتيجة تحقيقاته صحيحة، كذلك يفعل المؤرخ بالنسبة لمادته التاريخية وآثاره. وآثار المؤرخ هي الأوابد والمسكوكات والمنقوشات والمنشآت العمرانية وشتى الوثائق التي تركها أجدادنا القدامى. وشهوده هم الأخباريون والرواة الذين عاصروا الحوادث أو اشتركوا فيها، وربما يكونون قد تركوا مذكرات دونوا فيها هذه الحوادث، أو نقلوا أخبارها عن أقرب الناس إليها، ووصلت إلينا في مصنفات قديمة، فيقع عليه أن يجمع هذه الآثار ويستنطقها، ويسمع لهؤلاء الشهود ويقابل بين أقوالهم، ويمحصها، وأن يتحلى بأتم ما يكون الوعي والحس التاريخي السليم لإدراك الصحيح من المزور من آثاره، والصادق من الكاذب من أقوال شهوده؛ لكي تأتي نتائجه سليمة صحيحة.

مصادر تاريخ العرب القديم

مصادر تاريخ العرب القديم: إن دراستنا التاريخية هذه تشمل عصور ما قبل الإسلام. ولا بد لنا قبل أن نبدأ هذه الدراسة من إعطاء لمحة عن الموارد التي يستطيع المؤرخ أن يستقي منها معلوماته التاريخية. ومن المفيد أن نبدأ بتعريف هذه الفترة التي اصطلح العرب المسلمون على تسميتها بـ"العصر الجاهلي":

لقد اختلف العلماء في تفسير معنى الجاهلية؛ فالمسلمون الذين درجوا على استهجان ما كان عليه العرب من وثنية قبل الإسلام قد قصدوا من هذه التسمية إلى وصم القوم بجهل الدين الحنيف، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] ، و {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] ، بينما قصد بها بعض المستشرقين ونفر من الباحثين العرب المحدثين الجهل الذي يعني تنكب سبيل العلم، بالإضافة إلى الجهل بشريعة الله وبتعاليم الدين وسلوك سبيل التجبر والمفاخرة بالأنساب. وقد أشار المستشرق المجري "كولدزهير" إلى ذلك بقوله: إنها "السفه الذي هو ضد الحلم"، ونفى الدكتور أحمد أمين "كونها الجهل الذي يعني تنكب طريق العلم، بل كونها التخلق بأخلاق منافية للاتزان وضبط النفس كالخفة والغضب"1. أما الدكتور جواد علي فقد عرفها "بكونها عدم الخضوع لقانون عام سوى تقاليد البادية على ما فيها من الفوضى الاجتماعية، ويقابلها الإسلام وعماده الخضوع لله والانقياد له والرضوخ لما تقتضيه مصلحة الجماعة الإسلامية، واتباع قانون عام هو القانون الإلهي الذي شرعه الدين الجديد"2. وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد هذا المعنى ببيان ما كانت عليه أحكام الجاهلية من جور وضلال، وتفريق بين الناس في المنزلة والمعاملة، كقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة: 50] ، ولا سيما قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما} [الفرقان: 63] ، تلك الآية التي يقول أحمد أمين أن "لعلها المفتاح الذي نصل به إلى معرفة السبب في تسمية ما قبل الإسلام جاهلية والعهد الذي تلاه إسلامًا"3. ومن هذا القبيل ما يروى عن قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- للصحابي أبي ذر الغفاري عندما عاب على رجل من المسلمين كونه ابن سوداء: "إنك امرؤ فيك جاهلية".

_ 1 الدكتور أحمد أمين: فجر الإسلام، ص69. 2 الدكتور جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام، 1/ 6-8. 3 الدكتور أحمد أمين: نفس المصدر "69-70".

النقوش الكتابية

النقوش الكتابية: إن من يتصدى لتأريخ عهد ما قبل الإسلام يواجه عناءً وجهدًا عظيمين في معالجته، فبالرغم مما اكتشف في جنوبي شبه الجزيرة العربية وفي شماليها من كتابات أثرية ألقت بعض الضوء على التاريخ القديم لهذه المناطق، لم تزل هذه الحقبة من التاريخ العربي غامضة في نظر المؤرخين؛ لأن ما تم كشفه من آثار، وما عثر عليه من نقوش وكتابات ليس كافيا لجلاء ما غمض من تاريخ المنطقة جلاء تاما، ولا بد من مزيد من التنقيب في وسط شبه الجزيرة وفي أطرافها -تلك الأراضي البكر التي لم تعمل فيها فأس المنقبين عملا جادا- وتشجيع علماء الآثار ومنحهم جميع التسهيلات المادية والمعنوية للتجول في جميع أطراف شبه الجزيرة العربية؛ لإجراء التنقيبات الضرورية والبحث عن العاديات، إذ لا يستبعد أن تأتي الآثار التاريخية المدفونة في جوفها بنتائج غاية في الأهمية قد تلقي ضوءًا كاشفًا على تاريخ ما قبل الإسلام، فيسهل على المؤرخين الخوض فيما اعتادوا أن يستصعبوه. ومما يزيد الصعوبة في تأريخ هذه الحقبة أن قدامى المؤرخين المسلمين لم يبذلوا أي جهد في تحقيق وتمحيص ما وصلهم من أخبار عرب الجاهلية، تلك التي أوردوها كما سمعوها من أفواه الرواة، على ما فيها من تناقض ومن قصص خيالية مليئة بالأساطير، أو أخذوها من أهل الكتاب، وبخاصة منهم اليهود، أو وضعوها في الإسلام "لمآرب اقتضتها العواطف والمؤثرات الخاصة"1, لا سيما وأن تعاليم الإسلام -بما جاء فيها من تهديم للوثنية ولأخلاق الجاهلية- قد قضت بعدم الاهتمام بما يمتُّ إلى الجاهلية بصلة، لا بل شغل المؤرخون المسلمون بالتأريخ للإسلام، فدونوا كل واقعة من وقائعه وأشبعوها تدقيقا وتمحيصا، وانصرفوا عن التأريخ لعهود ما قبل الإسلام. ولم يفطن أحد منهم إلى ما يمكن أن تنبثق عنه الدراسات الموضوعية من تصحيح لما ذخرت به الروايات من تلفيق ومجانبة للواقع في تأريخ حقبة التاريخ العربي القديم الذي طمست مفاخره عن قصد أو عن غير قصد من قِبَل الأخباريين الإسلاميين.

_ 1 الدكتور جواد علي: نفس المصدر، ص10.

وقد ظل الأمر كذلك حتى أقدم المستشرقون في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي على ارتياد السبيل العلمية الصحيحة لمعرفة تاريخ العرب القديم، ولا سيما سكان القسم الجنوبي من جزيرة العرب. ويعد المستشرق الدانماركي "كريستنس فون هافن" -أستاذ اللغات السامية في جامعة غوتنجن الألمانية- أول من وجه الأنظار إلى الكشف عن عاديات بلاد العرب الجنوبية، إذ أقنع ملك الدانمارك سنة 1756م بتكوين بعثة علمية, تطوع هو للاشتراك فيها. وقد أقلعت البعثة من "كوبنهاجن" لهذا الغرض عام 1761م على ظهر طراد دانماركي حربي, ووصلت إلى اليمن في آخر عام 1762، فاستقبلها إمام اليمن واحتفى بأعضائها. غير أن المنية قد اخترمت أربعة من أعضائها واحدًا بعد الآخر بسبب مشاق السفر وقسوة الطبيعة، ولم يبقَ منهم سوى الضابط "كارستن نيبور" الذي أصر على إتمام المهمة، وعاد بنتائج مهمة دونها في كتاب أصدره، ورسم مصورًا للجهات المجهولة من بلاد العرب البعيدة نال تقديرا عظيما من الرحالة المتأخرين1. أيقظت هذه الرحلة فضول المستشرقين والرحالة، فتتالت البعثات الأثرية إلى اليمن. وقد استطاع كل من الدكتور "سيتزن" الألماني و"جيمس وولستد" و"هولتن" "1835م" و"كروتندن" "1838م"2، وبخاصة الدكتور "مكل" العثور على عشرات النقوش العربية التي أرسلت إلى أوروبا لتدقيقها ودراستها، وأخذت دوائر البحث في التوسع، ونشط العلماء في حل رموز الكتابة العربية الجنوبية القديمة. غير أن التقدم في هذا المجال ظل بطيئًا إلى أن دخله الفرنسيون فقد استطاع الصيدلي "توماس أرنو" "1843م" العثور على 56 نقشًا في آثار صنعاء ومأرب أرسلها إلى بلاده، ونشرت في المجلة الآسيوية مع مخطط لسد مأرب. وعثر بعده المستشرق "هاليفي" على 686 نقشًا جمعها من 37 مكانًا، كما اكتشف مدينة معين القديمة، واطلع على أسماء عدد كبير من ملوك اليمن القدماء وقبائلهم وآلهتهم.

_ 1 دتيلف نلسن وفرتز هومل: التاريخ العربي القديم، ص1-3. 2 نجيب العقيقي: المستشرقون 2/ 835 و3/ 1098.

عاد الألمان والنمساويون بعدئذ إلى الاهتمام بآثار اليمن، فقام العالم النمساوي "إدوار غلازر" بأربع رحلات إلى الجنوب العربي بين 1882 - 1892م، وجمع عددًا كبيرًا من الكتابات والنقوش أربت على 600 بينها أكثر من 100 نقش من العهد القتباني -وكان له الفضل في أنه أول من مكن العلماء من الوقوف على بعض أخبار مملكة قتبان، إذ كان ما اكتشفه من النقوش التي تتحدث عنها أول كتابات تصل إلى أوروبا- هذا بالإضافة إلى 40 لوحا مكتوبا وإلى كثير من التحف والنقود القديمة، فأغنى بذلك الدراسات العربية اليمنية، وزودها بفيض من المعلومات القيمة. كما رسم مخطط سد مأرب بدقة تامة، واستنسخ الكتابات المنقوشة عليه، وحصل على مقاييس ومساحات بعض المعابد، كمعبد إله القمر في مأرب، وهكذا فتح "غلازر" عهدًا جديدًا في تاريخ العرب القديم فجعله أكثر علمية. ولا تزال النقوش التي عثر عليها المستشرقون والرحالة، أو صورها المستنسخة وعددها يربو على 7000 معروضة في متاحف أوروبا ومكتباتها الكبرى. وقد نشر كثير منها في المجلات الألمانية والفرنسية والإنجليزية التي تُعنَى بالاستشراق. وأشهر الذين اهتموا بحل رموزها العلماء "موللر وغلازر وهومل" ولا سيما "أوسياندر" الذي استطاع أن يقرأ جميع الكتابات ويكشف عن معانيها، "فوضع بذلك الأساس المتين لدراسة عرفت باسم الدراسة العربية الجنوبية"1. ولم يقتصر نشاط المستشرقين على اكتشاف آثار الجنوب العربي ونقوشه، بل امتد إلى شمالي الجزيرة العربية، إذ قام بعض الرحالة من السويسريين والإنجليز والألمان منهم "بركهارد" و"جورج والين" وغيرهما بزيارة بعض مدن الحجاز ونجد والبتراء وحوران وبصرى وتدمر، واكتشفوا فيضًا من الآثار، وعثروا على كتابات ألقت قبسًا من النور على التاريخ القديم لهذه المناطق. لقد أفاد المؤرخون إفادة عظيمة من هذه الآثار والنقوش التي كشفت عن حضارة من أقدم الحضارات البشرية، حضارة عاشت ما يقرب من 1500 عام، وهي لا تقل مجدًا وعظمة عن حضارات مصر وبابل وآشور ولا تقل عنها قدمًا. كما كشفت عن خطأ

_ 1 الدكتور جواد علي: نفس المصدر 10/ 77.

الاعتقاد الذي كان سائدًا لدى المؤرخين من قبل بأن تاريخ العرب قبل الإسلام لا يمتد إلى أكثر من 200 سنة قبل الرسول, بل عادت بالتاريخ العربي القديم إلى ما قبل الميلاد بـ 1500 سنة على وجه التقريب، وأثبتت أن هذه الفترة من الزمن كانت حافلة بكل مقومات الحضارة الراقية. على أن من الصعوبات التي اعترضت حسن الإفادة من هذه الكتابات كونها لا تحمل تاريخًا، أو تحمل تاريخًا يصعب تحديده بالنسبة لتقويمنا المتبع حاليا؛ وهذا ما جعل المؤرخين عاجزين عن ضبط الوقت الصحيح والدقيق الذي دُون فيه النص؛ ذلك أنه لم يكن لعرب الجاهلية تقويم ثابت، فقد كانوا يؤرخون أحيانا بالنسبة لابتداء حكم ملوكهم، أو أنهم أرخوا بأيام الرؤساء والمشايخ وأرباب الأسر، وهي طريقة عرفت عند المعينيين والسبئيين والقتبانيين وغيرهم. ومع ذلك فإن ذكر تاريخ ما -مهما يكن- مفيد للمؤرخ؛ إنه أكثر فائدة مما لو كانت الكتابات خالية من أي تاريخ. غير أن الصعوبة تكمن في كون الملك أو الشخص المؤرخ بالنسبة لعهده وتاريخ ابتداء حكمه غير معروف هو نفسه, فالأشخاص زائلون، وقد لا تعيهم ذاكرة التاريخ أحيانا، ومن الأفضل لو عُمد إلى التأريخ بالنسبة للحوادث الجسام التي تبقى خالدة على كر العصور والأزمان كميلاد المسيح أو كما جرى عليه المسلمون بعد الهجرة النبوية. وهنا لا بد من استعراض مسألة التقويم عند عرب ما قبل الإسلام. والملاحظ أنه كلما تقارب العهد بينهم وبين ظهور الإسلام, أمكن الوصول إلى معرفة تقويم ثابت لهم, فقد استطاع المؤرخون أن يضعوا أيديهم على مبدأ تاريخ اتبعه الحميريون منذ عام 115 ق. م، إذ اتخذوا تقويما ثابتا يجعل قيام الدولة الحميرية -الذي حدث في تلك السنة- مبدأ لتأريخ أخبارهم1. كما أرخوا بما عرف باسم "نار صوران"، وهي نار كانت تظهر في بعض الحرار في اليمن، وبما عرف باسم "عام سيل العرم". أما عرب الشمال، فإلى جانب كون الكتابات التي أتتنا منهم نادرة، لم يعرف لهم مبدأ تقويم ثابت, فقد أرخوا أحيانا بالنسبة للأعوام التي تقع لهم فيها أمور متعارف

_ 1 المسعودي "التنبيه والإشراف"، ص172.

عليها، أو بحياة الرجال الشهيرين أو بموتهم مثلهم كمثل الجنوبيين, كما أرخوا بعام "الخنان"1 وعام "الفيل"2. وقد ذكر المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف" "ص 178" أن بني إسماعيل قد أرخوا من بناء البيت حينما بناه إبراهيم وإسماعيل, عليهما السلام. "فلم يزالوا يؤرخون بذلك حتى تفرقت مَعَدّ، وكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون بخروج آخر من خرج منها من قضاعة ... حتى مات كعب بن لؤي فأرخوا من موته إلى عام الفيل". أما السنة الدورية التي اعتمدها العرب في تقويمهم فهي القمرية لدى الشماليين. يقول المسعودي في المصدر نفسه "ص183": "جميع ما تؤرخ به الأمم من السنين شمسية ... إلا العرب والإسرائيليين ... فأما العرب فإنها تراعي رؤية الأهلة فتجعل حساب سنتها عليها، وشهورهم شهر ثلاثون يومًا وشهر تسعة وعشرون يوما ... وأيام سنتهم ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما بالحساب المطلق". لكنها في الحقيقة تزيد خمس أو سدس يوم، فتختلف بذلك عن الحساب المطلق وتقل عن السنة الشمسية كما هو معلوم أحد عشر يومًا في كل عام وسنة واحدة كل 33 سنة ولذلك كان العرب في الجاهلية، كما يقول المسعودي، تنسئ لأجل اختلاف الزمان والمواقيت "لتسوي" ما بين السنة الشمسية والقمرية وفي ذلك أنزلت الآية الكريمة: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر} [التوبة: 27] "3. وأما عرب الجنوب في اليمن فقد اعتمدوا كلا التقويمين القمري والشمسي.

_ 1 ليس له تفسير شافٍ، وفي القاموس هو زكام الإبل، وقد يكون حدث في عهد المنذر بن ماء السماء من ملوك الحيرة وماتت الإبل فيه. 2 وهو الذي أرخ العرب به حتى خلافة عمر بن الخطاب الذي اعتبر الهجرة مبدأً للتقويم الإسلامي. 3 المسعودي: التنبيه والإشراف، ص186.

المصادر العربية الإسلامية

المصادر العربية الإسلامية: يتبين مما تقدم أن الرجوع إلى الآثار المكتشفة -على قلتها- في التأريخ للعرب الجنوبيين أجدى من الاستناد إلى ما كتبه مؤرخو العرب المسلمون؛ لأن ما ذكر هؤلاء عن هذه الحقبة لا يعدو كونه مقدمة موجزة لتواريخهم المفصلة عن العصر الإسلامي الذي سبق

وذكرت أنهم اهتموا به عظيم الاهتمام، هذا فضلًا عن كون ما كتبوه عن عهد ما قبل الإسلام بأجمعه بعيدًا عن الروح العلمية، لا بل يغلب عليه العنصر القصصي المنقول عن السماع والمليء بالأساطير. وقد بلغ بعده عن الدقة أن أسماء الدول والملوك والحوادث التي أوردوها قد جاء فيها كثير من الخلط، فضلا عن التناقض والخلاف بين ما كتبه مؤرخ وآخر. بيد أننا إذا أردنا الدقة في التعبير يجب أن نميز بين فترتين من أخبار الجاهلية: أولاهما الجاهلية البعيدة، والثانية الجاهلية القريبة من الإسلام. ولتأريخ الفترة الثانية، التي وقعت حوادثها منذ القرن الثاني قبل ظهور الإسلام حتى بزوغ فجره، فلا بأس بل من المستطاع الاعتماد بعض الشيء في بحثها على ما جاء في كتب المؤرخين المسلمين؛ ذلك أن هذه الفترة كات قريبة منهم، ولا بد أن يكون ما أورده الرواة من أخبارها قد حافظ نوعًا ما على صورته الأصلية حتى جاء عصر تدوين الأخبار فسجلت في كتب التاريخ التي وصل معظمها إلينا1. على أن معرفة الكتابة عند المتأخرين من عرب الجاهلية -ولكن في نطاق ضيق- يعطي للأخبار المنقولة في هذه الفترة شيئًا من الثقة بصحتها, فقد بينت الدراسات الحديثة أن العرب الجاهليين كانوا يدونون أشعارهم بالكتابة. وقد نوه القرآن الكريم في بعض آياته كقوله تعالى: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون} [القلم: 1] وكقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 1 - 4] بمعرفة القراءة والكتابة قبل الإسلام. ومما ذكره الراوية النسابة هشام بن محمد بن السائب الكلبي أنه كان يستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى من كتبهم في الحيرة. كما ورد في الأخبار أن النعمان ملك الحيرة كان قد أمر فنسخت له أشعار العرب في كراريس، وأنه كان في قريش عند ظهور الإسلام سبعة عشر شخصًا يعرفون الكتابة منهم "الشفاء بنت عبد الله العدوية" وبعض النسوة الأخريات2.

_ 1 د. جواد علي: نفس المصدر 10/ 34. 2 نفس المصدر 1/ 15، 37-39.

الكتب المقدسة والمصادر اليونانية والنصرانية

الكتب المقدسة والمصادر اليونانية والنصرانية: وعدا ما ذكرت يمكن الاستفادة من الكتب المقدسة كالتوراة والتلمود، إذ جاء ذكر للعرب فيها، وإنما الأفضل أن تسلط عليها أشعة النقد والتحليل العقلي والمقارنة مع النقوش المكتشفة. غير أن القرآن الكريم هو من أصدق المصادر فيما تعرض له من حياة الجاهليين، سواء منها الاجتماعية والاقتصادية والدينية فصوَّرها تصويرًا صادقًا. وكذلك الكتب اليونانية والرومانية والنصرانية القديمة تلك التي أطلق عليها اسم "المصادر الكلاسيكية" -بالرغم مما ورد فيها من أخطاء يمكن ملاحظتها- فإنه يستفاد منها لما حوت من أخبار تاريخية ومعلومات جغرافية وأسماء عربية كثيرة لم تعرف إلا منها. وقد استقاها مؤلفوها من رجال الحملات الرومانية واليونانية التي حاولت الاستيلاء على بلاد العرب، ومن السياح والتجار والملاحين الذين جابوا هذه البلاد. وقد تحدثت هذه الكتب عن وجود علاقات قديمة بين سواحل بلاد العرب وبلاد اليونان والرومان والفرس، وعن تسرب المسيحية إلى شبه جزيرة العرب. إن من مؤلفي المصادر اليونانية "هيرودوت" اليوناني الملقب باسم "أبي التاريخ" "480 - 406ق. م" و"تيوفراست" "371 - 287ق. م" و"إيراتوستين وديودور" الصقلي والرحالة اليوناني " سترابون" "64ق. م -19م" وهو صاحب كتاب الجغرافيا الذي ورد في الجزء 17 والأخير منه مذكراته عن الحملة التي رافق فيها القائد الروماني "إيليوس غالوس" الذي حاول بها احتلال الجنوب العربي. ومنهم أيضا "بطليموس" القلوزي الإسكندري "المتوفى سنة140م" صاحب كتاب جغرافية بطليموس الذي تحدث فيه عن مدن الجزيرة العربية وقبائلها وأحوالها التجارية وزيَّن الكتاب بالخرائط محددًا مواقع المدن بالدرجات. ومن مؤلفي المصادر المسيحية "أوسيبيوس" "265 - 340م" و"روفينيوس تيرانيوس" "المتوفى سنة 410م" و"شمعون الأرشامي" صاحب رسائل الشهداء الحميريين التي تبحث عن تعذيب الملك ذي نواس للنصارى في نجران، وقد ادعى أنه جمع أخبارها من بلاط الحيرة1.

_ 1 د. جواد علي: نفس المصدر، ص22-43.

الفصل الثاني: جغرافية شبه الجزيرة العربية

الفصل الثاني: جغرافية شبه الجزيرة العربية مدخل ... الفصل الثاني: جغرافية شبه الجزيرة العربية شبه جزيرة العرب هضبة صحراوية كانت في الأزمنة الجيولوجية الغابرة متصلة بالقارة الإفريقية حتى فصل بينهما الأخدود الانهدامي الطولاني الذي حدث في الزمن الجيولوجي الثالث نتيجة صدع في القشرة الأرضية والذي نشأ عنه البحر الأحمر الفاصل بين القسمين. ولذا فإن التشابه بينها وبين أجزاء إفريقيا الشرقية "مصر والسودان والحبشة" التي تقابلها كبير مما دعا أحد الكتاب الغربيين إلى تسميتها، مبالغةً، باسم "إفريقيا الآسيوية"1. وهي تقع في الجنوب الغربي من قارة آسيا بين درجتي عرض 12-30 ْ إلى الشمال من خط الاستواء، أي: إن قسمها الجنوبي يقع في المنطقة المدارية الصحراوية، فهي -إذا استثنينا منها المناطق الجبلية الجنوبية العالمية- حارة الإقليم, قاسية المناخ. وكان من أثر الانهدام والحركات الأرضية الباطنية التي رافقته أن شبه الجزيرة قد مادت بمجموعها واتخذت شكل سطح مائل ينحدر من الغرب ومن الجنوب الغربي "زاوية اليمن" نحو الشرق والشمال الشرقي "زاوية الكويت"2، وأنها أصبحت محاطة من أطرافها الثلاثة "عدا الشمال" بالبحار، وأن انحدار حافتها الغربية أصبح حادًّا وسريعًا نحو البحر الأحمر، بينما نشاهد أن انحدارها نحو الشرق انحدار هادئ بطيء "متدرج". ويبلغ متوسط عرض شبه الجزيرة 700 ميل "نحو 1150كم" وأقصى طولها 1200 ميل "نحو 2000كم" فهي إذن تأخذ شكل مستطيل يمتد من الجنوب إلى الشمال. وبينما تكون حدودها من جهات الغرب والجنوب والشرق واضحة المعالم إذ تحف بها

_ 1 جان جاك بيريبي: جزيرة العرب، ص20. 2 Henri Masse: L'lslam, p.7.

البحار، نشاهد أن حدودها الشمالية غير واضحة وليس من فاصل طبيعي يفصل بينها وبين بلاد الشام. أما مساحتها فتبلغ نحو مليونين ونصف من الكيلومترات المربعة، فهي بذلك تزيد على مساحة الهند، ونسبة مساحتها إلى مساحة القارة الأوروبية هو الربع1, بينما تبلغ خمسة أمثال مساحة فرنسا. فهي بهذا الاتساع وبما تتمتع به من مميزات وخصائص جديرة بأن تعتبر قارة مستقلة، وهي في الواقع أكبر شبه جزيرة في العالم. لقد قسم جغرافيو العرب القدماء شبه جزيرة العرب إلى خمسة أقسام هي: تهامة، الحجاز، اليمن، نجد، اليمامة, والعروض, غير أنني أفضل أن أسير في دراسة جغرافيتها حسب تقسيم حديث يكون أسهل للفهم. ويميز في هذه الهضبة أنواع مختلفة من المظاهر الجغرافية:

_ 1 ibid, p.7.

الجبال العالية

الجبال العالية مدخل ... أ- الجبال العالية: ويمثلها في الأطراف إطار جبلي يمتد على طول الساحل الغربي المطل على البحر الأحمر ويأخذ هنا اسم "جبال السراة"، وعلى الزاوية الجنوبية الغربية لشبه الجزيرة ويسمى "جبال اليمن" ثم يساير الساحل الجنوبي حتى يصل إلى الجنوب الشرقي في زاوية عمان ويسمى هنا "الجبل الأخضر" مع اختلاف في الارتفاعات يتراوح بين حد أصغري "1500م في سراة الحجاز" وبين حد أعظمي "4000م في جبال اليمن"، بينما يبلغ علو "3000م في الجبل الأخضر".

جبال السراة

1- جبال السراة: وتنقسم إلى ثلاثة أقاليم: إقليم مدين، الذي يمتد على ساحل خليج العقبة ويبلغ أعلى ارتفاع له "2700م" في "جبل الشفاء"، ويرتبط هذا الإقليم بقوم ثمود من العرب البائدة. وإقليم الحجاز، الذي يبدأ من جنوب خليج العقبة، وقد سُمِّي بهذا الاسم لحجزه سهل تهامة عن داخل شبه الجزيرة. ويلاحظ فيه انخفاض المرتفعات بالنسبة للإقليم السابق، إذ يبلغ وسطيًّا 900م فوق سطح البحر، ولا يزيد ارتفاع أعلى جبل فيه "جبل رضوى إلى الشرق من ميناء ينبع" على 2000م.

وتنتهي جبال السراة في الجهة الغربية، وعلى البحر الأحمر، بسهل تهامة الساحلي الطولاني الذي يمتد من خليج العقبة حتى باب المندب. وهو ضيق يختلف عرضه من مكان إلى آخر اختلافًا بينًا، ولا يتجاوز أقصى عرض له خمسين كيلومترًا, ويطلق عليه اسم "الغور" أيضًا1 لانخفاض أراضيه لا سيما وأنه ناتج عن فعل الانهدام. وقد اشتق العرب اسمه من "التهم" أي: الحر؛ لشدة حره وركود رياحه. على أن انخفاض الحاجز الجبلي في إقليم الحجاز قد أدى إلى سهولة الانتقال بين هذا السهل وبين الداخل، يضاف إلى ذلك أن وقوع هذا الإقليم في أضيق عرض لشبه الجزيرة قد جعل الطريق المار منه نحو الشرق أقصر طريق بين البحر الأحمر والخليج العربي. في هذا الإقليم تقع "مكة" المكرمة، وهي تمتد في وادٍ ملأته الرواسب بفعل التعرية المائية. وفيه أيضًا "المدينة المنورة" التي تميزت بكونها واحة خصبة وافرة الماء، واشتهرت منذ القديم بزراعة النخل، فورد ذكرها في شعر عروة بن الورد باسم "منبت النخيل" وقد نافست في صدر الإسلام "مكة" التي كان لها شأن كبير في العهد الجاهلي. ويشاهد في جنوبها الشرقي "وادي العقيق" الشهير بينابيعه وكثرة نخيله2. كما تقع فيه مدينة "الطائف" الشهيرة بهوائها العليل "لارتفاعها" ووفرة مياهها وكثرة نباتها وأشجارها وبساتينها الوارفة الظلال، الأمر الذي جعل منها مصيفًا لأهل مكة ولغيرهم من عرب شبه الجزيرة؛ ولذا أطلق عليها قديما اسم "جنة مكة". وإلى الجنوب من إقليم الحجاز يمتد إقليم العسير - وجباله وعرة كثيرة الانكسارات والفوالق والوديان التي عمقت السيول مجاريها فجعلت المنطقة محززة صعبة المسالك.

_ 1 يقول الشاعر العربي عامر بن الظرب: قضاعة أجلينا عن الغور كله ... إلى فلجات الشام تزجي المواشيا 2 في كتاب "صفة جزيرة العرب" للهمداني "ص 177" أن العقيق عقيقان: العقيق الأعلى للمنتفق ومعه معدن صعاد على يوم أو يومين، وهو أغزر معدن في جزيرة العرب، وهو الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "مطرت أرض عقيل ذهبًا" والأسفل وهو في طيء.

جبال اليمن

2- جبال اليمن: وهي الممتدة على الزاوية الجنوبية الغربية من شبه الجزيرة، ويصل ارتفاع بعض

أماكنها إلى 4000م كما في قمة النبي شعيب على بعد 50كم جنوب غربي صنعاء، الأمر الذي جعل مناخ المناطق الجبلية في اليمن لطيفًا معتدلًا في الصيف. وتهب على المنطقة من جهة الجنوب الغربي الرياح شبه الموسمية التي تأتيها بالأمطار الصيفية؛ ولذا تعتبر اليمن أخصب أماكن شبه الجزيرة، وأكثرها زراعة وأشجارا وثمارا، مما دعا اليونان قديما إلى تسميتها باسم "العربية السعيدة Arabia Felix" كما سماها بعض العرب القدماء "بلاد العرب الخضراء"1. وقد تكون تسميتها "اليمن" آتية من اليُمن "بضم الياء" بمعنى الرخاء أو لوقوعها على يمين الكعبة إذا وقف الإنسان فيها متجها نحو مشرق الشمس. وإذا كانت اليوم تعاني الجدب والفقر فما ذلك إلا لإهمال استثمارها نتيجةً للتخلف. وفي الجهة الشرقية من هذه المنطقة الجبلية العالية تقع الهضبة الصحراوية اليمنية، ولا يزيد متوسط ارتفاعها عن 1000م، وهي ممتدة في الجهة الداخلية بشكل نجدي تحزه وديان عريضة وطويلة غير عميقة -بعكس المنطقة السابقة- من أهمها وادي بيحان ووادي نجران اللذان يتجهان نحو الداخل، ويعتبران الآن من الأودية الجافة الميتة كغيرهما من وديان شبه الجزيرة، إنما يعطي وجودهما دليلا على أن شبه الجزيرة كانت في القديم مطيرة. ومما نشاهد في هذه الهضبة أطلال مدن الحضارة اليمنية القديمة منتشرة بكثرة في مختلف جهاتها، مثل مأرب ومعين وشبوة ولا سيما أطلال سد مأرب الشهير. والمنطقة كانت قديما غنية ومأهولة بالسكان، وبخاصة وادي حضرموت الذي يخترق الهضبة ويسير في الاتجاه الشرقي الجنوبي حتى يصب في بحر العرب.

_ 1 قال الكلاعي في قصيدة له: "راجع الألوسي: بلوغ الأرب، 1/ 203": هي الخضراء فاسأل عن رباها ... يخبرك اليقين المخبرونا ويمطرها المهيمن في زمان ... به كل البرية يظمئونا راجع أيضا الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص51.

المرتفعات الجنوبية

3- المرتفعات الجنوبية: تستمر المرتفعات الساحلية من اليمن نحو الشرق حيث تصل في حضرموت إلى علو 2000م وفي ظفار شرقيها إلى 1000م، وتظل آخذة في الانخفاض التدريجي كلما اتجهنا

نحو الشرق حتى عمان، حيث تبدأ في الارتفاع إلى أن تصل إلى علو 3000م في الجبل الأخضر.

الصحاري والهضاب الداخلية

الصحاري والهضاب الداخلية مدخل ... ب- الصحارى والهضاب الداخلية: تتعاقب الصحارى مع الهضاب في داخل شبه جزيرة العرب بترتيب يجعل سطح هذا الإقليم مختلف المظاهر الطبوغرافية. والصحارى العربية واسعة الأرجاء تشغل قسمًا كبيرًا من شبه الجزيرة, وهي وإن كانت رملية على العموم إلا أن تربة بعضها تصبح -بعد هطول الغيث عليها- على شيء من الخصب يجعلها مراعي مفضلة للمواشي1, وهذا ما يجعل بعض أقسامها ملائمًا للارتياد. وتتمثل صحارى شبه جزيرة العرب في ثلاث رئيسية هي: النفود الكبير، الدهناء، الربع الخالي:

_ 1 حافظ وهبة: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص1-2.

النفود الكبير

1- النفود الكبير: يقع النفود الكبير -ومن أسمائه القديمة "رملة عالج"1- في ملامسة خط وهمي يصل بين خليج العقبة والكويت، وهو الحد الفاصل بين الهلال الخصيب، الذي ينتهي جنوبًا ببادية الشام، وبين شبه الجزيرة2. وصحراء النفود تشغل مساحة رملية كبيرة تمتد من الشرق إلى الغرب على مسافة 450كم ومن الشمال إلى الجنوب على مسافة 250كم، وتتألف من رمال ناعمة بيضاء أو حمراء تتخللها صخور ناتئة وكثبان رملية متموجة. وبعض الكثبان الرملية ما هو على شكل نجمي وبعضها الآخر هلالي أو قببي, والهلالية منها يصل امتداد بعضها إلى عدة كيلومترات بارتفاع يتراوح بين متر واحد ومائتي متر. ويطلق العرب اسم "الطعوس" "مفردها: طعس" على التي لا تصلح للزراعة منها, وتكون عادة صغيرة، بينما يطلقون اسم "النقيان" "مفردها: نقي" على الكثبان

_ 1 يقول الأخنس بن شهاب التغلبي: "الهمداني، ص204-205": وصارت تميم بين قُفٍّ ورملة ... لها من جبال منتأى ومذاهب وكلب لها خيتٌ فرملة عالج ... إلى الحَرَّة الرجلاء حيث تحارب 2 جواد علي: المصدر نفسه، 1/ 86، 93.

الكبيرة. وبعض هذه الكتل الرملية تشكل ما يسمى عند العرب باسم "العروق"، وتكون مفردة طويلة أحيانا ومتعددة متوازية أحيانا أخرى. وقد يطلقون لفظة "عِرْق" على منطقة فيها عدة عروق كعرق "المظهور" الذي يحتوي على سبع منها1. والمطر في النفود الكبير قليل، ولكن الغيث قد يجودها في بعض الأشتية فيحيل رمالها الموحشة إلى جنة حقيقية فتبدو وكأنها بساط أخضر يزينها الزهر وشقائق النعمان ومختلف الأعشاب الصحراوية فينتجعها الأعراب للرعي2، وتنتعش الماشية ولكن لمدة لا تزيد على بضعة أسابيع تهب بعدها رياح السموم، وتتحالف عليها مع أشعة الشمس المحرقة لتحيلها إلى هشيم جاف، وتقضي على معالم النضارة النباتية فيها، وتغدو النفود في أشهر الصيف، الذي يبدأ منذ شهر نيسان عادةً، وكأنها قطعة من الجحيم. ويتفرع من صحراء النفود الكبير نحو الجنوب شريطان رمليان أحدهما غربي هو النفود الصغير الذي هو في الواقع عدة أنفاد متقطعة متلاحقة متوازية في نهاياتها تأخذ أسماء مختلفة مثل نفود السر، نفود قُنَيْفدة، نفود الشُّقَيْقة، نفود الثُّوَيْرات. والشريط الثاني شرقي ويسمى "صحراء الدهناء". والشريطان يحتضنان هضبة نجد ثم ينتهيان جنوبا بصحراء الربع الخالي، وفي كليهما بعض الجهات التي لا يُشاهد فيها سوى الرمال التي تبلغ من النعومة والتفكك حدًّا يجعلها تبتلع من يسير فوقها، ولذلك يتجنبها المسافرون ابتغاء سلامة أرواحهم. وقد ذكر حافظ وهبة أنه اخترقها من الغرب إلى الشرق على الإبل في بضع عشرة ساعة3. أما صحراء الدهناء فتمتد بشكل هلالي تقريبًا، يبلغ 1300كم من الطول في محاذاة الخليج العربي. وربما قد اشتق العرب القدماء اسمها من الدهن، باعتبار أنها أفضل الجهات الصحراوية مرعى في الشتاء والربيع، ولكن لعدد من الأسابيع تكثر أو تقل تبعًا لمدة هطول الغيث، وهو يهطل فيها أكثر من غيرها من صحارى شبه الجزيرة. وربما يكون

_ 1 دكتور نبيه عاقل: تاريخ العرب القديم وعصر الرسول، ص20. 2 دكتور جواد علي: المصدر نفسه, 1/ 94. 3 حافظ وهبة: المصدر نفسه, ص1-2.

ما يهطل عليها منه غزيرًا بحيث يشكل سيولًا تسيل لفترة وجيزة1. وقد قيل قديمًا: "إذا أخصبت الدهناء، أربعت العرب جميعًا". ونقل الدكتور جواد علي عن "فيليب حتى" وعن "جون "عبد الله" فيلبي" وغيرهما خلاصة بحوثهم التي تفيد أن الأعشاب التي تعقب الغيث في الدهناء "تبقى عادة زهاء ثلاثة أشهر في السنة ثم تجف"2. كما أورد أنه يمكن العثور على المياه في قيعانها إذا حفرت فيها الآبار.

_ 1 Henri Masse: Ibid. p.9. 2 د. جواد علي: المصدر نفسه، 1/ 91.

الربع الخالي

2- الربع الخالي: وأما صحراء الربع الخالي التي تشكل في جنوبي شبه جزيرة العرب حوضًا تحف به سفوح مرتفعات العسير واليمن وعُمان من الغرب والجنوب، والخليج العربي من الشرق، فهي من أوسع المساحات الرملية المتصلة في العالم، وكانت تعرف قديما باسم "مفازة صيهد"1. أما مساحتها فمن الصعب تقديرها تقديرًا صحيحًا، وربما لا تقل عن مليون كم2، بل تزيد، وهي خالية من معالم الحياة النباتية والحيوانية لكثرة جفافها، وتعتبر من أكثر المناطق غموضًا في العالم، فالمعلومات عنها قليلة وأغلب أجزائها لا تزال مجهولة. ويعتبر السائح الإنجليزي "برترام توماس" أول رجل استطاع "في عام 1931م" أن يخترقها، واستغرق في ذلك 58 يومًا. وقد كشف فيها عن بقايا من الحيوانات مبعثرة هنا وهناك، وعن آثار قديمة ترجع إلى ما قبل الإسلام، الأمر الذي يساعد على التكهن بأنها كانت مأهولة في قديم الزمن، حيث كانت شبه الجزيرة رطبة المناخ مطيرة، لا سيما وأنه في عام 1951م قام من جدة ركب مكون من بضعة باحثين أوروبيين بزعامة المستشرق الإنجليزي المعروف "جون فيلبي" "عبد الله" وكان مستشارًا للمملكة العربية السعودية، فمر في الطائف ثم بمدينة "أبها" في العسير فنجران، ومن هناك سلك طريق الربع الخالي على حدود الصحراء إلى الرياض، فقطع مسافة 5000 كم في أرض مجهولة تمامًا، وعاد الركب بآلاف النقوش الكتابية2.

_ 1 الهمداني: المصدر نفسه، ص84: "أما فلاة اليمن وغائطه فإنه صيهد، وهي فلاة تتفرق من الدهناء من ناحية اليمامة والفَلَج". 2 ديتلف نلسن، هومل، ورفاقهما: تاريخ العرب القديم، ص161 "من استكمال بقلم د. فؤاد حسنين علي".

ويعرف القسم من الربع الخالي الممتد في الغرب فيما بين حضرموت واليمن باسم "صحراء الأحقاف" التي تقترن بقوم عاد "الآية الكريمة: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَاف} 1"، بينما يمتد منها نحو الشرق ألسنة من الرمال تخترق الساحل المصالح لتشرف على مياه الخليج العربي. على أن أكبر مساحة رملية تتوسط الكتلة المركزية للربع الخالي هو ما يعرف باسم "غرق سبيع"، وفي جنوب الزاوية الغربية منها منطقة صحراوية قليلة الاتساع بالنسبة لباقي الكتلة تسمى "رملات السبعتين".

_ 1 الأحقاف: 21.

إقليم نجد

3- إقليم نجد: يتكون هذا الإقليم من منطقة معقدة ليس لها حدود واضحة، تشمل الهضاب العالية التي تشغل القسم الأوسط من شبه الجزيرة، ويكون انحدارها العام متدرجًا من الغرب "اعتبارًا من أراضيها المتاخمة لإقليم الحجاز" نحو الشرق حتى الخليج العربي. ويميز فيها منطقتان مرتفعتان: 1- جبال شمر: في الشمال وتتألف من سلسلتين أولاهما "جبل أجا" وتقع في سفحه واحة ومدينة حائل، والثانية "جبل سلمى". 2- جبال القصيم: في الجنوب, وفي سفوحها تتوفر المياه الجوفية قريبة من الأرض، وتقوم فيها مدينتان من مدن شبه الجزيرة هما: عنيزة وبريدة. ومن أهم مناطق نجد: منطقة اليمامة: وكانت تعرف قديمًا باسم "جو"، وهي في قول لياقوت الحموي: قطعة من نجد. يقول المتنبي: وأبصر من زرقاء جو لأنني ... إذا نظرت عيناي شاءهما علمي1 وهو يقصد بذلك زرقاء اليمامة. وقد اشتهرت قاعدتها "حجر" -وتقع في وسط بلاد العرب- بكونها موطن "طسم وجديث" حسبما جاء في الكتب العربية. وتظهر الدراسات الحديثة أن هذه المنطقة كانت عامرة، ذات قرًى ومدن عند ظهور الإسلام.

_ 1 محمود شكري الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، 197.

وقد ذكر ياقوت الحموي أن في إحدى قراها المسماة "منفوحة" قبر الشاعر العربي "الأعشى"، ومن مدن اليمامة القديمة "سدوس" التي عثر فيها الباحثون على آثار تاريخية كثيرة, كما عثروا على مثلها في مكان يسمى "الفأو" على مسافة 120كم من شرقي "نجران" قريبًا من وادي الدواسر. ويطلق اليوم على هذا المكان اسم "القرية" وهي على رأي الدكتور جواد علي "قرية بني سدوس بن ذهل بن ثعلبة" كما سميت في الكتب العربية القديمة. وتبدو أهمية هذا المكان من كون اسمه "القرية" قد أطلق على اليمامة بأسرها، ومن كون الكتابة العربية التي عثر عليها فيها، والتي تعود إلى ما قبل الإسلام، هي أول كتابة بلهجة حميرية يعثر عليها في هذه الجهات، وإلى جانبها مقابر وأدوات وقطع فخارية ظهر من فحصها أنها تعود إلى السبئيين، مما يقيم الدليل على أن هذا الموقع إنما هو بقايا مدينة قديمة كانت تتحكم في الطريق الذي كانت تسلكه القوافل التجارية المتنقلة بين اليمن والخليج العربي والعراق عن طريق نجران. ومنطقة اليمامة على العموم -وفي القلب منها تقع مدينة الرياض, العاصمة السعودية اليوم- لا تزال غنية بموارد المياه من عيون وآبار وماء جارٍ، بالرغم من عوامل الجفاف التي حلت بها منذ القديم. ومن أوديتها وادي "العرض" ووادي "حنيفة" اللذان يخترقانها، وفيها من المرتفعات ما تخرج منه عيون ومياه مثل "جبل شهوان". ومن المناطق الخصبة التي تكثر فيها المياه والسيوح الجارية والجداول منطقة "الأفلاج" وقد ذكر الهمداني من سيوحها "الرقادي" و"الأطلس"1. وفي نجد بصورة عامة مساحات سهلية واسعة وخصبة كمناطق السدير والخرج، حيث تكثر المياه الجوفية القريبة من سطح الأرض. وقرب الخرج والأفلاج بحيرتان تربط الروايات العربية بينهما وبين الشاعر العربي امرئ القيس. وتعتبر منطقة الخرج من أغنى المناطق الزراعية في المملكة العربية السعودية حاليا, لا سيما وأنها تستقي من نهر جوفي جارٍ قريبًا من سطح الأرض تستعمل فيه الروافع البخارية. وقد ذكرت الروايات القديمة أن اليمامة أكثر نخيلًا من بلاد الحجاز.

_ 1 دكتور جواد علي: المصدر نفسه، 142-145.

ولقد تغنى الشعراء العرب قديمًا بنسيم نجد العليل وأسهبوا في وصفه، ولهجوا بذكر هذه البلاد وترنموا برباها وريا عطرها1. فالمناخ في نجد معتدل جاف على العموم، غير أنه يختلف من مكان إلى آخر باختلاف الموقع الجغرافي، فمنطقة الحريق كاسمها شديدة الحر ومثلها وادي الدواسر، بينما تكون منطقة حائل والقصيم لطيفة المناخ2. على أن منطقة اليمامة -في نظر الباحثين- إنما هي جزء من إقليم أكثر شمولًا هو إقليم العروض, ويشمل اليمامة والبحرين والإحساء وشبه جزيرة قطر. وفي هذا الإقليم من المرتفعات هضبة الصمان التي تمتد موازية لساحل الخليج العربي وهضبة طويق في الوسط الجنوبي.

_ 1 يقول عبد الله بن الدمينة الخثعمي: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجدًا على وجد ويقول الصمة بن عبد الله: بنفسي تلك الأرض ما أطيبَ الربا ... وما أحسنَ المصطاف والمتربعا 2 حافظ وهبة: المصدر نفسه، ص 45. الألوسي: المصدر نفسه، 196، 198.

الحرات

الحرات: ويشاهد في شبه جزيرة العرب ما يطلق عليه اسم "الحرات أو الحرار" "مفردها: حَرَّة"، وهي تكوِّن مظهرًا مهما من المظاهر الطبيعية فيها وبخاصة في الحجاز واليمن. وهي مناطق تقوم عند أفواه البراكين الخامدة، وقد تشكلت من تفتت اندفاعاتها "اللافا"، حيث تسيل اللافا إلى الأطراف فتبرد ثم تتفتت بفعل التقلبات الجوية فتكوِّن ركامًا من الحجارة البركانية يغطي الأرض بطبقات سميكة أو رقيقة. وقد وصفها العلماء فقالوا: "الحرة: أرض ذات حجارة سوداء نخرة كأنها أحرقت بالنار" ويصفها ياقوت الحموي بقوله: "الحرة: الأرض التي ألبستها الحجارة السود ... وتكون الحرة مستديرة فإذا كان فيها شيء مستطيل ليس بواسع فذلك الكراع, والكراع: أعناق البراكين". والواضح أن شبه الجزيرة قد شهدت في قديم الأزمنة نشاطًا بركانيا واسع النطاق، ويروى أن بعض البراكين لم يزل ثائرًا حتى العهد الأموي "حرة النار في عهد عثمان بن عفان". وقد أشار

مؤرخو العرب إلى أن آخر انفجار بركاني قد وقع سنة 654هـ/ 1256م في الحجاز قريبًا من المدينة المنورة؛ فهددها بالدمار واستمر عدة أسابيع. وتكثر هذه الحرار في الأقسام الوسطى ولا سيما الغربية والجنوبية من شبه الجزيرة. ففي الحجاز تقع فيما يلي جبال السراة نحو الشرق، وهي تمتد شمالا حتى تتصل بالحرار التي نشاهدها في منطقة حوران وجبل العرب "الصفاة واللجاة". وفي اليمن تقع بالقرب من المدن التاريخية القديمة كحرة أرحب شمال صنعاء، وكبعض الحرار بالقرب من ذمار وشمال وادي أبرد وقرب صرواح ومأرب. ويعتقد بعض العلماء أن خراب بعض المدن القديمة كمأرب وشبوة كان بتأثير هياج البراكين, ولعل عدد الحرار في شبه الجزيرة يقارب الثلاثين ذكرها ياقوت الحموي بأسمائها وأوصافها ومواقعها1. وبعض هذه الحرار -بما كان ينشر من صيحات مرعبة وسحب دخان قاتمة وكتل نيران متأججة- قد ترك صداه في الشعر الجاهلي مثل: حرة قوس وحرة لبن2. ومن الحرار في شمالي شبه الجزيرة حرة "العويرض" شمال مدائن صالح، وحرة "خيبر" وهي أعظم وأوسع حرات شبه الجزيرة وتقع إلى الشمال من المدينة المنورة، وحرة "الكسب" وتقع في جنوبها، وتوجد فيها منطقة تسمى "مهد الذهب" لما يحتوي باطنها من هذا المعدن. وحول المدينة المنورة نفسها حرة اقترن اسمها بحادثة تاريخية شهيرة "موقعة الحرة" بين جند يزيد بن معاوية وأهل المدينة الثائرين عليه، وحرة بني هلال "ابن عامر بن صعصعة" على طريق اليمن. ومن الملاحظ أن التربة المتفتتة لهذه الحرار خصبة صالحة للزراعة، ولا سيما بسبب وجود العيون والأودية التي تختزن في جوفها طبقة مائية قريبة من سطح الأرض. وقد استغلها العرب استغلالا جيدا قبل الإسلام وبعده, وبخاصة منها حرة خيبر التي كثرت

_ 1 راجع مادة حرة في معجم البلدان. 2 كقول الشاعر: بحرة قوس وجنبي محفل ... بين ذراه كالحريق المشعل أو كقول شاعر آخر: بحرة لبن يبرق جانباها ... ركود ما تهد من الصياح راجع جواد علي: المصدر نفسه، 91-92.

زراعاتها وبساتينها. إنما ظهور العيون فيها بكثرة قد جعلها موطنًا من مواطن الحمى حتى لقد ضرب المثل بالحمى "الخيبرية"1.

_ 1 كقول أحد الشعراء: كأن به -إذ جئته- خيبرية ... يعود عليه وردها وملالها

الدارات والبرق

الدارات والبرق مدخل ... الدارات والبُرَق: ووجد في شبه الجزيرة العربية كثير من الدارات والبرق تغنى بها شعراء الجاهلية وغيرهم، وكانت "تطيب بها نفوسهم وتهتز من بهجتها قدورهم ورءوسهم" بالإضافة إلى كثير من الرياض والمتنزهات كما ذكر الألوسي.

الدارات

الدارات: أما الدارات "مفردها: دارة" فهي الأماكن التي تنزل فيها القبيلة، وقد عرفت بكونها "كل جوبة بين جبال في حزن أو سهل أو رمل مستدير في وسطه فجوة، وهي أرضون سهلة لينة بيض في أكثر الأحيان، وتنبت فيها الصليان والأعشاب والنباتات الصحراوية"، وبأنها "الدار غير أنها أخص فكل دارة دار وليس كل دار دارة ... وكلها سهول بيض تنبت النصيَّ والصليل وما طاب ريحه من النبات"1. ومن أشهر دارات العرب دارة جلجل التي وردت في شعر امرئ القيس2، ودارة صلصل التي وردت في شعر جرير3، ودارة خَنْزَر التي ذكرها الشاعر الجعدي4، ودارة الصفائح التي ذكرها الأفوه5، ودارة مِحصَن التي ذكرها دريد بن الصمة6، ودارة الآرام التي كانت حافلة بالنبت ولا سيما شقائق النعمان، كما جاء في شعر برج بن خنزر المازني7.

_ 1 د. جواد علي: المصدر نفسه، 1/ 96؛ محمود شكري الألوسي: المصدر نفسه، 1/ 222-223. 2 ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جَلجل 3 ولما حل أهلك يا سليمى ... بدارة صلصل شحطوا المزارا 4 ألمَّ خيال من أميمة موهنا ... طروقًا وأصحابي بدارة خنزر 5 وتبكيها الأرامل بالمآل ... بدارات الصفائح والنصيل 6 ودارة محصن من ذي طلوح ... فسرداح المثامن فالضواحي 7 فأبرق وأرعد لي إذا العيس خلفت ... بنا دارة الآرام ذات الشقائق

أيام الحجاج بن يوسف. ودارات العرب كثيرة قدرها الباحثون بحوالي مائة وعشر في شبه الجزيرة1.

_ 1 الألوسي: المصدر نفسه: 1/ 222-225.

البرق

البرق "مفردها: بُرْقة": أما البرق فقد عرفها ابن منظور -صاحب لسان العرب المحيط- بأنها "الأرض الغليظة المختلطة بحجارة ورمل, فإذا اتسعت البرقة فهي الأبرق" ونقل عن الأصمعي قوله: "الأبرق والبرقاء: غلظ فيه حجارة ورمل وطين مختلطة وكذلك البرقة, والجمع: برق"1. ويظهر أن المقام فيها كان يطيب للعرب لما تحوي من عناصر النبات. وبرق ديار العرب تنوف على المائة ذكر بعضها في شعر الجاهليين وغيرهم، كبرقة ثهمد التي وردت في شعر طرفة بن العبد2، وبرقة أحواذ التي وردت في شعر ابن مقبل3. وقد أورد الألوسي أسماء كثير منها4. على أن شبه الجزيرة تحوي عدا ذلك واحات كثيرة العدد تتوفر فيها شروط الحياة المستقرة، أهمها واحة المدينة التي يتوفر فيها الماء فتكثر فيها الزروع، وواحة مكة، وواحة العلا، وواحة فدك، وواحة الحسا، وواحة بيشة، ومساحة بعض هذه الواحات كبيرة تصل إلى بضع مئات من الكيلومترات المربعة, وتشتمل على عدة قرى ومدن.

_ 1 راجع لسان العرب - طبعة حديثة مبوبة على الحروف الهجائية "دار لسان العرب البيروتية 1970". 2 لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد 3 طربت إلى الحي الذين تحملوا ... ببرقة أحواذ وأنت طروب 4 راجع الألوسي: المصدر نفسه، 1/ 225-226.

نظام التصريف المائي في شبه جزيرة العرب

نظام التصريف المائي في شبه جزيرة العرب مدخل ... نظام التصريف المائي في شبه جزيرة العرب: نظام التصريف المائي في شبه جزيرة العرب معقد، وتأخذ الوديان اتجاهات مختلفة بحسب اتجاه الانحدارات. منها ما ينتهي في البحر الأحمر وتتميز بكونها قصيرة على العموم، مجاريها عميقة وانحدارها شديد، تسير فيها السيول بسرعة جارفة، ثم تضمحل فجأة بمجرد انحباس المطر. وأما الأودية التي تخترق المناطق الداخلية فهي أكثر طولًا ومجاريها أقل عمقًا وأكثر اتساعًا. ومن أهم الوديان الداخلية:

وادي الحمض

وادي الحمض: الذي يبدأ من جنوب حرة خيبر الواقعة إلى الشمال من المدينة المنورة، ويتجه نحو الجنوب الغربي، وعندما يصل إلى القرب من يثرب يتصل به وادي العقيق ثم وادي القرى فيأخذ الاتجاه الشمالي الغربي لينتهي بعدئذٍ في جنوب مدينة الوجه على البحر الأحمر.

وادي الرمة

وادي الرمة: الذي يبدأ من شرق حرة خيبر فيأخذ الاتجاه الشرقي بعد أن تلتقي به عدة وديان أخرى، ثم يسير جنوبا بشرق ثم شمالا بشرق مارًّا بالقرب من جبل القصيم في نجد، ويتم سيره مخترقا صحراء النفود ملامسا الدهناء حتى الغرب من الكويت حيث يأخذ اسم "الباطن" لينتهي بعدئذٍ في شط العرب قرب البصرة, بعد أن يكون قد قطع حوالي 950 كيلومترًا.

وادي حنيفة

وادي حنيفة: ويبدأ من غربي جبل طويق مخترقًا منطقة العروض "اليمامة" ثم يتجه شرقا نحو الخليج العربي. وادي الدواسر: الذي تتصل به عدة شعاب، ويبدأ من شرقي مرتفعات العسير، ويمثل الحد الجنوبي لنجد, وينتهي إلى الربع الخالي.

وادي الدواسر

وادي الدواسر: الذي تتصل به عدة شعاب، ويبدأ من شرقي مرتفعات العسير، ويمثل الحد الجنوبي لنجد, وينتهي إلى الربع الخالي.

وادي السرحان

وادي السرحان: الذي يبدأ من جنوب جبل العرب "في الجمهورية العربية السورية" ويستمر في سيره حتى الجوف في شمالي نجد. غير أن شبه الجزيرة العربية خالية الآن من الأنهار الجارية، باستثناء وادي "حجر" في اليمن، ويبلغ طوله حوالي 100كم، ويعتبر النهر الوحيد الدائم الجريان في شبه الجزيرة. إنما يلاحظ أن شبه الجزيرة مقطعة بفعل التعرية المائية، بدليل وجود الأودية المارة الذكر التي لا يزال الصلصال يغطي قيعان بعضها، الأمر الذي لفت نظر العلماء إلى افتراض كون شبه الجزيرة قد مرت في عهود قديمة مطيرة، فكثرت فيها الأنهار الطويلة ذات المياه دائمة الجريان1، ثم تحولت بمرور الزمن إلى وديان جافة، بعد أن طرأ تغيير عام على المناخ، فحل الجفاف محل الرطوبة.

_ 1 أشارت كتب اليونان والرومان قديمًا إلى وجود أنهار طويلة دائمة الجريان في بلاد العرب، ومنها ما ذكره "هيرودوتس" من أن نهرا عظيما يسمى "كورس" كان يجري فيها وينصب في بحر الإريتريا ويقصد به البحر الأحمر، "راجع جواد علي: المصدر نفسه، 1/ 98" كما ذكر بطليموس اسم نهر عظيم سماه "لار" ينبع من منطقة نجران ويسير شمالا بشرق، مخترقًا وسط شبه الجزيرة، ليصب في خليج العرب.

وقد رجح هذا الافتراض الحفريات التي جرت في ضفاف وادي الرمة ووادي الدواسر وفي قيعانها1. وقد استُنتج من ذلك أن المياه كانت تجري فيها بصورة دائمة بدليل بعض آثار المدن والقرى وبقايا الأشجار التي وجدت مدفونة على جوانبها. هذا بالإضافة إلى ما يشاهد في مناطق شبه الجزيرة الداخلية من بحيرات ومياه جوفية جارية قريبة من سطح الأرض تكشف عنها بعض الحفر الطبيعية أو الآبار الاصطناعية، وما عثر عليه المنقبون والبحاثة من آثار سدود ونواظم اصطناعية للمياه في بعض المناطق من هضبة نجد ترجع إلى ما قبل الإسلام ومنها صهاريج أرضية متصلة بعضها ببعض بأنفاق وعليها فتحات لاستقاء الماء منها بالإضافة إلى آثار السدود والخزانات التي تشاهد اليوم في اليمن.

_ 1 وجد السياح في تلك المناطق محارا من النوع الذي يكون عادة في المياه العذبة وأدوات من الصوان ترجع إلى ما قبل التاريخ والعصور الحجرية وبقايا عظام ترجع إلى هذه الدهور.

مناخ شبه جزيرة العرب

مناخ شبه جزيرة العرب: حرارة الجو: مناخ شبه الجزيرة صحراوي في الشمال والوسط مداري في السواحل الجنوبية، وهو على العموم حار في الصيف مع جفاف يعم المناطق الداخلية؛ وذلك بسبب وقوع البلاد على خطوط طول وعرض معينة ومختلفة, وتكون الفروق الحرارية اليومية والفصلية كبيرة. ويختلف المناخ من مكان إلى آخر بحسب الارتفاع عن سطح البحر أو بحسب سقوط المطر في بعض الأماكن، إذ يخفف من حرارة الجو. وأشد المناطق حرارةً في الصيف الصحاري الداخلية كالربع الخالي والنفود, غير أن رطوبة الجو على السواحل تزيد من وطأة الحر فتجعلها لا تطاق، كما هو الأمر في سواحل الخليج العربي وسواحل تهامة على طول البحر الأحمر وسواحل عدن وحضرموت ومسقط. وأقل المناطق حرارة في الصيف المناطق الجبلية في عمان واليمن والعسير وهضبة نجد. أما في الشتاء فقد تنخفض الحرارة إلى الصفر في بعض هذه الجهات. غير أن الشيء الذي يسبب الضيق هو كثرة تقلب الرياح وتغير سرعتها من آنٍ لآخر فجأة, وقد تصل أحيانا إلى سرعة 8-33 كم في الساعة فيمتلئ الجو بالغبار الكثيف، وقد

يدوم ذلك يومين أو ثلاثة، وبشكل عواصف شديدة وأعاصير، فيغبر الأفق وتكفهر السماء وتحتجب الشمس، ويكتسب الجو لونا قاتما، يميل أحيانا إلى الصفرة أو الحمرة بحسب لون الرمال التي تحملها الرياح، ويؤثر ذلك على النبات تأثيرًا سيئا فيتلفه. وبينما تكون الرياح الشمالية "الشمأل" والشرقية "ريح الصبا" منعشة تكون ريح الجنوب "السموم" شديدة الوطأة, تلهب الوجوه كاللهب الكاوي.

رطوبة الجو

رطوبة الجو: تعتبر شبه الجزيرة قليلة الأمطار بوجه عام لا سيما المناطق الداخلية. فقد يمر على بعض المناطق الصحراوية بضع سنوات لا يسقط فيها المطر إلا نادرًا، بالرغم من وقوع شبه الجزيرة على بحار ثلاثة؛ ذلك أن مساحة البحر الأحمر والخليج العربي أعجز من أن تمد المناطق الداخلية بالرياح الرطبة. أما المحيط الهندي فإن رياحه شبه الموسمية المشبعة ببخار الماء يقتصر مداها على جبال اليمن فيغيثها بأمطار صيفية لا بأس بغزارتها, وأما الداخل فلا تكاد تصل إليه إلا وتكون قد فقدت رطوبتها فتستحيل إلى رياح جافة حارة "رياح السموم" ولذلك فإن العرب قد اعتبروا المطر غوثا من السماء فسموه "الغيث" وقد تهطل الأمطار بغزارة على بعض الأماكن، كما يذكر المؤرخون عن المدينة المنورة ومكة التي كان يهدد كعبتها أحيانًا بالهدم1، ولكن هطولها لا يستمر إلى مدة قصيرة قد لا تتجاوز بضع ساعات، فتنتعش بعض الأماكن الصحراوية، وينتج عنها نمو الكلأ لمدة وجيزة، ثم ينعدم هطولها مدة طويلة، فتصبح المواشي مهددة بالهلاك من قلة المرعى، وينعدم النشاط الزراعي والبشرى، الأمر الذي جعل حياة العرب في ديارهم غير مستقرة، دَيْدَنهم التنقل من مكان إلى آخر بحثًا عن الماء والكلأ. وكثيرًا ما ينشأ النزاع والقتال بين القبائل التي تتنافس في الحصول عليهما. أما حياة الزراعة والاستقرار فلا تقوم إلا في الواحات التي تتوفر فيها المياه الجوفية قريبة من سطح الأرض، والينابيع والآبار، وهي على العموم قليلة لا تتجاوز الثلاثين في هذه المساحات الشاسعة ومبعثرة هنا وهناك, وقد أوردنا فيما سبق أسماء بعضها.

_ 1 فيليب حتي: تاريخ العرب "مطول" 1/ 20-21.

نباتات وحيوانات شبه جزيرة العرب

نباتات وحيوانات شبه جزيرة العرب: لعله أصبح معروفًا -مما سبق- أن شبه جزيرة العرب كانت على الغالب مطيرة وخصبة صالحة للزراعة، وأطرافها وأواسطها مزدهرة مأهولة بالسكان في الأزمنة الخالية، وذات غابات كثيفة وأشجار ضخمة ونباتات متنوعة، حتى إذا قلت رطوبتها بتغير المناخ تدريجيا تحولت التربة الخصبة إلى رمال وصحارى، فاضطر السكان إلى الهجرة منها إلى المناطق الشمالية في الهلال الخصيب. على أن الدراسات التي قام بها العلماء عن أنواع النباتات والحيوانات التي كانت تعيش في شبه الجزيرة لم تسفر عن نتائج باهرة، وهي غير كافية لإعطاء حكم صحيح عليها. وقد تفيد مراجعة بعض النصوص القديمة والأشكال والصور التي رسمها القدماء في ألواحهم الكتابية، وعلى الجدران للزخرفة والزينة في معرفة هذه النباتات والحيوانات. كما قد تفيد مراجعة بعض كتب المؤرخين الإسلاميين أيضًا، فقد جاء فيها أن مما كان يزرع في شبه الجزيرة: النخيل في الحجاز والقمح والشعير والذرة والأرز في اليمن وعمان والحسا, أما الكرمة فربما تكون قد دخلتها من الشام قبل أو بعد القرن الرابع الميلادي. ومن مزروعات اليمن الشهيرة اللبان والمر، وبعض الأشجار الأخرى التي يستخرج منها الصمغ والبخور, وقد لعبت هذه المحاصيل دورًا مهمًّا في تجارة اليمنيين القدماء. كما اشتهر لدى عرب الجاهلية أنواع من النباتات الصحراوية كشجر السنط والأثل والغضا الذي ينتج عنه الفحم والطلح الذي يستخرج منه الصمغ. وكان العرب يزرعون في الواحات الرمان والتفاح والمشمش واللوز والليمون والبطيخ "وكان كما يروى محببًا للرسول الكريم" والموز وربما يكون الأنباط واليهود هم الذين أدخلوا هذه الأشجار إلى شبه الجزيرة. وقد وردت في المصادر العربية لفظة "حمى" التي تطلق على أمكنة مزروعة يحميها شيخ القبيلة لقبيلته ومواشيها، وربما كانت تحتوي على نباتات وأشجار لا نستطيع تعيين أنواعها. وأشهر ما جاءنا من الأسماء "حمى الربذة" الذي عناه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لنعم المنزل الحمى"، وحمى "الشرى" وحمى "ضرية" وهو لكليب بن وائل، وكان في ناحية منه قبره الذي يزعم بدو تلك المناطق أنه معروف لديهم، وقد عرفه ياقوت بقوله: "وهو سهل الموطئ كثير الخلة وأرضه صلبة ونباته مسمنة وفيه كانت

ترعى إبل الملوك"1 وللعرب في الحمى أشعار كثيرة, فمن قول لأعرابي: خليلي ما في العيش عيب لو أننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها ليالي أثواب الصبا جددٌ لنا ... قد أنهجت هذي عليها جديدها أما حيوانات شبه الجزيرة فأهمها وأبرزها الجمل الذي يلائم المناطق الصحراوية لطول المدة التي يتحمل فيها العطش. فالإبل تستطيع أن تسير 17 يومًا دون أن تتناول الماء في جو ترتفع فيه الحرارة إلى 100 درجة فهرنهايتية، بينما لا تطيق الأغنام والماعز انحباس الماء عنها أكثر من يوم أو يومين، كما يستطيع الجمل أن يشرب عددًا كبيرًا من جالونات الماء دفعة واحدة، وأن يتحمل ارتفاعا في درجة الحرارة يصل إلى 11 درجة فهرنهايتية فوق المعدل العادي لدرجة حرارة الجسم دون أن يفقد الكثير من الماء بالعرق, والإبل تختزن الطاقة شحمًا في أسنامها. وينقل "أرتميدس" اليوناني وغيره عن "إسترابون" أخبارًا توحي بالثقة ربما كانت منقولة عن "أرسطون" "أواخر القرن 3 ق. م" أنه وجد في الشمال الأوسط لشبه جزيرة العرب "الحجاز" قطعانًا من الحيوانات البرية وحميرًا وحشية وجمالًا برية وأيائلَ وغزلانًا، وكذلك أسودًا كثيرة ونمورًأ وذئابًا. كما أثبت "ليتمان" "1943م" أن الرسوم المنقوشة على الصخور التي عثر عليها في أثناء البحث عن النقوش, التي تركها قوم ثمود على الصخور تدل على وجود حيوانات صيد مثل الغزلان البرية وبقر الوحش والوعول والخنازير البرية والأرانب البرية والنعام والأسود والذئاب والضباع، بالإضافة إلى حيوانات مستأنسة كالجمال والخيول والكلاب والماعز2. ولا يستطاع معرفة متى استؤنس الجمل في شبه الجزيرة. وقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية أن ذلك قد حصل حوالي القرن 11 ق. م. وفي جنوبي شبه الجزيرة، لكن بعض الدلائل تشير إلى أنه قد تم قبل ذلك بكثير. فقد تحدث "التوراة" "سفر القضاة، إصحاح 7" عن حملة عربية بدوية قام بها المديانيون والعمالقة وبنو الشرق على

_ 1 ياقوت: معجم البلدان، ج2، مادة حمى. 2 دائرة المعارف الإسلامية، مادة بدو.

اليهود؛ بسبب نزاع على موارد القوت والمزروعات في فلسطين. تقول التوراة: "كان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالِّين في الوادي كالجراد في الكثرة، وجمالهم لا عددَ لها كالرمل الذي على شاطئ البحر"، وأن ذلك قد حدث في أيام يربعل أي: جدعون أحد قضاة بني إسرائيل الذي حكم في غضون القرن 15 ق. م. فإذا كان العرب قد حملوا على اليهود بهذا العدد من الجمال المستأنسة "طبعًا"، أفما يدل ذلك على استئناسهم لهذا الحيوان قبل القرن 15 ق. م. بقرون عديدة؟ وإلا فكيف يستطيعون جمع هذا العدد الكبير منها للقتال؟ أما الجواد فتقول دائرة المعارف: إنه استخدم لأول مرة في الركوب بعد سنة 500 ق. م. وربما في تاريخ متأخر يرجع إلى أول عهد المسيح، وبذلك قد كسب العرب حيوانًا أليفًا جديدًا يمتطون صهوته، كان أنفع وأجدى لهم من الجمل في ميدان القتال.

الفصل الثالث: صلة العرب بالساميين

الفصل الثالث: صلة العرب بالساميين مدخل ... الفصل الثالث: صلة العرب بالساميين الشعب العربي هو الشعب الذي قطن شبه جزيرة العرب منذ القرون الموغلة في القدم، والتي لا ندرك مداها البعيد. وقد اصطلح العلماء على اعتبار هذا الشعب من الشعوب السامية التي كونت سكان الشرق الأوسط منذ أن عرف الماضي التاريخي لهذه المنطقة. لقد لاحظ علماء اللغات أن صفات مشتركة تطبع هذه الشعوب بطابعها، فهي تشترك في كثير من نظمها السياسية وتقاليدها الاجتماعية وخصائصها اللغوية، وأوجه الشبه ظاهرة بين اللغات التي يتكلم بها أفرادها، وهي اللغات: العربية والعبرية والسريانية والآشورية والبابلية والكنعانية والفينيقية والآرامية والحبشية والنبطية ولهجات اليمن الجنوبية، فذهبوا إلى أن هذه اللغات تؤلف أسرة واحدة باعتبار أنها تشترك أو تتقارب في جذور الأفعال وتصاريفها، وفي أصول المفردات والضمائر والكلمات التي تدل على القرابة الدموية، وفي أسماء أعضاء الجسم والأعداد1، وبخاصة في تلك الصفة المهمة التي تتميز بها مجموعة اللغات السامية، وهي كون أفعالها مؤلفة من أصول ثلاثية الحروف على الأغلب، وأن الاشتقاق لا يتم بتغيير حروفها، بل بتغيير الحركات في داخل الكلمة الواحدة. مثال ذلك -في اللغة العربية- فعل قَتَلَ وهو أصل يتضمن معنى القتل، فبتغيير الحركات في حروفه تحصل مشتقات عدة أفعال أو أسماء أو نعوت "قَتَلَ، قَتْل، قِتْل، قُتُل" وقد تمد إحدى الحركات فيحصل "قاتل، قتيل، قتول، قتال ... إلخ" فإنه بمجرد تغيير الحركات في وسط الكلمة يتغير المعنى2. يضاف إلى ذلك أن ليس في اللغات السامية

_ 1 الدكتور جواد علي: 1/ 148. 2 جورجي زيدان: طبقات الأمم، ص42.

ما نراه في اللغات الآرية من إدغام كلمة بأخرى لتصبحا كلمة واحدة تدل على معنى مركب1. وقد استنتج العلماء من ذلك، ولا سيما من تشابه الشعوب التي تتكلم هذه اللغات في عاداتها وتقاليدها الاجتماعية وفي طراز معيشتها وطقوسها الدينية، وفي التعابير التي تدل على التنظيم السياسي والاجتماعي والديني عندها، بأنها تؤلف مجموعة واحدة، وأن ثمة وحدة مشتركة تجمع شملها وتنظمها في أصل واحدة قالوا: إنه الأصل السامي نسبة إلى سام بن نوح، فصارت تعرف باسم الشعوب السامية، واللغات التي تتكلم بها باسم اللغات السامية، بعد أن كان يطلق عليها اسم اللغات الشرقية, كما أطلقوا على اللغة الأم التي انبثقت عنها اسم "اللغة السامية الأم". لكنهم اختلفوا في أيها تكون اللغة الأم، فقال بعضهم بأنها اللغة العبرية وآخرون بأنها السريانية وجماعة أخرى بأنها اللغة العربية. غير أن المستشرقين رأوا في النهاية أن ذلك ضرب من العبث؛ ذلك أن اللغات السامية الباقية إنما هي حصيلة سلسلة من التطورات لا تحصى، مرت بها كل لغة من هذه اللغات حتى وصلت إلى حالتها الحاضرة؛ فأصبحت مزيج لغات ولهجات متفرعة عن لغة محكية زالت من الوجود وانقرضت2. غير أن لجورحي زيدان رأيًّا في اللغة العربية إذ يقول في كتابه "طبقات الأمم، ص42": إن اللغة العربية هي أسمى اللغات السامية, ومعرفتها ضرورية لإتقان أخواتها. ظهرت التسمية للمرة الأولى عام 1781م في دراسة قام بها المستشرق النمساوي "شلوزر SCHLOZER" وقد أخذها عن التوراة، ذلك أن التوراة يرجع الخليقة إلى آدم وذريته، ومنهم سام وحام ويافث أولاد نوح، مبينًا أن البشر كانوا على لسان واحد ثم تفرقت الألسن بتفرق أنسال هؤلاء الأبناء على مختلف المناطق في العالم "من هؤلاء تفرقت جزائر الأمم بأراضيهم، كل إنسان كلسانه، حسب قبائلهم بأممهم"3. وقد حدد

_ 1 إسرائيل ولفنسون: اللغات السامية، ص14-15 "راجع محمد عزة دروزة: تاريخ الجنس العربي، 1/ 12". 2 الدكتور جواد علي: 1/ 167. 3 سفر التكوين: الإصحاح 10 "وبحسب التوراة تنقسم شعوب العالم إلى ثلاثة: الساميون، الحاميون، واليافثيون أي: الآريون".

العلماء محيط الساميين الجغرافي بالمنطقة التي نسميها اليوم "الشرق العربي" بما في ذلك شبه جزيرة العرب، ولكن عدا مصر وما إلى الغرب منها. على أنني -قبل الاسترسال في البحث- أود أن أعلق على ما ورد في سفر التكوين من تقسيم للبشر, بأنه لا يستند إلى أسس منطقية أو علمية أو قومية صحيحة، بل إن الاعتبارات السياسية هي التي وجهت القائمين على أمور الإسرائيليين، إذ حشروا في القائمة السامية شعوبًا لا يعدها العلم الحديث من جماعة الساميين مثل "العيلاميين" وغيرهم، بينما أقصوا منها جماعة من الساميين مثل الفينيقيين والكنعانيين. ويعتقد "بروكلمان"، شيخ المستشرقين، أن إقصاء العبرانيين للكنعانيين من جدول أنساب الساميين كان متعمدًا لأسباب سياسية ودينية مع علمهم بالصلات التي تربطهم بهم1. وما عدا ذلك أن إرجاع البشر في جميع أرجاء العالم إلى نفر ثلاثة من أبناء نوح, شيء لا يأتلف مع المنطق والعقل والعلم، ومن الصعب التصديق بتكاثرهم على الوجه الذي يريد العبرانيون أن نتصوره، وهو شيء مخالف "لطبائع الكائنات" كما أشار إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، مع تخصيص منه لما يتعلق بتناسل العرق الأسود من حام بن نوح الذي كان بهذا اللون. يقول ابن خلدون: "ولما رأى النسابون اختلاف الأمم بسماتها وشعارها حسبوا ذلك لأجل الأنساب، فجعلوا أهل الجنوب كلهم السودان من ولد حام "الحاميون"، وجعلوا أهل الشمال كلهم أو أكثرهم من ولد يافث "الآريون" وأكثر الأمم المعتدلة وأهل الوسط ... من ولد سام "الساميون"، وهذا الزعم ... ليس بقياس مطرد. وما أداهم إلى هذا الغلط إلا اعتقادهم أن التمييز بين الأمم إنما يقع بالأنساب فقط ... فتعميم القول في أهل جهة معينة من جنوب أو شمال بأنهم من ولد فلان المعروف لما شملهم من نحلة أو لون أو سمة وجدت لذلك الأب إنما هو من الأغاليط التي أوقع فيها الغفلة عن طبائع الأكوان والجهات ... "2. وقد أسرف بعض المفكرين الأوروبيين مثل غوبينو وهوستن تشمبرلن والفيلسوف الفرنسي "أرنست رينان" فتعدوا المشابهات اللغوية والأمور الثقافية والاجتماعية المشتركة

_ 1 د. جواد علي، 1/ 150. 2 مقدمة ابن خلدون - طبعة إحياء التراث العربي في بيروت - طبعة ثالثة، ص80.

بين الشعوب السامية إلى الزعم بأن ثمة عقلية خاصة تطبع الشعوب السامية بطابعها وتختلف عن العقلية الآرية. فقد عمد رينان في كتاب ألفه عن أديان الساميين إلى تحريف نظرية "شلوزر" في الأصل السامي, فزعم أن الساميين يرجعون إلى أصل واحد يتميز أفراده بالنظرة الجزئية إلى الأشياء وتأثرهم بالغيبيات، وميلهم إلى البساطة في التفكير، وعزا ظهور الأديان السماوية التوحيدية عندهم إلى هذه الصفات، معتقدًا أن هذه الصفات العقلية ترجع إلى عوامل بيولوجية موروثة من جنسهم وتختلف عن عقلية الآريين. ويبدو هنا تأثره بالنصرة القومية والروح الاستعمارية اللتين سادتا أوروبا في القرن التاسع عشر، فشاء أن يصم الشرقيين الساميين بالتخلف العقلي فطريًّا، قياسًا بالتفوق العقلي عند الأوروبيين الآريين خدمةً منه لغابات استعمارية مقصودة. غير أن أغلبية العلماء المختصين شجبوا مزاعمه؛ لعدم ثبوت نظرية العرق الصافي. فما من شعب يستطيع أن يدعي صفاء عرقه ودمه، بل ثمة شبه إجماع على أن التمازج بين الشعوب شيء مسلم به، وأن اختلاف الشعوب في العقلية والتفكير لا يكون نتيجة صفات عرقية خاصة، بل نتيجة ظروف اجتماعية؛ ولذا فإن المهم في بحث مسألة الشعوب السامية هو دراسة الحقل "حقل اللغة والتقاليد الاجتماعية" الذي تظهر فيه الخصائص والصفات المشتركة التي تميز حضارتها، وأحرى أن تكون التسمية السامية محض اصطلاح أو مفهوم لغوي واجتماعي لا ينطوي على أي تمييز عرقي. على أساس هذا المنهج انصرف العلماء بعدئذ ٍ إلى بحث المسألة السامية، ووجهوا اهتماما خاصا إلى البحث حول المهد الذي نشأ فيه الساميون، وكيف ومتى انتشروا منه, وإلى أي الجهات توجهوا واستقروا. وقد اختلفت وتناقضت أقوالهم إلى أن تركزت الآراء حول نظريات خمس:

النظرية الأولى

النظرية الأولى: ومن القائلين بها "جون بيترس" ويلخص رأيه بأن أرض أرمينية وهضاب آسيا الوسطى قرب جبال آرارات هي المهد الأول للساميين والآريين معًا. وحجته في ذلك أن الأنف الحثي شبيه كل الشبه بالأنف العبراني، وفي هذه السمة دلالة على الأصل والمكان، لكنه غفل عن كون الأنف العربي مختلفًا عن مثل هذا الأنف.

النظرية الثانية

النظرية الثانية: وهي تقول بأن أرض بابل "بلاد الرافدين" هي مهد الساميين؛ لأنها أقدم أرض عمرها نوح. وواضح أن القائلين بهاتين النظريتين قد تأثروا برواية العهد القديم عن الطوفان، فزعموا أن الذين نجوا منه على سفينة نوح قد انتشروا من وادي الرافدين في بقية بقاع الشرق العربي. وقد اشتركوا في القول بأن أرض أرمينية وبابل هما المكان الأنسب الذي يتفق مع رواية التوراة في مسألة الطوفان. وقد كوَّن "فون كريمر وغويدي" -وهما من القائلين بهذه النظرية- حجتهما من دراسة الكلمات المألوفة في اللغات السامية، إذ رأيا أن اسم الجمل تشترك فيه جميع الشعوب السامية، بينما هي لا تشترك في أسماء كالنعامة والنخل والتمر. وبما أن منشأ الجمل في زعمهما هو هضاب آسيا الوسطى -قرب نهري سيحون وجيحون- فيجب أن تعتبر هذه المناطق الموطن الأصلي للساميين الذي اضطرتهم ظروف قاسية إلى الهجرة منها عبر منطقة إيران إلى العراق، واستقروا في بابل، لا سيما وأن المفردات التي تدل على السهول والمياه والنبات مشتركة بين الشعوب السامية، وأن منطقة الرافدين غنية بها، مما يدل على كونها أول موطن للساميين، ومنه انتشروا إلى المناطق المجاورة. والانتقاد الذي يوجه إلى هاتين النظريتين كونهما: أولًا: تعتمدان "كما يقول المستشرق نولدكه" على المقابلات والموازنات اللغوية في إثبات حقائق علمية ليس من المعقول أن يكتفى لدعمها بكلمات معدودة، لم يثبت ثبوتًا تامًّا كون جميع الساميين قد أخذوها من العراق أو من غيره. وثانيًا: تتجاهلان حقيقة مهمة هي أن قانون التقدم الاجتماعي يفرض أن الأقوام الرُّحَّل هم الذين يهاجرون من مناطقهم القاحلة إلى المناطق الخصبة؛ كي يصبحوا هناك زراعا مستقرين، وليس من المعقول أن يهاجر المستقرون في المناطق الغنية بالسهول الخصبة والزراعات والنباتات الوفيرة إلى مناطق صحراوية قاحلة محرومة من المياه والنباتات كشبه جزيرة العرب ليصبحوا فيها رعاة متنقلين، علمًا بأن شبه الجزيرة كانت تعاني في الألف الرابعة قبل الميلاد -وهو الزمن الذي اصطلح العلماء على كونه عصر بداية الهجرات السامية- جفافًا ومحلًا بسبب التغير الذي افتُرض كونه طرأ على مناخها المطير.

النظرية الثالثة

النظرية الثالثة: وتزعم أن جزر البحر الأبيض المتوسط هي مهد الساميين، هجروها إلى القارات المجاورة عندما أخذت جزرهم تغور تباعًا بسبب عوامل جيولوجية معينة، وتعتبر هذه صنوًا للنظرية التالية أي:

النظرية الرابعة

النظرية الرابعة: التي تقول: إن موطن الساميين الأول هو إفريقيا، مع اختلاف بين العلماء في تحديد المكان الذي كان مهدًا لنشوئهم، والطريق الذي سلكته هجرتهم إلى شبه جزيرة العرب والهلال الخصيب1. ويعتمد أصحاب هذه النظرية في دعمها على دراسات فيزيولوجية مثل تكوين الجماجم، بالإضافة إلى البحوث اللغوية. ويزعم العالم "جيرلند" أن الساميين والحاميين من سلالة واحدة، ومن دوحة تفرعت منها جملة فروع. واعتمد "نولدكه" على التشابه الكبير بين اللغة السامية واللغة الحامية: المصرية القديمة والحبشية ولغة عرب الجنوب، وعلى اشتراك الأحباش وعرب الجنوب في عبادة الإله "ألمقة". كما اعتمد آخرون في دعم النظرية إلى ما جاء به "دارون" من كون الإنسان الأول قد نشأ في إفريقيا، ومنها انتشر البشر إلى الجوار2. غير أن ما ادعاه أصحاب النظرية من تشابه بين اللغات السامية والحامية "لغة عرب الجنوب والمصرية القديمة والحبشية" واشتراك عرب الجنوب مع الأحباش في عبادة الإله "ألمقة" إله سبأ الأعظم لا يكون حجة قاطعة للتسليم بصحتها، لا بل يبدو عليها الضعف ظاهرًا؛ ذلك أنها تستند على دراسات لم يكتب لها النضح بعد، ولا تقوم على أسس علمية متينة. ويمكن الرد عليها بكون التشابه بين اللغة المصرية القديمة وبقية اللغات السامية ربما يعود إلى تأثير شعب الهكسوس في المصريين، وهم قوم ساميون غزوا مصر واستقروا في

_ 1 يقول العالم جيرلند: إنه شمالي إفريقيا، بينما يقول بارتون: إنه الحبشة وإفريقيا الشرقية، في حين حدده "برنتن" بكونه الشمال الغربي من إفريقيا وبخاصة جبال الأطلس. أما طريق هجرة الساميين إلى الشرق ففيه أيضا اختلاف: هل هو برزخ السويس أم باب المندب؟. 2 نسيب الخازن: من الساميين إلى العرب، ص11-31.

حكمها عدة قرون. وليس من الضروري أن يكون الشبه بين اللغة الحبشية ولهجات عرب الجنوب، والاشتراك بين الأحباش واليمنيين في عبادة الإله "ألمقة" نتيجةَ هجرة حبشية إلى اليمن، بل قد يكون العكس هو الصحيح. فمن الثابت تاريخيا أن الساميين الذين دخلوا الحبشة من اليمن -ربما في غضون القرن الخامس قبل الميلاد- هم الذين كونوا دولة أكوم الحبشية1 التي استعملت اللغة "الجفرية" وهي لغة سامية. والأحباش لا يزالون يكتبون حتى اليوم بقلم شبيه بالقلم المسند، وهو مقتبس من القلم العربي الجنوبي، وتشكل بعض الكتابات المدونة به، والتي عثر عليها في الحبشة -وهي أحدث عهدا من كتابات السبئيين- دليلًا على أثر العرب في الأحباش2.

_ 1 Henri Masse: ibid., p.13. 2 د. جواد علي: 1/ 156.

النظرية الخامسة

النظرية الخامسة: وهناك أخيرًا النظرية القائلة بأن شبه جزيرة العرب هي موطن الساميين الأول ومهدهم الأصلي. وأول من قال بها العالمان "سبرنجر" الألماني، و"كايتاني" الإيطالي، وأيدهما فيها كثير من العلماء والمستشرقين مثل "شرايدر ورايت وماير ومورغان وفانسان ودتلف نلسن". وأما الحجج التي أدلوا بها لتدعيمها فهي: 1- أن الأسس والشروط التي اتفق العلماء على كونها تؤلف الصفات المشتركة بين الساميين متوفرة، على أتم ما يكون التوفر، في سكان شبه الجزيرة العربية، وأن قبائل شبه الجزيرة قد حافظت على النموذج السامي الخالص بسبب وضعها الجغرافي الذي لا يسمح بالامتزاج مع الشعوب الأخرى، وأن اللغة العربية أصلح لغة تمثل خصائص اللغة السامية الأم. 2- أن شبه الجزيرة العربية كانت في غابر الأزمنة مطيرة كثيرة النباتات والمزروعات، تتوفر فيها جميع وسائل العيش الرغد -وقد أورد العلماء على ذلك أدلة كثيرة ذكرتها سابقًا في بحث المناخ- وقالوا: إن السكان فيها كانوا يتكاثرون كثرة عظيمة، حتى إذا حل الجفاف تدريجيا محل الرطوبة، والمحل مكان الخصب، وذلك منذ حوالي

الألف العاشرة قبل الميلاد على الغالب، بدأ سكانها يغادرونها على موجات بشرية مهاجرة نحو الشمال والشرق والغرب. 3- كون هذه النظرية تفسر تماثل المفردات والمفاهيم المشتركة التي تعبر عن السهول والنبات والمياه بالإضافة إلى ما ذكرته النظرية الأولى والثانية عن اسم الجمل، إذ المفروض أن شبه الجزيرة العربية كانت تحتوي على هذه العناصر بسبب مناخها المطير قديمًا، والذي تحول بعضها فيما بعد إلى صحارَى. 4- أن من غير المعقول انتقال المزارعين من مناطقهم الخصبة إلى المناطق الصحراوية القاحلة بل العكس هو الصحيح. ولما كانت نشأة الساميين الأولى بدوية؛ فلا بد أن يكون موطنهم الأول موطنا صحراويا, وشبه جزيرة العرب، بعد أن تحول كثير من مناطقها الداخلية إلى صحارى بسبب الجفاف الطارئ عليها إثر التغيرات المناخية، هي أصلح من غيرها لتكون ذلك الموطن، لا سيما وأنه قد ثبت أن معظم المدن والقرى، التي تكونت في بلاد الشام والعراق، قد كونتها عناصر بدوية جاءت إليها من شبه جزيرة العرب. فشبه الجزيرة إذن أولى أن تكون هي مهد الساميين الذين خرجت جموعهم منه إلى الأطراف. 5- كون الوضع الجغرافي لشبه الجزيرة ينطبق مع الواقع التاريخي للهجرات السامية، إذ إنها محاطة من جميع أطرافها بجبال وبحار ما عدا الجهة الشمالية، وأن الجفاف حينما بدأ يحل فيها أحال سهولها الداخلية إلى صحارى رملية قاحلة، حيث انقلب السكان إلى عرب رحل لا يستقر لهم قرار واستأنسوا الجمل الذي كان بحق "سفينة الصحراء" بالنسبة لهم. ولما نضبت موارد بلادهم الزراعية ولم تعد تفي بحاجتهم، وإذ كانوا يتكاثرون كالماء الذي ينفر من جوف حوض محدود المساحة فيفيض إلى خارج حوافه، كذلك انتشروا إلى المناطق التي تحيط بشبه جزيرتهم، ولم يكن لهم من سبيل سوى سلوك طريق الشمال إلى الهلال الخصيب، أو طريق باب المندب وبرزخ السويس إلى إفريقيا ومصر. وللمستشرق الدكتور "دتلف نلسن" في هذا الموضوع نظرات تستلفت الاهتمام، فهو

يرجح كون شبه الجزيرة العربية هي الموطن الأصلي للعرق السامي، وأن الحضارات السامية الشمالية الرفيعة قد انبثقت عنها, باعتبار أن الشعوب السامية القاطنة في الهلال الخصيب قد نشأت فيها ثم هاجرت منها. وقد نشر هذا المستشرق كتابًا عالج فيه تاريخ الأديان وأبدى فيه رأيًّا يقول: "إن الدين العربي القديم1 هو الخطوة السابقة للدين البابلي الآشوري المعقد، وأنه كان تمهيدًا للتطور التاريخي للدين العبري اليهودي". ويشير "دتلف نلسن" إلى أن النزاع بين مختلف النزعات الدينية السامية قد تطور أخيرًا إلى الثالوث الإلهي "أب، ابن, وروح"، ومن ثَمَّ خطا خطوة أخرى إلى التوحيد المسيحي في صورته القديمة التي نعرفها في الحضارة العربية القديمة2. وبناء على النظرية الأخيرة اتفقت آراء كثير من المستشرقين على أن مجموعات الشعوب السامية المنتشرة في أنحاء الشرق القديم المختلفة، من بلاد الشام إلى بلاد الرافدين، قد نشأت عن هجرات متتالية انطلقت من شبه الجزيرة العربية في أزمنة مختلفة، وفي فترات دورية منتظمة، يفصل بين كل هجرة وأخرى نحو ألف سنة أو أقل. ففي كل مرة يزداد فيها سكان البلاد، وتقل فيها موارد الأرض عن حاجتهم الغذائية، تنزح عنها موجة بشرية وتتجه إلى جهات أخرى يتوفر فيها الخير بحثًا عن الغذاء ورغد العيش. وهكذا حدثت أول هجرة للساميين في الألف الرابعة قبل الميلاد سالكة طريق الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية، منطلقة نحو الشمال إلى سيناء فوادي النيل حيث امتزج أفرادها بالعرق الحامي، فتكون بذلك الشعب المصري القديم كما يقول "بارتون" بدليل أن الباحثين قد وجدوا في لغة الشعب المصري في أول تكوينها خليطًا من كلمات سامية وأخرى حامية إذا صحت التسميتان. وفي الفترة نفسها, أي حوالي منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد, حصلت هجرة الأكاديين إلى بلاد الرافدين عن طريق بلاد الشام، وألفوا هناك الدولة الأكادية التي وحدت العراق، وسيطرت على جميع أرجائه حتى أعالي نهر الدجلة. وقد حل الساميون

_ 1 يقصد بتلك الديانة ما ذكره في كتابه عن التاريخ العربي القديم من أن عرب الجنوب كانوا يعبدون آلهة عديد من بينها ثالوث إلهي مؤلف من القمر والشمس والزهرة، كأسرة إلهية مقدسة مكونة من أب وزوجة وابن. 2 دتلف نلسن، فرتز هومل ... : التاريخ العربي القديم، ص53.

الأكاديون فيها محل السومريين المتحضرين، بعد أن اقتبسوا منهم فن الكتابة وأساليب الزراعة. وتبع الأكاديين، بعد ذلك وفي الألف الرابعة نفسها، الكلدانيون ثم الآشوريون واستوطنوا بلاد الرافدين. وفي حوالي عام 2900ق. م، قامت موجة أخرى حملت الكنعانيين إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وإلى ربوع بلاد الشام الداخلية، حيث تفرع منهم الفينيقيون الذين سكنوا سواحل بلاد الشام، كما حملت العموريين الذين استوطنوا المناطق الشمالية الداخلية، وقد اتجه قسم من هذه الموجة إلى بلاد الرافدين حيث ألفوا سلالة بابلية سنة 2100 ق. م. وفي سنة 1500 ق. م، هاجر الآراميون من شبه الجزيرة العربية واتجهوا إلى بلاد الشام، حيث حلوا في ضواحي دمشق ومناطقها، وفي منطقة البقاع، كما حل العبرانيون في أراضي فلسطين إلى جانب الكنعانيين. وفي حوالي سنة 500 ق. م، قدم الأنباط إلى شمالي شبه جزيرة العرب حيث أقاموا حضارتهم في مدينة البتراء الواقعة إلى الشمال الشرقي من خليج العقبة، والتي اتخذوها عاصمة لهم، كما نزل التدمريون في واحة تدمر إلى الشرق من مدينة حمص. وأخيرًا خرجت جموع العرب المسلمين في القرن السابع الميلادي، وانطلقوا نحو الشمال حيث نشروا لواء الإسلام والعروبة على كافة بلاد الشرق القديم وشمالي إفريقيا، وامتدت سيطرتهم على قسم مهم من جنوبي أوروبا. هذا ولا بد من تقييد البحث حول الموطن الأصلي للساميين في: أن كلًّا من النظريات الآنفة الذكر لا تخلو من عيوب وانتقادات، وحتى النظرية الأخيرة التي تبدو وكأن لها كثيرًا من المؤيدات المنطقية كما أسلفت؛ ذلك أنها تعلل بشكل مرضٍ وحدة العرق السامي ولغته وموطنه الأصلي، أقول: حتى هذه النظرية لا تخلو من ثغرة؛ إذ إنها تستند على موضوعات يصعب قبولها بسهولة من حيث تكاثر السكان في بلاد صحراوية لم يثبت بشكل قاطع أنها كانت في قديم الزمن كثيرة الأمطار، بل إن ما قيل عن رطوبة مناخها في الأزمنة الغابرة لا يزال في نطاق الفرضيات التي يجري التدقيق والبحث فيها.

إذن ليس في وسعنا إلا القول: إنه لا يمكن للمؤرخ أن يبدي رأيًا قاطعًا في هذا الموضوع، بل يميل الباحثون المعتدلون إلى القول بأن يترك أمر إيضاح هذه القضية إيضاحا نهائيا للمستقبل، وأنا أميل إلى الاقتصاد في هذا الحديث مخافة الوقوع في المزالق والخروج عن نطاق العلمية؛ لأن موضوع الأجناس والعروق موضوع حديث لم تتوفر العناصر الكافية والأدلة الشافية لعلماء الآثار واللغة والأنثروبولوجيا "علم الأجناس" لدراسته دراسة وافية وكاملة، لا سيما وأن الحفريات والتنقيبات التي تهدف إلى الكشف عن غوامض هذه المسألة تجري في مناطق كبلاد كنعان القديمة "فلسطين" ووادي الرافدين، بينما لم تجر حتى الآن أية حفريات في شبه الجزيرة العربية للكشف عن تاريخها القديم، وقد تأتي مثل هذه الحفريات بنتائج ربما تكون في جانب هذه النظرية، أكثر مما تكون في جانب سواها.

الفصل الرابع: أنساب العرب وطبقاتهم

الفصل الرابع: أنساب العرب وطبقاتهم أصل ومدلول كلمة عرب: قبل أن أتصدى للبحث في طبقات العرب وأنسابهم لا بد لي من محاولة لاستقصاء سبب التسمية. لا ريب أن كلمة "عرب" واضحة المدلول لدينا نحن أبناء هذه الأمة, فقد ألفناها وعشنا معها عشرات القرون، فأصبحت جزءًا من مداركنا البديهية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا في هذه الدراسة فيدفعنا إلى إمعان الفكر فيها هو: كيف؟ ومتى نشأت هذه التسمية؟ وما هو أصلها؟ وهل حافظت على مدلولها الأصلي؟ أم خضعت لبعض التطورات خلال العصور المتعاقبة؟. لقد استقصى المستشرقون تاريخ الكلمة وتتبعوا معناها في اللغات السامية، وتلمسوا شتى المراحل التي مَرَّ فيها مدلولها، فوجدوا أن أقدم نص وردت فيه كلمة "عرب" هو نص آشوري يعود إلى الملك الآشوري "سلمنصر الثالث" الذي خاض في عام 853 ق. م. غمار معركة دامية في "قرقر" شمال حماة، ضد ملك دمشق الآرامي "بنحدد" الذي هاجمه مع حلفاء عديدين بينهم "جندب" أو "جنديبو" أحد مشايخ العرب، فهزمهم "سلمنصر" وخلد عمله على نصب تذكاري جاء في النص المنقوش عليه: "قرقر عاصمته الملكية أنا خربتها، أنا دمرتها، أنا أحرقتها بالنار، ... عشرون ألف جندي لحدد عازر "بنحدد" صاحب آرام "دمشق"، ألف جمل لجندب "العربي1 Al - Urbi ... إلخ" ويعدد النص أسماء 12 ملكًا تألبوا عليه وبرزوا له في المعركة2.

_ 1 بما أن النصوص الآشورية لم تكن تحرك المقاطع فقد صعب على العلماء ضبط كيفية النطق بهذه الكلمة "هل تكون Arub, Aribi, Arabi, Urbi, Arbi؟. 2 فيليب حتي: تاريخ العرب مطول، 1/ 45؛ تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، 1/ 179.

لكن الذي قرره الباحثون أن كلمة "عُرْبي" التي وردت في هذا النص لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه اليوم عندنا، لا بل إن المقصود منها مشيخة في البادية المتاخمة للآشوريين يحكمها شيخ عربي يسمى "جنديبو"، لا تعريف شامل للعرب1. وقبل المضي في البحث لا بد من الإشارة إلى بعض الاجتهادات التي تعتمد على تفاسير يمت بعضها إلى البحوث اللغوية "الفيلولوجية" بصلة, ومنها قول للدكتور عمر فروخ أن من الأمم ما كانت تسمى بما يطلق عليها جيرانها من أسماء، وأن سكان بلاد الرافدين "الآشوريون والبابليون" قد أطلقوا على أقاربهم الساميين وجيرانهم القاطنين في جهة الغرب والجنوب الغربي منهم اسم "أريبي". وبعد تفسيرات لغوية معقدة، ينتهي الدكتور فروخ إلى كون الكلمة تتناول معانيَ تتصل بجهة "الغرب" "مقابل الشرق"، وأن كلمة غرب قد انتقلت من بلاد الرافدين وخضعت في طريق هجرتها إلى تغير في حرف "غ" فانقلب إلى "ع" -كما كان من شأن العرب أحيانا في قلب بعض الحروف في الكلمات- فتطورت إلى ألفاظ مثل عُرْبي، أرْبي2. وغني عن القول أن مثل هذه الاجتهادات يصعب الأخذ بها لعدم كفاية الأدلة التاريخية التي استندت إليها. ولا بد لي من العودة إذن إلى تتبع البحوث التي تدور حول النصوص التاريخية التي خلفتها لنا مختلف الشعوب ذات الصلة بالعرب. فقد ورد في كتابة بابلية قديمة وصلت إلينا جملة "ماتو آرابي Matu - A - Ra - Bi" بمعنى: أرض العرب. وكذلك ورد ذكر للعرب وبلادهم بما لا يتعدى هذا اللفظ في كتابات أتتنا من ملوك فارس مثل "أربايه Arpaya أو Arabaya" وتعني: بلاد العرب. وقد دلت الدراسات التي دارت حول هذه النصوص، ولا سيما البابلية منها، على أن المقصود من الكلمات الواردة فيها -بما يتعلق بالعرب- أراضٍ تشمل البوادي الفاصلة بين العراق وبلاد الشام وبين مصر، بما في ذلك شبه جزيرة سيناء. فهل لكلمة "عرب" صلة بمفهوم البادية؟ إن مثل هذه الفرضية أقرب إلى الفهم, ندرك ذلك إذا تتبعنا مدلول الكلمة في شتى النصوص التي خلفها العبرانيون. ولفظة Arab في العبرانية تعني: البداوة، البدو،

_ 1 الدكتور جواد علي: 1/ 169. 2 عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص30-32.

الأعراب، البادية، سكان البادية. وقد استعملوها في نصوصهم الأولى التي تعود إلى القرن الثامن قبل ميلاد المسيح وما قبله للدلالة على هذه المعاني، لا بكونها دليلًا على قومية أصحابها الذين ذكرتهم. ففي سفر أشعيا نقرأ: "ولا يخيم هناك أعرابي" وكذلك "وحي من جهات بلاد العرب, في الوعر، في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الدادانيين". فالمقصود من الآية الأخيرة "العزلة والوحشة والبداوة". والعبرانيون قد أطلقوا في الواقع لفظة "عرابة" -وهي تعني في الأصل الجفاف وحافة الصحراء، وكلها ذات علاقة بالبداوة- مسبوقة بأل التعريف "ها" "Ha - Arabah" للدلالة على سكان من وادي "العربة" الممتد بين البحر الميت وخليج العقبة، وكانت تقيم فيه قبائل بدوية شملتها تسمية "عرب"1. كما أننا نلاحظ في النصوص القديمة عند العبرانيين أن مدلول كلمة "عرب" قد تطور عندهم مع الزمن فأصبحوا -حوالي القرن الثالث قبل الميلاد- يطلقونها على سكان شبه الجزيرة العربية كافةً، بدوهم وحضرهم على السواء. والتطور الذي حدث بالنسبة لموقف العبرانيين نلمسه نفسه عند العرب القدماء، عرب ما قبل الإسلام، إذ لم يكونوا يطلقون هذه التسمية على أنفسهم للدلالة على قوميتهم -كمفهوم مجرد نحن اليوم نتبناه ونعتنقه- وليس لنا أن نتوخى ذلك عند أجدادنا الأوائل؛ لأنهم كانوا غارقين في منازعاتهم القبلية، ولم يفطنوا إلى الجامعة القومية التي تستطيع جمعهم في أمة واحدة، لأن مقومات هذه القومية لم تكن قد استتمت جميع عناصرها. فإذا وحدتهم اللغة ووحدتهم الأرض المشتركة، فإنهم قد افتقروا إلى الحوافز الفكرية والمصالح المشتركة، لا سيما وأن مصالح مختلف القبائل كانت تدعو -في أغلب الأحيان- إلى النزاع لا إلى التجمع، والمفهوم القومي في الواقع مدرك حديث يغذيه الوعي الاجتماعي والسمو الفكري.

_ 1 د. جواد علي: 1/ 172-173: وقد أبانت بعض المعاجم العربية القديمة أن العرب كانوا يعرفون جزيرتهم باسم "عربة" الذي يشمل شبه الجزيرة بعامة أو سهل تهامة بخاصة، وأن اسم العرب مشتق من اسمها: فقد جاء في لسان العرب المحيط لابن منظور: "اختلف الناس في العرب لِمَ سموا عربًا؟ فقال بعضهم: أول من أنطق الله لسانه بلغة العرب يعرب بن قحطان، فنشأ نسله على هذه اللغة، قال الأزهري: والأقرب عندي أنهم سموا عربًا باسم بلدهم العربات، وقال إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم وقال: وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، وانتشرت سائر العرب في جزيرتها فنسبوا كلهم إلى عربة" "راجع في لسان العرب لابن منظور كلمتي عرب وعرابة".

وإذا تتبعنا النقوش الكتابية في الجنوب العربي نشاهد أنهم لم يستعملوا التسمية، في بادئ أمرهم، للدلالة على البدو والحضر منهم، أي: للدلالة على قوميتهم، بل استعملوها بمعنى أعراب كقولهم: "أعرب ملك حضرموت، أعرب ملك سبأ"، أي: أعراب ملك حضرموت، أعراب ملك سبأ. أما أهل الحضر منهم فكانوا يعرفون بنسبتهم إلى مدنهم أو قبائلهم التي كانت في الغالب مستقرة تعيش على التجارة والزراعة، كقولنا اليوم "سوريون، عراقيون". وفي القرآن الكريم من الآيات ما يؤيد ذلك: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقا} ، {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} 1. أما إذا تتبعنا النصوص العربية الشمالية فإننا نجد أن أقدمها نص "نقش النمارة" الذي ينسب إلى امرئ القيس بن عمرو، وهو يعود إلى القرن الرابع الميلادي، ويحمل العبارة التالية: "امرؤ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي حاز التاج، وملك الأسدين ونزارًا وملوكهم وهزم مذحجًا ... إلخ". وبالرغم مما لهذا النص من أهمية عظيمة لذكره العرب تعميما وشمولا، فإن بعض الباحثين يشكون في أن التسمية فيه قد استعملت للدلالة على العرب عمومًا، بل يعتقدون أنه قد قصد بها الأعراب. خلاصة القول: لا يُستطاع الجزم في تعيين الزمن الذي استعمل فيه العرب أنفسهم -بدوهم وحضرهم- هذه الكلمة علمًا لهم يدل على قوميتهم المتميزة عن قومية غيرهم؛ لعدم وجود ما يثبت ذلك من النصوص الموثوق بصحتها وبصحة مدلولها، كما لا يمكن الجزم، على وجه الدقة والتحقيق، من أين جاءت كلمة "عرب"، وإن كان اشتقاقها من كلمة "أعراب" "بدو" أقرب إلى المعقول، بدليل ما أوردت من خلاصة أبحاث المستشرقين. على أن القرآن الكريم هو النص الوحيد الذي أعطى هذه التسمية مدلولها القومي الواضح، وهو نص لا يرقى إليه الشك؛ ولذلك اعتقد بعضهم ومنهم المستشرق "موللر" أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أول من خصَّص الكلمة، وجعلها علمًا لقومية سكان شبه الجزيرة العربية، بدليل ما ورد في القرآن الكريم من آيات؛ عشر منها جاءت فيها لفظة "عربية" نعتًا للغة القرآن الكريم بأنها لغة واضحة وبينة2، ووردت مرة واحدة نعتًا

_ 1 التوبة: 97، 99. 2 عمر فروخ: المصدر السابق، ص32.

للرسول بقوميته العربية. كقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِين} 1، ثم قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} 2، ويقصد التنزيل الحكيم بذلك "أكتابي أعجمي اللغة، ونبي عربي؟ "، وفي بعض التفاسير "ومخاطب عربي؟ ". لكن هذا الرأي ظاهر الضعف؛ لأنه من غير المعقول أن يخاطب القرآن الكريم قومًا باسم علم لا يعرفون هم أنفسهم أنه يطلق عليهم للدلالة على قوميتهم، لا سيما وأنهم كانوا يميزون بين لسانهم الذي نعتوه بـ "عربي" وألسنة غيرهم من الأقوام التي أطلقوا عليها نعت "الأعجمية". وبهذا دليل على وجود الحس بالشعور القومي لدى عرب ما قبيل الإسلام. والذي يمكن لفت النظر إليه ما ورد من أخبار الجاهلية القريبة من الإسلام، والتي تعطي بعض الأدلة على أن الشعور القومي عند الجاهليين قد بدأ منذ أن وقفوا وجهًا لوجه أمام ضغط الدول الأجنبية المجاورة لهم ولا سيما الفرس، فمقتوا التسلط الفارسي الذي تغلغل في مختلف جهات شبه الجزيرة العربية، وبخاصة شرقيها وجنوبيها، فأحس العرب بالدوافع القومية، وبتميزهم عن الأعاجم. يدل على ذلك تلك المنافرات والمفاخرات التي ترويها لنا كتب الأدب بين العرب والفرس, كل من الطرفين يشيد بقومه، ويأتي بالأدلة التي تثبت أفضليته على الجنس الآخر، حتى آل الأمر في النهاية إلى الصدام المسلح، وآخر ما كان من ذلك وقعة ذي قار المشهورة.

_ 1 النحل: 103. 2 السجدة "فصلت": 44.

أنساب العرب

أنساب العرب: كان للنسب أهمية عظيمة وشأن خطير في الجاهلية؛ إذ كانوا يعيشون قبائل متفرقة، تتنازع فيما بينها وتغزو بعضها بعضًا، فوجهوا عنايتهم إلى حفظ أنسابهم وضبطها؛ لأنها في المجتمع القبلي دعامة من دعائم النظام السياسي، فكثيرًا ما كان النسب يلعب دوره في قيام المحالفات بين القبائل، كل منها تختار في الغالب أقرب العشائر إلى نسبها، إذ يبدو

أن تعاطف الأرحام كان أدعى إلى التآلف والتعاضد والتضافر والتناصر على الخصوم1، والنسب هو الضامن والكفيل للحصول على حقوق المواطنة في المجتمع القبلي، وهو يقوم مقام القومية والجنسية عندهم2. وكثيرًا ما كانوا سندًا في المنافرة والمفاخرة مع خصومهم. ولذلك فإن جماعات من القوم، عرفوا باسم النسابين، قد تخصصوا في معرفة الأنساب وتقصي جذورها، وأصول القبائل وفروعها، وعلاقات بعضها ببعض على مر الزمن. الأمر الذي جعل حفظ الأنساب من المعارف ذات الشأن قبل الإسلام. ولم يكن شأنها أقل في الإسلام، بدليل أن اشتراك العرب في الفتوح الإسلامية الكبرى، زمن الراشدين، كان يتم على أساس الوحدات القبلية، حتى إذا قام العهد الأموي، وبلغ الصراع القبلي بين المضرية واليمنية حدًّا خطيرًا، أصبحت العصبية القبلية هي الأساس الذي كان القوم يتقربون به إلى الحكام؛ فازدادت أهمية حفظ الأنساب، وأصبح النسب علمًا قائمًا بذاته، شأنه كشأن بقية العلوم العربية، وألفت في الأنساب مُصنَّفَات خاصة.

_ 1 الألوسي: 2/ 182. 2 د. جواد علي: 1/ 221.

طبقات العرب وأقسامهم

طبقات العرب وأقسامهم مدخل ... طبقات العرب وأقسامهم: اصطلح النسابون العرب والرواة والأخباريون على تقسيم العرب إلى ثلاث طبقات: العرب البائدة، العرب العاربة، العرب المستعربة، وبينما جعلوا قحطان جدًّا أكبر للعرب العاربة، التي كانت منازلها الجهات الجنوبية من شبه جزيرة العرب "اليمن"، جعلوا عدنان جدًّا للعرب المستعربة التي كانت منازلها الجهات الشمالية منها "الحجاز". وقد أرجعوا هذين الجدين إلى سام بن نوح وكذلك جد العرب البائدة، ولكنهم اختلفوا في اسم الجد الذي تنتسب إليه الطبقة الأخيرة: هل هو إرم بن سام أم لاوز بن سام بن نوح؟ ومضى النسابون في ذكر أسماء أولاد كل من قحطان وعدنان، ومن تناسل من ذريتهما، بينما ذكروا أسماء القبائل البائدة دون أية تفصيلات. غير أن المصادر التي نستقي منها معلوماتنا عن هذا التقسيم، وعن أنساب العرب الجاهليين لم نتلقَّها مباشرة من النسابين الجاهليين، لا بل انتهت إلينا عن طريق المصادر

الإسلامية "كتب التاريخ والأنساب التي صنفها الكتاب المسلمون بعد قرنين من نهاية العهد الجاهلي" ولذا فإن الباحثين المحدثين يحيطونها بالتحفظ لبعد ما بين العصر الجاهلي وعصر تدوين الأخبار، فلربما يكون المؤرخون الإسلاميون قد عدلوا فيها بما يتفق وإيمانهم الجديد، لا سيما وأن الإسلام الذي دعا إلى فكرة الإخاء بين المسلمين, بقطع النظر عن عروقهم وأجناسهم وقبائلهم ووجوب نفي العصبية من الأذهان، قد زعزع إلى حد ما النظرية العربية في أصل العرب وأنسابهم. ولكن بالرغم مما يحتمل أن يكون قد داخل الأنساب المنقولة من تحوير وتعديل، وبالرغم من نقاط الضعف والغموض والفجوات التي سأشير إليها عند مناقشة مسألة النسب، فإن النظام الذي وضعه النسابون لا بد من إيلائه الاعتبار؛ لأن كثيرًا من الأمور التاريخية، سواء منها التي جرت قبل الإسلام أو بعده، لا يمكن تعليلها تعليلًا مرضيًا إلا بالرجوع إلى التقسيمات التي جاءت في نظام النسب العربي. ويبدأ هذا النظام بذكر القبائل التي اعتبرت أنها قد كونت السكان الأصليين لشبه جزيرة العرب، وأطلقوا عليها اسم:

العرب البائدة

العرب البائدة: وقد درست آثارهم ولم يصلنا عنهم سوى معلومات ضئيلة مشوهة ومختلطة، إنما وردت أسماء بعض قبائلهم في القرآن الكريم مثل عاد التي قيل: إنها كانت تسكن في بادية الأحقاف الواقعة بين صحراء الربع الخالي وجبال اليمن والعسير، وكان نبيَّها هودٌ "عليه السلام" وثمود التي كانت تسكن في مدائن الحجر شمالي الحجاز وكان نبيَّها صالحٌ "عليه السلام". وقد ذكرت هذه القبائل في بعض المصادر اليونانية، كما انفردت التوراة بذكر قبيلة "عمليق" بأنها عدوة بني إسرائيل، ولم تذكر غيرها من القبائل البائدة. وذكر العرب أسماء قبائل أخرى منها: طسم وجديث وأميم وعبيل وعبد صميم وجرهم وغيرها. لقد شك المستشرقون في أمر هذه القبائل وقالوا: إنها أسطورية من نسج خيال الرواة، وإن القصص المرواة عنها أقرب إلى الخرافة؛ ذلك أنهم لم يعثروا في كتابات القدماء على أسماء لها. لكنهم سرعان ما أدركوا تسرعهم في إبداء هذا الرأي عندما عثر العلماء على آثار بعض هذه القبائل في الأمكنة التي أقامت فيها، ومنها الكتابات "الثمودية" التي عثر عليها

في مدائن صالح، والتي تمكنوا من حل رموزها فوجدوا أنها مكتوبة بالخط المسند، ولغتها هي اللغة العربية الشمالية، ولا تختلف عن اللغة العربية الفصحى الحالية إلا قليلًا، فانصرفوا إلى متابعة البحث والتنقيب للاستزادة من المعلومات والأخبار عنها1.

_ 1 د. جواد علي: 1/ 229-265.

العرب العاربة

العرب العاربة: يقول النسابون: إن العرب العاربة هم من أبناء قحطان الذي ورد اسمه في سفر التكوين من التوراة بلفظ "يقطان". ويتفق معظمهم مع ما جاء في التوراة من تسلسل نسبه حتى سام بن نوح، ولا ينكر مدونو الأنساب العرب كون النسابين قد استقوا هذه المعلومات من روايات أهل الكتاب. على أن بعض الأخباريين يذكرون لقحطان نسبًا آخر، فيحشرون اسم النبي هود أو إسماعيل بن إبراهيم بين أسلافه. ويظهر أن القصد من هذا حرص الأخباريين اليمنيين على ربط نسبهم بالأنبياء لترجيح كفتهم على كفة منافسيهم العدنانيين أو لموازنتها على الأقل. أما اسم قحطان فلم يعرف له معنًى ولا دلالة، أهو اسم علم يطلق على إحدى القبائل العربية؟ أم أنه يؤدي معنى من المعاني تمييزًا لقبيلة عن أخرى، أم أنه كان في الأصل اسم قبيلة من القبائل ثم عم إطلاقه على مجموعة من القبائل خضعت للقبيلة الأولى؟ أم أنه اسم أرض جرى بمرور الزمن إطلاقه على ساكنيها؟ والواقع أنه ليس من الممكن الآن -وعلى ضوء ما يملكه العلماء من وثائق غير كافية- الإجابة عن هذه الأسئلة إجابة علمية صحيحة. كما أنه لا يستطاع التأكيد بأن الانتساب إلى قحطان كان معروفًا عند الجاهليين، لا سيما وأن القرآن الكريم لم يشر إلى شيء من ذلك، كما لم تشر إليه الكتابات الجاهلية. ومع أن اسمه قد ورد في الشعر الجاهلي القريب في باب الفخر والحماسة، غير أن الشك في أمره لم يبارح أذهان الباحثين بدعوى أن شعر الهجاء والحماسة من أوهن الركائز التي يستطيع المؤرخ الاعتماد عليها؛ لما يحتمل أن يكون قد تسرب إليه من شعر موضوع استوجبته طبيعة الخصومة بين المضرية الشمالية والقحطانية اليمنية، وخضوعه إلى حد ما لتأثيرات سياسية1.

_ 1 د. جواد علي: 1/ 224-225، 270.

أما منشأ القحطانيين وموطنهم الأصلي الذي سكنوه ففيه خلاف، إذ قال بعضهم بأنهم أتوا من الحوض الأدنى لنهري دجلة والفرات، حيث قدموا إلى اليمن -بعد اجتياز عدد من الصحاري والفيافي- فوجدوا فيها من الخصب والرخاء ما أغراهم بالاستقرار. غير أن الدراسة التي قام بها المؤرخ العلامة "جون فيلبي" قد خالفت هذا الرأي، فقد استنتج أن العرب القحطانيين لم يجيئوا من مكان آخر، بل إنهم أصل العرب, وأن الهجرات السامية كانت منهم، لا سيما أن لغتهم لا تختلف اختلافًا كبيرًا عن لغة عرب الشمال1.

_ 1 د. محمد مبروك نافع: تاريخ العرب وعصر ما قبل الرسول، ص50-51.

العرب المستعربة

العرب المستعربة: وكما نسب الأخباريون عرب الجنوب إلى قحطان، نسبوا عرب الشمال إلى عدنان فسموهم العدنانيين أو المستعربة، ومنهم من نسبهم إلى "معد" وسموهم "المعديين"، أو إلى ابنه "نزار" فسموهم "النزاريين". ومع أن العلماء المحدثين يشكون في صحة هذه الأنساب، إلا أن هناك إجماعًا تامًّا بين النسابين على أن العرب المستعربة تنحدر من إسماعيل "عليه السلام"، بتأييد من القرآن الكريم الذي لم يشر مع ذلك إلى انحدار العرب من جدين كبيرين أو أكثر ولم يذكر قط لا قحطان ولا عدنان بل خاطب العرب المسلمين بكونهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم. وقد تكون تسمية العدنانية باسم "العرب المستعربة" لكونهم -على ما ذكر النسابون- قد انضموا إلى العروبة بينما لم يكونوا من العرب الأصليين، باعتبار أن الجد الذي يرجع النسابون نسب عدنان إليه هو إسماعيل بن إبراهيم الكلداني الأصل، إذ تقول القصة التي تروي خبر إبراهيم أنه ولد في مدينة "أور" الكلدانية ببلاد الرافدين من أب نجار كان يصنع الأصنام. وأنه لما قدم إلى مصر، هربًا من قومه الذين كفروه بعد أن دعاهم إلى الهداية ونبذ الأصنام، تزوج من زوجته الثانية هاجر المصرية التي ولدت له إسماعيل. وقد اضطر إلى القدوم بها مع ابنهما إسماعيل إلى الحجاز حيث تركها، فشب إسماعيل وتزوج من فتاة جرهمية ورزق منها اثني عشر ولدًا ذكرًا تناسلوا وكثرت ذراريهم، وتألفت من مجموعهم قبائل العرب المستعربة؛ ولذا وضعهم النسابون في المرتبة الثالثة من طبقات العرب.

إلا أن بعض المحدثين قد ذهبوا إلى القول بأن هذا التقسيم إن هو إلا من صنع الأخباريين اليمنيين الذين أرادوا الحط من قدر خصومهم عرب الشمال بنفي العروبة الأصلية عنهم، وقد رد بعضهم سبب الخصومة والعداء إلى ما يكون عادة من نزاع بين البداوة والحضارة1. وأما قصة عدنان فيكتنفها الشك من جميع جوانبها؛ ذلك أن النسابين قد اختلفوا في نسبه اختلافًا كبيرًا، أضفى على حياته وشخصيته ظلالًا كثيفة من الغموض. لقد اختلفوا في عدد الآباء والأجداد الذين تعاقبوا بينه وبين إسماعيل، كما اختلفوا في طول المدة التي فصلت بينهما، لا سيما وأن أسماء من ذكروا من هؤلاء الآباء والجدود تبدو عليها المسحة الأعجمية؛ إذ إنها غريبة عن الأسماء العربية، ولا بد أن الأخباريين قد أخذوها من أهل الكتاب وقصصهم، بينما يلاحظ أن الأسماء التي وردت بعد عدنان من أولاد وذرارٍ هي أسماء عربية صحيحة، لا علاقة لها بالتوراة، ويبدو أن النسابين العرب لم يقتبسوها من روايات أهل الكتاب.

_ 1 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص6.

نقد نظرية الأنساب

نقد نظرية الأنساب: لقد أبدى العلماء تحفظات شديدة على نظرية الأنساب العربية، وشكوا في صحتها، إذ ليس هناك من الأدلة العلمية الحاسمة ما يثبت صحة التقسيم الذي جاءت به، أو ما يدعو إلى الجزم ببطلانها. والانتقادات التي وجهوها إليها كثيرة؛ إذ عثروا على أدلة تناقض ما جاء في التقسيم، منها على سبيل المثال: إن النسابين العرب قد بينوا أن سبأ هو حفيد قحطان جد عرب الجنوب، بينما يورد العلماء أدلة تشير إلى أن السبئيين كانوا في أول أمرهم يقطنون في شمالي شبه جزيرة العرب، ثم هاجروا إلى جنوبها، واستقروا في أرض اليمن حيث أقاموا حضارتهم المعروفة في التاريخ، خلافًا لحركة الهجرة التي كانت تدفع القبائل العربية الجنوبية نحو الشمال، بحيث شُوهد العديد منها منتشرًا في جهات الحجاز ونجد والبحرين عند ظهور الإسلام. أما الانتقاد الشديد فهو الذي تناول مسألة قسمة العرب إلى جدين كبيرين:

قحطان وعدنان. وقد أوضح العلماء أن هذا التقسيم يبدو ضعيفًا لأسباب عديدة منها: كون القرآن الكريم لم يشر بأية إشارة إلى هذين الجدين، لا بل خاطب العرب المسلمين بكونهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم. ومنها أن الحروب التي وقعت بين علي ومعاوية ليس فيها أية إشارة إلى قحطانية وعدنانية. وكذلك بالنسبة لما فعله الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب عندما نظم جداول العطاء على أساس القبائل ومن ألحق بها، دون أن يكون ثمة إشارة ما إلى هذا التقسيم. والواقع أنه لم يكن لمفهوم "يمن" و"يمنية" مدلوله الذي توسع في العصر الأموي، وهذا ما يقلل من أهمية دعوى النسابين بانقسام العرب منذ القديم إلى أصلين: قحطاني وعدناني. ثم إن ثمة شكًّا وغموضًا يكتنف كلًّا من قحطان وعدنان، وحتى نزارًا حفيد عدنان؛ فالعلماء يقولون: إن أهل الكتاب من العبرانيين هم الأصل في ذيوع هذا التقسيم بين العرب، لا سيما وأن الأنساب قد دونت بعد أواخر القرن الثاني للهجرة، بعد أن كانت الروايات الإسرائيلية قد شاعت بين المسلمين، سِيَّمَا بين رواة أهل اليمن. واليمنيون كان بينهم وبين الشماليين منازعات وعداوات تعود إلى ما قبل الإسلام -تلك المنازعات التي سميت باسم "منازعات يثرب - مكة"، وكانت بين الأوس والخزرج من جهة وقريش من جهة أخرى- واستمرت بعد الإسلام. لكن ظهور الإسلام قد سجل رجحانًا لكفة الشماليين على الجنوبيين، فأراد هؤلاء أن يعيدوا شيئًا من التوازن في المفاضلة، وحاولوا أن يضفوا على أصلهم رواءً زاهيًا، فاستغلوا ما أشيع من قصص وروايات إسرائيلية؛ ليجعلوا من اليمنيين نسلًا لقحطان العربي القح أصلًا، وكونهم أصل العرب، بينما جعلوا الشماليين في المنزلة الثانية بل الثالثة في سلم طبقات العرب، بوصفهم دخلاءَ على العروبة "مستعربون"1. والعالم "نولدكه" هو أول من شك من المستشرقين في هذا النسب العام وأول من نبه إلى أثر اليمنيين في وضعه. ويشير الدكتور جواد علي إلى أن الإسرائيليين لم يكونوا مخلصين في إعطاء هذه التقسيمات للأخباريين المسلمين؛ فوقع هؤلاء في أخطاء كثيرة حتى جاءت رواياتهم مضطربة2.

_ 1 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص6. 2 د. جواد علي: 1/ 225، 295.

وقد يكون مرد التقسيم في الأساس -على رأي بعض العلماء- إلى انقسام العرب إلى طبقتين رئيسيتين من حيث التماس المعاش: طبقة البدو من الأعرب "أهل الوبر" من جهة، وطبقة العرب المستقرين "أهل المدر" من جهة ثانية. لا سيما وأن النسابين قد حشروا غالبية قبائل العرب المستقرة من سكان الحواضر في النسب القحطاني، وغالبية القبائل البدوية في النسب العدناني. وبديهي أن مناطق الحضر أغلبها في الجنوب الذي يتمتع بشروط الخصب والزراعة، ومناطق البدو وهي في الشمال القاحل، فالتقسيم على هذا النحو تتحكم فيه على ما يظهر الاعتبارات الجغرافية. أما الشك الذي يكتنف الجدين الكبيرين فهو نابع من كونهما لم يعرفا في الجاهلية على نحو واضح، والقرآن الكريم لم يذكر أيًّا منهما، كما أن اسمهما لم يذكر في الشعر الجاهلي إلا نادرًا، بينما ذكر اسم معد بن عدنان أكثر من اسم أبيه سواء في الشعر الجاهلي أو فيما أتانا من كتابات المؤرخين الكلاسيكيين الذين لم يذكروا اسم عدنان بتاتًا. وهذا ما دعا العلماء إلى الشك في أمر عدنان إذ قالوا: "لو كان عدنان جدا كبيرا في الجاهلية -كما صوره أصحاب الأخبار والأنساب- لوجب عقلًا أن يتردد اسمه بكثرة في الكتابات الجاهلية أو في المؤلفات الكلاسيكية أو في الشعر الجاهلي"1. وقد خامر العلماء الشك في أمر نزار حفيد عدنان أيضا بسبب أن اسمه لم يرد في الشعر الجاهلي المتقدم، وأن وروده كان متأخرا جدا بالنسبة لورود اسم أبيه "معد"، وأن بعض الكتبة البيزنطيين قد ذكروا اسم "معد" ولم يذكروا اسم "نزار". ويعزز الباحثون شكوكهم هذه بأن العرب الشماليين قد عمدوا في الغالب على ربط نسبهم بمعد ولم يعمدوا إلى ربطه بنزار إلا نادرًا. على أن الشك في أمر هذه الأنساب لم يقتصر على المحدثين وحسب، بل خامر القدماء أيضا, فقد أنكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما ذكر أمامه من إرجاع نسبه إلى عدنان قائلًا: "من ها هنا كذب النسابون". كما أنكر الإمام مالك من الرجل يرفع نسبه إلى آدم أو إلى إسماعيل قائلًا: "من يخبره ذلك؟ "2. ويعلق الواقدي على اختلاف النسابين حول سلسلة الأجداد التي تصل نسب عدنان بإسماعيل بقوله: "إنها لم تحفظ، إنما أخذت من أهل الكتاب

_ 1 د. جواد علي: 1/ 196، 297. 2 راجع: القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ص24.

واختلف فيها، ومن الأفضل الانتهاء إلى معد، والإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل". والواقع أننا إذا رجعنا إلى أسماء الآباء والأجداد الذين تعاقبوا من إسماعيل إلى معد نلاحظ أنها كلها أعجمية؛ مما يدل على أنها قد أخذت من أهل الكتاب اليهود وكانت من وحيهم، بينما نجد أن الأسماء التي تسلسلت بعد معد كلها أسماء عربية خالصة. لذلك فإننا وبعض الباحثين المحدثين على وفاق بأن الأنساب العربية في تقسيماتها المتأخرة، اعتبارًا من معد نزولًا، قد تكون مما يوحي بالثقة والاطمئنان إلى حدٍّ ما. وقد تصدى بعض المستشرقين إلى انتقاد نظرية الأنساب بدعوى أنها قد لفقت في العهد الأموي، عندما انقسمت القبائل العربية في تنازعها إلى يمنية ومضرية. والواقع أن الدوافع السياسية قد حملت السلطة الحاكمة في العهد السفياني من الخلافة الأموية إلى سلوك هذا السبيل، ولكن في نطاق ضيق اقتصر على بعض قبائل من قضاعة. كما رأى بعضهم الآخر أن نظرية الأنساب العربية مخالفة للحقائق الثابتة علميًّا؛ ذلك أن سلاسل الأنساب العربية تعتمد على النظام الأبوي، بينما أثبتت الحقائق العلمية أن هذا النظام لم يعرف في شبه الجزيرة العربية إلا بعد أن مر العرب في دور النظام التوتمي1 الذي يجعل النسب في الأمهات، شأنهم في ذلك كشأن سائر المجتمعات القديمة, وأن العرب -عدا ذلك- قد مروا في أطوار كان الزواج فيها يتبع طرقًا أخرى غير التي عرفت في العصر الحاضر؛ إذ كان هنالك ما يسمى بالزواج الموقت الذي لا يدوم أحيانا أكثر من بضعة أسابيع، أو أن المرأة كانت تتزوج عدة رجال في وقت واحد، بحيث لا يمكن معرفة من هو الوالد الحقيقي للطفل المولود في كلا نوعي الزواج. وهكذا فإن الانتساب في كلتا حالتي التوتمية وطرق الزواج القديمة يكون إلى الأم لا إلى الأب. ويبدو أن هذا النقد ليس له قيمة كبيرة؛ لأن النظام التوتمي والزواج الموقت وزواج

_ 1 التوتم: حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويقسمون باسمه، ويعتقدون أنه جدهم الأعلى، وأنهم من دم واحد، مرتبطون بعهود متبادلة ترجع إلى ذلك التوتم، وينتسبون إليه لا إلى الأب الذي أنسلهم. ويدور محور القرابة على الأم وحدها ويحمل الابن لقب أمه وتوتمها. ويعتبر الأب كالغريب فيما إذا اعتدى على قدسية التوتم؛ وعندئذٍ يحق لأولاده قتاله بحسب ما تجيز التقاليد. "راجع عن التوتم: جورجي زيدان: طبقات الأمم, ص49".

المرأة بعدة أزواج معًا قد اندثرت في شبه جزيرة العرب بانتهاء عصور ما قبل التاريخ، فتجاوز العرب هذه المرحلة إلى نظام الأبوة. غير أن ما ذكره المستشرقون من مرور شبه الجزيرة بالنظام التوتمي ربما يكون قد ترك أثره في تسمية القبائل بأسماء تمت بصلة إلى الرموز التوتمية. ذلك أننا نلمس في أسماء بعض القبائل العربية بعض ما يدل على ذلك، مثال قبائل: كلب، أسد, نمر، نمير، فهد، ليث, وغيرها. والواقع أن ثمة قبائل ترجع أنسابها إلى آباء وأجداد، تنتمي إليهم وتفاخر بهم، وليس من الضروري أن يكون هؤلاء آباء وأجدادًا عاشوا وماتوا، بل قد يكون أحدهم اسم مدينة أو قرية أو أرض أو صنم أو حيوان أو نبات. نجد مثلا في كتب أنساب العرب أسماء لآباء وأجداد أو قبائل ما ليست في الواقع إلا أسماء لمواضع وأمكنة مثل: سبأ، غسان، عمان، حضرموت, وغير ذلك من الأسماء التي أصبحت بمرور الزمن أسماء رجال جعلهم النسابون ينسلون وتصبح لهم ذرارٍ وقبائل وبطون1. وأخيرًا هناك الانتقاد المهم الذي وجهه العلماء لنظرية الأنساب أن المحالفات والمؤاخاة ورابطة الجوار قد تؤدي إلى نشوء أنساب مشتركة هي في الأصل غير مشتركة, فإذا انفصمت عرا التحالف أو انقلب حسن الجوار إلى عداء تنفصم على أثره رابطة النسب، وتتكون رابطة نسب جديدة. وإذا علمنا أن القبائل العربية كانت في نزاع دائم فيما بينها، وأن كل فريق من الفرقاء المتحاربين كان يلجأ إلى عقد المحالفات ليواجه بها أحلافًا تعقد في الجانب الآخر، وأن هذه المحالفات قد تنقلب أحيانا فتخرج منها بعض القبائل لتنضم إلى الجهة المقابلة، أدركنا احتمال ما يطرأ من التغيير على أنساب القبائل. هذا إلى أن القبائل المتحدة قد تنسى أسماءها الأصلية وشخصيتها بمرور الزمن وتعاقب الأجيال وتندمج في اسم القبيلة الأقوى التي تنضوي إليها، فيزعم أفراد القبائل المندمجة فيما بعد أنهم ينحدرون من أب واحد أو جد واحد، بينما يكونون في الواقع منحدرين من آباء وأجداد متعددين ومختلفين2.

_ 1 د. جواد علي: 336. 2 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص4.

غير أننا يجب أن نحيط هذا الانتقاد ببعض التحفظ؛ ذلك أن التحالف الذي يستتبع إمحاء ونسيان نسب بعض القبائل المتحالفة لم يكن يتعدى بعض القبائل الصغيرة التي لا شأن لها، وأن التحالف حينما ينفرط تعود القبائل المتحالفة إلى نسبها الأول. لذلك فإن نتائج مثل هذه الأحلاف من حيث طمسها لنسب بعض القبائل أحرى أن تنحصر في نطاق ضيق.

الفصل الخامس: الدولة العربية القديمة في اليمن

الفصل الخامس: الدولة العربية القديمة في اليمن مدخل ... الفصل الخامس: الدول العربية القديمة في اليمن كان للصفات الجغرافية التي اتصفت بها بلاد العرب أثر كبير في حياة العرب وعاداتهم ومعيشتهم وتنظيمهم الاجتماعي. فقد اختلفت فيها الأقاليم وتنوَّع المناخ؛ فنتج عن ذلك تنوع الحياة البشرية. فحيث ساد الإقليم الصحراوي وشحت السماء بالغيث وحل الجفاف قامت حياة البداوة والرعي التي لا تعرف الاستقرار، كما في الشمال، وحيث سادت رطوبة الجو وهطل الغيث قامت الحياة الزراعية المستقرة، وساعد القرب من البحار على قيام التجارة. وقد توفر قسط وافر من هذه الشروط في اليمن التي تطل على البحار من الجهتين الغربية والجنوبية ولا يفصل بينها وبين البر الإفريقي سوى مضيق باب المندب. فاليمن بهذا الموقع الجغرافي تتمتع بميزة زراعية مهمة؛ لأنها معرضة للرياح شبه الموسمية، فتتلقى كمية من الأمطار الصيفية كافية لازدهار الزراعة فيها. وقد استغل اليمنيون القدماء تشكل السيول من الأمطار، فأقاموا في شعاب الوديان سدودًا وخزانات، حجزوا بها المياه واستفادوا منها وقت الجفاف، فاستقروا في الأرض وبنوا منازلهم بالحجارة. وقد مارسوا التجارة إلى جانب الزراعة، واضطلعوا بها بالنشاط نفسه الذي مارسوا فيه الزراعة لوقوع بلادهم على شواطئ البحار التي تفصل بينها وبين الشرق الأقصى، لا سيما الهند التي اشتهرت بإنتاج التوابل والبهارات وغيرها من المواد التي كان الطلب عليها شديدًا من الغرب الأوروبي، الأمر الذي جعل شبه جزيرة العرب - بموقعها المتوسط بين الشرق والغرب- بمثابة الجسر الذي تمر عليه هذه التجارة، وليس لمسالك التجارة العالمية مفر من اجتيازه. كما جعلها، في الوقت نفسه، ملتقى للتيارات الحضارية الآتية من شتى الجهات، فتفاعلت معها وأنتجت بدورها حضارة ضربت في مضمار التقدم والازدهار شوطًا مرموقًا.

فقد اتصلت بحضارة البنجاب في الهند عن طريق المحيط الهندي، وبحضارة بلاد الرافدين عن طريق الخليج العربي، وبالحضارة المصرية عن طريق وادي الحمامات الذي يصل الشاطئ الغربي للبحر الأحمر بالعاصمة المصرية القديمة "طيبة". ولا ينكر ما كان للتجارة من فضل في ذلك، وقد كان اليمنيون يقومون بدور الوسيط التجاري، إذ يجمعون سلع الهند من توابل وبهارات وأفاوية وغيرها ويضيفون إليها ما تنتجه بلادهم من مر وبخور ولبان وعطور وغيرها, ويوزعونها -عبر طرق برية وبحرية تمر من الساحل الغربي أو الساحل الشرقي لشبه الجزيرة- في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر الفرعونية. كما كان للمصريين تجارة مع اليمنيين، وكانوا يسمون بلادهم باسم "إقليم البنط" ويقصدون بذلك البلاد الواقعة جنوب البحر الأحمر على ضفتي مضيق باب المندب، وقد وردت أخبار رحلاتهم فيما خلفته حضارة الفراعنة من كتابات ترجع إلى الملك "ساحورع" من الأسرة الخامسة "القرن 26 ق. م" وقد قاد أو أرسل كل منهما حملة إلى بلاد البخور "البنط" وكانتا ناجحتين، وعادت السفن المصرية محملة بالبخور والأخشاب الثمينة والجواهر والصمغ وغير ذلك من المحاصيل. إن أهم الدول التي قامت في الجنوب العربي هي بالتتابع: معين، قتبان، حضرموت، سبأ، حمير, غير أننا قبل الشروع في دراستها لا بد من لفت الانتباه إلى ناحية مهمة في معالجة تاريخ اليمن, هي أنه لا يصح الاعتماد على روايات الأخباريين العرب في كتابته؛ لأن ما أوردوه عنه أقرب إلى الخيال والخرافة والأساطير منه إلى الحقائق العلمية، كما أوردت سابقًا.

دولة معين

دولة معين وهي أول وأقدم دولة يمنية استطاع المؤرخون أن يتسقطوا أخبارها على وجه اليقين. لكنهم اختلفوا حول تاريخ قيامها واضمحلالها: فهل ظهرت خلال الألف الثالثة أو الثانية ق. م. كما يقول " غلازر" أم بين 3500-1200، وسقطت سنة 700 ق. م. كما يقول "هومل"؟ ويعارض كل من "هاليفي وموللر وماير وونت Winnett" هذه الآراء، ويقول الثلاثة الأولون: إن أول ظهور لها لا يمكن أن يسبق الألف الأولى ق. م، بينما يدلي الأخير برأي يخالف الترتيب الزمني لظهور دولتي معين وسبأ، فيجعل الثانية

أقدم من الأولى التي يرجع ظهورها إلى 500 ق. م وسقوطها إلى سنة 24 ق. م, أو 50م1. وليس للباحث إلا أن يقف حائرًا بين هذه الآراء المختلفة التي لا يستطاع اعتماد أي منها قبل أن تكشف التنقيبات عن أدلة علمية ثابتة. لم يذكر المؤرخون والأخباريون العرب القدماء شيئًا عن هذه الدولة، اللهم إلا قولهم بأن معين هو محفد من محافد اليمن وحصن ومدينة، مما يدل على أنهم كانوا يجهلون كونها دولة عربية قديمة. غير أن الآثار التي اكتشفت حديثًا في أرض اليمن قد ألقت بعض الضوء على قبس من تاريخها القديم. ويعود الفضل في اكتشاف آثار عاصمتها معين إلى المستشرق الفرنسي "هاليفي" الذي قرأ اسمها المحفور بالخط المسند على النقوش التي عثر عليها في أنقاضها. كما اكتشف في القرب منها أنقاض مدينتين أخريين وهما يثيل "براقش اليوم" ونشق "البيضاء اليوم"، فتوجهت الأنظار إلى تقصي تاريخ هذه الدولة. وقد تبين أنها ازدهرت في منطقة الجوف، وهي المنطقة السهلية الواقعة بين نجران وحضرموت في الهضبة اليمنية الشرقية. وبعد أن كانت مدينة "معين" الواقعة إلى الشمال الشرقي من صنعاء الحالية، عاصمة سياسية لها، انتقل مركز المملكة إلى مدينة قرنا أو "قرناو" في أواخر عهد الدولة، بينما كانت يثيل عاصمتها الدينية. إن ما ساعد على نشوء الحضارة المعينية خصب أرضها ورطوبة مناخها، وتلقيها من الغيث ما يشكل أحيانا سيولًا تجري في وديانها مثل وادي خريد الذي يتجه إلى الداخل، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي على طريق الهند، ذلك الذي جعل منها بلدا تجاريا نشيطا دون أن تفقد الصفة الزراعية، كما كان بعض سكانها البدو، قد ثابروا على متابعة حياة الرعي والتنقل. هذه المزايا المتنوعة جعلت منها بلدًا غنيًّا بالمحاصيل التي تشكل مادة تجارية صالحة للتصدير مثل: الطيب والمر والبخور والعطور، فقد كانت بلادا كثيرة الغابات والأغراس، كما يقول المؤرخ "بلينيوس". كما كانت البضائع من أقمشة وسيوف وذهب وحرير وريش نعام مستوردة من الهند والصين تتكدس فيها، فتقوم بدور الوسيط التجاري بنقلها إلى الشمال وإلى الغرب عبر باب المندب، وقد احتكرت مقاليد التجارة بين الهند وحوض البحر المتوسط لمدة طويلة. وعلى رأي بعض المؤرخين أن الدولة قد

_ 1 د. جواد علي 1/ 382، 384، 394.

أنشأها التجار وغزاها الغنى التجاري، فانصرفت عناية حكامها إلى الاهتمام بتنشيط التجارة، وإنشاء محطات للقوافل ومراكز تؤمن انسياب تجارتها في كل السبل، من أهمها: معان في شمال خليج العقبة وقريبًا منه، ومنها البتراء عاصمة الأنباط كما يقول المؤرخ اليوناني "سترابون". ويظهر أن نفوذ معين التجاري قد امتد حتى خليج البصرة، وإلى جنوب سورية، وحتى الحوض الشرقي للبحر المتوسط بواسطة مدينة غزة التي قيل: إنها كانت أحد المراكز لتصريف التجارة المعينية، ويحتمل أن المعينيين كانوا يفرضون رسومًا جمركية على التي تمر ببلادهم، إضافة إلى ذلك وجد المستشرق "غلازر" أن يثيل كانت مدينة صناعية، فقد عثر في مساحات منها على آثار تشهد بأنها كانت أماكن للصناعة. تعاقب على معين عدد من الملوك يصعب معرفة تسلسلهم وتاريخ حكم كل منهم؛ لأن النقوش الكتابية المكتشفة لا تحمل من التواريخ ما يصح الاعتماد عليه، لأنها لا تؤرخ بحوادث معروفة, لكنه قد اتضح منها أسماء 26 ملكًا منهم، ويعتقد أنهم كانوا أكثر من ذلك. وكان هؤلاء يلقبون في صدر الدولة بلقب "مزواد" أو "مزود" وهو لقب يتضمن معنى الكهانة فضلًا عن الحكم السياسي. فإذا قيل مثلا: مزود معين، فمعنى ذلك كاهنها وحاكمها، وذلك قبل أن يستقل الملك بالحكم السياسي ويترك لغيره الكهانة. وقد اتضح من دراسة للمستشرق "موللر" أن نظام الحكم كان ملكيا مقيدا ووراثيا بحيث يرث الابن أباه. ويشارك الملك في الحكم مجلس استشاري يتمتع بسلطات واسعة. ويبدو أن حكومة معين كانت تتبع النظام اللامركزي في الحكم؛ إذ كانت كل مدينة من مدنها تتمتع باستقلالها الداخلي، لها آلهتها وهيئاتها الدينية، وحكومتها التي يرأسها ممثل للملك يحمل لقب "كبر" "أي كبير". كما كان لها مجالسها المحلية التي تحكم بين الناس، وتتألف من أشراف المدينة "مسود"1 والمجتمع المعيني مجتمع قائم على نظام الطبقات، والمعينيون قوم متدينون على العموم، يعيرون الدين أهمية كبيرة، وللمرأة مكانة محترمة في المجتمع وتتمتع بحرية واسعة. أما اللغة التي تكلمها المعينيون فكثيرة الشبه باللغة الحميرية والسبئية، الحروف

_ 1 د. جواد علي: 1/ 405، عرفت مثل هذه المجالس في مملكة سبأ باسم "مشود".

واحدة مع اختلاف في اللهجة، وفي بعض الضمائر، كما هي شبيهة باللغة العربية الشمالية، وقد اقتبسوا الهجائية الفينيقية لكتابتها. وقد اتضح من الدراسات التي أجريت حول آلهتهم أن أسماءها تشبه أسماء آلهة البابليين، وأبرزها الإله "ود" لكن المعلومات عنها لا تزال قليلة لا تخول المؤرخ أن يكوِّن فكرة واضحة عنها. لقد ازدهرت المملكة في الجوف، لكنها سرعان ما بسطت سيطرتها على كل بلاد العرب الجنوبية بما فيها حضرموت وقتبان، وامتد نفوذها حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي وبحر عمان بحيث شمل كل شبه الجزيرة العربية، وامتد إلى الشمال الغربي منها حتى حوض الفرات الأسفل بدليل أن عدة كتابات معينية ظهرت فيها؛ ولذلك يعتقد الباحثون أن الإمارات الصغيرة التي كانت تحكم هناك كانت تتبع الدولة المعينية. لكن الدولة لم تكن -على ما يظهر- دولة حرب بل دولة تجارة، شأنها كشأن الدولة الفينيقية، إذ كانت طرقها التجارية تخترق أواسط شبه جزيرة العرب، كما كانت مستعمراتها تنتشر شمالا إلى أعالي الحجاز بدليل ما عثر عليه من النقوش المعينية في "العلا" قرب وادي القرى، وفي الصفا وحوران وغيرها. غير أن سيطرتها على أراضي قتبان وحضرموت في الجنوب قرب البحر كانت تختلف بحسب الظروف، ففي أوقات كان لهذه المناطق أمراؤها أو ملوكها الذين يحكمون مستقلين، وأحيانا كانوا يخضعون لحكم معين. وتدل نتائج بحوث المستشرقين على أن حكومات المدن التي كانت تتبع لمعين، على طريقة النظام اللامركزي، قد انتهزت الضعف الذي حل بملوكها منذ القرن الثالث قبل الميلاد، فأخذت تقوي نفسها وتستقل في جميع شئونها. وقد استنتج "غلازر" من أحد النقوش أن جيرانها السبئيين الذين كانوا يقيمون في الجهات الغربية قد شنوا عليها حروبًا متصلة، وظلوا يبتلعون منطقة تلو أخرى من أراضيها حتى أسقطوها، وقامت على أنقاضها دولة سبأ في عام 650 أو 630 ق. م. التي استقطبت جميع المدن المستقلة التي كانت تتبع لمعين1. ولكن قبل الحديث عن سبأ لا بد من إلقاء نظرة على "قتبان" و"حضرموت"

_ 1 د. جواد علي: 1/ 396: جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص113.

اللتين دار حديث العلماء حول ما إذا كانتا تابعتين لمعين ومعاصرتين لها, أم لم يكونا كذلك.

مملكة قتبان

مملكة قتبان: لقد استنتج العلماء من الآثار التي اكتشفت أن مملكة باسم "قتبان" قد تكون عاصرت دولة معين. وقد أشار بعض المؤرخين الكلاسيكيين إلى القتبانيين في تواريخهم. وربما تكون هذه الدولة قد عاصرت الفترة الواقعة بين 1000 ق. م و200 ق. م. حسبما جاء في دراسة للعالم "هومل" الذي استنتج من النصوص التي عثر عليها "غلازر" أسماء 18 من الملوك الذين حكموها. ولغلازر -في الواقع- يعود الفضل في وقوف العلماء على أخبارها, فقد كانت الكتابات التي عثر عليها أول نصوص قتبانية تصل إلى أوروبا، غير أن العلماء لم يتفقوا حتى الآن -لقلة هذه النصوص- على تعيين مبدأ ونهاية لهذه المملكة. فقد جعل بعضهم بداية الدولة سنة 1000 ق. م. وبعضهم الآخر 600 ق. م. لكن الاختلاف كان شديدًا حول تحديد نهايتها، إذ جعله بعضهم 200ق. م. وبعضهم الآخر 50 ق. م. وآخرون 200 ميلادية. ولا بد من توفر كثير من الأدلة والنصوص الأثرية للوصول إلى نتيجة. وكذلك صعب على العلماء أن يحددوا بدقة الموضع الذي أقام فيه القتبانيون دولتهم, وقد ذهب "غلازر" إلى أنه الموضع الذي سماه بطليموس "مامالي قوم" "Mamali Kome" وأنه يقع على سهل تهامة. ولم يبعد "سترابون" عن هذا عندما قال نقلًا عن "إيراتوستين" "194 ق. م" بأن القتبانيين كانوا يسكنون في الجنوب الغربي من أرض السبئيين "أي: بين صنعاء وباب المندب" بينما يحدد "هومل" موقع الدولة بكونه لا يبعد أكثر من 110كم جنوب شرقي مأرب1. ومن مراجعة كتاب "البلدان" لياقوت الحموي يتضح أن قتبان موضع في نواحي عدن. على أن الكتب العربية القديمة لم تنوِّه بشيء يستحق الذكر عن القتبانيين، إذ لم يرد في أخبار الجاهلية القريبة من الإسلام شيء عنهم, اللهم إلا ما قيل من أنهم من قبائل

_ 1 د. تلف نلسن، فرتز هومل، أدولف جرومان: التاريخ العربي القديم, ص 58.

حمير، مع أنه لم يرد في النصوص القتبانية ولا الحميرية ما يشير إلى صلة نسب بين الطرفين. ويعلل الدكتور جواد علي ذلك باندماج قتبان -بعد ضعفها وفقدان استقلالها- في مملكة سبأ، ثم فيما أطلق عليه اسم "مملكة سبأ وذو ريدان" "أي الدولة الحميرية" ذلك أن معظم القبائل التي خضعت لهذه الدولة -بعد أن علا شأنها- قد نسبت إليها وفي جملتها قتبان. أما من حيث الملوك الذين حكموها فلم يستطع العلماء وضع قائمة كاملة بأسمائهم ولا يزال ثمة ثغرات فيها، إنما استنتجوا من النصوص أن حكامها كانوا في أول فترة من حكمهم يحملون لقب "مكرب" التي تترجم بكلمة "مقرب" في لغتنا، وهي تعبر عن التقرب إلى الآلهة، فهي لقب مقدس، ويفيد القيام بوظائف الكهانة، أي: إن الحاكم هو في الوقت نفسه كاهن وشفيع للناس عند الآلهة، مثل هذا اللقب كمثل "مزود" عند المعينيين. لكن الأمر تطور بعدئذ إذ أضافوا إلى ألقابهم "ملك"، وفي فترة تالية نزعوا عن أنفسهم لقب "مكرب" واكتفوا بلقب "ملك"1. كانت لهجة الكتابات القتبانية أقرب إلى اللهجة المعينية منها إلى اللهجة السبئية، لكن أغلب النصوص التي نملكها عنهم قد كتبت في أغراض شخصية لا تفيد المؤرخ كثيرًا، إنما تتضمن بعض الكتابات نصوصًا رسمية تتعلق بفرض الضرائب وبالتجارة، أو تحتوي على قوانين من جملتها كتابة هي عبارة عن قانون من القوانين الجزائية، ذكر بأنه صدر "باسم الملك" وورد بعد اسمه كلمة "مشود"، وهي تعني المجلس الذي يجتمع فيه رؤساء المملكة والمشايخ والأعيان؛ للبت في الأمور وتقنين القوانين وإدارة الحروب وتنفيذ الأعمال، فهو مجلس الملك ومجلس المدينة، وكان مركزه في العاصمة "تمنع" وهي مدينة كحلان الحالية. ويظهر أنه كان ثمة مجالس شبيهة به في كل مدينة من المدن القتبانية للبتِّ في الأمور المشابهة. والجدير بالذكر أن القانون المذكور قد حدد عقوبة القتل "القاتل يعاقب بالقتل، أو بعقوبات أخرى بحسب الأوامر التي يصدرها الملك بمقتضى هذا القانون" كما حدد

_ 1 د. جواد علي: 2/ 8-11.

عقوبات مرتكبي مختلف الجرائم ومخالفي القوانين والأنظمة، وعقوبة الشخص الذي يقتل مجرمًا حكم عليه بالموت ... إلخ1. وأخيرًا يستدل من النقود الذهبية التي عثر عليها في العاصمة "تمنع" وفي مدينة "حريب"، ومن التماثيل المصنوعة من المعدن، ومن بعض المصنوعات المعدنية التي وجدت في أماكن أخرى، أن القتبانيين كانوا على نصيب وافٍ من التقدم، وأنهم قد ضربوا بسهم وافر في المدنية والحضارة، وأما معبودهم الرئيسي فهو الإله "عم".

_ 1 راجع تفصيل هذا القانون في كتاب: "د تلف نلسن" ورفاقه: التاريخ العربي القديم، ص132.

مملكة حضرموت

مملكة حضرموت: ويظهر أن اسمها مأخوذ من اسم حضرموت أحد أولاد قحطان. وقد عرف شيء من أخبارها من الآثار والنقود والكتابات التي عثر عليها العلماء في خرائب مدينة شبوة، ومدينة عقلة الحضرميتين القديمتين. والمعارف عن هذه المملكة لا تزال قليلة بالرغم من أن العلماء قد تمكنوا من معرفة أسماء بعض ملوكها، لكنهم لم يتفقوا في ترتيبها ترتيبا زمنيا، واختلفوا في أسماء بعضهم، وفي تاريخ ظهور الدولة. ويظهر أن أوائل ملوك حضرموت قد عاصروا المتأخرين من ملوك معين, وأن حضرموت اندمجت في مملكة معين قرابة ثلاثة قرون تنتهي نحو سنة 630 ق. م. ثم اندمجت بعد ذلك في مملكة سبأ من 630 إلى 180 ق. م. حيث عادت فاستقلت، وقد تكون بقيت على قيد الوجود حتى سنة 300 م. أما العاصمة فقد كانت في بادئ الأمر مدينة "ميفعة" ثم انتقلت منها إلى مدينة "شبوة". كان الحضارمة وثنيين وقد عبدوا آلهة عديدة مثل: عثتر وحول وحويل. غير أن الاحترام الكبير كان للإله "سين" الإله القومي لحضرموت، والذي كان السكان يحسون بشعور عميق نحوه، ينذرون له النذور ويتقربون إليه؛ ليمنحهم العمر الطويل والخير والبركة، فقد جاء في كتابة عثر عليها عن لسان أحدهم يقول: "إن جسمه وروحه وأولاده وما يملكه ويقتنيه ونور عينيه وكل ما يفكر به قلبه هو لسين إله حضرموت".

الدولة السبئية

الدولة السبئية سبق وذكرت أن دولة سبأ ورثت دولة معين، وكان ذلك حوالي 630 ق. م. غير أن السبئيين كانوا قبل ذلك يشكلون دولة مستقلة إلى جانب دولة معين، بدأت تخمينًا من عام 950 ق. م. ومعنى ذلك أن أوائل حكامهم كانوا يعاصرون العهد الأخير من ملوك المعينيين. ولنلاحظ أن المعلومات عن دولة سبأ وافره نوعًا ما قياسًا لما هو معروف عن الدول التي سبقتها؛ لأن النقوش العائدة للعهد السبئي قد توفرت للعلماء أكثر من غيرها1. ويستدل من نقوش آشورية عثر عليها في بلاد الرافدين عن عهد "تغلات فلاسر" الثالث "745- 727 ق. م" ومن عهد "سرجون" الثاني "721 - 705 ق. م" وغيرهما من ملوك آشور أنهم قد استوفوا الجزية من بعض ملوك السبئيين. وبما أن الآشوريين لم يصلوا في فتوحهم إلى أرض اليمن، فيظهر أن هذه الجزية إنما هي عبارة عن رسوم أو هدايا كان السبئيون يقدمونها إليهم عن تجارتهم2 التي كان يحرصون على إيصالها إلى الشمال ولا سيما بلدة غزة التي كانت مخزنًا لتصريف السلع اليمنية في حوض البحر الأبيض المتوسط3، أو ربما كان المقصود بما ذكر في النقوش قبائل عرفت باسم "سبأ" أو "سبأي" يظن الباحثون أنها كانت قاطنة في الشمال العربي، سيما وأنهم استنتجوا أن أصل السبئيين من الشمال، وهو الرأي المرجح لدى العالم المستشرق "هومل" الذي استند على نقش عثر عليه "غلازر"، فقال: إن أصلهم من القبائل العربية التي كانت تسكن منطقة الجوف "في الشمال" نزحوا لسبب من الأسباب -وقد يكون بضغط من الآشوريين- إلى الجنوب اليمني واستوطنوا فيه، ثم أخذوا في بناء دولتهم وفي التوسع، حتى قضوا على دولة معين، وحلوا محلها، وحكموا البلاد بأجمعها4. لقد اتفق الباحثون على تقسيم حكم السبئيين إلى دورين:

_ 1 د. جواد علي: 2/ 100. 2 جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص117. 3 فيليب حتي: تاريخ العرب مطول: 1/ 46. 4 د. جواد علي: 2/ 106، 108، 128.

الأول: يمتد من 950 إلى 630 ق. م، وهو الدور الذي كان حكامهم يلقبون فيه باللقب الديني "مكرب"، وكانت عاصمتهم مدينة "صرواح" الواقعة بين مدينة مأرب وصنعاء، ومكانها اليوم مدينة "خريبة" شرق صنعاء. الثاني: من 630 إلى 115 ق. م، وهو الدور الذي تغلبوا فيه على معين وورثوها ولقبوا بألقاب "ملوك"، وأصبحت عاصمتهم مدينة "مأرب" التي تقع على بعد 100كم إلى الشرق من صنعاء. وقد بُدِئَ ببناء سد مأرب في أواخر الدور الأول، وبقي قائمًا حتى أيام الدولة الحميرية التي قامت على أنقاض دولة سبأ منذ 115 ق. م. وقد ظهر من الكتابات المنقوشة على السد أن أوائل بناته من المكربين "سمعهلي ينوف"، ثم ابنه "يتعمر بيين" ثم "كرب آل بيين" ولم تزل الإضافات تترى عليه في عهد الملوك حتى اكتمل حوالي عام 300 م في عهد الحميريين1. إن وجود هذا السد في بلاد اليمن دليل واضح على أن السبئيين كانوا على جانب كبير من الحضارة ومن التقدم، في فن البناء والهندسة, بالإضافة إلى اهتمامهم بالزراعة. وقد ورد له ذكر في القرآن الكريم {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَال} 2. كما شاهد الهمداني أنقاضه في القرن الرابع الهجري، ووصفه في كتابه "الإكليل" وصفًا ينطبق على ما وجده المكتشفون الحديثون من أنقاضه. وقد حدثنا عن مشاهداته لمقاسم الماء من مداخر السد قائلًا: "كأن صانعها قد فرغ من عملها بالأمس.... ورأيت أحد الصدفين، وهو الذي يخرج منه الماء، قائمًا بحاله على أوثق ما يكون، وإنما وقع الكسر في العرم، وقد بقي قسم من العرم.."3. بُني سد مأرب في مضيق بين جبلين يسمى كل منهما باسم "بلق" وفي وادٍ يسمى "وادي أذنة" الذي كانت تندفع فيه السيول نحو الشمال الشرقي، ومكانه يبعد مسيرة ثلاث ساعات عن "مأرب". وقد زار أنقاضه كل من "أرنو وهاليفي وغلازر" ووصفوه بما يتفق مع رواية الهمداني. وهو في مكان يرتفع 3900 قدم فوق سطح البحر، بطول 800 ذراع وعرض 150 ذراعًا، وارتفاع بضعة عشر ذراعًا، مبني بالحجارة الضخمة، ويستند

_ 1, 3 جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص151-152. 2 سبأ: 15.

عند طرفيه على الجبلين حيث صنعت له فتحتان في الجانبين، تتسرب منهما المياه في أقنية خاصة تتجه نحو الجنتين. وكان للفتحات أبواب صنعت من عوارض الخشب والحديد، تفتح لدى المباشرة بالسقاية1. ويظهر أنه بدأ يتصدع فيما بعد ويرمم، وآخر ما كان من ذلك عام 539 م في عهد الاحتلال الحبشي، ثم قلت العناية به في أواخر هذا العهد فتهدم. بالرغم من أن دولة سبأ قد كرست جل عنايتها للزراعة والتجارة والعمران، فإن النصوص التي عثر عليها في أنقاضها، وبخاصة منها ما وقع في يد "غلازر" تشير إلى حروب خاضها مكربوها في أواخر الدور الأول، ضد جيرانهم من الأذواء والأقيال. كان الهدف من هذه الحروب توسيع رقعة الدولة، والقضاء على الإمارات المستقلة المجاورة وصهرها، ولا سيما إسقاط دولة معين وابتلاعها. فهناك مسلة مرمرية، ونص معروف باسم "Glaser 1000" وآخر معروف باسم "نص صرواح" وغيرها عليها نقوش كتابية تشير إلى هذه الحروب. مثال ذلك أن المكرب "يثع أمر بيين" قد انتصر على القتبانيين فقتل الآلاف، وهاجم مملكة معين وضم بعض مقاطعاتها. والمكربان "مهأمرم" و"أمرم" هاجما بعض القبائل التي لم تخضع لسبأ، وجرت معها معركة قرب نجران أسفرت عن قتل عشرات آلاف الأعداء واغتنام عشرات الآلاف من رءوس الماشية، وإحراق وتخريب عدد من المدن في نجران أو حوالي يثيل2. ويستدل من النقوش أن "كرب آل وتر" كان آخر المكربين وأول الملوك، فمن الرقم ما يحمل اسمه مقرونا بلقب "مكرب"، ومنها ما يقرنه بلقب "ملك" والنقوش -ولا سيما نص "صرواح"- تفصح عن حروبه الكثيرة وانتصاراته المتتالية على جيرانه، وبخاصة معين وأوسان وقتبان التي ذكر أنها كانت حليفة له، ولكن يظهر أنه حاربها أيضا عندما شعر بازدياد قوته وهو يهاجم مملكة "أوسان" -وكانت تقيم في الجنوب الغربي من اليمن، وبلغت من القوة أنها بسطت سيطرتها على منطقة حضرموت وعلى الطرق التجارية المتفرعة عنها- فيحرز انتصارات كثيرة، يقتل ويأسر الآلاف، وينزع المناطق

_ 1 جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 158. 2 د. جواد علي: 2/ 182-129، 139.

والأرضين منها ومن معين وقتبان. وقد وصفه الدكتور جواد علي بكونه جسورًا مغامرًا أولع بالفتح والتوسع حتى انتهى به الأمر إلى إسقاط دولة معين، وبسط سلطانة بالحرب على جميع القبائل والمشيخات، فأسس مملكة واحدة تجمع كل ممالك اليمن تحت سيطرته ونفوذه، فاتخذ لنفسه لقب "ملك" مستبدلًا إياه بلقبه السابق "مكرب" وكان ذلك سنة 630 ق. م1. إن الكتابات التي عثر عليها في خرائب اليمن قد تعرضت لأسماء ملوك سبأ، وقد عرف منهم حتى الآن 20 ملكًا بالإضافة إلى 17 مكربًا، وكان لهم ألقاب تضاف إلى أسمائهم مثل: وتار "العظيم" بيين "الممتاز"، ذرح "الشريف"، ينوف "السامي". إنما لم يستطع العلماء معرفة الكثير من أخبارهم، وأكثر ما وقفوا عليه هو ما يتعلق بعنايتهم بالتجارة والعمران من بناء قصور ومعابد وإضافات لسد مأرب وغير ذلك. ومن المستندات الأثرية ما يدل على عنايتهم بالتنظيم الإداري والمالي, من ذلك قانون وضع في عهد الملك "يدع آل بيين" ابن الملك "كرب آل وتر" يتعلق بقبيلة "سبأ" وسائر القبائل، حددت فيه شروط استغلال الأراضي واستثمارها في مقابل ضرائب معينة تدفع للدولة, وقيام القبائل بالخدمة العسكرية، وتقديم عدد من الجنود لخدمة الدولة. وتوقيت صدور مثل هذا القانون مباشرة بعد فترة التوسع، يدلنا على تفرغ الدولة للتنظيم بعد الاضطرابات والحروب. وقد استنتج الباحثون من هذا القانون أن الرؤساء هم الذين كانوا يلتزمون بدفع الضرائب عن قبائلهم، وتقديم الرجال للخدمة العسكرية، إذ كانت أسماؤهم تذكر في الأوامر الملكية المتعلقة بالضرائب، إشعارًا منهم بموافقتهم والتزامهم بدفعها للدولة وفق الشروط التي تم الاتفاق عليها2. أما من حيث التجارة فإن السبئيين كانوا ملاحين ماهرين وتجارًا نشيطين، عبروا المحيط الهندي إلى الشرق الأقصى، معتمدين على معرفتهم بمواقيت حركات الرياح الموسمية التي تتبدل اتجاهاتها بحسب المواسم والفصول، فاحتكروا التجارة مع الهند، وجنوا من

_ 1 د. جواد علي: 2/ 128-131، 133، 135, 138، 155. 2 د. جواد علي: 161 - 166.

ذلك الأرباح الطائلة، إذ كان لهم أسطول تجاري يجوب موانئ الهند والصين والصومال وسومطرة وغيرها، وينقلون على متنه التوابل والأفاوية وغيرها من سلع الهند، وبعد أن يفرغوها في ساحل عمان يسيرون بها برًّا حتى البحر الأحمر، ومن هناك ينقلونها إلى مصر على ظهور السفن عن طريق البحر الأحمر. كما سيطر السبئيون على الطرق التجارية التي تصل اليمن بالشمال، وهي التي تسير من مدينة شبوة في حضرموت إلى مأرب فمكة فالبتراء فغزة، وقد بقي رخاء السبئيين مستمرًّا لمدة طويلة، فزهدت بلادهم، وازدهرت واتسعت ثروتهم، واتجهوا إلى العمران فبنوا السدود والخزانات والقصور والهياكل والمعابد وأحاطوها بالأسوار وتفننوا في تزيينها وزخرفتها وتجميلها، وغرسوا الحدائق حولها، واستتموا أسباب القوة التي تميز بها عهد المكربين. وهكذا إلى أن برز في وجه حكام سبأ في العهد الملكي من ينافسهم من الأمم الأخرى، كالبطالمة حكام مصر الذين استطاعوا أن يجدوا لهم منفذا إلى البحر الأحمر فالمحيط الهندي، فلم تعد الملاحة في هذه الجهات حكرا للسبئيين، لا سيما وأن البطالمة قد استطاعوا إحياء القناة الفرعونية القديمة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، فصارت سفنهم تجتازها وتسير برحلاتهم إلى هذا البحر، وحاولوا خوض غمار البحر الهندي، للوصول إلى أرض التوابل دونما حاجة إلى وساطة السبئيين، والحصول على التوابل والأفاوية التي كان الأوروبيون من سكان حوض البحر الأبيض المتوسط يقبلون على شرائها إقبالا شديدا. لكنهم فشلوا في تحقيق مآربهم لجهلهم سر تقلبات الرياح الموسمية، وخصائص المد والجزر في ذلك المحيط، إنما نجحوا مع ذلك في ارتياد البحر الأحمر وفي منافسة التجارة السبئية فيه؛ فانحط بذلك شأن السبئيين لزوال أهمية الطريق البري الذي كانوا يسيطرون عليه, وحل محله الطريق البحري من حيث الأهمية، إذ اتصل البطالمة بموانئه وبدءوا يتعاملون مع أهلها في التجارة. لهذه الأسباب تناقصت أهمية مدن سبأ، لتنتعش من التجارة البحرية المدن اليمنية الواقعة على شاطئ البحر الأحمر، الأمر الذي أدى إلى بروز أمرائها وازدياد نفوذهم، وكان من هؤلاء أذواء ريدان وأذواء حمير وغيرهم وبدأت المنافسة السياسية بين هؤلاء وبين ملوك سبأ، لا سيما وأن الوهن والانحطاط قد سلكا طريقهما إلى الدولة السبئية بسبب زوال العوامل الاقتصادية التي أدت إلى انتعاشها وازدهارها وقوتها -كما قدمنا- فاضطر قسم كبير من القبائل إلى النزوح عن البلاد، وتعاقب على العرش ملوك

ضعفاء لم يستطيعوا السيطرة على الاضطرابات الداخلية التي عمت البلاد طولًا وعرضًا. ومن الرجوع إلى النصوص القديمة نلاحظ أن أسباب الضعف الاقتصادي الذي أصاب مملكة سبأ يتضافر ويتشابك مع الأسباب الاجتماعية والسياسية ليئول أمر المملكة في النهاية إلى الزوال. ولنتابع التطورات التي حدثت من هذا القبيل: كان النظام السبئي السياسي في عهد المكربين يقوم على أساس العصبية القبلية لأسرة سبأ ممتزجة مع الدين، فهو نظام يمزج بين السياسة والدين. والمجتمع مكون من مدن وقرى وقبائل لكل منها آلهتها الذي يجمع شملها فهو حاميها، بدليل أن السبئيين كانوا يرفقون اسم الإله بكلمة "شيمم" ومعناها: حامٍ وناصر، أي: إن الإله حامي أتباعه وناصرهم، أو بكلمة "ألم" أي: إله الطائفة، أو بكلمة "صبلم" الطائفة ويعني: الرباط المقدس الذي يجمع شملها. وكان الإله "ألمقة" الذي يرمز إلى القمر، هو الإله القومي لسبأ، مع وجود آلهة أخرى إلى جانبه مثل "ذات حميم" و"ذات بعدن" وهما رمزان للشمس، و"عثتر" الذي يرمز إلى الزهرة1. غير أننا ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد لا نلبث أن نشاهد أن أسرًا جديدة قوية تظهر على مسرح الحوادث، وتنافس الأسرة السبئية "لأسباب اقتصادية وسياسية" وتلعب دورا خطيرا في سياسة اليمن، كما يلمع في سماء نفوذ الدولة الجديدة آلهة جديدة لم يكن لها شأن في الماضي، إنما برزت أهميتها بفضل الأسر الجديدة التي كانت تعبدها، فنقرأ أسماء آلهة مثل "تالب ريام"، "ذو سماوي" -وكانت تخص قبيلة همدان التي لعبت الدور الرئيسي في سياسة هذا العهد- كما نقرأ أسماء آلهة أخرى تخص غيرها من القبائل. إن ظهور هذه الأسر الجديدة والآلهة الجديدة ليس من قبيل الصدفة، إنما هو دليل على تطور خطير قد حدث في السياسة والاجتماع والدين، وظهور الهمدانيين كمنافسين للقبائل والعشائر التي أقامت عرش سبأ لم يكن من قبيل الاتفاق, ولم يكن من السهل على سبأ أن تقبل بآلهة جديدة تنافس إلهها القومي "ألمقة" لولا أن يكون ثمة عامل قاهر هو عامل القوة الذي زعزع التوازن السياسي في الدولة. والواقع أن دولة المكربين التي بدأت

_ 1 د. جواد علي: 2/ 114، 118.

على أساس ثيوقراطي "ديني" صارت تضم -نتيجة للتوسع والفتح- عناصر غير سبئية وأراضي جديدة لم تكن من صميم الأراضي السبئية. كما ضمت إمارات كانت -بطبيعة كيفية الضم- معادية لها، إذ اندمجت معها إثر حركة الفتح، فبزغت مفاهيم سياسية جديدة حطمت ما قبلها من مفاهيم قبلية ضيقة مستندة إلى أساس التعصب الشديد لمدينة أو قبيلة بعينها، وأحلت محلها مفاهيم جديدة بنيت على تفكير أوسع ونظرة أعمق وأشمل للواقع1. لكن هذه المفاهيم سرعان ما ترجمت إلى أعمال عنف تركت أثرها السيئ على المملكة. فمن النصوص المكتشفة نستنتج أن مملكة سبأ قد وقعت في أواخر أيامها فريسة للفوضى وهدفًا للأطماع الخارجية، وأقضت مضجعها المنازعات التي وقعت بينها وبين جيرانها الريدانيين والحضارمة والقتبانيين والحميريين الذين شعروا بكياناتهم السياسية المتميزة -بعد أن أفاقوا من صدمة قضاء السبئيين على استقلالهم- فنتج عنها حروب طويلة تفاقم أمرها؛ كان منها ما وقع بين سبأ و"ذو ريدان" وانتصرت فيها سبأ فضمت إمارة "ذو ريدان" فأصبح ملكها "ملك سبأ وذو ريدان". لكن الأحوال لم تهدأ، بل أعقبها حروب أخرى أشمل وقعت بين ملوك سبأ و"ذو ريدان" من جهة وحضرموت وقتبان من جهة ثانية، وقد اشترك فيها هؤلاء الملوك وشعوبهم وقبائلهم وانتشرت في جميع أنحاء البلاد. عندئذٍ أصبح الملك السبئي مضطرًّا إلى الاستعانة بأمير قبيلة همدان "يرم أيمن" -وكانت مكانته قد ارتفعت في نظر الملك- لفض النزاع بينه وبين أعدائه، فأدى هذا الأمير دوره بنجاح وانعقد بين الطرفين صلح لم يعرف أكانت شروطه في جانب سبأ أم في جانب خصومها. لكن "يرم أيمن" لم يدع الفرصة تفوته، بل اهتبلها، مستغلًّا نفوذه الذي بلغ الأوج في البلاط الملكي، ونفوذ قبيلته الذي توسع بين القبائل؛ لينافس الملك السبئي على؟؟؟. ولم يلبث الريدانيون والحميريون أن استغلوا، بدورهم، هذا النزاع الهمداني -السبئي، فأخذوا يعملون للاستفادة منه. أما قتبان فبعد أن اشتركت في الحروب السابقة

_ 1 د. جواد علي: 2/ 168-169. 2 د. جواد علي: 2/ 230-231.

نفضت يدها من النزاع لا سيما وأن أهميتها قد انحطت ولم يعد لها شأن في سياسة الجنوب اليمني. وأما حضرموت فقد تأرجحت بين الكفتين، تقف مرة إلى جانب همدان وأخرى إلى جانب سبأ، وفقًا للظروف السياسية التي تحيط بها. ومما تجدر الإشارة إليه أن الأحباش قد ظهر لهم وجود على سواحل اليمن الجنوبية في الأماكن التي كانت الإمارة "أوسان"، وطفقوا يتدخلون في الشئون الداخلية لمملكة سبأ، وراحوا يتحزبون لفريق دون آخر؛ لتحقيق مطامعهم في شبه الجزيرة العربية. وتبلور الموقف بين الطرفين في حلفين: يضم الأول سبأ وريدان وحمير، والثاني: همدان، وحضرموت، والأحباش. والذي جعل حضرموت تنحاز إلى همدان كونها قد استولت على أكثر أراضي قتبان وأصبحت تخشى السبئيين والحميريين والريدانيين الذين أخذوا ينافسونها في الغنيمة التي حصلت عليها ويهددونها. لقد انتصر الهمدانيون في أول الأمر على خصومهم، غير أن هؤلاء ما لبثوا أن أحرزوا النصر الحاسم عليهم في النهاية. ويظهر أن نفوذ ريدان وحمير قد ازداد بسبب هذه الأحداث، فأصبح لهم نوع من الإشراف عليها بسبب دعمهم لها، فأصبحت تحمل صبغة سبئية -ريدانية- حميرية، وسمي ملكها باسم "ملك سبأ وذو ريدان" وغلب عليها اسم "الدولة الحميرية"1.

_ 1 د. جواد علي: 2/ 232، 233-235.

الدولة الحميرية

الدولة الحميرية مدخل ... الدولة الحميرية إن ثمة اتفاقًا في وجهة النظر بين المؤرخين على تقسيم الدولة الحميرية إلى دورين: الدور الأول: وكان لقب الملوك فيه "ملك سبأ وذو ريدان" كما ظهر في النقوش التي عثر عليها في أنقاضهم، والتي يستدل منها أن أول ظهور لهذا اللقب كان سنة 115 ق. م. نتيجة ما ذكرت آنفا من حروب. غير أن هذا اللقب قد خضع لتطور جديد منذ عام 300 ق. م. إذ أضيفت إليه أسماء بعض المناطق الأخرى، فأصبح "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت"، وفي فترة أخرى أضيف "يمنات وعربهم في الجبال وتهامة" ولذا جنح المؤرخون إلى جعل سنة 300 م بدءًا لعهد جديد في الدولة الحميرية سموه: الدور الثاني، وقالوا: إن نهايته كانت سنة 525 م الموافقة للاحتلال الحبشي

لليمن. وقد اتخذت الدولة الجديدة مدينة ريدان التي عرفت فيما بعد باسم "ظفار" عاصمة لها، وهي تقع على بعد مائة كيلومتر إلى الشمال الشرقي من "مخا" على الطريق الذي يصل بينها وبين صنعاء.

الدول الأول

الدول الأول ... الدور الأول: "115 ق. م - 300 م": تمتعت الدولة في هذا الدور بالاستقرار والازدهار الاقتصادي, ففي الميدان الاقتصادي أفادت الدولة الحميرية من الضعف الذي بدأ يدب في دولة البطالمة في أواخر أيامها، لا سيما وأن قوتها قد أخذت في التلاشي أمام الضغط الذي لقيته من الدولة الرومانية التي ما لبثت أن تغلبت عليها، وانتزعت منها سورية ومصر في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد. لكن الفرصة لم تتهيأ لها في بادئ الأمر للاستقرار والاهتمام بالنشاط التجاري، فانفتح المجال بذلك لعودة التجارة اليمنية إلى سلوك الطريق البري القديم إلى جانب الطريق البحري، فلعب الحميريون دورا مهمًا في هذا الميدان، وعادوا إلى فرض السيطرة العربية على النشاط التجاري بين الشرق والبحر الأبيض المتوسط عبر الطريقين البحري والبري، فجنوا الأرباح الطائلة وجمعوا الثروات الضخمة، وازدهرت دولتهم أيما ازدهار، إذ أنشئوا القصور الشامخة، وأبرزها قصر غمدان الذي ذكر الهمداني أنه بني على عشرين طابقًا، ووصفه وصفًا يظهر أنه مبالغ فيه، وبنوا المعابد الفخمة وتفننوا في تزيينها وتجميلها، وغرسوا الحدائق حولها, واستحالت بلادهم إلى جنان وارفة الظلال عامرة البنيان، كما اقتنوا أفخر الأثاث والرياش وتمتعوا بنعيم الحياة. وفي الميدان السياسي شعرت الدولة الحميرية في بسط سيطرتها على كافة أرجاء الجنوب اليمني، وامتد نفوذها إلى خارجها، إذ هاجر جماعة من اليمنيين إلى أرض كوش "الحبشة حاليا" لأغراض تجارية، وأنشئوا هناك مستعمرات، وكونوا جالية يمنية نشرت بين الأحباش ثقافة لم يكن بوسع هؤلاء أن ينشئوها، وتمكنت في القرن الأول قبل الميلاد من إقامة دولة سميت "دولة أكسوم" التي اتخذت الخط اليمني "المسند" لكتابة لغتها التي عرفت باسم "الجعزية". كما هاجرت قبائل يمنية أخرى، ومنها معافر على ما يعتقد، إلى الشاطئ الشرقي من إفريقيا، وانتشرت في مختلف جهاتها، وأنشأت فيها -وبخاصة في الصومال وفي جوار زنجبار- بعض المشيخات والحكومات.

غير أن الوهن ما لبث أن دب في الدولة خلال الربع الأخير من القرن الأول قبل الميلاد، وكان عليها أن تواجه الخطر الروماني في مصر بعد أن أصبح قريبًا منها، فتعرضت لأطماع روما التي أخذت تمد نفوذها المناطق المجاورة، لا سيما وأن الرومان قد تضايقوا من الدولة الحميرية، ومن قوتها وسيطرتها على التجارة في المناطق المجاورة لأملاكهم الجديدة، واحتكارها لمواد الترف وللتوابل التي تأتي بها من الهند وتتحكم في أسعارها فلا تصل إلى أوروبا إلا بأغلى ثمن، فلما تسنم "أغسطس" عرش الإمبراطورية في روما عقد العزم على استلحاق البلاد اليمنية فأوعز إلى واليه في مصر "إيليوس غالوس" سنة 24 ق. م. بأن يسير على رأس حملة حربية نحو اليمن للاستيلاء عليها وعلى ثروتها ومحاصيلها، وللقضاء على القراصنة الذين كانوا على ما يظهر يزعجون سفن الرومان في البحر الأحمر، والذين كانوا يحتمون بسواحل الحجاز واليمن وللهيمنة على ملاحة وتجارة البحر الأحمر. فتحركت الحملة، وكان قوامها عشرة آلاف جندي بينهم مصريون ورومان بالإضافة إلى عدد من الأنباط يقدرون بألف جندي وخمسمائة يهودي. وقد رافقها كل من المؤرخ اليوناني "سترابون" والوزير النبطي "صالح Syllaeus" الذي وضعه ملك الأنباط عبادة الثاني أو الثالث "28 - 9 ق. م" تحت تصرف الحملة ليكون دليلها ومستشارها، بعد أن وقعت دولة الأنباط تحت سيطرة الرومان. سارت الحملة من الموانئ المصرية، ونزلت في الميناء النبطي "نيجرا" الواقع على البحر الأحمر إذ كانت سيطرة الأنباط تمتد إلى هذه الجهات، ومنها ثابرت على زحفها بطريق البر نحو الجنوب في أرض وعرة، قليلة الزرع والأمطار، إلى أن وصلت إلى مدينة نجران فاستولت عليها, ثم تجاوزتها إلى الجنوب حتى مسيرة ستة أيام. ولم يبق بينها وبين الوصول إلى هدفها سوى مسيرة يومين حينما شعر "إيليوس غالوس" باستحالة الاستمرار في الحملة بسبب الأمراض الفتاكة التي انتشرت بين جنوده، لا سيما وقد أصابهم الإنهاك الشديد، فعاد بها إلى "نيجرا" ومنها أبحرت إلى البر المصري بعد أن مضى على خروجها من الميناء النبطي ستة أشهر ولم تحقق الغاية التي ذهبت من أجلها. وقد تعرضت سواء في الذهاب أو الإياب إلى مهاجمة العرب لها هجومًا عنيفًا؛ مما اضطرها إلى خوض معارك ضارية معهم وكان لها الأثر الفعال والرئيسي في إخفاق الحملة.

أما "إسترابون" الذي رافق الحملة، فقد ذكر أسبابًا أخرى لفشلها، إذ عزا ذلك إلى ما زعمه من خيانة الوزير النبطي صالح، الذي اتهمه بتضليل الرومان والسير بهم في طريق مقفرة، وفي أراضٍ لا زرع فيها ولا ماء، بقصد إهلاك الجيش الروماني، وقد أنحى عليه باللائمة وحمله مسئولية الإخفاق، بينما يرى "غلازر" أن مسئولية الإخفاق إنما تقع في الحقيقة على عاتق الرومان أنفسهم لجهلهم بطبيعة أراضي العرب ولغرورهم1. لقد أثبتت حملة "إيليوس غالوس" أن الاستيلاء على اليمن عن طريق القوة ضرب من المحال؛ لذلك عدل الرومان عن هذا الأسلوب إلى آخر هو أسلوب الدسائس والمؤامرات للوصول إلى فرض النفوذ الاستعماري الروماني غير المباشر، واتخذوا الحبشة مخلب قط لتحقيق مخططهم في إخضاع اليمن. كما ثابروا على تنفيذ سياستهم المرسومة للقضاء على احتكار اليمنيين لتجارة الشرق والحلول محلهم في امتلاك مقاليدها. وقد نجحوا في هذه السياسة إلى حد بعيد، فما أشرف الدور الأول الحميري على الانتهاء حتى بدأت قوة عرب الجنوب في الانحدار والتضعضع لاستمرار مزاحمة الرومان لهم في النشاط التجاري وعجزهم عن مقاومة هذه المنافسة. ذلك أن الرومان قد أفادوا إفادة كبرى من تجارب أسلافهم البطالمة في هذا الميدان، ومن القناة الفرعونية التي أعادوا فتحها، فتمكنوا من تسيير سفنهم في المحيط الهندي واستطاعوا الوصول إلى الهند والتزود من محاصيلها والعودة بها إلى بلادهم، فقضوا بذلك على الاحتكار اليمني لتجارة الشرق، الأمر الذي قاد الحميريين إلى طريق الانهيار الاقتصادي فالسياسي.

_ 1 د. جواد علي: 2/ 384-387.

الدور الثاني من الدولة الحميرية

الدور الثاني من الدولة الحميرية "300 - 525 م أو عصر التبابعة": أما من الناحية السياسية، فإن تسرب الأحباش إلى اليمن قد بدأ كما رأينا منذ القرن الثاني قبل الميلاد نتيجة النزاع السبئي الهمداني، وقد حاولوا احتلال اليمن مرات عديدة بعد ذلك، ونجحوا في الحصول على موطئ قدم لهم في بعض المدن الساحلية مرتين، كان أخراهما عام 345م. وقد أثبت ذلك ما جاء في الكتابات الحبشية الأثرية التي أصبحت تطلق على ملوك الحبشة لقب "ملوك أكسوم وحمير وريدان وتهامة".

ومن الثابت أن هذه الحملات الحبشية الأولى كانت تهدف إلى انتزاع السيادة التجارية من اليمنيين ونشر الدين المسيحي في ربوع اليمن بتحريض من الرومان, كما كانت بمثابة حملات استطلاعية مهدت السبيل لحملات تالية. غير أن الحكم الحبشي لم يستطع أن يعيش طويلًا، إذ تضافرت جهود الحميريين من مختلف الفئات، من دينية ورسمية، في مقاومة الأحباش وتمكنوا من إخراجهم سنة 378م، وعاد الحميريون إلى حكم بلادهم حتى عام 525م. ويطلق الأخباريون العرب على ملوك هذا الدور لقب "التبابعة" "جمع: تبع"، ويروون قصصًا خيالية عن قوتهم وعظمتهم، لا سيما امتداد حكم بعض ملوكهم إلى أماكن بعيدة كغزو سمرقند وفارس والسغد وأفريقية وبسط السيطرة العربية عليها1، مما يتنافى مع الحقيقة التاريخية، ولا يمكن قبوله، لا سيما في هذه الفترة التي كانت اليمن فيها مهددة بالغزو الخارجي. في هذا الدور دخلت الديانتان المسيحية واليهودية إلى بلاد العرب. أما الديانة المسيحية فقد دخلتها بواسطة مبشرين من نساطرة سورية والحيرة تسربوا إلى الجزيرة العربية، أو بواسطة اليعاقبة أتباع مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح، الذين جاءوا من الحبشة وأنشئوا لهم كنائس عديدة في عدن وظفار ونجران، وكان قيصر الروم البيزنطي الإمبراطور قسطنطين من وراء هذه المحاولات. فقد عمل على إدخال المسيحية إلى بلاد العرب سواء بطريقة الدعاية أو التبشير "إرسال بعثات تبشيرية برئاسة كهنة منهم: توفيل فرومنتوس" أو بطريق الفتح الحربي لتحقيق غاية مزدوجة هي نشر الدين المسيحي ونفوذ الروم السياسي والتجاري في آن واحد، مستهدفًا من ذلك كله مقاومة نفوذ الفرس الذي أخذ يتغلغل في البلاد، ومقاومة الديانة اليهودية في الوقت نفسه. ذلك أن اليهود أخذو ينتشرون في العالم بعد أن استولى الرومان على فلسطين ونكلوا

_ 1 نسب إليهم الأخباريون غزو أفريقية والبربر وبلاد المغرب ووصولهم إلى الشرق حتى أذربيجان وإلى بلاد السند فيما وراء النهر، وإلى بلاد الروم حتى القسطنطينية، وحتى إلى بلاد الصين في حروبهم وفتوحهم مما لم يرد له أية إشارة أو دليل في تواريخ الأمم المجاورة أو في الآثار الباقية عن المناطق المذكورة. وقد وصف ابن خلدون هذه الأقوال بأنها عريقة في الوهم والغلط.

باليهود "70م" وتشتت شمل هؤلاء فدخل قسم كبير منهم بلاد العرب من جهة الشمال على الأغلب، بدليل أن عدة قبائل منهم كانت تقطن مدينة يثرب قبل الإسلام بقرون عديدة. ويعتقد أن ملوك حمير الذين غادروا اليمن إثر احتلال الأحباش لبلادهم، والتجئوا إلى يثرب قد تأثروا بالديانة اليهودية، غير أنه ليس من دليل ثابت على أنهم قد اعتنقوها، وإن كان هناك من يعتقد أن آخر ملوكهم "أسعد كامل" الملقب باسم "ذي نواس" قد اعتنقها، وهذا مشكوك فيه، بالرغم من أن حركة تبشيرية يهودية قوية قد رافقت حكمه، وأحرزت نجاحًا كبيرًا، فانتشرت اليهودية بشكل واسع في اليمن "في القرن السادس الميلادي" حتى قيل: إن 100 ألف من اليمنيين قد اعتنقوها. ويبدو أن ذلك كان كرد فعل لنشاط التغلغل المسيحي ولنشاط الضغط الاستعماري الروماني الذي يكمن وراءه.

الدور الحبشي

الدور الحبشي "525 - 575 م": احتل الأحباش اليمن في عهد الملك ذي نواس الذي أصبح التنافس اليهودي المسيحي في عهده على أشد ما يكون. فقد بلغ التوتر منتهاه عندما أدرك العرب أن المسيحيين العرب كانوا واسطة لتسرب النفوذ الحبشي إلى البلاد، فاعتبر ذو نواس المسيحيين خونة، واتخذ من قتلهم غلامين يهوديين ذريعة لاضطهادهم والفتك بهم، فسار إليهم بجيش كبير ودخل مدينتهم نجران، وخيرهم بين ترك ديانتهم أو القتل، ولما أبوا إلا البقاء على دينهم أقام لهم مذبحة رهيبة وأحرق عددًا كبيرًا منهم ودفنهم في أخدود. وقد جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ, النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} 1. لم تمض حادثة الأخدود بسلام، فما أن أبلغ بها الإمبراطور البيزنطي "جوستين الأول" -وكانت يزنطة وريثة الحكم الروماني في الشرق تعتبر نفسها حامية المسيحية في هذه الجهات آنذاك- حتى اغتنم الفرصة لتحقيق مآرب دولته الاستعمارية في اليمن، وإضافة مراكزها التجارية البرية والبحرية إلى ما استولى عليه من مناطق كالبتراء وتدمر ومعان، التي أصبحت في ذلك الحين تحت سيطرة الروم المباشرة، فتكمل بذلك جميع حلقات السلسلة بضم الحلقة الناقصة منها، فكتب إلى نجاشي الحبشة - وكان الأحباش

_ 1 البروج: 4-5، وما بعدهما من آيات.

أقرب إلى الأتباع منهم إلى حلفاء أو أصدقاء البيزنطيين- لتأديب ملك اليمن. فأرسل النجاشي 70 ألف مقاتل بقيادة القائد "أرياط" الذي ظل يقاتل الملك الحميري حتى انتصر عليه سنة 525م، واستولى على اليمن وقضى على استقلالها وسيادتها، وأذل حمير وقتل ثلث رجالها، وبعث إلى النجاشي بثلث نسائها سبايا، بينما رمى ذو نواس نفسه في البحر وانتحر، وكان آخر ملوك حمير. حكم بعد أرياط أحد قواده "أبرهة" الذي قتل سلفه وانتزع القيادة منه، وما لبث الأحباش أن كشفوا القناع عن وجه استعماري مقيت، فحكموا حكمًا شديدًا ضج منه الناس ودام خمسين عاما. وقد استغلوا حكمهم لليمن في نشر الديانة المسيحية في جميع أرجاء الجزيرة العربية، جنوبيها وشماليها، وفي بسط سيطرتهم الاقتصادية عليها، لا سيما في ميدان التجارة، هذا الميدان الذي بدأ عرب الشمال في اقتحامه، وبدأت تجارتهم في النمو والازدهار، وأخذت قوافلهم التجارية ترتاد طرق التجارة العربية من الحجاز حتى بلاد الشام من جهة ومن الحجاز حتى اليمن من جهة ثانية، وأصبحت مكة والمدينة مركزين لهما أهمية عظيمة في النشاط التجاري، وإن يكن هذا النشاط قد اقتصر على داخل الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر. وقد زاد الحجاز أهميةً كونُهُ المركز الديني لعرب شبه الجزيرة لوجود الكعبة، وهي أكبر مركز ديني وثني آنذاك، فأثار هذا كله حفيظة أبرهة الحبشي، ودفعه إلى منافسة التجارة الحجازية، ومجاراة مكة في أهميتها الدينية كوسيلة لاستقطاب النشاط التجاري الداخلي لعرب الجزيرة، وتركيزه في المدن اليمنية التي يسيطر عليها الأحباش. وهذا ما حدا به إلى بناء كاتدرائية عرفت باسم "الكليس" أو "القليس" -وهي كلمة محرفة من كلمة إيكليزيا اليونانية- في صنعاء، وبالغ في تزيينها وإتقانها، وقد نقشها بالذهب والفضة وصنوف الجواهر والزجاج والفسيفساء، وأخذ يسعى لجذب العرب إلى زيارتها والعزوف عن زيارة الكعبة. لكن العرب أظهروا تعلقهم بالكعبة وكرههم للأحباش واحتقارهم للكليس، فقام اثنان من قبيلة فقيم ووضعوا أقذارًا فيها؛ الأمر الذي جعل أبرهة يتميز غضبًا وأقسم ليهدمن الكعبة، وسار بجيش إلى مكة لينفذ وعيده في العام الذي سمي بعام الفيل

"570 - 571 م" وكان ما هو معروف من فشل الحملة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم "سورة الفيل". ويفسر بعض المفسرين ما ورد في سورة الفيل من ذكر للطير الأبابيل بأن ما رمته هذه الطيور إنما هو كرات من الطين موبوءة، فانتشر داء الجدري والحصبة في جيش أبرهة، وتقرحت جسومهم على ما يذكره الرواة، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذعر الجيش الحبشي وتراجع، ويروى أن أبرهة نفسه قد أصيب بهذا الوباء وقضى نحبه بعد قليل "تفسير الإمام محمد عبده".

الدور الفارسي

الدور الفارسي "575 - 632 م": حكم "أبرهة" اليمن ما يقارب 23 عامًا، ولما توفي خلفه ابنه "يكوم" ثم أخوه "مسروق". وقد أساء الأحباش إلى اليمنيين وأذلوهم، حتى إذا اشتد بهؤلاء البلاء عزموا على التخلص من مستعمريهم، وقد تزعمهم رجل من أذواء حمير يدعى الأمير "سيف بن ذي يزن" الذي أصبحت سيرته في تحرير بلاده موضوع روايات وملاحم دخلها كثير من الخيال والأسطورة. لجأ سيف بن ذي يزن إلى كسرى الفرس وطلب مساعدته في إخراج الأحباش من بلاده، فاستجاب كسرى لطلبه؛ نظرًا للعداء الفارسي البيزنطي، ولكون الاحتلال الحبشي لليمن وما يكمن وراءه من نفوذ بيزنطي يؤثر تأثيرًا سيئًا على الاقتصاد الفارسي من حيث تحويل تجارة الشرق الأقصى إلى أيدي البيزنطيين، وحرمان الفرس من الأرباح التي تأتيهم من تجارة التوابل عبر الخليج العربي إلى المناطق الشمالية؛ لوجود منافسين أقوياء إلى جانبهم، هذا بالإضافة إلى ما ينجم عن احتلال اليمن من تزايد في السيطرة السياسية البيزنطية، ومن اختلال في توازن القوى السياسية بين الدولتين العدوتين. وهكذا أرسل كسرى مع سيف بن ذي يزن جيشًا بقيادة "وهرز" أبحروا من الخليج العربي ونزلوا في شواطئ حضرموت، وما كادوا ينزلون البر اليمني حتى انضم إليهم كثير من السكان، فقاتلوا الأحباش، واستطاعوا أن يطردوهم، وأن يحرروا اليمن من حكمهم. وتسنم سيف بن ذي يزن مقاليد الحكم بالاشتراك مع الفرس، واتخذ قصر غمدان -بعد أن رمم- مقرًّا له، ثم أخذ ينتقم من الأحباش ويقتلهم حتى كاد أن يفنيهم، ولم يبق منهم إلا قلة ذليلة اتخذ من أفرادها عبيدا له. فاغتنم هؤلاء غفلة منه واغتالوه،

فانفرد الفرس الساسانيون في الحكم. والواقع أن الفرس دخلوا البلاد كمحررين، وجعلوا الحكم أولًا مشتركا بينهم وبين العرب، لكنهم ما لبثوا أن استغنوا عن العرب -بعد مقتل سيف- وحكموا البلاد حكمًا مباشرًا. غير أن الاضطرابات التي حدثت في الدولة الفارسية جعلت مركز الحاكم الفارسي ضعيفا، فاستقوت عليه القبائل العربية وثارت ضده؛ فانحصر نفوذه في صنعاء وما يجاورها، بينما قوي نفوذ الأمراء المحليين. أما ولاة الفرس فكان أولهم "وهرز" وآخرهم "شهر بن باذان" الذي أدرك والده الإسلام واعتنقه سنة 628 م "6هـ" وظل واليًا عليها هو وابنه شهر من بعده حتى عام 632 م "10 هـ" حينما أصبحت اليمن ولاية إسلامية، وانتهى بذلك حكم الفرس لليمن.

الفصل السادس: حضارة دول اليمن القديمة

الفصل السادس: حضارة دول اليمن القديمة مدخل ... الفصل السادس: حضارة دول اليمن القديمة كان أهل اليمن ذوي حضارة ومدنية عريقتين، عمروا المدن وشيدوا القصور، وزينوها بالذهب والفضة، ونعموا بمباهج الحياة، ورفلوا بالثياب المترفة المصنوعة من الخز والحرير وغيرهما من فاخر الأقمشة، واقتنوا آنية الذهب والفضة والأثاث والرياش الفاخر -حسبما جاء في وصف المؤرخ "آغاثر دس" لحياتهم- وهذا يدل، ولا شك على أنهم كانوا على نصيب كبير من الغنى والازدهار. وكان سبب غناهم عنايتهم بالزراعة والتجارة، تلك العناية التي اضطلعت بها دولهم العديدة التي سبق لنا دراسة تاريخها السياسي ويبقى علينا أن نلم بلمحة عن حضارتها. وإن البحث لا يستقيم إلا إذا قدمنا له بلمحة عن أصل نظام الحكم في اليمن, فقد شبهة بعضهم بالنظام الإقطاعي الذي كان سائدًا في أوروبا خلال القرون الوسطى, إذ كانت اليمن تقسم إلى مخاليف "مفردها: مخلاف وهو أكبر وحدة سياسية وإدارية" تتبعها محافد "مفردها: محفد" وينقسم المحفد إلى مدن وقرى. وربما كان اليمن القديم مؤلفا من 84 مخلافًا ذكرها اليعقوبي كلها، كما فصل الهمداني كل مخلاف بقراه وأوديته وجباله في كتابه "صفة جزيرة العرب"1. ويوضح الباحث العربي جورجي زيدان تقسيمات المحافد بقوله: إن اليمن كانت تقسم إلى محافد وهذه إلى قصور. والقصر كان كالحصن أو القلعة يحيط به سور، ويقيم فيه شيخ أو أمير يحف به الأعوان والحاشية والخدم، ويعرف صاحب المحفد بلفظ "ذو" بمعنى صاحب، فيقال مثلًا: "ذو غمدان" و"ذو معين" بمعنى صاحب غمدان، صاحب معين. وتسمى هذه الطبقة باسم "طبقة الأذواء" الذين كانوا يتدرجون في المراتب, وكل منهم يتبع الآخر. وهم يشبهون بارونات ولوردات أو

_ 1 جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام، ص109-110.

نبلاء وفرسان النظام الإقطاعي في أوروبا. ولكل من المحافد حكومته القائمة بذاتها، وأشهر المحافد أو القصور التي وصلت إلينا أسماؤها: غمدان، ناعط، صرواح، سلحين، ظفار، شبام، براقش ... إلخ. وقد بقي بعض هذه القصور إلى ما بعد الإسلام وذكرها بعض المؤرخين في كتبهم. وقد تجتمع عدة مخاليف في وحدة إدارية أكبر يتولى أمورها أمير واحد يسمى "قيل" "جمعها: أقيال" ويقابل لقب ملك، وكان الأقيال يتحاربون ويتغازون، ويستولى أحدهم على مخلاف جاره، ويضمه إلى مخلافه، ويبسط سيطرته على أهله، ويجعل من المخلافين أو المخاليف العديدة التي يستولي عليها مملكة كبيرة ينظمها، ويجعل محفدة عاصمتها، فتنتسب المملكة إليه. وقد يطول بقاء المملكة أو يقصر، يتقلص سلطانها أو يتسع، ويتتالى الحكم عليها في أولاده. على هذه الصورة نشأت الدول في الجنوب العربي اليمني.

نظام الحكم

نظام الحكم: لقد مر معنا سابقًا أن اليمن كانت مقسمة إلى مخاليف ومحافد وقصور يحكمها أذواء وأقيال بما هو أشبه بالنظام الإقطاعي, ثم ظهر الملوك نتيجة لتوسع الأقيال على حساب جيرانهم، وألفوا الممالك الواسعة، ونظموا شئون ممالكهم، وأمنوا العلاقات الإدارية والاقتصادية بين رعاياهم، فضربوا النقود من الذهب والفضة، ونقشوا عليها أسماءهم وأسماء المدن التي سكت فيها، وجعلوا على أحد وجهيها رسومهم، وعلى الوجه الآخر نقشوا رموزًا كصورة البوم أو الصقر ورأس الثور أو الهلال معتمدين في ذلك على نماذج يونانية. لم يكن الملك في دول اليمن مطلق الصلاحية على العموم، بل كان حكمه على الغالب، مقيدًا إلى حد ما، إذ يستعين بمجالس استشارية تساعده في المسائل التشريعية، كما في مملكة معين وسبأ ومملكة قتبان وغيرها التي فيها مجلس للشيوخ "مشود" يشارك الملك في سن القوانين. وعلى العموم كانت السياسة العامة تقرر من قِبَل هيئة عامة مؤلفة من رجال القبائل البارزين، ويشترك مجلس الشعب مع الملك في سن القوانين، وتنظيم الأوامر الملكية التي تصدر بشكل مراسيم، وتكتب غالبا على لوحة من البرونز أو الحجر,

وتعرض في الساحات العامة والمعابد ليراها الناس جميعًا، وقد عثر بين الأنقاض على مجموعة من هذه اللوحات. ومع ذلك كان الملك يبدو كسيد إقطاعي يخضع له سائر أمراء الإقطاع، ولا يخرج من قصره إلا قليلًا1، ويسير وفق نظام مزيج من الأرستقراطية والإقطاعية والأعراف القبلية والروح الطبقية. فقد كان الشعب يقسم إلى طبقات اجتماعية شبيهة بطبقات النظام الإقطاعي في أوروبا. فهنالك الأشراف والأذواء، فالملاك فالتجار فالصناع فالزراع ثم الرقيق، بالإضافة إلى الجاليات الأجنبية، ولكل طبقة من هذه الطبقات حدود لا تتعداها، ولا ينتقل أحد منها إلى سواها. كان الحكم في ممالك اليمن وراثيا في أبناء الملوك، وينتقل أحيانا إلى الإخوة، إلا في حضرموت حيث يكون محصورا في أول مولود من الأشراف يولد في أثناء حكم الملك. فإذا ما استلم أحدهم الملك، نظمت قائمة بأسماء زوجات أمراء البيت المالك الحوامل, حتى إذا ولد أول مولود أخذ ونشئ نشأة خاصة، وخضع لتربية ترتفع بمواهبه، وتهيئه لاستلام الحكم عندما يحين الأوان. أما النساء في بعض ممالك اليمن فكان لهن الحق مبدئيًّا في وراثة العرش كالرجال. لم تكن دول اليمن على العموم دول حروب وفتوح، بل كانت دولًا تركز جهودها على الأمور الاقتصادية كالتجارة والزراعة؛ لذلك قلما كانت تعتني بتنظيم الجيش وتهيئته للحروب، بل لحفظ القلاع وحفظ النظام وحراسة القوافل، ولم يكن يدعى لخوض المعارك إلا إذا دعت الحاجة إلى الدفاع عن سلامة البلاد، إذا تعرضت للاعتداء الخارجي. إنما كان الملوك يجمعون رجال المملكة ويكلفونهم بالإسهام في بناء المدن والقصور والسدود وترميمها بما يشبه نظام السخرة. كان المجتمع اليمني شبه اشتراكي بحيث يشترك أفراد كل عائلة بالأموال والمتاع،

_ 1 من الرسوم التي وصلتنا عن ملوك اليمن, وخاصة تلك التي رسمت على النقود المكتشفة نشاهد أنهم كانوا يحلقون لحاهم وشواربهم ويرسلون شعور رءوسهم ويضفرونها جدائل تتدلى على ظهورهم أو خدودهم. وإذا خرجوا من قصورهم ركبوا الخيول, أو استقلوا المركبات التي تجرها الخيول. وأما لباسهم فكان عبارة عن مآزر موشاة بخيوط الذهب، ويزينون زنودهم بالأساور الذهبية.

ويضطلع بمسئولية إدارة شئونها أكبر رجالها سنًّا. أما الضرائب فقد فرضها اليمنيون على الزراعة ومختلف مرافق الاقتصاد، ويحدد مقدار ضريبة المحاصيل وهي لا تزال في الحقول. كما كان للكهنة الحق في استيفاء بعض العائدات، وفي أخذ الزكاة. وفي تسخير السكان في تشييد المباني العامة والمعابد.

الزراعة

الزراعة: عرفنا فيما سبق شيئًا عن عناية اليمنيين الفائقة بالزراعة والري، إذ لم يكتفوا بزراعة السهول المنبسطة، بل تعدوها إلى سفوح الجبال، إذ يجعلونها على شكل مدرجات، ويشيدون السدود لخزن المياه ورفعها إلى مستواها، ويحفرون الأقنية لإيصال المياه إلى المدرجات المزروعة. ويقول بعض المؤرخين: إن اليمنيين قد أنشئوا مئات السدود والخزانات، وإن العرب هم أول من اصطنعها، وكان أعظمها سد مأرب الذي تحدثنا عنه، ووصفناه في الصفحات السابقة. وقد اعتنى اليمنيون بزراعة النباتات النادرة، والحبوب المختلفة والفواكه المتنوعة. كانت الكروم تغطي أراضيهم بحيث تحيل الصحراء إلى جنات ورياض فيها مختلف أنواع الأغراس والغياض والزهور. وقد وصف كل من "إسترابون" والهمداني هذا الازدهار الزراعي كشهود عيان، فقال الأول: إن من محصولات اليمن المر والبخور والكبش قرنفل والبلسم وسائر العطريات فضلا عن النخيل والغابات. ووصف الثاني وادي ضهر باليمن قائلًا: إنه شاهد فيه مياهًا جارية تسقي جنتين على جانبيه وعليهما من الأعناب نحوا من عشرين نوعًا. وقد عدد من أشجار الفاكهة وأصنافها: الخوخ الحميري والفارسي والخلاسي1 والتين والبلح والكمثرى الذي ليس له في الأرض مثيل، والبرقوق والتفاح واللوز والجوز والسفرجل والرمان.

_ 1 الخلاسي: المولد.

التجارة

التجارة: كان اليمنيون -بسبب توسط بلادهم أمم العالم القديم- وسطاء نشيطين في نقل متاجر الهند وجزر الهند الشرقية والصين وسواحل أفريقية الشرقية إلى المصريين والآشوريين والفينيقيين ومختلف دول بلاد الشام. فعلى الشواطئ الجنوبية لليمن توجد فرضات

"خلجان" ساعدت اليمنيين على جعلها موانئ صالحة لإيواء السفن ومنها عدن وفانا "حصن الغراب" وظفار ومسقط. وكانوا يأتون من الهند بمواد التجارة، وفي مقدمتها المعادن الثمينة والأقمشة الحريرية الثمينة المنسوجة والتوابل والأفاوية، ويفرغونها في ميناء مسقط بعمان. ثم تحملها قوافلهم عبر طريقين رئيسيين: 1- الطريق الأول: يسير من عمان أو حضرموت ويتجه شمالا عبر بادية الدهناء حتى يصل إلى الخليج العربي ويمر بمرفأ "جرها Gerha" "العقير حاليا" ثم ينعطف غربا فيخترق نجد حتى يصل إلى الحجاز بتيماء ثم بودان "العلا" حيث يتسلم خفارة القوافل المديانيون والآدوميون والأنباط، ويعرجون بها إلى مكة وينبع والمدينة المنورة ومنها إلى البتراء فمعان، حيث تتفرع الطرق إما شمالا إلى فينيقية وفلسطين فتدمر وإما غربا إلى مصر. 2- الطريق الثاني: ويبدأ من مسقط إلى حضرموت ثم إلى مختلف حواضر اليمن، ويسير شمالا حتى خليج العقبة، مارًّا بمحطات مهمة مثل مكة ويثرب. ومن خليج العقبة يسير إلى البتراء فمعان التي كانت مستعمرة للمعينيين ثم للسبئيين من بعدهم. ومنها يتفرع إلى الاتجاهات نفسها التي يتفرع إليها الطريق السابق. وأحيانا كانت سلع اليمن التجارية تتبع طريقًا آخر هو الطريق البحري عبر باب المندب حتى ساحل مصر الوسطى، إذ تصل السفن إلى وادي الحمامات، ومنها تحمل على الدواب إلى المدن المصرية, غير أن الطريق البري كان أسهل وأسلم وأكثر استعمالًا. وكان لليمنيين على طول هذه الطرق محطات تحتوي على جميع المعدات والوسائل التي تؤمن راحة المسافرين, ويرافق القوافل البرية رجال من أهل البادية يخفرونها.

الصناعة

الصناعة: اشتهرت اليمن منذ القديم بالصناعة، وقد ساعدها على ذلك طبيعة أراضيها التي تحتوي على أنواع من المعادن الثمينة التي أخذ اليمنيون يستخرجونها من باطن الأرض. فقد كان فيها كثير من مناجم الذهب والفضة والحجارة الكريمة مما أتى على ذكره الهمداني

وياقوت الحموي، إذ تحدثوا عن الأمكنة التي كانت توجد فيها كل هذه المعادن بكثرة. وقد تحدث المؤرخون عن وجود معدن ثمين هو "البقران" الذي يميز منه نوع يقال له: "المثلث" ذلك أن له وجهًا أحمر فوق عرق أبيض فوق عرق أسود، ويكثر وجوده بالقرب من صنعاء1. ولذلك فإن عرب اليمن قد اهتموا باستخراج هذه المعادن، وامتهن كثير منهم صناعة التعدين، وأهم ما كان يخرج من بين أيدي صناعهم السيوف التي أخذت شهرة صناعتها اليمنية تعم الآفاق، فإذا امتدح أحدهم سيفًا قال: إنه "كالسيف اليماني". ولا يضاهي هذه الصناعة شهرة سوى صناعة "البرد اليمنية" التي كانوا يستوردون مادتها الحريرية الخام من الهند وينسجونها في بلادهم. ومن الصناعات التي اشتهر بها اليمنيون دبغ الجلود وصنع التروس والدروع السميكة منها. كما انفردوا بصناعة جعلوها احتكارًا لهم، لا يشاركهم فيها أحد، هي تحضير البخور واللبان والطيوب بحيث نسجوا حول تدارك موادها الأولية بعض الخرافات؛ كي يوفروا لأنفسهم الحماية من منافسة الأجانب في الحصول عليها، كمثل ما رواه المؤرخ اليوناني "هيرودوت" عن كيفية اجتناء البخور بحرق صمغ يسمى الميعة لتنفير الحيات الطائرة التي تأوي إلى أشجاره، وعن كيفية اجتناء القرفة التي زعموا أنها تنبت في بحيرة قليلة المياه تسرح حولها حيوانات كالخفافيش، تصيح صياحا هائلا وهي شديدة الأذى؛ مما يضطرهم إلى تغطية أبدانهم ووجوهم ما عدا الحدق بجلود الثيران والماعز لاتقاء أذاها، فنقل "هيرودوت" هذه الأوهام وكأنها حقيقة واقعة.

العمران وإنشاء المدن

العمران وإنشاء المدن: لقد دلت الاكتشافات الحديثة أن عرب الجنوب اليمني قد بنوا مدنا كثيرة، درست معالم معظمها، ولم تبق إلا أنقاض بعضها مثل: معين ومأرب ويثيل "براقش" وظفار وشبوة وغيرها، وقد ذكر شعراء العرب عشرات منها في أشعارهم، ووصفوا بعضها في قصائدهم وتغنوا بجمالها. ويبدو أن اليمنيين كانوا يبنون مدنهم على مرتفعات التماسًا للطافة الجو، وتحاشيًا لأخطار السيول، وفي الوقت نفسه ليحمي الأمراء الحضريون أنفسهم من

غارات البدو إذ كانوا يجعلون قصورهم على شكل قلاع حصينة شبيهة بقصور نبلاء القرون الوسطى في أوروبا "Chateaux forts". كانت كل مدينة تحتوي على قصر أو عدة قصور، وعلى معابد فخمة بالإضافة إلى منازل السكان، كما يرى في مدينة مأرب التي كانت مستديرة الشكل قطرها نحو كيلومتر، وحولها سور له ثلاثة أبواب, وفي وسط المدينة آثار هيكل يسميه اليمنيون الآن "هيكل سليمان" وتحتوي أيضا على آثار قصور كثيرة أشهرها قصر سلحين الذي كان مقرًّا للملك، وقد شاهده الهمداني ويسمونه الآن "قصر بلقيس" وعلى مسيرة نصف ساعة من شمال شرقي المدينة أنقاض بناء عظيم يقال له: "حرم بلقيس" وهو أهليلجي الشكل، حوله سور له بابان شمالي وجنوبي، وعليه كتابة تشير إلى أنه كان هيكلًا لعبادة "ألمقة" الإله القومي لسبأ1. ويشاهد في صنعاء آثار قصر غمدان الذي بناه الملك "اليشرح يحضب" من ملوك الدور الأول الحميري في القرن الأول للميلاد، والذي شاهد الهمداني أطلاله، وقال: إنها عبارة عن تل عظيم كالجبل، ويعد من أفخم قصور اليمن إذ قيل: إنه بني بالبورفير والجرانيت والمرمر، وكانت كل واجهة من واجهاته الأربع مبنية بحجارة يختلف لونها عن ألوان الأوجه الأخرى. ويروى أنه قد جعل عشرين طابقًا بين كل طابق وآخر عشرة أذرع. ومن أهم قصور اليمن2: قصر ناعط العظيم، الذي يلي قصر غمدان شهرة. وهو في الحقيقة عبارة عن محفد، مؤلَّف من قصور عديدة تزيد على عشرين قصرا كبيرا، يحيط بها سور مبني بالصخر المنحوت. وأشهرها قصر المملكة الكبير، الذي كان يسمى قصر "يعرق" وليس هناك من قصر إلا وتحته صهريج للماء تجمع فيه مياه الأمطار التي تهطل على سطحه وهو يعتمد على أساطين فخمة، طول الواحدة منها نيف وعشرون ذراعًا ويكاد لا يحضنه رجلًا.

_ 1 جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص144. 2 منها أيضًا قصر تلفم وقصر ريدة وقصر صرواح.

ومن القصور التي أقيمت على غرار ناعط محفد "مدر" المؤلف من أربعة عشر قصرًا كلها غنية بالأعمدة السامقة، وهي غاية في الفخامة والجمال. وهذه القصور والمحافد أشبه بقلاع يقيم فيها الأذواء والأقيال، تحتوي على هياكل وعلى تماثيل للآلهة. كان اليمنيون ماهرين في فن البناء ونحت الحجارة, ويستدل من آثارهم الباقية أنهم عرفوا العقد المدبب الذي يستند على أعمدة باسقة. وقد بنى اليمنيون بالإضافة إلى القصور السدود والحصون والمعابد والحياض وخزانات المياه، وأكثروا من بناء الهياكل، إذ احتوت بعض مدنهم 60 هيكلًا، وبعضها الآخر 65 هيكلًا. ولم تكن عنايتهم بالإكثار من السدود والخزانات بأقل من ذلك، ولا تزال كثير من الخزانات والأحواض التي بنوها لخزن المياه مستعملة حتى الآن, على أن أهم أثر تركوه هو سد مأرب العظيم الذي تكلمنا عنه. وكانوا يزينون مبانيهم بنقوش كتابية، أو برسوم تمثل بعض الحيوانات، مثل رءوس الثيران والسباع والظباء وغيرها، أو بزخارف من أغصان وأوراق الشجر والأزهار، أو ببعض الأشكال الهندسية الجميلة، وأحيانا كانوا ينقشون على الواجهات مشاهد من الحياة العادية كحراثة الأرض أو غير ذلك من أعمال الزراعة.

اللغة والكتابة

اللغة والكتابة: بالرغم من أن اللغة العربية الجنوبية واللغة العربية الشمالية تمتان إلى الأصل السامي الواحد وتتشابهان، فإن لغة الجنوب قد اختلفت نوعًا ما عن لغة الشمال، مما دعا علماء اللغات إلى اعتبارها من لغات القسم الجنوبي للمجموعة السامية. وقد تفرعت إلى لهجات بحسب عصور الحكم المتعاقبة "اللهجة المعينية والسبئية والحميرية" ثم بدأت بالضعف بعد أن أخذت دول اليمن في الانحطاط، وانتقلت الأهمية إلى مناطق الشمال التي استقطبت نفوس العرب بمركزها الديني والاقتصادي، وطغت لغتها على لغة الجنوب، حتى إذا دخل دين الإسلام إلى الجنوب العربي، ودخلت معه لغة قريش، تلاشت كل لهجات الجنوب تلاشيا تاما، ولم يبق منها سوى النقوش والكتابات التي عثر عليها المستشرقون والرحالة الأوربيون، ونقلوها إلى أوروبا، حيث انصرفوا إلى فك رموزها، إلى أن تمكن العالمان "أوسيندر ورود يكردي هال" من قراءتها وتفسير نصوصها. ويسمى الخط الذي كانت تكتب به هذه اللغات بالخط المسند؛ لأن حروفه تشبه

الخطوط المستقيمة المتعامدة التي يستند بعضها على بعض، وتتألف أبجديتها من "29" حرفًا هي الحروف العربية الـ 28، مضافًا إليها السين الثانية وهي مقتبسة من الأبجدية التي كشف عنها مؤخرًا في "سرابيط الخادم" بسيناء، والتي تبين أنها أصل للأبجدية الفينيقية أيضا، إذ كان كل من العرب والفينيقيين قد تأثروا بها واستوحوا منها بعض الإشارات، وأما أبجدية سيناء فقد تكون محورة عن الخط المصري القديم بحيث اقتبست أو استوحت منه الإشارة الدالة على المخارج الصوتية، وأهملت الإشارات الدالة على المعاني، فأحالت النظام الهجائي المعقد في الكتابة المصرية إلى نظام هجائي مبسط سهل الاستعمال. والكتابة اليمنية القديمة ليس لحروفها حركات في أواسط الكلم تحدد النطق بها؛ لذلك فإن ضبط النطق بها مسألة تخمينية. وتكتب الكلمات بحروف منفصلة عن بعضها كالكتابة الأوروبية، ويفصل بين كل كلمة وأخرى بخط عمودي. وأخيرًا فإن نسق الكتابة اليمنية من اليمين إلى الشمال. وقد وجدت بعض الكتابات التي سار فيها النسق على الشكل الحلزوني، أي: إن أول سطر من الكتابة يسير من اليمن إلى الشمال ويتبعه السطر الثاني من الشمال إلى اليمين، ثم الثالث من اليمين إلى الشمال, وهكذا دواليك.

الديانة

الديانة: كانت ديانة عرب الجنوب أرقى من ديانة عرب الشمال، ولو أن الديانتين وثنيتان؛ ذلك أن مجتمع الجنوب كان عريقا في حضارته، ولهذا نجد فيه شعائرَ وطقوسًا ثابتة، وله معابد وهياكل منتشرة في كل مكان مأهول، مما لا نجد له مثيلًا لدى عرب الشمال سوى الكعبة. وفي بحث ديانة عرب الجنوب كان الاعتماد على الآثار والكتابات المكتشفة أكثر من الاعتماد على كتب المؤرخين العرب. وقد ذكرت النقوش أسماء معابد كثيرة إلى جانب أكثر من مائة إله، بعضها كان يعبد في جميع أرجاء البلاد، وبعضها كان من الآلهة المحلية. كان لليمنيين هياكل فيها رموز لآلهتهم يحملون إليها ربح تجارتهم، فيحتجز سدنتها ثلث الأموال التي يحملها التجار إليهم، ويتركون الباقي لأصحابها. هذا عدا ما يقدمه الأهالي من ضحايا وهدايا وبخور للآلهة في شكل قرابين؛ كي تبارك أعمالهم وتمنحم الصحة والبركة.

وأهم الآلهة التي عبدت في الجنوب ثلاثة: القمر والشمس وكوكب الزهرة1، وهي لم تصور آنذاك في أشكال آدمية؛ إذ لم تكن الصور والتماثيل معروفة لديهم. وهذه التماثيل إن وجدت عند عرب الشمال فالمعتقد أنها كانت دخيلة عليهم، أتتهم من شعوب شمالية سامية أخرى. أما الرموز التي عبر بها عرب الجنوب عن هذه الآلهة، فنشاهدها في الألواح التي عثر عليها بين أنقاض المعابد المكتشفة، حيث استعمل رمز الهلال الأفقي للدلالة على القمر وقرص الشمس المشع للدلالة على إله الشمس، والنجمة للدلالة على الزهرة، وكثيرًا ما استُعْمِل رأس الثور وقرناه رمزًا للدلالة على إله القمر. على أن الإله الذي هيمن هيمنة مطلقة على عقول الجنوبيين وخص بكثير من الأسماء والألقاب، ونال القسط الأوفر من الاعتبار هو القمر، بينما نرى أن الذي يلعب هذا الدور عند الشعوب السامية الشمالية في الهلال الخصيب هي الشمس. والواقع أن ديانة العرب قمرية، وديانة بقية الشعوب السامية شمسية, وقد يكون للعوامل الجغرافية والمناخية الأثر الكبير في ذلك؛ بسبب أن الشمس محرقة منهكة، بينما يكون ظهور القمر مرافقًا لليالي ذات النسيم العليل، كما يكون في الوقت نفسه دليلًا للحادي، وهاديًا للقافلة، وسميرًا للقبيلة. وكثيرًا ما نرى لفظ "القمرين" يطلق على الجرمين السماويين الشمس والقمر تكريمًا لاسم القمر2. وفي النقوش التي عثر عليها في الجنوب ما يشير إلى أن القمر والشمس والزهرة تؤلف ثالوثا إلهيا مكونا من أب وأم وابن، فهي أسرة إلهية سماوية مقدسة، باعتبار أن القمر هو الزوج، والشمس هي الزوجة، وعثتر أو عطار هو الابن. على أن زواج القمر بالشمس يبدو وكأنه اعتقاد عالمي معروف عند أغلب الشعوب القديمة، وهو مبني على ملاحظات فلكية المظهر، إذ يلاحظ في كل شهر سير القمر في السماء مسرعًا حتى إذا جاء وقت يوشك فيه على الاضمحلال تمكن من اللحاق بالشمس في الوقت الذي يأخذ في الاختفاء التدريجي حتى يضمحل تماما، ليولد بعد ذلك هلالًا

_ 1 عرف هذا الكتاب آنذاك بأسماء عديدة منها: عثتر وعطار، وسماه العرب فيما بعد: النجم الثاقب أو الزهراء وهو كوكب, المصباح المنير. 2 "دتلف نلسن وفرتز هومل": تاريخ العرب القديم، ص 206-207.

صغيرًا، بعد أن يكون قد لحق بالشمس ثلاث ليالٍ متتالية، ثم يأخذ في النمو والبعد عنها ليبدأ دورته الجديدة في مطاردتها، وهكذا دواليك في كل شهر. فملاحقة القمر للشمس واختفاؤه معها ثلاث ليال شهريا حمل الإنسان الفطري في معظم المجتمعات القديمة على الاعتقاد بأن ذلك إنما هو زواج سماوي. ولعل مفهوم هذا الزواج هو الذي أكسب القمر اسم "بعل" وهو من أسماء إله القمر عند الساميين؛ ولذا نرى أن اسم الإله "بعل" كثير الورود عندهم، وهو يعطي أيضا معنى "سيد". وليست الأسرة الإلهية مقتصرة على هذا الثالوث المقدس، فللقمر والشمس أبناء آخرون هم سائر نجوم السماء, فكما اعتقدت بعض الشعوب القديمة والحديثة أن جميع البشر هم أبناء لآدم وحواء، كذلك اعتقدت شعوب سبقتها ودانت بالوثنية أن سائر الكواكب السماوية هي منحدرة من آدم وحواء سماويين هما القمر والشمس. غير أن هذه الكواكب ليست في مرتبة الابن "عثتر = الزهرة" الذي يتمتع بمرتبة ممتازة، ولكنها مع ذلك لم تعتبر في منزلة البشر بل في منزلة أعلى منهم، إنها جعلت في مرتبة ما عرف فيما بعد في الإسلام باسم "الملائكة". وفي الكتابات الجنوبية نجد ما يشير إلى أن لفظ "ملك" كان لقبًا من ألقاب الآلهة، وإلى أن الملك كان يعبد بوصفه إلهًا، ربما كممثل أرضي للإله "عثتر" الذي قد يكون نزل إلى الأرض وتقمص شخصية الملك حسبما يظن أنهم كانوا يعتقدون. وهذاالحلول في الملك ربما يكون قد حصل عند ولادة الملك أو قبل ذلك. فالملك العربي، بهذا الاعتبار، لم يولد ولادة عادية كسائر البشر، إنما ولد من سلالة إلهية.

الفصل السابع: دول الشمال العربي قبل الإسلام

الفصل السابع: دول الشمال العربي قبل الإسلام مدخل ... الفصل السابع: دول الشمال العربي قبل الإسلام كما قامت دول وحضارات في جنوبي شبه الجزيرة العربية، كذلك قامت دول وحضارات في شماليها وفي بلاد الشام والعراق, من هذه الدول: دولة الأنباط، ودولة تدمر، ودولتا الغساسنة والمناذرة ودولة كندة1.

_ 1 راجع جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص68.

دولة الأنباط

دولة الأنباط الموقع الجغرافي: امتدت دولة الأنباط من حدود فلسطين شمالًا، إلى حدود الحجاز جنوبًا، ومن بادية الشام شرقًا، إلى شبه جزيرة سيناء غربًا. وهي دولة عربية لم يرد ذكرها في كتب العرب القدماء، إنما عرفت أخبارها مما كتبه اليونان عن البطالمة والسلوقيين والرومان، أو من الآثار التي عثر عليها المنقبون في أنقاضها ومما قرءوا من أخبارها المرقومة عليها. وعاصمتها البتراء تقع في الشمال الشرقي من رأس خليج العقبة غير بعيدة عنه، ومكانها الآن في أراضي شرق الأردن، وفي وادي موسى الذي يمتد إلى الشرق من وادي العربة، هذا الوادي الذي يبدأ من جنوبي البحر الميت وينتهي في خليج العقبة. وتمتاز البتراء بكونها مدينة صخرية قائمة في منبسط من الأرض هو عبارة عن هضبة تعلو 1000م عن سطح البحر، تحيط بها الصخور فتجعلها محصنة من نواحيها الشرقية والغربية والجنوبية، بينما يكون الدخول إليها من ناحية الشمال من مضيق يتلوى بين صفين من التلال الصخرية القائمة على جانبيه بارتفاع لا يقل عن مائة متر، ويستمر في الضيق حتى يصبح بعرض لا يزيد على خمسة أمتار عند مدخل المدينة. ويظهر أن اسم البتراء مأخوذ من كلمة Patra اليونانية التي تعني الصخر. وقد

سماها اليونان والرومان باسم "بلاد العربية الصخرية Arabia Patra" بينما عرفها العبريون باسم "سلاع" الذي يعني الحجر في لغتهم، كما عرفها العرب باسم "الرقيم" وهو الذي كان الأنباط يطلقونه على مدينتهم. لقد أحرزت المنطقة أهمية كبيرة بفضل وضعها الجغرافي، وموقعها على طريق القوافل التجارية، وهي في ذلك المكان البقعة الوحيدة التي توجد فيها بكثرة مياه عذبة تجمع في صهاريج من مجاري السيول؛ الأمر الذي جعلها محطة تجارية عظيمة الأهمية. تجد فيها القوافل التجارية -بعد مسيرها في الأراضي الصحراوية مسافات طويلة- مكانًا للراحة والتزود بالماء والطعام. وقد أتاحت لها هيمنتها على طرق القوافل التجارية التوسع فيما بعد لتصبح مدينة مهمة.

أصل الأنباط

أصل الأنباط: سكن البتراء الحوريون والآدميون حتى أواخر القرن السادس قبل الميلاد. وفي حوالي سنة 500ق. م، قدم الأنباط -وهم عرب رحل لا يعرف على وجه التدقيق الموطن الذي أتوا منه، وربما كان مجيئهم من شمالي الحجاز أو من أواسط الجزيرة العربية- وهاجموهم وغلبوهم على أمرهم، وانتزعوا منهم أراضيهم، وتمثلوهم ودمجوهم في الدولة العربية التي أقاموها فيما بعد، والتي دامت أكثر من خمسة قرون، واستمدت نسغ الحياة والقوة من التجارة، وكان لموقعها الحصين أثر كبير في بقائها على قيد الوجود مدة طويلة. ويظهر أن الأنباط قد ثابروا في بادئ الأمر على نمط حياتهم البدوية من حيث حياة الترحل والرعوية، وكره الزراعة والصناعة، ولم يألفوا حياة الحضارة إلا بعد قرنين من الزمن بعد قدومهم، وقد تلاءموا مع هذه الحياة تدريجيًّا، حتى جذبتهم الحضارة إلى رحابها، إذ وجدوا فيما تتطلبه القوافل من خدمة، وما تأتي به من سلع تجارية يسهمون في تصريفها، وسيلة مجدية للربح وكسب العيش، فاستقروا وما لبثوا أن أقاموا دولة منظمة وحكموا بلادهم على أساس النظام الملكي، وضربوا النقود واستوزروا الوزراء1،

_ 1 د. جواد علي: 3/ 16-17.

ووصلت الدولة إلى أقصى اتساعها في عهد ملكها الحارث الثالث "87-62 ق. م" إذ بلغ اتساعها حدًّا شمل البلاد الواقعة بين دمشق وبين مدائن صالح في شمالي الحجاز، بما فيها سواحل البحر الأحمر ومنطقة شبه جزيرة سيناء وشرق الأردن وحوران.

الأنباط بين السلوقيين والبطالمة

الأنباط بين السلوقيين والبطالمة 1: عاصرت دولة الأنباط السلوقيين والبطالمة قبل الميلاد والدولة الرومانية بعد الميلاد، إنما يظهر أنها غالبًا ما كانت تميل إلى البطالمة وتتأثر بنفوذهم مع المحافظة على استقلالها. ويبدو أن قيامها كان في أواخر النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد، حيث إنه لم يعرف عن تاريخها شيء كثير قبل عام 312 ق. م، ذلك التاريخ الذي صدت فيه حملة يونانية وجهها إليها "أنطيغونس" خليفة الإسكندر المقدوني في سورية، إذ كان في طريقه إلى مصر لإخضاع "بطليموس" الذي انتزى على مصر بعد الإسكندر، فرأى أن يستولي في طريقه على البتراء، فوجه إليها قائده "أثينايوس" على رأس حملة مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل؛ ليقطع بذلك التجارة عن منافسه. اغتنمت الحملة خلو المدينة من الرجال، إذ كانوا قد توجهوا إلى إحدى الأسواق التجارية، فدخلت المدينة ونهبت ما وجدته فيها من بضائع ومعادن ثمينة، وقتلت كل من قاومها من الرجال. وبينما كانت عائدة داهمها الأنباط الذين لحقوا بها بعد أن عادوا إلى المدينة، وعرفوا ما حل بها، فلقنوا الغزاة درسًا قاسيًا واستأصلوا شأفتهم، فلم يسلم منهم سوى خمسين فارسًا. غير أنهم رأوا ألا يستفحل العداء بينهم وبين السلوقيين فكتبوا إلى "أنطيغونس" يخففون عنه وقع الحادث بإظهار أسفهم لما حدث، وبإلقاء التبعة على عاتق القائد "أثينايوس". ويظهر أن الملك السلوقي "أنطيغونس" قد استعمل المكر معهم، إذ قبل العذر ظاهرا، مدعيًا أن قائده إنما قام بهذا العمل دون علمه، وأبدى رغبته في تحسين علاقته بالأنباط، لكنه في الواقع كان يضمر لهم الغدر بإدخال الاطمئنان إلى قلوبهم؛ كي

_ 1 لما توفي الإسكندر المقدوني تقاسم قواده دولته الواسعة في الشرق، فقامت في سورية دولة السلوقيين، وفي مصر دولة البطالمة.

يفاجئهم بالحرب على حين غرة، إذ لم تمض فترة وجيزة حتى وجه إليهم حملة أخرى تأديبية، بقيادة قائد آخر من قواده هو "ديمتريوس". فلما أدرك الأنباط الخطر المحدق بمملكتهم هرَّبوا كل ما هو ثمين من أمتعتهم وحليهم وتجارتهم إلى خارج المدينة، وتحصنوا في معاقلهم، وأخذوا يفاوضون القائد السلوقي، وعرضوا عليه مبلغًا من المال لقاء الانسحاب، وإلا فإنهم مصممون على الصمود حتى الفناء التام. وخاطبوه بقولهم: "وإذا أبيتم إلا إطالة الحصار فلا تنالون غير التعب والفشل؛ لأنكم لن تجدوا سبيلًا إلينا, ونحن في هذا الحصن المنيع. وإذا قدر لكم الظفر فلن تنالوه إلا بعد أن نموت جميعًا، ولا يبقى لكم غير هذه الصخور الصماء، وأنتم لا تستطيعون سكناها"1. وإن أدرك القائد السلوقي استحالة احتلال البتراء المنيعة، ووجد أن لا مطمع له في هذه المملكة، آثر الانسحاب لقاء مبلغ من المال اتفق عليه. وأما البطالمة فلما تراءت لهم أهمية موقع الأنباط التجاري والإستراتيجي, حاولوا أن يبسطوا سيطرتهم على بلادهم، غير أنهم أدركوا استحالة ذلك لمناعة البتراء، فقرروا أن يسلكوا معهم سياسة أخرى تقضي بتركهم مستقلين، والاكتفاء بجعلهم تحت نفوذهم، فشرعوا في الاستيلاء على المدن الفينيقية والفلسطينية التي لها صلات تجارية معهم والتي تمر فيها قوافلهم، وأقاموا حولهم المستعمرات، فسيطروا بذلك على منافذ تجارتهم، ثم سيطروا وأقاموا فيها من الموانئ والمحطات ما هو كفيل بالقضاء على التجارة التي تمر بالبتراء, وانتزاع مقاليدها من أيديهم للحلول مكانهم في النشاط التجاري. غير أن الأنباط لم يستسلموا لهذا الحصار والتنافس الاقتصادي، بل أخذوا في مهاجمة سفن البطالمة التي تمر بالبحر الأحمر لعرقلة تجارتهم، الأمر الذي دفع البطالمة إلى بناء أسطول حربي، يعهد إليه بحماية الأسطول التجاري2. وقد استمر الحال على ذلك حتى القرن الثاني قبل الميلاد، عندما استرجع السلوقيون البلاد السورية التي احتلها البطالمة، واتجهوا إلى الأنباط يحسنون علاقتهم بهم لاستمالتهم, فعاد النشاط إلى التجارة النبطية، ولا سيما مع بلاد الشام ومنها صور بوجه خاص.

_ 1 راجع جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام, ص72. 2 د. جواد علي: 2/ 19.

وازدادت التجارة النبطية ازدهارًا، عندما قامت الإمبراطورية البارثية في فارس، وأعقبها فترة ضعف مر بها السلوقيون، وعم الاضطراب بلادهم، وقامت في شمالها الثورات وانتشرت الفوضى؛ مما ساعد على انتقال مركز الثقل في النشاط التجاري من الشرق إلى غربي الجزيرة العربية. عندئذٍ اغتنم الأنباط فرصة الضعف التي مر بها السلوقيون، فأخذوا يوسعون حدودهم على حسابهم, وقد خاض من ملوكهم الحارث الثاني "110-96 ق. م" غمار حرب ضد الدولة اليهودية في فلسطين، واحتل عبادة الأول "90 ق. م" جنوب شرقي سورية بما فيها حوران وجبل العرب، وبسط الحارث الثالث "87-62 ق. م" سيطرته على سورية بكاملها.

الأنباط واليهود

الأنباط واليهود: قامت في بادئ الأمر علاقة طيبة بين الأنباط في عهد الحارث الأول "169-146 ق. م" وبين اليهود في فلسطين، كيما يستطيع الطرفان الصمود أمام المطامع التي واجهتهما من قبل الدولتين القويتين المجاورتين: السلوقية والبطلمية. غير أن الحارث الثاني "110-96 ق. م" ما لبث أن وجه لليهود ضربة رادعة عندما حاولوا استغلال هذه العلاقة لنشر اليهودية بين الأنباط؛ تمهيدًا لبسط سيطرتهم عليها. فبادر إلى مساعدة أهل غزة التي كان يحاصرها اليهود، الأمر الذي حمل الملك اليهودي للعودة إلى صداقة الملك النبطي الجديد عبادة الأول "96-87 ق. م" وللتنازل له عن بعض المناطق التي كانت تحت سيطرة اليهود. وفي عهد الحارث الثالث بلغ الانقسام في الدولة اليهودية حدًّا خطيرًا: الفريسيون من جهة والصدوقيون من جهة ثانية. فاستغل الملك النبطي هذا الانقسام، لا سيما عندما استنجد به الفريسيون وزعيمهم "هركانوس" ضد خصومهم، لقاء وعد بإعطائه ما بقي من منطقة شرق الأردن خارج سلطة الأنباط. فقبل الحارث وهاجم الصدوقيين وهزم زعيمهم "أرسطوبولس" وحاصر القدس التي احتمى بها واستولى على البقاع1. غير أن دخول الرومان سورية أتاح لخصمه اليهودي أن يستنجد بهم وأن يقدم لهم

_ 1 د. جواد علي: 3/ 27-28.

رشوة كبيرة. وكان على الحارث أن يرضخ للإنذار الروماني بالارتداد عن القدس حرصًا على تجنب النزاع معهم.

الحارث الثالث: عصر الذروة

الحارث الثالث: عصر الذروة كان الحارث الثالث أعظم ملوك الأنباط شأنًا، وقد بلغت الدولة في عهده أوج عزها واتساعها. وقد استفاد من ضعف الدولة السلوقية وانحطاطها، واستجاب لدعوة الدمشقيين له باحتلال مدينتهم -وكانوا يكرهون حكامهم السلوقيين كرهًا شديدًا- فاحتلها وبسط سيطرته على سورية "85 ق. م" فمنحوه لقب "فيلهلن" Philhellene "محب اليونان". وفيما كان يحاصر القدس "66-65 ق. م" -كما مر معنا- فوجئ بالاحتلال الروماني لسورية فانسحب أمام الحملة الكبيرة التي أتى بها الإمبراطور "بومبيوس" واحتل دمشق "64 ق. م". وبعد سنتين توفي الحارث وبدأ الانهيار النبطي.

خضوع الأنباط للرومان وسقوط دولتهم

خضوع الأنباط للرومان وسقوط دولتهم: لم يقف الرومان عند دمشق والقدس في موجة احتلالهم لبلاد الشام، بل تابعوا سيرهم حتى البتراء، فضربوا عليها الحصار، وأنذروا ملكها بدفع الجزية وبالخضوع لروما؛ فرضخ الملك النبطي لهذا الإنذار. لقد شاهد الأنباط أن الرومان قد سيطروا على آسيا الصغرى وسورية ومصر وموانئ البحر المتوسط، وهي منافذ التجارة النبطية، فلم يقاوموهم كما قاوموا السلوقيين والبطالمة، واضطروا إلى إقامة علاقات طيبة معهم، مع الخضوع لنفوذهم. وقد أسهموا في حروبهم؛ فاشتركوا في حملة وجهها الرومان إلى الإسكندرية "47 ق. م." بناءً على طلب من يوليوس قيصر إلى الملك النبطي ملكو الأول "مالك" وأرفقوا حملة "إيليوس غالوس" الروماني "24 ق. م" إلى بلاد العرب بوزيرهم "سيليوس" "صالح" في عهد الملك عبادة الثاني. وعندما ثار اليهود على الحكم الروماني "69م" بادر ملك الأنباط "ملكو" الثاني إلى مساعدة الدولة الرومانية في قمع ثورتهم،

بإرسال ألف حصان وخمسة آلاف من المشاة اشتركوا مع القائد الروماني "تيطس" في محاصرة القدس. غير أن العلاقات بدأت بعدئذٍ تسوء بين الطرفين، فحاصرتهم الجيوش الرومانية مرات، فقاوموها إلى أن وجه إليهم الإمبراطور "تراجان" حملة كبيرة بقيادة القائد الروماني "كورنيليوس بالما" استطاع بها أن يخضعهم، وأن يجعل بلادهم ولاية رومانية "106م" سميت "الولاية العربية الرومانية". ومع ذلك استمرت البتراء في الاحتفاظ بمركزها التجاري في عهد الاحتلال الروماني, وقد بلغ ازدهارها الاقتصادي ذروته في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي. غير أن ازدياد غارات البدو عليها، وارتفاع شأن الدولة البارثية الفارسية في الشرق، وسيادة السلم بينها وبين الدولة الرومانية، أعاد النشاط للطريق التجاري المار بالعراق، وأخذ طريق غربي الجزيرة المار بالبتراء في الانحطاط؛ لينتقل مركز الثقل التجاري إلى تدمر التي أخذت تستقطب التجارة العربية، بينما أخذ التدهور سبيله إلى التجارة النبطية.

مدنية الأنباط وحضارتهم

مدنية الأنباط وحضارتهم: للأنباط حضارة عريقة تميزت بطابعها التجاري والعمراني. وهي عربية في لغتها، آرامية في كتابتها، سامية في ديانتها، يونانية رومانية في فنها وهندسة عمارتها؛ لذلك فهي مزيج حضارة مركبة، سطحية المظهر الهليني ولكنها عربية الأساس. والصورة العامة التي أعطاها المؤرخون للشعب النبطي هي كونه شعبًا متفهمًا للأمور، محبًّا للكسب، منهمكًا في التجارة والزراعة والصناعة، مزدهر الاقتصاد بحيث خلا منه الفقراء المعدمون1.

_ 1 فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين, 1/ 426، 429.

نظام الحكم

نظام الحكم: لقد امتاز المجتمع النبطي بكونه منظمًا ديمقراطي النهج، لم يوجد فيه سوى عدد قليل من العبيد، وهو يقوم على النظام الملكي الوراثي، لكن الملك يستعين في سياسة المملكة وإدارتها بمجلس استشاري يشترك معه في تصريف مختلف شئونها.

التجارة والزراعة والصناعة

التجارة والزراعة والصناعة: امتد نشاط الأنباط التجاري إلى مناطق واسعة، ووصلت علاقاتهم إلى أبعد المناطق المتمدنة آنذاك. فقد تركوا فيما بين "بتيولي Puteoli" التي بقيت زمنًا طويلًا المرفأ الرئيسي للرومان، وبين "جرها Gerha" "العقير حاليا" على الخليج العربي1 وسواحل البحر الأحمر وديلوس ومليتوس ورودس في اليونان، ودلتا نهر النيل الشرقية ومصر العليا وعند مصب نهر الفرات آثارًا كتابية ووثائقَ لا يزال بعضها محفوظًا في متحف نابولي، وكلها تشهد بنشاط الأنباط التجاري في تلك الجهات، مثلما تشهد الوثائق الصينية بمشروعات الأنباط التجارية فيها. وكان من سلسلة المحطات التي تمر بها القوافل التجارية النبطية مدينة "لويكة كومة LeuKe kome" وهي مدينة عربية كانت تقع على ساحل البحر الأحمر قرب "الوجه" ومدينة "ليلة" وكانتا حلقتين خارجيتين في السلسلة، بينما كانت كل من بصرى وصلخد حلقتين داخليتين. ومما ذكره "سترابون" أن اهتمام البتراء بتنشيط العمل التجاري بلغ من الشدة أنهم كانوا يفرضون الغرامات على كل من يهمل عمله فتنقص ممتلكاته، بينما كانوا يمنحون مراتب الشرف لمن يزيد فيها. كما كانوا يهتمون بحماية طرق القوافل لتسهيل مرور البضائع في بلدتهم فيفرضون عليها الضرائب والرسوم، بينما كانوا قد مارسوا نوعًا من الاحتكار لمدة من الزمن2. كان الأنباط يتاجرون في مختلف السلع كالعطور والطيوب والتوابل والأفاوية والمر والبخور يحملونها من اليمن، والحرير والمنسوجات بأنواعها من الصين ومن دمشق،

_ 1 معلوماتنا عن العقير القديمة تأتينا من المصادر الكلاسيكية التي تصفها بكونها مدينة عربية، كانت أهم مركز على الخليج العربي، وأهم مركز تجاري يشكل صلة الوصل الرئيسة بين الهند والمملكة السلوقية في سورية، وأنها كانت تسيطر على الساحل الغربي للخليج وعلى طرق القوافل الرئيسية في ذلك الجزء من شبه الجزيرة العربية، وكان أحد هذه الطرق يتجه جنوبًا ويصل العقير باليمن بينما تتوجه الطرق الأخرى في قلب الصحراء إلى تيماء وإلى البتراء "والعقير اليوم تابعة للمملكة العربية السعودية". 2 فيليب حتي: المصدر السابق، ص425-426.

والزجاج والأرجوان والأصبغة من صور وصيدا، واللؤلؤ من الخليج العربي، ويوزعونها في مختلف المناطق التي يتصلون بها. باختصار لم تكن تجارة ما تنتقل بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب إلا على يدهم أو مرورًا بمدينتهم. وقد انتقلت حضارتهم مع توسعهم التجاري إلى المناطق المجاورة لهم. وكان للأنباط عملة خاصة بهم يعود فضل سكها لملكهم الحارث الثالث اقتباسًا من اليونان السلوقيين في أثناء حكمه لسورية. كما عمل الأنباط في الزراعة, إذ حفروا الآبار وجمعوا مياه السيول في صهاريج حفروها في الصخور، ووصلوا بعضها ببعض بأقنية نقبت في الصخر، وقد وجهوا إليها مياه الأودية والسيول، واستعملوها في المدينة، وفي الحقول للشرب وللزراعة. هذه الصهاريج تعتبر الآن من الآثار المهمة في البتراء، وهي مربعة الشكل لها فوهات ضيقة حتى إذا امتلأت الصهاريج أحكموا سد هذه الفوهات واستخدموا كل ما أُوتوا من مهارة ليخفوها عن الأنظار، فيجعلون عليها علامات لا يعرفها سواهم؛ لترشدهم إليها عند الإيجاب بينما يستحيل على الأعداء -فيما إذا هاجموهم- أن يعثروا عليها فيموتون عطشًا في هذه المنطقة الجافة المحرومة من المياه الطبيعية. أما صناعتهم: فإنها قد تركزت في صنع الأواني الخزفية, وقد أتانا منهم العديد من القطع التي تعتبر أحسن نوع من أنواع الخزف التي أنتجتها منطقة الشرق الأدنى. منها كئوس وفناجين وصحون وأباريق وطاسات في غاية الرقة، وهي تدعو إلى الإعجاب بهذه الرقة التي لا تتجاوز رقة قشرة البيضة، مما يشهد بتفوق صناعتها. وثمة أنواع مختلفة منها: كالبسيط الخالي من الزخارف، أو المدهون المزخرف برسوم تغلب عليها أشكال الزهور أو الأوراق المنحوتة بترتيب هندسي، وهي على الأكثر من أوراق الكرمة وعناقيد العنب، تظهر على الأواني الخزفية والفخارية كما تظهر في الزخارف المعمارية. وفي رأي العلماء وخبراء الفن، أن الأنباط كانوا في الفن والبناء والهندسة وفي الصناعة الخزفية من ذوي المواهب العالية ومن أكثر الشعوب براعةً1.

_ 1 حتي: المصدر السابق، ص431.

العمران النبطي

العمران النبطي: وأما عمران الأنباط فإنه من النوع الفريد المدهش؛ ذلك أن معظم ما يشاهد فيها

الآن من أبنية جميلة إنما هو منحوت في الصخر, وتشكل آثارها تراثًا فنيًّا رائعًا يجذب إليها السياح، وتفيد المملكة العربية الأردنية من ريعها. ويتبع العمران النبطي أساليب فنية وزخرفية نافرة متأثرة بالفن "الهللنستي" الذي كان سائدًا في سورية ومصر في أثناء حكم السلوقيين والبطالمة. وهو فن مزيج من عناصر هللينية "يونانية" في الأصل خضعت لتأثيرات وأوضاع شرقية طورته. والملك الحارث الثالث هو الذي أدخل مملكته ضمن محور الحضارة الهللنستية، فأعطي لقب "محب الهللينية" إذ استقدم الصناع السوريين فأدخلوا معهم نماذج هللنستية تبدو ملامحها على الواجهة الجميلة لبناء يسمى اليوم "هيكل الخزنة" في البتراء، كما يبدو أن المسرح المدرج قد بني في زمن الرومان، ومن حينها بدأت العاصمة النبطية تتخذ مظاهر مدينة هللنستية نموذجية1. وبالإضافة إلى السمات الهللنستية نشاهد على عمائر البتراء السمات الفنية المصرية والآشورية واليونانية والرومانية، مما يدل على أنها خضعت لمزيج من التأثيرات الفنية المتنوعة2. وآثار البتراء مجموعة من الهياكل والمذابح والمدافن وصهاريج الماء، بالإضافة إلى شارع رئيسي جميل، وإلى مسرح مدرج يتسع لثلاثة آلاف متفرج. وتبدو الصخور التي نحتت فيها هذه الأبنية بألوان متعددة يغلب عليها عموما اللون الوردي، مما دعا أوائل الذين اكتشفوا آثارها إلى تسميتها باسم "المدينة الوردية". ومن أهم ما نشاهد فيها بناء شامخ على واجهته نقوش وكتابات بالقلم النبطي، وهو مؤلف من طبقتين نُقر في واجهتهما صَفَّانِ من الأعمدة الكورنثية الجميلة، والرسوم والأفاريز البديعة المزخرفة التي تعتبر من آيات الفن الرائعة. وفي أعلى الطابق الثاني ترس مثلث داخله كتلة بيضية الشكل تشبه الجرة؛ ولذا اعتقد أعراب تلك المنطقة بأنها خزنة فرعون فغلب على البناء اسم "هيكل الخزنة". وفيها أيضًا بناء آخر يسمى "الدير" يقع في مرتفع من الأرض، يظهر أنه كان مخصصا لعبادة الإله "دوشارا = ذو الشرا" وقد نحت على أسلوب البناء السابق، لكنه لا يدانيه في دقة زخارفه وجماله. وبالقرب من هذا البناء مقابر ملكية على شكل بروج واجهتها تشبه واجهة الدير. وفي البتراء كثير من القبور

_ 1 فيليب حتي: المصدر السابق، ص420. 2 د. جواد علي: 3/ 51.

والبيوت الخاصة تشبه الكهوف، وهناك من القبور ما هي على شكل بروج محفورة في الجدران الصخرية المحيطة بالمدينة. ومما يشاهد في المدينة جبانة متسعة منحوتة في الصخر تتراءى في طبقاتها الصخرية معظم ألوان قوس قزح. ومعظم واجهات المقابر مزينة بزخارف نافرة لا تزال بحالة جيدة. وإلى جانب هذا كله تشاهد المذابح التي كان النبطيون يقدمون عليها الذبائح كقرابين للآلهة، أهمها المذبح الكبير في جنوب شرقي المدينة، وأبرز ما فيه فجوة محفورة في الصخر يتم عليها الذبح وتتصل بقناة تؤدي إلى حوض يسيل إليه الدم.

الديانة

الديانة: أما الديانة النبطية فهي من النوع الوثني المنتشر آنذاك في الجزيرة العربية، ويحمل بعض آلهتها نفس أسماء الآلهة التي كان عرب الشمال يعبدونها مثل "اللات" -وهي أنثى- وترمز إلى القمر، و"مناة" آلهة المنية أو الموت، و"العزى" و"هبل". ومن آلهتهم ما كان يُعبد عند الآراميين في الشام مثل "أتارغاتس" وتعتبر إلهة الحبوب وأوراق النباتات والثمار والسمك. ومنها ما كان يقابل آلهة تدمر و"دورا أوروبس" كما كانت الأفعى تشكل جزءًا من ديانتهم. وقد عبد النبطيون من الآلهة "شيخ القوم" ويعتبر حامي القوافل، و"بعل شمين" إله السماء والمطر والخصب، وعبدوا بعض ملوكهم أحيانا؛ على أن أهم آلهتهم، وأبرزها "دوشارا = ذو الشرا" الذي كانوا يخصونه بالتقديس أكثر من غيره ومقره البتراء وهو يمثل الشمس. ويستدل من اسمه على أنه كان إلهًا للتجارة "سيد الشراء" وقد مثلوه على شكل مسلة، أو حجر أسود غير منحوت ذي أربع زوايا. وأما طقوسهم العبادية وما يرافقها من احتفالات فلا نعرف عنها سوى القليل. وقد جاء في وصف قدمه لنا "سترابون" عن إحدى الولائم الملكية أن كل واحد يشترك فيها قد يشرب أكثر من عشر كئوس، مستعملًا في كل مرة كأسًا ذهبية مختلفة. من هذه الرواية ومن رواية أخرى يقول فيها "سترابون": إن الأنباط كانوا يأكلون على موائد مشتركة

بشكل جماعات تتألف من 13 شخصًا يقوم على خدمة كل جماعة مغنيتان، تتضح لنا بعض الطقوس التي يعتقد أنها تتصل بعبادة الأنباط1.

_ 1 حتي: المصدر السابق، 1/ 429.

اللغة والكتابة

اللغة والكتابة: الأنباط عرب تكلموا اللغة العربية إلى جانب الآرامية وربما اليونانية، ثم اللاتينية بدرجة أقل. وعرفوا من قبل اليونان بكونهم عربًا، وأسماء ملوكهم عربية مثل: الحارث، عبادة، رئبال، ملكو "مالك". وقد ظهر في نصوص "بتيولي" الأثرية وغيرها أسماء: علي, حبيب، سعيد التي كان يتسمى بها الأنباط, وعرب الحويطات هم الذين يمثلون الآن الأنباط القدماء. وإذا كان الأنباط القدماء قد تركوا لنا نقوشا أثرية مكتوبة باللغة الآرامية، فإنهم لم يستعملوها إلا للتعبير عن ثقافتهم؛ لأن الآرامية كانت منتشرة في جميع أرجاء الشرق الأدنى آنذاك بما يشبه اللغة العالمية. وقد استعملها الأنباط على نقودهم وأبنيتهم إلى أن انفصلت عن الآرامية بالتدريج، حتى اتخذت طابعها المميز في منتصف القرن الأول ق. م. وأصبحت ذات صفة ثابتة. وقد جاء نص "النمارة" "راجع ما جاء في الفصل الرابع من هذا الكتاب" -وهو أقدم نص عربي عثر عليه- مكتوبًا بحروف نبطية2، إذ قد حرر الأنباط الخط الآرامي مع الزمن، حتى تحول على يدهم إلى خط عرف باسم "الخط النبطي" الذي استعمل في تدوين اللغة العربية الشمالية. ففي أحد النقوش الأثرية التي ترجع إلى عام 228م، نلاحظ أن النص يكاد أن يكون عربيا برمته. وقد انبثق عن الخط النبطي الخط النسخي3 الذي يعتبر من حيث القدم كالخط الكوفي المنسوب للكوفة والحيرة.

_ 1 جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام، ص78-79، فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، 1/ 426-427. 2 د. جود علي: 3/ 6-7؛ سهيلة ياسين الجيوري، الخط العربي وتطوره في العصور العباسية في العراق، ص15. يعتقد بعض الباحثين أن الخطوط العربية سواء منها التي استعملتها الشعوب العربية الشمالية أو الجنوبية -شأنها شأن الخط الفينيقي- مستمدة من الخط السينائي الذي اكتشف ألفبائيته في موقع سرابيط الخادم في شبه جزيرة سيناء. ويعتقد الباحث جورجي زيدان أن عرب الحجاز قد عرفوا الكتابة قبل الإسلام إثر =

الدولة التدمرية

الدولة التدمرية مدخل ... الدولة التدمرية نشأت تدمر في الظروف نفسها التي نشأت فيها دولة الأنباط بصفتها محطة تجارية في واحة تقع في طرف البادية، التي تفصل الشام عن العراق، وتحيط بها مناطق صحراوية، وهي تقع إلى الشرق من مدينة حمص على بعد لا يتجاوز 165كيلومترًا عنها. وكان لموقع المدينة على طرق القوافل التي تسير بين بلاد الشام والعراق، ولوجود آبار المياه العذبة والحلوة ومجاري المياه المعدنية فيها فضل كبير على نشوئها وارتقائها من محطة للقوافل إلى مدينة عامرة، بعد أن استقرت فيها بضع قبائل عربية لم يتأكد بعد المكان الذي أتت منه، إنما يعتقد بعض المؤرخين المحدثين أنها أخذت تسكن شرقي إقليم كنعان بعد سقوط الدولة البابلية، وبدأت تتعلم التكلم والكتابة باللغة الآرامية1. كما أثرت في نشوئها عوامل سياسية، ذلك أنها كانت تقع بين إمبراطوريتين كبيرتين: البارثية Parthia والرومانية المتعاديتين، فحافظت على توازنها واستقلالها بينهما زمنا طويلا، مستغلة موقعها المنعزل في قلب الصحراء، وصعوبة وصول الفرق الفارسية والرومانية إليها لإخضاعها2، وحرص كل من الطرفين على استمالتها لجانبه. على أن أهميتها وازدهارها كانا بين مد وجزر تبعًا لميزان العلاقة بين حكام العراق وفارس من آشوريين وبارثيين وساسانيين من جهة، وبين حكام سورية من سلوقيين ورومان من جهة أخرى. إذ كانت تتقدم وتزدهر عندما تتمكن إحدى هذه الدول من السيطرة على المنطقة برمتها من البحر المتوسط إلى العراق، وتصبح تدمر عقدة المواصلات بين الشرق والغرب، فتنتعش انتعاشًا كبيرًا، لكنها تتأخر عندما تسوء العلاقات بين حكام

_ = رحيل نفر منهم إلى العراق أو الشام، حيث اقتبسوا من أهلهما الكتابة ثم عادوا وبعضهم يكتب الكتابة بالحرف النبطي، وبعضهم الآخر بالعبراني أو السرياني. لكن النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية، فتخلف عن الأول الخط النسخي "الدارج" وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة. وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام باسم "الحيري" نسبة إلى الحيرة، وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام، وقد ابتنى المسلمون الكوفة بجوارها. "جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 3/ 58". "سهيلة ياسين الجبوري: المرجع نفسه 22-23". 1 د. جواد علي: 3/ 76، محمود كامل المحامي: الدولة العربية، ص21. 2 فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين 1/ 433.

المنطقتين فتقوم الحروب وتفقد ميزتها كوسيط تجاري بين الجهتين فيتحول النشاط التجاري إلى شواطئ البحر الأحمر. فقد انْصَبّ نشاط التدمريين على خدمة القوافل، يتولون قيادتها والإشراف على صيانة آبار الماء على الطرق التي تسلكها. كما أن تعرض القوافل أحيانًا للاعتداء والنهب من قبل قطاع الطرق واللصوص قد دفعهم إلى تأمين سلامتها من هذه الأخطار، وهكذا فإننا نجد في النقوش التدمرية القديمة ترديدًا لذكر "رئيس الخفر" الذي تسير القوافل في ظل سطوته، وقد بلغ من النفوذ ما يخوله أن يفعل ما يشاء ولا يلقى معارضًا، وكان إلى جانبه موظف آخر يسمى "رئيس السوق". إن تاريخ تدمر خلال الألفين الثانية والأولى قبل الميلاد غامض، غير أن أقدم ذكر لها، باسمها المعروف الآن "تدمر"، قد ورد في نقشين كتابيين أولهما يعود إلى عام 1800 ق. م، والثاني إلى عهد الملك الآشوري "تغلات فلاسر" الأول عام 1100 ق. م. ويختلف الباحثون حول منشأ هذا الاسم ويفرضون بعض الاحتمالات منها: أن لفظ "Palmyra" الذي عرفها به اليونان والرومان يعني النخيل في اللغة اللاتينية، فهي على هذا الاعتبار "مدينة النخيل" وكلمة "تدمر" تقابل في العبرانية كلمة "تامار" التي تعني التمر، وهو الأمر الذي حدا بأحد المؤرخين العبرانيين إلى الخلط بين "تدمر" وبين بلدة يهودية أخرى تسمى "تامار" في جنوب البحر الميت, فروى أن سليمان الحكيم هو الذي بناها؛ فانساق بعض المؤرخين المسلمين وراء هذا الخلط فرددوا أسطورة كون المدينة قد بنيت من قبل الجن بأمر من سليمان1، لاعتقادهم أن ما تشتمل عليه من روائع عمرانية هي فوق طاقة الإنسان2. أما الساميون والكتاب الكلاسيكيون فقد عرفوها منذ أقدم العصور باسم "تادامورا Thadamora"

_ 1 فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، 1/ 422؛ د. جواد علي: 3/ 71-75. 2 وفي ديوان النابغة الذبياني قوله: إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وخيس الجن, إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد احددها: امنعها، الفند: الخطأ، خيس: ذلل، الصفاح: الحجارة الكبيرة.

وإذا رجعنا إلى أخبار تدمر نرى أن أقدمها لا يعود إلى أبعد من القرن 9 ق. م. وقد كشف العلماء عن نقوش مكتوبة بالآرامية واليونانية ثم باللاتينية والآرامية، وهي وبعض الكتب الكلاسيكية القديمة تعطينا فكرة نوعًا ما واضحة عن تاريخها، ويستدل منها أن عوامل عديدة قد تضافرت على نشوئها. وأهم هذه العوامل كون الفرس قد سيطروا على آسيا الغربية بأكملها بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، الأمر الذي أعان على توسع النشاط التجاري بين الشرق الأقصى وسورية وتركيا عبر العراق، وكانت تدمر المحطة الرئيسة، إذ كانت بمثابة العقدة المتوسطة في العمود الفقري لهذه المواصلات. وقد احتفظت بمكانتها حتى عهد السلوقيين الذين وحدوا بدورهم سورية والعراق وشجعوا طريق التجارة بينهما مرورًا بتدمر؛ لينافسوا بذلك غرماءهم البطالمة في مصر الذين كانوا يحرصون على ازدهار الطريق التجاري الذي يمر بالبحر الأحمر، فاستفادت تدمر استفادة عظيمة من هذه السياسة وانتعشت، بالرغم من أنها وقعت تحت نفوذهم على الأغلب، وبقيت كذلك حتى استيلاء الرومان على الشرق الأدنى. غير أن تاريخ خضوعها للرومان لا يمكن تحديده على وجه الدقة. ويظهر أن ازدهارها وغناها قد أغراهم؛ فاستهدفت لحملة رومانية بقيادة "مرقس أنطونيوس" الذي كان عائدًا من حرب شنها على الفرس في الشرق، فأرسل سنة 41 ق. م. إلى أهل تدمر ينبئهم بأنه سيمر بمدينتهم للاستراحة، بينما كان يضمر الاستيلاء عليها. ففطنوا إلى المكيدة، وأخلوا مدينتهم من كل ما تحوي من أموال ومتاع ثمين، واستعدوا لقتاله وأحبطوا حملته، ولكن بعد أن أحدث بعض التخريب فيها1. لكنها ربما تكون قد خضعت للرومان في الربع الأخير من القرن الأول للميلاد, بعد أن أخضع الرومان بلاد الشام لسيطرتهم وسيادتهم. وإذا استثنينا بعض الأحوال التي لجأ فيها الرومان إلى سياسة القسر والإخضاع، فإن العلاقات الودية قد ظلت سائدة بين روما وتدمر لمدة طويلة. ففي سنة 130م زارها الإمبراطور "هدريان" -وهو الذي بدأ عهده بعلاقات سلمية مع البارثيين- ولقبها بلقب "هادريانا بالميرا" ومنحها درجة "مستعمرة

_ 1 د. جواد علي: 3/ 75.

رومانية عليا" فنال التدمريون حقوق الإيطاليين في الملكية المطلقة، وأُعفيت تجارتهم من الضرائب، ومنحت لهم حريتهم التامة في إدارة سياستهم. وهكذا انتعشت تدمر اقتصاديًّا كما انتعشت سياسيًّا؛ ذلك أنها لم تخضع لروما إلا خضوعا اسميا وشكليا، إذ كانت في الواقع مستقلة في أمورها الداخلية، واحترم "هدريان" هذا الاستقلال الذي قامت على توطيد أركانه سلطة تنفيذية يرأسها شيخان وبجانبهما ديوان مؤلف من عشرة أعضاء، بالإضافة إلى مجلس شيوخ يتمتع بحق إصدار القوانين وتقرير الضرائب، فازدهرت واتسعت تجارتها وتضخمت ثروتها ونشط عمرانها، وعاشت بين سنة 130-170م أزهر أيامها1. ومما زاد من أهمية تدمر السياسية أن تطورات مهمة قد حدثت في مملكة الفرس, ففي القرن الثالث الميلادي اغتصبت الأسرة الساسانية العرش من الأسرة البارثية، واتبعت سياسة العنف مع جيرانها، فتجددت الحروب بينها وبين الرومان. وكان الحكم آنئذٍ لأسرة وطنية عريقة يقوم على رأسها زعيم يسمى "أذينة بن خيران" الذي وصل إلى منصب عضو في مجلس الشيوخ الروماني وحمل لقب "سبتيم" فأحسنت هذه الأسرة الاستفادة من هذه الحروب والحصول على مركز مرموق عند الرومان. كما استغلت المشاكل الداخلية المختلفة التي كانت تحيط بالإمبراطورية، إذ تعرضت لغزوات الجرمن البرابرة التي كانت تهددها من الشمال، فأهملت شئون الشرق، فانصرف اهتمام حكام تدمر إلى تكوين جيش من المليشيا مؤلف من القبائل الموالية لهم، ومن العناصر التدمرية المسرحة من الجيش الروماني، أو التي اضطرتها حالة الفوضى إلى ترك الخدمة العسكرية، أو فرت من المعارك الناشبة بين الفرس والروم. واعتنى حكامها بتسليح وتقوية جيشهم حتى أصبح في المستوى الذي يسمح لهم بأن يقوموا بدور سياسي وعسكري مهم في سياسة الشرق. وقد اضطلع به زعيم الأسرة أذينة الأول الذي نسبه الطبري إلى العرب العمالقة، قائلًا: إنه أذينة بين السميذع بن هوبر العملقي. فقد تقرب من القياصرة وأظهر لهم من التأييد ما أكسبه ودهم وعطفهم على أسرته، فمنحوه الألقاب والأوسمة والمال، كما أرضوا طموحه بمنحه درجة العضوية في مجلس

_ 1 د. جواد علي: 3/ 87.

الشيوخ الروماني وكان لقبه الرسمي "رأس تدمر" غير أن طموحه لم يقف عند حد فأطلق على نفسه لقب "ملك". عندئذ أدرك الإمبراطور "إسكندر سيفيروس Alexandre Severus" ما يكمن وراء هذا التصرف من مخاطر تهدد الإمبراطورية في الشرق, بالإضافة لما أصبح لأسرته ولتدمر من نفوذ يوحي بطموحها للاستقلال التام عن روما، فأوعز إلى أعوانه بتدبير خطة لقتله، فاعتلى ابنه الأكبر سبتيموس خيران الحكم، لكن المنية سرعان ما أدركته ولم يزل ابنه معن صغير السن قاصرًا، فتولى الحكم عمه "أذينة الثاني" بن "أذينة الأول". في هذه الفترة وقعت الحرب بين الرومان والفرس، وتقدم الملك "سابور" الفارسي نحو الغرب، فاجتاح ولاية أنطاكية، وأحرز الغلبة على الإمبراطور "فاليريان" وتمكن من أسره "260م". ويظهر أن "أذينة الثاني" قد اغتنم هذه الفرصة للانتقام لوالده، لا سيما وأن فاليريان كان قبل أسره قد رفض طلبًا قدمه إليه أذينة بوجوب إنزال العقاب بقاتل والده، فأرسل إلى "سابور" رسلًا للتفاوض معه في سبيل العمل المشترك ضد الرومان في بلاده الشام، فلم يكن من الملك الفارسي إلا أن استخف بالرسل وبمن أرسلهم وأهانهم. عندئذٍ تحول "أذينة" إلى الرومان الذين بادروا إلى الاستنجاد به فخف لمساعدتهم، وحارب الفرس ليرد الإهانة التي وجهوها إليه وانتصر عليهم وتعقب ملكهم سابور حتى أبواب عاصمته طيسفون "المدائن" وألحق بمملكته خسائر فادحة، فأنعمت عليه روما بلقب قائد عام على جميع جيوش الشرق "Due romanorum"1 أو "Due Orientis". وفي هذه الحملة كادت العاصمة الفارسية أن تسقط في يديه، لولا أن بلغة خبر ثورة قام بها أحد قادة الرومان لاقتطاع آسيا الصغرى وسورية ومصر، فخف لقمع الثورة وقضى على القائمين بها، فأضافت إليه الدولة لقبًا جديدًا "إمبراطور على جميع أنحاء الشرق" مكافأة له على أعماله في نصرتها. لكن "أذينة" لم يكتفِ بهذه الألقاب بل اتخذ لنفسه لقب "ملك الملوك" وضرب النقود باسمه. فهل يستدل من تصرفه هذا أنه لم يقم بمساعدة الرومان إلا في سبيل تقوية مركزه، ونفوذ أسرته ودولته تمهيدًا لتحقيق مراميه السياسية؟ هذا هو الذي يغلب على الظن لأول وهلة، لكن فقدان الأدلة والأحداث التالية تقلل من هذا الظن.

_ 1 د. جواد علي: 3/ 89 Rene'groussel: L'Empire du levant, p. 26.

فقد قاد حملة ثانية على "طيسفون" وضرب عليها الحصار، ولم يقبل بما قدمه الفرس من تنازل، بل كان شرطه الأساسي أن يطلقوا سراح الإمبراطور "فاليريان" ولم ينقذ العاصمة الفارسية من تهديده لها سوى الخطر الذي حاق بالإمبراطورية الرومانية في هجوم الجرمن البرابرة والقوط، فارتد إليهم وخلصها من خطرهم. وفي طريق عودته إلى عاصمته نزل في حمص حيث انقض عليه ابن أخيه معن وأعوان له في أثناء مأدبة كان قد أقامها احتفالًا بعيد ميلاده، فقتله غيلة؛ لزعمه بأنه كان غاصبا لعرشه. غير أن الغموض يكتنف الظروف التي قتل فيها "أذينة" وليس هناك من الأدلة القاطعة ما يؤكد أن الحادثة قد وقعت بتدبير من الرومان، أو من الحزب الوطني التدمري الذي كان يكره اليونان والرومان1. وتتوالى الأحداث سراعًا بعد مقتله إذ لم يلبث أهل حمص -وربما بإيحاء من زوجته زنوبيا وأعوان زوجها الراحل- أن انقضوا على "معن" الذي تولى الحكم بعده فقتلوه، وآل الحكم بعدئذ إلى ابن لأذينة صغير السن هو "وهب اللات" فكان على أمه زنوبيا أن تتولى الوصاية عليه، وأن تحكم باسمه.

_ 1 د. جواد علي: 2/ 96.

حكم زنوبيا

حكم زنوبيا: كانت زنوبيا عربية الأصل1، ذات شخصية قوية، تتحلى بتربية عالية، تجيد اليونانية والآرامية، وتتكلم بهما بمثل الطلاقة التي تتكلم بها العربية، ولم تكن تجهل اللاتينية، ولها اطلاع على تاريخ الغرب بالإضافة إلى كونها قد دونت لنفسها خلاصة لتاريخ الشرق، مما يدل على سعة اطلاعها عليه، وأَلِفَتْ أن تعقد الموازنة بين روائع "هوميروس وأفلاطون" تحت إشراف فيلسوف بلاطها العالم "لونجين" الأمر الذي يشهد باطلاعها أيضا على الفلسفة الأفلاطونية. يصفها إدوار جيبون2 بأنها كانت تتمتع بعبقرية فذة، وأنها أُوتيت من الصفات كالجرأة والشجاعة، ما رفعها إلى مرتبة البطولة، عودت

_ 1 وقد روي أنها انتمت إلى البطالمة. لكن بعض المؤرخين يفسرون هذا الانتماء بحرصها على التقرب من الرومان، بادعائها أنها من أصل يوناني وليست بعيدة عن الحضارة، أو بحرصها على التقرب من المصريين ليخلصوا لحكمها, أو بحرصها على إلباس أسرتها لباس القدم والأصالة في الملك "جواد علي: 3/ 103". 2 إدوار جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها, ص265.

جسمها وبنيتها على التعب والجهد، فكانت ترتدي اللباس العسكري، وتمتطي الجواد وتسير في مقدمة جيشها، وأنها بحسن بصرها بالأمور وجلدها وثباتها كانت خير عون لزوجها أذينة في أداء مهام الحكم. وفي عهد وصايتها على ابنها "وهب اللات" بدأ نجمها يسطع، وأصبح بلاطها من الفخامة بحيث يضاهي البلاط الساساني رونقًا وبهاءً. حكمت في عزم الرجال تدمر وسورية والشرق لأكثر من خمس سنوات، واستشعرت الدول المجاورة لها، كدولتي أرمينية وفارس، الرهبة من عدائها فتوسلت لمحالفتها. هنالك رواية عربية معروفة، ذكرها كل من الطبري والمسعودي، تزعم بأنها هي نفسها الزباء، ويسميها الطبري نائلة بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميذع العمليقي، بينما يسميها المسعودي باسم "الزباء بنت عمر ... إلخ" التي انتقمت من جذيمة الأبرش أول ملك للحيرة كما تزعم بعض الروايات العربية، إذ استدرجته إلى قصرها وقتلته انتقامًا لقتله والدها، فقام بعده ابن أخته وخليفته عمرو بن عدي فانتقم بدوره له عن طريق الحيلة، إذ وجه إليها رجلًا يسمى قصير بن سعد الذي جدع أنفه، وادعى أنه مطرود من بلاط الحيرة، حتى إذا نال ثقة الزباء أدخل رجال عمرو بن عدي إلى قصرها فقتلوها "ومن هنا جاء المثل المعروف: لأمر ما جدع قصير أنفه". وهذه الرواية تبدو بعيدة عن الصحة ومختلقة، إنما ترمز إلى ما كان من صلات تجارية بين تدمر والحيرة. شعرت زنوبيا بقوتها بعد أن أصبح تحت تصرفها جيش بلغ من القوة والبأس ما تستطيع أن تتحدى به الإمبراطورية الرومانية، فلم تعد تهتم بالخضوع لها، واحتقرت مجلس الشيوخ "السيناتو" الذي لم يعترف لها بما كان لزوجها من سلطة، فآلت على نفسها أن تنتقم لزوجها الذي اعتقدت أن الرومان هم الذين دبروا مؤامرة قتله، وربما كان مشروعها يرمي إلى الاستقلال عن روما وقطع كل علاقة معها. فما كان من الرومان -وقد شعروا بنواياها- إلا أن سيَّرُوا إليها حملة تظاهرت باتجاهها لمحاربة الفرس، لكنها في الواقع كانت موجهة لإخضاعها، فقابلتها زنوبيا وهزمتها وقتلت قائدها "هركليانوس". ثم اغتنمت مشاكل الإمبراطورية الداخلية من صراع الطامعين بالعرش مع

الإمبراطور القائم، ومن قيام الجرمن البرابرة بحركات تمرد في بلاد الغال التابعة لروما، فوجهت إلى مصر جيشًا مؤلفًا من 70 ألف جندي بقيادة قائدها زبدة1, فاحتلها وألحقتها بالدولة التدمرية. ولم يسع الإمبراطور الروماني كلوديوس -وقد اعتلى العرش حديثًا- إلا أن يعترف بعجزه عن إخضاعها، وأن يسلم بالأمر الواقع ويتفق معها على بقاء الجيوش التدمرية في القطر المصري, شريطة اعتراف زنوبيا بتبعيتها للدولة الرومانية. لكن السلام الذي حل بين الطرفين لم يلبث أن تبدد باعتلاء الإمبراطور أورليانوس العرش، إذ تمكن من دحر المتمردين وتفرغ لإخضاغ زنوبيا. وكان على هذه أن تجابه الإمبراطور بنقض الاتفاقية المعقودة مع روما، وأردفت ذلك بإسقاط رسم الإمبراطور عن النقود واستبدلت به رسم ابنها، واتخاذها وابنها "وهب اللات" لقب أغسطس الخاص بالإمبراطور الروماني. ثم وجهت حملة إلى آسيا الصغرى، فاحتلت جزءًا كبيرًا منها سنة 270م، ودحرت الجيوش الرومانية وردتها إلى ما وراء أنقرة، وأحدقت جيوشها بأسوار القسطنطينية. أما أورليانوس فلم يبدأ هجومه على زنوبيا من جهة البلقان والأناضول كما كانت تتوقع، بل بدأ بمصر مستغلًّا ضعف وسائل الدفاع عنها، وذلك أنها قد سحبت منها معظم قواتها لتعزز بهم جبهة الأناضول؛ اعتقادًا منها بأن المصريين الناقمين على الرومان سيهبون للدفاع ضدهم. إنما خاب ظنها بهم؛ لأن الرومان تمكنوا من استمالة قسم منهم، فأحرزوا بذلك انتصارا ساحقا واستعادوا سيطرتهم على مصر "271م". ثم التفت الإمبراطور إلى الشرق، وتقدم لمحاربتها في عدة جبهات، فمن البحر أرسل أسطولا كبيرا لاحتلال أنطاكية، ومن البر الأناضولي تقدم نحو أنقرة فتراجعت الجيوش التدمرية حتى أنطاكية، حيث التقى الإمبراطور بالجيش التدمري، وكان بقيادة زباي الذي كان يتلقى أوامره من زنوبيا نفسها التي لم تغادر أرض المعركة. كان الجيش التدمري مؤلفا من رماة السهام الخفاف، ومن الخيالة الثقيلة المدرعة بالصلب، فلم يقوَ فرسان

_ 1 كان قائداها: زبدة وزباي، وكان لونجين فيلسوف بلاطها ومستشارها.

أوليان على تحمل الهجوم الثقيل من جانب التدمريين، فهربوا تصنعًا أو حقيقة، فتعقبهم فرسان تدمر، وكان من الطبيعي أن يصيبهم الإرهاق لثقل معداتهم وعسر حركتهم، فعمد الرومان إلى مضايقتهم بمناوشات جانبية متقطعة حتى تمكنوا من دحرهم حين بدا عليهم الارتباك، ثم التفتوا إلى المشاة من رماة النبل، وكانوا قد انعزلوا ونفدت نبلهم، فسهل على الإمبراطور إلحاق الهزيمة بهم. تقدم الإمبراطور بعدئذٍ نحو حمص متابعا زنوبيا التي انسحبت إليها، فأوقع بجيشها هزيمة أخرى، شابهت ظروفها ظروف معركة أنطاكية، وتابع سيره إلى تدمر لمحاصرة الملكة التي لم تر بُدًّا من الاعتصام داخل أسوار عاصمتها، وقد أعدت كل ما تستطيع إعداده من وسائل الدفاع، إذ وضعت على كل برج من أبراج السور اثنين أو ثلاثة من المجانيق تقذف المهاجمين بالحجارة، وتمطرهم بقذائف النفط الملتهبة، وصممت على المقاومة بشجاعة بطولية، معلنة أنه إذا كان لا بد لحكمها من نهاية فلتقترن هذه النهاية بنهاية حياتها. وهكذا كان حصار الإمبراطور لتدمر من أشد ما واجه من صعاب، لا سيما وأنه قد أصيب خلاله بجرح من أحد النبال. يدلنا على ذلك ما جاء في خطاب له: "إن الشعب الروماني يتحدث باستهزاء وسخرية عن الحرب التي أشنها ضد امرأة، لكنهم يجهلون شخصية زنوبيا وقوتها. وإنه لمن العسير أن تحصى معداتها الحربية من الحجارة والسهام وكل أنواع القذائف"1. ولم يغب عن خاطر أورليان أن يضع ثقته بآلهة روما مستمدًّا عونها ونصرتها له ضد هذه المرأة الشجاعة. ولما ساوره الشك في نصرة آلهته عرض على زنوبيا التسليم لقاء شروط معتدلة: أن تنسحب انسحابًا كريمًا، وأن يحتفظ مواطنوها بامتيازاتهم القديمة. لكنها رفضت شروطه بإباء وشمم، "لا بل اقترن الرفض بالإهانة"2. والواقع أنها ركزت أملها في أن تحل المجاعة في الجيش الروماني فيرغم على الانسحاب، وبأن يأتيها المدد من ملك فارس. لكن سابور قد توفي في تلك الآونة, وشغل الفرس بالفتن الداخلية, وحال الرومان دون وصول أية نجدة إليها، بينما كانت النجدات الرومانية تتدفق على أورليان،

_ 1 إدوار جيبون: ص269-270. 2 إدوار جيبون: ص271.

ولم تر زنوبيا في النهاية، وبعد أن استبد بها اليأس، إلا أن تفر إلى الصحراء في محاولة منها للالتجاء إلى الفرس، لكن أورليان تمكن من أسرها عند ضفاف الفرات واقتادها معه إلى روما، فقضت بقية أيام حياتها منسية في العاصمة الرومانية، ولم يعاقب الإمبراطور بالقتل سوى كبار قوادها ومستشاريها بعد محاكمة أُجريت لهم في حمص. أما تدمر فقد وضع عليها حاكمًا رومانيًّا وفرض عليها غرامة كبيرة، فلم تلبث بعدئذ أن أعلنت على الحكم الروماني ثورة قضت فيها على الحامية الرومانية، فكان على أورليان أن يعود أدراجه إليها ليخمدها، وقد استباح تدمر لجنوده ودمرها وأعمل السيف في رقاب أهلها1. وهناك رسالة لأورليان نفسه يعترف فيها بأن الإعدام الرهيب لم يقتصر على المتمردين المسلحين، بل تعداه إلى الشيوخ والنساء والأطفال والفلاحين2. وقد سببت هذه الأعمال ضعف تدمر وانحطاط شأنها، ولم يسمع لها خبر حتى الفتح الإسلامي.

_ 1 Rene.htm' Grousset. L' Empire du Levant, P' 62-63. 2 جيبون: 172.

مدينة تدمر وحضارتها

مدينة تدمر وحضارتها طبقات المجتمع ... مدنية تدمر وحضارتها: طبقات المجتمع: كان المجتمع التدمري يتألف من طبقات عديدة؛ فهنالك الطبقة الخاصة والطبقة العامة وأفرادهما مواطنون أحرار، وكانت الطبقة الخاصة تتألف من عدد من القبائل العربية منها بيوتات الشرف، وهي تملك الثروة والنفوذ، وتتشبه بالرومان في طراز معيشتها1. وأما العامة فهي سواد الشعب وتضم العمال والفلاحين ورجال القوافل وتأتي بعدهما طبقة العبيد. وكان في تدمر عدد من الجاليات الأجنبية لا سيما الرومان، وقد سكنتها للتجارة، وكان لكل جالية فندقها الخاص بها.

_ 1 Rene Grousset. Lbid, P.62-63.

الحياة الإجتماعية والاقتصادية

الحياة الاجتماعية والاقتصادية: كان للنشاط التجاري وللصلات التجارية الخارجية الفضل في اتساع أفق التدمريين وتقدمهم في الحضارة، فأتقنوا عدة لغات كالإغريقية التي استعملوها لكتابة وثائقهم

الإدارية، وكالآرامية لمكاتباتهم العادية والتجارية. كانت تدمر نقطة تجارية متوسطة بين سورية وشبه جزيرة العرب والخليج العربي والعراق وإيران والأناضول ومصر. وامتد نشاطها التجاري حتى روما وفرنسا وأسبانيا، وحتى الهند والصين، كما اتضح من النقش الذي عثر عليه في أنقاضها واسمه "القانون المالي لتدمر" والذي يذكر المواد التجارية التي كانت تمر في تدمر، مع نسبة الرسوم الجمركية التي كانت تفرض عليها.

نظام الحكم

نظام الحكم: تطور نظام الحكم في تدمر، فقبل عهد أذينة الأول كانت تتمتع بحكم شوري يقوم عليه مجلس شيوخ "بولو Boulo" لا يضم سوى أصحاب الجاه والثروة. ولكل عشيرة مجلس يسمى "ديموس Demos" يضم كل أفرادها البالغين. وللمدينة حاكم يسمى "آراخون" وموظف للشئون المالية وآخر مسئول عن الأسواق وقائد جيش وقائد حامية وقوة بوليس لحماية القوافل تسند زعامتها إلى رئيس من التجار الأغنياء. ومنذ عهد أذينة قام فيها حكم ملكي وراثي يجمع بين سلطة المجالس وبين سلطة الحاكم الفرد.

الفن التدمري والعمران

الفن التدمري والعمران: أما الفن التدمري فهو مزيج من عناصر يونانية وإيرانية وسورية، وقد تأثر من حيث الزخرفة والبناء بالأسلوب اليوناني مع تأثيرات شرقية، فجاءت معظم الأبنية وفق الطراز الهللنستي الذي يتصف بكثرة الزخارف وتنوعها، وبالدقة والوضوح. وأهم الآثار التدمرية "الشارع الكبير" وهو يبدأ من الجهة الجنوبية الشرقية بقوس نصر كبير، ويسير نحو الشمال الغربي بطول 110م وعرض 11م، وكان على جانبيه رواقان مسقوفان لا يزال 150 من أعمدتهما قائمًا حتى الآن. وهي من أصل 375 عمودًا "بطول 10م وقطر 1م" مصنوعة من المرمر الأبيض والجرانيت السماقي، وكلها ذات تيجان كورنثية. وفي تدمر هيكل "بعل" المؤلف من باحة مكشوفة, وقد استعمل في بنائه 400 عمود لا يزال مائة منها قائمًا في صفوف منتظمة، أمام أروقة تعلو واجهتها أفاريز عليها نقوش بديعة. فقد رسم التدمريون على عمائرهم وعلى أعمدتها أغصان الشجر، ومنها الكرمة

التي تشاهد أوراقها وعناقيدها. ومن الهياكل المشهورة هيكل "بعل شمين" سيد السموات، وفي المدينة أقنية فخارية لتوزيع المياه، ومسرح مدرج اكتشف حديثًا بالقرب من قوس النصر ومن هيكل بعل.

الكتابة التدمرية

الكتابة التدمرية: استعمل التدمريون إحدى لهجات اللغة العربية، وكانت أسماؤهم وطبائعهم وسائر أحوالهم تدل على عروبتهم. لكنهم كالأنباط كتبوا بالخط الآرامي الذي طوروه إلى خط تدمري كما فعل الأنباط، وقد أمكن قراءته بفضل الترجمة اليونانية التي وجدت إلى جانب النصوص المكتشفة.

الديانة

الديانة: عبد التدمريون آلهة ترمز إلى مظاهر الطبيعة، شأنهم في ذلك كشأن بقية الساميين، وكان لهم أكثر من أربعين إلهًا، وأعظمها شأنًا بعل "بل" وهو إله وطني يمثل الشمس التي عبدوها وشيدوا لها أعظم هيكل، والإله بعل شمين "إله السموات" ويعتبر حامي الزراعة، والإله يرحبل "إله القمر". وهناك اللات وعزنرو وساعي القوم "حامي القوافل". ووجود هذا الإله أمر طبيعي في مجتمع يعيش على التجارة، وكانوا يعتبرونه إله الخير الطيب الذي يرعى القوافل.

المناذرة والغساسنة

المناذرة والغساسنة قامت في جنوبي سورية وجنوبي العراق إمارتان عربيتان هما: إمارة المناذرة في الحيرة، وإمارة الغساسنة في جهات حوران. وكما خضع المناذرة لدولة الفرس الحاكمة على إيران والعراق، خضع الغساسنة للدولة البيزنطية1 الحاكمة على سورية، وكانت كل من الإمارتين درعًا ومجنًّا للدولة التي خضعت لها ضد هجمات الدولة الأخرى المعادية، وضد غارات بدو الصحراء على أراضيها. وقد جرَّت هذه التبعية للأجنبي وراءها حروبًا متصلة بين الإمارتين2 سفكت فيها الدماء العربية إرضاءً لغرور وسيطرة الدولتين الأجنبيتين. وما انفكت الإمارتان على هذه الحالة إلى أن اجتاحت جيوش العرب المسلمين أراضيهما فاندمجتا في الكيان العربي نهائيًّا.

_ 1 ظلت الدولة الرومانية محتفظة بوحدتها حتى عام 395م، وهو التاريخ الذي انقسمت فيه إلى شطرين: غربي وعاصمته روما وشرقي وعاصمته القسطنطينية، وهو الذي سمي باسم الدولة البيزنطية، التي ورثت من الدولة الرومانية السيطرة على بلاد الشام ومصر وشمالي إفريقيا. 2 Henri Masse: L.htm'Islam. P. 13-14.

المناذرة

المناذرة مدخل ... المناذرة يطلق الأخباريون على المناذرة اسم "آل لخم" و"آل تنوخ" وقد اختلفوا في رواية أخبارهم، وتناقضت أقوالهم حول منشئهم، بالإضافة إلى الاضطراب الذي وقعوا فيه من حيث عدد ملوكهم وتسلسلهم ومدد حكمهم. ولذلك لم يكن في استطاعة المؤرخين المحدثين الأخذ بما يروى من أخبارهم على علاتها في التأريخ لهم، ومثل ذلك في التأريخ لمعاصريهم الغساسنة. وكان لا بد لهؤلاء المؤرخين من الرجوع إلى الكتب اليونانية واللاتينية والسريانية التي ضمنها مؤلفوها إشاراتٍ إلى آل جفنة "الغساسنة" وآل لخم، فاتخذوا منها ركائز لتصحيح أغلاط الأخباريين، مع حرصهم على الحذر منها لعدم خلوها من مظان الشك والشبهة.

يرجع الأخباريون أصل المناذرة إلى عرب الجنوب، وينسبونهم إلى كهلان قائلين: إن قبائل عربية عديدة قدمت من الجنوب إثر تهدم سد مأرب، وتجمعت حول البحرين، منها قبيلتا لخم وتنوخ من أزد عمان، ونزحت كل منهما، واحدة تلو الأخرى، إلى جهات جنوبي العراق، تلمسًا لأسباب الرزق في المناطق الخصبة التي كانت تغري البدو وتجذبهم إليها، شأنهما في ذلك شأن سائر القبائل العربية التي كانت تنزح إلى الشمال الخصيب في هجرات متعاقبة. إن هذه الأقوال وإن تكن معقولة من حيث إمكان تجمع قبائل عربية في البحرين، ثم نزوحها إلى المناطق الشمالية، غير أنها لا تخلو من تناقض مع الحقائق التاريخية؛ ذلك أن سد مأرب لم يتهدم إلا في أواخر القرن السادس الميلادي، بينما يحدد الأخباريون نزوحهم إلى الهلال الخصيب، في وقت موافق للقرن الثالث الميلادي1. ثم إن الدراسات التي قام بها المؤرخون المحدثون قد دلت على أن لغة أهل الحيرة التي قامت فيها دولة المناذرة لم تكن على لهجة واحدة، بل هي خليط من لهجات فيها من الحميرية وفيها من العدنانية وفيها من الهجنة، كما فيها من الرطانة النبطية. وهذا ما دفع بعض المؤرخين المحدثين إلى القول بأنهم من عرب الشمال، بينما يتبين من الدراسات التي أشرت إليها أن الظن يتجه إلى كونهم قبائل عديدة فيها من القحطانية وفيها من العدنانية، شملتهم تسمية "تنوخ" لا قبيلة واحدة أصلها من الجنوب. ولعل ما جاء في رواية للطبري عن كيفية هجرة العرب إلى الحيرة ما يؤيد هذا القول، إذ يبين أن قبائل عديدة منها قبائل معدية عدنانية كانت تسكن تهامة فحدثت بينهم حروب فتشتتوا "وأقبلت منهم قبائل نزلت البحرين، وبها جماعة من الأزد كانوا قد نزلوا فيها من زمن" ثم يعدد القبائل النازحة إلى البحرين، ومنها ما هو معدي ومنها ما هو يمني، ويختم روايته بقوله: "فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب فتحالفوا على التنوّخ، وتعاقدوا على التآزر والتناصر، فصاروا يدًا على الناس، وضمهم اسم تنوخ"2. والواقع أن هذا الاندماج يتفق مع ما ذكرناه سابقًا من إمكانية اندماج القبائل المتحالفة في اسم واحد تعرف جميعها به بمرور الزمن.

_ 1 محمد مبروك نافع: المصدر نفسه، ص115. 2 د. جواد علي: 4/ 18؛ الطبري: 2/ 3.

ولم يشكل هؤلاء وحدهم سكان الحيرة بل كان إلى جانبهم سكانها الأصليون ويطلق عليهم اسم "العباد" وهم حضر مستقرون يدينون بالمسيحية على المذهب النسطوري، بالإضافة إلى جماعة يسمون "الأحلاف" الذين لحقوا بالقبائل العربية التي نزحت إلى الحيرة، ولم يكونوا في الأصل لا من تنوخ ولا من العباد. كما كان في الحيرة جماعة من "النبط" وهم من بقايا قدماء العراقيين، وكان بعضهم يتكلم العربية برطانة ظاهرة، كما كان فيها جماعات من الفرس واليهود1. ويظهر أن قبائل تنوخ قد قصدت الحيرة مغتنمة فرصة الضعف التي مرت بها الدولة الفارسية في مطلع القرن الثالث الميلادي؛ بسبب التنافس بين الأسرتين الفارسيتين: البارثية والساسانية2، فتقدمت نحو الضفة الغربية من وادي الفرات الأسفل، وأقامت بيوتًا من الشعر في المكان المعروف باسم الحيرة؛ وهي في الغالب مدينة قديمة، قد يكون اسمها مشتقًّا من الكلمة السريانية "حرتا Harta" التي تعني المخيم أو المعسكر. وسرعان ما تحضرت هذه القبائل وعملت في حماية القوافل التجارية المارة بأراضيها، وأسهمت في العمل التجاري، وأقامت علاقات تجارية مع تدمر، بعد أن اعترفت الدولة البارثية، ومن بعدها الدولة الساسانية باستقلالها الذاتي مضطرتين إلى ذلك بسبب ضعفهما. يختلف المؤرخون العرب القدامى فيمن هو مؤسس دولة المناذرة؛ فيذهب بعضهم إلى القول أنه نصر بن ربيعة بن لخم بن عدي من عرب الجنوب، بينما يروي ابن الكلبي أن أول ملك من ملوكها هو مالك بن فهم من تنوخ، ولما توفي ملك بعده أخوه عمرو بن فهم، وتلاه جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم. على أن الغالب لدى المؤرخين القدامى أن جذيمة هو أول ملوك الحيرة، ويتحدث الأخباريون عنه أنه كان به برص، فهابت العرب أن تكنيه به إعظامًا له فسمته "جذيمة الوضاح" أو "جذيمة الأبرش"، ويروون أنه اتخذ

_ 1 د. جواد علي: 4/ 14-16. 2 الفتن الداخلية بدأت داخل الدولة البرثية منذ عام 197م تارة بين أفراد الأسرة الحاكمة وتارة أخرى بين الدولة وشعبها الذي كان يثير على ملوكها الشغب لضعفهم، إلى أن ثار الشعب الفارسي سنة 224م بزعامة أردشير بن بابك من آل ساسان الذي تغلب على الدولة السابقة, وأسس عام 226 عهد أسرة جديدة هي الأسرة الساسانية "راجع: تاريخ الدول الفارسية في العراق, بقلم علي ظريف الأعظمي، ص26-27".

صنمين يقال لهما "الضيزنان" وضعهما في مكان معروف بالحيرة، وكان يستقي ويستنصر بهما، وأنه كان يغازي قبيلة "إياد" النازلة في عين أباغ فسرقتهما إياد، ثم اضطرت إلى مفاوضته في ردهما، فاشترط عليها أن ترسل معهما غلامًا عندها، سمع بجماله وظرفه يسمى "عدي بن نصر" فوافق على ذلك، وهناك من الأخباريين من يجعل عديًّا ابن عم له، فضم عديا إلى حاشيته وولاه شرابه1. وتتمة الرواية أن عديا أحب أختا لجذيمة اسمها "رقاش" وأحبته، فتحايلا على أخيها فخطبها عدي منه وهو سكران، وبنى بها في الليلة نفسها2. ولما كان الصباح وصحا جذيمة أدرك الحيلة فخاف عدي وهرب. ثم وضعت رقاش صبيًّا جميلًا سمي "عمرو" لم يلبث جذيمة أن أحبه وجعله وليا لعهده، فلما توفي تسنم العرش مكانه. وهناك روايات أخرى تجعل عديًّا ابنًا لربيعة بن نصر أو لنصر بن ربيعة في روايات أخرى؛ ولذا عرف ملوك الحيرة باسم "آل نصر" أيضًا3. أما رواية ابن الكلبي في الأغاني فتجعل عديا غلاما من لخم كان مقيما مع أخواله من إياد، حينما استقدمه جذيمة ليكون نديمه، ولم تذكر قصة الضيزنين ومغازاة إياد، إنما تنتهي بقصة أسطورية تقول: إن الجن استطارت عمرًا فاختفى، ثم تشاء الصدف أن يلتقي برجلين ومعهما قينة تسمى أم عمرو نصبت قدرا وصنعت طعاما، وهو على هيئة ذَرِيَّة، أشعث أغبر طالت أظافره، يمد يده إليها فتناوله شيئا يأكله، ثم يمدها ثانية فتقول: "إن يُعْطَ العبد كراعًا يتسع ذراعًا" فتذهب مَثَلًا، ثم تناول صاحبيها شرابا وتربط دنها، فيقول لها عمرو: صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا ثم يتعرف الرجلان عليه فيعيدانه إلى خاله، وتلبسه أمه لباس الملوك وتجعل في عنقه طوقًا، وتدخله على جذيمة فيقول: "شب عمرو عن الطوق" فتذهب مثلا.

_ 1 د. جواد علي 4/ 24-25. 2 ابن الأثير: الكامل 1/ 197. 3 د. جواد علي: 4/ 29.

ويربط ابن الكلبي بين هذه القصة وقصة أخرى نسبت إلى جذيمة، كما نسبت إلى عدة ملوك من خلفائه، هي قصة النديمين، إذ أراد مكافأة الرجلين فخيرهما فيما يطلبان فقالا: منادمتك ما بقيت وما بقينا، فيصبحان نديميه في القصة المعروفة، وقد ضرب بهما المثل كما في قول أبي خراش الهذلي: ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلَا صفاء مالكٌ وعقيل أو كقول آخر: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا ثم يستطرد صاحب الأغاني إلى قصة جذيمة مع الزباء التي استدرجته إلى عاصمتها بدعوى الزواج منه، لكنها فتكت به انتقامًا منه لقتله والدها -كما قدمت في بحث المملكة التدمرية- إنما يورد ما لا يقبله الذوق والمنطق التاريخي من تصوير الزباء، سواء كانت ملكة تدمر أو غيرها، بصورة لكعاء ليست بذات خفر1، مما لا يتفق مع أخلاق الملوك. وهكذا نلاحظ أن الأخباريين يتخبطون في روايات يسودها الاضطراب ويسيطر عليها الخيال، ولا نستطيع أن نستنتج منها مادة تاريخية يوثق بصحتها.

_ 1 الأغاني: 16/ 5665، ابن الأثير: الكامل 1/ 198-200.

امرؤ القيس بن عمرو

امرؤ القيس بن عمرو "288-328م": غير أن أول ملك من ملوك الحيرة نستطيع الاعتماد على الوثائق التاريخية الثابتة علميا في الاطمئنان إلى حقيقة حكمه هو امرؤ القيس بن عمرو بن عدي. وقد حكم بين 288-328م، واستفاد من فترة الاضطراب التي رافقت تسنم الملك سابور الثاني عرش فارس، وكان صبيا، فوسع سلطانه على القبائل العربية في بادية الشام وشبه الجزيرة، كما يتضح من نقش يسمى "نقش النمارة" عثر عليه في جهات حوران، وهو عبارة عن شاهدة قبر تتحدث عن هذا الملك بالكتابة التالية: "هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم, الذي تقلد التاج، وأخضع قبيلتي أسد ونزار، وهزم مزحج، وقاد الظفر إلى أسوار

نجران مدينة شمر، وأخضع معدًّا، واستعمل بنيه على القبائل، وأنابهم عنه لدى الفرس والروم، فلم يبلغ ملك مبلغه إلى اليوم"1. عاصر امرؤ القيس عدة ملوك من الأسرة الساسانية الجديدة التي تسلمت حكم فارس منذ عام 226م، كان آخرهم سابور الثاني الذي تسنم العرش سنة 309م وهو صبي صغير، فنصب الفرس وصيًّا عليه. وقد ساءت أحوال المملكة في أول عهده، وكثرت الاضطرابات حتى طمع العرب في الأراضي الفارسية، وجاء منهم -زيادة على ما في العراق- عدة قبائل من البحرين منها قبيلة إياد التي أغارت على سواد العراق، وأعملت يد النهب والسلب فيه، وحذت حذوها قبائل تميم وغيرها، واستمرت الاضطرابات زمنًا غير يسير. وما أن بلغ سابور السادسة عشرة من عمره وتسلم زمام الحكم الفعلي للمملكة حتى بدأ ينكل بالعرب، لا سيما إياد وتميم فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم أخذ يشتت شمل القبائل العربية ويلاحقها بالتنكيل ففر بعضها إلى الروم وبعضها الآخر إلى البحرين، فلاحق هؤلاء الآخرين، وفتك بهم فتكا ذريعا، وأصدر أمره بعدم دخول العرب مملكته بدون إذنه تحت طائلة الموت. ومن شدة فتكه بهم لقب بـ "ذي الأكتاف" لأنه كان يخلع أكتاف زعمائهم2. وقد أشار شاعر إياد إلى ذلك بقوله: على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل والنعم لكنه عندما أدرك صعوبة الاستمرار في سياسة العنف والقوة معهم -تلك السياسة التي حدت بجماعات منهم إلى مقاتلته في جانب الروم، وكانت الحرب على أشدها بينه وبين هؤلاء- لم ير بدًّا من مصالحتهم والاستعانة بهم ضد أعدائه، وتوثقت منذئذ عرا التحالف بين المناذرة والفرس ضد الروم. وقد حكم بعد امرئ القيس ابنه عمرو ثم ابنه الآخر:

_ 1 د. جواد علي: 4/ 23. 2 علي ظريف الأعظمي: تاريخ الدول الفارسية في العراق، ص24-25. أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطوال، ص48-49. الطبري: 2/ 55-60.

النعمان الأول

النعمان الأول "400-418م" وهو أول ملك استطاع المؤرخون المحدثون أن يتتبعوا سيرته بشيء ولو قليل من التأكيد. ويعتبر النعمان الأول من أشهر ملوك الحيرة، وقد حكم بين 400-418م، ويلقب بالأعور، وهو باني الخورنق والسدير، وله في بناء الخورنق قصة طالما رددها الأخباريون، وهي مما لا يسمح المنهج التاريخي بقبولها، وملخصها أن النعمان قد أمر ببانيه المهندس البيزنطي سنمار، فألقي من أعلى ذروة فيه فقضى نحبه، فذهب ذلك مَثَلًا بين الناس "جزاء سنمار". ويروون لذلك أسبابًا غير معقولة كقولهم: إن سنمار قد صرح لمشاهدي القصر الذين أعجبوا بجماله: إنه لو علم بأنه سيوفى أجره، ويصنع به ما هو أهله لبناه يدور مع الشمس حيثما دارت. فقال النعمان: "إنك لتقدر أن تبني ما هو أفضل منه ثم لم تبنه"1 وأمر بطرحه من أعلى القصر. وكانت تحت إمرة النعمان كتيبتان عسكريتان؛ الأولى فارسية وهي "الشهباء" وقد ساعده الفرس في تشكيلها بألف جندي أقاموا لديه، الثانية عربية وهي "الدوسر" وقد اشتهرت بقوة بأسها وشدة بطشها، فضرب بها المثل "أبطش من دوسر" وكان يغزو الشام بهما. وذكروا إلى جانبهما ثلاث كتائب أخرى غير نظامية هي: الرهائن والصنائع والوضائع. وقد وصفه الأخباريون بكونه رجلًا حازمًا قويًّا، ومحاربًا من أشد الناس نكاية بعدوه، وقد غزا عرب الشام من الغساسنة فسبى منهم وغنم غنائم عظيمة. ولما توفي النعمان خلفه ابنه المنذر الأول "418-462م" وقد جرت في عهده حروب ضارية وطويلة بين الفرس والروم، فقدم للفرس مساعدة قيمة في هذه الحروب، وبذل من التضحيات حدا عظيما، بالغ الأخباريون فجعلوا عدد الضحايا العرب من جنده وقودًا للحرب مئات الألوف2، لاقوا حتفهم إما غرقًا في نهر الفرات في أثناء اجتيازه، أو في ساحات الوغى إلى أن انتهت الحروب بصلح عقد عام 422م بين فارس وبيزنطة استمر لأمد طويل. ومما يروى أن المنذر الأول هو الذي أوصل الأمير الفارسي "بهرام جور" إلى

_ 1 الطبري 2/ 65-66، يقول سليط بن سعد: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار 2 راجع عنها جواد علي: 4/ 44-45.

عرش الأكاسرة، إذ كان هذا الأمير قد تربى في قصور المناذرة، فكان على المنذر أن ينصره ويهزم خصومه. وقد أعقب المنذر ملوك لم تذكر لهم أعمال مهمة حتى تسلم الملك:

المنذر الأول بن ماء السماء

المنذر الأول بن ماء السماء ... المنذر الثالث بن ماء السماء "514-554م": وماء السماء هو لقب لأمه ماريا، وقد عاصر من الملوك المجاورين الحارث بن جبلة الغساني، والحارث بن عمرو "ملك كندة" والملك الفارسي "قباذ". ومما يروى أنه بعد أن ناصر الملك الفارسي ضد الروم ساءت العلاقات بينهما، ذلك أنه في عهد قباذ، قام "مزدك" الفارسي بالدعاية لمذهب ديني يقول بشيوعة النساء والمال، فاستهوى القلوب واعتنقه قباذ: وحاول فرضه على المنذر فرفضه، فما كان من قباذ إلا أن أعان عليه الحارث بن عمرو ملك كندة الذي روي أنه اعتنق المزدكية نكاية بالمنذر -وهو قول يكتنفه الشك، وسأناقشه عند الحديث عن دولة كندة- وهاجم الحيرة واحتلها، وجلس على عرشها مكان المنذر الذي التجأ إلى القبائل العربية في الصحراء، إلى أن مات قباذ وتولى بعده ابنه كسرى أنوشروان فأعانه على الرجوع إلى عرشه بعد أن فتك بمزدك ونكل بأتباع المزدكية. وقد قامت في عهد المنذر حروب طويلة بين المنازرة والغساسنة، أثارتها رغبة الفرس في التنكيل بالبيزنطيين في عهد الإمبراطور "جوستين" الأول، الذي مطل في دفع أتاوة كان الروم البيزنطيون يدفعونها للفرس بناء على بنود صلح عقد بين الطرفين عام 506م. بدأت هذه المعارك سنة 519 م، وقام المنذر فيها بدور مهم، إذ تمكن من أسر قائدين بيزنطيين إثر هجوم شنه على سورية. ثم تجددت الحرب سنة 528-529م فتوغل حتى حمص وأفامية وأنطاكية, وحتى الأناضول، وبعد أن أضرم الحرائق في بعض المدن عاد وفي ركابه كثير من الأسرى بينهم 400 راهبة، روي أنه قدمهن ضحية للآلهة، أو اصطفاهن لنفسه. ولما تولى الإمبراطور "جوستنيان" العرش البيزنطي أدرك أنه لا سبيل إلى وقف التحدي الفارسي إلا بدعم الغساسنة، فعين الحارث بن جبلة بن أبي شمر "الملقب بالحارث

الثاني" ملكًا عليهم، ومنحه بعض الألقاب الشرفية، وأوكل إليه حماية حدود الشام مع العراق. وكان لا بد من وقوع الصدام بين الإمارتين العربيتين، بالرغم من إبرام صلح بين بيزنطة وفارس، وعدم تدخل كل منهما تدخلًا مباشرًا في منازعات الإمارتين، ذلك أن ظروفًا جديدة قد دفعت الدولتين الكبيرتين إلى الاصطدام من جديد، فقد استفاد الإمبراطور "جوستنيان" من الهدنة المعقودة مع الفرس كي يتفرغ إلى توسيع إمبراطوريته في أوروبا وإفريقيا, واستعادة الممتلكات التي انسلخت عنها, إما بسبب نوازع وطنية محلية، أو بسبب استيلاء الأقوام البربرية الغازية عليها؛ وبالتالي كي يستعيد مجد الإمبراطورية الرومانية القديمة، مما يخل بتوازن القوى بين الدولتين. وقد وجد "كسرى أنوشروان" الذريعة التي يستطيع بها أن يجعل حلفاءه المناذرة يتحرشون بالغساسنة وبحلفائهم البيزنطيين، إذ كان ثمة نزاع بين المناذرة والغساسنة على أرض تسمى "أستراتا" تمتد بين دمشق وتدمر وتشكل الحد الفاصل بينهما، فحرض المنذر بن ماء السماء على احتلالها، فادعى تبعية القبائل النازلة فيها له ووجوب دفعها الجزية إليه، وكان لا بد للملك الغساني الحارث بن جبلة من مقاومة هذا الادعاء، فنشبت الحرب بين الطرفين "540م" واضطرت بيزنطة وفارس إلى التدخل المباشر, كل منهما لنصرة حليفتها، ونقض "كسرى" بنود الهدنة المعقودة بينه وبين "جوستنيان" وهاجم سورية. غير أن الحارث بن جبلة الغساني الذي كان يرافق القائد البيزنطي "بليزاريوس" في المعارك الناشبة لم يلبث أن تخلى عن مؤازرة البيزنطيين، بعد أن كان قد تمكن من اجتياز نهر دجلة نحو الشرق، إذ أدرك أن الحرب ضد الفرس لا بد خاسرة؛ لانشغال كتلة الجيش البيزنطي الرئيسية في الحروب التي تخوضها في أوروبا، ففضل العودة بدلًا من أن يعرِّض رجاله للهلاك. والواقع أن ظنه قد تحقق، ذلك أن جوستنيان لم يلبث أن عقد اتفاقا جديدا مدته خمس سنوات مع كسرى، تعهد له فيه أن يضاعف الجزية التي تدفعها بيزنطة لفارس1.

_ 1 د. جواد علي: 4/ 59.

ومن أهم المعارك التي جرت في هذه الحروب الطويلة المتصلة تلك التي جرت عام 544م. والتي تمكن فيها المنذر الثالث من أسر أحد أبناء الحارث وقدمه ضحية للآلهة، الأمر الذي ملأ قلب الحارث بالحقد، وحدا به إلى الاستعداد للانتقام منه. وفعلًا لم يلبث أن حقق عليه النصر في معركة جديدة إذ دحره وأسر اثنين من أولاده، حتى إذا كان عام 554م داهمه قرب قنسرين -بالرغم من الهدنة المعقودة بين الفرس والروم- وقتله في المعركة التي أطلق عليها اسم "يوم حليمة" والتي قد تكون سميت باسم ابنته "حليمة" التي روي أنها عطرت مائة من فرسان أبيها، وألبستهم الدروع بيديها تشجيعًا لهم على القتال، أو باسم مرج منسوب إلى هذه الابنة. ويسمي بعض المؤرخين هذه الوقعة باسم معركة "عين أباغ". والمنذر الثالث هو الذي تحدث الأخباريون عن قصة بنائه للغرييين، هذه القصة التي ينسبها بعضهم لجذيمة الأبرش، ولها اتصال بنديميه اللذين أعادا إليه ابن أخته، وينسبها بعضهم الآخر إلى النعمان بن المنذر المعروف باسم أبي قابوس, وملخصها أنه كان له نديمان من بني أسد ثملا مرة فراجعاه في بعض كلامه، فأمر بهما وهو سكران، فدفنا حيين في حفرة. ولما صحا ندم على فعلته، وأمر بأن يبنى فوق ضريحيهما صومعتان لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما، وجعل له يومين في السنة: يوم نعيم لا يأتيه فيه أحد إلا خلع عليه، ويوم بؤس لا يأتيه فيه أحد إلا أمر بضرب عنقه وغرَّى الصومعتين بدمه، ويرى أن عبيد بن الأبرص قد ذهب ضحية يوم بؤسه1. وقد عد يومه من أيام الشؤم فضرب به المثل "يوم عبيد" كما في قول أبي تمام: لما أظلتني سماؤك أقبلت ... تلك الشهود علي وهي شهودي من بعد ما ظن الأعادي أنه ... سيكون لي يوم كيوم عبيد بينما تمكن حنظلة بن عفراء الطائي من النجاة بفضل وفائه، إذ استمهل الملك ليذهب إلى أهله2 ويصلح من شأنهم ثم يعود في وقت حدد له، بكفالة رجل شهم يسمى

_ 1 د. جواد علي: 4/ 73-74. 2 الألوسي: 1/ 127-130.

شريك بن عمرو، ولم يأزف الموعد المحدد حتى كان حنظلة قد عاد وأظهر استعداده للموت، فاهتز شعور الملك لهذا الوفاء، فأقلع عن هذا التقليد الذي سار عليه، وقد بلغ به التأثر حدًّا جعله يتنصر. غير أن هذه القصة في نظر المؤرخين المحدثين إنما هي قصة أسطورية؛ فإذا كان لا بد من قبول فكرة بناء الغرييين، لما لهما من صلة بعبادة الأوثان التي تقضي بذبح القرابين ودهن الأصنام بدمائها، فإنه لا سبيل إلى قبول خبر دفن النديمين وقتل الناس القادمين إلى بلاط الملك في يوم بؤسه؛ لأن هذا أمر لا يقبله العقل والمنطق. إنما وجود هذه القصة في تراث الأخباريين إن هو إلا دليل على تأثر العقلية العربية بالثقافة اليونانية التي وصلت إلى أوج تغلغلها في العصر العباسي، ففي الآداب اليونانية قصة مطابقة لقصة الغرييين تمام المطابقة1. كما لا يستطيع المحدثون قبول فكرة تنصر المنذر إثر حادث فردي كهذا، بل ربما كان تنصره لدافع أقوى هو ما عرف من عمق تغلغل الديانة المسيحية في مجتمع الحيرة وبلاط الملك الذي كان يعج بالمؤمنين في عهده، ويروى أنه وزوجته هند قد اعتنقاها وقد خلفه ابنه:

_ 1 جورحى زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص208 "يروي فيها قصة رجل يسمى فنطياس حكم عليه ملك سرقوسة بالإعدام، فاستمهله التنفيذ أيامًا يدبر فيها أمور أهله وكفله رجل، ثم عاد قبل الموعد بيوم واحد".

عمرو بن هند

عمرو بن هند: "554-574" ولقبه "مضرط الحجارة": وأمه هند التي ينتسب إليها، هي ابنة الحارث الكندي وعمة الشاعر امرئ القيس، فهو كندي من جهة أمه. كان عمرو شديد البأس, قوي الشكيمة مع زهو وكبرياء وغطرسة، فهابته العرب. وقد استغل ضعف كندة ليوسع نفوذه فيما يلي الحيرة من شبه الجزيرة العربية، وحارب قبائل تميم وطيء وتغلب فكسرها وأخضعها. وكان سبب غزوه لتغلب أنه طلب من وجوهها مساعدته للأخذ بثأر أبيه من الغساسنة، فامتنعوا فغزاهم وفتك بهم1, وأما غزوه لتميم في يوم أوارة الثاني فكان سببه رغبته في الانتقام لأخيه

_ 1 الأغاني: 11/ 3833.

"سعد" الذي قتلته، ويروى أن عدد من قتل منهم بلغ مائة شخص ألقى جثثهم في النار فلقب بـ "المحرق". وقد عرف عن عمرو بن هند حبه للشعر والأدب؛ فتح بلاطه للأدباء والشعراء، فتقاطروا عليه من أماكن نائية لإنشاده ونيل جوائزه، فأصبحت الحيرة في عهده موئل الشعراء، قصده منهم بوجه خاص طرفة بن العبد والحارث بن حلزة1 المتلمس وعمرو بن كلثوم، ولم تكن مجالسه لتخلو من منافسة الشعراء بعضهم لبعض، ومن نقد بعضهم لبعض. ويظهر من الروايات التي تحدثت عنه أنه كان مغرورا متغطرسا سريع الانفعال، الأمر الذي أوقعه في مشاكل عديدة، فلأكثر مشاهير شعراء الجاهلية خبر أو قصة معه؛ مما جعله في أحيان كثيرة عرضة لهجومهم. وقصصه مع طرفة بن العبد والمتلمس2 وعمرو بن كلثوم معرفة ومشهورة. وأشهرها قصته مع عمرو بن كلثوم، إذ حدا به غروره وغطرسته يومًا إلى سؤال جلسائه: هل من أحد من العرب تأنف أمه أن تخدم أمي؟ فقالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم، أبوها مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، فدعا

_ 1 راجع الأغاني "11/ 3829" عن مناسبة نظم الحارث بن حلزة معلقته: آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاوٍ يمل منه الثواء بعد عهد لها ببرقة شما ... ء فأدنى ديارها الخلصاء وقد قالها ارتجالًا في مجلس عمرو بن هند، في أثناء جدل بين عمرو بن كلثوم التغلبي وبين زعيم من زعماء بكر التي ينتمي إليها الحارث بن حلزة. وكان الحارث بن حلزة مصابًا بالوضح "البرص" وكان عمرو بن هند قد أمر بأن يجعل بينهما ستار، فما زال يدينه منه ويدنيه حتى أمر بطرح الستر وأقعده معه قريبا منه لإعجابه به. 2 يروى أن عمرو بن هند قد جعل الدهر يومين يومًا يصيد فيه ويومًا يشرب، فإذا جلس للشراب أخذ الناس بالوقوف على بابه حتى يرتفع مجلس شرابه، وقد هجاه طرفة بن العبد ولم يزل يهجوه ويهجو أخاه قابوسًا، ويشبب بأخت لهما، وكان المتلمس خال طرفة بن العبد يساعده على هجائه، إلى أن قال لهما عمرو يوما: قد طال ثواكما ولا مال قبلي، ولكن كتبت لكما إلى عاملي بالبحرين يدفع لكل منكما مائة ألف درهم, فأخذ كل منهما صحيفته. غير أن المتلمس قد ارتاب في الأمر وأقرأ صحيفته لغلام نصراني فإذا فيها: "إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا" فطرح الصحيفة وقال لطرفة: في صحيفتك مثل هذا؟ قال: ليس يجترئ على قومي بهذا وأنا بذلك البلد أعز منه، فمضى طرفة إلى عامل البحرين فلما قرأ صحيفته قطع يديه ورجليه وصلبه. "تاريخ اليعقوبي: 1/ 172" أو فصد أكحليه فنزف حتى مات "الألوسي: 3/ 374-375".

الشاعر وأمه إلى وليمة، فحاولت أم الملك استخدام أم عمرو بن كلثوم في حاجة لها تناولها إياها، فأبت وقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فكررت عليها وألحت، فاستغاثت أم الشاعر وسمع ابنها استغاثتها من الخباء المجاور؛ فالتقط عمرو بن كلثوم سيفًا لابن هند معلقًا، لم يكن ثمة سيف غيره ففلق رأسه به وأرداه قتيلًا1. وقد تردد صدى هذه الحادثة في شعر الجاهليين2 كما أشار عمرو بن كلثوم نفسه3 إلى هذه الحادثة في معلقته: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا

_ 1 الأغاني: 11/ 3839. 2 كالذي ينسب إلى أفنون التغلبي: لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق فقام ابن كلثوم إلى السيف مُصلتًا ... وأمسك من ندمانه بالمخنق وجلله عمرو على الرأس ضربة ... بذي شطب صافي الحديدة رونق 3 قال عمرو بن كلثوم في معلقته مشيرًا إلى هذه الحادثة: إذا ما الملك سام الناس خسفًا ... أبينا أن نقر الخسف فينا كما جاء فيها: بأي مشيئةٍ عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا بأي مشيئةٍ عمرو بن هند ... نكون لقيلكم فيها قطينا تهددنا وتوعدنا رويدًا ... متى كنا لأمك مقتوينا فإن قناتنا يا عمرو أعيت ... على الأعداء قبلك أن تلينا

النعمان الثالث بن المنذر

النعمان الثالث بن المنذر "580-605م": وهو الملقب بـ "أبي قابوس" وكان وثنيًّا ثم تنصر. ويروى عن تنصره رواية لا تختلف عما ألفناه من روايات الأخباريين المستمدة من الخيال، ومرجعها نصارى الحيرة، وهي تقول: إن الشيطان قد ولع به أصيب بلوثة ووسوسة، ولما لم يجد شفاء إلا على أيدي آباء الكنيسة، تنصر على المذهب النسطوري وطرد اليعاقبة من الحيرة. وقد اشتهر عنه ميله للشعر والشعراء، ويروى أنه كان ضليعًا في الخطابة، قد قصده من الشعراء المنخل اليشكري وحاتم الطائي وحسان بن ثابت والمثقب العبدي والأسود بن يعفر، ونعموا بهباته وجوائزه, كما هجاه آخرون كعمرو بن كلثوم متخذين من كون أمه يهودية من فدك ذريعة لذلك، إذ كان العرب يعيبون الصناعة التي كان

يمارسها اليهود، وقد عيَّره عمرو بن كلثوم بخاله الذي يصوغ الحلي والعقود وينفخ في الكير. أما قصته مع النابغة الذبياني فهي معروفة: كان النابغة أحب الشعراء إلى قلبه، الأمر الذي أثار حسد الشعراء الآخرين ومنهم المنخل اليشكري الذي أوغر عليه صدر الملك1، فغضب عليه وهدر دمه، فهرب من وجهه والتجأ إلى أعدائه الغساسنة. لكنه استرضاه في النهاية وعاد إلى بلاطه في أواخر أيام ملكه. وأما المنخل اليشكري الذي انفرد بالمكانة المرموقة في غياب النابغة، فلم ينعم طويلًا بهذه المكانة؛ لأن النعمان لم يلبث أن انقلب عليه، فأودعه السجن حيث قضى نحبه من أثر التعذيب2. عاصر النعمان كسرى أبرويز الذي تذكر الروايات العربية أنه قتله بتحريض من زيد بن عدي انتقامًا لوالده عدي بن زيد، الذي كان النعمان قد قضى عليه، وهذه لمحة عن هذه القصة التي ذكرها الطبري وصاحب الأغاني والعقد الفريد وغيرها من المصادر العربية:

_ 1 وفي الأغاني "11/ 3794-3799"؛ وفي تاريخ اليعقوبي "1/ 173" أن سبب غضب النعمان عليه قصيدته الدالية: أمن آل مية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود والتي أورد فيها عن "المتجردة" زوجة النعمان أبياتًا جريئة في الوصف منها: والبطن ذو عكن لطيف طيه ... والأتب تنفجه بثدي مقعد ومنها: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد ويقال: إن المنخل اليشكري قد اتخذ من هذه القصيدة وسيلة لإيغار صدر النعمان على النابغة، أو أن أعداءه لفقوا شعرًا عن لسانه فيه ما يغضبه إلا أن هذا ظل يرسل شعره في الاعتذار إليه والتبرؤ مما وصم به حتى عفا عنه، ومن قوله في الاعتذار إليه: أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع مقالة, إن قد قلت: سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع لعمري وما عمري علي بهين ... لقد نطقت بطلًا علي الأقارع ومنها قوله: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع 2 د. جواد علي: 4/ 95.

أصبح الأكاسرة في الأيام الأخيرة لمملكة الحيرة قليلي الثقة بملوك المناذرة. والواقع أن أمر المناذرة قد تضعضع في أثناء الفتنة التي حدثت قبيل اغتصاب الحارث بن عمرو الكندي لعرش الحيرة، فاغتنم الفرس الفرصة لكي يحكموا قبضتهم في عنقهم، ومالوا إلى فرض حكمهم المباشر عليهم إلى أن اعتلى النعمان الثالث "أبو قابوس" العرش. كما شعروا بأن الحاجة إليهم لم تعد كما كانت بعد أن سُويت الأمور بين الفرس والروم إثر الهدنة التي عقدت بين الطرفين في منتصف القرن السادس الميلادي، وهو الزمن الذي قتل فيه المنذر الثالث بن ماء السماء اللخمي على يد الحارث بن أبي شمر الغساني، ولم تبقَ الحروب بين الغساسنة والمناذرة على الحدة نفسها التي كانت عليها من قبل، الأمر الذي كان من شأنه أن يدخل القلق إلى نفوس الفرس، فيجعلهم يتحسبون لما قد يلفت اهتمام المناذرة إلى تقوية دولتهم وتهديد السيطرة الفارسية، لا سيما وأن سياسة كل من الفرس والروم في ضرب الإمارتين إحداها بالأخرى، كانت ترمي إلى هدفين معًا: إضعافهما من جهة، وجعلهما مجنًّا تحتميان وراءه من جهة أخرى، وقد خفف قلق الفرس من ناحية الغساسنة كون العلاقات قد ساءت بين هؤلاء وبين حلفائهم الروم، وضعف شأنهم ولم يعد ثمة خطر يهدد الفرس من جانبهم. وخوف الفرس من المناذرة جعلهم يتخذون ضدهم تدابير شديدة منها ألا يقروا على إمارة الحيرة إلا من يثقون به. في هذه الحقبة من الزمن، أي: التي امتدت ما بين النصف الأول من القرن السادس الميلادي وأواخره، ارتفع شأن أسرة من تميم بن مر قدم جدها الأكبر أيوب بن محروف من محل إقامته في اليمامة إلى الحيرة، وكان على النصرانية، فتقرب من الأكاسرة ومن ملوك الحيرة أيضًا، وأصبح عدد من أولاده وأحفاده واحدًا بعد الآخر كُتَّابًا في ديوان كسرى؛ لتضلعهم بالفارسية والعربية، وتولى أحدهم زيد بن حماد لدى كسرى مصلحة البريد التي كانت عند الفرس بمثابة دائرة استخبارات تستطلع له أخبار رعيته، وقد خدمت هذه العائلة الفرس وأخلصت لهم، وكانت العين الرقيبة لهم على أمراء الحيرة. وقد وثق كسرى بزيد، حتى إنه قد ولاه مؤقتا ملك الحيرة، بعد وفاة ملكها النعمان النصري، كما يسميه صاحب الأغاني -ريثما عين المنذر بن ماء السماء خلفًا

للنعمان1. وارتفع شأن زيد وبلغ نفوذه على ملوك الحيرة مبلغًا عظيمًا بحيث تمكن بدهائه من أن يكون حاكم الحيرة الفعلي، في أثناء الفتنة التي مرت بها الحيرة، عندما قام عربها يريدون قتل الملك المنذر ليتخلصوا من ظلمه، فأبدى الملك رغبته في التنازل عن العرش، وطلب من الفرس أن يعينوا ملكًا منهم، فما كان من زيد إلا أن سوى الأمور بين الملك وشعبه بحيث يكون هو حاكم الحيرة الفعلي والمنذر ملكها الاسمى. وكان لزيد ولد يسمى عديًّا2 -الشاعر المعروف- ربي في أحضان الفرس، وأصبح كاتبًا لكسرى، فرهبته العرب وتقربت منه، بينما هو قد تشرب دمه بالإخلاص للفرس والتفاني في خدمتهم. وقد لعب دورا كبيرا عندما شغر عرش الحيرة بمقتل المنذر وولي عليه العميل الفارسي إياس بن قبيصة بالوكالة. ذلك أنه عندما بلغ ضجر كسرى، ويأسه من العثور على من يثق به من أمراء المناذرة، مبلغًا دفعه إلى إطلاق وعيده بحكم الحيرة حكما مباشرا: "لأبعثن إلى الحيرة اثني عشر ألفًا من الأساورة، ولأملكن عليهم رجلا فارسيا، ولآمرنهم أن ينزلوا على العرب في دورهم، ويملكوا عليهم أموالهم ونساءهم"3، تصدى لحل المعضلة بأن أعمل الحيلة والمكر في مساعدة ربيبه النعمان بن المنذر، الذي ترعرع في كنف آل عدي فكانوا هم الذين أرضعوه وربوه، وحمل كسرى على إسناد العرش إليه تفضيلًا له عن إخوته الاثني عشر الآخرين4. غير أن العلاقات لم تلبث أن ساءت بين النعمان وعدي فأرسل إليه -وهو يومئذٍ عند كسرى- رسالة رقيقة استقدمه بها وألقى به في السجن، ثم قتله عندما أبلغته حاشيته أن رسولًا من كسرى يحمل رسالة منه يطلب فيها إطلاق سراحه، وحذرته من عدي بعد أن يصبح حرا طليقا. ولما فوجئ الرسول بموت عدي، بينما كان قد زاره في اليوم السابق في سجنه، وأيقن أن النعمان هو الذي أمر بقتله، عاد إلى مليكه وأبلغه الواقع، وكان من الطبيعي أن يغضب كسرى لما حدث.

_ 1 الأغاني: 2/ 518. 2 هو عدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد من مضر. 3 الأغاني: 2/ 524. 4 الطبري: 2/ 193-195.

أما النعمان فقد ندم على ما فرط منه، وراح يسترضي ابنًا لعدي يسمى زيدًا ويكرمه، ثم أرسل إلى كسرى بإطرائه وبتعيينه كاتبًا لديه بدلًا من أبيه، بينما اتخذ زيد هذا التعيين وسيلة للانتقام من النعمان. وقد واتته الفرصة السانحة عندما لمس من كسرى رغبة في الزواج، فأدخل في نفسه أن يطلب من النعمان إحدى بنات أسرته، وهو يعلم أن العرب تأنف من تزويج بناتها في الأعاجم، فكلفه كسرى أن يذهب إلى النعمان بهذه المهمة، وأرفق معه مندوبًا يعرف العربية ليسمع جواب النعمان1. ولما فوجئ النعمان بالطلب اعتذر عن وجود ما يشبه النساء اللواتي حدد كسرى أوصافهن، وأجاب زيدًا والرسول بقوله: "أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟! "2 ولما سأل المندوب الفارسي زيدًا عن معنى "المها والعين" -ومعناهما في العربية نوع من الظباء والنساء سوداوات العينين واسعتهما- أجابه بالفارسية "كاويان" أي: البقر. وكان من الطبيعي أن يغضب كسرى للرد المنقول إليه عن النعمان "أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه؟! " فيقول: رب عبد قد صار في الطغيان أكثر من هذا، وسكت أشهرًا ثم استدعى النعمان لزيارة العاصمة الفارسية، ولما قدم إليه أمر بقتله. هذه الأحداث تجعلها معظم الروايات العربية سببًا لقتل النعمان. والروايات العربية على العموم تقتصر على الأسباب العرضية المباشرة للأحداث، ولا تلتفت كثيرًا إلى الأسباب الأساسية، الأمر الذي يحدو بالمؤرخين المحدثين إلى مزيد من التقصي، لا سيما عند المؤرخين القدامى الذين اهتموا بتاريخ العرب وتاريخ الفرس على السواء، كأبي حنيفة الدَّينَوَرِي الذي عني في الوقت نفسه بالتمحيص والتحليل، وقد أورد الدينوري عن هذه الأسباب نصا منقولا عن كسرى أبرويز بن هُرْمز إلى ابنه شيرويه الذي أقصاه عن العرش وسجنه، واعتلى مكانه العرش الكسروي. فلما طلب زعماء حركته الانقلابية منه قتل والده استمهلهم، وكتب إلى أبيه كتابًا وجه إليه جملة من التهم منها قتله للنعمان وعدم حفظه له ولأسرته جميلهم وخدمتهم للدولة، فأجابه والده بكتاب يبرز فيه موقفه, جاء فيه بما يخص النعمان: " ... وأما ما زعمت من قتلي النعمان بن المنذر، وإزالتي الملك عن

_ 1 المسعودي: مروج الذهب، 2/ 76-77؛ ابن الأثير: الكامل 2/ 286-287. 2 تاريخ اليعقوبي: 1/ 175.

آل عمرو بن عدي إلى إياس بن قبيصة، فإن النعمان وأهل بيته واطئوا العرب، وأعلموهم توكفهم "توقعهم" خروج الملك عنا إليهم، وقد كانت وقعت إليهم في ذلك كتب، فقتلته ووليت الأمر أعرابيًّا لا يعقل من ذلك شيئًا"1. والواقع الذي تؤيده مختلف أحداث تلك الفترة أن الفرس قد تهيبوا في المدة الأخيرة ملوك المناذرة، الذين يظهر أنهم نزعوا إلى الاستقلال عن الفرس مدفوعين إلى ذلك بعواطفهم العربية، لا سيما وأن كسرى قد لمس في تصرفات النعمان بعض ما يعزز ظنونه، إذ اتجه إلى توسيع نفوذه في شبه الجزيرة العربية، فامتد سلطانه إلى البحرين وجبل طيء، وكثرت لطائمه التي يرسلها إلى الحجاز، وتعددت مشاكله مع بعض القبائل بسببها ولأسباب أخرى، فاشتبك مع بني يربوع في يوم "طخفة" ومع بني عامر في يوم السلان "وسنتحدث عن ذلك في بحث أيام العرب" ومن جهة أخرى أصبح بلاطه موئلًا للشعراء العرب ولأدبائهم، والتفَّ حوله زعماء القبائل يحرصون على التقرب منه، ويتنافسون فيما بينهم للحصول على ثقته بهم. والنعمان نفسه قد تضايق على ما يظهر من تصرفات عدي بن زيد، وأسرته العريقة في عمالتها للفرس وتجسسها على ملوك الحيرة، الأمر الذي قد يكون في نظرنا السبب الأساسي لقتله بأمر من النعمان، بينما يبدو أن السبب الذي أورده الأخباريون عن قتل الملك لعدي، إنما هو من نوع رواياتهم التي تهتم بالأسباب العرضية المباشرة. أما الرجل الذي ولاه الفرس على الحيرة فهو إياس بن قبيصة الطائي، وكان عميلًا لهم. لكنهم لم يلبثوا أن عزلوه إثر هزيمتهم في موقعة "ذي قار" التي كانت نتيجة للأحداث المتقدم ذكرها -كما سيأتي في بحث أيام العرب- وحكموا الحيرة حكما مباشرا. غير أن ثمة روايات تقول: إن إياس بن قبيصة كان على رأس إمارة الحيرة عندما اجتاحها العرب المسلمون فيما بعد2. وقد ذهب المناذرة إثر انتهاء حكمهم إلى جهات البحرين، حيث نجح أمير منهم هو المنذر الخامس المعروف بلقب "المغرور" في تأليف إمارة عربية مستقلة، غير أن من

_ 1 أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطوال، ص107-110. 2 د. جواد علي: 4/ 104.

الروايات ما تقول: إن الأسرة اللخمية قد أعيدت إلى حكم الحيرة بشخص هذا الأمير. ومهما يكن من أمر، فإن نهاية المناذرة ونهاية الدولة الفارسية كانت على يد خالد بن الوليد، حينما شرعت الجيوش العربية الفاتحة في اقتحام دولة الفرس.

الغساسنة

الغساسنة مدخل ... الغساسنة يقول الأخباريون: إن أصل الغساسنة من اليمن, وإنهم ينتسبون إلى قبيلة الأزد، وإنهم خرجوا من اليمن حينما تصدع سد مأرب، ونزلوا على ماء في سهل تهامة يسمى "غسان" فنسبوا إليه، وإن الذي قادهم في هذا الخروج هو جدهم الأعلى عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء1، الذي ينتهي نسبه إلى ثعلبة بن مازن بن الأزد بن غوث، وإن أول ملوكهم هو "جفنة" ولذا فإنهم يعرفون باسم "آل جفنة" أيضا. ونحن ليس لدينا ما ينقض ولا ما يؤيد هذه الأقوال, إنما يستدل من الشعر الذي وصلنا من صدر الإسلام، أن مثل هذه الأقوال عن أصل الغساسنة كانت شائعة في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي صدر الإسلام2، من مثل قول حسان بن ثابت الذي ينتمي إلى قبيلة الأزد: فأما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان3 ويزعم الأخباريون أن الغساسنة حين قدموا إلى منطقة حوران والجولان وجدوا أن قبائل أخرى تسكنها وتعرف باسم الضجاعمة الذين أرجعهم النسابون إلى سليح بن حلوان من قضاعة. والمعلومات عن الضجاعمة غير متوفرة للمؤرخين، ويروي النسابون روايات مضطربة عن الذين تزعموهم. يقول الأخباريون: إن الحكم الذي أقامه الغساسنة في جهات الشام لم يأتهم عفوًا وبطريق سهل، إنما أخذوه بالقوة والحرب. فلما نزلوا المنطقة إلى جوار

_ 1 قيل في تفسير لقب عمرو "مزيقياء": إنه كان يمزق كل يوم من سني ملكه حلتين لئلا يلبسهما أحد، أو لأن الأزد تمزقت في عهده كل ممزق عند هربهم من سيل العرم. وفي تفسير لقب عامر "ماء السماء" أن الأزد أصابها مخمصة فمناهم حتى أمطروا فقالوا: عامر لنا بدل من ماء السماء. 2 د. جواد علي: 4/ 119-120؛ المسعودي: مروج الذهب، 2/ 83. 3 أو كقوله مفتخرًا بالغساسنة والمناذرة: كجفنة والقمقام عمرو بن عامر ... وأولاد ماء المزن وابني محرق وحارثة الغطريف أو كابن منذر ... ومثل أبي قابوس رب الخورنق

سليح ضربت هذه عليهم الأتاوة لحساب الروم، وكان يتزعم الغساسنة آنذاك كبيرهم ثعلبة بن عمرو، فتحايل أخوه جذع على كبير سليح واغتاله، فوقعت الحرب بين القبيلتين، وكانت الغلبة للغساسنة وصار الملك إليهم. ويورد الأخباريون هذه القصة تفسيرًا لأصل المثل القائل: "خذ من جذع ما أعطاك". ويظهر أن الأخبار المروية عن فتك الغساسنة بالضجاعة مبالغ فيه؛ ذلك أنهم وإن فقدوا ملكهم، فإنهم لم يرتحلوا عن المنطقة، لا بل يروى أنهم أسهموا في مقاومة خالد بن الوليد في دومة الجندل، عندما تصدى المسلمون لفتح الشام1. كما يروي الأخباريون أن الروم كانوا يفرضون نفوذهم على الضجاعمة, وأنهم قد أنابوهم عنهم في جمع الإتاوات من السكان، فلما ظهر الغساسنة عليهم وثقوا بقوتهم واستمالوهم ووطدوا صلاتهم بهم، واعترفوا لهم بالرئاسة على العرب في بلاد الشام ومدوهم بالمعونة، واتخذوا منهم مجنا يتقون به غزوات الأعراب التي كانت غالبًا ما كانت تغير على مراكز الحضارة البيزنطية، كما اتخذوا منهم حلفاء ضد أعدائهم الفرس في الشرق، وهكذا أصبح الغساسنة دولة تابعة للروم البيزنطيين. ويختلف المؤرخون حول من هو أول ملك من ملوك الغساسنة؛ فبينما يقول بعضهم: إنه جفنة بن عمرو مزيقياء، يذكر المسعودي أنه الحارث بن عمرو مزيقياء. ويقرن المؤرخون بين جفنة وبين الإمبراطور أنسطاس الذي حكم بين 491-518م، ويقولون: إن هذا الإمبراطور قد ملَّكه على عرب الشام، فقتل ملوك قضاعة من سليح وبني جلق وغيرها، وبه سمي آل جفنة عمالًا للقياصرة على عرب الشام. فإذا صح زعمهم فيكون جفنة قد حكم بين نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الميلادي. والواقع أن تاريخ الغساسنة غامض، وليس ثمة اتفاق في التواريخ العربية على عدد ملوكهم. فهناك من يقول: إنهم أحد عشر ملكًا، وآخرون يقولون: إنهم اثنان وثلاثون، والفرق كبير بين القولين. أما التواريخ البيزنطية فلا تهتم إلا بعلاقاتهم مع القسطنطينية، ولا يعرف على التحقيق، وبشيء من التفصيل سوى تاريخ خمسة من ملوكهم حكموا في

_ 1 د. جواد علي: 4/ 123-124.

أواخر الدولة. وأول ملك اطمأن المؤرخون المحدثون إلى حقيقة حكمه هو جبلة بن الحارث أول هؤلاء الخمسة1. وقد روي عنه أنه غزا فلسطين عام 500م، لكن المعلومات عنه قليلة ولا يعرف عنه ما يستحق الذكر. وحكم بعده ابنه:

_ 1 د. جواد علي: 4/ 124-126.

الحارث بن جبلة

الحارث بن جبلة "529-569م": وقد لقب بلقب "الأعرج" وهو الذي حارب المنذر الثالث بن ماء السماء ملك الحيرة وقتله في موقعه عين أباغ "يوم حليمة" وأبلى بلاءً حسنًا في قتال الفرس، فمنحه الإمبراطور جوستنيان لقب "بطريق" وهو يعني قائد عشرة آلاف في الجيش البيزنطي، ولقب "فيلارك" ويعني رئيس قبيلة، وقد ترجم العرب هذه الألقاب بمعنى "ملك" ويفسر بعض المؤرخين ذلك بأن ربما اعتبر ملوك الغساسنة أنفسهم خلفاء لملوك الأنباط. وقد قدم الحارث للبيزنطيين خدمات جلى، إذ رفعه ولاؤه للعرش البيزنطي إلى قتال المناذرة وأسهم في إخماد فتنة قامت ضد الإمبراطورية في السامرة في فلسطين، وحارب في الجيش البيزنطي الذي زحف إلى العاصمة الفارسية بقيادة القائد "بليزاريوس" لكنه آثر الانفصال عن الجيش البيزنطي، والعودة إلى مراكز إمارته لأسباب ذكرتها سابقًا. كان الحارث ذا شخصية قوية ومهابة عظيمة، زار سنة 563م بلاط جوستنيان؛ ليتداول معه في شئون الإمارة، ومنها قضية من سيخلفه، وما يجب اتخاذه من تدابير لمواجهة خصمه القوي عمرو بن هند ملك الحيرة الجديد. وكان ظهوره في البلاط البيزنطي مثار اهتمام كبير من الحاشية ورجال القصر، وترك أثرا عميقا في نفوسهم بوصفه شيخا بدويا مهيبا. وقد بلغت الإمارة الغسانية في عهده ذروة اتساعها، فقد امتدت من قرب البتراء إلى الرصافة شمال تدمر، واشتملت على البلقاء والصفا وحوران، وأصبحت بصرى التي بنيت كاتدرائيتها سنة 512 م العاصمة الدينية في المنطقة، كما اشتهرت بكونها مركزا تجاريا نشطا. ولما كان الحارث من أتباع القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح "المنوفستية" فقد

استطاع في أثناء إقامته في القسطنطينية أن يقنع الإمبراطور بإسناد أسقفيات المقاطعات السورية إلى رؤساء هذه الطائفة، بالرغم من مخالفتها لمذهب الدولة الرسمي. ويقال: إن عدد الأساقفة الذين عينوا لهذه الأسقفيات بلغ تسعة وثمانين، فانتشرت العقيدة الجديدة في سورية في أثناء حكمه وحكم ابنه على نطاق واسع. والحارث هذا هو الملك الذي روي أن امرأ القيس الشاعر الكندي قد لجأ إليه؛ كي يتوسط لدى الإمبراطور البيزنطي ليعاونه على قتلة أبيه. وهو أيضا صاحب القصة المشهورة عن وفاء السموأل بن عادياء الذي أودع امرؤ القيس لديه دروعه، فأصر على رفض تسليمها لمندوبي الملك ولو كلفه ذلك قتل ولده. وقد خلفه ابنه:

المنذر بن الحارث

المنذر بن الحارث "569-581م": الذي كان متطرفًا في تأييد مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح، وقد حدث جفاء بينه وبين البيزنطيين بسبب ذلك, إذ ارتاب الإمبراطور جوستين "ابن أخي جوستنيان وخليفته" بولاء المنذر؛ نظرا لتعصبه الشديد لمذهبه, فكتب رسالة إلى حاكم سورية البيزنطي يأمره فيها بالتخلص منه. لكن كاتب الإمبراطور أرسلها خطأ إلى المنذر بدلا من الرسالة الموجهة إليه بدعوته إلى زيارة الحاكم للتشاور. فحصل الجفاء، وقطع الإمبراطور عنه الإمدادات مدة ثلاث سنوات متعاقبة، فتمرد وغادر أرض الروم إلى البادية، الأمر الذي أطمع المناذرة بسورية فهاجموها وأمعنوا في غزوهم لها، وأوقعوا الرعب في قلوب أهلها، مما حمل الروم على مصالحة المنذر، والتودد إليه لاسترضائه فعقد الصلح بين الطرفين في مدينة الرصافة سنة 578م، فعاد المنذر إلى عرشه وتصدى لحرب المناذرة وانتصر عليهم، وتمكن من بلوغ عاصمتهم الحيرة وأحرقها وكان ذلك في عام 580م. وقد زار المنذر وولدان له العاصمة البيزنطية في العام نفسه، فاستقبله الإمبراطور الجديد "تيبريوس" الثاني بحفاوة عظيمة، وأنعم عليه بالتاج بينما لم يكن لأسلافه سوى الإكليل يضعونه على رءوسهم1. وانتهز المنذر فرصة وجوده في العاصمة لإقناع رجال

_ 1 فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان، 1/ 449، جواد علي: 4/ 135.

القصر بالتسامح مع أتباع الطبيعة الواحدة والصفح عنهم، ومن المحتمل أن يكون قد عقد مجمعًا هناك لتعزيز مذهبه، واتصل بالبطاركة للتوفيق بين رجال الكنيستين، لكن مساعيه خابت بالرغم من إبداء البطاركة رغبتهم وعدم ممانعتهم في ذلك. لكن الوفاق لم يلبث أن انقلب إلى جفاء مرة ثانية، عندما تمادى المنذر في مساعيه الهادفة إلى إعلاء شأن مذهبه، الأمر الذي أوغر عليه صدر الكهنوت الرسمي للدولة، فحرض رجاله الإمبراطور عليه، سيما قد رافق ذلك إسهامه مع حاكم سورية البيزنطي في هجوم على الفرس، حيث أحجم الحاكم عن متابعة السير عند رؤيته أن الجسر القائم على نهر الفرات, والذي يؤدي إلى الأراضي الفارسية مهدم؛ فعاد أدراجه إلى الشام, وكتب إلى القسطنطينية كتابًا يدفع فيه عن نفسه مسئولية الإخفاق والخيبة، ويتهم المنذر بالخيانة، وبأن له صلات سرية مع الفرس، وأنه قد أخبرهم بقيام الحملة, وأوعز إليهم بهدم الجسر ليكتب لها الإخفاق. وزاد الأمر سوءًا أن المنذر بعد أن عاد إلى الشام جهز جيشًا سار به إلى الحيرة، فغزاها وألحق بها أضرارا جسيمة، ولم يغادرها إلا وهي شعلة من نار، خلافا لمقتضيات الهدنة بين الإمبراطوريتين. فاتخذ الروم من هذه الأعمال جميعها دليلًا على تحديه لهم. فأصدر الإمبراطور أمرا سريا إلى عامله الجديد في الشام -وكان صديقا للمنذر- بأن يحتال للقبض عليه، فدعاه لحضور حفلة تدشين كنيسة جديدة بنيت في حوران، وما أن أطل عليها حتى ألقي القبض عليه، وأرسله إلى العاصمة مع زوجته وثلاثة من أولاده، فوضعوا جميعًا في الأسر، ثم جرى نفيهم إلى صقلية حيث قضى المنذر نحبه بعد حين. قطع البيزنطيون بعد ذلك ونهائيا الإعانة المالية وسواها من الإعانات التي كانوا يدفعونها للغساسنة1. فما كان من أولاد المنذر، وعلى رأسهم ابنه الأكبر النعمان, إلا أن غادروا ديارهم وأعلنوا الثورة، فاتخذوا البادية منطلقا لسلسلة من الغارات، شنوها على أراضي البيزنطيين في الشام ينهبون ويدمرون. وقد استولوا على بلدة حوارين وقتلوا بعض أهلها، وأسروا آخرين منهم، وعادوا بكثير من الغنائم. ولم يسع القيصر إلا الإيعاز لحاكمه على الشام بتجهيز حملة إليهم. فلما رأى الحاكم صعوبة مهاجمتهم في البادية، عمد إلى المكر

_ 1 د. جواد علي: 4/ 137- 138.

والحيلة فتمكن من إلقاء القبض على النعمان، وأرسله أسيرًا إلى القسطنطينية "584م" عندئذٍ تجزأت المملكة إلى أقسام متعددة يرأس كلًّا منها أمير، وتحالف بعضهم مع دولة الفرس، وبقي بعضهم الآخر بجانب بيزنطة. والواقع أن تاريخ الغساسنة في هذه الفترة يبدو على شيء من الغموض والاضطراب1. أما الفوضى فقد بقيت سائدة مدة من الزمن؛ الأمر الذي شجع الفرس على مهاجمة سورية بين 611-614م إذ استولوا على دمشق والقدس، ولم يستطع هرقل أن يستردهما إلا بجهد عظيم "629م" إذ استولوا على دمشق والقدس، ولم يستطع هرقل أن يستردهما إلا بجهد عظيم "629 م". وربما يكون الروم قد أدركوا قيمة تحالفهم مع الغساسنة، فأعادوهم إلى إمارتهم، إذ جاء في أخبار الفتوح العربية لبلاد الشام أنهم واجهوا من قبل الغساسنة مقاومة، إذ حارب هؤلاء العرب الفاتحين في جانب البيزنطيين، وقد يكون:

_ 1 د. جواد علي: 4/ 139: فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين, 1/ 450.

جبلة بن الأيهم

جَبَلة بن الأيهم: آخر ملوكهم، وهو الذي وقف مع الروم ضد خالد بن الوليد في دومة الجندل وفي موقعة اليرموك, لكنه أسلم عقب هذه المعركة، وانضم إلى العرب المسلمين، ثم ارتد عن الإسلام بعد الحادثة المعروفة التي تروى عن وطء إزاره من قبل رجل عربي فلَطْمه له، وعدم قبوله حكم عمر بن الخطاب الذي أعطى العربي حق القود من جبلة، ولم يكن منه إلا أن هرب إلى القسطنطينية، وقضى بقية أيام حياته فيها. في ختام البحث في تاريخ المناذرة والغساسنة لا بد من كلمة عن السبب الذي حمل كلًّا من الروم والفرس على قلب ظهر المجن لملوك هاتين الدولتين، فهل لمسوا منهما بوادر حركات تمرد يهدد حكمهم؟ وهل كان ذلك دليلا على بوادر شعور بالرابطة القومية العربية ظهر أثره في موقعة ذي قار بخاصة؟ هذا ما تشير إليه بعض الأحداث وبعض المصادر لكن ما لدينا من مستندات غير كافٍ لجلاء هذه النقاط جلاء تامًّا. وهي بحاجة إلى مزيد من التقصي والبحث العميق.

حضارة المناذرة والغساسنة

حضارة المناذرة والغساسنة مدخل ... حضارة المناذرة والغساسنة من مقارنة حضارة المناذرة بحضارة الغساسنة تتضح لنا أمور عديدة؛ فبينما اتخذ المناذرة عاصمة ثابتة هي "الحيرة" لم يتخذ الغساسنة عاصمة ثابتة، بل كان مقرهم في أول الأمر عبارة عن معسكر متنقل، ثم اتخذوا "الجابية" في جنوب دمشق، قرب مرج الصفر شمال حوران عاصمة لهم، وفي وقت ما "جلق" قرب دمشق، في مكان على نهر بردى، أو "بصرى الشام". وقد وجد في الحيرة بعد أن قدم إليها المناذرة ثلاثة عناصر من السكان: رجال القبائل العربية من تنوخ, ثم سكان الحيرة الأصليون "العباد" وكانوا نصارى على المذهب النسطوري، يزاولون التجارة ويعرفون القراءة والكتابة, ثم الأحلاف وهم بعض العرب الذين نزلوا على القوم، وارتبطوا معهم بحلف، وكانت السيادة والسيطرة للعنصر العربي. وقد وجد في الحيرة نحل دينية كثيرة: من وثنيين يعبدون الأصنام، وصابئة يعبدون الكواكب، ومجوس يعبدون النار، ويهود, ومسيحيين أكثرهم على المذهب النسطوري، وأقلهم على مذهب اليعاقبة الذين يعتقدون بالطبيعة الواحدة للمسيح. والحيرة تمتاز بهوائها النقي العليل وبتربتها الخصبة وموقعها الممتاز من الناحيتين العسكرية والتجارية، اسمها يعني المخيم بالسريانية. والدولتان كانتا من النوع الذي نسميه اليوم "الدول الحاجزة" لوقوعهما على حدود دولتين كبيرتين، عمدتا إلى استخدامهما مجنا يصد عنهما غارات البدو والغزوات المتبادلة بينهما، وكلتاهما ارتبطتا بالدولتين الكبيرتين بأحلاف وارتباطات عسكرية، وكانتا تتمتعان بمستوى واحد من الاستقلال الذاتي والتبعية السياسية والعسكرية للأجنبي. وبينما امتد حكم المناذرة زهاء أربعة قرون، لم يدم حكم الغساسنة سوى قرن وبعض القرن، وانقرضتا بعدئذٍ معًا بفضل الفتح العربي الإسلامي.

وقد امتاز كل من الغساسنة والمناذرة بثقافتهم الراقية، إذ أقام الغساسنة حضارة نمت وترعرعت في سورية بفضل العناصر الرومانية والآرامية واليونانية، وكانت مزيجًا من تأثيرات بيزنطية وساسانية، بينما نرى أن المناذرة قد تأثروا بالحضارة الفارسية واليونانية والآرامية. وكان لمعرفة أهل الحيرة اللغة الفارسية أثر في نقل الآداب الفارسية، كما كان لبعض أسراهم من الروم فضل في الإسهام بنقل علوم اليونان وآدابهم إليهم. وتقدمت الحيرة في الطب في أيام المناذرة، واحتفظت بشهرتها فيه حتى بعد قيام الدولة العربية الإسلامية، كما حفلت بالمدارس ومعاهد العلم. وقد قلد ملوكها مظاهر أبهة الساسانيين، ولبسوا التيجان، واستعملوا الحجاب على أبوابهم، وكان بلاطهم صورة مصغرة عن بلاط المدائن. وكان الملك يستعين في الحكم برديف "وزير" ويستند على قوة عسكرية بعضها نظامي، مثل كتيبتي "الشهباء" الفارسية و"الدوسر" العربية، وبعضها الآخر غير نظامي، إذ كانت تضم القبائل الموالية، وأهمها كتائب "الرهائن" و"الصنائع" و"الوضائع"1، وكان لها حصون تعرف باسم "المسالح" "مفردها: مسلحة". أما بلاط الغساسنة فقد حفل بكثير من الجواري الروميات والمغنين، من مكيين وبابليين ويونان، وبموسيقيين من كلا الجنسين2. وقد حدثنا حسان بن ثابت عن فخامة قصورهم ومجالس شرابهم وجواريهم، وبذخهم وترفهم، وإسرافهم في شرب الخمر

_ 1 الرهائن: 500 رجل من القبائل العربية يرسلون بصفة رهائن يقيمون على باب الملك سنة، يستبدل بهم بعدها رجال بمثل عددهم، وكان الملك يغزو بهم ويوجههم في أموره. والصنائع: جماعة كانوا ينتخبون من بني قيس وبني تيم اللات من ثعلبة، وكانوا خواص الملك لا يبرحون بابه. أما الوضائع فألف رجل من الفرس كانوا يستخدمون في نصرة العرب, ويستبدل بهم مثل عددهم كل عام. "راجع كتاب: أيام العرب في الجاهلية، تأليف: محمد جاد المولى ورفاقه، ص107". 2 يصف شاهد عيان مجلس جبلة بن الأيهم بقوله: "فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم، وفيه من التصاوير ما لا أحسن وصفه، وإذا هو جالس على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسد من ذهب، وإذا هو رجل أصهب ذو سبال وعثنون، وقد أمر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس، فما بين يديه من آنية الذهب والفضة يلوح، فما رأيت أحسن منه، فلما سلمت رد السلام ورحب بي وألطفني، ثم أقعدني على كرسي من ذهب، ثم أومأ إلى غلام، فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت, وجيء بخوان من ذهب وضع أمامي، وجامات قوارير، وأديرت الخمر فاستعفيت". ثم يصف كيف دعا بكأس من الذهب فشرب فيها خمرا، وكيف دعا فجاءت عشر جوارٍ تتكسرن في الحلي، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن يساره، ثم جاء عشر أخريات أقل منهن عليهن الوشي والحلي، فقعد خمس عن يمينه وخمس =

ورعايتهم للشعراء. ويروى أن جبلة بن الأيهم عندما اعتنق الإسلام دخل المدينة المنورة بموكب فخم وعلى رأسه تاج أجداده الذي تزينه لؤلؤتان كبيرتان بحجم بيضة الحمام، أصبحتا مضرب المثل في الأدب العربي، وكانتا فيما مضى قرطين لأم الحارث بن جبلة1. وقد خلد بلاطهم عددًا من شعراء الجاهلية الذين نالوا عطاياهم، وكان من هؤلاء الشاعر لبيد الذي حارب إلى جانبهم في يوم حليمة، والنابغة الذبياني الذي لجأ إلى بلاطهم إثر غضب النعمان أبي قابوس عليه، فقال فيهم قصائد عديدة, أخص بالذكر منها بائيته التي مطلعها2: كليني لهمّ يا أميمة ناصب ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب وهي التي مدح فيها عمرو بن الحارث، وبين فيها عظمة جيش الغساسنة النظامي، وكيف كان يسير في نظام كمشي الحدأ التوائم اثنين اثنين، وتتقدم الأدلة الجيش، والأعلام تخفق فوق رءوس الكتائب، تصاحبها عصائب الطير محلقة فوقها، تسير معها إلى حيث تقتات بجثث القتلى الذي تجندلهم في ساحة الوغى: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء الدوارب ومما جاء فيها من رائع المديح: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وقد نشأ في الحيرة، بفضل كونها عاصمة قائمة في موقع تجاري حساس، بعض الصناعات الراقية التي بلغت درجة كبيرة من الإتقان، وكان أرقاها صناعة النسيج

_ = عن شماله، وأقبلت جارية على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة، وفي يديها اليمنى جام فيه مسك وعنبر أنعم سحقهما، وفي اليسرى جام فيه ماء ورد، فألقت الطائر في ماء الورد، فتمعك "تمرغ" فيه، ثم أخرجته فألقته في جام المسك والعنبر، فتمعك فيه، ثم نقرته فسقط على تاج جبلة، ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة. ثم قال للجواري: أطربنني فخفقن بعيدانهن يغنين "الأغاني: 15/ 5469-5470". 1 فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين 1/ 451. 2 ديوان النابغة، قافية الباء.

بمختلف أنواعه من حرير وكتان وصوف. وكانوا يستعملون في تزيينه الوشي والتقصيب والتطريز بخيوط الذهب. وقد اشتهر عن ملوكهم أنهم كانوا يخلعون على الشعراء والمقربين أثوابًا تسمى بأثواب "الرضا" أو "المرفل" واحدها عبارة عن جبة، لها طوق من الذهب فيه قصيب من الزمرد. كما اشتهرت الحيرة بصنع الأسلحة من سيوف ذائعة الشهرة وسهام ورماح، وبصناعة الخزف والأواني الفخارية والتحف المعدنية والحلي والمجوهرات وعرفت الحيرة آنذاك بكونها أكبر مركز للهو في الشرق لكثرة ما فيها من حانات وملاهٍ. أما الزراعة فلا المناذرة ولا الغساسنة أهملوها، بل كانت كل من أراضي الدولتين خصبة صالحة لها، تتوفر فيها المياه للنهوض بها. فقد استغل المناذرة المياه الجوفية القريبة من سطح الأرض لقرب الفرات منها، وعنوا بزراعة النخيل بخاصة، إذ كانت مزارعه تمتد من النجف حتى الفرات، مثلما استغل الغساسنة مياه حوران فعمروا القرى والضياع وعنوا بزراعة الحبوب في الدرجة الأولى. وكما كان للمناذرة عمائر وأبنية ومدن كذلك كان منها للغساسنة. فقد عمرت السفوح الشرقية والجنوبية لحوران -على حد قول حمزة الأصفهاني- بعدد من القصور والكنائس والأبراج والأديرة والقناطر التي أقامها الغساسنة، وإنما لم يبق سوى أطلال القليل منها. لكن "نولدكه" يستبعد كل ذلك، ويرجع أن نشاطهم العمراني قد اقتصر على بناء الأديرة وقناطر المياه. ومن قصورهم المعروفة قصر المشتى، غير أن "كريزول"1 ينفي كونه من آثارهم، ويدلي بحجج غير كافية للإقناع، منها أنه لا يحتوي على أي رمز مسيحي، وأنه من الضخامة بحيث لم يكن باستطاعة الغساسنة القيام بنفقات بنيانه. ومن منشآتهم كنيسة في الرصافة تحمل كتابة ذكر فيها اسم المنذر بن الحارث "568-582م" مما يدل على أنه هو الذي بناها، وهي مبنية على الطراز السوري الصِّرْف، وتشبه قواعد أعمدتها قواعد أعمدة جبل سمعان. ومنها أيضا: برج حجري قرب قرية الضمير الحالية، وهو برج جانبي لبناء زال ولم يبق له من أثر، ومنزل في منحدرات حوران الشمالية جاء في نقش فيه أنه بني في عهد المنذر بن الحارث، والدير ذو البرج الموجود في قصر الحير

_ 1 K. A. G. Greswell: Early Muslim Architecture, P. 139.

الغربي وهو من بناء الحارث بن جبلة "559م" ويمكن أن يكون البناء الموجود في قلعة عمان، وقلعة القسطل من بناء الغساسنة1. أما المناذرة فقد ذكرت المصادر التاريخية ما كان من آثارهم العمرانية واهتمامهم بها، لا سيما القصور والأديرة والكنائس، غير أنها دَرَست، ومنها قصور الخورنق والسدير -ومن المحتمل أن يكون قصر السدير هو حصن الأخيضر المعروف الآن في العراق2- وقصر الزوراء، وقصر سندار، والقصر الأبيض، وقصر مقاتل. أما الأديرة والكنائس فقد كانت كثيرة في الحيرة نظرًا لتنصر المناذرة، ومنها دير هند الكبرى ودير هند الصغرى. وقد تأثر المناذرة في فن عمائرهم بجيرانهم الفرس، لكنهم طوروا فيه، بحيث طبعوه بطابعهم الخاص. وكانت عمائرهم تحمل مسحة من الجمال تبدو في بياض حجارتها, حتى أنها قد سميت "الحيرة البيضاء". وقد اشتغل أهل الحيرة بالتجارة، وتعاملوا مع الهند والصين والبحرين وعدن، ونقلت قوافلهم المواد التجارية إلى الحجاز وتدمر وحوران, فدَرَّت عليهم ثروات طائلة، ونعموا بحياة رافهة، واستعملوا أواني الفضة والذهب، ولبسوا فاخر الثياب. وأما من حيث اللغة، فقد تكلم كل من المناذرة والغساسنة اللغة العربية الشمالية. واتخذ كل منهما الكتابة الآرامية "السريانية" في مراسلاتهما، وقد احتضنت كل من الإمارتين الشعراء والأدباء، وكان كل من البلاطين مقصدًا للشعراء الذين كانت الهبات والعطايا تغدق عليهم من قِبَلِ ملوك الدولتين. وكان للمناذرة الفضل في إغناء اللغة العربية بالألفاظ الفارسية، التي تعبر عن أشياء ليس لها ما يعبر عنها باللغة العربية. وبينما اعتنق الغساسنة النصرانية على مذهب الطبيعة الواحدة، نرى أن المناذرة قد ثابروا في أول الأمر على وثنيتهم، ثم مال متأخروهم إلى اعتناق المسيحية على المذهب النسطوري الذي يقول بطبيعتي المسيح اللاهوتية والناسوتية ممتزجتينِ، وكان هو الآخر يخالف المذهب الرسمي للدولة البيزنطية، وقد تميزت الحيرة بكثرة البيع والكنائس التي بنيت فيها.

_ 1 الدكتور نبيه عاقل: تاريخ العرب القديم وعصر الرسول، ص165-166. 2 راجع دائرة المعارف الإسلامية الحديثة - مادة الأخيضر.

دولة كندة

دولة كِنْدَةَ 1 قامت دولة كندة في أواسط شبه الجزيرة العربية، وشملت معظم بلاد نجد مما يلي الحجاز شرقًا، وامتدت في الشمال والشرق الشمالي إلى مشارف الشام والعراق. وكان لها بعض النفوذ على قبائل منطقة عمان في الجنوب، وقد امتد حكمها في فترة من الزمن إلى الحيرة. واستمرت الدولة ما ينوف عن قرن من الزمان، وكان ظهورها بعد منتصف القرن الخامس الميلادي تحقيقًا أو قبل ذلك القرن تخمينًا. لم يعر المؤرخون الكلاسيكيون كبير اهتمام لتأريخ حوادث دولة كندة، ومعلوماتنا عنها مستمدة على الأغلب من الأخباريين العرب الذين تضاربت أخبارهم في التأريخ لها. وإذا صرفنا النظر عن التفاصيل التي اختلف فيها المؤرخون، فيمكن تلخيص ما اتفق معظمهم عليه في الخطوط التالية: ينتمي آل كندة الذين حكموها إلى قبيلة يمنية قحطانية يرجع نسبها إلى ثور بن عفير، الذي كان يلقب باسم "كندة" وينتهي في كهلان بن سبأ. سكنت هذه القبيلة قبيل قدومها إلى أراضي نجد هضاب اليمن، فيما يلي حضرموت إلى الشرق، وكانت حاضرتها "دَمُّون" التي ذكرها شاعرها امرؤ القيس في بعض أشعاره مثل قوله: كأني لم ألهو بدمون مرة ... ولم أشهد الغارات يومًا بعندل أو مثل قوله: تطاول الليل علينا دمّون ... دمّون إنا معشر يمانون وإننا لأهلنا محبون

_ 1 من المراجع الحديثة المفيدة عن كندة: كتاب للدكتور نبيه عاقل: تاريخ العرب القديم وعصر الرسول. وآخر للدكتور عمر فروخ: تاريخ الجاهلية. ولا سيما كتاب الدكتور جواد علي: تايخ العرب قبل الإسلام، المجلد الثالث.

وقد هاجرت جماعات منها، بعد الانحطاط الاقتصادي الذي أصاب اليمن؛ بسبب تأخر التجارة نتيجة للمنافسة الأجنبية والتدخل الأجنبي في شئون دولة حمير، أو بسبب نزاعات قبلية، إلى الشمال في منتصف القرن الثالث أو الرابع الميلادي، ونزلوا في أرض لمعد في موقع بنجد يسمى "بطن عاقل" على مسيرة يومين شرق مكة، سمي فيما بعد "غمر كندة" ويقع جنوب وادي الرمة بين مكة والبصرة، وسرعان ما اندمجوا بعرب الشمال وأصبحوا لا يختلفون عنهم، الأمر الذي حمل بعض المؤرخين إلى القول: إنهم من عرب العدنانية، بينما الأصح في نظرنا أن نأخذ بما روي عن كونهم من أصل يمني. يقول المستشرق "نيكلسون": إن كندة كانت تتبع ملوك اليمن. وربما كان هذا القول مستندًا على ما ذكره المؤرخ العربي هشام بن الكلبي، من أنه كان لكندة علاقة قوية بملوك حمير التبابعة. ويظهر أن الحميريين قد استعانوا بآل كندة لتأمين سلامة القوافل التجارية التي تسير بين الشمال والجنوب. وتكاد كلمة المؤرخين تتفق على أن قبائل معد الشمالية كانت تابعة لملوك حمير الذين كان لهم إشراف عليها؛ نتيجة توسعهم في الشمال، ولذا فإن ملوك حمير، على رأي أغلب الأخباريين، هم الذين كانوا يعينون ملوك كندة، كما يروى عن تعيين حجر بن عمرو، الذي قيل: إنه أول ملوكهم، إذ كانت توليته موافقة للسياسة اليمنية؛ لأن عصبيته كانت يمنية، وكان من أسرة تولت الملك في بلادها الأصلية، كما كان قد مضى على استقرارها أكثر من قرن أو قرنين في الشمال فعرف اتجاه العصبيات القبلية، وفهم عقلية عرب الشمال. وهذا هو الذي يحمل على القول: إن الدولة لم تكن في الواقع سوى تحالف أو اتحاد يجمع عدة قبائل تخضع لرئيس واحد اتخذ لقب "ملك". ويبدو من الأخبار المروية عن بعض ملوكها، أنهم قد بسطوا نفوذهم على هذه القبائل سواء بالمحالفات أو بالمصاهرة أو بالقوة. وقد جرت تولية حجر، بناء على طلب زعماء قبيلة بكر التي طغى سفهاؤها على عقلائها، وأكل قويها الضعفاء منها، فاختاره "حسان بن تبع" ملك اليمن لحكمهم؛ لأنه زعيم آل كندة، وكان ذا رأي راجح ووجاهة في قومه، وذلك في حوالي سنة 480م1. ومن الرواة من ذكر أن حجرًا كان أخًا لحسان بن تبَّع من أمه، فلما دوخ حسان

_ 1 فيليب حتي: تاريخ العرب مطول, 1/ 114.

بلاد العرب، وسار في الحجاز، وأخضع نجدًا وهم بالانصراف ولى أخاه حجرًا على معد، فدانوا له وسار فيهم أحسن سيرة. غير أن من المؤرخين من يذكر أن عدة ملوك حكموا قبل حجر، وأن مدد بعضهم في الحكم كانت طويلة، تتراوح بين 20-40 سنة1، لكن المعلومات عنهم قليلة جدًّا، ولا يُستطاع استنتاج مادة تاريخية منها. وتذكر الأخبار أن حجرًا قام إثر توليه الملك بحملات توسع بها في أطراف نجد، إذ هاجم قبائل الحجاز وشمالي شبه الجزيرة العربية وجهات البحرين، بعد أن بسط سيطرته على أرض اليمامة في الشرق، وانتزع جانبًا من الأراضي التي كانت تحت سيطرة مناذرة الحيرة. وفي رواية أنه بينما كان في غزوة بجهات عُمان، استغل أحد أمراء الغساسنة فرصة غيابه عن بلاده، فأغار على أراضيه، وغنم أموالا كثيرة، وقينة من أحب قيانه إليه -أو في رواية أخرى: زوجته- وفيما هو منصرف قال للقينة: "ما ظنك بحجر؟ فقالت: لا أعرفه ينام إلا وعضو فيه يقظان, وليأتينك فاغرًا فاه كأنه بعير آكلٌ مرارًا ... " فلطمها الغساني، فما لبثوا أن لحقهم حجر كما وصفت، فرد الأموال والقينة2. ويرجع الأخباريون سبب تسميته بلقب "آكل المرار" الذي غلب عليه لهذه المناسبة، بينما يذكر آخرون أن سببه تكشير كان به، يشبه تكشير الإبل إذا أكلت مرارًا فقلصت مشافرها، وغير ذلك من أسباب لا مجال لذكرها3. ولما توفي حجر طاعنا في السن خلفه ابنه عمرو الملقب بالمقصور؛ ربما لأنه اقتصر على ما تحت نفوذه من أراضٍ، ولم يستطع الوقوف أمام القبائل التي انشقت عنه، أو لأن ربيعة قصرته على ملك أبيه، الأمر الذي يدعو إلى الظن أنه لم يكن قويًّا صاحب عزم وإرادة. ويروى أنه عقد علاقات طيبة مع المناذرة، لا سيما وأنه زوج ابنته من الأسود بن المنذر الأول ملك الحيرة، فولدت له ابنه النعمان بن الأسود الذي ملك الحيرة بين 449-503م، كما كانت له علاقات وثيقة مع ملوك اليمن وحسنة مع مختلف القبائل، إذ كان

_ 1 اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي, 1/ 177. 2 د. جواد علي: 2/ 322. 3 راجع عنها تاريخ اليعقوبي، 1/ 177.

قد أصهر إلى بعضها. غير أن قبائل ربيعة قد خرجت في عهده -الذي يبدو أنه لم يكن طويلًا- عن طاعة كندة إلى حين، وذلك بظهور وائل بن ربيعة الملقب باسم "كليب" والمعروف في بني تغلب، وتختلف الروايات عن كيفية موته. فهل قتله الحارث بن أبي شمر الغساني؛ لأنه غزا الشام مع ربيعة بحسب رواية اليعقوبي؟ 1 أم أن قتله كان على يد ربيعة حينما خرجت عليه، فاستنجد بالتبابعة فأمدوه بجيش لكنه قتل في المعركة؟ وقد تولى بعده ابنه:

_ 1 اليعقوبي: 1/ 177.

الحارث بن عمرو

الحارث بن عمرو: غير أن الغموض يكتنف كيفية تسنمه العرش، ويظهر أنه لم يتسنمه إرثًا من أبيه بكل بساطة وسهولة، لا بل إنه كان للتبابعة الفضل في ذلك، الأمر الذي يستدل منه أنه كان للتبابعة إشراف مستمر على ملوك كندة، ويبدو أن الاضطراب قد حل في المملكة في أواخر عهد أبيه عمرو، بخروج ربيعة عليه، فأعاد التبابعة السكينة والهدوء، وولوا الحارث بناءً على طلب من قبيلة بكر التي سادت فيهم الفوضى من جديد، فأرسل ملك حمير الحارث على رأس جيش إلى بلاد معد والحيرة، فتسنم العرش خليفةً لأبيه1. كان الحارث أشهر وأعظم ملوك كندة، فقد استطاع أن يعيد سيطرة دولته على قبائل ربيعة، كما توسط -بعد حرب البسوس التي دامت أربعين سنة، والتي أودت بأبطال بكر وتغلب- بين القبيلتين بالصلح. واغتنم مشاكل البيزنطيين الداخلية فهاجم فلسطين, ولكن حاكمها "رومانوس" هزمه في إحدى المعارك، فلم يلبث الحارث أن شن على الروم هجوما انتقاميا هزمهم فيه، فاضطر الإمبراطور "أنستاسيوس" إلى عقد صلح معه؛ لكي يأمن هجماته على المدن السورية "502م". وفي عهده الطويل جرى الفتح الحبشي لليمن فضعف شأن آل كندة؛ بسبب أنهم كانوا يستمدون قوتهم من ملوك حمير، فحاول الحارث التقرب من ملوك فارس, وقد عاصره منهم "قباذ". ويروي ابن الأثير أن الحارث قد اعتنق المزدكية بناء على طلب من

_ 1 د. جواد علي: 3/ 326.

"قباذ"1 وأن الملك الفارسي قد أعانه على ملك الحيرة المنذر الثالث الذي رفض الاستجابة لطلب "قباذ" باعتناقها، فلم يكن من الحارث إلا أن احتل الحيرة وتسلم عرشها بمساعدة "قباذ"2. غير أن معظم الروايات العربية، وإن هي اتفقت حول استيلاء الحارث على الحيرة في هذه الفترة، تغفل ما روي عن اعتناقه المزدكية، لا سيما وأن الدينوري المهتم بتأريخ الفرس لا يذكرها, وهي تتفق في خطوطها الأساسية حول روايتين لابن الكلبي، ملخصهما أن الملك الفارسي قباذ كان ضعيف الإرادة يعوزه العزم والحزم، عاجزًا عن ضبط مملكته، فاستغل قبيلة ربيعة ضعفه وعجزه عن نصرة المناذرة، فوثبت على ملك الحيرة فأخرجته. وهنا تختلف الروايات حول من هو ملك الحيرة الذي تعرض للإخراج، أهو المنذر الثالث أم والده النعمان الثاني. ومهما يكن هذا الاختلاف، فالرواية تتابع القول بأن ربيعة لجأت إلى الحارث بن عمرو الكندي، وقاتلت معه حتى قتل النعمان، وظهر الحارث على ابنه المنذر الثالث، الذي اضطر إلى الانضواء إليه، بعد أن تنازل عن حقه في عرش أبيه. ولما حصل هذا اضطر قباذ إلى ملاطفة الحارث، وإقرار العمل الذي قام به. وليس في هذه الروايات ما يشير إلى اعتناق الحارث المزدكية، أو إلى رفض النعمان أو المنذر الثالث اعتناقها، وكل ما في الأمر ضعف قباذ، وعجزه عن مساعدة صاحبه النعمان، وانتهاز الحارث الذكي الفرصة لتوسيع مملكته وبسط سيطرته على مملكة الحيرة3. ويظهر أن أعداء ملوك الحيرة هم الذين أشاعوا عنه ذلك؛ للحط من قدره في نظر العرب. غير أن الدكتور جواد علي يعلق على هذه الحوادث بقوله: "إن الحالة في العراق قد ساءت بين 503 و506م، ففي هذه الفترة وقعت الحرب بين الروم والفرس وارتبك الوضع، وشغلت الحرب عرب الحيرة عن حماية أنفسهم من الأعراب الذين كانوا يترقبون مثل هذه الفرصة السانحة. وربما كان هؤلاء قد استولوا على الحيرة، فأغار الحارث عليها، بعد أن غادرها ملكها ليحارب الروم مع الفرس، واستولى على ما كان تابعًا له، وأضافه

_ 1 ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 255 "يذكر أن قباذ دعا المنذر إلى المزدكية فأبى، فدعا الحارث بن عمرو الكندي فأجابه، فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته". 2 راجع ما ذكرناه عن ذلك في بحث المناذرة. 3 د. جواد علي: 3/ 233.

إلى ملكه مدة من الزمن، فلما انتهت الحرب بعقد الهدنة "506م" وهدأت الأحوال استعاد ملك الحيرة -المنذر الثالث- ملكه من آل آكل المرار"1. على أن الحارث بن عمرو بعد أن استولى على الحيرة التفَّتْ قبائل معد حوله, وتقرب رؤساؤها منه، ودانوا له بالطاعة ففرق أولاده فيهم ملوكا، إذ وضع ابنه حجرًا على أسد وغطفان وكنانة، وكانت مساكنها عند وادي الرمة بين جبل شمر وخيبر، وابنه شرحبيل على بكر بن وائل بأسرها، ومعد يكرب على قيس عيلان بأسرها، وسلمة على تغلب وما إليها. وأما المنذر الثالث، الذي كان قد خضع له وتقرب منه وتزوج ابنته هند "عمة امرئ القيس" فإنه بعد أن انتزع ملكه منه، وكان ذلك بعد موت قباذ وتولي ابنه كسرى أنوشروان عرش فارس, قد قلب له ظهر المجن، وانتقم منه شر انتقام، فلاحقه إلى أراضي بني كلب، وأسر من عائلته أربعين شخصًا بينهم ولدان له، فذبحهم وفيهم يقول امرؤ القيس: ملوك من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشية يقتلونا فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا وما زال المنذر يجد في طلب الحارث حتى أدركه فقتله. ويختلف المؤرخون حول هذه النقطة؛ فمنهم من يقول: إنه توفي حتف أنفه في بني كلب كما يدعي بنو كندة، بينما يدعي بنو كلب أنهم هم الذين قتلوه. وبموت الحارث انتقل الحكم إلى أكبر أولاده المسمى "حجر" ومن حينها أخذ نجم آل كندة في الأفول. وتتواتر الروايات، مع بعض الاختلاف في الجزئيات، أن قبيلة أسد لم تكن راضية عن حجر، وأنه لم يكن يقيم بينهم دائمًا، وأن صلتهم به لم تكن طيبة، وأنهم قبلوه ملكًا عليهم على كره منهم. لذلك فإنهم لم يلبثوا أن أعلنوا عليه الثورة، ورفضوا أن يدفعوا له الإتاوة السنوية، فحاربهم وقبض على رؤسائهم وقتل كثيرا منهم، فانتقمت "أسد" منه حينما سنحت لها فرصة مواتية وقتلته2.

_ 1 د. جواد علي: 3/ 236. 2 د. جواد علي: 3/ 246-247.

ولم يكف المنذر من جهة أخرى عن التنكيل بآل كندة، وظل يسعى إلى التفريق فيما بينهم، حتى أوقع بعضهم ببعض، فاحترب الأخوان سلمة وشرحبيل، واستمال كل منهما عددًا من القبائل إلى جانبه، وتمكن الأول من قتل الثاني1، لكنه لم يسلم من ملاحقة المنذر له، فالتجأ إلى قبيلة بكر بن وائل فملكته عليها. غير أن المنذر لم يلبث أن شن الحرب عليها في يوم "أوارة" الأول وحقق لنفسه نصرا ساحقا، وقتل سلمة مع عدد كبير من أنصاره وأحرق نساءهم. ولما أدرك امرؤ القيس بن حجر2, الشاعر الكندي المعروف، انشغال أعمامه وإخوته بعضهم ببعض، وعجزهم عن الأخذ بثأر أبيه أخذ على عاتقه هذه المهمة، وكان أصغرهم سنًّا وأقلهم أملًا بالملك. وتذكر الروايات أن حجرا لم يكن راضيا عن ابنه امرئ القيس، فطرده وآلى على نفسه ألا يأويه في داره أنفةً من قوله الشعر، وكانت الملوك كما قيل تأنف من ذلك. وهناك روايات أخرى مضطربة عن كون السبب في طرده ناشئًا عن تغزله بامرأة من نساء أبيه كان عاشقا لها فلم يصل إليها، حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل، حيث قال قصيدته المعلقة: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل ومما جاء فيها ذكره لها وتسميتها بـ "أم الحويرث" بينما لم تكن سوى "هرا" التي قيل: إنها زوجة أبيه: كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل ألا رب يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جُلْجُل تجاه مثل هذه الروايات المضطربة، لا يستطيع المؤرخ إلا أن يقف حائرًا. ولطالما

_ 1 اليعقوبي 2/ 178: وكان قتل شرحبيل في يوم الكلاب الأول. 2 لقبه امرؤ القيس، أما اسمه فمختلف فيه, قد يكون حندج أو عديًّا أو مليكة أو سليمان. ويذكر المؤرخون أن ولادته قد تكون سنة 122 قبل الهجرة "الموافقة لعام 500م" وكانت أمه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير أخت المهلهل وكليب وائل التغلبيينِ، ومن ألقاب امرئ القيس "ذو القروح" و"الملك الضليل".

لا نملك من المستندات ما يسمح لنا برسم صورة أكثر علمية لهذه الأحداث، فليس لنا إلا متابعة الرواية وهي تقول: إنه بعد أن طرده والده، كان يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذاذ العرب، فإذا صادف غديرًا أو روضة أقام فذبح لهم، وأكل وأكلوا معه, وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه. وفي الأغاني1 نجد قصة وصول خبر مقتل والده إليه وهو على هذه الحالة يلعب النرد في موقع "دمون" فلم يلتفت إلى ناقله إلا بعد أن انتهى نديمه من ضرب نرده؛ لئلا يفسد عليه دسته. أي: إن الرواية تحرص على حبك القصة بالبرهان على صلابة امرئ القيس، خلافا لإخوته الذين تظهرهم وقد جزعوا وحثوا التراب على رءوسهم، وكانت وصية الوالد المحتضر ألا يُدفع كتابه إلا إلى أيهم لا يجزع للخبر. فلما التفت إلى الساعي وعلم الخبر قال: تطاول الليل علينا دمون ... دمون إنا معشر يمانون وإننا لأهلنا محبون ثم قال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا, "اليوم خمر، وغدًا أمر" فذهبت مثلا، ثم قال: خليليَّ لا في اليوم مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب ثم شرب سبعًا، فلما صحا آلى على نفسه ألا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة حتى يدرك ثأره. والواقع أن الروايات مضطربة حول هذه الناحية أيضًا، فمنها ما يقول: إنه كان مع والده حينما هاجمه بنو أسد، وإنه تمكن من النجاة على فرس له، أو إنه كان غلاما قد ترعرع، فلما بلغه الخبر وهو مقيم في بني حنظلة، وكان ناقله رجل اسمه عجل قال: أتاني وأصحابي على رأس صيلع ... حديث أطار النوم عني فأنعما فقلت لعجلي بعيد مآبه ... أبن لي وبيِّن لي الحديث المجمجما فقال: أبيت اللعن عمرو وكاهل ... أباحا حمى حجر فأصبح مسلما ومهما يكن من أمر ما قيل، فإن امرأ القيس -كما يظهر من مجمل الروايات- قد أخذ

_ 1الأغاني: 9/ 3207.

يسعى لدى بكر وتغلب في سبيل الأخذ بثأر أبيه. فلما لمست قبيلة أسد الجانية استعداده لقتالها؛ حاولت استرضاءه، وأرسلت إليه وفدًا من ساداتها ظل ثلاثة أيام يحاول مقابلته، فاحتجب عنهم ثلاثة أيام ثم خرج عليهم في قباء وخف وعمامة سوداء؛ إشعارًا بأنه مطالب بثأر أبيه. ورفض جميع عروضهم، وكان منها أنهم على استعداد لكي يسدوا إليه بمن يختار من بيت أسد "أشرفهم بيتا وأعلاهم في بناء المكرمات" فيذبحه، أو أن يرضى منهم بفداء بالغ ما بلغ. ثم فاجأهم بقوله: "لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر، وأني لن أعتاض به جملًا أو ناقة فأكتسب بذلك مسبة". وكان قسم امرئ القيس أن يقتل من أسد مائة ويجز نواصي مائة. ولما أدركت قبيلة أسد إصرار امرئ القيس على قتالها ثأرًا لدم أبيه، هجرت ديارها فلاحقها في قوة من بني بكر وتغلب، وقاتلها حتى كثر فيها القتلى والجرحى, ولما جاء الليل فحجز بين الطرفين هربت أسد. وفي صباح اليوم التالي رفضت بكر وتغلب الاستمرار في مساعدته؛ لأنهما رأته أنه قد أخذ بثأره ولا ضرورة لمتابعة القتال، فلما أجاب بأنه لم يصب من بني أسد ما يشفي غليل الثأر في صدره، قالوا: بلى ولكنك رجل مشئوم، وكرهوا القتال معه وانصرفوا، فحاول الاستنجاد ضد أعدائه بقبائل أخرى. ولما خاب أمله فيها طلب مساعدة أحد أقيال اليمن، فأرسل معه قوة لا يتجاوز عدد أفرادها 500 رجل، وتبعه بعض شذاذ العرب، واستأجر من القبائل رجالًا، ثم سار بهؤلاء جميعًا إلى بني أسد، فظفر بهم, وأنشد: قولا لدودان عبيد العصا1 ... ما غركم بالأسد الباسل قد قرت العينان من مالك ... ومن بني عمرو ومن كاهل حلت لي الخمر وكنت امرأً ... عن شربها في شغل شاغل غير أن ثمة روايات تنفي كون امرئ القيس قد أصاب ثأره من بني أسد، كما يُفهم من أبيات لعبيد بن الأبرص: يا ذا المخوفنا بقتل أبيه ... إذلالًا وحبنا أزعمت أنك قد قتلت ... سراتنا كذبًا ومينا

_ 1 دودان: بطن من أسد, كان والده قد أدبهم بالعصا، فسموا عبيد العصا.

ومهما يكن من أمر، فإن المنذر بن ماء السماء قد أخذ يلاحق امرأ القيس، بعد أن بسط سيطرته على المنطقة، والتجأت إليه قبيلة أسد، واحتمت به، فوجه إليه جيشًا عززه كسرى أنوشروان بفصيلة من المقاتلين الفرس الأساورة، فلم يكن من القوى التي كانت بجانب امرئ القيس إلا أن انفضت من حوله خوفًا من بطش المنذر بها، ولم يستطع أن يجد نصيرا من أية قبيلة من القبائل التي طلب مساعدتها، فهام على وجهه؛ ولذلك لصق به لقب "الملك الضليل" ثم رأى في النهاية أن يسير إلى القسطنطينية متخذًا من الملك الغساني الحارث بن أبي شمر وسيطا له عند قيصرها لينصره على أعدائه، وفي ذلك يقول: ولو شاء كان الغزو من أرض حمير ... ولكنه عمدًا إلى الروم أنفرا ويروى أنه في طريقه إلى أرض الروم مر على "تيماء" وفيها السموأل بن عادياء، فأودع عنده ابنته وأمواله وأدرعًا خمسة كانت لبني آكل المرار، وقد كتب له السموأل كتابا إلى الحارث بن أبي شمر. أما رفيقه في سفرته فكان كما تقول الرواية "عمرو بن قميئة" الذي سمته العرب "عمرًا الضائع" لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب، وقد ذكره امرؤ القيس في شعره: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقانِ بقيصرا فقلت له: لا تبكِ عينك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا كما يظهر من شعره أنه سلك طريق الشام ومر بحوران وبعلبك وحمص: فلما بدت حوران والآل دونها ... نظرت فلم تنظر بعينك منظرا لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا ولما وصل امرؤ القيس إلى العاصمة البيزنطية قبل القيصر مساعدته كما يروى، إذ وضع تحت تصرفه جيشًا، لكنه عدل عن مساعدته عندما أتاه رجل يسمى "الطمَّاح" كان امرؤ القيس قد قتل أخاه فلحقه إلى القسطنطينية، وأوغر صدر القيصر عليه قائلًا: "إن العرب قوم غدر، ولا تأمن أن يظفر بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه" أو -بحسب رواية لابن الكلبي- قال له: "إن امرأ القيس غويٌّ عاهر، وإنه لما انصرف عنك

بالجيش، ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارا يشهرها بها بين العرب فيفضحها ويفضحك"1. فبعث القيصر إليه بحلة وشي منسوجة بالذهب مسمومة، بعد أن خرج بالجيش، فلما لبسها تسمم جسمه وتقرح فسمي بـ "ذي القروح" وكان ذلك سبب وفاته. وفي شعر امرئ القيس إشارة إلى ذلك وإلى الطماح الذي يقال: إنه وشى به: وبدلت قرحًا داميًا بعد صحة ... فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا فلو أنها نفس تموت جميعة2 ... ولكنها نفس تساقط أنفسا غير أن مثل هذه الروايات لا يمكن الوثوق بصحتها؛ إذ ليس لها من مستند ترتكز عليه، لا سيما وأن في القصيدة التي يذكر فيها الطماح بيتًا من الشعر يدل على أنه كان مصابا بداء قديم، ربما كان الجدري أو داء آخر ينتج عنه قروح في الجلد، قد كان ينتابه بين حين وآخر حتى فتك به في النهاية: تأوبني دائي القديم فغلسا ... أحاذر أن يرتد دائي فأنكسا وبموت امرئ القيس اضمحلت مملكة كندة، وامَّحى أثرها، وحلت محلها دولة المناذرة في النفوذ على القبائل التي كانت تابعة لها، حتى إذا تضعضعت هذه الدولة إثر موقعة ذي قار، استقلت القبائل في شئونها الداخلية. وبعد لا بد من كلمة حول قصة الوفاء التي نسبت إلى السموأل بن عادياء الذي أودع امرؤ القيس عنده دروعه وأمواله. فقد روي أن الملك الغساني الحارث بن أبي شمر، قد أرسل إلى السموأل يطلب منه تسليم الدروع والأموال، فأبى من تسليمها بالرغم من تهديد رسل الملك بقتل ولده إن لم يسلمها، وكانت تضحيته بولده مثالًا للوفاء عند العرب. ويختلف المؤرخون فيما إذا كان السموأل يهوديا أو نصرانيا أمه من غسان, وقد نسبه بعضهم إلى آل غسان, قال ابن دريد: إنه من غسان، لكنه ذكر أيضا أنه يهودي، بينما نسبه

_ 1 الأغاني: 9/ 3218-3219. 2 وفي اليعقوبي 1/ 180: "فلو أنها نفس تموت سوية".

محمد بن حبيب إلى غسان، ولم يشر إلى تهوده. وهناك من يشك في القصة من أساسها، وأنها قد تكون موضوعة، يقول "ونكلر" Winekler: إن قصة الوفاء هذه إنما هي أسطورة استمدت من أسفار صموئيل الأول في التوراة. وقد جاءت أساطير العرب لتصوغها بهذه الصورة فتجعل بطليها شخصين: السموأل, وامرأ القيس1. أما عن حضارة دولة كندة فإنها لم تترك من الآثار الحضرية شيئًا سوى ذكرى شاعرها الكبير امرئ القيس وقصائده الشهيرة، إذ لم يكن لها مدن ولا حصون ولا قصور جديرة بالخلود، إنما الذين قاموا عليها كانوا بدوا حافظوا على نظم البداوة وتقاليدها، واستعملوا الخيام مساكن لهم، ولم يستقروا في حاضرة معينة، أما ديانتهم فكانت وثنية، من أصنامهم ذو الخلصة. على أن اليهودية قد تسربت إلى بعضهم، لكن المسيحية قد انتشرت على نطاق واسع، فاعتنقها بنو تغلب وجماعة من أسد. غير أن قيام هذه الدولة يعد أول محاولة في شمالي شبه الجزيرة العربية لتكتل مجموعة من القبائل، حول سلطة مركزية لها زعيم واحد. لكنها فشلت بسبب افتقارها إلى المؤهلات التي تجعل منها دولة واحدة، ذلك الذي ستنجح فيه محاولة أخرى أقوى منها؛ لتوفر العوامل الفكرية والاجتماعية لا سيما قوة العقيدة التي جاءت بها، تلك هي الدعوة الإسلامية التي كانت كفيلة بأن تعيد لا إلى هذه القبائل وحسب، بل إلى جميع القبائل العربية في شبه الجزيرة وحدتها، وتنظمها في دولة واحدة وطيدة الأركان.

_ 1 جواد علي: 3/ 273.

الفصل الثامن: الحياة السياسية الحضرية في الحجاز

الفصل الثامن: الحياة السياسية الحضرية في الحجاز مدخل ... الفصل الثامن: الحياة السياسية الحضرية في الحجاز ليس لدينا من المستندات العلمية ما يكشف عن تاريخ الحجاز في العصور القديمة, ولعل السبب في الغموض الذي يكتنف تاريخه عزلته وبعده عن الأحداث العالمية المجاورة، وعدم احتكاكه بالدول الأجنبية المتحضرة. على أن وعورة مسالكه، وقسوة مناخه، وجفاف إقليمه، وجدب أراضيه، لتوسطه صحارى مقفرة، قد جعلت منه منطقة لا مطمع لأجنبي فيها. ولذا عاش حياته الخاصة بعيدا عن الأضواء في تاريخ العالم القديم1. وبينما كان القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية قد أقام دولًا، وابتدع حضارة كان الحجاز يتابع حياة البداوة، الأمر الذي جعل المؤلفات الكلاسيكية تخلو من ذكره أخباره. إن معلوماتنا عن تاريخ الحجاز مستقاة من أفواه الرواة الذين عاشوا قبل الإسلام بقليل، أو عاصروا الجاهلية والإسلام معًا، والملاحظ أن رواياتهم تغلب عليها الصيغة الغيبية، فقد تأثرت بالإسرائيليات وبجو الإيمان الجديد، إذ دونت في العهد الإسلامي، وبعد أن مضى ما يقارب من قرنين على بزوغ فجر الإسلام. وليس لنا أمل في الوقوف على معلومات تاريخية مستوفية للدقة العلمية، عن ماضي الحجاز في العصور القديمة البعيدة عن الإسلام، إلا إذا قامت في حواضره المهمة تنقيبات من شأنها أن تكشف لنا عن آثاره التي قد تكون مطمورة في باطن التربة. والمعلومات المتوفرة لدينا في الوقت الحاضر تنبئ أن الحجاز قد ثابر على بداوته، حتى توفرت لبعض مراكزه الشروط التي ساعدتها على التطور، ذلك أن القوافل

_ 1 جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 10/ 23.

التجارية، التي كانت تخترق شبه جزيرة العرب طولًا وعرضًا، قد استخدمتها محطات تستريح فيها من عناء السفر، فارتقت إلى مدن زاهرة، أسهمت في التجارة، وتحضرت وأَلِف سكانها حياة الاستقرار، بينما ثابرت سائر مناطقه على حياتها البدوية المألوفة. ولذا يمكن الحديث عن فئتين من سكان الحجاز: 1- عرب مستقرون من أهل المدن، تحضروا وبنوا المساكن من الحجارة والطين فسموا "أهل المدر". 2- عرب رحَّل من أهل البوادي، ثابروا على حياتهم القبلية المتنقلة، واعتمدوا على الغزو والرعي، وعاشوا تحت الخيام المصنوعة من الوبر، فسموا "أهل الوبر". ولم تلبث مدن الحجاز المتحضرة مثل مكة ويثرب والطائف أن ارتقت، فأنشأ بعضها كيانات سياسية واجتماعية على شيء غير يسير من التنظيم, فهي جديرة إذن بالدراسة والاهتمام. وتأتي في مقدمة هذه المراكز الحضرية مدينة:

مكة

مكة: التي تقع في وادٍ جديب غير ذي زرع، وفي منطقة جافة قارِّية المناخ حارة جدا في الصيف، إذ تشرف عليها جبال جرد تزيد في قساوة مناخها. ومع أن أمطارها قليلة، قد تمر سنة أو سنتان أو ثلاث لا تهطل عليها قطرة من المطر، فإنها حينما تهطل -وكثيرًا ما يحدث ذلك فجأة- تكون من الغزارة والقوة بحيث تشكل سيولا تنحدر في الشعاب والوديان وتهدد الكعبة أحيانا، بل قد تغمر جوانبها لأيام عديدة وتترك في إثرها ركامًا من الطين والحصى1. إن مكة بلدة قديمة، ذكرها بطليموس الإسكندري الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، في كتابه الجغرافي باسم "مكورابا Macoraba" ولا بد أنها أقدم منه بكثير, غير أننا لا نجد كتابة جاهلية تدلنا على اسمها القديم. وإذا صحت تسمية بطليموس، ولم تكن محرفة عن الأصل، فهي تقابل لفظة "مكرب" التي تقدم معنا أنها

_ 1 Emile Dermenghem: La vie de mahomet, P. 25.

كانت تطلق لقبًا على حكام قتبان وسبأ، قبل أن يتلقبوا بألقاب "ملوك" وتعني مفهوم "مقرب" في لغتنا؛ لأن مكة تقرب إلى الإله1. وفي رأي بعض المؤرخين أن اسمها الحالي "مكة" مشتق من لفظة "مكا" البابلية التي تعني "البيت" وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم باسم "بكة" في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين} 2، كما ورد باسم مكة: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} 3, ويعلق بعضهم على ذلك بقولهم: إن مكة اسم المدينة، وبكة اسم البيت. كما ذهب بعض المؤرخين في تفسير هاتين التسميتين مذاهب لغوية ودينية، استنبطوها من مكانة الكعبة وقدسيتها، كقولهم: إن تسميتها "مكة" جاءت من كونها تمك الجبارين، أي: تذهب نخوتهم، وتسميتها "بكة" لازدحام الحجاج فيها "يبك بعضهم بعضًا بكًّا"4. وهذه التفسيرات متأخرة ولا شك، واسم مكة لا بد أن يكون سابقا لهذه المفاهيم5, على أن أهمية مكة تعود إلى عوامل عديدة أهمها: كعبتها التي وصفت بكونها "البيت العتيق". أما بناء الكعبة فينسب إلى إبراهيم الخليل "عليه السلام". وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} 6. لكن ما أغضى عنه القرآن من قصة قدوم إبراهيم إلى مكة، أفاض فيه الأخباريون، ورواياتهم في واقع الأمر مقتبسة من الإسرائيليات، فقالوا: إن مجيئه كان بوحي من الله، إذ أمره بالمسير إلى بلده الحرام. فقصد وزوجته هاجر وابنه إسماعيل مكة، وأنزلهما في مكان زمزم اليوم، ثم انصرف راجعًا إلى الشام7. هذه الخلاصة

_ 1 د. جواد علي: 4/ 188. 2 آل عمران: 96. 3 الفتح: 24. 4 ياقوت الحموي: معجم البلدان، مادة مكة. وفي تفسير فعل مَكَّ يورد ياقوت بيت شعر: يا مكة الفاجر مكي مكًّا ... ولا تمكي مذحجًا وعكا 5 أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص93. 6 البقرة: 127. 7 محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، 1/ 24؛ ابن الأثير: الكامل، 1/ 58-61.

لرواية أوردها ابن سعد وابن الأثير يتمها المسعودي1 بقوله: "إن إبراهيم استودع زوجته وابنه خالقه، وكان من ظمأ إسماعيل، وسعي هاجر بين الصفا والمروة ذهابًا وإيابًا بحثًا عن الماء، أن أنبع الله لهما زمزم". وتضيف الروايات العربية إلى ذلك قولها: "إن ظهور الماء قد جذب أول قبيلة قدمت إليها وهي جرهم2" فضرب أفرادها خيامهم قرب الماء، واستقروا وعاشوا مع الطفل وأمه. وقد ترعرع إسماعيل فيهم حتى إذا كبر زوجوه منهم. ثم جاء إبراهيم من الشام ليتفقد زوجته وولده وتعاون مع إسماعيل في بناء البيت3, وأن إسماعيل قد أنسل اثني عشر ولدًا نشأت منهم العرب المستعربة، وأنهم تركوا لجرهم الحكم في مكة رعاية للخئولة، بينما تقول روايات أخرى: إن جرهم كانت موجودة قبل ذلك في مكة، وكان معها حولها قوم العماليق، لا بل إن العماليق كانوا أسبق من جرهم في سكنى مكة. لا شك أن هذه الروايات تستند إلى نصوص إسرائيلية، وهي موجودة فعلا في الكتب العبرية، ومنصوص عنها في التلمود، وما أورد الأخباريون العرب منها فيه من الاضطراب ما نلمسه فيما روى ابن الأثير منها "الكامل: 1/ 61". وهي وإن قصرت عن إضفاء السمة العلمية الدقيقة على تاريخ هذه الفترة، إلا أنها تشير إلى حقيقة تاريخية لا ريب فيها4، وهي قدوم إبراهيم وابنه إسماعيل، وبناؤه البيت الحرام الذي أسبغ على

_ 1 المسعودي: مروج الذهب ... 2/ 18. 2 تقول الرواية: إن جرهم كانت بوادٍ قريب من مكة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاءوا إلى هاجر وقالوا: لو شئت لكنا معك فآنساك، والماء ماؤك. قالت: نعم، فكانوا معها حتى شب إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم "ابن الأثير: 1/ 59". 3 الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، 2/ 4-5. 4 راجع في كتاب حياة محمد: الدكتور محمد حسين هيكل "ص89-90" ما ذكر من أن المستشرق "وليم موير Sir W. Muir" في كتابه "حياة محمد وتاريخ الإسلام Life of Mahomet and history bof islam" يرتاب في قصة ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز، ويرى أنها من صنع اليهود، ابتدعوها قبل الإسلام بأجيال؛ ليربطوا بينهم وبين العرب برابطة قرابة دموية وجب على العرب حسن معاملة اليهود النازلين بينهم, وتيسر لتجارة اليهود وانسيابها الحر في شبه الجزيرة، ويستند في قوله هذا إلى أنه لا صلة بين أوضاع العبادة في بلاد العرب وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنية مغرقة في وثنيتها بينما كان إبراهيم حنيفا مسلما. ويرد الدكتور محمد حسين هيكل عليه بأن ما يسوقه من دليل، لا يكفي لنفي واقعة تاريخية، ويبرهن على خطل رأيه بأن إبراهيم لم يستطع أن يحول قومه الوثنيين في العراق عن دينهم, واضطر إلى الهرب من وجههم، فإذا لم ينجحوا في تحويل العرب عن وثنيتهم فلا عجب في ذلك.

مكة صفة القداسة، تلك الصبغة التي كانت من أبرز العوامل في ازدهارها وارتفاع شأنها. والمؤرخ اليوم عاجز عن إعطاء معلومات مفصلة -غير ما ورد من موجز عنها في القرآن- تتصف بالدقة العلمية عن تاريخ يرجع بمكة إلى أكثر من قرن وبعض القرن قبل الهجرة, وعلى رأي بعض المؤرخين أن تاريخ مكة الحقيقي إنما يبدأ من عهد قصي بن كلاب الجد الأكبر للرسول -صلى الله عليه وسلم- أي: منتصف القرن الخامس الميلادي1 حسب تقدير بعضهم، وأوائل القرن السادس الميلادي حسب تقدير آخرين. ذلك أن حياة مكة قد قامت على التجارة، إذ كان لموقعها أهمية تجارية عظيمة، فهي نقطة التقاء لطرق عديدة تأتيها من جميع الجهات، من اليمن، ومن الخليج العربي، ومن الحبشة عن طريق البحر الأحمر، ومن مصر وفلسطين وسورية. وليس من المعلوم على وجه التحقيق متى كان منشؤها، إنما الراجح أن موقعها المهم على طريق القوافل التجارية قد جعل منها، من غابر الزمن، محطة يقيم فيها رجال القوافل أيامًا؛ بسبب إمكان العثور على ماء للشرب فيها، الأمر الذي دعا إلى ارتفاع شأنها، وإلى تحولها من محطة تجارية إلى مدينة زاهرة، لا سيما بعد أن أقيم فيها بيت عبادة. والواقع أن عوامل كثيرة أدت إلى تحويل مجرى التاريخ في شبه جزيرة العرب من البتراء وتدمر، ونجد إلى الحجاز. فقد تحولت الطرق التجارية من جديد إلى البحر الأحمر، منذ أن استولى الرومان على سورية ومصر، قبيل مستهل النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وسيطروا على تجارة هذا البحر من خليجي العقبة والسويس، بعد أن قضوا على دولة الأنباط وجعلوا محطتها التجارية تحت سيطرتهم، وعلى الدولة التدمرية إذ دمروها، فقضوا بذلك على حياتها التجارية. عندئذٍ بدأت سفن الرومان التجارية تمخر عباب البحر الأحمر في طريقها إلى الشرق الأقصى، وتمر بالثغور الحجازية في ذهابها وإيابها، ولم تفقد المحطات التجارية البرية ومنها مكة أهميتها، بل ازداد نشاطها، بعد أن انحطت دول الجنوب

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص103.

العربي، وتخلت عن دورها التجاري المرموق، فتسلمت مكة وأهلها قريش مقاليد التجارة في شبه الجزيرة العربية، لا سيما وأن العلاقات التجارية بين قريش وبين الأحباش الذين احتلوا اليمن، وبينهم وبين البيزنطيين الذين حرضوهم عليهم كانت حسنة. يضاف إلى ذلك أن الحروب الطويلة بين الفرس والروم البيزنطيين في مستهل القرن السابع الميلادي، قد أتاحت لتجارة مكة أن تزدهر؛ بسبب أن هذه الحروب قد عطلت طرق التجارة بين الشرق والغرب، فكان من الطبيعي، أن يتحول مركز الثقل الاقتصادي إلى جهة غربي شبه الجزيرة العربية، وكان لوقوع مكة في ملتقى الطرق المارة بين شرقي شبه الجزيرة وعالم البحر المتوسط، وبين إفريقيا السوداء وبلاد الشام أثر كبير في ازدهارها1. ثم إن كثيرًا من رجال القبائل العربية التي كانت تفر من أواسط شبه الجزيرة، بسبب النزاع القبلي الذي استفحل في جهات نجد -كما رأينا في بحث مملكة كندة، وكما سنرى في بحث أيام العرب- كانوا يأتون إلى مكة ويستوطنون فيها، فتكاثر أهلها وازداد نشاطهم. وكانت مكة فوق هذا مركزا دينيًا، يستقطب نفوس العرب، يحجون إلى كعبتها من جميع أرجاء شبه الجزيرة من قديم الزمن، وقد سميت "البيت العتيق" لقدمها، وكان العرب يعظمونها ويقسمون بها الأيمان، كقول زهير: فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم كما كان يرافق الطقوس الدينية التي تجري في مكة في شهور معلومة من السنة، بمناسبة الحج إلى الكعبة، نشاط تجاري مهم، إذ تقام الأسواق التجارية، وتدوم أكثر من خمسة أشهر على فترتين منفصلتين وفي أمكنة مختلفة، وكان في الحجاز شبكة واسعة منها، ويرافق البيع والشراء مظاهرات أدبية رائعة، إذ يتبارى الشعراء والخطباء في إلقاء القصائد والخطب ويتفاخرون. فاستطاعت قريش بذلك أن تفرض لغتها على سائر قبائل

_ 1 Emile Dermenghem: Ibid. P. 27.

شبه الجزيرة. فشئون الدين والتجارة والأدب، كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا في الجاهلية. وأخيرًا, إن كثرة الجوالي الأجنبية التي كانت تقصد الحجاز من فرس وروم وزنوج وأحباش وغيرهم، يأتون للتجارة أو للعمل في البناء والزراعة والصناعة، بالإضافة إلى الهجرات التي كانت تتوارد باستمرار من اليمن، ومنها هجرة الأوس والخزرج إلى يثرب، وغيرهما من القبائل إلى الشمال، كان لها أثر كبير في توسع مكة وارتقائها. إن الروايات عن تاريخ مكة من إسماعيل إلى قصي بن كلاب متناقضة، فيها كثير من الاضطرابات. فالمسعودي1 يذكر أن أول من نزل زمزم هم العماليق لا جرهم، فاستقروا في أسفل مكة "أجياد" ثم تبعتهم جرهم فنزلوا أعلاها "قُعَيْقعان" يُعشِّر كل منهما التجارة التي تدخلها من ناحيته، ثم احتربت القبيلتان فانتصر العماليق على جرهم، وتولوا شئون البيت، ولم تلبث جرهم أن غلبتهم، فتولت أمورها ثلاثمائة سنة، حتى إذا طغت وبغت أهلك الله معظمها، فاستقوى عليها بنو خئولتها أحفاد إسماعيل وطردوها2، واستعادوا ولايتهم على البيت، بينما يذكر ابن هشام أن ولاية جرهم قد استمرت إلى أن قدمت قبيلة أخرى من قبائل اليمن3، بعد انهيار سد مأرب، هي قبيلة خزاعة، فنازعت قبيلة جرهم، وانتصرت عليها، فأخرجتها من مكة، وحكمت مكانها، كما خرج منها أبناء إسماعيل حيث تفرقوا حول مكة وفي تهامة.

_ 1 المسعودي: مروج, 2/ 19-23. 2 يذكر المسعودي شعرًا في ذلك لآخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر الجرهمي: كأن لم ين بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وكنا لإساعيل صهرًا ووصلة ... ولما تدر فيها علينا الدوائر وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر فبدلنا ربي بها دار غربة ... بها الذئب يعوي والعدو المحاصر ونابت هو أكبر أولاد إسماعيل الذي روي أنه كان أول من ولي أمر الكعبة. 3 يذكر أبو الطيب تقي الدين محمد الفاسي، شفاء الغرام، 2/ 44 أن نسب خزاعة مختلف فيه؛ إذ يذكر بعضهم أنهم من العدنانيين، ويذكر آخرون أنهم من القحطانيين.

كان عمرو بن لحي الخزاعي -كما تذكر الروايات- أول من ملك من خزاعة، وإن مكة بدأت تتطور في عهده، بعد أن كان شأنها قد انحط؛ بسبب ظلم جرهم واعتسافها الحجاج والتجار، حتى قل عدد الوافدين إليها منهم. وقد عمد إلى إقامة الولائم للحجاج، وتوفير الماء لهم في مواسم الحج، ليرغبهم في زيارة الكعبة وعبادة الأصنام. ذلك أنه كان أول من غير دين إبراهيم وبدله كما يقولون، إذ يروى أنه زار الشام، ورأى قومًا يعبدون الأصنام فأتى بصنم منها نصبه على الكعبة، وقويت خزاعة وعم ظلم عمرو بن لحي الناس. ولما أكثر عمرو من الأصنام حول الكعبة غلب على العرب عبادتها1، وامَّحت الحنيفية منها إلا قليلًا2. على أن أمر عبادة الأصنام، وامحاء ديانة إبراهيم بمجرد إحضار عمرو بن لحي صنما من الشام، وإقامته حول الكعبة تبدو غير معقولة، لولا أن تكون الحنيفية قد ضعفت في نفوس القوم. والواقع أنها ضعفت، فقد ذكر المسعودي "أن إلياس بن مضر، وقد شرف وبان فضله، كان أول من أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم. وظهرت منه أمور جميلة حتى رضوا به ... فردهم إلى سنن آبائهم، حتى رجعت تامة على أولها"3. وبقيت خزاعة تلي أمر مكة وكعبتها، وتُعَشِّر التجارة التي تمر بها، مدة قدرها المسعودي بثلاثمائة سنة، بينما قدرها ابن كثير بخمسمائة سنة، وروى الأزرقي الرقمين4، إلى أن نهض قصي بن كلاب فتزعم قريشًا، وجمع شملها ووحد بطونها المتفرقة في قبيلة كنانة، واستطاع أن يستولي على مكة، وأن يفرض سيطرته عليها، وكان ذلك على أغلب الظن في النصف الأول من القرن السادس الميلادي. أما خزاعة فلم تضمحل، وكانت في عهد الرسول بالمدينة محالفة له، ومنها بنو كعب وبنو المصطلق.

_ 1 يقول في ذلك شحنة بن خلف الجرهمي: "مروج الذهب، ص30": يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة ... شتى بمكة حول البيت أنصابا وكان للبيت رب واحد أبدًا ... فقد جعلت له في الناس أربابا لتعرفن بأن الله في مهل ... سيصطفي دونكم للبيت حجابا 2 المسعودي: مروج الذهب، ص29-30. 3 تاريخ اليعقوبي: 1/ 187. 4 الفاسي: شفاء الغرام، ص 48.

قريش

قريش: قيل في تسمية قريش بهذا الاسم روايات كثيرة مختلفة، منها أنه غلب عليها، نسبةً لاسم جدها الأعلى النضر بن كنانة الذي كان يلقب به، أو لأن كنانة اشتغلت بالتجارة فكانت تجمع المال، والجمع والكسب هو التقريش. ومما قيل: إن فهر بن مالك بن النضر كان له ثلاثة أولاد، فتفرقوا ثم تجمعوا، فقالت بكر: "تقرش بنو جندلة" أي: تجمعوا. وهناك رأي لمحمد بن سعد صاحب الطبقات الكبرى1 يقول: "إن اسم قريش مشتق من كلمة "التقريش" أي: التجمع؛ لأن قصيَّ بن كلاب جمع2 بطون كنانة، وناهض بهم خزاعة، وانتزع منها حكم مكة وسدانة الكعبة، فسمي لذلك مجمعًا". وفي هذه الحالة يكون الاسم أحدث مما إذا أخذنا بالأقوال السابقة. وقريش تنتمي إلى خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر من عرب الشمال المعدّية "العدنانية". كان قصي أول رؤساء مكة من قريش، وقد ذكر النسابون أن اسمه زيد2، وغلب عليه لقب " قصي" لأنه أقصى عن عشيرته كنانة الساكنة في مكة، عندما توفي والده، وتزوجت أمه من رجل قضاعي ينتمي إلى قبيلة عذرة، فاحتملته معها إلى أرض زوجها بأطراف الشام. ولما أصبح شابًّا وكان "جلدا نهدا", كما يقول محمد بن سعد، تشاجر مع شاب قضاعي، وآثر العودة إلى أهله وعشيرته في مكة، حيث كان له أخ شقيق يسمى "زهرة". ثم تزوج من "حُبَّى" ابنة زعيم خزاعة "حُلَيْل بن حُبْشِية بن سلول" الذي كان يلي أمر مكة, والحكم فيها، وولاية البيت. ولما توفي والد زوجته آلت إليه ولاية مكة وكعبتها، والروايات مضطربة حول كيفية استيلائه عليها، فمنها ما تقول: إن والد زوجته قد أوصى له بها، أو أوصى بها لابنته،

_ 1 محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، 1/ 28-39. 2 قال الشاعر: قصي لعمري كان يدعى مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهر "شفاء الغرام في أخبار البلد الحرام, ص69". 3 قيل: إن اسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة التي تتصل بخزيمة بن مدركة. "اليعقوبي: 1/ 37".

فعجزت عنها، فتركتها لزوجها، أو أن حُليلًا قد أورثها ابنه المخرش الملقب بـ "أبي غبشان" وكانت العرب تجعل لسادن البيت جُعْلًا في كل موسم، فمنعوا عنه في إحدى السنين ما كانوا يؤدونه، فغضب فدعاه قصي وسقاه، ثم اشترى منه سدانة البيت بزق من الخمر وبعير، فذهبت قصته مثلًا في الخسارة: "أخسر من صفقة أبي غبشان"1. وفي كتاب "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام"2 أن أبا غبشان لم يكن ابنًا لحليل بل شريكًا له. غير أن هذه الروايات قد تكون موضوعة، وربما يكون الأقرب إلى الواقع أن قصيًّا استولى على السدانة بالقوة، كما جاء في رواية لابن سعد في الطبقات، منقولة عن ابن الكلبي، تقول: إنه لما توفي حليل وانتشر وُلد قصي، وكثر ماله وعظم شرفه، رأى أنه أولى بالبيت، وبولاية مكة من خزاعة بكر، فجمع قومه من كنانة وقريش، واستنصر إخوته لأمه "بنو عذرة من قضاعة" فاقتتل الفريقان قتالا شديدا حتى كثر القتلى فيهما3، ثم تداعيا إلى الصلح وحكَّما بينهما "يعمر بن عوف بن كعب الكناني" فقضى هذا بأن قصي بن كلاب أولى بالبيت ومكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبكر موضوع, يشدخه تحت قدميه, وأن ما أصابت خزاعة وبكر من قريش وكنانة ففيه الدية مؤداة، فسمي لذلك "يعمر الشداخ"4. كانت قريش في عهد قصي قسمين: قريش البطاح؛ لأن قصيا جمع بطون قريش في

_ 1 ابن سعد: الطبقات، 1/ 37. 2 أبو الطيب تقي الدين بن محمد الفاسي: المرجع نفسه، 2/ 53-54؛ وفي اليعقوبي "1/ 198" بيتان من الشعر يشيران إلى شراء قصي لسدانة الكعبة: أبو غبشان أظلم من قصي ... وأظلم من بني فهر خزاعه فلا تلحوا قصيًّا في شراه ... ولوموا شيخكم إذ كان باعه وفي مروج الذهب للمسعودي "2/ 32" من الأبيات ما يشير أيضًا إلى هذه الصفقة: إذا افتخرت خزاعة في قديم ... وجدنا فخرها شرب الخمور وباعت كعبة الرحمن جهرًا ... بزقٍّ، بئس مُفْتَخر الفجور 3 وفي اليعقوبي "1/ 198": أن القتال بين الطرفين قد حدث بعد صفقة الشراء بين قصي وأبي غبشان، وكرد فعل لاستيلاء قصي على سدانة الكعبة، سواء بهذه الطريقة أو بطريقة أخرى. 4 محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، 1/ 38؛ ابن الأثير: الكامل، 2/ 8.

الأبطح من مكة، فأقاموا منازلهم في الشعب بين جبل أبي قبيس والذي يقابله، وهو باطن مكة وفي وسط الكعبة، وكانوا عدة بطون1 في مقدمتهم بنو هاشم وبنو أمية، وقد شكلوا بعدئذ طبقة السادة أصحاب القوافل والغنى والجاه، إذ اتخذوا التجارة ورعاية البيت الحرام موردًا يتعيشون منه، وأثروا ثراءً عظيمًا. ثم قريش الظواهر الذين لم يدخلهم قصي الأبطح، فسكنوا أطراف مكة خارج الشعب، وكانوا من بطون قرشية مختلفة، وهم أدنى مكانة وجاهًا من قريش البطاح2. وقد روي أنهم كانوا يمارسون الغزو والغارات، وأنهم يعتبرون لذلك من البداة أو شبه المستقرين، ولم تكن حالتهم المادية حسنة. وقد سكن إلى جانب هؤلاء جميعا جماعات من العرب، تحالفوا مع قريش في عهد قصي وتولى عقد ذلك الحلف ابنه عبد مناف، فقد روى اليعقوبي أنه لما كبر أمر عبد مناف بن قصي جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة يسألونه الحلف ليَعِزُّوا به، فعُقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش؛ لأن الحلف عقد في وادي "حبشي" الذي يقع على بعد ستة أميال من أسفل مكة، فسموا باسمه3. كما سكن في ظواهر مكة وضواحيها جماعات من الأجانب واللاجئين والأرقاء4 من صناع وعمال وفنانين، جاء بعضهم من داخل شبه الجزيرة، ومعظمهم من خارجها.

_ 1 عدَّد المسعودي "مروج 2/ 32" هذه القبائل فقال: هي قبائل: عبد مناف، بنو عبد الدار، بنو عبد العزى أبناء قصي، وزهرة، ومخزوم، وتيم بن مرة، وجمح، وسهم، وعدي، وبنو عتيك بن عامر. 2 وهم حسب قول المسعودي: بنو محارب، والحارث بن فهر، وبنو الأدرم بن غالب بن فهر، وبنو هصيص بن عامر بن لؤي. وفي ذلك يقول ذكوان مولى عبد الدار للضحاك بن قيس الفهري مفتخرًا: تطاولتُ للضحاك حتى رددته ... إلى نسب في قومه متقاصر فلو شاهدتني من قريش عصابة ... قريش البطاح لا قريش الظواهر 3 اليعقوبي 1/ 199: قال ابن إسحاق: الأحابيش هم بنو الهون وبنو الحارث من كنانة وبنو المصطلق من خزاعة, تحبشوا أي: تجمعوا فسموا بذلك. 4 Emile Dermenghem: Ibid. ,P. 30.

التنظيم السياسي في مكة

التنظيم السياسي في مكة: بعد أن تولى قصي حكم مكة بدأ في تنظيم شئونها، فأخذ يجمع ما تشتت من بطون قريش, ثم قسم مكة أرباعًا بين قومه، وجعل لكل بطن حيا خاصا به قرب الكعبة. وما

أقره قصي من نوع الحكم، وإن يكن حضري الطابع في مظهره، فإنما هو في جوهره تنظيم قبلي، تكيف تكيفًا خاصًّا بحسب ظروف الاستقرار، وبحسب علاقات قريش التجارية الواسعة، واتصالها بالعالم المتحضر. فلم تكن المدينة عند العرب هي الوحدة السياسية، ينصهر أفرادها في بوتقة المواطنة للمدينة فقط، دون أي اعتبار للانتماء القبلي، بل كانت القبيلة هي المعبر عن هذه الوحدة مثل قريش وبطونها المختلفة في مكة، وثقيف وبطونها في الطائف، والأوس والخزرج والقبائل اليهودية المختلفة في يثرب. وقد جرى عرف العرب على الانتساب للقبائل وإلى البطون ضمن القبائل لا إلى المدن، وبقيت الرابطة القبلية هي التي تنظم علاقات المكيين بعضهم ببعض حتى ظهور الإسلام. وقد أصبحت الدار التي بناها قصي لنفسه، وجعل بابها يؤدي إلى الكعبة، المقر الذي يجتمع فيه إلى سادة قريش وزعماء بطونها ووجوههم -فيما سمي باسم "الملأ" وهو يشبه مجلس الشيوخ في المدن الرومانية القديمة- وقد سمي هذا المقر باسم "دار الندوة" فيها يجتمع قصي بوجهاء بطون قريش، ويتشاور معهم في الأمور العامة. وإنما سميت كذلك لأن القوم إذا حز بهم أمر ندُّوا إليها، أي: اجتمعوا فيها للتشاور، فسميت دار الندوة، أي: دار الجماعة1. ولم يكن هنالك من أمر يهم قريشًا إلا ويحل فيها، ففيها كان يعقد لواء الحرب، إذا أقدمت قريش على حرب، وفيها يتم تجهيز القوافل وتستعد للرحيل، وفي فنائها تحط عند عودتها محملة بالبضائع، وحتى المسائل المدنية كانت تُحَلُّ فيها. يقول اليعقوبي: "وكان لا ينكح رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواء بالحرب، ولا يعذرون غلاما "يختنونه" إلا في دار الندوة"2. وفيها كانت تدرَّع الفتيات حين يبلغن سن الرشد، إذ يشق قصي قميصهن ويلبسهن لباس البالغات. ولم يكن لأحد لم يبلغ سن الأربعين -عدا بني قصي وحلفائهم من رؤساء العشائر، أو من كان مفوهًا ذا رأي ومشورة وحكمة- أن يشترك في مجلس دار الندوة "الملأ". أما قرارات مجلس دار الندوة، تلك التي لم تكن تتبع قانونا مدونا، بل كان للتقاليد والأعراف القبلية الشأن العظيم في إصدارها، فلم تكن ملزمة لجميع البطون إلا إذا

_ 1 الألوسي: 1/ 248؛ ياقوت: 8/ 423؛ أحمد إبراهيم الشريف؛ المصدر نفسه، ص115. 2 اليعقوبي: 1/ 199.

وافقت عليها بالإجماع، والبطون كانت تشذ عن تنفيذها، إذا لم تكن موافقة لمزاجها1. فالوصف الذي وصف المستشرق الأب "لامنس" به مكة بكونها جمهورية تجارية لا يخلو إذن من مبالغة. ولا يجب أن نعتقد أنها كانت جمهورية بكل ما للكلمة من معنى؛ ذلك أن النظام السياسي في مكة لا يعدو كونه اتحاد عشائر وبطون، ارتبط بعضها ببعض في سبيل التعاون لخدمة الكعبة وقصادها، ولتنظيم تجارة القوافل، يتولى تسيير أمورها نفر من رؤساء العشائر والأغنياء وذوي الجاه والنفوذ، يفصلون في الأمور حسبما يتراءى لهم أنه الصواب، وربما خفف من غلواء حرية البطون في مخالفة قرارات "الملأ" -الذي لم يكن في الواقع سوى شكل من أشكال مجالس القبائل المتحالفة في البادية- ارتباط المجتمع في مصلحة مشتركة، واعتقادهم بأن القائمين على "الملأ" إنما يتوخون المصلحة العامة، ويحرزون الثقة لنبل مقاصدهم2. حينما وضعت قريش مقاليد حكمها في يد قصي، اجتمعت إليه جميع أمورها، فله رئاسة دار الندوة، والسدانة حيث تحفظ لديه مفاتيح الكعبة، وهو الذي يفتحها للناس، ويأذن لهم بدخولها، ولا تقام فيها شعائر دينية إلا بإذنه، كما كانت له السقاية والرفادة. والأولى تقضي بتدبير ماء الشرب وحمله من آبار مكة المجاورة للكعبة، ووضعه في أحواض لسقاية الحجيج، وفي بعض الأحيان كان يحلى بالزبيب. وقد بقي ذلك إلى أن أعيد حفر بئر زمزم في عهد عبد المطلب بن هاشم بعد أن كان قد ردم. والثانية "الرفادة" تقضي بإطعام الحجيج، إذ كان قصي قد حمل قريشا على أن تخرج في كل موسم شيئًا من أموالها يخصص لتهيئة طعام يصنع للحجاج، ويقدم إليهم في منى وعرفات باعتبار أنهم ضيوف الله. ويفسر بعضهم هذا العمل بكون القصد منه ترغيب الناس بالإقبال على الحج، أو أن قريشا كانت تقصد به المؤاكلة مع القبائل العربية، تلك المؤاكلة التي تعد في عرفها بمثابة عقد جوار، فتكون قريش قد تعاقدت مع هذه القبائل برابطة الجوار والأمن، فتنال احترامها، وتحقق لقوافلها السير في أراضيها آمنة. ويظهر أن هذا التقليد ليس جديدًا في مكة إذ يروى أن عمرو بن لحي الخزاعي كان يطعم الحجيج ويقيم

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف؛ المصدر نفسه، ص112-114. 2 Emile Dermenghem: Ibi, P. 29.

لهم موائد الطعام، ولكن يبدو أن ذلك لم يصبح وظيفة مقررة إلا في عهد قصي بن كلاب1. كما لم يكن لأحد سوى قصي أن يعقد لواء الحرب، فيجتمع تحت راية قريش المحاربون، فيسلمها قصي إلى من يختاره لقيادة الجيش, وقد يتولى بنفسه هذه القيادة، أو ينيب عنه من يتولاها. ولما أسن قصي عهد لابنه عبد الدار بجميع وظائفه. وكان عبد الدار أكبر أبنائه فثابر على القيام بها في حياة أبيه وبعد وفاته2، إلى أن توفي فتولاها أولاده من بعده. غير أن أولاد عمهم عبد مناف -وكان هذا قد عظم شأنه وساد قومه في أيام أبيه، وكان له الفضل في أنه عقد حلفًا مع بعض القبائل، وهو حلف الأحابيش الذي تقدم ذكره- قد نازعوهم عليها، ورأوا أنهم أحق بتوليها لما لهم من النباهة والفضل، وكانوا أربعة هم: عبد شمس, وهاشم، والمطلب, ونوفل. فتفرقت كلمة قريش، إذ آزر قسم منها بني عبد مناف، وأيد آخرون بني عبد الدار، وبادر كل من الفريقين إلى عقد تحالف ضد الآخر. وقد سمي الحلف الذي تزعمه بنو عبد مناف باسم "حلف المطيبين" إذ أتوا بجفنة مملوءة بالطيب غمسوا أيديهم فيها، وأقسموا على التناصر والتآزر، ثم مسحوها بجدران الكعبة، بينما عقد خصومهم بنو عبد الدار مع من انضم إليهم من البطون حلفًا مهدوا له بإحضار جفنة مملوءة بالدم وغمسوا أيديهم فيها، ثم مسحوها بجدران الكعبة فسموا "الأحلاف" و"لعقة الدم". وأوشكت أن تقع بين الطرفين حرب طاحنة، لولا أن تداركها بعض العقلاء، ونجحت مساعي الصلح، وتم الاتفاق على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف, والحجابة واللواء ورئاسة دار الندوة لبني عبد الدار3. وقد اصطلح بنو عبد مناف أن تكون الرفادة لأخيهم هاشم بدلًا من أخيه الأكبر عبد شمس الذي كان مقلًّا، كثير الولد، كثير الأسفار، قلما يقيم في مكة، بينما كان هاشم رجلا موسرا، غني من التجارة "وقيل: ضربوا بالقرعة فخرجت له". وقد ساعده غناه على القيام بالوظائف الموكلة إليه خير قيام، إذ كان يخرج في كل عام مالا كثيرا، فيثرد

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص118-119. 2 محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، 1/ 41. 3 محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، 1/ 44؛ ابن الأثير: 1/ 267.

للحجاج الخبز واللحم1, والخبز والسمن والسويق والتمر، ويؤمن لهم الماء، والماء يومئذ قليل. فأكسبته هذه الفعال نفوذًا وجاهًا بين قبائل العرب، الأمر الذي جر عليه حسد ابن أخيه أمية بن عبد شمس إذ نافره وفاخره وطالب بالتحكيم بينهما، فكره هاشم أن ينافر ابن أخيه. لكن قريشًا أكرهته على ذلك، وكانت المنافرة على خمسين ناقة تنحر ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين. وجُعل كاهن من خزاعة حكمًا بينهما، فنفَّر هاشما على ابن أخيه، فأخذ هاشم الإبل وأطعمها من حضر، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، ويقال: إن هذه كانت أول عداوة وقعت بين بني هاشم وبني أمية2. إنما قد تكون هذه القصة موضوعة لتعليل خصام بني هاشم وبني أمية بعد الإسلام. ويروى عن هاشم أنه أول من نظم رحلتي الشتاء والصيف فجعلهما منتظمتين "لا تختلفان ولا تتخلفان" بعد أن كانتا قبل ذلك غير منتظمتين تمامًا، وقد نشطت التجارة في عهده، وازدهرت مكة ازدهارًا عظيمًا. وفي حوالي 510م خرج هاشم في رحلة تجارية إلى الشام، فمات في غزة عن أربعة أولاد، وكان أخوه المطلب بن عبد مناف أكبر منه ومن عبد شمس، وكان شريفا في قومه مطاعا, سيدا، وكانت قريش تسميه الفيض لسماحته، فولي بعده السقاية والرفادة. وقد احتضن المطلب ابنا صغيرا لأخيه هاشم يسمى "شيبة" حتى كبر واشتد عوده، وهو الذي عرف باسم "عبد المطلب"3. وبعد أن توفي المطلب في أثناء تجارة له إلى اليمن، ولي عبد المطلب بن هاشم بعده الرفادة والسقاية، وكان الهم الشاغل له أن يستجيب للحلم الذي كان يراود أفكار القرشيين في حفر بئر زمزم، التي كانت جرهم قد ردمتها في أثناء انسحابها من مكة، نكايةً بخزاعة لتفسد عليها أمر السقاية، فضاعت معالمها، كما تقول

_ 1 كان اسم هاشم "عمرًا" وغلب عليه لقب هاشم؛ لأنه أول من أطعم الثريد "يهشم لهم الخبز فيه". قال شاعر من العرب: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف سنت إليه الرحلتان كلتاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف 2 محمد بن سعد: الطبقات, 1/ 44-45. 3 غلب عليه لقب عبد المطلب؛ لأن عمه المطلب لما أعاده إلى مكة بعد غياب طويل قد أردفه وراءه على جمل, فلما رأته قريش قالت: هذا عبد المطلب، فأجابهم المطلب: ويحكم, إنما هو ابن أخي شيبة.

الروايات العربية، بينما يشير "درمنجهايم" إلى أن السيول التي كانت تتعرض لها مكة كثيرًا ما كانت تترك كميات عظيمة من الطمي واللحقيات فردمت زمزم مرة وطال اختفاؤها عدة أجيال1. وتضيف الروايات أن عبد المطلب قد رأى حلمًا دله على مكان زمزم فحفر فيه حتى خرج الماء. وإذ كان قد وجد آنئذ عنتا من قريش2، وحاجة إلى من يشد أزره3، نذر على نفسه بأنه إذا رزق عشرة بنين، يمتنع بهم من مثل ما لقي حين حفر زمزم، لينحرَنَّ أحدهم لله عند الكعبة. ولما تحققت أمنيته دعا أبناءه العشرة إلى الوفاء بنذره فأطاعوا، فكتب اسم كل منهم على قدح، ثم استقسم بها لدى صاحب القداح عند كبير الآلهة هبل. ولما كان قدح عبد الله أصغر أولاده وأحبهم إلى قلبه هو الذي خرج، وهَمَّ عبد المطلب بذبحه، قامت قريش كلها تهيب به ألا يفعل. وانتهى الأمر بأن رجع القوم إلى عرَّافة، أشارت عليهم بأن يضربوا القداح على عبد الله وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت القداح عليه، زادوا في عدد الإبل حتى يرضى الإله ففعلوا، ولم تخرج القداح على أقل من مائة من

_ 1 Emile Dermenghem: Ibid. P. 25. 2 تقول الروايات العربية: إنه لم يكن لعبد المطلب آنذاك سوى ابن واحد هو الحارث، فاستعان به في الحفر حتى نبع الماء، وقد وجد في البئر غزالتين من ذهب وأسيافًا, كان مضاض الجرهمي قد دفنها فيها حينما ردمها، فنافسته قريش عليها، وأرادت أن تشاركه في البئر، وفيما وجد فيها. فدعاهم إلى أمر نصف بينه وبينهم: أن يضرب عليها بالقداح، فيجعل له قدحين، ولقريش مثلهما، وللكعبة قدحين، فارتضوا رأيه وتم الاستقسام عند هبل، فتخلف قدحا قريش، وخرجت الأسياف لعبد المطلب والغزالتان للكعبة، فأثبت عبد المطلب الأسياف بابًا للكعبة، ووضع غزالتي الذهب على جانبيه حلية للبيت الحرام. "راجع: حياة محمد للدكتور محمد حسين هيكل، ص97-98". 3 أهم حادث جرى في عهد المطلب هو غزو أبرهة الحبشي لمكة في السنة التالية لزواج ابنه عبد الله "571م" التي ولد فيها الرسول. وقد زاد قريشا أهمية بين القبائل ما كان من ارتداد أبرهة عن مكة مخذولا بالرغم من أن القرشيين لم يقوموا بأي عمل إيجابي لرده عنها، ولم يطلقوا سهما واحدا في الدفاع عن حماها. وكل ما فعله عبد المطلب والقرشيون أنهم قد لاذوا بالكعبة, وأخذوا بحلقة بابها يستنصرون ربها على أبرهة, لكن ذلك لم يمنعهم من أن يمتلئوا افتخارا بما أصابوا من ظفر، وأن يدعوا لأنفسهم مكانا ممتازا بين قبائل العرب التي أخذت تنظر إليهم نظرة ملؤها الاحترام والإجلال, مما زاد في ارتفاع المكانة التي كانت لها في شبه الجزيرة، والتي كان سببها في الأساس إشرافهم على البيت الحرام، وسيطرتهم على الأسواق التجارية في الشمال.

الإبل ضحى بها عبد المطلب، ونجا عبد الله من الذبح1. ولم يلبث بعدئذٍ أن زوجه بآمنة بنت وهب بن عبد مناف "سيد بني زهرة" لكنه مات عنها وهو عائد من تجارة له إلى الشام بعيد وصوله إلى يثرب، وهي لا تزال حاملًا, وقدر لها أن تكون أمًّا لخاتم المرسلين.

_ 1 ابن سعد: الطبقات، 1/ 50.

التنظيم الإداري في مكة

التنظيم الإداري في مكة مدخل ... التنظيم الإداري في مكة: يتصف النظام الذي سار عليه الحكم في مكة بكونه قد استند على الأسس الأرستقراطية، تولى فيه المهام كبار التجار وأصحاب القوافل التجارية، وبكونه قد جمع بين الإدارة والسياسة والتجارة والدين والحرب. وقد تقاسمت بطون قريش المناصب ذات الصلة بهذه الأمور بما يشبه حكم الشورى من بعض الوجوه1، وتولتها شخصيات بارزة من كل بطن. أما هذه المناصب التي استمر وجودها حتى ظهور الإسلام فهي التالية:

_ 1 جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 1/ 38-40؛ إدوار بروي: القرون الوسطى, ص111.

السدانة

1- السدانة: وهي حجابة الكعبة والإشراف عليها، إذ توضع مفاتيحها في عهدة رجل يتولى فتحها للحجاج عند القيام بمناسك الحج الموسمية، وهو الذي يأذن للناس بدخول الكعبة، ولا تقام الشعائر إلا بمعرفته. وكانت السدانة في أيدي بني عثمان بن عبد الدار وظلت في يدهم حتى فتح مكة وإسلام قريش1. أما صاحب العقد الفريد فقد جعل السدانة والحجابة منصبينِ، والأصح في نظرنا أنهما منصب واحد.

_ 1 كانت عند فتح مكة في أيدي أولاد أبي طلحة عبد الله بن عبد العزيز بن عثمان بن عبد الدار، حتى إذا فتحت مكة أخذ الرسول المفتاح من متسلمه، وفتح به الكعبة ودخلها. ولما خرج دعا عثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وكان قد أسلم مع خالد بن الوليد في عام 7هـ بعد أن قصد الرسول والمسلمون الكعبة للعمرة, فسلمه مفتاحها قائلا: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه وتعالى، فاعملوا فيها بالمعروف خالدة تالدة, لا ينزعها من أيديكم إلا ظالم". "الفاسي: شفاء الغرام في أخبار البلد الحرام، 2/ 87".

السقاية

2- السقاية: كانت السقاية في بني هاشم، وصاحبها يتولى سقاء الحجاج لقلة الماء العذب في

مكة، فينشئ حياضًا من الجلد، توضع في فناء الكعبة، تنقل المياه إليها بالقرب من آبار مكة، وكان العديد منها قد حفر في عهد قصي1، وعهد عبد شمس2، إلى أن حفر عبد المطلب بئر زمزم. أما الماء فكان يحلى بنقيع الزبيب؛ ليستطيع الحجاج شربه لما كان فيه من غلظة. ويروى أنه كان لعبد المطلب إبل كثيرة كان يحلبها ويمزج حليبها بالعسل في حوض من أدم ويقدمه للحجاج, كما كان يشتري الزبيب فينبذه بماء زمزم، ويسقيه الحاج؛ لأنه يكسر غلظ مائها. ولما أصبحت السقاية للعباس بن عبد المطلب -وقد دامت له حتى فتح الرسول مكة- استمر على ذلك، وكان له كرم في الطائف يحمل زبيبه إليها، فينبذه في الماء لسقاية الحاج3.

_ 1 من الآبار التي حفرها قصي بئر الضحول الذي قال فيه أحد الشعراء: أروى من الضحول لمن انطلق ... إن قصيًّا قد وفى وقد صدق 2 ومما حفره عبد شمس بئر رم، وبئر خم الذي كان في ضواحي مكة "راجع ياقوت الحموي". 3 الفاسي: شفاء الغرام في أخبار البلد الحرام، 2/ 90.

الرفادة

3- الرفادة: وكانت في بني هاشم، وقد تولاها منهم, بعد هاشم، أخوه المطلب إلى أن بلغ ابنه عبد المطلب سن الرشد فتولاها بعد عمه، ثم أبو طالب بن عبد المطلب. وهي تقضي بإطعام الحجاج طعامًا تخرجه قريش من أقواتها في كل موسم، فيأكله من لا يحمل زادا من الحجاج، أو من كان معوزا منهم. وكان المقدار الذي يدفعه القرشيون من أموالهم لهذه الغاية مما يتناسب مع ثروة كل منهم، فكان هاشم يشتري بما يجتمع لديه منه دقيقًا، ويأخذ من كل ذبيحة، بدنة كانت أو بقرة أو شاة، فخذها فيجمع ذلك كله، ثم يحزر به الدقيق ويُطعمه الحاج. وقد استمر خلفاء هاشم في تقديم الرفادة للحجاج، وفعل الرسول مثلهم، وقلده في ذلك الخلفاء الراشدون، ومن أتى بعدهم من خلفاء1.

_ 1 الفاسي: شفاء الغرام في أخبار البلد الحرام، 2/ 88-89.

الراية

4- الراية: كانت لقريش راية تسمى "العقاب" فكانوا إذا أرادوا الحرب أخرجوها، فإذا

اجتمع رأيهم على واحد سلموه إياها، وإلا فإنهم يسلمونها إلى صاحبها وكان في بني عبد الدار، يتولاها منهم ذوو السن والشرف، حتى إذا كان يوم أحد قتل سبعة منهم وهم يدافعون عنها.

القيادة

5- القيادة: وهي إمارة الركب، يعتبر صاحبها كبير القواد، ويسير أمام الجيش في نفوره للقتال، أو في مقدمة الركب إذ سار للتجارة. وكانت القيادة في بني عبد شمس، تعاقب عليها بعده ابنه أمية بن عبد شمس ثم حرب بن أمية الذي قاد قريشًا في الفجارين الأول والثاني، وخلفه فيها أبو سفيان الذي حارب الرسول في يومي أحد والخندق, أما في بدر فكانت القيادة لعقبة بن ربيعة بن شمس؛ لغياب أبي سفيان في تجارة له إلى الشام.

الأشناق (الديات)

6- الأشناق "الديات": وهي من الوظائف المهمة، وكانت بيد بني تيم بن مرة. وقد ظهر الإسلام وهي في يد عبد الله بن أبي قحافة "أبي بكر الصديق". وهي تشمل دفع الديات والمغارم، إذ كانوا بعد انتهاء الحروب يقدرون الخسائر ويقررون ما يتطلبه إنهاؤها من دفع ديات وتعويضات، فيجمعون الأموال ليؤدوا ما يتوجب تأديته منها.

القبة

7- القبة: وهي خيمة كانوا إذا خرجوا للحرب ضربوها، وجمعوا فيها ما يجهزون به الجيش، وهي شبيهة بدائرة المهمات الحربية في زمننا. وكانت لخالد بن الوليد من بني مخزوم بن مرة.

الأعنة

8- الأعنة: وهي أعنة الخيل، وصاحبها يتولى خيل قريش، ويدبر شئونها في الحرب، وكانت لخالد بن الوليد.

السفارة

9- السفارة: وتتلخص وظيفة القائم بها بأن يتصل بالقبائل الأخرى، للمفاوضة أو للمنافرة إذا

اقتضى الأمر ذلك. فهو الذي يبت في شئون المفاوضة مع الخصوم، وعقد الصلح بعد الحروب والخلافات، وعقد المحالفات وغير ذلك، وآخر من كان يقوم على هذا المنصب عمر بن الخطاب.

الإيسار

10- الإيسار: وهي الأزلام، ويشرف صاحبها على السهام التي كانوا يستقسمون بها لمعرفة رأي الآلهة في أمر يستخيرونها فيه. فإذا هموا بأمر عام من سفر أو قتال، عمدوا إلى صاحب الأزلام عند هبل، يستقسمون عنده بما يشبه سحب القرعة عندنا. وكان يتولى ذلك رجل من بني جمح، وآخر من تولاها منهم صفوان بن أمية.

المشورة

11- المشورة: وصاحبها يستشار في الأمور المهمة، ولم تكن قريش تجتمع على أمر حتى تعرضه عليه. وكان هذا المنصب في بني أسد، وآخر من تولاه منهم يزيد بن زمعة بن الأسود.

الأموال المحجرة

12- الأموال المحجرة: وهي أموال كانوا يسمونها لآلهتهم، وفيها النقد والحلي، وهي تشبه بيت المال. وكانت ولايتها في بني سهم، وآخر من تولاها منهم الحارث بن قيس.

الندوة

13- الندوة: وهي الدار التي بناها قصي بجانب الكعبة، وكان الملأ من قريش يجتمع فيها للتشاور في أمور مكة المهمة، وفيها تحل جميع الأمور والمشاكل، فلا يعقد زواج إلا فيها، ولا يعقد لواء حرب، ولا تدرع جارية من قريش، أو يُختن غلام إلا فيها كما ذكرت سابقا، ومنها كانت ترحل قوافل التجارة، وفي فنائها تحط بعد رجوعها. ويعتبر المشرف عليها بمثابة رئيس مجلس شورى الدولة، أو كبير مستشاريها. وكانت رئاستها في قصي بن كلاب، ثم صارت من بعده لابنه عبد الدار، ثم في أحفاد هذا الأخير. والذي نلاحظه على بعض هذه الوظائف، أنها ليست بذات أهمية. لكن قريشا

-على أغلب الظن- قد أكثرت منها لإرضاء كل بطونها؛ تحقيقًا لمبدأ الحكم الجماعي، وخوفًا من التحاسد، وإجلالًا للكعبة والمبالغة في تعظيمها1. راجع شجرة نسب قريش في ملاحق الكتاب.

_ 1 راجع عن هذه المناصب: جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 1/ 37-39. الفاسي: شفاء الغرام في أخبار البلد الحرام: 2/ 86-91. أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص115-121.

يثرب

يثرب: ومن مدن الحجاز المهمة مدينة "يثرب" الواقعة على سهل مرتفع، وعلى بعد يقارب 500كم شمال مكة. وفي الشمال منها يقع جبل أحد ثم جبل سلع، بينما يقع في جنوبها الغربي جبل عير. وإلى الغرب منها تنحدر الأرض انحدارًا سريعًا نحو ساحل البحر الأحمر الذي يبعد عنها أكثر من بعده عن مكة. وفي جنوبها الغربي يمتد وادي العقيق فيما بينها وبين الفُرع. والفُرع من المدينة على أربعة أيام جنوبها كما يقول ياقوت الحموي. وفي العقيق آبار هي أعذب ما في تلك الديار من مياه1, وتحيط بالمدينة لابتان بركانيتان تعرفان بالحرتين، حرة واقم في الشرق، وحرة الوبرة في الغرب. ولذا فإن التربة البركانية تنتشر في أطرافها، وتجعل منها أراضيَ خصبة صالحة للزراعة2، لا سيما وأن أراضيها تتصل بوديان كثيرة تحيط بالمدينة من جهاتها الأربع، الأمر الذي يجعل منها واحة تتسرب إليها المياه السطحية الجوفية، ويؤدي اجتماعها في الأمكنة المنخفضة إلى تكوين المستنقعات، وإلى تكاثر الحميات المرزغية3. غير أن توفر المياه, وخصب تربتها قد ساعداها على الزراعة، وعلى قيام نوع من حياة الاستقرار فيها، لا سيما وأنها من المحطات التجارية التي كانت القوافل تقضي بعض الوقت فيها. كان اسمها القديم "يثرب" وقد عرفت به في الكتابات المعينية القديمة، وهذا دليل على قدمها، كما هو دليل على أن علاقات ما كانت تربطها بالدولة المعينية، وربما كانت

_ 1 ياقوت الحموي - مادة يثرب. 2 Henri Passe: L Islam. P. 8. 3 E. Dermeughem: Ibid. P. 24.

من مستعمرات الدولة، وقد تكون سكنتها جاليات معينية ثم سبئية. وقد عرفت أيضًا باسم "مدينتا" -وهي كلمة تعني الحمى, أي: المدينة- وعلى رأي المستشرقين أن اليهود المتأثرين بالثقافة الآرامية، أو متهودة بني إرم هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم1. ومما جاء في بعض المصادر العربية أن لها أحد عشر اسمًا في التوراة منها: المدينة وطيبة وطابة والعذراء، وأن في صحيح مسلم حديثا عن الرسول: " إن الله تعالى سمى المدينة طابة " أو في حديث آخر له في الصحيحين: "هي المدينة يثرب" 2. واسمها يثرب ورد في القرآن الكريم3, وهو الاسم الذي كانت تعرف به قبل ظهور الإسلام, وقد سماها بعض المؤرخين القدامى "أم قرى المدينة". أما تاريخ يثرب، فإن الغموض يكتنفه من جميع جوانبه، ولا يستطيع المؤرخ أن يثق بما أورده المؤرخون العرب عن تاريخها فيما قبل القرن الأول الذي سبق ظهور الإسلام، بينما يمكن تتبع أخبارها منذ بداية القرن السادس الميلادي؛ لقرب هذه الفترة من حوادث السيرة النبوية. وأول ما تذكره الروايات القديمة أنها واحة, كان العمالقة أول من سكنوها، ثم تغلبت عليها بعض القبائل اليهودية واستقرت إلى جانبهم. والمعلومات عن هجرة اليهود إلى يثرب غامضة. وفي الكتب العربية روايات عنها هي أقرب إلى الأساطير والخرافات. تقول بعض الروايات: إن موسى لما أظهره الله على فرعون وطئ الشام وأهلك من بها، وبعث بعثا من اليهود إلى الحجاز وأمرهم بألا يستبقوا من العماليق أحدا بلغ الحلم، فقدموا عليهم فقتلوهم مع ملكهم4. غير أن هذه القصة لا يعرفها اليهود أنفسهم، كما يقول ابن خلدون، وهي لا تعدو كونها من الأساطير التي اعتاد أخباريو العرب على تلفيقها، وقد رفض الأخذ بها المؤرخ الإسرائيلي الحديث "إسرائيل ولفنسون".

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص290. 2 الشيخ محمد بن محمود النجار: الدرة الثمينة في تاريخ المدينة، ص323. 3 الآية "13" من سورة الأحزاب: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُم} . 4 الشيخ محمد بن محمود النجار: الدرة الثمينة في تاريخ المدينة، ص323، ياقوت الحموي مادة يثرب.

والواقع أنه ليس ثمة من دليل تاريخي على قدوم اليهود إلى بلاد العرب قبل القرن الأول الميلادي. وربما يكون مجيئهم إلى شمالي الحجاز وقت أن نكل بهم الرومان في عام 70، عندما قاموا بثورة ضدهم، وبعد أن سيطرت روما على الشرق العربي قبيل منتصف القرن الأول قبل الميلاد. وعلى كل حال وجد منهم في يثرب قبائل يهودية عرفت أخبارها وعلاقاتها مع عرب المدينة في القرن الأول الذي سبق ظهور الإسلام. وهي قبائل بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. ويشك بعض المؤرخين في كون القبائل اليهودية في يثرب يهودية الأصل حقًّا، أو في أنها جاءت من خارج الجزيرة العربية، فاليعقوبي يقول عن بني النضير بمناسبة الوقعة التي أوقعها بهم النبي: "ثم كانت وقعة بني النضير وهم فخذ من بني جذام, إلا أنهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له: النضير فسموا به"1، وكذلك كان رأيه في بني قريظة؛ غير أن الذي عليه عامة المؤرخين، أنهم قدموا من خارج الجزيرة العربية، وأنهم يهود في الأصل، وأن أسماءهم وإن كانت عربية، إلا أن أسماء آبائهم وجدودهم عبرية، وأن الرطانة العبرية كانت تبدو على لسانهم عندما كانوا يتكلمون العربية، كما أن النسابين العرب لم يذكروا أية قبيلة من قبائل اليهود في المدينة أو في غيرها ضمن الأنساب العربية، ولم يحاول اليهود أن يفعلوا ذلك أيضا، لا بل كانوا يحرصون على نسبة أنفسهم إلى الإسرائيليين2. نزل اليهود يثرب، وقد أتوا إليها -على أغلب الظن- متفرقين خلال فترات متفاوتة. لكنهم تكاثروا فيما بعد في غربيها وجنوبيها، وعلى الطريق المؤدية منها إلى الشام. وأما القبائل التي سكنتها منهم فهي قبائل بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وقد قدر عدد رجالها البالغين بحوالي ألفين، بينما ذكر بعض المؤرخين أن أكثر من عشرين بطنًا آخرين، كانوا يسكنون في جوارها، أو في جوار القبائل العربية في يثرب. وقد ذكروا بعض أسماء هذه القبائل، ومنها بنو محمحم، وبنو زعورا وبنو ثعلبة وغيرهم ... والمعتقد أنها بعض بطون من القبائل اليهودية الأخرى سكنت في ضواحي المدينة، وفي القرى القريبة منها.

_ 1 اليعقوبي: 2/ 36. 2 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص301.

وقد احتك اليهود بالعرب المقيمين في المدينة، وتحدثوا باللغة العربية، وقال بعضهم الشعر بها، وتسموا بالأسماء العربية، وتأثروا بنظم العرب الاجتماعية وبتقاليدهم وعاداتهم، أو بالأحرى اندمجوا فيها اندماجًا ظاهريًّا، غير أنهم قد انعزلوا عنهم في سكناهم، وعاش بعضهم مع بعض عيشة التكتل، لهم أحياؤهم الخاصة، لا يساكنون فيها غيرهم، جريا على عوائدهم، وابتنوا لأنفسهم "آطامًا" "حصونًا" وقلاعًا، وقرى محصنة في مرتفعات يثرب، وعلى قمم التلال المجاورة لها، أو في القرى المنتشرة على الطريق المؤدية إلى الشام، وأخصها بالذكر خيبر وفدك وتيماء، نقلوا فكرة بنائها من فلسطين، الأمر الذي يدل على أن علاقاتهم مع العرب لم تكن هادئة مستقرة، وأنهم لم يطمئنوا إلى العرب كل الطمأنينة، بل كانت تقع بين الطرفين بعض الحوادث التي كانت تضطرهم إلى إقامتها، للاحتماء فيها إذا داهمهم مهاجم. لم تكن الحواضر العربية -عندما قدم اليهود إليها- خالية من السكان، كما يدعي المؤرخ اليهودي إسرائيل ولنفسون، إنما كانت يثرب وبقية المراكز الواقعة في شمالها مأهولة بقبائل وبطون عربية كان لبعضها شأن كقبيلة غطفان التي اضطر يهود خيبر لمحالفتها للاحتماء بها، كما ساكن اليهود في يثرب بطونا عربية من اليمن، ومن بلي وسليم وغسان1. غير أن اليهود الذين ازداد تقاطرهم، ما لبثوا أن أصبحوا مع الزمن أكثرية سكان يثرب، فانفردوا في شئونها، إذ لم تكن البطون العربية القليلة فيها على شيء من القوة، فعايشت اليهود الذين كانوا آنئذٍ أصحاب الثروة والنفوذ، وخضعت لهم وأدت لهم الخراج كما قال قائلها: نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج بني قريظة والنضير2 وليس معنى ذلك أن اليهود عندما قدموا إلى يثرب قد استقروا فيها دون مقاومة، بل إن المقاومة الشديدة التي صادفوها من سكانها الأصليين قد حملتهم -بعد أن سيطروا

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص308، 320-321؛ الشيخ محمد محمود النجار: المصدر نفسه، ص325. 2 ياقوت الحموي - مادة يثرب.

عليها- إلى بناء الآطام والقلاع؛ ليحتموا فيها منهم. ثم بدءوا في استثمار الأراضي الخصبة في الزراعة. كان لليهود أثر اقتصادي مهم في يثرب، بإقامتهم الضياع في المنطقة المحيطة بيثرب وكانت ملائمة للزراعة، لخصب أراضيها، وتوفر المياه فيها، وقد اتسعت مراكز سكناهم على مناطق واسعة، وصلت حتى تبوك المجاورة لحدود بلاد الشام. وليس معنى ذلك أن العرب لم يعرفوا الزراعة قبلهم، فقد ذكر ياقوت الحموي أن أول من زرع بالمدينة، واتخذ بها النخل، وعمر الدور والآطام، واتخذ بها الضياع العماليق. وقد مارس اليهود مختلف الصناعات، كالصياغة وصناعة الأسلحة، والاهتمام بالتجارة، وسيطروا بذلك على زمام الأمور الاقتصادية في المدينة، لا سيما وأنهم قد امتهنوا الصيرفة والإقراض بالفائدة الفاحشة "الربا" وأثروا إثراء عظيما، وكثر عددهم حتى غلبوا على يثرب جنسيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. وما زال هذا شأنهم، حتى قدمت إلى يثرب قبائل عربية هجرت الجنوب اليمني لأسباب اقتصادية سيئة، من تدني مستوى النشاط الزراعي والتجاري، ولأسباب سياسية من تنازع أقيال اليمن بعضهم مع بعض، ومن إلحاح الأحباش على غزو اليمن، وكانت هجرتهم إلى الحجاز بعامة، وإلى المدينة بخاصة متقطعة. وأشهر هذه القبائل الأوس والخزرج من الأزد، وينسبها النسابون إلى عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، فهم وغساسنة الشام أبناء عم، وربما قدموا معا من اليمن، وتفرقت كل فئة منهم في جهة. ومن الصعب تحديد الفترة التي جرت فيها هذه الهجرة، فقد تكون -بحسب استنتاجات المؤرخين المحدثين- في أواخر القن الرابع الميلادي. وقد قامت بين العرب القادمين وبين اليهود علاقات طيبة في أول الأمر، إذ لم يكن عدد القادمين مما يخيف اليهود، ووجد العرب أن الأموال والآطام والعدد والقوة بيد اليهود، فقنعوا مضطرين بسماح اليهود لهم بمجاورتهم. كما فكر اليهود بالاستفادة من خبرة العرب بالزراعة -وأصلهم من اليمن المعروف بزراعته النشيطة- فاتخذوا منهم عمالًا ومساعدين لهم في أعمالهم الزراعية1. لا بل عقد الطرفان فيما بينهم حلف جوار يأمن به

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص324-325.

بعضهم من بعض1، فأتاح هذا الحلف للعرب أن يتعاملوا مع اليهود، وأن يعملوا معهم جنبًا لجنب في الزراعة والتجارة؛ فأثروا وازداد عددهم، وراحوا ينظمون أنفسهم، فلم يلبث اليهود أن نقضوا العهد الذي يربطهم بهم، إذ رأوا فيهم خطرًا يهدد مصالحهم ومستقبلهم، وخافوا أن تزداد قوة العرب، ويشتد ساعدهم، فيهددوا نفوذ اليهود، فأخذوا للأمر عدته، وعادوا إلى سلوك سياسة الاستبداد وناوءوا الأوس والخزرج، وحاولوا تقليم أظافرهم. عندئذٍ ظهرت الفتن والعداوات بين الطرفين، ولما أدرك العرب أن لا قِبَلَ لهم بمجابهة اليهود، إذ كانوا أكثر عددًا وأقوى استعدادًا، أقاموا في منازلهم، وخافوا أن يجليهم اليهود عن المدينة، ثم اتصلوا بأبناء عمهم الغساسنة في الشام -وكان زعيم العرب في يثرب آنذاك مالك بن العجلان من الخزرج- فأتاهم أمير من غسان يسمى "أبو جبيلة" بقوة كبيرة، فأعمل الحيلة في استدراج زعماء اليهود، وفتك بهم كما تقول الرواية العربية، فضعف بذلك نفوذ اليهود، وتقلص عن الحياة السياسية والاجتماعية في يثرب، ليقوى نفوذ الأوس والخزرج بالمقابل، وزاد عدد الآطام التي ابتنوها، حتى أصبح لبطن واحد فقط منهم 19 أطمًا، بينما كان لليهود ما يقارب 59 أطمًا. غير أن اليهود بدءوا من ذلك الحين يحاربون القبيلتين حربًا خفية، بالدس والوقيعة بينهما، وقد استغلوا ما بينهما من تنافس قد انقلب بعدئذ إلى عداوة، ذلك أن أسبابا عديدة قد حملت القبيلتين على التنازع، منها ما هو سياسي، يتلخص بالتنافس على الرئاسة واحتلال مركز الصدارة في يثرب، لا سيما وأنه كان لزعيم الخزرج مالك بن العجلان شرف الانتصار على اليهود، فاعتزت بهذا الانتصار، ونافستها الأوس على هذا الفخر. ومنها ما هو اقتصادي يتلخص في كون الأوس -الأكثر عددًا من الخزرج- قد استطاعوا الاستيلاء على بقاع من الأرض أكثر خصبا، وأغنى من الجهات التي نزلها الخزرج، فنافستها الخزرج على ذلك، فعمل اليهود على تشجيع عوامل الفرقة، وإذكاء روح التحاسد بين القبيلتين؛ لكي يضعفوهما2. وما زالوا كذلك حتى حملوا القبيلتين على الاصطدام، فاحتربتا حروبًا لم تنتهِ إلا قبيل قدم الرسول مهاجرًا إلى المدينة.

_ 1 الشيخ محمد بن محمود النجار: المصدر نفسه، ص326. 2 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، 332، 337-339.

وكانت كل من القبيلتين تتحالف مع بعض القبائل العربية الأخرى, من خارج المدينة، أو حتى مع قبيلة أو أخرى من قبائل اليهود في المدينة، إذ كان التناقض والتنافس فيما بين هذه القبائل لا يقل عما كان من تنافس وتنازع فيما بين الأوس والخزرج، وكل قبيلة ترمي من وراء عقد المحالفات إلى تقوية نفسها، وضمان النصر على منافستها. وقد حالفت الخزرج بني قينقاع، بينما تحالفت الأوس مع بني قريظة. وأشهر الحروب التي وقعت بين الطرفين هي المعروفة بيوم سمير ويوم السرارة ويوم حاطب ويوم بعاث، وكان النصر فيها سجالًا بين الأوس والخزرج. ويمتاز يوم سمير بكون أسبابه تعود إلى التنافس السياسي والاقتصادي بين القبيلتين، ذلك أن حليفًا لمالك بن العجلان زعيم الخزرج قد فاخر به أمام جمع من الناس في سوق بني قينقاع، وفضله على أهل يثرب جميعا1, فغافله رجل من الأوس يسمى "سمير" فقتله، فطالب مالك بن العجلان بديته، واختلف الطرفان في مقدار الدية أتكون دية الصريح كما زعم مالك، أم دية الحليف وهي نصف دية الصريح كما زعمت الأوس، وأصر الجانبان على موقفهما، فوقعت الحرب بينهما ولم تنته إلا بتحكيم المنذر النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت، أو ثابت بن المنذر والد حسان، بحسب رواية الأغاني، الذي قضى لمالك بن العجلان بدية الصريح إرضاء له، على أن يعود الأمر بعد ذلك إلى السنن المعروفة2. ولما رفضت الأوس الإذعان لهذا التحكيم أخرج الحكم من ماله نصف الدية، وأرضى بذلك الطرفين المتنازعين. أما السبب الاقتصادي فسيرد شرحه في بحث أيام العرب. وكان يوم بعاث3، الذي حدث في السنة الخامسة قبل الهجرة، آخر وقائع هذه

_ 1 وتفصيل الحادثة أن رجلًا من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان يسمى كعبًا نزل على مالك بن العجلان سيد الخزرج فحالفه وأقام عنده، فخرج يومًا إلى سوق بني قينقاع فرأى رجلًا من غطفان معه فرس، وهو يقول: ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب، فقال كعب: "مالك بن العجلان" وقال آخر: فلان من القبيلة الفلانية، وقال ثالث: "فلان اليهودي" ... ورابع وخامس ... فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان فقال كعب: "ألم أقل لكم إن حليفي مالكًا أفضلكم؟ " فترصده رجل من الأوس وقتله. 2 ابن الأثير: الكامل، 1/ 402-403، الأغاني: 3/ 886-887. 3 كانت الحرب في يوم بعاث أوسع نطاقًا بالمحالفات الخارجية التي عقدها كل من الطرفين. وقد تلقت الأوس مساعدات من بني قريظة وبني النضير اليهوديتين، وقتل زعيم الخزرج فيها. وقد امتازت الحرب بأن كلًّا من الطرفين كان له شعراء يمجدون أعماله فيها، ويتغنون بانتصاره. فبينما وقف حسان بن ثابت بجانب الخزرج يدافع عنهم بشعره، وقف إلى جانب الأوس شاعرها قيس بن الخطيم.

الحروب، إذ أدرك رجال القبيلتين مغبة الحرب بينهما، واستفادة اليهود من نزاعهما المستمر؛ لاستعادة نفوذهم في يثرب وبسط سيطرتهم عليها، لا سيما أن العرب قد أدركوا ما كان من مكر اليهود وحيلهم، وما كانوا يحيكون من دسائس للوقيعة بين القبيلتين، فصاروا يطلقون عليهم تسمية "ثعالب". لقد ألحقت الحرب في يوم بعاث بالقبيلتين أضرارًا جسيمة، إذ أصابت الزروع والممتلكات بأضرار جسيمة نتيجة القطع والتخريب والتحريق، وقتل عدد كبير من رجال القبيلتين بينهم وجهاء وزعماء بارزون، فاتجهت أفكار الطرفين إلى وضع حد للمآسي التي أضعفت العرب، وإحلال السلام والوئام في يثرب، لينصرف كل إنسان إلى عمله ويتذوق السكان راحة الهدوء والطمأنينة. كان النصر في هذه الحرب للأوس وحلفائها من يهود بني النضير وبني قريظة. فلما أدركت تصميم حلفائها اليهود على التنكيل بالخزرج، وعلى تحطيمهم وإذلالهم، وخشيت أن ينفردوا بها بعد ذلك، آثرت أن تلتزم الاعتدال، فتكف عنهم وتتحاشى إفناءهم، وأن تكتفي بما حققته من قضاء على روح التسلط فيهم، إذ رأت أن جوارهم خير لها من جوار "الثعالب". وعلى العموم فإن يوم بعاث قد أضعف جميع قبائل وبطون العرب في يثرب، فاشتد ميلهم إلى الاتحاد. واستجاب كل من الطرفين لداعي الوفاق، وكان أحد زعماء الخزرج وهو عبد الله بن أُبَيّ بن سلول قد وقف موقفا حياديا من الحرب، فاتجهت إليه الأنظار كي يكون واسطة للتجميع وحل النزاع1، واتفق الجميع على تتويجه ملكًا على المدينة، ولم يمنع من تحقيق ذلك سوى قدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة مهاجرا. فحقق من وحدة العرب جميعا ما عجز عنه العرب من قبل.

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص341-343.

الطائف

الطائف: وهي ثالث مدينة مهمة في الحجاز، وكانت تسمى "وج" نسبةً إلى أحد رؤسائها من العمالقة كما يروى، ويزعم الرواة أنه أخو أجأ الذي سمي به جبل طيء. و"وج" هو واديها الذي يقول فيه الشاعر: سقيًا لوج وجنوب وج ... واحتله غيث دراك الثج1 وتقع الطائف في مرتفع من الأرض على بعد 100كم تقريبًا "12 فرسخًا كما يقول ياقوت الحموي" إلى الجنوب الشرقي من مكة. وتتمتع بمناخ بارد شتاء، ربما تجمد المياه فيها خلاله، ومعتدل صيفًا مما جعلها مصيفًا لأهل مكة ولغيرهم من العرب، لا سيما وأنها واحة غنية بمياهها العذبة وتربتها الخصبة، وببساتينها وحدائقها التي تفيض بالفواكه والثمار. يقول ياقوت الحموي: "الطائف ذات مزارع ونخل وأعناب وموز وسائر الفواكه، وبها مياه جارية وأودية تنصب منها إلى تبالة، وجل أهل الطائف من ثقيف وحمير وقوم من قريش، وهي على ظهر جبل غزوان، وبغزوان قبائل هذيل"2. كما يقول: إن بيوتها لاطئة حرجة، وفي أكنافها كروم على جانب ذلك الجبل، فيها من العنب العذب ما لا يوجد مثله في بلد من البلدان، وأما زبيبها فيضرب به المثل، وفواكه أهل مكة منها، وكان للطائف عدا ذلك موقع تجاري ممتاز بوقوعها بالقرب من الأسواق التجارية الحجازية لا سيما سوق عكاظ. وكانت صلاتها متينة بأهل مكة الذين كان لهم فيها عقارات وأراضٍ زراعية، كما كان أثرياؤهم يوظفون أموالهم في تجارة أهلها. وقد نالت الطائف من الغنى والازدهار؛ نتيجة اشتغال أهلها بالزراعة والتجارة، ما جعلها تضاهي مكة أهميةً حتى كان يقال لهما "المكتان" أو "القريتان". وفي القرآن الكريم إشارة إلى ذلك في قوله تعالى، منوهًا باستكبار المشركين أن يبعث محمد رسولًا، بينما في مكة والطائف من هم في زعمهم أكبر حظا منه: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى

_ 1 الألوسي: 1/ 91، والثج: الصب الكثير. 2 ياقوت الحموي: مادة الطائف.

رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} 1، ويقصدون بالرجل العظيم أحد اثنين: الوليد بن المغيرة من مكة، أو عروة بن مسعود الثقفي من الطائف. وقد سكنت الطائف قبيلة ثقيف، التي أثرت من الزراعة والتجارة إثراءً عظيمًا، وخشيت على ثروتها من غزو الطامعين من الأعراب الذين يقيمون حولها، ويهددون بغزوها بين حين وآخر، فبنت -كما تقول الرواية- سورًا "طائفًا" حول المدينة يحميها من جميع جهاتها فسميت "الطائف". ولياقوت الحموي رواية أخرى عن هذه التسمية تقول: إن تاجرا كبيرا من حضرموت يقال له الدّمّون أتى أهلها ومعه مال كثير، فقال لهم: "أحالفكم لتزوجوني وأزوجكم، وأبني لكم طوفًا عليكم، مثل الحائط لا يصل إليكم أحد من العرب"2.

_ 1 سورة الزخرف: 31. 2 ياقوت الحموي: معجم البلدان، مادة الطائف. يقول أبو طالب بن عبد المطلب: منعنا أرضنا من كل حي ... كما امتنعت بطائفها ثقيف أتاهم معشر كي يسلبوهم ... فحالت دون ذلكم السيوف

الفصل التاسع: الحياة السياسية في البادية العربية

الفصل التاسع: الحياة السياسية في البادية العربية مدخل ... الفصل التاسع: الحياة السياسية في البادية العربية إذا اعتبرنا التنظيم السياسي بمثابة الدولة أو الحكومة التي تنبثق عن إرادة الشعب، لتحكم وفق ما يؤمن المصلحة العامة لمجموع الأمة، بواسطة مؤسسات تلتزم كل منها بالنظر في نوع معين من الاختصاص، فإننا لا نرى مثل ذلك التنظيم عند القبائل، التي كانت تعيش في بوادي شبه الجزيرة العربية. كل ما في الأمر، أن القبائل العربية كانت تتصور الدولة على أنها القبيلة، فتكرس ولاءها لها، ولا ولاء تكرسه لغير القبيلة. فالقبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي تتقمص صفة الدولة، وتقوم بمهامها في البادية، لا دستور لها مكتوب، ولا قوانين مقننة، ولا نظم تشرعها مجالس، اللهم إلا تقاليد وأعراف متوارثة راسخة، فرضتها على الجميع طبيعة الحياة في البادية، فالتزم القوم بها التزامًا دقيقًا. ويرتبط أفراد القبيلة برابطة تقوم على أساس وحدة الدم ووحدة الجماعة1، والإيمان بهذه الوحدة والتعصب لها هو ما يطلق عليه اسم "العصبية القبلية"، فالعصبية القبلية هي بمثابة الشعور القومي في عرف البدوي. وتتوسع هذه العصبية في الأحلاف، فتشمل القبائل والعشائر بالنسب أو بالجوار أو الداخلة في الحلف2. وباعتبار أن شبه الجزيرة كانت تضم عشرات من القبائل, لكل منها عصبيتها الخاصة، فإن مجتمعًا هذا شأنه لا يمكن أن تظهر فيه نزعة قومية شاملة، بالرغم من كون القبائل العربية كلها تعيش في محيط جغرافي واحد، وتجمع ما بينها تقاليد وعادات واحدة، وتدرك أنها تنتمي إلى قوم واحد، وجنس واحد، وتتكلم لغة واحدة تتعصب لها

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص32. 2 جواد علي: 4/ 212.

وتصف ما سواها باللغات الأعجمية. وليس مرد فقدان النزعة القومية عند العرب آنذاك إلا لضعف الوعي السياسي في نفوسهم، وانحصاره في أفق ضيق محدود، لا تتجاوز حدوده حدود القبيلة. ولم يكن لدى البدوي مفهوم الوطن الشامل، الذي يضم هذه الوحدات المتجانسة في تركيبها الاجتماعي، المتنافرة في علاقاتها السياسية. كل ما يفهمه أن الأرض التي تنزل فيها هي وطنه، فإذا تركها وانتقل إلى غيرها، أصبحت وطنًا لقبيلة جديدة تحل محل قبيلته فيها، ويصبح له وطن جديد في أرض جديدة تحتلها قبيلته، وكل ما هو خارج هذه الأرض هو بالنسبة إليه في حكم الأرض الأجنبية، وكل من ينتمي لغير قبيلته هو في حكم الأجنبي الغريب عنه، فوطن البدوي وطن متنقل يتبدل باستمرار. على أن ضيق المعاش في أرض قاحلة كشبه جزيرة العرب، كان يدفع القبائل إلى البحث باستمرار عن الماء والكلأ، وإلى تنافس القبائل عليهما، فتقع الحروب والغارات بينها، وتضطرب شبه الجزيرة وتمور بمنازعات دامية لا نهاية لها، كل منها تقاتل وتحارب لتنتزع من غيرها ما تحت يدها من مراعٍ بقوة السيف، فيما يسمى "شريعة الغاب"1. وقد فرضت ظروف الحرب الدائمة بين القبائل، وبحثها عن موارد الرزق الشحيحة، أن يكون للقبيلة زعيم ترتضيه لقيادتها وإدارة شئونها الحربية والاقتصادية، رجل يستطيع بسجاياه وكفاءته أن ينتزع الاعتراف بتقدمه وسيادته عن رضًا وطيب نفس، والحرب في الحقيقة خير مناسبة لظهور كفاءة الرجال وبروز الزعامة؛ لحاجة القوم إلى من يستطيع أن يسدد خطاهم نحو النصر. كان لكل قبيلة رئيس يسمى شيخ القبيلة, وكي يتولى رئاستها لا بد من أن تتوفر فيه بعض الصفات المثلى الضرورية للمجتمعات القبلية، والتي يستطيع بها أن يحقق مصالح القبيلة وأن يسودها، كالشجاعة والغنى والكرم والحلم والعدل وكثرة الأنصار وسداد الرأي وكمال التجربة مع كبر السن على الغالب.

_ 1 جواد علي: 4/ 124-215.

فباعتبار أن المجتمع مجتمع نزاع دائم وغزو مستمرّ، فالشجاعة والمواهب من أولى الصفات التي يجب أن تتوفر في الرئيس؛ لكي يستطيع أن يحقق النصر تلو النصر لقبيلته. ثم هنالك الثروة والكرم، فهما خلتان ضروريتان في بيئة فقيرة، إذ لا بد للرئيس أن يكون على شيء كثير من الغنى، يستطيع معه الإنفاق عن سعة على أتباعه في أوقات الشدة والمجاعات. ولا تستقيم الرئاسة والغنى مع البخل، وإلا تعرض الرئيس للهجاء والمذمة وربما فكر القوم بالاستغناء عنه، كما يقول زهير بن أبي سلمى: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يُستغنَ عنه ويُذممُ والحنكة السياسية لا بد منها للرئيس؛ ذلك أن رؤساء القبائل هم رجال السياسة في دنيا البادية. ففي محيط القبيلة يتحتم على الرئيس أن يحافظ على وحدة قبيلته وتماسكها، فيراعي مكانة وجهاء قبيلته ورؤساء بطونها، ويظهر لهم الاحترام، ولا يمس شعورهم بشيء يكرهونه، لا سيما إذا كان فيهم من تدفعه قوة شخصيته، ومقدرته العقلية، وشجاعته إلى منافسة الرئيس، والطموح إلى الحلول مكانه. وعليه أيضا أن يداري إخوته وذوي قرباه، فغلطة واحدة قد تؤدي إلى حدوث شقاق في القبيلة، فتتصدع وحدتها، وتحترب بطونها، فتنفرط وتتبعثر. ولعل المسايرة وتغابي الرئيس والتظاهر أحيانا بقلة الإدراك، فيتغاضى عن بعض الهفوات التي تصدر عمن يحيطون به، قد تكسبه احترامهم ومحبتهم، كما يقول الشاعر: ليس الغبي بسيد في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي وفي علاقاته مع القبائل الأخرى يتوجب عليه أن يكون حكيمًا لبقًا بعيدَ النظر، فرب هفوة واحدة تصدر منه تثير حربًا تتطاحن فيها عدة قبائل، أو تسبب كارثة لقبيلته، أو للحلف الذي يتزعمه1. ولعل الحلم من الصفات التي تجعل الرئيس موضوع تقديس أكثر من غيرها، في مجتمع فرضت ظروفه على الأفراد طبعا حادا ومزاجا عصبيا، سرعان ما يلجئهم إلى الاحتكام لحد السيف عند أقل إثارة، فتقوم المنازعات الدموية لأتفه الأسباب. إن في

_ 1 جواد علي: 4/ 215.

بيئة مثل هذه يسودها الطيش والرعونة لا بد أن يكون الرئيس على قسط وافر من الحلم والحكمة؛ ليستطيع السيطرة على جهالة الجهال. وأخيرًا لا بد أن يكون الرئيس على قسط كبير من العدل؛ لكي يكون محترمًا من الجميع، باعتبار أنه -في كثير من الأحيان- يكون الحَكَم الذي يرجع القوم إليه في المنازعات1 التي تشجر بين أفراد القبيلة، ولكي يكون حكمه نافذًا على الجميع.

_ 1 الخلافات التي قد تنشب بين أعضاء القبيلة الواحدة على ملكية شيء ما تسوى في المجالس اليومية. أما حين ينشب الخلاف بين أفراد ينتسبون إلى قبائل مختلفة، فيلجأ المختصمون إلى رجل مشهود له بالتعقل والحكمة، أو إلى امرأة تتمتع بهاتين الميزتين، وغالبًا ما يكون الحكم كاهنا أو عرافا، ولكن الحكم لا يكون ملزما للمختصمين إلا إذا ارتضاه الخصمان، أو حتمه تفوق أحدهما على الآخر بقوة بأسه. "بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، 1/ 19".

شكل الحكم

شكل الحكم: أما كيفية ممارسة الشيخ لسلطاته, فيغلب عليها النهج الديمقراطي، ذلك أن الفرد في القبيلة له مكانة مرموقة، وليس شيئا تافها عديم الأهمية. بل قد يؤدي قتل فرد من أفرادها على يد فرد من قبيلة أخرى إلى حرب بين القبيلتين أخذًا بثأره؛ لأن أهمية القبيلة تكون بقوة أفرادها وكثرة عددهم. ولذلك وجب على الرئيس ألا يمارس على أفراد قبيلته سلطة دكتاتورية مستبدة طاغية، بل وجب عليه أن يسود قبيلته بالتشاور مع رؤساء وزعماء بطونها وذوي الرأي والمشورة من أبنائها، بحيث يضمهم مجلس يسمى "مجلس القبيلة" الذي ينبغي عليه أن يجتمع كلما دعت الضرورة إلى اجتماعه. ومع ذلك يمكن القول: إنه كان للرئيس نفوذ كبير على قبيلته، إذ كانت كلمته مطاعة من الجميع, يتبعون رأيه فيوجههم أنَّى شاء، يقيمون بإقامته ويظعنون بظعنه، وإذا دعاهم للحرب لا يتأخرون. وللرئيس حقوق أدبية: معنوية ومادية على أفراد قبيلته مثلما عليه واجبات نحوهم. فلقاء ما يبذل من جهود لتأمين مصالحهم وتدبير معاشهم ورفع مكانتهم، وجب عليهم -كما يقول ابن خلدون- أن يوقروه ويجلوه ويحترموه1، وأن يرضوا بما يخص به نفسه من

_ 1 مقدمة ابن خلدون ص127.

حصص في الغنائم التي تحصل عليها القبيلة في الغزوات والحروب، وأن تكون له منها حصة الأسد: يأخذ النشيطة "ما تصيبه في طريقها إلى الغزو" والصفية "ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة" والمرباع "ربعها" والفضول "ما يفضل منها بعد قسمتها فيهم ولا يمكن تقسيمه، كالبعير الواحد أو الشاة الواحدة". وهو يعتبر ذلك كله حقًّا من حقوق رئاسته وسيادته للقبيلة، يعده لما يطرأ من النوائب، وما يتحمل من التبعات المالية1، فيفي بما يوجب عليه الكرم والجود من موجبات هي في أخلاق البادية فرض واجب على الزعيم والرئيس. وقد جمع أحد الشعراء ما يصيب رئيس القبيلة من الغنيمة في بيت واحد من الشعر: لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول وعلى الرغم من أن تولي الرئاسة يكون قائما على مبدأ الانتخاب، لكنه ليس انتخابا بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل هو أشبه بالاختيار التلقائي، إذ يفرض الرئيس نفسه على قبيلته بما وهب من صفات ذكرناها. ومع أن الحكم في القبيلة وراثي، ينتقل في الغالب إلى أكبر أبناء الرئيس، فإنه كثيرًا ما يتعين على الابن أن يحقق هذه الزعامة لنفسه بأن يقيم الدليل2 -مستقلا- على شدة بأسه وقوة مراسه، ولا يتنكر في سلوكه للصفات التي يجب أن تتوفر لرئيس القبيلة حتى يسودها ويدير شئونها، كما يفصح عن ذلك عامر بن الطفيل أحد زعماء القبائل في الجاهلية3: وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب فما سودتني عامر عن وارثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب4

_ 1 الشيخ محمد الخضري: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية، 1/ 38. 2 بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية, 2/ 18؛ دائرة المعارف الإسلامية, مادة "بدو". 3 المسعودي: مروج الذهب، 2/ 29. 4 أو كما يقول شاعر آخر: لسنا وإن كرمت أوائلنا ... يومًا على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثلما فعلوا

غير أنه لا بد للقبيلة، ممثلةً بمجلس زعمائها، أن ترضى غالبًا بابن رئيسها الراحل، زعيمًا وشيخًا للقبيلة. يقول ابن خلدون: إنه من النادر أن تستمر رئاسة القبيلة في أكثر من أربعة آباء في العقب الواحد. ويعلل ذلك بأن الفضائل التي يتحلى بها الرئيس الأول، والتي تخوله السيادة والسيطرة، لا تلبث أن تنحل رويدا رويدا كلما تولى واحد من أعقابه المتتالين، إلى أن تضمحل تلك الفضائل في السيد الرابع، فتحتقر القبيلة شأنه، وتستبدل به سواه من تلك القبيلة1. غير أن ما يذكره ابن خلدون لا يمكن أن يعتبر قاعدة، فقد يأتي من أبناء وأحفاد الرئيس من هم أقدر وأجدر بالحكم من أبيهم أو جدهم. وقد تمتد سلطة الرئيس إلى قبائل أخرى يجمعها تحت لوائه بالحلف أو الجوار؛ فتزداد قوته ويتسع نفوذه، وقد يكون العكس فتنقسم قبيلته بعد موته، فيتولى كل ولد من أولاده بطنًا من بطونها. وللأحلاف التي انعقدت بين مختلف القبائل العربية قبل الإسلام أهميتها، من حيث كونها بداية تجمع، قد استُغل مرارًا لتشكيل عدد من الدول "دولة الحيرة، دولة كندة" ذلك أن القبائل العربية قد شعرت بضرر العزلة وخطورتها، وأدركت ألا سبيل إلى أن تحافظ قبيلة ما على كيانها إن بقيت في عزلة عن غيرها، بل هي بحاجة إلى التضافر والتناصر مع القبائل التي تمتُّ إليها بصلة النسب أو الجوار أو المصلحة المشتركة.

_ 1 يقول ابن خلدون في مقدمته "ص 137": "إن كل شرف وحسب فعدمه سابق عليه شأن كل محدث, ثم إن نهايته في أربعة آباء، وذلك أن باني المجد عالم بما عاناه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه، وابنه من بعده مباشر لأبيه، فقد سمع منه ذلك، وأخذه عنه، إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له. ثم إذا جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثاني تقصير المقلد عن المجتهد، ثم إذا جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة, وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم، واحتقرها وتوهم أن ذلك البنيان لم يكتب بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم، ويتوهم أنه النسب فقط، فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته ويرى الفضل له عليهم.. فيحتقرهم, فينغصون عليه؛ ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت..".

الأحلاف

الأحلاف مدخل ... الأحلاف: ففي جو التنازع والاحتراب الذي كان سائدًا، بحيث كان القوي يستهين بالضعيف،

ويهاجمه ويغنم منه ويسبي نساءه، كان لا بد أن تلجأ القبائل الصغيرة المستضعفة للانضمام بالتحالف إلى القبائل الكبيرة، التي تبحث بدورها عن حلفاء تقوى بهم -مهما صغر شأنهم- ضد خصومها الأقوياء. وقد يقوم التحالف وإبرام المواثيق بين القبائل المختلفة؛ لصيانة المصالح المشتركة أو لمراعاة الهدوء والسلام بين المتجاورين، أشبه شيء بما يعقد من معاهدات سياسية بين شتى الدول الحديثة. وبمجرد أن تدخل القبيلة في حلف مع قبيلة أو قبائل أخرى، يصبح لها على حلفائها كل الحقوق والواجبات التي تربط أفراد القبيلة الواحدة بعضهم ببعض، إذ يكون عليهم أن ينصروها على أعدائها، وأن يلبوا دعوتها إذا استنجدت بهم ضد اعتداء وقع عليها، ويكون عليها أن تقوم بالواجبات نفسها تجاه حلفائها. وينشأ بذلك عصبية بين القبائل المتحالفة، تدفعها إلى التضامن في الحروب والتعاون في تبعات الدماء1. وقد يطول عهد الحلف بين قبيلتين أو يقصر، بحسب دوام المصلحة التي دعت إلى عقده، ويكون للقبيلة الأكبر والأقوى حق زعامة الحلف. وربما ينفرط الحلف بسبب نكول أحد الأطراف عن تنفيذ الشروط المتفق عليها. وربما دام الحلف زمنًا طويلًا بحيث تندمج القبيلتان المتحالفتان في نسب واحد مع الزمن, ويضرب مثلا على ذلك الاندماج الذي تم بين القبائل المختلفة -من مضرية ومعدية ويمنية- التي تجمعت في البحرين، ثم تحالفت وتعاقدت على التناصر والتآزر، واندمجت بمرور الزمن اندماجا تاما، واتخذت اسم "تنوخ"2. وكما يجري التحالف بين قبائل عديدة فتتكتل وتندمج، كذلك تتعرض بعض القبائل الأخرى إلى التفكك الداخلي، إذ تتناحر بطونها المختلفة، وتتحالف بعضها على بعضها الآخر فتنقسم، وتنفرط وحدتها. لقد بلغ الإقبال في شبه الجزيرة العربية، قبيل الإسلام، على عقد الأحلاف لدرجة أن معظم القبائل كانت متحالفة مع بعضها، ولم يبق خارج نطاق التحالف سوى القلة منها. ويطلق العرب على القبيلة التي لا ترتبط بحلف مع غيرها اسم "الجمرة" إذ تشعر أنها قادرة بمفردها على قتال من يقاتلها من القبائل وتفتخر بذلك. وقد عرف بعضهم

_ 1 ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/ 410. 2 راجع بحث المناذرة.

القبائل التي لم تتحالف مع غيرها، بأنها التي تتكون من ثلاثمائة فارس أو ألف فارس, أما إذا تحالفت مع غيرها فإنها تكون قد انطفأت1. ومما روي عن القبائل التي قالوا: إنها الجمرات كونها لم تقوَ على الصمود بمفردها في الحروب، فاضطرت إلى طلب المساعدة من القبائل الأخرى، وتحالفت معها فانطفأت2.

_ 1 د. جواد علي: 4/ 616-617. 2 ذكر الأخباريون أن ضبة طُفئت لأنها حالفت غيرها، وأن الحارث طفئت لأنها حالفت مذحجًا، وأن عبسًا طفئت لمحالفتها بني عامر بن صعصعة.

طقوس الأحلاف

طقوس الأحلاف: عرف العرب بالوفاء والالتزام بالمواثيق. وكان من شدة حرصهم على الوفاء بعهود التحالف أن اتبعوا طقوسًا يقومون بها عندما يعقدونها، والغرض منها أن يحيطوها بجو من القدسية والرهبة، من شأنه أن يلزم المرتبطين بها إلزامًا شديدًا ودقيقًا. من هذه الطقوس أن يحضروا طستًا من المسك، يغمسون أيديهم فيه، ويمسحون بها جدران الكعبة، كما جرى بالنسبة لحلف المطيبين وهو حلف بني عبد مناف ضد بني عبد الدار عندما اختلفوا على الوظائف التي خلفها جدهم قصي، بينما أتى خصومهم بنو عبد الدار بطست من الدم غمسوا أيديهم فيه، ومسحوا بها جدران الكعبة. أو كأن يأخذ الطرفان المتحالفان مقدارا من ماء زمزم، يغسلون به أركان الكعبة، ثم يجمعونه في جفنة ويشرب منه الطرفان، كما جرى في حلف الفضول بين قريش وزهرة وتيم. أو كأن يوقدوا نارًا يدعون بالحرمان من خيرها لمن ينقض الحلف، ويتلفظون بعبارات1 يعتقدون أن من شأنها أن تزيد الحلف قوة وثباتا. وقد يلقي فيها سدنة النار ملحا وكبريتا، حتى إذا استشاط وفرقع، هددوا المتحالفين، وهولوا عليهم بقولهم: إن النار تهددكم إن نقض أحدكم الحلف، فإن كان يضمر الغدر نكل عن التحالف، وإن كان مخلصًا أبرمه. وقد ذكر "هيرودوت" طريقة للتحالف يقول فيها: إن شخصًا ثالثًا يقف بين

_ 1 مثل عبارات: "الدم الدم، الهدم الهدم، لا يزيد العهد طلوع الشمس إلا شدًّا، وطول الليل إلا مدًّا، ما بل بحر صوفة، وأقام رضوى في مكانه" إن كان رضوى جبلهم، وإلا ذكروا جبلًا آخر يجاورهم.

الطرفين المتحالفين؛ ليجري مراسيم عقد الحلف، فيأخذ حجرًا له حرف حاد كالسكين، يجرح به راحتي الرجلين قرب الأصبع الوسطى، ثم يأخذ قطعة من ملابسهما فيغمسها في دمهما، ويلطخ بها سبعة أحجار، يحمل المتحالفان بعضها إلى قومهما، وهو في أثناء ذلك يتلو أدعية للأصنام، حتى إذا انتهت مراسيم الحلف، قاد الحليف حليفه إلى أهله وعشيرته؛ لإخبارهم بذلك وللإعلان عنه، فيصبح الحليف بذلك أخًا لحليفه، أمرهما واحد في الوفاء، كما كانوا يعتقدون. كما كان من طقوس قريش عند عقد الأحلاف، أن يأخذ الحليف حليفه إلى الكعبة، وبعد إجراء بعض المراسيم يطوفان حول الأصنام لإشهادها على ذلك، ثم يعودان إلى قريش لإشهادها وإشهاد من يكون حاضرًا في الكعبة، على صحة الحلف وقبول الحليف محالفة حليفه، حيث يصبح له ما له، وعليه ما عليه. وفي الأحلاف المهمة والمواثيق الخطيرة، كان القرشيون يؤكدون على العهود والمواثيق تأكيدا شديدا، وذلك بأن يكتبوا ما اتفقوا وتعاهدوا عليه في صحيفة1، يشهد عليها رؤساؤهم وسادتهم من الطرفين، ومن أناس آخرين محايدين، ثم يعلقون الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا لها وتشديدًا للميثاق، كالذي كان من تآمر قريش على مقاطعة بني هاشم قبل هجرة الرسول إلى المدينة المنورة2.

_ 1 وقد عرفت الصحيفة باسم "المهارق" من اسم المادة التي يكتب عليها، وهي قطع من قماش تسقى بالصمغ أو تطلى بشيء، ثم تصقل فيكتب عليها. وقد ذكر التبريزي "شرح المعلقات، ص 268" أن اللفظة "مهارق" فارسية معربة. 2 جواد علي: 6/ 323-324.

الفصل العاشر: أيام العرب في الجاهلية

الفصل العاشر: أيام العرب في الجاهلية مدخل ... الفصل العاشر: أيام العرب في الجاهلية يقصد بأيام العرب تلك الحروب والوقائع التي نشبت بين القبائل العربية في المجتمع الجاهلي الذي كان يضطرم بالمنازعات. وتعتبر هذه الأيام بما اشتملت عليه من أحداث ومناسبات توضح أسباب ودواعي ما وقع بين مختلف القبائل الجنوبية "القحطانية" أو بين شتى القبائل الشمالية "العدنانية" أو ما وقع بين القحطانية والعدنانية، أو بين العرب عامة وبين الأقوام غير العربية، كالفرس والروم والبيزنطيين من حروب مصدرًا من مصادر التأريخ للعلاقات التي كانت سائدة بين القبائل العربية. كما أنها بما روي في أثنائها من مأثور الكلام ورائع النثر وحماسي الشعر، وبما اشتملت عليه من طريف القصص، وما تخللها من بيان للطبائع والتقاليد البدوية، تعتبر ينبوعًا من ينابيع الأدب، وبابًا كبيرًا من أبوابه، ومرآة تعكس أحوال العرب وعقليتهم، وعاداتهم وتقاليدهم في الحرب1 والسلم والأسر والفداء، كما تنبئ بفضائلهم وشيمهم التي فطروا عليها، كالشهامة والوفاء بالعهد وحماية الجار والانتصار للقبيلة والصدق والصبر في القتال2. وتختلف أهمية هذه الأيام باختلاف حدتها وشمولها ومدتها. فقد يقتصر بعضها على مناوشات بسيطة يذهب ضحيتها بضعة أشخاص, وقد تحتدم احتداما شديدا فيربو عدد ضحاياها على المئات, وقد تشترك فيها عدة قبائل متحالفة في كل جانب، أو قد تقتصر على قبيلتين تتقاتلان، وقد تدوم مدة طويلة تصل أحيانا إلى أربعين سنة، تكون فيها

_ 1 راجع عن أدوات الحرب التي كانت تستعمل عند العرب: Wacif Boutros Ghali: Les traditions chevaleresques Des Arabes, PP. 192-193. 2 محمد أحمد جاد المولى بك ورفاقه: أيام العرب في الجاهلية، ص ط من المقدمة: أحمد أمين: فجر الإسلام، ص66.

الوقائع متقاربة أو متباعدة, يفصل بين الواحدة والأخرى سنون عديدة، إذ تثار حينما تتجدد المناسبات أو قد لا تدوم سوى أيام أو أسابيع قليلة. إنما تغلب عليها بوجه عام صفة الغزوات السريعة الخاطفة في أغلب الأحيان، وتنتهي عادة بصلح يتفق فيه الجانبان على دفع ديات القتلى، وحل المشكلات التي سببت الحرب. وغالبا ما تثابر القبيلة المنتصرة على الفخر بفعال أبطالها في الحرب، مما يثير القتال بين الطرفين من جديد، بسبب جواب أو رد فعل عنيف قد يصدر من سفيه عابث لا يرضيه سماع ذلك الفخر، أو من القبيلة المغلوبة التي يعز عليها أو على أفرادها أن يسمعوا ذلك الكلام1. وكان العرب يحفظون أخبار هذه الأيام، ويفتخرون بالنصر الذي أحرزوه فيها، أو يتحينون الفرصة السانحة للأخذ بثأر الهزائم التي لحقتهم فيها. لقد ألَّفت مادة هذه الأيام القسط الأكبر من المعلومات التي ذكرها الأخباريون في تأريخهم للعهد الجاهلي، استنادًا إلى ما تناقله الناس من قصص سمعوه ممن شهدوها، فحفظوه في صدورهم إلى أن كان عهد التدوين فدُوِّن. وقد أحب الناس هذه المادة، وتناولها بلذة وشوق، سواء في الجاهلية أو في الإسلام، وكانت موضوع سمرهم في هذين العهدين. وهي مادة عربية خالصة، تخللها شعر قيل في تلك المناسبات الدامية, وهو وإن كان من باب الفخر والحماسة، وتضمن صورًا شتى من هجاء الخصم والانتقاص منه، مما لا يخول المؤرخ الحديث أن يستنتج منه مادة تاريخية يثق بصحتها تمام الثقة؛ لما تخلله دون شك، من مبالغات هي من جانب الحليف أو القريب أكثر مما هي في جانب الخصوم والأعداء، إلا أن فضله لا ينكر في كونه العامل الأكبر في حفظ تلك الأخبار وصيانتها من النسيان، ذلك أن الشعر أدعى للحفظ عند العربي من النثر، وأن الراوي والسامع يضطر في العادة إلى البحث عن المناسبة التي قيل فيها ذلك الشعر، فيطلع على الحوادث ويحفظها. فعلى هذه المادة كان اعتماد المؤرخين القدامى في التأريخ للتطورات السياسية التي حدثت قبيل الإسلام، وقد وصلت إلينا في كتب المؤرخين العرب، تلك التي صنفت بعد قرنين من الهجرة، وهي المصادر الوحيدة التي تحدثنا عنها. لكن هذه الأيام غير مبوبة، وغير منسقة على حسب ترتيب وقوعها، ولا حسب

_ 1 جواد علي: 4/ 246-247.

ترتيب حوادثها، وعددها عظيم من الصعب حصره، وقد روي أن بعض المؤرخين القدامى قد ألفوا فيها كتبًا خاصة, بعضها تضمن 750 يومًا أو 1200 يوم، وأن أبا الفرج الأصبهاني ألف كتابًا جمع فيه 1700 يوم منها، لكن ما صنف من هذه الكتب لم يصلنا1. والأيام التي وصلت أخبارها إلينا قد حدثت في الجاهلية القريبة من الإسلام، في مدى قصير من الزمن، وفي الفترة الواقعة -على التقريب- ما بين عام 150 قبل الإسلام وبين بزوغ فجره2. أما أسباب تلك الحروب فأحيانا ما تكون تافهة، مثال أن تنشب حرب تدوم أربعين سنة بين عبس وذبيان بسبب سباق خيل، أو تنشب حرب كأحد أيام الفجار بسبب تحقير رجل لآخر لم يؤد ما عليه من دين له في ذمته، أو كأن تنشب أخرى من هذه الحروب بسبب جهالة من رجل يفتخر بقومه قائلًا: من كان يعرف نفسه أعز قبيلًا مني فليضرب هذه الرِّجْل بسيفه، ويمد رجله فيضربها رجل من قبيلة أخرى فيقطعها، وتقع الحرب بين القبيلتين, غير أنها لم تكن تنشب دوما لأسباب تافهة، بل ترجع في أحيان أخرى إلى أسباب اقتصادية، كحرب البسوس، أو كحرب الأوس والخزرج في المدينة، وكانت سياسية اقتصادية، أو قد تكون لبواعث أجنبية ناشئة عن النفوذ البيزنطي والفارسي. وبعض الأسباب ترجع إلى عسف الحكام بالقبائل الضعيفة التابعة لهم؛ بسبب الإتاوة التي كانوا يلحفون في جمعها وفي الحصول عليها، بقطع النظر عن الظروف والأوقات، كتلك الأيام التي حدثت بين العدنانية والقحطانية، والتي غلب عليها طابع التخلص من سيطرة اليمن ومن نفوذها على القبائل المعدية. وتكاد روايات الأخباريين تجمع على أن الحكم في عرب الشمال كان للتبابعة، سواء كان حكما مباشرا أو بالواسطة، أي: بتدخلهم في اختيار الرؤساء والمشايخ وتعيينهم على تلك القبائل. ومن أسباب الحروب نزاع القبائل على الماء والمرعى، أو للأخذ بثأر أو غير ذلك من أسباب، كمحاولة التخلص من حكم قبيلة أخرى بظهور شخصية قوية فيها، أو أمثال ذلك من أسباب3.

_ 1 محمد أحمد جاد المولى بك ورفاقه: المصدر نفسه، المقدمة. 2 الدكتور عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص62. 3 جواد علي: 4/ 346-348.

وأما نتائج تلك الحروب فلا تختلف عن النتائج التي تنشأ عادة عن مثيلاتها من الحروب، كاستحكام الضعف في القبائل العربية، وإشاعة الفرقة فيما بينها، واستمرار تفكك العرب وإمعان الدول الأجنبية في التحكم بهم، وفرض نفوذها الاستعماري على أغلب مناطقهم القريبة منها، كالحيرة وجنوبي العراق، وحوران وجنوبي سورية، ومنطقة الخليج العربي وحتى اليمن البعيدة عنها. على أن تلك الأيام وإن تكن دليلًا على عدم الشعور بالأمة الواحدة، بل بعصبية القبيلة، إلا أننا إذا نظرنا إليها من زاوية أخرى، ولم نسقط من حسابنا اقترانها بحركة التحالف النشيطة التي رافقت هذه الحروب الكثيفة، فإنه يكون من الظلم أن يتهم العرب بالفردية، والمجتمع العربي بالجمود والتشتت. فالواقع أن القبائل العربية كانت متصلة متداخلة، متحركة تمور بالحيوية. فلقد كان ثمة حركة نشيطة بين القبائل، فهي تلتقي وتتباعد، وتارة تفرقها الحروب والغارات والعداوات، وطورًا يؤلف بينها الحلف والجوار، ولم تكن الحروب الضارية التي كانت تنشب فيما بينها، إلا دليلا على مزيد من القوة الكامنة في نفوسها، ومن الحيوية والنشاط. ولقد أخذت حركة التحالف في الازدياد والاتساع قبيل ظهور الإسلام، وراحت القبائل تتكتل في مجامع كبيرة، وتضطرم شبه الجزيرة بحروب عنيفة بين أطراف متكتلة في أحلاف واسعة، يحاول كل من متزعميها فرض سيطرته ونفوذه على ما يجاوره من وحدات وابتلاعها، مما يدل على عدم استطاعة القبيلة العربية أن تعيش في مجالها الضيق, فهي بحاجة إلى من تؤاخيه من القبائل الأخرى، وتربط مصيرها بمصيره، والواقع أن هذا الاندفاع نحو التحالف والتجمع، قد ساير النهضة العربية التي بدت ملامحها على المجتمع العربي الجاهلي1 قبيل الإسلام، وتناولت شتى مظاهر حياته، إذ شملت السياسة والدين والفكر، فكانت تمهيدًا لظهور الإسلام ونهضته الرائعة الشاملة. وبعد: أكرر ما أسلفت بأن هذه الأيام لا يمكن تصنيفها تصنيفًا يراعي تسلسل وقوعها زمنيا، إنما يمكن أن نعطي كشفًا عن أهمها بحسب الفئات التي اشتركت فيها. فنبدأ بما وقع منها بين مختلف قبائل القحطانية:

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص61-62.

حروب القحطانية فيما بينها

حروب القحطانية فيما بينها مدخل ... 1- حروب القحطانية فيما بينها: من هذه الحروب ما جرى بين الأوس والخزرج في يثرب, وقد أعطيت لمحة عنها في البحث الذي تحدثت فيه عن مدينة يثرب. وقد ذكرت أن الأسباب التي دعت إلى قيام الحرب بين القبيلتين العربيتين كانت سياسية واقتصادية، إذ كان لزعيم الخزرج مالك بن العجلان الفضل في انتصار عرب المدينة على اليهود، فأصبح له الذكر والشرف كما يقول صاحب الأغاني1، وتسنمت الخزرج مركز الصدارة في المدينة. ولما كانت الأوس قد وضعت يدها على أراضٍ أكثر خصبًا وغنًى من الأراضي التي احتلتها الخزرج، وأصبحت تسيطر على الوضع الاقتصادي ليثرب، لم تقبل أن تكون للخزرج هذه المنزلة دونها، وساءها أن يفتخر حليف للخزرج عليها، كما رأينا سابقا؛ فكان أن قتله رجل من الأوس، فوقعت معركة "سمير" بين القبيلتين. وكان لليهود اليد الطولى في الدس والوقيعة بين القبيلتين العربيتين؛ لما حل بهم من خذلان أمام العرب. وقد حدثت بعد يوم سمير وقائع عديدة ذكرها المؤرخون2، منها أيام: حاطب وسرارة وفازع والربيع والبقيع والفجاران الأول والثاني وكعب وبعاث. وأما نتيجة التحكيم الذي جرى في أعقاب يوم "سمير" والذي قضى بأن تُدفع لمالك بن العجلان، عن حليفه الذي قتله سمير الأوسي، دية الصريح3، وإن كانت قد أرضت كلًّا من الأوس والخزرج، غير أن البغضاء والعداوة قد تمكنت في نفوس أبناء القبيلتين، فتجددت الحروب لأسباب مباشرة مختلفة بينهما في الأيام التالية التي دامت مائة سنة تقريبا وكان آخرها:

_ 1 الأغاني: 3/ 886. 2 راجع عن هذه الحروب ابن الأثير: 1/ 403-418. 3 الأغاني: 3/ 887.

يوم بعاث

يوم بعاث: الذي حدث قبل الهجرة بخمس سنوات، وكان سببه المباشر أن الأوس رأت بعد الأيام الطويلة السابقة أنها أضعف من الخزرج التي كانت لها الغلبة في معظمها، وأنها لم

تعد قادرة على الصمود أمام الخزرج التي اتجهت نيتها إلى الاستيلاء على ما في يد الأوس من أراض خصبة، فحاولت التحالف مع بني قريظة وبني النضير، فلم يكن من الخزرج إلا أن هددت القبيلتين اليهوديتين بالحرب إن هما استجابتا للأوس، فلم تلبثا أن أعلمتا الخزرج بوقوفهما على الحياد. لكن الخزرج لم تقنع بذلك بل طالبتهما برهائن تضمن عدم تحالفهما مع الأوس، فدفعتا إليها بأربعين غلاما وزعتهم في بيوت زعمائها1، ولما يئست الأوس من ضمان أسباب النصر، أوفدت إلى مكة وفدا في محاولة منها لاستعداء قريش على الخزرج، فلم يستجب القرشيون إلى طلبها حرصا على عدم التدخل في أمور من شأنها أن تمس سلامة علاقاتها التجارية مع الجوار. غير أن الخزرج قد أقدمت على تصرف أهوج، عندما أسفر أحد زعمائها عن نيته في الاستيلاء على ما في أيدي قريظة والنضير من أراضٍ ودور، وأنذرهم بتسليمها أو قتل غلمانهم2، فأعطى بذلك المجال إلى تحالف تم بين القبيلتين اليهوديتين وبين الأوس، وبدأت حرب بين الطرفين، وأقدم زعماء الخزرج -عدا عبد الله بن أبي بن سلول- على قتل الرهائن اليهود. وحشد كل من الطرفين حلفاءهما من داخل المدينة ومن خارجها، إذ راسلت الأوس حلفاءها من بني مزينة، بينما رأت الخزرج أن تراسل حلفاءها من بني أشجع وبني جهينة، وانضم إليها بنو قينقاع من اليهود. كانت الغلبة في اليوم الأول من القتال للخزرج، إنما لم يلبث الأوس أن مالوا على خصومهم يقتلونهم ويحرقون منازلهم ونخيلهم، بينما كان اليهود ينكلون بهم تنكيلا

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص340-343. 2 ابن الأثير: 1/ 417: يقول ابن الأثير: "إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي قال لقومه بني بياضة: إن أباكم أنزلكم منزلة سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير أو أقتل رهنهم. وكانت منازل قريظة والنضير خير البقاع، فأرسل إلى قريظة والنضير: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم، وإما أن نقتل الرهن، فهموا أن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسيد القرظي: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان، ما هي إلا ليلة يصيب فيها أحدكم امرأته حتى يولد له مثل أحدهم، فأرسلوا إليهم: إنا لا ننتقل من ديارنا، فانظروا في رهننا فادفعوهم إلينا، فعدا عمرو بن النعمان على رهنهم فقتلهم، وخالفه عبد الله بن أبي سلول فقال: هذا بغي وإثم، ونهاه عن قتلهم وقتال قومه من الأوس، ولم يقتل هو ومن أطاعه أحدًا من الغلمان وأطلقوهم وحالفت حينئذ قريظة والنضير الأوس على الخزرج".

شديدًا، ويمعنون في الفتك بهم وفي نهبهم وإذلالهم. وكان فيما سبق وذكرته في البحث عن يثرب من اعتدال الأوس وعدم الإمعان في إذلال الخزرج1, وتفضيل جوارهم على جوار "الثعالب" الذين أظهروا عزمهم على القضاء عليهم؛ لينفردوا بعد ذلك بالأوس، ثم مال الطرفان إلى الصلح, وبرزت شخصية عبد الله بن أبي بن سلول2 الذي اختير ليكون ملكًا على يثرب، وكاد أن يتم له ذلك، لولا قدوم الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين مهاجرين إلى المدينة.

_ 1 ابن الأثير: 1/ 418؛ يقول ابن الأثير: "وانهزمت الخزرج ووضعت فيهم الأوس السلاح فصاح صائح: يا معشر الأوس, أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب، فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم، إنما سلبهم بنو قريظة والنضير". 2 أما عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي الذي أثار هذه المعركة بخطل رأيه، فقد قتل كما تنبأ له عبد الله بن أبي.

حروب القحطانية والعدنانية

حروب القحطانية والعدنانية مدخل ... حروب القحطانية والعدنانية: إن من أهم الحروب التي وقعت بين القحطانية والعدنانية:

يوم البيضاء

يوم البيضاء: وهو من الأيام القديمة, وسببه أن القبائل العدنانية قد امتعضت من قدوم القبائل القحطانية من الجنوب إلى الشمال، ومنافستها على الماء والمرعى. فلما جاءت قبيلة "مذحج" القحطانية من اليمن، وقصدت متسعا من الأرض في سهل تهامة، الذي اعتبر في عرف الأخباريين موطنا لقبائل معد من قديم الزمن، اصطدمت بهذه القبائل، فبرزت لها قبيلة عدوان وزعيمها يومئذ عامر بن الظرب العدواني، الذي اجتمعت قبائل معد بأسرها تحت لوائه، فهاجم القبيلة اليمنية القادمة وهزمها في موقع "البيضاء". والأخباريون يعدون عامر بن الظرب من حكام العرب القدماء المبرزين، يأتيه الناس ليحكم بينهم، وصارت أحكامه سنة يتبعونها، وقد عرف بعقله وحكمته، وكون أقواله قد جعلت مضربًا للأمثال، وقيل: إنه أول من قال بتحريم الخمر قبل الإسلام. ويقول الأخباريون: إن يوم "البيضاء" هو أول يوم اجتمعت فيه سائر قبائل معد تحت

راية واحدة، ثم اجتمعت بعدئذ مرتين: المرة الأولى تحت راية ربيعة بن الحارث، والمرة الثانية تحت راية كليب بن ربيعة1.

_ 1 د. جواد علي: 4/ 348.

القبائل المعدية وزهير بن جناب الكلبي ممثل اليمينة

القبائل المعدية وزهير بن جناب الكلبي ممثل اليمينة مدخل ... القبائل المعدية وزهير بن جناب الكلبي ممثل اليمنية: وقد درج رؤساء معد بعد ذلك على خطة الخروج على طاعة حكام اليمن، أو من عينه هؤلاء الحكام عليهم، إذ ملت قبائل معد التبعية للجنوب، فثارت على ممثليه في الشمال. كانت قبائل الشمال المعدية متفرقة، لا تكف عن الخصام والانقسام، مما دفع القبائل الضعيفة منها إلى الاستظلال بدولة تحميها من أخواتها القويات. وكان أكثر خضوع القبائل المعدية "العدنانية" لدولة حمير في اليمن، تؤدي لها الإتاوة كل عام. وكانت القبيلة من أهل البادية إذا دخلت في رعاية حمير، طلبت منها أن تولي عليها أميرًا. وكان من هذا القبيل قيام دولة كندة كما رأينا سابقا. وأشهر من تولى الرئاسة على بدو الشمال "بكر وتغلب من ربيعة", تحت رعاية الدولة الحميرية، زهير بن جناب الذي ينتهي نسبه إلى عذرة الكلبي، وهو من الذين اجتمعت إليه قضاعة القحطانية اليمنية. وقد عرف زهير بشدة بطشه وبسالته وشجاعته ورجاحة عقله، وعرف باسم "الكاهن" لسداد رأيه. فصار يجمع الإتاوة والخراج من القبائل التي تولى الإشراف عليها لقاء النجعة والكلأ والمرعى. وظلت قبائل الشمال تذعن لدولة اليمن، بشخص ممثلها, وتوليها الاحترام، إلى أن أصابها الوهن بسبب ظروف الاحتلال الحبشي لليمن "525م" فذهبت هيبتها من قلوبهم، وراحوا يفكرون في الخروج عن سيطرتها، والإمساك عن دفع الإتاوة لها. وكان قطع الإتاوة والخروج عن طاعة اليمن على يد ربيعة والد الفارس المشهور "كليب" الذي كان معاصرا لزهير بن جناب. يقول ابن الأثير: إن أبرهة الحبشي حين طلع إلى نجد، أتاه زهير فأكرمه وفضله على من أتاه من العرب، ثم أقره على بكر وتغلب فتولى أمرهم. ويقول عن زهير: إنه عمَّر

طويلًا جدًّا "عاش مائتين وخمسين سنة، أوقع فيها مائتي وقعة، وقيل: عاش أربعمائة وخمسين سنة". إن هذا القول، وإن يكن أقرب إلى الخرافة ولا يمكن تصديقه، إلا أن ما يمكن أن نستنتجه منه، ومن ذكر اتصاله بأبرهة الحبشي -إذا صحت روايته عن هذا الاتصال- أن ولاية زهير لقبائل الشمال ربما تكون قد حدثت في عهدين؛ في عهد حمير، ثم في عهد أبرهة، بعد أن قضى الأحباش على ملكها، وأن ذلك ربما يكون قد حدث في الربع الأول من القرن السادس الميلادي حتى بعد منتصفه. وتتمة رواية ابن الأثير أنه قد صدف في إحدى السنين أن أصاب القوم قحط، فأمحلت الأرض وتأخروا عن الدفع، فجاءهم زهير يلح عليهم بدفع الإتاوة. ولما شكوا إليه ضيق ذات يدهم، لم يعرهم أذنا صاغية، بل منعهم من النجعة والمرعى حتى يؤدوا ما عليهم، فصبروا على مضض، حتى إذا رأوا مواشيهم تكاد أن تهلك، لم يروا بدًّا من شق عصا الطاعة. فأنفذوا إلى زهير رجلا يدعى "زَيَّابة" من بني تيم اللات لاغتياله, فجاء "زيابة" إليه وهو نائم، وغرز سيفه في بطنه، وظن أنه بذلك قد قضى عليه1. غير أن الضربة جاءت غير مميتة، إذ تظاهر زهير بالموت كي لا يجهز عليه زيابة بضربة أخرى، فنجا من الموت2. ونقل زهير إلى قومه، ولما شفي جمع الجموع من أهل اليمن3، وسار إلى بكر وتغلب، وقاتلهم قتالًا شديدًا انهزمت فيه بكر وتغلب، وأُسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وأخذت الأموال، وكثرت القتلى في بني تغلب، كما أسر جماعة من فرسانهم ووجوههم. صعب الأمر على قبائل ربيعة، فتجمهرت وولت عليها ربيعة والد كليب ومهلهل,

_ 1 الأغاني: 21/ 7244-7246 "يكاد صاحب الأغاني وابن الأثير يتفقان تمام الاتفاق في تفاصيل هذه القصة". 2 ابن الأثير: 1/ 299-300: "لم يكن مع زهير آنذاك سوى نفر قليل من قومه، فأمرهم أن يظهروا أنه ميت، ويستأذنوا بكرا وتغلب بدفنه. فلما أذنتا لهم، ساروا بجنازة وهمية، فحفروا وعمقوا ودفنوا ثيابًا ملفوفة لم يشك من رآها في أن فيها جسدًا ميتًا". 3 لما بلغ بكرًا وتغلب قدومه، وتأكد عدم موته قال زيابة: طعنة ما طعنت في غلس الليل ... زهيرًا وقد توافى الخصوم حين يحمي له المواسم بكر ... أين بكر وأين منها الحلوم؟ خانني السيف إذ طعنت زهيرًا ... وهو سيف مضلل مشئوم

وخرجت على زهير، واستنقذت الأميرين الأسيرين منه. ولم يلبث زهير بعدئذٍ أن عاد إلى سطوته، فوضع الإتاوة على بني معد جميعًا من جديد. وربما يكون توقيت هذه الولاية الجديدة موافقة لقدوم أبرهة الحبشي إلى الشمال، وتكليف زهير بهذه المهمة، بمعنى أن تكون الولاية في عهد دولة حمير. ولما توفي ربيعة خلفه ابنه كليب، وفي نفسه على اليمنية حقد وضغينة؛ لما قاسى في أسر ممثلها زهير، فجمعت تحت لوائه معدا بأسرها: "ربيعة ومضر وإياد ونزار" وحارب اليمنية في معركة عرفت باسم:

يوم خزار

يوم خَزَار: وكان سببه المباشر أن بني معد قد أوفدوا وفدًا من وجوههم ليكلموا ملكًا من ملوك اليمن، كما يقول ابن الأثير، وربما يكون زهير بن جناب، كان في يده أسارى من مضر وربيعة ليطلق سراحهم، فاحتبس بعض رجال الوفد رهينة لديه، وقال للباقين أن يأتوه برؤساء قومهم، لكي يأخذ عليهم المواثيق بالطاعة له، وإلا قتل أصحابهم. فلما رجعوا إلى قومهم وأخبروهم بما جرى، اجتمعت ربيعة وباقي قبائل معد حول كليب وائل، وسارت تحت رايته، فأمَّر عليهم سلمة بن خالد المعروف باسم "السفاح التغلبي" ووجهه إلى جبل "خزار" الكائن في نجد على طريق مكة البصرة، وأوصاه بأن يوقد نارا للاهتداء إليه، أما إذا غشيه العدو فليوقد نارين، ولما بلغ مذحجًا اجتماع ربيعة ومسيرها، استنفروا من يليهم من قبائل اليمن وساروا إليهم1. وما أن وصل هؤلاء إلى جبل خزار حتى أوقد السفاح نارين2 فأقبل كليب بجموعه وصبح اليمنية، واقتتل الفريقان قتالا شديدا كثرت فيه القتلى، وانهزمت مذحج واليمنية، وأحرز المعديون نصرًا عظيمًا عليها، وفي ذلك يقول الفرزدق يهجو جريرًا ويفاخر بأجداده:

_ 1 ابن الأثير: 1/ 310-311: محمد جاد المولى بك، أيام العرب، ص109-111. 2 وقد قال السفاح التغلبي منوهًا بما فعل: وليل بت أود في خزارى ... هديت كتائبًا متحيرات ظللن من السهاد وكن لولا ... سهاد القوم أحسب هاديات

لولا فوارس تغلب ابنة وائل ... دخل العدو عليك كل مكان ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا ... نارين أشرفتا على النيران وقد اشترك عمرو بن كلثوم التغلبي في هذا اليوم، وأشار إليه في معلقته: ونحن غداة أوقد في خزارى ... رفدنا فوق رفد الرافدينا فكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا فصالوا صولة فيمن يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا وكان من نتيجة هذا اليوم، أن ربيعة وسائر قبائل معد قد استقلت عن سيطرة اليمن، ولم يعودوا يدفعون لممثليها أية إتاوة أو خراج. وقد نظرت معد إلى كليب وائل نظرها إلى منقذ عظيم، فولوه الملك عليهم، وجعلوا له قسم الملك وتاجه، فعظم نفوذه وازداد شأنه.

حروب العدنانية فيما بينها

حروب العدنانية فيما بينها مدخل ... حروب العدنانية فيما بينها: ومنها ما كان بين فرعي القيسية: ربيعة ومضر، ومنها ما كان بين قبائل ربيعة بعضها مع بعض، أو بين قبائل مضر. والحديث عن جميع الحروب والأيام التي وقعت لمختلف قبائل العرب أمر يطول شرحه، ونحن إنما نجتزئ أهم هذه الأيام وأشهرها:

حروب البسوس

حروب البسوس ... حرب البسوس: وقد وقعت بين بكر وتغلب من ربيعة، ودامت سنين طويلة. ولم تكن حربا واحدة، بل هي حروب عدة، وقعت في أوقات متقطعة. وسببها أن وائل بن ربيعة المعروف بلقب "كليب" من تغلب، قد بلغ مبلغا عظيما من السيادة والنفوذ -لا سيما إثر انتصاره في يوم خزار- حيث اجتمعت تحت رايته كل قبائل معد فتوجته، وقد حاز من الجاه والعظمة ما جعل المثل يضرب بعزته فيقال: "أعز من كليب وائل". وقد داخله من الزهو والخيلاء ما تجاوز الحد حتى طغى وبغى، فاتخذ لنفسه بقعة من الأرض أو ما يسمى بـ "الحمى" ومنع أيًّا كان من أن يطأها أو يوقع الأذى في شيء منها، أشبه ما يكون بحرم المعابد في الجاهلية، لا بل تجاوز من سبقه من أصحاب الأحماء،

إذ حرم على أي كان أن يصطاد في أرضه ويقول: "وحش أرض كذا في جواري فلا يصاد". كما حرم أن ترد إبل مع إبله، أو أن توقد نار مع ناره، أو أن يمر أحد بين بيوته، وألا يقوم أحد بغارة إلا بإذنه. فكان سبب الحرب إذن اقتصاديا، بالإضافة إلى غطرسة كليب وغروره. وكان كليب متزوجًا من امرأة من بكر اسمها "جليلة بنت مرة" أخت جساس بن مرة من شيبان. وصدف أن رجلا نزل ضيفا على البسوس خالة جساس، وكان للضيف ناقة ترعى مع نوق جساس في حمى كليب، فأنكرها كليب، وحذر جساسًا من أن عودة هذه الناقة إلى حماه سيدعوه إلى قتلها، فلم يكن من جساس إلا أن هدده بالقتل إن فعل ذلك. ولما رأى كليب ناقة الضيف ترعى بعدئذ في حماه مع نوق جساس، رماها بسهم أنفذه إلى ضرعها، فصاح صاحبها لما علم بذلك "يا للذل" وصرخت البسوس على صراخه "وا ذلاه" فأسكتها جساس قائلا بأنه سيقتل بالناقة جملًا أعظم منها، يعني بذلك صهره كليبا، وفعلا نفذ وعيده، فاغتنم غفلة من كليب، وطعنه برمح في ظهره فقتله. وهذه رواية يقول بها كل من ابن الأثير وصاحب الأغاني1. غير أن صاحب الأغاني، يضيف إلى ذلك رواية أخرى تقول: إن ليس جساس هو الذي رمى كليبًا، بل كان في صحبته ابن عمه المزدلف عمرو بن أبي ربيعة، وأن عمرًا هذا هو الذي طعن كليبًا وحطم صلبه، ويمضي في رواية مقتل كليب قائلا: إن قتله كان لشدة طغيانه على بكر قبيلة جساس، إذ منعها من ارتياد الماء: "فمرت بكر بن وائل على نِهْيٍ "غدير" يقال له "شُبَيْث" فنفاهم كليب عنه، وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على نهي آخر يقال له "الأحص" فنفاهم عنه وقال: لا يذوقون منه قطرة، ثم مروا على بطن الجريب "وادٍ عظيم في نجد" فمنعهم إياه، فمضوا حتى نزلوا "الذنائب" "موضع بنجد" واتبعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه، ثم مر عليه جساس وهو واقف

_ 1 ابن الأثير: 1/ 312؛ الأغاني: 5/ 1680.

على غدير الذنائب فقال: طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشًا، فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون. فمضى جساس ومعه ابن عمه المزدلف، وقال بعضهم: بل جساس ناداه فقال: هذا كفعلك بناقة خالتي، فقال له: أَوَقد ذكرتها, أما أني لو وجدتها في غير إبل مرة لاستحللت تلك الإبل بها. فعطف عليه جساس فرسه، فطعنه برمح فأنفذ حضنيه "من دون الإبط إلى الكشح". فلما تداءمه "أدركه" الموت قال: يا جساس اسقني من الماء، قال: ما عقلتُ "منعت" استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه. وهو يشير بذلك إلى أن كليبا قد منع قوم جساس الماء طوال حكمه، وجساس لم يمنعه إياه إلا هذه الساعة. وقد عطف المزدلف عمرو بن أبي ربيعة بعدئذٍ على رأس كليب فاحتزه1. وفي هذه الرواية دليل على تغلب السبب الاقتصادي على حرب البسوس، وأن ما فعله جساس لم يكن سوى تعبير عن ثورة عامة ضد عسف كليب واستبداده. عندئذ هَبَّ المهلهل2 أخو كليب -وهو الشاعر الفارس المعروف- للأخذ بثأر أخيه، فجز شعره وقصر ثوبه، وحرم على نفسه اللهو والشراب، وألا يشم طيبًا، ولا يدَّهن بدهن حتى يقتل بكل عضو من كليب رجلًا من بني بكر بن وائل. لكنه نزل على رأي قومه بأن يفاوض خصومه قبل قتالهم، فأذن لوفد منهم بأن يقصد "مرة" والد جساس، فاتصل به الوفد وخيره بين ثلاث خصال: إما أن يدفع إليهم بجساس ليقتل بكليب، أو بهمام أخي جساس لأنه عدل لكليب، أو أن يَقِيد من نفسه3. فرفض "مُرَّة" كل هذه العروض قائلا: أما جساس فغلام حديث السن، ركب رأسه فهرب فلا علم لي به، وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة ولو دفعته إليكم لصيَّح بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره؟ وأما أنا فلا أتعجل الموت، وهل تزيد

_ 1 الأغاني: 5/ 1681. 2 اسمه عدي بن أبي ربيعة وقيل: امرؤ القيس، وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي، وإنما لقب مهلهلًا؛ لأنه أول من هلهل الشعر وقصد القصائد "ابن الأثير: 1/ 317". 3 الأغاني: 5/ 1680-1685؛ ابن الأثير: 1/ 312-320؛ محمد أحمد جاد المولى بك, المصدر نفسه، ص142 وما بعدها.

الخيل على أن تجول جولة فأكون أول قتيل؟ وهل لكم في غير ذلك؟ هؤلاء بني، فدونكم أحدهم فاقتلوه به، وإن شئتم فلكم ألف ناقة فغضبوا وقالوا: إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك "أي تعطينا أردأ بنيك" وتفرقوا1. وكان لا بد من نشوب الحرب، وقد دامت حوالي أربعين سنة، حدثت فيها ست معارك كبيرة آخرها يوم "تحلاق اللمم" وانتهت بوساطة ملك الحيرة المنذر بن ماء السماء الذي أدى تدخله بين الفريقين إلى صلح عقد بينهما، وقيل: بوساطة الحارث بن عمرو الكندي.

_ 1 الأغاني: 5/ 1684-1685.

حروب المضرية فيما بينهما

حروب المضرية فيما بينهما مدخل ... حروب المضرية فيما بينها: أما الحروب التي جرت بين قبائل الفرع الثاني من العدنانية أي: المضرية فمنها المعروفة باسم:

يوم داحس والغبراء

يوم داحس والغبراء: الذي حدث في أواسط شبه الجزيرة العربية بين قبيلتي عبس وذبيان المتفرعتين من غطفان، وقد جاء توقيته بعد انتهاء حرب البسوس بزمن قليل، وكان السبب في وقوعه خلاف على سباق خيل بين أفراس لحذيفة بن بدر بن فزارة سيد ذبيان، وأخرى لقيس بن زهير بن جذيمة سيد عبس، الذي يصفه الأخباريون بسداد الرأي والحنكة، وقد عرف باسم "قيس الرأي", ويروون عنه حكمًا ونصائح، وبخاصة ما قاله في مناسبات هذه الحرب. وخلاصة الحادثة أن قيسًا وقومه نزلوا في جوار حذيفة وحيه لنسب يربط بينهما، وكان لقيس أفراس لم يكن في العرب مثلها، فحسده حذيفة عليها، ولم يلبث أن كره جواره وأراد إخراجه فلم يجد حجة لذلك. ثم إنه قد جره إلى رهان على سباق بين فرسين لقيس ذكر وأنثى, هما داحس والغبراء، ومثلهما له وهما الخَطَّار والحنفاء. ولما أدرك حذيفة إخفاق أفراسه في السباق عمد إلى استغلال حيلة قد دبرها لإعاقة خيل قيس عن الجري وأدركها قيس، فاختلف الطرفان، وكل منهما ادعى السبق لأفراسه، ورفض حذيفة أن يؤدي الرهان وقدره عشرون ناقة. وانتهى النزاع إلى حرب

استمرت طويلًا، كثرت وقائعها وكانت متفرقة، قتل فيها حذيفة وعدة رؤساء، وامتدت حتى بزوغ فجر الإسلام، ولم تنتهِ إلا بتوسط الرؤساء، حيث سويت بدفع فضل الديات من الطرف الذي كانت قتلاه أقل من قتلى الطرف الآخر. وتمتاز هذه الحروب بكون وقائعها قد تعددت، وبكونها شملت قبائل غير عبس وذبيان، وهي شيبان وضبة وأسد وقبائل أخرى، وبأنها قد اقترنت بشهرة بطل مغوار وشاعر مشهور هو عنترة بن شداد العبسي الذي طغت شهرة قصته على قصة داحس والغبراء، وكان للشاعر زهير بن أبي سلمى ذكر فيها1. ومن الحروب التي جرت للمضربة فيما بينها تلك المعروفة في التاريخ باسم:

_ 1 راجع عن هذه الحروب: الأغاني: 18/ 6483، 6490؛ ابن الأثير: 1/ 343-350؛ جواد علي: 4/ 358؛ فيليب حتي: تاريخ العرب مطول 1/ 121؛ جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام: ص238-240؛ محمد أحمد جاد المولى..، أيام العرب: ص246 وما بعدها.

حروب الفجار

حروب الفجار مدخل ... حروب الفجار: وقد سميت بهذا الاسم؛ لأنها وقعت في الأشهر الحرم وانتهكت جوار الحرم. وهي فجاران، وقد جرت بين كنانة من جهة، وقيس عيلان "هوازن وثقيف" من جهة ثانية:

الفجار الأول

الفجار الأول1: وهي في الواقع ثلاثة أيام سبب أولها: أن رجلًا من غفار كان معتزا بمنعته، اتخذ لنفسه مجلسا في عكاظ، وجعل يتطاول على الناس، وينشد أبياتا من الشعر يفتخر فيها عليهم، ثم مد رجله وقال: أنا أعز العرب فمن زعم أنه أعز مني فليضرب هذه الرجل بسيفه. فوثب رجل من بني نصر فضربها بسيفه فقطعها، فتحاور الحيان وكادت الدماء أن تسيل بينهما، ثم تراجعوا لأنهم رأوا أن الأمر يسير، ولا يستدعي القتال. وسبب اليوم الثاني: أن امرأة جميلة من بني عامر جاءت سوق عكاظ وعلى وجهها برقع، وبينما كانت تتحدث إلى بعض الشبان، أطاف بها شابان مستهتران من كنانة،

_ 1 راجع عنها: ابن الأثير: 1/ 358-359، جواد علي: 4/ 372، محمد أحمد جاد: أيام العرب ص322-325.

وسألاها أن تسفر عن وجهها فأبت فجلس أحدهما خلفها، وشك طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، فلما نهضت انكشف قميصها عن جسمها فضحكا وقالا: منعتنا النظر إلى وجهك، وجدت لنا بالنظر إلى ظهرك، فنادت: يا لعامر، فاقتتلت عامر وكنانة، ووقعت بينهما دماء قليلة، إلى أن توسط حرب بن أمية بينهما، واحتمل دماء القوم، وأرضى بني عامر عما لحق بصاحبتهم. وأما اليوم الثالث، فسببه: أن رجلًا من كنانة قد استدان مالًا من رجل من بني نصر من هوازن، وعجز عن الوفاء به، فجاء النصري إلى سوق عكاظ، ومعه قرد وصار ينادي: "من يبتغي مثل هذا بمالي على فلان الكناني" تحقيرًا للرجل وقومه. فما كان من رجل كناني مر به وسمع القول إلا أن ضرب القرد بسيفه وقتله، فصرخ هذا في قيس عيلان، بينما صرخ الكناني في قومه، واجتمع الناس وتحاوروا، ثم اصطلحوا ولم تحدث حرب بين الطرفين.

الفجار الثاني

الفجار الثاني1: أما حروب الفجار الثاني فهي خمسة أيام، وقد وقعت بعد عشرين سنة من عام الفيل، أي حوالي عام 590م، وذلك في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته، ولم يكن في أيام العرب أشهر منها، وأشهرها وأهمها اليوم الأول الذي يسمى:

_ 1 راجع عنها ابن الأثير: 1/ 360-361، جواد علي: 4/ 373-374، محمد أحمد جاد المولى أيام العرب: ص326 وما بعدها.

يوم نخلة

يوم نخلة: سببه: أن البراض الكناني، وكان رجلا شريرا فاسقا سكيرا، قد أتعب قومه، فخلعوه وتبرءوا منه، فالتحق بحي من قيس فخلعوه أيضا، فصار ينتقل من قبيلة إلى أخرى، ومن سيد إلى آخر، يطلب الحماية والجوار وكلهم يلفظونه، حتى نزل على حرب بن أمية فحالفه، ثم شرب بمكة فهم بخلعه، لكنه استحلفه ألا يفعل فتركه وشأنه بشرط أن يغادر مكة فتركها. وقدم البراض على النعمان بن المنذر أبي قابوس ملك الحيرة، وكان هذا يرسل في كل سنة لطيمة تباع له في عكاظ أو غيره من أسواق العرب، وتعهد له بأن يجيز له اللطيمة حتى يبلغها سوق عكاظ. لكن النعمان أجابه بأنه يريد رجلا يجيزها على كنانة وقيس،

فأبدى البراض استعداده لذلك. وكان رجل من قيس عيلان يسمى "عروة بن عتبة الكلابي" المعروف باسم "الرحال" قد سمع بذلك، فجاء إلى النعمان وقال له: "أكلب خليع يجيزها لك؟ أنا أجيزها على أهل الشيح والقيصوم، من أهل تهامة ونجد". ولما عهد النعمان باللطيمة إلى عروة، تبع البراض أثره حتى غافله وقتله غدرًا، فانهزم رجاله، واستاق البراض العير إلى خيبر، وبعث رسولا مستعجلا إلى كبير قريش حرب بن أمية يخبره بالأمر، وبالحذر من قيس. فنشر حرب بن أمية الخبر بين أشراف قريش، فاجتمع هؤلاء وتشاوروا في الأمر، واستعرضوا احتمال لجوء قيس إلى الأخذ بثأر قتيلها من كنانة. واتفق رأيهم على التفاوض مع عامر بن مالك سيد قيس بذلك، فأتوه وكلموه في الأمر، وبوجوب الاكتفاء بقتل القاتل، وأوشكت المفاوضات أن تنتهي إلى المصالحة. وصدف حينئذٍ أن جماعة من قريش كانت في عكاظ، وحينما بلغها ما فعله البراض، خشيت أن تكون قبيلتهم كنانة في ضيق بسبب هذه الحادثة وما يسفر عنها من ذيول، فركبوا إلى مكة لنصرتهم، فاعتبرت قيس عيلان ذلك غدرا من كنانة لأن قريشا منها، وأقسم رئيسها عامر بن مالك ألا تنزل كنانة عكاظ أبدًا، وشمر الفريقان للحرب. وقد جرت أول معركة في نخلة، إذ جدت قيس في اللحاق بجماعة قريش، حتى أدركتهم فيها، واقتتل الفريقان قتالًا هزمت فيه قريش وكنانة، والتجأت إلى الحرم، فكفت قيس عنها. وجر عمل الخليع إلى وقوع جملة أيام أخرى، أدت إلى اضطراب الأمن في مواسم وفي أماكن حرم فيها القتال عند العرب، فحصل في العام التالي يوم "شمطة" الذي تجمعت فيه قريش وكنانة بأسرها، وعلى رأسهم حرب بن أمية ومعه عبد الله بن جدعان على الميمنة وهشام بن المغيرة على الميسرة. وقد لحق بقريش الأحابيش ومن تبعتهم من بني أسد بن خزيمة، لملاقاة سليم وهوازن من قيس، وكان على رأسهم مسعود بن معتب الثقفي، وفي بني عامر ملاعب الأسنة أبو برَّاء، وفي بني نصر وسعد وثقيف سبيع بن ربيع، وفي بني جشم الصِّمَّة والد دُرَيْد، وفي غطفان عوف بن أبي حارثة، وفي بني سليم عباس بن زغل، وفي فهم وعدوان كدام بن عمر.

وكان النصر في أول النهار لكنانة على هوازن وحلفائها، حتى إذا كان آخر النهار، تداعت هوازن وصبرت، وأحرزت النصر على كنانة. وعادت هوازن وكنانة إلى الحرب في يوم عُرِفَ بيوم "العبلاء" واقتتلوا وكانت الهزيمة من نصيب كنانة أيضًا. وقد حز في نفس كنانة أن تهزم في يومي "شمطة" و"العبلاء" وراح رؤساؤها يستعدون للانتقام، وتكتلوا وأكثروا من شراء السلاح، وحمل عبد الله بن جدعان ثري قريش يومئذٍ ألف رجل من كنانة على ألف بعير، وتولى قيادة كل بطن رئيسه، واقتتل الناس قتالًا شديدًا في يوم عرف باسم "يوم عكاظ" الذي انتصرت فيه كنانة على قيس، وكان زعماء قريش "حرب" و"سفيان" و"أبو سفيان" وبنو أمية بن عبد شمس قد عقلوا أنفسهم وقالوا: "لا نبرح حتى نموت مكاننا أو نظفر" فسموا لذلك باسم "العنابس" أي: الأسود. أما اليوم الأخير فهو المعروف باسم "يوم الحريرة" الذي اقتتل فيه الطرفان قتالًا فاترًا بحيث يلقى الرجلُ الرجلَ، والرجلان يلقيان الرجلين، فيقتل بعضهم بعضا، دون أن يحرز فريق على الآخر أي نصر. ثم تداعيا إلى الصلح على أن يعدوا القتلى، فأيهما له فضل من القتلى على الآخر تدفع له ديتهم.

الحروب بين القبائل العربية والمناذرة

الحروب بين القبائل العربية والمناذرة مدخل ... الحروب بين القبائل العربية والمناذرة: كانت علاقات المناذرة بالقبائل العربية كثيرة، وكان لملك المناذرة في قلوب معظم هذه القبائل مكانة كبيرة. ولما كان مجلسه يضم كثيرًا من رؤساء وأشراف هذه القبائل، وكان هؤلاء ينالون منه الخلع والهدايا الكثيرة، كان يقع فيما بينهم تنافس على التقرب منه، ويتحاسدون في نوال عطاياه، مما يجر إلى حروب تقع فيما بينهم، أو بينهم وبين ملك الحيرة نفسه. وهناك أسباب أخرى لهذه الحروب، فقد كان لملوك الحيرة تجارة مع الأسواق العربية، ذلك أن لطائمهم "مفردها: لطيمة, وهي القافلة التجارية" تذهب كل عام إلى

أسواق العرب وبخاصة سوق عكاظ، وكانت مهاجمة بعض القبائل لهذه القافلة تؤدي غالبًا إلى نشوب الحرب، وكان من هذه الحروب على سبيل المثال:

يوم السلان

يوم السِّلّان: وقد وقع بين بني عامر بن صعصعة من قيس عيلان، وبين النعمان بن المنذر أبي قابوس، عندما تعرضوا للطيمته، التي كان يجهزها في كل عام، ويرسلها إلى سوق عكاظ. وكان بنو عامر قومًا حُمْسًا، متشددين في دينهم، لقاحًا لا يدينون للملوك، فما كان من النعمان إلا أن وجه إليهم أخاه لأمه "وبرة الكلبي"، ووضع تحت أمره الصنائع والوضائع، وجماعات من بني ضبة والرباب وتميم، وقد أوصاهم إذا فرغوا من البيع وانسلخت الأشهر الحرم، أن يقصدوا بني عامر وهم بنواحي السلان بالقرب من عكاظ. غير أن قريشًا قد علمت بالمكيدة والخطة بالرغم من تكتم القائمين على الحملة، وأرسلت إلى بني عامر تحذرهم، فتهيئوا للحرب وسلموا قيادتهم لفارس مشهور هو عامر بن مالك المعروف باسم "ملاعب الأسنة", والتقى الفريقان في "السلان" فتغلب العامريون على جيش النعمان وهزموه وأسروا أخاه "وبرة" ولم يفكوا إساره إلا بألف بعير وفرس1، ومن الأيام التي وقعت بين القبائل العربية والمناذرة:

_ 1 أيام العرب، ص107-108؛ ابن الأثير: 1/ 391.

يوم طخفة

يوم طخفة: وقد وقع بين بني يربوع من تميم، وبين النعمان بن المنذر أبي قابوس، بسبب عقده العزم على نزع الردافة منهم، وكانت فيهم أبًا عن جد، ووضعها في بني دارم من تميم أيضا. وكانت الردافة بمنزلة الوزارة، حيث يجلس الرديف على يمين الملك إذا جلس. فلما أبى بنو يربوع التنازل عن الردافة، أرسل إليهم النعمان قوة كثيفة فيها الصنائع والوضائع، وعلى أسها ابنه قابوس وأخوه حسان لتخضعهم. ودارت المعركة في موضع يقال له "طخفة" فتغلب بنو يربوع على جيش النعمان، وأسروا ابنه قابوس وأخاه حسان، واضطر الملك إلى إعادة الردافة إليهم، وفداء

قابوس وحسان. وروي أيضًا أن بني يربوع قد أخلوا سبيل قابوس وحسان، فقدر الملك صنيعهم، فرد عليهم الردافة وعفا عنهم ما قتلوا وما غنموا، وأعطاهم ألفي بعير1. وفي ذلك يقول مالك بن نويرة التميمي مفتخرًا: ونحن عقرنا مهر قابوس بعدما ... رأى القوم منه الموت والخيل تلحب عليه دلاص ذات نسج وسيفه ... جُراز من الهندي أبيض مقضب

_ 1 ابن الأثير: 1/ 396-397؛ أيام العرب: ص94-97.

حروب العرب مع الأقوام الأخرى

حروب العرب مع الأقوام الأخرى مدخل ... حروب العرب مع الأقوام الأخرى: وقد وقعت هذه الحروب مع الفرس، وتعود أسبابها إجمالًا إلى سبب اقتصادي، هو رغبة الفرس في استغلال نصرهم الذي حققوه على الأحباش ومن ورائهم البيزنطيين، في اليمن بمساعدتهم العرب على تحرير أراضيهم، استغلالًا اقتصاديًّا, والحصول على أرباح طائلة بحصر مقاليد التجارة في أيديهم، وذلك بتسيير قوافلهم التجارية بين اليمن وفارس عن طريق البر، وقد فعلوا ذلك ونفذوه. غير أن مشروعهم هذا كان بحاجة إلى دعم من قبل قوات عسكرية، تؤمن لهم السيطرة على الأرضين والطرق التي تمر فيها هذه القوافل عبر شبه جزيرة العرب، أو على الأقل شراء رؤساء القبائل بالمال. لكن وضع الإمبراطورية الفارسية وبعد المسافة وصعوبة المسالك، لم تسمح لهم بتحقيق مشروعهم، فتعرضت قوافلهم للسلب والنهب من قبل القبائل، وأسفرت عن حملات انتقامية ضد العرب. كما تعود إلى أسباب سياسية، هو تخوف الفرس من العرب، لا سيما عرب الحيرة، ورغبتهم في تضييق قبضتهم على أعناقهم، كما بينت في الفصول السابقة.

يوم الصفقة

يوم الصفقة مدخل ... 1- يوم الصفقة1: وقد حدث في أوائل القرن السابع للميلاد، وسببه: أن "بازان" نائب كسرى أبرويز في اليمن، قد أرسل إليه أحمالا من حاصلات اليمن ومصنوعاتها، فلما بلغت مكانا من أرض

_ 1 ابن الأثير: 1/ 378-379؛ أيام العرب: ص2-5.

نجد، أغارت عليها تميم وانتهبتها، وسلبت رسل كسرى1. فقدم هؤلاء على "هوذة بن علي الحنفي" صاحب اليمامة وكان على النصرانية، كما كان إذا جهز كسرى لطيمة لترسل إلى اليمن، يجهز رسل الملك الفارسي ويحسن جوازهم، بمعنى أنه كان عميلًا للفرس في اليمامة. فلما قدم عليه رسل كسرى1 بعد أن سُلبوا، وانتُهبت لطيمة كسرى، أحسن إليهم وكساهم. ولذا فإن الملك الفارسي، حينما بلغه خبر الحادثة، أنعم عليه بمال كثير، وبتاج من تيجانه, وأقطعه أموالا بهجر، وكلفه بتأديب بني تميم جزاء ما فعلوا بلطيمته، وعززه بحملة من أساورة الفرس، وعلى رأسها قائد فارسي يسمى "المكعبر". ولما وصل المكعبر وهوذة إلى هجر، نزلا حصنًا يسمى "المشقر" وقد تهيبا دخول أرض تميم, وأهلها ممتنعون فيها، فعمدا إلى الحيلة والغدر، فبعثا في طلب بني تميم يدعونهم إلى "الميرة" -وكانت سنة شديدة قاسية- فأقبلوا على كل صعب وذلول، كما يقول ابن الأثير، فجعل المكعبر يدخلهم الحصن خمسة خمسة وعشرة عشرة، على أن يخرجوا من باب آخر، وكل من دخل ضرب عنقه. وعندما طال الأمر ورأى الناس أن من يدخلون لا يخرجون، بعثوا رجالا يستعلمون الخبر، ولما وقفوا على الحقيقة شد رجل من عبس، فضرب السلسلة التي كانت على الباب فقطعها، وخرج من كان بالباب. فلم يكن من المكعبر إلا أن أمر بإغلاق أبواب المدينة، وضرب أعناق كل من كان فيها من تميم. وقد سمي هذا اليوم باسم "يوم الصفقة" لإصفاق الباب أي: إغلاقه. كما عرف باسم "يوم المشقر" نسبة للحصن، وقد صادف هذا اليوم عيد الفصح، فاستوهب هوذة من المكعبر مائة رجل من تميم كساهم وأطلق سراحهم بمناسبة العيد، فمدحه الأعشى بقصيدة منها: سائل تميمًا يوم صفقتهم ... لما أتوه أسارى كلهم ضرعا وسط المشقر في عيطاء مظلمة ... لا يستطيعون فيها ثم ممتنعا

_ 1 يقول محمد أحمد جاد المولى مؤلف كتاب أيام العرب: "إن العير لما وصلت إلى اليمامة، قال هوذة لرسل كسرى: انظروا الذي تجعلونه لبني تميم، فأعطونيه وأنا أكفيكم أمرهم، وأسير بها معكم حتى تبلغوا مأمنكم. وخرج معهم، فلما وصلوا إلى وادٍ لتميم الذين بلغهم ما صنعه هوذة هاجموهم، وسلبوا ما معهم، وقتلوا بعض الأساورة، وأسروا هوذة بن علي ولم يفكوا إساره إلا بفدية ثلاثمائة بعير". أيام العرب: ص2-3.

ففك من مائة منهم وثاقهم ... فأصبحوا كلهم من غله خلعا بهم تقرب يوم الفصح ضاحية ... يرجو الإله بما أسدى وما صنعا وكان من ذيول يوم الصفقة أن وقع بين بني الحارث بن كعب ومعهم مذحج وقضاعة وبين تميم يوم يسمى:

يوم الكلاب الثاني

يوم الكلاب الثاني: الذي وصفه صاحب الأغاني بأنه أحد أعظم ثلاثة أيام من أيام العرب، ويقصد باليومين الآخرين: يوم ذي قار، ويوم جبلة بين بني تميم وبني عامر من العدنانية1. ويوم الكلاب الثاني هو من الأيام التي وقعت بين القحطانية والعدنانية، وهو وإن كان موضع بحثه في غير هذه الفقرة، فلا بد من التنويه عنه بمناسبة حدوثه كنتيجة لليوم السابق، وخلاصته: أن بني تميم خافوا، بعد أن أوقع بهم الملك الفارسي، وضعفوا أن تطمع العرب بأموالهم، وتستغل ضعفهم فتفاجئهم بغزو، فاجتمع سبعة من ذوي الرأي فيهم، وأبرزهم وأسنهم: أكثم بن صيفي الأسدي الذي نيَّف على التسعين، وقيس بن عاصم المنقري، والزبرقان بن بدر السعدي، واتفقوا على خطة حكيمة، هي أن يجتمعوا على ماء، ولا يعلم الناس أين هم مجتمعون، حتى يقوى ظهرهم وتصلح أحوالهم، فارتحلوا ونزلوا على ماء بين الكوفة والبصرة يدعى "الكلاب" وتفرقت بطونهم: الرباب وسعد وحنظلة في مختلف أطراف الوادي. والواقع أن إحدى قبائل العرب الجنوبية من نجران "بنو الحارث بن كعب" قد بلغهم ما حل بتميم، فطمعوا بخيلهم وإبلهم ونسائهم، فأرادوا اغتنام الفرصة للسطو عليهم، فجمعوا جموعهم وساروا ومعهم مذحج وقضاعة، في عسكر عظيم إذ بلغوا ثمانية آلاف "لا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه، ومن جيش كسرى بذي قار، ومن يوم جبلة" -كما يقول ابن الأثير- يريدون بني تميم. ولما سمع بهم هؤلاء امتثلوا لمشورة أكثم بن صيفي،

_ 1 الأغاني: 11/ 3917؛ جواد علي: 4/ 367.

ورتبوا أنفسهم بشكل جعل لهم الغلبة حين وقعت المعركة، فأنزلوا بمذحج ومن معها من قضاعة هزيمة شنيعة، وكسروهم شر كسرة، وقتلوا كبار زعمائهم، وأسروا رئيس مذحج عبد يغوث بن وقاص الحارثي، وقتلوه لقاء مقتل النعمان بن مالك بن جساس من زعماء تميم. وقد برز في هذا اليوم قيس بن عاصم المنقري الذي صات إليه الرياسة في تميم1.

_ 1 ابن الأثير: 1/ 379-381؛ أيام العرب: 124-125.

موقعة ذي قار

موقعة ذي قار مدخل ... 2- موقعة ذي قار: أما موقعة ذي قار التي وقعت بين العرب عامة والفرس، فتعتبر أهم وأعظم يوم من أيام العرب، سواء من حيث عواملها التي برزت فيها الأسباب السياسية من إمعان الفرس في تسلطهم على العرب، واستبدادهم بهم، وخشيتهم من تزايد قوتهم وأهميتهم -وقد بينت ذلك فيما تقدم من بحوث1- أو سواء من حيث كثرة المقاتلين الذين حشدهم كل من الطرفين في أرض المعركة، أو من حيث نتائجها وما رافقها من صور أبرزت التضامن العربي بصورة جلية، وما تخللها من أحداث برهنت عن تحدي العرب لإحدى أقوى دولتين مجاورتين لشبه جزيرة العرب. بينت فيما تقدم الأسباب الأساسية لهذه المعركة، وملخصها: أن قتل عدي بن زيد من قبل النعمان بن المنذر قد أسفر عن ظهور زيد بن عدي على مسرح الأحداث، واتصاله بكسرى، وإيغار صدره على النعمان، بسبب ما روي على لسان النعمان من تحقير له، فأرسل في طلبه. وقد أدرك النعمان ما يراد به من شر، فحمل أسلحته ودروعه، وحاول اللجوء إلى بعض القبائل العربية من طيء وغيرها، فخاب ظنه فيها؛ لأنها خشيت بطش كسرى، فلم ير بدًّا من الذهاب إلى الملك الفارسي. وفي طريقه إليه عرَّج على بني شيبان في ذي قار، ونزل عند هانئ بن مسعود بن عمرو الشيباني2، وكان سيدًا منيعًا في قومه، فأبدى للنعمان استعداده لحمايته، لكنه قيد استعداده بقوله: "أنا مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وولدي منه, ما بقي من عشيرتي الأدنين رجل، وإن ذلك غير نافعك لأنه مهلكي

_ 1 راجع الفصل السابع: بحث المناذرة. 2 يقول الطبري: بل إنه هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود.

ومهلكك" ونصحه -كما يقول صاحب الأغاني- بمقابلة الملك، بعد أن يكون قد سيَّر إليه الهدايا والأموال، وبأن يلقي نفسه بين يديه، فإن صفح عنه عاد ملكًا، وإلا فالموت -وهو نازل بكل مخلوق- خير من تجرع الذل والبقاء سوقةً بعد المُلْك1. فقبل النعمان نصيحته، وآثر المضي في سبيله إلى المدائن، لإدراكه أن كسرى سيطوله أينما يكون، وأودع عند هانئ بن مسعود حلقته وأهله وولده وألف شكة2. وما أن أصبح في قبضة كسرى حتى قيده، وأمر بطرحه تحت أرجل الفيلة، وفي رواية أخرى قيده وبعث به إلى السجن، ولم يزل سجينا حتى وقع طاعون فمات فيه، ووضع مكانه إياس بن قبيصة من طيء ملكًا على الحيرة. كان إياس عميلا مخلصا للفرس، فكلفه كسرى بأن يطلب من هانئ بن مسعود أسلحة النعمان التي أودعت عنده، ولما رفض هانئ تسليمها عقد كسرى العزم على محاربته، وأرسل إلى شيبان أن اختاروا واحدة من ثلاث خصال: إما أن تعطوا ما بأيديكم فيحكم فيكم الملك بما شاء، وإما أن تُعَرُّوا الديار "تغادروها" وإما أن تأذنوا بحرب. فتداول القوم الأمر، واستقر رأيهم على المقاومة، وولوا أمرهم أحد بني عجل وهو "حنظلة بن ثعلبة بن سيار" وكانوا يتيمنون به وكان من رأيه القتال، ذلك أنه لما رأى من بعض القوم ترددًا قال لهم: "لا أرى إلا القتال؛ لأنكم إن أعطيتم ما بأيديكم قُتلتم وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش وتلقاكم تميم فتهلككم، فآذنوا الملك بحرب". أما كسرى فقد أمر قائديه "الهامرز" وهو مرزبانه الكبير و"جلابزين" بمن تحت إمرتهما من قطعات، أن يجتمعا إلى إياس بن قبيصة، ثم كتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن شيبان -وكان كسرى قد أطعمه الأبُلَّة- بأن يوافي إياسًا، وجاءت الفرس بجند عظيم، ومعهم الفيلة عليها الأساورة، فلما دنت من معسكر العرب انسل قيس بن مسعود ليلا فأتى هانئًا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا

_ 1 الأغاني: 2/ 544. 2 الشكة: السلاح، وفي الطبري: إن ما أودعه النعمان عند هانئ هي دروع, فقد ذكر أن المقلل يقول: إنها أربعمائة درع، والمكثر يقول: إنها ثمانمائة درع.

لأنفسهم وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردوه عليك، ففعل بما أشار عليه وقسم الأسلحة في ذوي الجلد والبأس من قومه. ولما رأى حنظلة بادرة وهن من هانئ، الذي أمر جماعته بأن تركب الفلاة، إذ لا طاقة لهم بجنود كسرى، وثب وقال لهانئ: "إنما أردت نجاتنا فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة" ثم رد الناس وقطع وضن الهوادج "أحزمة الإبل"؛ لئلا يتمكن المتخاذلون من حمل نسائهم عليها إذا هربوا، فسمي "مقطع الوضن" ونصب خيمة في بطحاء ذي قار وجلس عندها وقال: أما أنا فلن أفر حتى تفر هذه الخيمة. وبدأ الاستعداد للحرب، وكان عدد من اشترك من العرب مع الفرس ثلاثة آلاف من بني تغلب أعداء بكر، ومن بني إياد وبني نمر وبني قضاعة بالإضافة إلى ألفين من الأساورة على كل ألف منهما قائد، والقائدان هما "الهامرز وجلابزين" كما اشتركت في المعركة كتيبتا الشهباء والدوسر التابعتان لمملكة الحيرة، فبلغ عدد الجيش الفارسي حوالي سبعة إلى ثمانية آلاف محارب. أما المقاتلون العرب فكانوا أقل عددًا، وفيهم بنو شيبان وبنو بكر بن وائل وبنو عجل وبعض الحلفاء من سكون، بالإضافة إلى مائتي أسير من بني تميم أبدوا رغبتهم في القتال بإصرار وعناد، وقد استقى العرب ماءً لنصف شهر، وكان بنو إياد في الجانب الفارسي قد أرسلوا إلى بني بكر وأعلموهم بأنهم سيخذلون الفرس في أثناء المعركة، وأشار يزيد بن حمار السكوني، وكان حليفا لشيبان، بأن يكمنوا للفرس كمينا، فوضعوا يزيد على رأس الكمين، ومعه جمع من قومه. وقد رتب حنظلة خطة القتال على أساس أن يخرج الكمين من وراء الفرس، عندما يكون القتال قد استعر بين الفريقين، ويكون خروج الكمين إشارة لبني إياد كي ينفصلوا عن الفرس ويغادروا صفوفهم. لما بدأت المعركة مال الفرس إلى الجبابات خوفًا من العطش، فتعقبتهم بكر وعجل وظلتا تقاتلانهم، حتى رجعوا إلى بطحاء ذي قار, والعطش قد أضناهم، ثم قتل "الهامرز" في مبارزة مع فارس عربي، فخرج الكمين من جب ذي قار، وهاجم الجيش الفارسي من الخلف، ونفذ بنو إياد عزمهم فخذلوا الفرس، وكان مقدرا على هؤلاء أن

يهزموا هزيمة شنيعة وفاصلة، فتعقب العرب فلولهم، حتى قتلوا "جلابزين" قائد مسيرة الجيش الفارسي، وكان النصر الحاسم للعرب. يقول المسعودي1: "إن وقعة ذي قار حدثت لتمام أربعين سنة من مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة بعد أن بُعث، وقيل: بعد أن هاجر". وفي رواية أخرى أنها كانت بعد وقعة بدر بأشهر، وأن الرسول قد قال فيها: "هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، ونُصِرَتْ عليهم بي"2.

_ 1 المسعودي مروج الذهب، 1/ 306-307. 2 الطبري: 2/ 207-210، ابن الأثير: 1/ 289-291, جواد علي: 4/ 103-104، محمد جاد المولى بك: أيام العرب، ص25-31.

أهمية معركة ذي قار ونتائجها

أهمية معركة ذي قار ونتائجها: إن لهذه المعركة أهمية عظيمة من حيث مظاهرها القومية, فقد جرؤ العرب لأول مرة في التاريخ على لقاء الفرس في معركة سافرة، فقويت معنوياتهم. ومع أن عددًا من القبائل العربية كانت في جانب الفرس، غير أن شعورهم كان مع العرب, وقد دل على ذلك خذلان بني إياد للجيش الفارسي في اللحظة الحاسمة من المعركة، وتضامن بني سكون وبعض بني تميم مع بكر وشيبان. وعلى أثر خذلان الفرس في يوم ذي قار، أقصي إياس بن قبيصة عن حكم الحيرة، إذ عده الفرس مسئولا عن الهزيمة بوصفه القائد الأعلى للجيش المحارب فيها. ويظهر أنه قد هرب من وجههم، كما تقول الرواية العربية، إذ انفصل عن المعركة عندما أدرك الخسارة التي لحقت جيشه، وذهب إلى كسرى، وأخبره أن النصر للفرس فيها، خوفًا من أن يخلع كتفه كما فعل بمن أتاه قبل ذلك بأخبار مشئومة عنها ولاذ بالفرار، فحكم الفرس الحيرة حكما مباشرا. وقد افتخر العرب، وما زالوا يفتخرون بيوم ذي قار، ومما قال الأعشى فيه: وجند كسرى غداة الحنو1 صبحهم ... منا غطاريف ترجو الموت فانصرفوا لقوا ململمة شهباء يقدمها ... للموت لا عاجز فيها ولا خرف

_ 1 حنو ذي قار: هو من ذي قار على مسيرة ليلة, وذو قار: ماء لبكر بن وائل يقع قريبًا من الكوفة بينها وبين واسط "ياقوت الحموي: مادة قار".

فيها فوارس محمود لقاؤهم ... مثل الأسنة لا ميل ولا كشف لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض فظل الهام يقتطف وخيل بكر فما تنفك تطحنهم ... حتى تولوا وكاد اليوم ينتصف

الفصل الحادي عشر: القبائل العربية ومواطنها قبل الإسلام

الفصل الحادي عشر: القبائل العربية ومواطنها قبل الإسلام مدخل ... الفصل الحادي عشر: القبائل العربية ومواطنها قبل الإسلام في البحث عن أنساب العرب وطبقاتهم بينت أن المؤرخين يرجعون العرب إلى جدين اثنين: قحطان وعدنان، وأن مساكن القحطانيين تقع في جنوبي شبه جزيرة العرب، وأن مساكن العدنانيين في شماليها. وبالرغم مما يكتنف نسبة العرب إلى جدين مختلفين من شكوك أوردها الباحثون المحدثون، فإنه لا بد من التسليم بتقسيمهم تقسيمًا جغرافيًّا, أي: إلى جنوبيين وشماليين، ولا بد من الإشارة إلى أن قبائل جنوبية قد نزحت إلى الشمال وقطنت في جوار القبائل الشمالية، والمهم في بحثنا هذا معرفة مواطن أهم هذه القبائل -على قدر الإمكان- في الجاهلية القريبة من الإسلام، وهذه خطوط عامة عنها:

القبائل العدنانية في الشمال

القبائل العدنانية في الشمال: يرجع النسابون قبائل الشمال إلى عدنان، فيقولون: إنه كان لعدنان ولدان أولهما عك والثاني معد، وإن القبائل التي نسلت من الأول سميت باسم "قبائل عك", والأخرى باسم "قبائل معد". وقد نزلت قبائل عك في نواحي زبيد جنوبي تهامة. يقول ابن حزم الأندلسي: إن من ولد عك غافق بن الشاهد بن علقمة بن عك، وإن عبد الرحمن الغافقي شهيد موقعة بلاط الشهداء في فرنسا منهم1. ويقال: إن بقية من عك بقيت حتى بعد ظهور الإسلام، إنما لم يكن لها شأن يستحق الذكر. أما ابن عدنان الآخر معد، الذي تنتسب إليه قبائل عرب الشمال، فقد ذكر النسابون ولدين له هما: قنص الذي سكنت قبائله أرض مكة وأوديتها وشعابها وجبالها وما صاقبها من البلاد, ثم نزار الذي كان من أولاده: إياد وربيعة ومضر وأنمار، وكل منهم قد أنسل أولادًا أطلق اسم كل منهم على القبيلة التي انتسبت إليه.

_ 1 ابن حزم: جمهرة أنساب العرب، ص309.

وأما قبائل إياد فقد استوطنت تهامة، لكنها أجليت عنها إثر حرب وقعت بينها وبين ربيعة ومضر، وكانت هي الخاسرة فيها، فاضطرت إلى النزوح نحو البحرين حيث اختلطت بقضاعة. وفي أول حكم سابور الذي تولى ملك فارس وهو صبي حدث، انتقلت إياد مع كثير غيرها من القبائل العربية نحو الكوفة, وقد عاصرت هذه النقلة أيام حكم امرئ القيس بن عمرو على الحيرة، فلما شب سابور وتولى الحكم الفعلي في مملكته -بعد عهد وصاية عليه- خشي من مغبة وجود هذه القبائل في جنوب العراق، فنكل بأفرادها تنكيلًا شديدًا وشردها، وكان يخلع أكتاف من يقع في قبضته من زعمائها، فأطلق عليه لقب "ذي الأكتاف". ويظهر أن وجود إياد قد استمر في العراق على نحو ما حتى حكم كسرى أنوشروان، في عهد المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، وقد سخط عليهم كسرى بسبب إغارة منهم على نساء الفرس، فغزاهم ونكل بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة في مكان عرف باسم "دير الجماجم" لكثرة ما تكدس فيه من الجثث والجماجم، ثم نفاهم عن أراضي العراق. وقد التجأت بطون من إياد إلى أرض الروم والشام وتفرقت فيها، بعد أن مرت بالموصل وطردت منها1. وبقيت ربيعة ومضر في جهات تهامة، إلى أن قامت الفتن والخلافات بين مختلف بطونها، فنزحت ربيعة إلى وسط شبه الجزيرة العربية "جهات نجد وغمر كندة" وما يلي ذلك شرقا حتى الخليج العربي. ومن أشهر قبائل ربيعة قبيلة عبد القيس التي نزلت في البحرين حيث كانت قبائل إياد قد سبقتها إليها، فجاءت عبد القيس وأجلتها واحتلت مكانها، واقتسمت البلاد بين بطونها، وقصد قسم منها عمان. كما نزلت قبائل أخرى من ربيعة، كقبائل بكر بن وائل "ومنها الشاعر المعروف الحارث بن حلزة" وتغلب بن وائل "ومنها الشاعر المشهور عمرو بن كلثوم" وعنزة في ظواهر نجد والحجاز وتهامة، إلى أن وقعت الحرب فيما بينهم إثر مقتل كليب على يد جساس، فتفرقوا ونزلت قبائل من بكر في العراق والبحرين، وأخرى من تغلب في العراق وفي بادية الشام.

_ 1 جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص176.

وعند ظهور الإسلام كانت قبائل ربيعة تسكن اليمامة "في نجد" وهي قبائل حنيفة وبني قيس بن ثعلبة. ومن إحدى هذه القبائل، وهي قبيلة ضبيعة، نبغ عدد من الشعراء المعروفين، منهم: الأعشى ميمون بن قيس، والمرقش الأكبر عمرو بن سعد، والمرقش الأصغر ربيعة بن قيس وعمرو بن قميئة وهما ابنا أخوي المرقش الأكبر، وطرفة بن العبد. وإلى أحمس بن ضبيعة ينتسب الشاعر المسيَّب واسمه زهير بن علس وهو خال الشاعر الأعشى "أعشى بكر" ومنهم الشاعر المتلمس وهو جرير بن عبد المسيح1. ومن ربيعة قبيلة أسد، وكانت مساكنها شمالي وادي الرمة. وأما القبائل التي نسلت من مضر بن نزار فقد شكلت شعبا عظيما على رأي النسابين. فمن أبناء مضر: إلياس وقيس عيلان. وقد أصبح لقبائل قيس عيلان شأن عظيم، إذ أصبحت تؤدي معنى العدنانية في مقابل القحطانية. ولم تزل مضر في تهامة بعد خروج ربيعة منها، حتى كثر عددها، وضاقت البلاد ببطونها، وتنافست على الكلأ والمرعى، وبغى بعضهم على بعض، واقتتلوا فتفرقوا، وظعنت قيس إلى بلاد نجد إلا بعض قبائلها، كهوازن التي قصدت الطائف وذي المجاز وحنينًا وغرب نجد بوجه عام. ومن قيس عيلان تحدرت بعض القبائل البارزة مثل: سعد وهوازن وسليم، وكانت تسكن الجزء الغربي من نجد. وإلى قيس تنتسب عطفان التي منها عبس وذبيان، وبنو سليم وثقيف التي سكنت الطائف، عامر التي سكنت في نجد, وهلال وكلاب وكعب. ومن القبائل المضرية مدركة وطابخة، وقد انحدرتا من إلياس "خندف" بن مضر. ومن مدركة تحدرت هذيل التي سكنت في السراة "بين مكة والمدينة" وقد اشتهر الهذليون بكثرة شعرهم وجودته، وخذيمة التي منها أسد وكنانة، التي سكنت بجوار مكة، وانحدرت منها قريش. ومن طابخة تحدرت الرباب، وقد سكنت على أطراف الدهناء، وإليها تنتسب قبائل عبد مناة وعدي وعوف وثور ومزينة التي سكنت جبل رضوى قرب المدينة، وضبة

_ 1 ابن حزم: جمهرة أنساب العرب، ص275، 276، 300.

التي سكنت في اليمامة، ومر التي تنتسب إليها أكبر قبائل الجاهلية القريبة من الإسلام، وهي تميم التي انتشرت بطونها في نجد، وفي وادي العراق وشتى أنحاء شبه الجزيرة. وقد كان بين ربيعة ومضر عداء شديد، ظل قرونًا طويلة، كان من شدته أن ربيعة قد جنحت في أغلب الأحيان إلى التحالف مع اليمنيين لمقاتلة أبناء عمهم المضريين.

القبائل القحطانية في الشمال

القبائل القحطانية في الشمال: جاءت هذه القبائل من الجنوب اليمني، وأول من قدم منها قضاعة من نسل حمير بن سبأ. إذ جاءت إلى جدة وما يصاقبها من تهامة إلى الجنوب, وقد اضطرت إلى النزوح من هذا المكان؛ لحرب وقعت بينها وبين ربيعة التي كانت في جوارها، وكان السبب أن رجلًا منها عشق فتاة من ربيعة، فانتصرت مضر وإياد وأنمار لربيعة، بينما انتصرت عك لقضاعة، فهُزمت قضاعة وأجليت عن أماكنها، فقصدت نجدًا ثم الشام1. وفي ذلك يقول عامر بن الظرب المضري: قضاعة أجلينا عن الغور كله ... إلى فلجات الشام تزجي المواشيا وما عن تقال كان إخراجنا لهم ... ولكن عقوقًا منهم كان باديا بما قدم الهندي لا دَرَّ دَرُّه ... غداة تمنى بالحرار الأمانيا وللنسابين آراء في أصل قضاعة: منهم من يرجع نسبها إلى حمير بن قحطان، ومنهم من ينسبها إلى معد بن عدنان. وسبب هذا الاختلاف عوامل سياسية كان لها أثر في تصنيف الأنساب في عهد معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد، إذ حملا زعماء قضاعة ومنها كلب التي كانت ميسون زوجة معاوية منها، على التخلي عن نسبتهم إلى القحطانية اليمنية والانتماء إلى معد. فأثرت المغريات والأموال التي بذلها معاوية وابنه في بعض زعماء قضاعة، واستجابوا لطلب الخليفتين الأمويين، بينما رفضت الأكثرية وأبت إلا الاستمرار في نسبتها إلى قحطان. ويظهر أن اختلاط قبائل من قضاعة بقبائل عدنانية، وأخرى منها بقبائل قحطانية، هو السبب في اضطراب النسابين في نسب قضاعة، بعضهم يجعلها في معد وبعضهم الآخر في قحطان2.

_ 1 جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، ص170. 2 جواد علي: 4/ 238-239. "ومن النسابين من يقول بأن قضاعة من معد في الأصل ثم مالت إلى اليمن في عهد مروان بن الحكم عندما حدثت الفتنة بين قبيلة كلب وبين قيس عيلان، وانتمت إلى حمير".

وقد تفرقت بطون قضاعة في نجد والبحرين ومشارف الشام. كما جاء الضجاعمة، وينتسبون إلى سليح التي تتفرع من قضاعة، فنزلوا البلقاء جنوبي سورية، حتى إذا قدم الغساسنة إلى المنطقة التي كانوا يقيمون فيها، اغتصبوا منهم الزعامة والإشراف على القبائل المقيمة في جنوبي الشام، بعد حرب جرت بين الطرفين. ومن قضاعة قبيلة بلي التي سكنت سيناء، وكلب التي استوطنت بادية الشام، وجهينة وعذرة، وقد نزلوا وادي أضم بالحجاز، وقد عرف العذريون برقة عواطفهم وطهارة عشقهم1، وقد ضرب المثل به فقيل: "الحب العذري" كناية عن تفاني العاشق في حبه مع حرصه على العفة، إذ يصف الشعراء القدامى العاشق العذري بأنه يذوب وجدًا دون أن يفكر في لمس حبيبته2. كما هاجرت الأزد من كهلان بن سبأ إلى الشمال، فسكن قسم منهم في معان، والقسم الآخر في تهامة على ماء اسمه "غسان" ومنه انتقلوا إلى جنوبي سورية، حيث كونوا دولتهم "دولة الغساسنة". وكذلك هاجرت إلى الشمال قبيلة طيء من عريب بن كهلان بن سبأ، وبنو مرة وفروعهم التي سكنت شمالي الحجاز. غير أن طيء تحولت بعدئذ إلى الشرق، وجاورت بني أسد، وانتزعت منهم جبل شمر، وسكنته قبل الإسلام بقرون. ونزحت أيضا قبائل من الأزد إلى جهات البحرين، حيث كانت تقيم قبائل عديدة مختلفة المنشأ، منها العدنانية ومنها القحطانية فتآزرت وتضافرت واتحدت في حلف جمع شملها تحت اسم "تنوخ" ونزحت إلى أطراف الحيرة حيث أقامت دولة المناذرة. ومن الأزد الجنوبيين الأوس والخزرج، وقد انفصلتا عن كتلة الأزد الرئيسية، واتجهتا نحو الحجاز، وأقامتا في يثرب. ومنهم أيضا قبيلة خزاعة التي تسلطت على مكة قبل قصي وقريش. ومن كهلان بن سبأ: همدان ومذحج، وأغلبهم ظل يسكن اليمن، وإلى مذحج ينتسب بنو الحارث الذين سكنوا الجنوب الشرقي للطائف، وبجيلة التي كان لها أثر كبير

_ 1 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص7. 2 الدكتورة نجلاء عز الدين: العالم العربي، ص83.

في فتوح العراق، في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب وإلى عريب حفيد كهلان تنتسب عاملة وجذام، وكانتا تسكنان بادية الشام. وإلى جذام تنتسب لخم التي منها ملوك الحيرة، وكندة التي حكمت حضرموت، ومدت سلطانها إلى بني أسد وربيعة وبكر في اليمامة ونجد "مملكة كندة". كان معظم هذه القبائل من البدو الرحل، الذين ثابروا على الحياة البدوية المتنقلة، سواء منهم الشماليون أو الجنوبيون الذين انتقلوا إلى الشمال، باستثناء فئة منهم سكنوا بعض مدن الحجاز "مكة ويثرب والطائف" ولزموا حياة الاستقرار فيها، ومارسوا الزراعة والتجارة التي تيسرت لهم بسبب خصب الأرض في بعض الأماكن، وملاءمة الموقع الجغرافي للحياة التجارية، غير أنهم مع ذلك قد حافظوا على تقاليدهم القبلية. راجع الجداول الإجمالية التي تبين شجرة أنساب مختلف القبائل العربية في ملاحق الكتاب.

الفصل الثاني عشر: الحياة الاقتصادية عند العرب

الفصل الثاني عشر: الحياة الاقتصادية عند العرب مدخل ... الفصل الثاني عشر: الحياة الاقتصادية عند العرب كان البدو يحتقرون المهن وكسب الرزق عن طريق الصناعة، وقد اقتصر عملهم فيها على مصنوعات بسيطة يصنعها العربي لنفسه. أما الزراعة فإن الجفاف وطبيعة البلاد الصحراوية، قد جعلا الأرض قاحلة إلا في اليمن وبعض الواحات في الشمال. وحتى التجارة فإنها لم يكن للبدو خلق يؤهلهم لها، وقليلا ما كانوا يمارسونها، بيد أنهم قد استُخدموا حراسًا للقوافل التجارية، أو أدلاء لها لقاء أجور يتقاضونها من أصحاب القوافل, الذين ربما استأجروا منهم جمالا لنقل بضاعتهم. ومع كون التجارة هي المهنة التي يكنون لها شيئًا من الاحترام أكثر من سواها، فإنهم كانوا يكرهون التكالب عليها، وينددون باندفاع قريش فيها. إنما كانت معيشة البدو قائمة على ما تنتجه مواشيهم من ألبان ولحوم يتغذون بها، ومن صوف ينسجون منه خيامهم ولباسهم، ومن جلود يستعملون منها قِرَبًا أو أحذية يحتذونها, كما كانوا يعتمدون على الموارد التي تأتيهم من الغزو، الذي كان ركنا من أركان الحياة في الصحراء, ولم يكن نوعا من اللصوصية بالرغم من أنه شبيه بها, بل كان في نظرهم نوعا من الممارسة المباحة، ومن التقاليد المتعارف عليها، إذ تغير قبيلة على أخرى بسبب عداوة بينهما، أو حتى بسبب كونها أضعف منها، تأخذ إبلها وماشيتها ومتاعها، وتسبي نساءها وأولادها، فتتحفز القبيلة المعتدى عليها للأخذ بالثأر وتتربص بالأولى، حتى إذا واتتها فرصة سانحة، انقضت عليها لتغزوها بدورها وتسلبها ما تملكه؛ ثأرًا منها لما فعلته بها، ومما درج عليه العرب أنهم يحتفظون بالسبي من نساء وأولاد، حتى ترسل قبيلتهم الفدية التي تطلبها القبيلة المنتصرة، كما كان المغيرون يتحاشون جهد استطاعتهم إراقة الدماء1.

_ 1 Henri Masse: L'Islam. P. 10.

فالبيئة البدوية بيئة غزو وغارات، وما ذلك إلا لأن الصحراء قليلة الموارد شحيحة النبات. فالقبيلة التي تشعر بأنها لا تملك ما يؤمن لها موارد الرزق والمعيشة، ترى من حقها أن تأخذ ممن يملك، حتى أصبح الغزو جزءًا من عقلية البدوي وطبعه، فإذا لم يجد من يغزوه من أعدائه أو من البعيدين عنه، أغار على جيرانه، أو حتى على ذوي قرباه. يقول الشاعر القطامي في ذلك: وأحيانًا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا

التجارة في الحضر

التجارة في الحضر: على أن الأمر يختلف بالنسبة للحضر؛ ذلك أن التجارة هي التي حظيت بالاهتمام في المجتمعات الحضرية، فأقبل القوم عليها إقبالًا شديدًا إلى درجة أن المؤرخ اليوناني "سترابون" الذي اهتم بأحوال العرب في الجاهلية، كان يرى أن كل عربي فيها تاجر أو دليل1. ويقول "درمنجهايم": إن العرب كانوا الرواد الأوائل للتجارة العالمية، ولم يكن باستطاعة الرومان القدماء الاستغناء عنهم في هذا الميدان. وبلغ من أهمية التجارة لديهم أن الملوك والزعماء كانوا أحيانا تجارًا، فملوك المناذرة كانوا يرسلون اللطائم "القوافل التجارية" إلى أسواق الحجاز في كل عام، كما كان ولاة الأمر في تدمر قد مارسوا التجارة، وكذلك علية قريش ورؤساؤها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التجارة كانت العامل المهم في نشوء دول الشمال العربي. وكان أثرها كبيرًا على أوضاع دول الجنوب العربي، من حيث تذبذب عواصمها، وانتقالها تبعا لانتقال الأهمية التجارية من مكان إلى آخر، حتى إن سقوط بعض الدول ونشوء غيرها، سواء في الجنوب أو في الشمال، كان على الغالب مبنيا على أساس ازدهار التجارة في الدولة الجديدة الناشئة، وانحطاط التجارة لدى الدولة الزائلة؛ بسبب تحول الطرق التجارية عنها، وانحيازها إلى الدولة الناشئة. وفضلا عن ذلك، فإن العامل التجاري قد كيَّف سياسة الدول الأجنبية المحيطة بشبه جزيرة العرب، وحدد موقفها تجاه بعض الدول التي قامت فيها، إذا طمعت فيها كل

_ 1 Emile Dermenghem: Ibid. ,PP. 24, 26.

من بيزنطة والحبشة وفارس الساسانية، وصممت إما على انتزاع مقاليد التجارة من يدها، بالسيطرة على المسالك التجارية المهمة التي تصلها بالشرق الأقصى، أو باختلالها. والواقع أن بعض أطراف شبه الجزيرة قد رزحت تحت الاحتلال الحبشي، أو تحت احتلال دولة الفرس الساسانية1.

_ 1 Clande cahen: L.htm'islam des Origines au Debut de L'Empire Oftoman, P. 10. - إدوار بروي: القرون الوسطى، ص111.

تجارة مكة

تجارة مكة: يقول "درمنجهايم": إن الازدهار التجاري الذي تصيبه شبه جزيرة العرب بعامة ومكة بخاصة، كان مرتهنًا بطريق الهند، فبحسب أن يمر الطريق إلى الهند من الشمال، عبر وادي الرافدين، فارس، أفغانستان، أو من الجنوب والغرب، عبر شبه جزيرة العرب والخليج العربي واليمن، يكون العرب إما فقراء أو أغنياء1. والواقع أن مكة قد استفادت من وقوعها على طريق الهند، ذلك أن القوافل التجارية الآتية من اليمن ببضائع الهند والذاهبة إليها، كانت تمر فيها بوصفها محطة تجارية لا بد لها من النزول فيها. كما أعان على ازدهار مكة وارتقائها، من محطة تجارية إلى مدينة عامرة، تدهور العلاقات بين حكام فارس وحكام بلاد الشام البيزنطيين، ونشوب حروب طويلة بين الطرفين في القرنين اللذين سبقا ظهور الإسلام، مما أدى إلى تعطيل التجارة بين بلاد الشام والهند عبر إيران وأفغانستان، وإلى انتقال النشاط التجاري إلى شبه جزيرة العرب، وبخاصة ساحلها الغربي الواقع على البحر الأحمر، فاتجه المكيون إلى التجارة وانصرفوا إليها بكليتهم، لا سيما وأن سقوط اليمن في أيدي الأحباش قد أدى إلى خروج مقاليد التجارة من أيدي اليمنيين، وانتقالها بطبيعة الحال إلى أيدي المكيين، فعوضتهم التجارة ما حرمتهم الطبيعة من موارد الزراعة؛ بسبب كون الحجاز إقليمًا بسوده الجفاف والفقر في النبات. أسهم المكيون بالإضافة إلى نشاطهم التجاري الداخلي، في التجارة العالمية، فتاجروا مع مصر والحبشة، عبر البحر الأحمر عن طريق ميناء الشعيبة الذي كان ميناء لمكة في

_ 1 Emile Dermenghem: Ibid. , P. 27.

العهد الجاهلي1، ومع اليمن لا سيما بعد أن نظم هاشم بن عبد مناف رحلتي الشتاء والصيف، الأولى إلى اليمن والثانية إلى الشام، فجعلهما منتظمتين. وكان لقريش عداهما رحلات تجارية تسير في أوقات مختلفة غير معينة، فأرسل المكيون قوافلهم إلى أسواق الحيرة، كما أرسلوها إلى الشام، يحملون إليها بضائع الهند من مجوهرات وتوابل وأفاوية وأقمشة نادرة، وبضائع الصين من ملابس حريرية مترفة للأباطرة والرهبان ورجال البلاط ومن عطور, وبضائع شرقي إفريقيا من ريش نعام وعاج ومسحوق الذهب وصموغ للكنائس، علاوة على صادرات الجنوب العربي من بخور ولبان ومر وجلود ومعادن ثمينة وعطور2، ويعودون منها بالحبوب والزيوت والخمور، والمنسوجات القطنية والكتانية والحريرية، وحتى بالأسلحة التي كانت بيزنطة تفرض الحظر على تصديرها، فيلجأ العرب إلى تهريبها. وكان ارتحال القوافل أو قدومها يثير ضجة عظيمة في مكة، فما أن يعلن عن قدوم إحداها حتى يهب سكانها في شبه هيجان، ويستقبلوها بالدفوف والهتافات3. لم تكن تجارة قريش ضيقة المجال، بل كانت عظيمة الاتساع، ولم تكن قوافلها ملك أفراد، بل كانت تعبيرا عن آمال مدينة بأسرها، تحمل أموالا لأهل مكة جميعا، منهم من يسافر معها، ومنهم من يستأجر رجالًا يقومون بهذه المهمة، ويسهم الجميع في رأس مالها. وقد تبلغ قيمة أسهم أحدهم كأبي أحيحة بن سعيد بن العاص بن أمية، وهو من أبرز أثرياء مكة، ثلاثين ألف دينار، وقد لا يتجاوز سهم أحد الفقراء منهم نصف دينار. ويصل عدد الإبل السائرة فيها إلى أكثر من 1500 بعير شاهد "إسترابون" إحداها فقال: إنها أشبه بجيش سائر، إذ يرافقها حراس يتراوح عددهم بين 200-300 مسلح4. والواقع أن تجارة قريش كانت تسير بقوافل لضمان حماية الأموال، إذ يرافقها رؤساء وحراس وأدلاء يقل عددهم أو يكثر، بحسب قلة الأموال الثمينة التي تحملها أو كثرتها.

_ 1 جواد علي: 4/ 203 - كان المكيون يفضلونه على المرور بأرض اليمن إلى إفريقيا؛ تجنبًا لدفع ضريبة المرور، ولتأمين حماية القوافل في أثناء مرورها في مناطق القبائل اليمنية. 2 Henri Masse: L'Islam, P. 21. 3 Emile Dermenghem: Ibid., PP. 27, 28. 4 Dermenghem, 29: أحمد أمين, فجر الإسلام، ص14.

ويختار الأدلاء من القبائل التي تمر القافلة في أراضيها؛ لأنهم أعلم بطرقها من غيرهم، وأكثر خبرة بمواطن الماء والكلأ، وأكثر علما بمكامن الخطر الذي قد تتعرض له القافلة، كوجود عوارض طبيعية، يمكن أن يتخذها اللصوص وقطاع الطرق كمائن للإغارة عليها. كما يحرص المكيون أن يكون رؤساء القوافل وحراسها من الشجعان القادرين على تأمين حمايتها. ويعقدون الاتفاقات مع رؤساء القبائل التي تمر القوافل في أراضيهم، ويدفعون لهؤلاء الرؤساء إتاوات وهدايا كي يسمحو لها بالمرور, ويتعهدوا بحمايتها من اللصوص وقطاع الطرق، حتى إذا تعرض للقافلة أحد من هؤلاء بسوء، كان من واجب الرئيس المتعاقد معه، والذي يقع الاعتداء في منطقته، أن يتعقب المعتدين ويؤدبهم، وأن يعيد الأشياء المنهوبة إلى أصحابها، وكان التجار يضيفون مبالغ هذه الإتاوات والهدايا إلى أسعار مبيع البضائع، الأمر الذي يجعلها غالية الثمن. وكثيرا ما كان أصحاب البضائع يلجئون إلى الوسائل المعنوية لحماية تجارتهم، مثل تقديم الهدايا والقرابين للآلهة عند مغادرة قوافلهم أو عند عودتها، وقد اتخذ بعض الأقوام كالأنباط والتدمريين إلهًا خاصًّا لحماية القوافل: "ذو الشرى" عند الأنباط و"ساعي القوم" أي حامي القوافل عند التدمريين. ويعقد القائمون على الحكم العهود والمواثيق مع رؤساء وحكام الدول المحيطة بهم، التي تقصدها قوافلهم، وهي التي تخولهم حق المرور في أراضيهم والاتجار فيها، وتوفير الأمان لها وحسن الجوار. وهذا هو الإيلاف الذي ورد ذكره في القرآن الكريم: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ, رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْف} 1، أشبه شيء بالاتفاقات التجارية التي تعقد بين الدول في أيامنا الحاضرة، ووفقا لهذه العهود يتاح للتجار القرشيين التنقل في البلاد التي تعقد معها دون أن يعترضهم أحد، كما يتاح لأي دولة منها إذا شاءت أن تراقب الوافدين إليها. فالقوافل العربية التي كانت تقصد الشام كانت تتسوق من أسواق عينتها الحكومة البيزنطية لتحصِّل منها الضرائب، ولتراقب الوافدين الأجانب إلى بلادها2.

_ 1 قريش: 1-2. 2 أحمد إبراهيم الشريف: المصد نفسه، ص207.

وقد اعتمد الروم البيزنطيون على تجارة مكة في كثير من شئونهم ووسائل ترفهم، لا سيما الحصول على الأقمشة الحريرية المزركشة الموشاة، ولم يكن بوسعهم الاستغناء عما يأتونهم به. وقد ذكر بعض مؤرخي الغرب أنه كان للبيزنطيين بيوت تجارية في مكة، يستخدمونها للشئون التجارية وللتجسس على أحوال العرب1. وتقاسم بنو عبد مناف النشاط التجاري في مختلف البلدان المجاورة، فكان هاشم الذي يروى أنه قد حصل على عهد أمان من القيصر البيزنطي لتجار مكة، يذهب إلى الشام، وعبد شمس الذي حصل على عهد مماثل إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكل منهما حصل على عهد "إيلاف" من كل من ملكي اليمن وفارس2. وقد نشطت التجارة في عهد عبد المطلب بن هاشم، وازدهرت مكة وأصبحت مركزًا للصيرفة، كما يقول المستشرق "أوليري" ويمكن أن يدفع فيها التجار أثمان السلع التي يُتَّجر بها مع بلاد بعيدة، وكانت عمليات الشحن والتفريغ للتجارة الدولية تتم في مكة، ويجري فيها التأمين على التجارة عند نقلها من مكة إلى مختلف الجهات عبر طرق محفوفة بالمخاطر3. وقامت طبقة من الصيارفة، يؤمنون للتجار عملات الدول الأجنبية التي يتعامل معها القرشيون. ومثلما كان لبيزنطة وفارس، وربما للحبشة أيضا، ممثلون تجاريون في قلب مكة، كان لمكة أيضا وكلاء تجاريون في أماكن مختلفة مثل غزة والشام ونجران. كما كان يأتي إلى مكة تجار أجانب من روم وفرس وغيرهم سكنوا فيها، وخالطوا أهلها وتحالفوا مع أثريائها، وأقام بعضهم فيها لقاء جزية سنوية يدفعونها لهم؛ لتأمين حمايتهم ولحفظ أموالهم وتجارتهم، وقد اتخذ بعض التجار الأجانب مستودعات فيها لخزن بضائعهم التي يأتون بها كالقمح والزيت والزيتون والخمور4.

_ 1 O'Leary: Arabia before Muhammad ,P , 184. 2 أبو علي القالي: الأمالي 3/ 199؛ سعيد الأفغاني: أسواق العرب، ص155-156. 3 O'leary: Ibid. P. 182. أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص212. 4 جواد علي: 4/ 202.

وقد أدى اختلاط قوافل تجار العرب من قديم الزمن بعرب الشام وغيرهم، إلى تسرب كثير من الكلمات التجارية والحضارية من يونانية وغير يونانية إلى لغة العرب، فتعربت بمرور الزمن في العهد الجاهلي1. ومما يدل على اهتمام الحجازيين بالتجارة كثرة الكلمات والعبارات المجازية التي وردت في القرآن الكريم، سواء فيما يتعلق بالتجارة مثل: الحساب والميزان والقسط والمثقال والذرة والقرض والربا والدينار والدرهم ... إلخ, أو فيما يخاطب التنزيل الحكيم قريشًا باللغة التي تفهمها وهي التجارة، من ذلك الآيات الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، و {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين} ، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَة} 3. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة مماثلة. وحتى نساؤهم قد اشتغلن في التجارة، واشتهرت منهن عديدات مثل: خديجة بنت خويلد التي كانت تستأجر الرجال للذهاب بعروضها التجارية إلى الشمال، وهند بنت عبد المطلب، والحنظلية أم أبي جهل التي كانت تتاجر بالعطور، تستوردها من اليمن4. يقول "درمنجهايم": إن القرشيين قد تميزوا عن العرب جميعًا بحسن تذوقهم للعمل التجاري، فدعموا عملياتهم التجارية بتنظيم مالي ومصرفي مدهش، واستعملوا عملات مختلفة منها الدينار البيزنطي، الذي كان له المقام الأول في شبه الجزيرة، ومنها عملات يونانية أو فارسية "الدرهم الفضي الفارسي"، أو حميرية كما كان لهم موازين عامة، ويعتقد بأنهم استعملوا الميزان ذا الكفتين كما يستدل من بعض الآيات الكريمة، ومكاييل "صاع، مد، ربع صاع" أشار إليها القرآن الكريم. وكان لهم موازين خاصة دقيقة يزنون بها

_ 1 الأفغاني: أسواق العرب، ص38. 2 الصف: 10-11. 3 البقرة: 16، 86. 4 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص212.

السبائك الذهبية الخام، ومكاييل خاصة يكيلون بها مساحيق الذهب. وقد عمد التجار المكيون إلى استعمال دفاتر حسابات تولوا مسكها، كما استعملوا أختامًا وأساليب معقدة، ورموزًا في الكتابة كانت تثير تهكم البدو لجهلهم بها1. لم يكن التجار القرشيون يجمدون أموالهم الفائضة، بل كانوا يوظفونها في مشاريع استثمارية خارج الحجاز. فقد كان آل أبي ربيعة يشغِّلون أنوالًا لنسج الحرير في اليمن، وكان لأبي أحيحة الثري الكبير أموال موظفة في مشروعات زراعية في الطائف، ولأبي سفيان أملاك وولايات تجارية في شرق الأردن وفلسطين، ولعقبة بن أبي معيط مركز تجاري في مدينة صفورية بفلسطين. ومن الدراسات التي قام بها بعض المستشرقين يستدل على أن تجار مكة كانوا يراعون بعض المعاملات التجارية المالية، ويذكر الباحثون بعض الطرق التي كانوا يتبعونها، مثل طريقة عقد القرض، وطريقة الشراكة والمضاربة، إذ كانت تكتب بها صكوك، فيقدم امرؤ مالًا ويأخذ ربحًا، فيصبح شريكًا مضاربًا، دون أن يشترك في العمل. وثمة طريقة للمضاربة هي أشبه بالميسر، وكانت تؤدي في كثير من الأحيان إلى الإفلاس والفقر، كأن يضارب التاجر على أسعار البضائع الأجنبية قبل ورودها، أو على قدوم القوافل في مواعيدها أو متأخرة، أو يبيعون ويشترون الثمار قبل نضجها وقطافها. وكثيرًا ما كان الفقراء أو البدو البسطاء ضحية أساليب الغش التي يلجأ إليها التجار من ذوي الضمائر الفاسدة، أو الصيارفة الجشعون الذين كانوا يقرضون المال بفائدة فاحشة تزيد على 50 في المائة أو حتى مائة في المائة، أو السماسرة والوسطاء المريبون الذين يبتغون جمع الأموال دونما حاجة إلى رأس مال2، كما كانوا فريسة للمزورين الذين يكتبون بالقروض المؤداة إلى المدين مستندات يسجلون فيها ضعف المبلغ الذي يؤدونه له، والذين كانوا يستعملون أساليب لا حصر لها في الخداع والغش، فيحصلون على فوائد القروض مضاعفة، وتضاعف كلما تأخر المدين عن أداء الدين السابق، وهو الذي عبر عنه التنزيل الحكيم باسم "الربا" وحرمه.

_ 1 Dermenghem: Ibid. PP, 26, 29, 32. 2 Demenghem: Ibid. 33.

وقد وجد في مكة أثرياء كبار نعموا بالحياة الدنيا وغرقوا في الترف، مثل عبد الله بن جدعان، الذي لم يكن يشرب إلا بكأس من الذهب فعرف باسم "حاسي الذهب", والوليد بن المغيرة المخزومي، وقد اشتهر بنو مخزوم بالثروة والمال، وأبو أحيحة الذي أورث بناته أموالًا طائلة، فأصبحن من أغنى أغنياء مكة، وعبد المطلب بن هاشم الذي بلغ ثمن الحلل التي كُفِّن بها ألف مثقال من الذهب، وطرح على جثمانه المسك حتى غمره1. ومن التجارة التي راجت في مكة تجارة الرقيق، فأصبحت أكبر سوق لها. كما اصطبغت مكة بصبغة دولية؛ لكثرة ما كان يرتادها من غرباء جاءوا من أمم ومن أصقاع مختلفة، وأصبحت تعج بهم عجًّا، بينهم فرس وروم وأحباش وزنوج، كما كان منهم النصارى واليهود، يشكلون جاليات جاء أفرادها للتجارة أو للعمل اليدوي في البناء والزراعة والصناعة، أو جاء بعضهم هربا من الاضطهادات الدينية في بلادهم الأصلية، مثل المسيحيين واليهود، وهذا ما يفسر لنا ما دخل لغة قريش من ألفاظ رومية أو فارسية أو حبشية أوغيرها.

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف، المصدر نفسه، ص213. Dermenghem: Ibid. , P, 32.

أسواق العرب

أسواق العرب مدخل ... أسواق العرب: كان للعرب أسواق تجارية عامة، يقصدها الناس من شتى أنحاء شبه الجزيرة للبيع والشراء. وقد اختيرت لها الأماكن المناسبة، من حيث الاتساع والقرب من المدن المتحضرة وتوفر الماء. وهي تكون عادة محاذية للسواحل، حيث المنخفضات التي تتجمع فيها السيول الهابطة من المرتفعات المجاورة، أو مجاورة للوديان التي تتوفر فيها الينابيع، أو متمركزة في واحات هي في الوقت نفسه محطات للتزود بالغذاء والماء، ومراكز تجارية ترتادها القوافل للبيع والشراء والراحة. ولم يكن عرب شبه الجزيرة فقط هم الذين يقصدون هذه الأسواق، بل كان يأتيها تجار من خارج البلاد. فقد كان الروم مثلا يتوغلون إلى مسافات بعيدة في أراضي العرب الشاسعة للبيع والشراء1.

_ 1 جواد علي: 4/ 413.

من هذه الأسواق ما هو دائم، ومنها ما هو موسمي موقت، يعقد في شهر معين من السنة، ومنها ما هو عام يرتاده العرب من شتى أنحاء شبه الجزيرة، أو ما هو محلي يتم فيه التبادل بين التجار والبدو المجاورين. ومع أن هذه الأسواق أقيمت لغاية أساسية هي التجارة وتبادل السلع المختلفة من طعام وشراب وثياب وسلاح وخيل وإبل، غير أنها لم تكن تقتصر على هذا الأمر، بل كان الشعراء والخطباء والمبشرون الدينيون من مسيحيين وغيرهم, يقصدونها للمباراة في الشعر والخطابة وبث الدعوات الدينية. ومما يروى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى هذه الأسواق، ويعرض دينه على القبائل العربية التي ترتادها لهدايتهم. وربما جاء أحدهم ليبحث عن غريم، أو عن عبد هرب من داره، أو عن دابة سرقت له1، أو ليسعى في فداء أسير من ذويه. وفي هذه الأسواق، لا سيما في سوق عكاظ، كان العقلاء ينتهزون فرصة التقاء الزعماء من شتى القبائل؛ ليوفقوا بين المتخاصمين منهم والمتنازعين، وليصلحوا بين قبيلة وأخرى تقتتلان، وتحل المشاكل الموجبة للنزاع من دفع ديات، أو وفاء بالتزامات، أو دفع ديون. كما تعقد فيها عهود الجوار والمحالفات، وتعلن فيها القرارات التي تتخذها القبائل لخلع السفهاء من أفرادها. كانت الأسواق منتشرة في جميع أنحاء شبه جزيرة العرب, وموزعة على أيام السنة كلها بوجه التقريب. يقول القلقشندي2: "كان للعرب في الجاهلية أسواق يقيمونها في شهور السنة، وينتقلون من بعضها إلى بعض، ويحضرها سائر قبائل العرب من بَعُدَ منهم ومن قَرُبَ، فكانوا ينزلون دومة الجندل أول يوم من ربيع الأول فيقيمون أسواقها بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، فيعشرهم رؤساء آل بدر في دومة الجندل، وربما غلب على السوق بنو كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب، فتقوم سوقهم إلى آخر الشهر. ثم ينتقلون إلى سوق هجر، من البحرين، في شهر ربيع الآخر فتقوم أسواقهم بها. وكان يعشرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم، ثم يرتحلون نحو عمان بالبحرين، فتقوم سوقهم بها، ثم يرتحلون فينزلون عدن من اليمن أيضًا، فيشترون منه اللطائم وأنواع

_ 1 الدكتور عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص86. 2 القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ص464.

الطيب، ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت، ومنهم من يجوزها إلى صنعاء، ثم تقوم أسواقهم بها، ويجلبون منها الخرز والأدم والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر، ثم يرتحلون إلى عكاظ في الأشهر الحرم، فتقوم أسواقهم ويتناشدون الأشعار ويتحاجون، ومن له أسير سعى في فدائه، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة، وكان الذي يقوم بأمر الحكومة فيها من بني تميم، وكان آخر من قام بها منهم الأقرع بن حابس التميمي، ثم يقيمون بعرفة ويقضون مناسك الحج، ويرجعون إلى أوطانهم". إن أشهر أسواق شرقي شبه الجزيرة العربية: سوق "المشقَّر" بالبحرين قرب هجر، وكان يرتادها ساكنو الجهات الشرقية والغربية من شبه الجزيرة, كما يرتادها تجار الهند وفارس. ويرتاد هؤلاء سوقًا أخرى في البحرين هي سوق هجر. وفي عمان وجد سوقان إحداهما سوق "دبا" وكانت مقصد الصينيين والهنود إلى جانب من يقصدها من سكان شبه الجزيرة، والأخرى سوق "صحار". واشتهر في جنوبي شبه الجزيرة العربية: سوق "الشحر" في المهرة، وسوق "عدن" وسوق "الرابية" بحضرموت وسوق "صنعاء" في اليمن. وفي شمالي شبه الجزيرة سوق "دومة الجندل" وتقع على منتصف الخط الواصل بين العقبة والبصرة تقريبًا، وبالقرب من جبلي طيء "أجأ وسلمى"، وكان يتنافس على رئاستها كل من أكيدر العبادي من السكون، وقنافة من بني كلب أيهما كانت له الغلبة عشَّر السوق. وأكيدر هو صاحب حصن دومة الجندل الشهير, وقد دهمه خالد بن الوليد بمناسبة وقعة تبوك، وتغلب عليه فأسلم بعدئذٍ. كان البيع يجري في هذه السوق بطريقة "بيع الحصاة" ولم يكن أحد ممن يرتاد السوق يشتري أو يبيع حتى يبيع "الأكيدر"، ملك السوق، كل شيء يريد بيعه، ثم يشرع في استيفاء المكس على بيوع رواد السوق1. أما غربي شبه الجزيرة، ولا سيما الحجاز، فقد حفل بكثير من الأسواق، وكان السبب في كثرتها أولًا: وجود الكعبة كمركز ديني يستقطب الوافدين إليه لإقامة الشعائر الدينية، وبالمناسبة للقيام بالأعمال التجارية في أسواق أقيمت لمد الحجاج بما يحتاجون

_ 1 الأفغاني: أسواق العرب، ص232-238.

إليه. ثانيًا: وقوع حواضره المهمة على المسالك التجارية المارة من الجنوب إلى الشمال. ثالثًا: لأن المنطقة متعددة الفعاليات، ففيها تجارة قريش المزدهرة، وبعض الواحات والحرات التي يتعاطى أهلها الزراعة، وتكثر فيها الغلات، وتقوم فيها بعض الصناعات، كما في يثرب وفدك وتيماء وغيرها من الحرات التي سكنها اليهود. وقد اشتهر هؤلاء بصناعات كثيرة، نقلوها إلى هذه الجهات، مما جعل في المنطقة حركة مبادلات تجارية نشيطة.

سوق عكاظ

سوق عكاظ: ومن أشهر أسواق غربي شبه الجزيرة العربية سوق عكاظ التي عرفت بأهميتها التجارية العظيمة، إلى جانب أهميتها من الناحيتين الاجتماعية والأدبية. ففيها تباع أفخر الملابس وأطيب الخمور وأشهر أنواع الأسلحة، ويرد إليها من اليمن البرود الموشاة وأحسن أنواع الطيوب، ومن الشام الزيوت والزبيب والخمور، ويباع فيها الحرير والأحذية وشتى الأدوات المعدنية ويعرض فيها الرقيق. وقد يأتي إليها غازٍ بما سلب من أسلحة خصم قتله في غارة، فيرى ذوو المقتول سلاح قتيلهم، فيترصدون بائعه، حتى إذا ظفروا به خارج السوق ثأروا منه لدم قريبهم. وكان من عادة فرسان العرب المبرزين أن يأتوا السوق ملثمين؛ كي لا ينكشف أمرهم، ويتعرف عليهم ذوو الثارات عندهم، فيذهبوا ضحية الثأر. وسوق عكاظ معرض لكثير من عادات العرب وأحوالهم الاجتماعية، ولحل بعض مشاكلهم السياسية، إذ كان يتم فيها التحكيم بين القبائل المتحاربة، ويتبادل الفرقاء المتخاصمون ديات قتلاهم. ومن كان له إتاوة على قوم نزل على عكاظ فجاءوه بها، ومن أراد إجارة أحد هتف بذلك في السوق، ليعلم عامة الناس بذلك, والقبيلة التي تريد خلع أحد السفهاء من أفرادها، ينادي مناديها بذلك فيها, وإذا أراد أحد أن يلحق آخر بنسبه أعلن ذلك. وفي السوق تعقد معاهدات الصلح والسلام، ويتفق المتخاصمون على دفع الديات. فالسوق كانت بمثابة جريدة من الجرائد الدورية والرسمية، أو بالأحرى وسيلة من وسائل الإعلام العامة. وإلى جانب كون سوق عكاظ معرضًا من معارض التجارة، وندوة من ندوات

السياسة والاجتماع، فهي معرض من معارض الأدب والخطابة، إذ تعقد فيها حلقات الأدب والشعر، ويتناشد الشعراء قصائدهم، يحكم فيها أخصائيون يكونون في الغالب من فطاحل شعراء الجاهلية. ففي الروايات أن نابغة بني ذبيان كانت تضرب له قبة من أدم أحمر اللون في سوق عكاظ، يجتمع إليه فيها الشعراء، ويستمع إلى ما ينشدونه من قصائد، فيعطي رأيه فيها. ولعل ما عرف باسم المعلقات هو مما كان يعجب به هذا الشاعر الكبير، وهذا يتم في كل موسم من مواسم السوق. ومعلقات الشعراء الجاهليين كثيرة، وهي من عيون الشعر في الجاهلية ولعل تسميتها جاءت من تشبهها، لجودتها، بالقلائد التي تعلق في نحور الغانيات. ولم يكن أقل من ذلك شأن الخطباء والوعاظ، إذ يحتشد الناس حول أحدهم وتشخص إليه الأبصار، فيطلع عليهم بخطبة كخطبة قس بن ساعدة الإيادي التي يقول فيها: "أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات ... إلخ" وهي معروفة1. وكان إلى جانب سوق عكاظ أسواق أخرى أقل أهمية، مثل "مجنة" و"ذي مجاز"، وهي قريبة من مكة. وفي يثرب وحولها قامت بعض الأسواق مثل سوق بني قينقاع في يثرب نفسها، حيث كان العرب يبتاعون مصنوعات اليهود الذهبية والمعدنية وغيرها، وقد اشتهر بنو قينقاع بالصياغة. كما وجد في يثرب سوق يقيمها النصارى من سكانها تسمى "سوق النبط" والمعتقد أن نبط الشام كانوا ينزلون فيها للاتجار بالحبوب، كما قام خارج يثرب وإلى مسافة غير بعيدة منها سوق بدر، حيث وقعت الموقعة الشهيرة في الإسلام بين الرسول وكفار قريش، وهو موضع توفر فيه الماء.

_ 1 الأفغاني: أسواق العرب، ص277-315.

حماية التجارة في الأسواق

حماية التجارة في الأسواق: تعارف العرب على تقاليد يلتزمون بها في أمور تجارتهم، ومواسم حجهم إلى الكعبة. وهي تقضي بتحريم القتال خلال أربعة أشهر في السنة سموها الأشهر الحرم، ثلاثة منها متتابعة هي: ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، وشهر واحد منفرد هو رجب الفرد أو رجب الأصم، وربما كان السبب في تسميته "الأصم" كونه لا تسمع فيه قعقعة السلاح. وكان من أعظم العار عندهم، أن يخرق أحدهم حرمة هذه الأشهر، فيسفك فيها

دمًا، حتى تنقضي تمامًا، وحتى يغادر الناس المكان الحرام، أي الكعبة وما يجاورها من أماكن محدودة المعالم، والحرب محرمة فيها طوال أيام السنة، فإذا لقي المرء قاتل أبيه ما وسعه التعرض له بسوء فيها. ولذا سمى العرب الحروب التي جرت بين كنانة وقيس عيلان في عكاظ باسم "حروب الفجار" لأنهم اقتتلوا في الأشهر الحرم، وامتدت اشتباكاتهم حتى الأماكن المقدسة. والسبب الذي حمل العرب على اتباع هذه التقاليد، هو حرصهم على توفير جو من السلام والطمأنينة خلال مواسمهم الدينية التي يشترك الناس والقبائل من أرجاء شبه الجزيرة العربية كافة فيها. وقد حرصوا على جعل أكبر أسواقهم تقام في الأشهر الحرم؛ لتوفير جو السلام والهدوء للتجارة أيضا. فكانت سوق حُباشة وسوق صحار في رجب، وسوق حضرموت في ذي القعدة، وأسواق عكاظ ومجنة وذي مجاز في ذي الحجة1، بحيث لا ينتهي بيعهم وشراؤهم من سوق عكاظ حتى ينصرفوا إلى السوق التي تعقد بعدها، ويستمر تنقلهم على هذا المنوال طوال أيام السنة تقريبًا، كما تقدم معنا في أول هذا الفصل. كما أن من الأسواق ما كانت تقام في غير الأشهر الحرم، الأمر الذي أوجب أن يكون قدوم الناس إليها بعروضهم التجارية بخفارة، ورجوعهم منها بخفارة؛ خوفًا على هذه العروض من أن تكون نهبًا مقسمًا للصوص وقطاع الطرق. فتجارة العرب كانت أروج ما يكون حيث يستتب الأمن، ويعم الهدوء، وتعم الثقة. وقد تميزت مكة وما يجاورها من مناطق بهذه الميزة لمجاورتها الكعبة، فغنيت وازدهرت من التجارة، وفرضت نفوذها الأدبي على القبائل العربية كافة. بيد أن رعاية التقاليد الآنفة الذكر ليست بالشيء المطرد على إطلاقه، بل قد يحدث أن بعض القبائل لا تعرف لهذه الحرمات حقًّا، فتسفك الدم ولو في الشهر الحرام وفي البلد الحرام2, أو أن طالب ثأر لا يملك أعصابه حينما يشاهد قاتل أخيه أو أبيه فيقتله، الأمر الذي حمل القوم على التفكير في توفير الحماية لهذه الأسواق. وقد أُطلق على من يقومون

_ 1 الأفغاني: أسواق العرب، ص70. 2 الأفغاني: أسواق العرب، ص73.

بهذه المهمة اسم "الذادة المُحرِمين" بينما أُطلق على الذين يهتكون حرمة التقاليد المتعارف عليها اسم "المُحِلين". ويشرف على مهمة الذود عن "التحريم" الملوك، إذا كانت الأسواق تعقد في أرض مملكة، أو رؤساء القبائل الذين تقوم الأسواق في جوارهم. والرئيس الذي يحمي السوق يلقب باسم "ملك السوق" وربما تنافس رئيسا قبيلتين مجاورتين على ملكية السوق، فيجري الاتفاق بينهما على التناوب في القيام بهذه المهمة. وتتجلى سيادة الرئيس بأخذ العشر من التجار عما يباع، ويطلق عليه اسم "المكس" وكان يقال للعشار: صاحب المكس1. وربما اعتبر بعضهم المكوس بمثابة غرامات، وإلى ذلك يشير الشاعر جابر بن حنى التغلبي بقوله: أفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

_ 1 المصدر السابق، ص56.

طرق البيع ومصطلحاته

طرق البيع ومصطلحاته مدخل ... طرق البيع ومصطلحاته: هناك طرق مختلفة للبيع والشراء عرفت في الجاهلية, وبعضها يبدو على شيء من الغرابة، بحيث لا يختلف عما هو معروف لدينا الآن باسم "الحظ واليانصيب" وقد أبطلها الإسلام إثر قيامه, ولعل أشهرها طريقة بيع الحصاة التي كانت معروفة في سوق دومة الجندل. وتتم على أشكال مختلفة، كأن يقول البائع للمشتري: ارمِ هذه الحصاة على أي ثوب وقعت فهو لك بكذا من الدراهم, أو أن يعترض المشتري قطيعًا من الغنم فيقول له صاحبه: ارم حصاة "فأية شاة أصابتها فهي لك بكذا", أو أن يبيع رجل من أرضه بقدر ما تنتهي إليه رمية حصاة بكذا من النقود, أو أن يقبض على كف من الحصى ويقول: لي بكل حصاة درهم ثمنًا لكذا من الأشياء أو السلع التي يبيعها, أو أن يجتمع نفر على سلعة يساومون صاحبها عليها، فأيهم رضي ألقى حصاته فيقع عليه البيع1. ومنها بيع الملامسة وذلك بأن يأتي البائع بثوب مطويٍّ نهارًا أو في ظلمة، فيلمسه المستام، فيقول له صاحب الثوب: "بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك له، مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته"، فلا يقلب المشتري الثوب لا ليلا ولا نهارا.

_ 1 الألوسي: بلوغ الأرب، 1/ 264.

ومن طرق بيوع الجاهلية:

بيع المعاومة

بيع المعاومة: كأن يبيع الرجل ثمر شجره عامين أو ثلاثة أو أكثر, وهو بيع مجهول وغير مملوك.

بيع المزابنة

بيع المزابنة: وهو بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر كيلًا، أي: بيع شيء لا يُعلَم كيله ولا عدده ولا وزنه بمسمى من مكيل وموزون ومعدود، وقد يكون بيع معلوم بمجهول من جنسه، ويحتمل فيه الغبن فهو بيع مغابنة. وسمي بيع المزابنة؛ لأن أحد المتبايعين إذا ندم زبن صاحبه عما عقد عليه، أي: دافعه في ذلك.

بيع التصرية

بيع التصرية: وتتلخص بأن الرجل إذا أراد بيع شاة أو ناقة امتنع عن حلبها أيامًا، فيحتفل اللبن في ضرعها فيعظم. فإذا كان ذلك منها، عرضها للبيع، فيظن المشتري أن كثرة لبنها واحتفال ضرعها عادة مستمرة لها؛ فلا يلبث أن يتبين خطؤه بعد شرائها. والتصرية تعني الجمع، يقال: صَرَّ الماء في الحوض إذا جمعه. ومن بيوع الجاهلية بيع ما في بطون الحوابل من الحيوانات. وأخيرًا هنالك ما يقال له:

بيع النجش

بيع النَّجَش: وهو أن يواطئ البائع رجلًا آخر، فيحمله على امتداح بضاعته، أو أن يساومه عليها بثمن مرتفع، فينظر إليه ناظر يرغب في شرائها، فتجوز عليه الخدعة، ويشتري السلعة بثمن مرتفع1. وأخيرًا هناك:

_ 1 الأفغاني: أسواق العرب، ص49-54.

بيع الناجز

بيع الناجز: وهو البيع المعروف لجميع الناس بادين وحاضرين، وذلك إذا كانت المبادلة يدًا بيد. قالوا: بيع السوق ناجزًا بناجز أي: حاضرًا بحاضر1.

_ 1 المصدر السابق، ص55-56.

الفصل الثالث عشر: الحياة الاجتماعية والتقاليد البدوية

الفصل الثالث عشر: الحياة الاجتماعية والتقاليد البدوية مدخل ... الفصل الثالث عشر: الحياة الاجتماعية والتقاليد البدوية من الواضح أن النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لعرب الجاهلية هي حصيلة التفاعل بينهم وبين البيئة التي عاشوا فيها, فقد خضعوا لشروط بيئتهم، ولاءموا حياتهم الاجتماعية مع الظروف الطبيعية التي نشئوا فيها. لقد اتصفت ظروف المعيشة في شبه جزيرة العرب بالقسوة والإملاق، سماء شحيحة بالغيث، وأرض صحراوية قاحلة في أغلب أرجائها، فأوجبت هذه الظروف أن يكون الأساس في حياة العرب، وبخاصة عرب الشمال، البداوة. والبداوة تعني الحياة القبلية المتنقلة، إذ إن طبيعة البلاد الصحراوية تفرض على ساكنيها أن يعانوا حياة شاقة لا مجال فيها للقرار واستيطان الأرض. فالقبائل تتنقل مع إبلها ومواشيها وخيامها وأمتعتها المتواضعة من مكان إلى مكان، تتبع مساقط الغيث ومنابت الكلأ. فإذا نفد العشب من مكان قد ارتادته، تركته وجدَّت في البحث عن مكان آخر تجد فيه ما افتقدته. ولما كانت الأمكنة المعشوشبة محدودة, وجب على القبائل المختلفة أن تتنافس وأن تتنازع للحصول عليها، فتتألف بينها سلسلة من العداوات تجر وراءها سلسلة من الثارات. ولذا قامت الحياة القبلية أو النظام القبلي على أساس التضامن بين أفراد العشيرة، أو بين العشائر التي تنتمي إلى قبيلة واحدة، لتستطيع الصمود أمام القبائل الأخرى التي تنافسها. ذلك أن المصلحة المشتركة أو الوحدة السياسية مفقودة بين القبائل، والقبيلة هي الوحدة التي يتجمع حولها الأفراد. والأفراد لا يعرفون سوى قبيلتهم ملاذًا لهم، خلافًا لأهل الحضر الذين يكرسون ولاءهم للدولة في أيامنا الحاضرة. وإذا كانت القبيلة تقوى بأفرادها، وكانت قوة الأفراد من قوة الجماعة، وجب على

الفرد في القبيلة أن يتضامن مع قبيلته على الخير والشر، وأن ينصر أخاه ظالمًا أو مظلومًا، وأن يكون أفراد القبيلة يدًا واحدة على من سواهم: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا إن هذا التضامن هو الذي يطلق عليه اسم "العصبية القبلية". والعصبية كما عرفها ابن خلدون: "النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو أن تصيبهم هلكة" وإنها مظهر من مظاهر صلة الرحم، تلك الصلة التي هي شيء طبيعي في البشر. وتتولد العصبية القبلية عند الأفراد عن وعي أو غير وعي، وتستمر بتعاقب الأجيال، على نمط عاطفة عميقة وفكرة ثابتة. فهي بمثابة الرباط الذي يشد بطون القبيلة وأفرادها بعضهم إلى بعض، فيجعلهم يدا واحدة, ولولا هذا الشعور لما كان في وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم ومصالحهم. فالعصبية القبلية بهذا المعنى هي البديل الذي لا بد منه للرابطة القومية، ولكن في حيزها المتطرف. ويقترن بالعصبية القبلية عادة الثأر، إذ تقضي تقاليد البادية أن يطالب أهل المقتول بقاتله ليقتلوه به، وهو الأمر المعروف باسم "القَوَد" إلا إذا رضوا بدية القتيل. والدية تختلف باختلاف مركز القتيل من الناحية الاجتماعية، فالدية الواجبة عن الملوك والزعماء تختلف عن دية الأفراد والصعاليك، ودية الصريح ضعف دية الحليف. والذي جرى عليه العرب أن يأخذوا مائة من الإبل دية القتيل من عامتهم، ودية الأشراف تزيد على ذلك، بينما تكون دية الملوك ألف بعير1. أما إذا لم يحصل القود، ولم يرضَ ذوو القاتل أو عشيرته بدفع الدية، ويكون القاتل قد لاذ بالفرار، عندئذٍ يصبح الأخذ بثأره واجبًا محتمًا. إذ يصمم ولي المقتول، ويكون عادة أقرب الناس إليه، على الأخذ بثأره، وغالبا ما يحرم على نفسه أن يشرب الخمر أو يقرب النساء أو يمس رأسه غسل حتى يدرك ثأره2، وقد يستغرق طلب الثأر عشرات

_ 1 الألوسي: 3/ 22. جواد علي: 1/ 367-368. 2 الألوسي: 3/ 24.

السنين. والعرب يعتقدون أن القتيل تخرج من رأسه هامة تنادي على قبره "اسقوني فإني صدية"، ولا ينقطع نداؤها إلا حين يؤخذ بثأره1. ومتى أدرك أولياء القتيل ثأرهم، ورأوا أن من قتلوه كفؤًا لقتيلهم، نام الثأر في صدورهم، وعندئذ يسمى "الثأر المنيم". أما الذي يتوانى عن طلب الثأر لقتيله فيلحقه العار, وقد يلحق العار القبيلة بأسرها إذا نامت عن ثأرها ولم تسعَ إليه، فينظر العرب إليها نظرة ازدراء واحتقار, وحتى من يقبل دية قتيله يُنظر إليه بمثل هذه النظرة. وكثيرًا ما يتولد عن الانتقام للدم المسفوح ثأر جديد، يجر وراءه سلسلة من الثارات المتبادلة، أشبه ما يكون بالحلقة المفرغة، وقد يستغرق ذلك أجيالًا. كما قد تسوى الأمور، بأن يسلم القاتل طوعا أو كرها إلى أهل القتيل كي يقتلوه به، فلا يبقى مجال لطلب الثأر. لكن القبيلة التي تفعل ذلك تكون قد جلبت على نفسها عارا لا يمحى. لذلك فإن القبائل تفضل أن تقتل القاتل بدلًا من تسليمه طوعا للمطالبين به؛ دفعًا للعار. وقد تتفق قبيلتان متحاربتان على تسوية الثارات بينهما لحقن الدماء فترضيان بالتحكيم، يتولاه شخص معين أو هيئة محكمين، يرضى بهم الطرفان، فيحكمون بأن تدفع القبيلة التي يكون قتلاها أقل من الثانية فضل الديات لها. وقد يحكمون بإبطال المطالبة ببعض الدماء، باعتبارها لا تستوجب دفع الدية، ويقال لذلك "الشدخ". والمثال على ذلك: الحكم الذي أصدره "يعمر بن عوف" بين قصي وخزاعة، فحكم بأن كل دم أصابه قصي من خزاعة موضوع، يشدخه قصي تحت قدميه، فسمي يعمر لذلك باسم "يعمر الشداخ"2. خلاصة القول: أن العصبية والثأر هما صنوان متلازمان وأمران طبيعيان في

_ 1 قال أحدهم لابنه موصيًا إياه ألا يترك ثأره إن قتل: "الألوسي: 2/ 312": ولا تزفون لي هامة فوق مرقب ... فإن زقاء الهام للمرء عائب تنادي: ألا اسقوني، وكل صدى به ... وتلك التي تبيض منها الذوائب وقال ذو الأصبع: يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة: اسقوني 2 جواد علي: 1/ 369.

الصحراء، حيث لا قوة أو دولة تحمي الفرد إذا ضعف، أو تنتقم له إذا اعتدى عليه أحد، اللهم إلا عشيرته أو قبيلته. ولذا فرضت تقاليد البادية أن يثأر الفرد لنفسه أو لذويه، من كل من يلحق الأذى به أو بذويه. ويتضامن معه أفراد عشيرته، أو بطون قبيلته، في الوصول إلى حقه ضد أي فرد أو جماعة تعتدي عليه من خارج قبيلته. هذه التقاليد هي في البادية البديل الذي لا بد منه لوظائف الدولة، التي تعاقب وتحمي في المجتمعات الحضرية في عصرنا الحاضر. ولا بد في هذه الحالة من أن يزداد الشعور القبلي والعصبية القبلية عمقًا وقوةً، بحيث يعتبر أفراد القبيلة أنفسهم جسمًا واحدًا لا تنفصم أجزاؤه عن بعضها؛ ولذا نجد أن العرب كانوا يطلقون على رتب الأنساب أسماء مأخوذة عن أعضاء الجسم، وكأنهم رتبوها على بنية الإنسان1. وهي ست مراتب رتبها الإمام الماوردي كما يلي: الشعب، القبيلة، العمارة، البطن، الفخذ، الفصيلة، وكلها أصول وفروع للنسب القبلي تقابل أسماء من أعضاء الجسم, وقد زاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة كما قال النووي. وهناك من رتب هذه المراتب نفسها على نسق آخر تقديما وتأخيرا.

_ 1 الألوسي: 3/ 188. جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 3/ 40، 259.

المرتبة الأولى: الشعب

المرتبة الأولى: الشعب: وهي تشمل النسب الأبعد كعدنان وقحطان. ونسل كل منهما شعب فهما شعبان. وفي القاموس: الشاعبان هما المنكبان لتباعدهما, وفيه أيضا: الشعب: موصل قطع الرأس "في أعلاه" وربما سمي الشعب بهذا الاسم؛ لأنه أعلى مرتبة من مراتب النسب، مثلما الشعب "موصل قطع الرأس" في أعلى رأس الإنسان، ومنه تتفرع:

المرتبة الثانية: القبائل

المرتبة الثانية: القبائل: والقبائل العربية تتفرع من الشعب كما تتفرع قبائل الرأس "وهي قطع عظم الرأس المشعوب بعضها إلى بعض" من أعلى الرأس "أي: الشعب", وقد ذكر الجوهري أن قبائل العرب إنما سميت باسم قبائل الرأس. يقول القلقشندي: القبيلة هي ما انقسم فيه

الشعب كربيعة ومضر. وربما سميت القبائل باسم "جماجم" أيضًا: "جماجم العرب هي القبائل التي تجمع البطون".

المرتبة الثالثة: العمارة

المرتبة الثالثة: العمارة: وهي بمثابة العنق والصدر من الإنسان, وهي ما انقسمت فيه أقسام القبيلة كقريش أو كنانة.

المرتبة الرابعة: البطن

المرتبة الرابعة: البطن: وهو ما انقسمت فيه أقسام العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم.

المرتبة الخامسة: الفخذ

المرتبة الخامسة: الفخذ: وقد جعلوها بعد البطن؛ لأن الفخذ من الإنسان بعد البطن. والفخذ ما انقسمت فيه أقسام البطن كبني هاشم وبني أمية.

المرتبة السادسة: الفصيلة

المرتبة السادسة: الفصيلة: وقد جعلوها بعد الفخذ؛ لأنها النسب الأدنى الذي يفصل عنه الرجل بمثابة الساق والقدم. والفصيلة ما انقسمت فيه أقسام الفخذ كبني العباس1. والعصبية القبلية هي في الأصل الشعور بصلة النسب إلى جد واحد، وتختلف شدة رباطها باختلاف درجات الالتحام في النسب. غير أن هنالك من الدلائل ما يشير إلى أن النسب أمر عرفي، إلى جانب كونه أمرًا طبيعيًّا، إذ يدخل فيه الأفراد الذين يصاهرون القوم وينتسبون إليهم بالولاء ولو كانوا من قبائل أخرى. ويكون للعصبية القبلية قيمة أعظم من حيث الرباط الذي يجمع بين القبائل التي ترجع إلى نسب واحد، إذا رفد رابط النسب رابط من المصلحة والجوار. وقد لا يكون للنسب شأن كبير أحيانا إذا تضارب مع المصلحة وحسن الجوار.

_ 1 القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، 13-14. الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، 3/ 188-189. وراجع المنجد عن معاني كل كلمة من الكلمات التي تطلق على مراتب الأنساب.

ويبلغ الشعور بوحدة النسب في القبيلة درجة هي من القوة بحيث تعتبر أن كل من لا ينتمي إليها إنما هو غريب، وأحيانًا وفي ظروف معينة عدو، ذلك أن القبائل العربية كانت تؤلف مجتمعًا يسوده التفكك، وعدم الشعور بالروابط القومية الجامعة.

العناصر التي تتألف منها القبيلة

العناصر التي تتألف منها القبيلة مدخل ... العناصر التي تتألف منها القبيلة: والقبيلة تتألف في العادة من عناصر كثيرة:

الصرحاء

1- الصرحاء: وهم أبناء القبيلة الذين يجري في عروقهم دمها النقي، كما أنهم ينحدرون من الجد الذي تنتسب إليه، وهؤلاء هم الذين يسودون القبيلة، ويؤلفون بيوتات الشرف فيها.

أبناء القبيلة بالنقلة

2- أبناء القبيلة بالنقلة: فقد كان جائزًا نقل رجل نسبه من قبيلة إلى قبيلة أخرى، فيصبح من أفرادها.

أبناء القبيلة بالاستلحاق

3- أبناء القبيلة بالاستلحاق: فقد تزوج القبيلة عبدًا من عبيدها امرأة من القبيلة، فيصبح مع الزمن فردًا من أفرادها يحمل نسبها. أما أولاد العربي من زواج غير شرعي أو من جواريه، فله الخيار في أن يلحقهم بنسبه أو لا يلحقهم، وإذا فعل أصبحوا يحملون نسب القبيلة1.

_ 1 الدكتور عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، ص150.

العبيد

4- العبيد: وهم على نوعين: عرب وأجانب، ومصدر الرقيق العربي الحرب بين القبائل العربية، إذ إن العربي الذي يقاتل في الحرب ذودًا عن قبيلته، كان عليه أن يواجه إحدى حالات ثلاث: إما أن يُقتل أو يفر أو يُجرح، وحينئذ يؤسر فيسترق. أما النساء فغالبًا ما كُنَّ يؤخذن أسيرات وسبايا في عقب القتال. وربما كان هدف الغارة سبي النساء، وهذا ما كان يدعو القبائل إلى أخذ الحيطة الشديدة لحمايتهن. وتمنح القبيلة من يقوم بهذه المهمة بشجاعة ألقابًا بطولية "كحامي الظعينة", أو"فارس الظعينة"،

وكثيرًا ما كانت القبائل تبيع سبيها وأسراها "أم عمرو بن العاص كانت سبية، ثم بِيعث في سوق عكاظ". أما مصدر الرقيق الأجنبي فكان الشراء، حيث كان العرب يرتادون أسواق الروم وفارس، فيشترون الأرقاء الذين كانت كل من دولتي الروم والفرس المتعاديتين تأسرهم من الأخرى في أثناء الحروب الكثيرة التي كانت تجري بين الطرفين. كما كان العرب يعتبرون أبناء جواريهم الذين لا يعترفون ببنوتهم رقيقًا لهم. والرقيق أصناف يختلف ثمن العبد باختلافها: فهناك الرقيق الأسود، وكان في منزلة غاية في الانحطاط بالنسبة للرقيق الأبيض؛ ذلك أن العرب كانوا يتعشقون البياض ويحتقرون السواد، حتى ليطلقون على العبيد السود اسم "الأغربة" تشبيهًا لهم بطائر الغراب البغيض المشئوم1. أما الرقيق الأبيض فهو ذو مكانة أعلى وثمن أغلى، وهو من جنسيات مختلفة: فارسية أو بيزنطية أو من بعض الشعوب الأوروبية. وبالرغم من أن الرقيق قد اعتبر كالآلة، يؤمر فيستجيب ويعمل، غير أن أثره كان عظيما على أهل مكة من حيث كثرة أفراده، إذ ندر ما خلا دار من دور مكة من عبيد يقتنيهم رب الدار. وقد استخدمهم مالكوهم؛ لما لهم من معرفة وخبرة ومهارة فنية، لا سيما الرقيق الأبيض في الحرف المختلفة، كأعمال البناء والتجارة والتعدين وغيرها، يشتغلون لحساب أسيادهم، كما استخدموا كحرس لهم ومشرفين على إدارة مبيعاتهم. وقد روي أن عاملا روميا عمل في بناء الكعبة في حياة الرسول قبل البعثة, كما رسم بعض العمال المسيحيين صورًا للأنبياء والملائكة ومريم العذراء، وغير ذلك من قصص الوحي الديني على جدران الكعبة، حتى إذا فتح الرسول مكة طمسها مثلما حطم الأصنام التي كانت هذه الصور قد أقحمت معها للزينة وربما تقديسا لها. وكان لهؤلاء الأرقاء إسهام في إدخال بعض الألفاظ الفارسية والإغريقية والحبشية إلى اللغة العربية، منذ عهد ما قبل الإسلام، كما استخدموا في الترفيه من رقص وغناء وضرب على الأوتار. وكان بوسع العبد أن يسترد حريته بأن يؤدي لسيده خدمة عظيمة، أو يظهر شجاعة فائقة في موقعة

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص37-39.

حربية، أو يتفق مع سيده على أن يشتري حريته بمبلغ من المال، ويعرف ذلك باسم "المكاتبة". والرقيق الذي يتحرر بهذه الطريقة يعرف باسم "المكاتب"1.

_ 1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص37-39.

الموالي

5- الموالي: وهناك أيضا الموالي، ويرجعون إلى مصدرين: أولهما: أن الرقيق عندما يعتق يصبح من الموالي إذا أراد البقاء في القبيلة. والثاني: أن يلتجئ فرد من إحدى القبائل إلى قبيلة أخرى بسبب خلع قبيلته له، فيعتبر مولى من مواليها، ويطبق عليه التقليد المعروف باسم "الجوار" وهو إما جوار ضد عدو معين، أو جوار عام. وفي هذه الحالة يصبح للمستجير ما لأفراد القبيلة من حقوق، من حيث حمايته والأخذ بثأره إذا قُتل، ويطلق عليه اسم "حليف"1. وقد يصل الأمر بالمجير أن يقتل أعز الناس إليه إذا قتل حليفا مستجيرا، كما فعل أوفى بن مطر المازني الذي قتل أخاه؛ لأنه فتك غيلة بمستجير به، طمعًا في زوجته الجميلة التي كانت ترافقه. وقد ينزل رجل صريح من غير الحلفاء على زعيم قبيلة فيصبح حليفه، ويعقد بين الاثنين عهد وميثاق يشهد عليه الملأ, وينص على بنود تقول: "دمي دمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك"2. وللحليف واجبات: ألا يسيء ماديًّا أو معنويًّا إلى القبيلة المجيرة وإلا خلعته، وتحللت من التزاماتها نحوه. ومع ذلك لم يكن للحليف منزلة كمنزلة أبنائها الصرحاء؛ ذلك أن ديته نصف دية الفرد الصريح منها.

_ 1 في لسان العرب: الحليف هو من انضم إلى شخص, فعز بعزه وامتنع بمنعته. 2 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص43-44، اقتباسًا من جامع البيان.

الخلع والخلعاء

الخلع والخلعاء: وفي مقابل ما يرفد القبيلة من عناصر خارجية عنها، هناك من التقاليد المعروفة عند العرب ما يقضي بأن القبيلة تستطيع أن تخلع أي فرد من أفرادها ولو كانوا من

الصرحاء، ويسمى هؤلاء بالخلعاء "مفردها: خليع ويطلق عليه أيضًا اسم لعين". والخلع في المجتمع القبلي شبيه بإسقاط الجنسية عن المواطن في عصرنا الحاضر, ويجري الخلع لأسباب: 1- إذا قتل فرد ما شخصًا آخر من قبيلته، ورفض ذوو المقتول قبول الدية؛ عندئذ تصبح القبيلة بشخص زعيمها، مضطرة لقتل القاتل، أو خلعه حفاظًا على وحدة القبيلة. 2- لما كانت القبيلة مسئولة عن أعمال أفرادها، تضطر أحيانا إلى خلع من يسيء منهم إليها، بكثرة اعتدائه وجرائره ضد القبائل الأخرى، التي تحملها أفعاله على شن الغارات الثأرية ضدها، مفضلة أن تضحي بفرد بدلًا من جماعات منها. 3- وتخلع القبيلة كل من يلحق بها العار بأعماله اللا أخلاقية المشينة، التي تعتبرها لوثة في جبينها. يذاع الخلع بطرق عديدة في المواسم والأسواق، بالمناداة أو الكتابة. كان الرجل يأتي بابنه إلى الموسم ويقول: "ألا إني قد خلعت ابني هذا فإن جُرَّ "أي أُخذ بجريرة" لم أضمن, وإن جُرَّ عليه -أي: قُتل- لم أطلب"1 فلا يؤخذ الأب بجرائر ابنه الخليع, ومن وقتها تصبح قبيلته في حل من أعماله، وتسقط حقوقه عليها، ويحرم عليه البقاء فيها، فيذهب ملتجئًا إلى غيرها. وأما إذا كانت شروره ومآثمه كثيرة فنادرا ما يلقي مجيرا، ويصبح الأمر خطيرًا بالنسبة إليه؛ إذ يجد نفسه في موقف حرج ووضع شاذ2. وقد يتكتل الخلعاء فيؤلفون عصابة تقطع الطرق وتعيث في الأرض فسادًا, تسلب وتنهب وتلقي الرعب في النفوس، وقد شاعت تسمية هؤلاء باسم "الصعاليك". وقد اشتهر معظم الخلعاء، ويطلق عليهم أيضا اسم "ذؤبان العرب" بضروب من الشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالحياة بحيث كان بعض الرؤساء والزعماء يستخدمونهم للفتك بخصومهم. وقد انضم قسم منهم إلى امرئ القيس الشاعر الكندي عندما نهض مع قبيلة بكر للأخذ بثأر أبيه من قبيلة أسد.

_ 1 الألوسي: 3/ 27. 2 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص31-36.

كما كانوا متحللين من العصبية القبلية، لا يفرقون بين قبيلتهم وغيرها، من حيث الإغارة عليها والسطو على أموالها، وإن كانوا في أغلب الأحيان يؤثرون التمركز في المناطق المجاورة للأسواق التجارية أو طرق القوافل التجارية، بحيث يغيرون عليها, ويُعملون يد السلب والنهب فيها1. وقد اشتهر منهم عدد من الشعراء الذين أطلق عليهم اسم "الشعراء الصعاليك" والذين مارسوا هذه الأعمال، مثل: الشنفرى وعروة بن الورد، الذي اشتهر بعلو الأخلاق والجود والكرم، ينفق ما يسلبه على الفقراء والمعوزين, ومنهم "تأبط شرًّا" والسليك بن السلكة وجعفر بن علبة. والشعراء الصعاليك كانوا، على العموم، كرماء يتصفون بالشهامة والمروءة والأنفة. وفي شعر للشنفرى ما يبسط لنا بعض الصفات الخلقية لهؤلاء الشعراء حيث يخاطب بني قومه الذين آذوه، بأبيات من قصيدته المعروفة باسم "لامية العرب"2.

_ 1 جواد علي: 1/ 369. 2 أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل فقد حُمَّت الحاجات والليل مقمر ... وشُدَّت لطيات مطايا وأَرْحل وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القِلى متعزل لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ ... سرى راغبًا أو راهبًا وهو يعقل ولي دونكم أهلونَ سيد عملس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيئل هم الأهل لا مستودع السر ذائع ... لديهم ولا الجاني بما جر يخذل وكل أبي باسل غير أنني ... إذا عرضت أولى الطرائد أبسل وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل وما ذاك إلا بسطة عن تفضل ... عليهم وكان الأفضل المتفضل أديم مطال الجوع حتى أميته ... وأضرب عنه الذكر صفحًا فأذهل وأستف ترب الأرض كيلا يرى له ... علي من الطول امرؤ متطول

السجايا العربية

السجايا العربية: يتضح مما تقدم أن القبائل العربية كانت في نزاع مستمر بينها, وقد طبعت حياة البداوة على الكفاح والذود عن الحمى، بل وممارسة الظلم في بعض الأحيان والمواقف، أي: مبادرة الخصم بالعداء قبل التعرض لعدائه. قال زهير بن أبي سلمى: ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يُهدَّم ومن لا يظلم الناس يُظلَم

غير أن في أخلاق البداوة ما يخفف كثيرًا من مساوئ الغزو والسلب والظلم. فالبدوي ولا سيما العربي أقرب بطبيعته الفطرية إلى الخير، ومهما تمادى في السلب والعدوان تنافسًا على أسباب الحياة من كلأ ومرعى، فإن طبيعته التي فطرت على الجود والكرم تدفعه إلى موازنة الشر الناتج عن تلك المنافسة. فقد فرضت عليه حياة البادية نوعا من السلوك، جعل من الشهامة والأريحية، والنجدة وحب الضيافة، والعفو عند المقدرة، وإباء الضيم، والوفاء بالعهد، والأمانة، والدفاع عن الجار واللاجئ والمستغيث، طبعا أصيلا وفطريا فيه1، وهو بعيد عن المداراة والمصانعة؛ لأنها بعيدة عن الفطرة, قريبة من الرياء. وقد اشتهر العرب بالكرم شهرة عظيمة، ولهم فيه ضروب شتى، وأصبحت سيرة بعضهم مضرب الأمثال؛ كحاتم الطائي، وكعب بن مامة الإيادي، وأوس بن حارثة الطائي، وهرم بن سنان، وعبد الله بن جدعان التميمي الملقب باسم "حاسي الذهب" وفيه ضرب المثل القائل: "أقرى من حاسي الذهب". وأجواد العرب وكرماؤهم كُثُرٌ يصعب حصرهم. ويتجلى الكرم في نحر الجُزُر -مفردها: جَزُور، وهو ما يُجزر من النوق والغنم- وإطعام الضيوف والفقراء والمساكين، أو بموجز العبارة: أن يبذل المرء أكثر مما يأخذ. وكان من عادة العرب أن يشعلوا النيران في ربوات عالية؛ ليهتدي بها السائرون في الصحراء، ويتجهوا إلى المضارب المستعدة لاستضافتهم. ومما يؤثر عن حاتم الطائي قوله لعبد له: أوقد فإن الليل ليل قرّ ... والريح يا واقد ريح صرّ عل يرى نارك من يمرّ ... إن جلبتَ ضيفًا فأنت حرّ وكان يحرص على ألا يأكل وحده، مخافة أن يوصم بالبخل بعد موته فيخاطب زوجته قائلًا: أيا يابنة عبد الله وابنة مالك ... ويابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلًا فإني لست آكله وحدي

_ 1 جورجي زيدان: طبقات الأمم، ص334.

أخًا طارقًا أو جار بيت فإنني ... أخاف ملامات الأحاديث من بعدي وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا ... وما بي إلا تلك من شيمة العبد1 ومن السجايا التي تحلى بها العربي المروءة، وقد تركز المثل الأعلى للأخلاق العربية في هذه السجية التي تغنى بها الشعراء، وهي تتجلى في الشجاعة، وفي كثرة ما يبذل من جهد، وما يظهر من تفانٍ دفاعًا عن القبيلة، وفي سبيل إجارة المظلوم، ونجدة الملهوف، وحماية الجار والعِرْض، والكرم، وقد فسرت بأنها كمال الرجولة، أو بعبارة موجزة، تقتضي المروءة من المرء أن "يغشى الوغى ويعف عن المغنم"2. وقد هيأت الطبيعة كل المقومات التي تجعل من العربي رجلًا قويًّا، صحيح الجسم شجاعًا، يضطلع بالمهام التي فرضتها عليه ظروف بيئته، بالإضافة إلى ما فطر عليه من الذكاء وصفاء الذهن. فالبدوي العربي يكتسب صحة البدن وقوته من هواء البادية النقي، ومن أشعة الشمس الساطعة على الدوام، ومن الجو الطلق الذي يعيش فيه، ومن حركته الدائمة ومرانه المستمر على احتمال المشاق. ويكتسب الشجاعة من اضطراره الدائم إلى الدفاع عن نفسه وأهله، وما يملك من متاع ضد المغيرين على قبيلته، وضد الحيوانات المفترسة. فالشجاعة والقتال طبع فُطر عليهما العربي من نعومة أظفاره. وكل ما يحلم به العربي أن ينال الذكر الحسن بين الناس، فيشيد هؤلاء بالفضائل التي يتحلى بها، فما المرء في نظره إلا أن يترك سيرة حسنة، فهو حديث من بعده. على أن الحرية واستقلال الفكر من أنبل المقاصد التي يسعى إليها العربي، وهي مثله الأعلى المنشود، وأشد السجايا اتصالا بنفسه وقلبه، فقد رضعها في المهد، وتشربت بها نفسه في آفاق الصحراء التي لا حد لها. وقد بلغ من تعلقه بحب الحرية أنه كان يكره كل قانون إلا قانون البادية، وكل نظام عدا نظام العشيرة3.

_ 1 الألوسي: 1/ 57-85. وفي مصدر آخر أن قائل هذه الأبيات قيس بن عاصم المنقري. 2 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص10، جواد علي: 6/ 326. 3 جواد علي: 1/ 370، 372.

الأسرة

الأسرة: إن الوحدة الاجتماعية في البادية والحضر معًا هي القبيلة، وركن القبيلة هي الأسرة، والرجل هو عماد الأسرة وربها وصاحب نسبها. والعلاقة الاجتماعية بين أفراد الأسرة كانت قائمة على أساس التضامن الوثيق بين أفرادها، كتضامن أسر القبيلة ضد القبائل الأخرى. فالعلاقات في المجتمع العربي تقوم على أساس التضامن المتسلسل الصاعد، اعتبارًا من أفراد الأسرة ثم الأفخاذ فالبطون فالعشائر، ثم الأحلاف، وللنسب دخل كبير في هذا التضامن، وهو الذي نسميه بالعصبية القبلية.

الزواج

الزواج: كانت الأسرة تقوم على أساس الزواج بعقد وبمهر معين، يدفعه الزوج بعد رضاء أولياء الفتاة ورضائها في بعض الأحيان، وهو ما يسمى بزواج المهر أو زواج البعولة، وقد يغالي بعض الآباء في قيمة المهر مغالاة شديدة، على أنه ذكر إلى جانب هذا أنواع أخرى من الزواج منها زواج السبي من نساء العدو الأسيرات، ولا يشترط فيه رضا الفتاة أو المهر، ثم زواج الإماء، ويكون بشراء أمة تكون هي وأولادها منه ملك يمينه إلا إذا أعتقهم. وهذه الأنواع من الزواج كان يقرها المجتمع الجاهلي، وقد أقرها المجتمع الإسلامي بعد ذلك مع شيء من التعديل، من حيث تحديد تعدد الزوجات، والتشجيع على عتق الإماء. وعرف العرب أيضا زواج المتعة، وكان يجري بعقد شخصي بين رجل وامرأة غير بكر، لوقت معين تنتهي العلاقة بينهما بانتهائه، وبمهر مقدم وحقوق للأولاد على أبيهم في الإرث, غير أن الانتساب فيه يكون للأم في الغالب, وهو يشبه زواج المهر إلا من حيث اشتراط المدة وانتساب الأولاد1. ومن أنواع الزواج التي عرفت في الجاهلية زواج الشغار، وذلك بأن يتفق رجلان على أن يتزوج كل منهما قريبة الآخر، ممن له عليها حق الولاية كالأخت أو الابنة، وبدون مهر. وفي ذلك ما فيه من عدم احترام حرية المرأة وحقوقها، إنما لم يكن شائعًا شيوعًا كبيرًا. وقريب منه نكاح البدل كأن ينزل رجلان كل منهما للآخر

_ 1 الألوسي: 2/ 3-5.

عن زوجته، وهو لا يقتضي المهر. وقد عرف في الجاهلية نكاح "الخدن" "المخادنة" كأن يتخذ رجل صديقة له "خليلة". ومن أنواع الزواج التي لم يقرها الإسلام, واستهجنها المجتمع الجاهلي أيضا زواج المقت، ويكون بأن يرث الابن الأكبر زوجة أبيه، إذا لم يكن لها أولاد منه كما يرث المتاع، إلا إذا افتدت نفسها من الورثة برضا منهم، وإذا أراد زَوَّجها من أحد إخوته بمهر جديد، وما ذلك إلا لأن الزواج كان يعني أن تقطع المرأة صلتها بأبيها وإخوتها، فإذا لم تكن ذات ولد ساءت حالتها ولم تجد من يعيلها1. والمعتقد أن هذا النوع من الزواج كان نادر الوقوع، ومقصورًا على فئات خاصة ضئيلة من السكان، وربما يكون قد تسرب إلى المجتمع العربي من المجوس. وقد سمي باسم زواج المقت؛ لأنه كان ممقوتا، والولد الذي يكون ثمرته يسمى "مقيتًا". أما الرجل الذي يخلف أباه على امرأته إذا طلقها أو مات عنها، أو يزاحم أباه على امرأته فكانوا يطلقون عليه اسم "الضيزن" أي: الشريك أو المزاحم عند الاستسقاء "ومعنى الضيزن: الصنم". وقد حرم المجتمع الجاهلي زواج الأب بابنته، والزواج بالأمهات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخت وزوجات الأبناء. لكن زواج الرجل بأختين تكونان معًا في عصمته كان مباحًا. ويضاف إلى العادات التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية أن أحدهم إذا تقابل مع آخر من غير قبيلته ومعه ظعينة قاتله عليها، وإن تمكن أخذها منه، واستحلها لنفسه. كما أن الجاهليين قد اعتبروا الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة بدون عقد ضربا من الزنى، فيقولون للمرأة عندئذ: إنها بغي وزانية وفاجرة وعاهرة ومسافحة2. ولم يكن عدد الزوجات محددًا، بل كان للجاهلي أن يعدد من الزوجات ما يشاء، مدفوعا إلى ذلك بعوامل شتى، قد تكون شخصية بحتة أو إنسانية، كأن يدخل في عصمته

_ 1 د. أحمد شلبي: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، 1/ 79، جواد علي: 5/ 274. 2 جواد علي: 5/ 254-258.

نساء لا معيل لهن، أو سياسية بأن يُصهر إلى عدد كبير من القبائل، تناصره وتؤيده عند الحاجة.

الطلاق

الطلاق: كان الطلاق من حق الرجل، يستعمله متى شاء لأي سبب أو حتى بدون سبب. وكان العرف يقضي بأن الرجل إذا طلق زوجته واحدةً كان أحق الناس بها. أما إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها، فالطلاق ثلاثًا معناه الفرقة التامة بين الزوجين1. على أن هنالك من النسوة من كن يشترطن عند الزواج أن يكون لهن الحق في الطلاق إذا أردن, وكانت المرأة إذا أرادت أن تطلق زوجها غيرت باب قبائها، فإن كان قِبَل المشرق جعلته قبل المغرب، فإذا رأى الزوج ذلك عرف أنها قد طلقته فلم يأتها, لكن ذلك لم يكن ليحصنهن من تطليق أزواجهن لهن إذا أرادوا. وإذا طلقت الزوجة أو مات عنها زوجها ألزمت بقضاء العدة حتى يتبين ما إذا كانت حاملًا أم غير حامل، خوفًا من أن تختلط الأنساب فيما لو تزوجت قبل انقضاء العدة2.

_ 1 الألوسي: 2/ 49. 2 جواد علي: 3/ 273.

العلاقات ضمن الأسرة

العلاقات ضمن الأسرة: لقد اختلف الباحثون المحدثون حول وضع المرأة الاجتماعي في العهد الجاهلي، وقد استنتج بعضهم1 من الآيات القرآنية التي تدعو إلى إحقاق حقوق المرأة، وعدم إمساكها ضرارًا إذا طُلقت -كقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُن} و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُن ... } 2- أنها كانت مضطهدة، يبغى عليها ويستهان شأنها، بينما استنتج آخرون من أخبار الجاهلية التي وصلت إلينا في كتب التاريخ والآداب القديمة، أنها كانت تتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع الجاهلي.

_ 1 محمد عزة دروزة: عصر النبي وبيئته قبل البعثة، 131-135. 2 [البقرة: 232] ؛ [النساء: 19] .

لكن الواقع أن موضوع مكانة المرأة في العصر الجاهلي يحتاج إلى دراسة عميقة وشاملة، ولا يمكن للباحث أن يعطي أحكامًا مطلقة موجزة عنه في ثنايا البحوث العامة. ومن الأخبار المتناثرة في بعض كتب الأدب نلمس أن علاقة الرجل بالمرأة في العهد الجاهلي كانت قائمة على الاحترام المتبادل في كثير من الأحيان، إذ كانت تستشار في بعض الأمور، وتشارك الرجل أكثر أعماله، وتتمتع بقسط من الحرية. فالشعراء كانوا يعطونها حقها من النسيب، ويبدءون قصائدهم بالتشبيب بها، وبعض الآباء يستشيرون بناتهم في أمر زواجهن واختيار بعولهن1. لا نكران أن الرجل في الأسرة الجاهلية كان له المركز الممتاز، فهو قوام الأسرة وربها، والمسئول عن حياتها ورزقها ومختلف شئونها، والمحارب المدافع عنها، المطالب بالثأر والغرامات، وصاحب الكلمة النافذة، والمرأة كانت تابعة له، ومنسوبة إليه، وتحت حمايته ومسئوليته، غير أنها كانت تشاطر الرجل كثيرًا من مسئولياته. وإذا كانت لا تغني غناء الرجل في الحروب، والحروب هي أساس الحياة في المجتمع الجاهلي؛ ولذلك تدنت منزلتها عن منزلته، إلا أنها كانت خير رفيق له وخير عون، وكانت تجيد من الفنون ما يجعلها في مستوى ثقافي يلائمه، من قول للشعر والغناء، بالإضافة إلى قيامها بواجباتها كأم ومربية للأطفال، وكانوا يسمونها ربة المنزل تكريمًا لها2. وفي الروايات القديمة أن المرأة مارست الكهانة والعرافة كالرجل، وكان الرجال يلجئون إلى رأيها في معضلات الأمور, كما جرى عندما لجأ عبد المطلب بن هاشم إلى كاهنة عندما أبى عليه قومه إلا أن يذبح ابنه عبد الله، وفاء لنذر نذره للآلهة. والمرأة الجاهلية فوق ذلك كانت تشعر بشخصيتها وبمكانتها في المجتمع، وتحرص على مكانتها من أن تهان, "قصة ليلى أم عمرو بن كلثوم مع هند أم عمرو بن هند".

_ 1 الدكتور أحمد شلبي: المصدر نفسه، ص77 "راجع فيه قصة أوس بن حارثة وبناته الثلاث مع الحارث بن عوف الذي رغب في خطبة إحداهن.."؛ راجع أيضًا: الشيخ محمد الخضري: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية, 1/ 17-20. 2 يقول أحدهم: يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رحال القوم والقربا

ومما تجدر الإشارة إليه، أن العرب لم يكونوا يزوجون بناتهم في غير العرب، وأن الفتيات البدويات لم يكنَّ يحببن الزواج في الحضر، وأن المرأة المرغوب فيها هي الولود التي تنجب كثيرًا من البنين؛ لأنهم عماد الأسرة العربية، التي اعتادت أن تعيش في حراسة السواعد المفتولة والرماح السمهرية. كان العربي يغار على نسائه، ويحرص عليهن، ويعتبر العرض أغلى من النفس والمال والولد1؛ ولذلك كان الرجال يصطحبون نساءهم في الغزوات والحروب، ويجعلونهن في مؤخرة الجيش، خوفًا من مباغتة العدو لهن في مضارب القبيلة والرجال غائبون، وكي يدرك المحارب أن هزيمته ستجعل عرضه مباحًا لأعدائه، فيستميت في القتال ليجنب نساءه السبي. وفضلا عن ذلك، فإن النساء في المؤخرة كنَّ يعنين بالمرضى، ويضمدن جراح المصابين، كما يشجعن المحاربين، ويأخذن بتلابيب الفارين من ساحة القتال. ففي موقعة ذي قار وقفت امرأة من بني عجل، تنشد مستحثة الرجال على الجلاد: إن تهزموا نعانق ... ونفرش النمارق أو تُهزَموا نفارق ... فراق غير وامق

_ 1 المعتقد أن الجاهليين كانوا يعاقبون الزانية بالرجم، فجاء الإسلام وأقر ذلك.

معاملة الأولاد

معاملة الأولاد: إن أولوية الرجل في الأسرة الجاهلية قد جعلت للأب سلطة على أفراد عائلته، وقد تصل إلى حد تجعل للآباء على أولادهم حق التصرف بمصائرهم، ففي بعض الأحيان كانوا يجعلون أولادهم رهائن في أيدي خصومهم؛ فيؤدي ذلك أحيانا إلى قتل هؤلاء لهم، وإذا استثنينا هذه الحالة الشاذة، ومثلها ما كان من وأد البنات، فإن العربي كان يعامل أبناءه معاملة تنطوي على العطف والحنان والمحبة1 مع حرصه على تربيتهم تربية خشنة،

_ 1 كقول أحد شعراء الجاهلية: وأنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض وكقول أمية بن أبي الصلت يخاطب ولده: غدوتك مولودًا وعلتك يافعًا ... تُغَلُّ بما أُدني إليك وتُنهل إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت ... لشكواك إلا ساهرًا أتململ كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي منك جَبْهًا وغلظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل

تؤدي بهم إلى استكمال أسباب القوة؛ ليكونوا درعًا حصينًا له ولقبيلته. وكان الآباء يتخيرون لأبنائهم الأسماء التي تدل على الخشونة، أو توحي بالتفاؤل بالظفر على الأعداء مثل: كلب، أسد، فهر، صخر, غلاب، ضرار، حنظلة، حرب، بينما كانوا يتخيرون لأرقائهم أسماء جميلة مثل: سهيل، ميسور، هانئ، نجاح، فلاح, ونحو ذلك. سئل الدقيش الكلابي: لماذا تسمون أبناءكم بشر الأسماء، وعبيدكم بأحسنها؟ قال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا1. كان الجاهليون يفضلون من المواليد البنين على البنات، وقد دعاهم إلى ذلك عوامل عديدة؛ فالأولاد يصبحون في المستقبل محاربين، تعتمد عليهم القبيلة في الدفاع عن حوزتها وفي الكسب، بينما تكون البنت عبئًا ثقيلًا تحتاج إلى حماية، أو قد تجلب العار إلى قبيلتها فيما إذا تعرضت للسبي. تقول الآية الكريمة: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2 وكذلك جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 3 {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 4 يتضح لنا من هذه الآيات ثلاثة أمور: أولًا أن العرب كانوا يفضلون البنين على البنات، وأنهم كانوا يئدون البنات، وأن سبب كره ولادة البنات عدم غنائهن في القتال والخصام، وقد لمس الباحثون أسبابًا أخرى للوأد منها الإملاق: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم} 5،

_ 1 القلقشندي: نهاية الأرب ... ، ص23. محمود شكري الألوسي: بلوغ الأرب ... ، 3/ 193. محمد الخضري: المصدر نفسه، ص21. 2 [النحل: 58-59] . 3 [الزخرف: 17-18] . 4 [التكوير: 8-9] . 5 [الأنعام: 151] .

وعدم القدرة على إعالة الأولاد، أو الحرص على صيانة العرض، وخشية أن يلحق القبيلة عار من فعل السبي. وعلى كل حال لم يكن الوأد شاملًا، بل اقتصر على بعض الأوساط المتردية ماديًّا واجتماعيًّا، ولا سيما في سني القحط والمجاعات، وفي البوادي القاحلة. ويروى أنه قد اقتصر على بعض الحالات، في بعض بطون قبيلتي تميم وأسد1، كحالة ولادة مولود مشوه، أو إذا كان الوالد فقيرا، أو كثير العيال، أو كان مع فقره مئناثًا، وفوق ذلك لا يستطيع الدفاع عن حريمه لضعفه. ومع ذلك كان هناك ما يحد من هذه العادة السيئة، كإقدام ذوي الشهامة والمروءة على تبني أولاد ليسوا من صلبهم، يجعلون لهم مثلما لأولادهم من حقوق، وإنقاذ المجتمع من عادة الوأد بتسقط الأخبار عمن يقدم على وأد بناته، فيفتدونهن من آبائهن. فالشاعر الفرزدق كان يفتخر بأن جده غالب بن صعصعة، كان يعرف في الجاهلية أنه محيي الموءودات.

_ 1 محمد الخضري: المصدر نفسه، ص21.

الإرث

الإرث: كان الإرث من حق الرجل فقط، وقد حرمت منه المرأة والأولاد الصغار والجواري والبنات. ويظهر أن هذا الحق قد خص به الذين يركبون الخيل ويحملون السلاح، وقاعدتهم في ذلك: "لا يرث الرجل من ولده إلى من أطاق القتال"1. وللرجال أن يرثوا من النساء، وأن يرثوهن أنفسهن، كما يرثون المتاع "يرث الابن الأكبر زوجات أبيه". ومن مات عن بنات ولم يكن له أبناء ذكور يرثه إخوته، وتحرم بناته من ميراثه. ولكن يظهر أن حرمان المرأة من الميراث، لم يكن عامًّا في جميع القبائل، بل إن بعضها كانت تعطي النساء الحق في الإرث. فقد ورد في بعض المصادر القديمة أن ذا المجاسد عامر بن جشم بن غنم من بني يشكر قد ورَّث ماله لأولاده إناثا وذكورا، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، فشاع حكمه في بعض الجاهليين، ثم أقره الإسلام2.

_ 1 جواد علي: 5/ 274. 2 جواد علي: 6/ 228-329.

الفصل الرابع عشر: الحياة الفكرية عند عرب الجاهلية

الفصل الرابع عشر: الحياة الفكرية عند عرب الجاهلية مدخل ... الفصل الرابع عشر: الحياة الفكرية عند عرب الجاهلية قد يتبادر إلى الذهن أن عرب الجاهلية كانوا أمة منعزلة عن العالم؛ بسبب الوضع الجغرافي لشبه جزيرة العرب, التي تحيط بها الصحارى والبحار من جميع الجهات. غير أن الدراسات الحديثة قد كشفت عن خطأ هذا الاعتقاد، وأثبتت أن العرب لم يكونوا في منأى عن الحضارات الكبرى التي جاورتهم1، بل اتصلوا بها وتفاعلوا معها. وكانت صلة الوصل بينهم وبينها، أولًا التجارة، ثم المدنيات العربية التي اضطلعت بها بعض الإمارات العربية المتاخمة لحدود بيزنطة وفارس، كدول الأنباط والغساسنة والمناذرة، أو بواسطة الجاليات المسيحية واليهودية التي استقرت في بعض المدن الحجازية، كيثرب ومكة ونجران. فقد كان لوقوع مكة والمدينة على طرق القوافل التجارية أثر كبير في ازدياد أهميتهما وارتقائهما فكريا وحضاريا؛ ذلك أن أهلهما قد احتكوا بالأمم المجاورة، واعتنق بعضهم الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية، وأصبح بعضهم يعرفون القراءة والكتابة وتقدموا فكريًّا. وعلى رأي بعض المستشرقين أن بعض أجزاء شبه جزيرة العرب قد تفاعلت مع مظاهر الحضارة الهللينية، وأن كثيرا من الأفكار، ومن نتاج الثقافات اليونانية والرومانية، ومن العقائد المسيحية والمزدكية قد اختلطت وامتزجت فيها. وهكذا لم يبق العرب سادرين في عزلتهم, بل أخذوا بنصيب من يقظة عارمة، زاد في وضوح معالمها وقوعهم في أطراف المدنيات الكبرى2. ومن الجدير بالذكر أن من أهم

_ 1 Henri Masse: L'Islam "Paris 1930". P. 7. 2 Claude Cahen: Ibid. , P. 11. إدوار بروي: تاريخ القرون الوسطى، ص110-111.

النتائج الفكرية التي أسفرت عنها رحلات المكيين إلى الحيرة أنهم قد نقلوا منها حروف الهجاء، الأمر الذي استتبع نشوء الخط المعروف باسم الخط الكوفي. يقارن الجاحظ بين العرب وغيرهم من الأمم فيقول: "بأنه وإن عرف عن الهند واليونان وفارس تطرقهم إلى صنوف من العلم والفلسفة والمنطق والخطابة، إنما لم يتصفوا بالبيان وزلاقة اللسان وانثيال البديهة، بل كان ما خرج عنهم، إنما هو عن "طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة" بينما "كل شيء للعرب، إنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام ليس فيه معاناة ولا مكابدة" وأنهم بالرغم من كونهم أميين، كانوا مطبوعين لا يتكلفون، "تأتيهم المعاني إرسالًا، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالًا" وأن كل ما خلفوه من شعر أو نثر لشاهد صادق على الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم أن يجاريه"1. ويقول أحمد أمين: "إن العربي الجاهلي عصبي المزاج سريع الغضب، والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء. وفي الحق: إن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته, فكثيرا ما يعتمد على اللمحة الدالة، والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يفاجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب"2. مما تقدم تتضح لنا الخطوط الأساسية لمميزات الفكر العربي في الجاهلية. فالعربي الجاهلي لم يمارس العلم، ولم تكن له فلسفة ولا منطق، إنما تميزت ثقافته بالفنون الأدبية من خطابة ونثر وأمثال وشعر، تنثال عليه المعاني انثيالًا دون تكلف. فالسليقة الشعرية فيه طبع أصيل، وقد فطر على البديهة والارتجال والإلهام. وهو ذكي سريع الخاطر يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة. إن هذه الثقافة لمما يتفق مع بداوة العيش، وهي طور مر العرب فيه. والبداوة كما قال ابن خلدون في حديثه عن العرب "جيل في الخلقة طبيعي" مثلهم كمثل غيرهم من

_ 1 الجاحظ: البيان والتبيين، 3/ 27-29. 2 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص31.

الأمم المتبدية، كالبربر والترك والأكراد، وهي حالة اجتماعية تمر فيها الأمم في طور نشوئها وارتقائها1. غير أن حالتهم الفكرية كانت من التقدم النسبي بحيث إن الدين الإسلامي بما انبثق عنه من نظم انقلابية ثورية، قد لقي استجابة منهم، فنفذ إلى قلوبهم ونقلهم بأيسر وجه إلى ميادين الحضارة، إذ تفهموا علوم اليونان والسريان وغيرهم، وتمثلوها وصهروها في بوتقة العروبة، وأقاموا على أسسها صروح حضارتهم العربية الإسلامية، التي استتمت جميع مقومات العبقرية والإلهام، وسحرت الكتاب والمستشرقين، فأفاضوا في وصفها، وتعمقوا في دراستها. وبالرغم مما انطوى عليه العهد الجاهلي من عبادة للأوثان، ومن اعتقادات وطقوس اجتماعية بدائية جلها خرافي، فليس من العدل أن ترتسم عنه في الأذهان صورة سيئة ومشوهة، بحيث نتصوره وكأنه عهد ظلم وقاتم. ذلك أننا لو أمعنا النظر فيما اتصل بنا من ترك الجاهلية في الأدب والشعر والنثر والخطابة والأمثال والحكم، لرأينا أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن شعب بلغ درجة كافية من التطور الفكري، وأن اللغة التي صيغ بها، لم تكن لتبلغ ما بلغته من كمال التركيب، والغنى بالمفردات، والدقة في التعبير، والبلاغة والمقدرة على أداء المعاني، لو لم يكن قد مضى على تطورها آنذاك قرون عديدة لا ندرك مداها. فقد قطعت شوطًا بعيدًا في التكامل والاستقرار2، وبلغت في عبقرية التعبير عن المعاني بألفاظ وتراكيب توافق الجرس والحركة والإيقاع شأوًا بعيدًا3، وأوفت على الكمال حتى أصبحت أتم اللغات السامية صرفا ونحوا وبلاغة4. فالشعر الجاهلي بما اشتمل عليه من رائع الوصف وجمال الصور ونبل الأخلاق والمشاعر، وما يخلب اللب من فن الإيقاع5 لدليل ساطع على أن قائليه قد وُهبوا قسطًا

_ 1 مقدمة ابن خلدون: ص121. 2 إدوار بروي: المصدر نفسه ص100. 3 راجع عن ذلك تفصيلًا في: الألوسي, المصدر نفسه، ص40-45. 4 د. عمر فروخ: العصر الجاهلي، ص50. 5 د. كمال اليازجي: معالم الفكر العربي في العصر الوسيط، ص23.

وفيرًا من رهافة الإحساس ورقة الشعور، وبرهنوا عن تقديم فني مرموق، وذوق أدبي مصقول. وعلى العموم, إننا نجد في الأدب الجاهلي شعرًا كان أو نثرًا، من المثل العليا والآراء في الحياة، ما يجعله أدبا إنسانيا خصبا وغزيرا1. يقول الشاعر سليمان العيسى في حديث له في مجلة الموقف العربي2: "إننا لا ندري من أية غاية مجهولة موغلة في القدم انحدرت إلينا القصيدة العربية بشكلها الذي نعرفه جميعًا. كل ما تعلمناه في المدارس وسمعناه من أساتذتنا، أن أقدم ما وصلنا من تراثنا الشعري هو الشعر الجاهلي، وعلى رأس الشعر الجاهلي هذه القصائد الساحرة: المعلقات. والشعر الجاهلي يرجع إلى الوراء، فإذا هو لا يتعدى مائة وخمسين سنة قبل الإسلام. والمعلقات تحوم حول الإسلام، ومن أصحابها من أدرك الدعوة الجديدة وآمن بها، ومنهم من مات قبل الدعوة بقليل. وتلقي بنظرك إلى هذه المعلقات، إلى هذه الأشكال التقليدية الأولى، فإذا أنت أمام شعر قد بلغ الذروة؛ ذروة في اللغة، وذروة في الخيال والفكر، وذروة في الموسيقى، وذروة في نضج التجربة وأصالة التعبير، أفيعقل أن يكون مثل هذا النضج الفني بداية؟ أفيمكن أن يكون القطرات الأولى التي تألف منها نهر الشعر العربي؟. إني لأرى، ويشاركني في هذا الرأي كثيرون، أن منابع الشعر ما تزال أقوى وأغنى من مصبه حتى الآن، وأن شعرنا الجاهلي ما يزال النموذج الرائع الجدير بأن نعود إليه، وأن نغترف منه، وأن نتتلمذ عليه إذا أردنا أن نكون كتابًا أو شعراء مجيدين". ثم ينتهي إلى القول: "إن تاريخ القصيدة العربية قديم قديم، ما أحسب إلا أن البحث الجدي سيبلغ جذوره، ويكشفها في يوم من الأيام". والواقع كما يقول سليمان العيسى، إن تاريخ القصيدة العربية قديم، وهو أقدم بكثير من التاريخ الذي حدده لقدمه "150 سنة قبل الهجرة". فلكي تبلغ اللغة العربية والشعر العربي الكمال والروعة،

_ 1 د. عمر فروخ: العصر الجاهلي، ص50-51. 2 العدد 1، ص65.

اللذين بلغاهما عند ظهور الإسلام، وكي يتجلى رونق اللغة العربية بأجمل وأروع ما يمكن أن يتجلى به في القرآن الكريم، لا بد أن يكون قد مضى على تدرجهما في الرقي أضعاف أضعاف هذه المدة. والعصر الجاهلي بما اتصف به من تفتح الخصائص القومية، ذلك التفتح الذي يتجلى في تكامل اللغة العربية، أحرى بأن نعتبره عصرًا من العصور المرموقة للعروبة. وليس في هذه النظرة أي "تناقض، ولا هي تعليل لتعصب العرب لجنسهم" كما يزعم المستشرق الفرنسي كلود كاهن1. وبالإضافة إلى ذلك، وكما يقول كلود كاهن، لا بد لنا من الوقوف على التقاليد الجاهلية كي نفهم النصوص الإسلامية المقدسة، ولندرك إدراكًا كاملًا التشريع الإسلامي سواء من حيث نقضه لتلك التقاليد، أو إقراره لبعضها. ومن التراث الأدبي الجاهلي كان الشعر يؤلف الكثرة المطلقة، فأكثر ما بلغنا منهم الشعر وأقله النثر2. وكان للشعر والشعراء مكانة عظيمة في المجتمع الجاهلي، وبوسع الشاعر أن يرفع من شأن الذليل والوضيع إذا مدحه، أو أن يذل الرفيع والعزيز إذا هجاه3. وكان لظهور الشاعر في المجتمع الجاهلي أهمية عظيمة, إذ تقام الأفراح في القبيلة وتجري الاحتفالات وتنحر الذبائح، وتأتي الوفود لتهنئ القبيلة التي نبغ فيها الشاعر. والشاعر يدافع عن قبيلته بشعره كما يدافع الفارس عنها بسيفه4. والشعر كما قيل عن حق ديوان العرب، يستطيع الباحث الاستعانة به؛ ليجلو الكثير من نواحي المجتمع العربي الجاهلي، ومن أخلاق الجاهليين وعاداتهم وتقاليدهم.

_ 1 Claude Cahen: Ibid. , p. 9. 2 د. كمال اليازجي: المصدر نفسه، ص23. 3 والأمثلة على ذلك كثيرة نجتزئ ببعضها "راجع عنها: جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 3/ 32؛ د. أحمد شلبي: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية, 1/ 58-59" ومنها أن بني أنف الناقة من تميم كانوا يخجلون من تسميتهم، وقد زارهم الحطيئة يومًا فأكرموه فمدحهم بقوله: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا فاحترمهم العرب لهذا النسب وأصبحوا هم يفتخرون به. كان عبد العزى بن عامر كثير البنات سيئ الحال، وقد زهد الخاطبون في بناته فكسدن. ولما قال الأعشى شعرا في مدحه سار ذكره بين العرب فأقبل الخطاب يطلبون يد بناته. 4 الألوسي: 3/ 84.

فكل ما كان للجاهليين من آراء ومذاهب وميول قد عبروا عنها بالشعر، ففي الشعر كانت تنطلق نفوسهم على سجيتها، وتكشف عما تحب وتكره. وفي الشعر يعظمون القوة، ويمجدون الشجاعة والبطولة، بينما كرسوا النثر للخطب والوصايا، والأقاصيص والأمثال والحكم، وفيه كانت تتجلى آراؤهم ومناهج تفكيرهم1.

_ 1 كمال يازجي: المصدر نفسه، ص23, 24.

معارف العرب

معارف العرب: صحيح أن العرب كانوا يؤمنون ببعض المعتقدات الخرافية، وكثير منها مقتبس من غيرهم، وما ذلك إلا لعجز عقولهم عن تكوين نظرة شاملة عن الكون واتساق حوادثه، وهذا ناتج عن طبيعة بيئتهم التي لم تهيئ لهم الاستقرار المادي والنفسي؛ ليتمكنوا من التفكير السليم والملاحظة الدقيقة الهادئة، والنظر في حوادث الكون، وربط النتائج بالأسباب، وتعليلها تعليلا منطقيا صحيحا، فآمنوا بوجود الجن والأرواح الخفية، وكونها العلل التي تجلب الأمراض والشرور، غير أنهم مع ذلك قد عرفوا صنوفا من الثقافة, تتناسب مع ما هيأه لهم مجتمعهم البدوي من فرصة النظر في الكون. فما كان منه متعلقا بالعلم والفلسفة، فقد كان مبنيًّا على التجربة القاصرة. ولذلك لا نستطيع أن نقول: إنه كان لديهم علوم، بل معارف اقتضتها ظروف حياتهم اليومية. فإذا نظروا في السماء ورصدوا النجوم؛ فلكي تهديهم في أسفارهم، ويستدلوا بها على المواقع والمسالك التي يريدون سلوكها. ومع ذلك فقد هداهم نظرهم إلى معرفة مواقع الكواكب، وتنقلها في بروجها بين فصل وآخر من فصول السنة، وميزوا السيارة من الثابتة منها. وقد ركزوا اهتمامهم على القمر الذي يهتدي به السارون، واستعملوا كالبابليين السنة القمرية والشهر القمري والتقسيم الأسبوعي للشهر. ولكنهم لما أدركوا عدم انطباق السنة القمرية على السنة الشمسية، وتتابع الفصول سنة بعد أخرى، لجئوا إلى ما يسمى بالنسيء -أي إضافة شهر إلى السنة القمرية كل ثلاث سنوات كي توافق السنة الشمسية- وقد أعطوا بعض الكواكب أسماء لا تزال معروفة حتى الآن مثل: عطارد، سهيل، العيوق،

الدبران، الزهرة، الثريا، المجرة، الفرقدان، السماكان، الشعريان. وسموا أولادهم بأسماء بعضها مثل: سهيل، هلال، الزبرقان1. ومما يلاحظ أن معلومات العرب الجاهليين الفلكية عملية، ولا تعتمد على المسلمات العلمية والحساب، وكانت تتناقل بالرواية وتحفظ بالمران والمخالطة، ولم يُعن أحد بتدوينها أو التأليف فيها. ويظهر أن بعض معلوماتهم الفلكية قد تسربت إليهم من جيرانهم البابليين والكلدانيين في العراق. أما الطب، فبالرغم من أنه كان يعتمد في كثير من الأحيان على التعاويذ والرقى والعزائم وطرد الجن من جسم المريض، أو بعبارة موجزة على الشعوذة، فإنهم قد اعتمدوا أيضا على التجربة. فقد عرفوا التداوي بالحشائش، واستعملوا البتر لمداواة الأعضاء الفاسدة في الجسم، والكي والحجامة ومداواة العيون وغير ذلك. كما كان لهم أطباء تعلموا في فارس أو بلاد الروم, فالحارث بن كلدة تعلم في فارس وتمرن فيها، وعرف تشخيص الداء ووصف الدواء. ونشأ ابنه النضر طبيبًا كأبيه، وهو الذي أمر الرسول بقتله، وكان قريبا له "ابن خالته"؛ لأنه حارب الدعوة الجديدة حربًا شعواء، وكان كثير الأذى للرسول2. ومن وصف طرفة بن العبد لناقته بثلاثين بيتًا، جاء فيها قوله: وجمجمة مثل العلاة كأنما ... وعى الملتقى منها إلى حرف مبرد وأروع نباض أحذّ ململم ... كمرداة صخر في صفيح مصمد3 يتضح أنه لاحظ بعض الأمور من تشريح الحيوان، لا تدل على مجرد ملاحظة عابرة، بل على مشاهدة عاقلة وواعية، هي بعلم الطب والتشريح ألصق. فقد شبه جمجمة الجمل بالسندان، وأدرك أنها مؤلفة من عظام مسننة الأطراف، متداخلة يمسك

_ 1 جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي: 3/ 12-15. 2 الألوسي: 3/ 327-335. 3 العلاة "السندان"، أحذ "ضامر"، ململم "مجتمع، مدور، مضموم", مصمد "ملفوف في مثل المنديل".

بعضها ببعض. وكذلك وصف القلب بأنه ضامر مدور ملء اليد، قاسٍ كالحجر، ملفوف في مثل المنديل، فيه نبض وحركة1. وقد عرف الجاهليون الكهانة، وكانت منصبًا دينيًّا يدعي صاحبه أنه قريب من الله يعرف الغيب، تُقدَّم إليه النذور، فيتقبلها باسم الأصنام التي يزعم أنه يترجم عن إرادتها، وينظر في النجوم. ومارسوا العرافة، والعراف يشبه الكاهن في ادعائه معرفة الغيب، وكان مثله يطبب الناس روحيا ونفسيا بما هو أقرب إلى الشعوذة. وقد اشتهر من الكهنة والعرافين عدد من الرجال والنساء. كما مارسوا القيافة، وهي تتبع الأثر على الرمال, ومعرفة بصمات الأقدام، وتمييزها عن بعضها، ولو تزاحمت وتراكمت. ولا يخفى ما لهذه المعرفة من أثر في الصحراء، حيث تقضي الحاجة الماسة بتتبع آثار اللصوص والفارين والشاردين والقوافل. ونبغوا في الفراسة وهي معرفة انتماء الأشخاص بمجرد التفرس في وجوههم, أو معرفة القرابة بين شخص وآخر بمجرد ملاحظة وجوههم وبعض أعضائهم. ومارسوا الريافة، وهي معرفة استنباط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده, فيعرف بعده وقربه بشم التراب، أو برائحة بعض النباتات فيه. وعرف عرب الجاهلية حركات الأنواء، وأحوال الجو، والاستدلال منها على تقلبات الطقس. وكانوا يستدلون على هطول المطر قبل نزوله بلون الغيوم, وعرفوا المسالك والاتجاهات، وهي نوع من المعارف الجغرافية تفيدهم في الأسفار، يهديهم إلى ذلك مسامتة الكواكب الثابتة ومنازل القمر، إذ لكل كوكب سمت يهتدى به2. غير أن ملاحظاتهم كانت مبنية على تجربة ناقصة، قد تصيب حينا وتخطئ أحيانا، إنما لم تخلُ من ذكاء ونباهة في كثير من الأحيان.

_ 1 د. عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص169-170. 2 الألوسي: 3/ 343، 344، 358، 361؛ عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص100-102؛ جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 3/ 12-25.

ومن بعض أبيات للنابغة الذبياني، نستدل أنهم عرفوا الحساب1، فقد قال في معلقته: واحْكُمْ كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمدِ قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا مع نصفه فقدِ فحسبوه فألفوه كما ذكرت: ... تسعًا وتسعين لم تنقص ولم تزدِ فكلمت مائة فيها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العددِ2 ولنلاحظ أن نقل هذه العملية الحسابية إلى علم الجبر، يعطينا المعادلة البسيطة التالية، على اعتبار أن العدد 66 هو عدد الحمام الذي أشارت إليه الفتاة3: س + س/2 + 1 = 100 ولا نستطيع أن نقول: إنه كان للجاهليين فلسفة، غير أن كثيرًا من الخطرات الفلسفية نشاهدها في شعرهم، كقول زهير بن أبي سلمى: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يُعَمر فيهرم ومثل هذه الخطرات كثيرة في الشعر الجاهلي الذي نتبين فيه آراء كثيرة تتصل بالسياسة والعدل والحرية والحكم والأخلاق، ولا سيما في معلقتي زهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد. ولطرفة بن العبد آراء في الأخلاق، تكاد تشبه آراء الفلاسفة الأبيقوريين في اللذة، ولا تختلف عن آراء هؤلاء إلا بكونها أكثر ميلًا إلى اللذة المادية، فهو يرى لذته في الخمرة، وإكرام الضيف واللهو مع النساء:

_ 1 يذكر الألوسي أنهم كانوا يحسبون بواسطة عقود الأصابع، إذا وضعوا كلًّا منها بإزاء عدد مخصوص، ثم رتبوا لأوضاع الأصابع، آحادًا وعشرات ومئات وألوفًا، ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة "الألوسي: 3/ 397". 2 الألوسي: 3/ 383؛ والثمد: الماء القليل، وكلمة فقد: أي فحسب؛ ويقصد بفتاة الحي: زرقاء اليمامة. 3 عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص169.

فلولا ثلاث هن من لذة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كُمَيْتٍ متى ما تعل بالماء تزبد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الخباء المعَمَّد كريم يُرَوِّي نفسه في حياته ... مخافة شرب في الممات مصرد إنه يرى أن الغاية من الحياة هي اللذة المادية العاجلة، ثم إنه لا يبالي بموقف الناس منه في ذلك، ما دام هو وحده سيتحمل نتائج سلوكه: وذرني وخلقي, إنني لك شاكر ... ولو حل بيتي نائيًا عند ضَرْغَد فقالوا: ذروه، إنما نفعها له ... وإلا تردوا قاصي البرْك يزدد وهو يريد أن يتمتع بهذه اللذائذ في الحياة؛ لأنه لن يكون بعد الموت شيء من ذلك1: فذرني أروي هامتي في حياتها ... ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدى كما أننا نشاهد عند شعراء آخرين آراء تشابه ما قال به الدهريون والجبريون بعد ظهور الإسلام. والدهرية هم المؤمنون بأن الدهر قديم واجب الوجود، بل هو الله ينقلب بالإنسان كيف يشاء إلى أن يفنيه. والجبريون هم القائلون بأن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر إنما هو محتم عليه، مقدر بقدرة الخالق، ولا حيلة للإنسان فيه، فهو كالريشة في مهب الريح، لا إرادة له ولا قدرة على أفعاله. فمن شعراء الجاهلية من تظهر في أشعاره النزعة الدهرية ممزوجة بالنظرة المادية الطبيعية، التي تفيد أن الحياة تقوم على تجمع العناصر الطبيعية، ويحل الموت بتحلل تلك العناصر "أو الطبائع". "فالطبع المحيي هو الذي يجمع هذه الطبائع ليهب الحياة، والدهر المفني هو الذي ينهك القوة ويسلب الحياة"2. يقول الشاعر تميم بن مقبل: إن ينقص الدهر مني مرة لبِلى ... فالدهر أورد بالأقوام ذو غير

_ 1 عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص171. 2 د. عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، 161-162.

أو كقوله طرفة بن العبد: أرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر يَنْفَدِ1 ويظهر الجبر في الاعتقاد، بأن الموت حتم على كل حي في أجل معين، ليس فيه متقدم ولا متأخر. يقول عمرو بن كلثوم: وإنا سوف تدركنا المنايا ... مقدرة لنا ومقدّرينا ويقول طرفة بن العبد: ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟ فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي لعمرك, إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد أرى الموت أعداد2 النفوس ولا أرى ... بعيدًا غدًا ما أقرب اليوم من غد ويرى طرفة أن الإنسان لا ينال في هذه الحياة من خير أو غنى وكثرة ولد، ولا يصيبه فيها من شر أو فقر، إلا ما كان الله قد أراد له: ولو شاء ربي كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد فأُلفيت ذا مال كثير وعادني ... بنون كرام سادة لمسود ولكعب بن زهير مثل هذا الرأي في قوله: فقلت: خلوا سبيلي لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يومًا على آلة حدباء محمول

_ 1 راجع عن دهرية العرب قبل الإسلام وديانة العرب "مجلة العربي الكويتية - عدد 168 ص49، مقال لمحمد الدش". 2 أعداد "بالفتح" إما جمع عديد من قولهم: هذه الدراهم عديد هذه الدراهم، أي مثلها في العدد، أو جمع عِدّ وهو الماء الجاري لا ينقطع، وهو المقصود في هذا البيت, إذ يقول الشاعر: إني لأجزم أن لكل نفس ميتة، فالموت شبيه بالماء الجاري غير المنقطع على نفوس البشر، ولكل نفس ميتة، وإن المرء وإن لم يمت اليوم مات غدًا، والناس جميعا سواء في ذلك، عاجلا أو آجلا.

الفصل الخامس عشر: الحياة الدينية عند عرب الشمال

الفصل الخامس عشر: الحياة الدينية عند عرب الشمال مدخل ... الفصل الخامس عشر: الحياة الدينية عند عرب الشمال يصنف العلماء الأديان إلى صنفين: أديان عليا، وأديان بدائية، وبديهي أن الصنف الأول هو الذي يشمل الأديان السماوية، بينما المقصود من الصنف الثاني هو الأديان الوثنية. وديانة العرب الجاهليين من النوع الأخير، وهي على قسمين: ديانة أهل الجنوب وقد سبق لنا دراستها، وديانة أهل الشمال وهي موضوع هذا الفصل. ليس من السهل تكوين فكرة صحيحة وواضحة عن مفهوم الدين عند العرب، وكيفية عبادتهم لآلهتهم، وكيفية تصورهم لها، ولا سيما في العهد الذي سبق ميلاد المسيح؛ لقلة ما بين أيدينا من نصوص دينية جاهلية، ولذا فإن معارفنا عنها وعن الأساطير العربية الدينية قليلة. وكل ما نعرفه عن عقائد الجاهليين أنها ابتدائية، ليس فيها شيء من العمق الروحي. وأما طقوسهم العبادية فلا نعرف منها إلا ما كان من طواف حول الأوثان وبيوتها، ولا سيما الكعبة التي تحوي عددًا كبيرًا منها، ومن تقديم بعض الضحايا الحيوانية، وأحيانا نادرة الضحايا والنذور البشرية لها. والسبب في أن معلوماتنا عنها قليلة ومشوهة، أن المؤرخين الإسلاميين لم يستسيغوا الخوض في أمور حاربها الإسلام1، وقد قضى الإسلام على كل أثر من آثار الوثنية، فأباد كل ما كان للجاهلية من أنصاب وتماثيل وأصنام. وقد أشار القرآن الكريم إلى عبادة الأوثان، وإلى المعتقدات الجاهلية في معرض التنديد بها, كما خاضت فيها بعض الكتب القديمة وهي على قسمين:

_ 1 ديتلف نلسن: التاريخ العربي القديم "الديانة العربية القديمة", ص173-182.

القسم الأول

القسم الأول: كتب عامة تعرضت للأصنام وعبادتها، وهي إما كتب لغوية أو أدبية أو معاجم، أبرزها معجم البلدان لياقوت الحموي، بالإضافة إلى كتب المغازي والسيرة، وبخاصة منها سيرة ابن هشام. ومن الكتب المفيدة في هذا القسم ما عرف باسم "المؤلفات الكلاسيكية".

القسم الثاني

القسم الثاني مدخل ... القسم الثاني: كتب خاصة اقتصر مؤلفوها على البحث في الأمور الدينية، إنما لم يصلنا منها سوى كتاب واحد باسم "الأصنام" لهشام بن محمد بن السائب الكلبي المعروف باسم "ابن الكلبي" بينما لم يصلنا ما ألفه فيها كل من الجاحظ وأبي الحسن بن علي بن الحسين بن فضل بن مروان وغيرهما1. تعددت الأديان عند العرب الجاهليين، من عبادة للأصنام والأرواح والجن والجدود وما إليها، كما تسربت إليهم ديانة الفرس المزدكية والديانات التوحيدية؛ فعرفوها وتأثروا بها، ولم يظهر الإسلام إلا وكان في شبه جزيرة العرب خليط من مختلف الأديان والعقائد والنحل. ويمكن جمع معتقدات العرب قبل الإسلام في اتجاهين، أولهما: المعتقدات الوثنية، والثاني: معرفتهم عبادة الله.

_ 1 جواد علي: 5/ 11.

المعتقدات الوثنية

المعتقدات الوثنية مدخل ... 1- المعتقدات الوثنية: وللوثنية في شبه جزيرة العرب قبل الإسلام مظاهر عديدة منها عبادة مظاهر الطبيعة، عبادة الأرواح، الاعتقاد بالجن، عبادة الأسلاف، تقديس الأشياء والأماكن "حجارة، أشجار، ينابيع"، وأخيرًا الأصنام.

عبادة مظاهر الطبيعة

عبادة مظاهر الطبيعة: وقد عرف عبادة مظاهر الطبيعة في شتى دول الجنوب العربي، التي كانت موضوع دراستنا في القسم الأول من هذا الكتاب, إذ عبد العرب الجنوبيون مظاهر طبيعية

فلكية، متمثلة في القمر والشمس والزهرة، تلك الكواكب التي اعتبروها أسرة إلهية واحدة، مؤلفة من أب هو القمر، وأم هي الشمس، وابن هو عثتر "كوكب الزهرة". وقد قدمت عنها لمحة في فصل سابق. وهناك من الدلائل أن العرب الشماليين أيضا قد كرسوا بعض عبادتهم للشمس والقمر، إذ اتخذوا للشمس صنمًا بيده جوهرة على لون النار وله بيت خاص، وقد وقفوا له بعض الأوقاف وجعلوا له سدنة، وكانوا يصلون للشمس ثلاث مرات في اليوم: وقت طلوعها ووقت غروبها ووقت توسطها الفلك. واتخذوا للقمر صنمًا على شكل عجل وبيده جوهرة, يعبدونه ويسجدون له، ويصومون له أيامًا معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء والعزف بين يديه. ومن العرب من اتخذ عبادة الأصنام مثل الكواكب، وبنوا لها هياكل، وجعلوا لها عبادات خاصة1. ومن الكواكب التي عبدها عرب الشمال "النجم الثاقب" وهو كوكب "الزهرة" الذي عبده الجنوبيون باسم "عثتر"2. وقد ورد ذكره في القرآن الكريم باسم "الطارق" في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ} 3. وقد أدان التنزيل الحكيم عبادة الشمس والقمر في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 4. وفي القرآن الكريم إشارات إلى عبادة الكواكب قبل معرفة الله سبحانه وتعالى، في قصة إبراهيم عندما أنحى باللائمة على أبيه عبادته وقومه للأصنام، لكنه عندما رأى كوكبا توهم أنه الله فلما أفل انصرف عنه، وكذلك عندما رأى القمر ثم الشمس {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ, إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} 5.

_ 1 الألوسي: 2/ 215-216، 237-239، نقلها عن كتاب "السر المكتوم في مخاطبة النجوم" المنسوب لابن خطيب الري. 2 ديتلف نلسن: المصدر نفسه ص199-200. 3 [الطارق: 1، 2، 3] . 4 [فصلت: 37] . 5 [الأنعام: 79] .

من ذلك يتضح أن أقدم عبادة هي عبادة الأصنام، وقد اختلطت بها عوامل غيبية ربطتها بالأجرام السماوية قبل معرفة عبادة الله.

تقديس الأرواح وعبادتها

تقديس الأرواح وعبادتها: لقد ساد في الجاهلية اعتقاد بأن في بعض المظاهر الطبيعية قوى خفية هي فوق قوى الطبيعة، منها ما يكون في الجسم وهي النفس، ومنها ما يكون خارج الجسم وهي الروح. وتصور الجاهليون الروح بأنها شيء مخالف للجسم، أي للمادة، وأنها مثل النسيم أو الهواء لا يمكن رؤيتها، وبعضهم تصورها طائرًا يتبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل، لم يزل يطيف به مستوحشًا، يصدح على قبره. وزعموا أن هذا الطائر يكون صغيرا ثم يكبر، حتى يصير كضرب من البوم، ويلازم أهل الميت وولده دون أن يروه، ليعلم ما يكون بعده ليخبره1، كما قال الصلت بن أمية لبنيه: هامي تخبرني بما تستشعروا ... فتجنبوا الشنعاء والمكروها وكانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لن يُدرَك ثأره تصير هامة، فتزقو عند قبره "اسقوني، اسقوني"، حتى إذا أدرك ذووه ثأره طارت. والهامة هي الرأس، ومن معانيها أنها طير من طيور الليل يألف القبور، أو البومة. ولأسطورة الهامة صلة بأسطورة الصدى, وقد زعموا أن الصدى طائر يخرج من رأس المقتول إلى بَلي، وقيل: هو ذكر البومة أي مذكر الهامة2. وقد أشار الجاهليون إلى هذه المعتقدات في أشعارهم، كقول مغلس الفقعسي: وإن أخاكم قد علمت مكانه ... بسفح قُبا تسفي عليه الأعاصر له هامة تدعو إذا الليل جنها ... بني عامر هل للهلالي ثائر

_ 1 المسعودي: مروج الذهب، 2/ 132-133. 2 جواد علي: 5/ 36-38.

وكقول قيس بن الملوح "مجنون ليلى" في الصدى: ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ... ومن دوننا مس من الأرض أنكب لظل صدى رمسي وإن كنت رَمَّة ... لصوت صدى ليلى يَهشُّ ويطرب1 وللأرواح في اعتقاد الجاهليين قدرة على الظهور للإنسان بأشكال مختلفة؛ ولذا فإنهم قدسوها بل عبدوها. وقد اعتقدوا أنها تحل في بعض الحيوانات، فنشأت عندهم فكرة التشاؤم والتفاؤل والخوف من بعض الحيوانات، كالغراب والبومة والغول والحيات والعقارب؛ لزعمهم بأنها حيوانات لها أثر في حياة الإنسان، تجلب له الخير أو الشر. قال النابغة الذبياني: زعم البوارح أن رحلتنا غدًا ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود والبوارح مفردها: بارح، وهو الطائر يمر من يسار الشخص إلى يمينه، وكان ذلك دليل الشؤم عندهم، وضده السنيح والسانح وهو الذي يمر من اليمين إلى الشمال، وهو دليل اليمن، غير أن هذا الاعتقاد وجد من أنكره من الجاهليين، قال عوف بن عطية بن الخرع: نؤم البلاد لحب اللقاء ... لا نتقي طائرًا حيث طارا سنيحًا ولا جاريًا بارحًا ... على كل حال نلاقي اليسارا2

_ 1 الألوسي: 2/ 312-313. 2 عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص165: وكان من تقاليد العرب أن ينفروا الطيور لمعرفة طالعهم من اتجاهها يمينًا أو شمالًا وهو ما يسمونه بـ"الزجر".

تقديس الأشجار والأماكن والأشياء المادية

تقديس الأشجار والأماكن والأشياء المادية: واعتقد الجاهليون بأن الأرواح تحل في بعض الأشجار، فينظرون إليها نظرة تقديس، ويعرضون عن إلحاق الأذى بها أو قطعها؛ خوفًا من انتقام الروح التي حلت فيها منهم1، وكانوا يقدمون لها القرابين وينذرون النذور، ويتخذون مواضعها حرمًا مقدسًا يحجون إليه في بعض الأحيان. وقد اشتهر عدد من هذه الأشجار كنخلة نجران التي

_ 1 جواد علي: 5/ 40-41.

جعلوا لها عيدًا في كل عام، وشجرة "ذات أنواط"، وكانت شجرة عظيمة خضراء يأتونها كل سنة تعظيمًا لها، فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها، وكانت قريبة من مكة، فإذا قصدوا الكعبة للحج علقوا أرديتهم على أغصانها، ودخلوا الحرم بغير أردية تعظيمًا للبيت، ولذا سميت "ذات أنواط"1. كما اعتقد الجاهليون بأن الكهوف والينابيع والحجارة العراض على الخصوص مأهولة بأرواح وعفاريت ذات قوى خارقة2، الأمر الذي دعاهم إلى تقديسها رهبة، بينما قدسوا أماكن أخرى تعظيما لوجود أولياء صالحين قبروا في باطنها، أو قدسوا ينابيع وآبارًا؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن في أعماقها قوى خفية خارقة، تكمن في الماء فتبعث الحياة في الأرض الميتة.

_ 1 ياقوت الحموي: مادة أنواط. 2 بروكلمان: المصدر نفسه، ص24.

عبادة الملائكة

عبادة الملائكة: والملائكة أرواح في نظر الجاهليين، فهم روحانيون؛ ولذلك عبدوهم. والقرآن الكريم يشير في بعض آياته إلى هذه العبادة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ, قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون} 1. ومن الآيات الكريمة ما يشير إلى أن الجاهليين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله وقد خلطوا بينهم وبين الجن: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 2. ومعنى خرقوا في الآية الكريمة: افتروا وكذبوا "راجع التفاسير".

_ 1 [سبأ: 40-41] . 2 [الأنعام: 100] .

عبادة الأسلاف

عبادة الأسلاف: ومن معتقدات الجاهليين تقديس قبور أسلافهم، والتعبد لها على طريقة عبادة السلف التي كانت معروفة لدى معظم الشعوب القديمة. وقد حملهم على ذلك، اعتقادهم بأن أرواح أمواتهم تلازمهم قبورهم، فالهامة في نظرهم تلازم الخرائب والقبور، كما تلازم

أهل الميت وولده لتعلمه بخبرهم. فأرواح أمواتهم تبقى بينهم، ومن المفروض عليهم تقديسها. كان تقديسهم للسلف وعبادتهم لهم, ناشئًا عن حبهم وتقديرهم لأجدادهم العظام، وأبطالهم ورؤسائهم، كالذي أورد ابن الكلبي عن بني شيث بن آدم أنهم كانوا يأتون جسد أبيهم في المغارة التي دفن فيها، فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: "يا بني قابيل! إن لبني شيث دوارًا يدورون حوله ويعظمونه, وليس لكم شيء" فنحت لهم صنمًا، فكان أول من عملها. كما قال ابن الكلبي: "كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قومًا صالحين، ماتوا في شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم، فقال رجل من بني قابيل: يا قوم! هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم، غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحًا؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم. فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله". وهكذا بمرور القرن بعد القرن استمروا على تعظيمهم قائلين: "ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله". فعبدوهم، وعظم أمرهم واشتد كفرهم1. وقد يعمد بعضهم إلى نصب الحجارة والشواهد على قبور أسلافهم المتوفين، فيطوفون حولها ويعبدونها بمرور الزمن؛ ولذا فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد لعن المتخذين على القبور المساجد والسرج، ونهى عن الصلاة عليها، وأمر بتسوية القبور مع الأرض معتبرا أن "خير القبور الدوارس" كما أمر بطمس التماثيل.

_ 1 ابن الكلبي: الأصنام، ص50-52.

عبادة الجن

عبادة الجن: يقول "نولدكه": إن فكرة عبادة الجن عقيدة قديمة، وجدت عند أقوام من غير العرب، وتسربت إلى العرب من جيرانهم الشماليين. والواقع أن العرب تأثروا بمؤثرات خارجية متعددة الجوانب، ومنها العقائد الدينية. كان من معتقدات الجاهليين أن بعض الأرواح تكون من الجن، وأن الجن وإن

كانت من الأرواح غير المنظورة، إلا إنه بالإمكان رؤيتها ومخاطبتها حتى والتزوج منها. ذلك بأن باستطاعتها أن تظهر وتختفي بسرعة، وتغير أشكالها بسرعة, تتجسم متى شاءت، وتظهر بالشكل الذي تريده، بصورة إنسان أو بصورة حيوان ولا سيما في صورة حية، وللناس قصص كثيرة عن ظهورها بالشكل الأخير. وهناك أيضا قصص عن مصاهرة أناس للجن، وظهور نسل وأسر من هذا التصاهر. وفي روايات العرب أنه كان لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي زوجة من الجن1. وأهم الأماكن التي زعموا أن الجن تسكنها المواضع الموحشة، التي لا يطرقها الناس إلا نادرًا، والمواضع التي تصيبها الكوارث، كمواطن عاد وثمود، إذ تعيش في الخرائب والقبور والصحارى، وقرب عيون الماء وفي بعض الوديان. وأهم منطقة سكنها الجن في رأيهم وادي عبقر ومفازة صيهد في الربع الخالي, والحجر ديار ثمود. وهي تختار الظلام للظهور، فإذا انبلج الصبح ولت واختفت. ولذا فإن الناس إذا مروا ليلًا بمكان موحش، كانوا يحيون ساكنيه من الجن بقولهم "عموا ظلامًا". والمواضع المذكورة، وإن كانت هي الأماكن المفضلة لإقامة الجن، غير أن مواطنها غير محدودة ولا معينة، بل ترتاد كل موضع ومكان في زعمهم، حتى بيوت الناس لا تخلو منها. وفضلا عن ذلك فإنها شعوب وقبائل وفصائل مثل البشر، ولها رؤساء وملوك وحكام. فإذا أناخ قوم في مكان اعتقدوا أن فيه جنًّا استعاذوا بعظيم هذا المكان منهم، عساه يستجيب لنداء المستعيذ، ولا يسمح بإلحاق الأذى بالقوم2. وإلى ذلك يشير التنزيل الحكيم في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 3 أي: ضلالًا, كما يشير إلى عبادتهم للجن في قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} 4. واعتقدوا أن تقاليد قبائل الجن شبيهة بتقاليد قبائل الإنس، مثل إدراك الثأر والتحكيم بعد الحرب، كالذي يُروى عن قتل رجل من بني سهم لواحد من الجن، قضى

_ 1 جواد علي: 5/ 40. 2 جواد علي: 5/ 42-44. 3 [الجن: 6] . 4 [سبأ: 41] .

طوافه حول الكعبة، ودخل أحد دور بني سهم، فهاجت الجن وقتلت كثيرًا من بني سهم ثأرًا لقتيلها، فهب بنو سهم وحلفاؤهم ومواليهم وعبيدهم وقصدوا الجبال والشعاب، فلم يتركوا حية ولا عقربًا ولا خنفساء ولا دابة من شأن الجن أن تتجسد فيها إلا قتلوها، حتى اضطرت الجن إلى التوسط لدى قريش؛ لإنهاء النزاع بينها وبين سهم التي قتلت من الجن أضعاف ما قتله الجن منها، فنجحت الوساطة وانتهى النزاع بين الطرفين1. ومما اعتقد الجاهليون به، أن الجن قد تسرق الأطفال والرجال والنساء، وينسبون إلى الجن في الغالب فقدان الأشخاص في البوادي. وقد يتعرض الجن لبعضهم فيقتلونه عمدًا كالذي اشتهر عن تعرض من يدعي "شِقّ" من الجن لعلقمة بن صفوان جد مروان بن الحكم وإرغامه على المبارزة، فضرب كل منهما الآخر في لمحة بصر واحدة، فخرا ميتيْنِ. كما يروى أن حرب بن أمية وغيره من الأشخاص المعروفين قد قتلهم الجن2. وكما أن الجن تلحق الأذى بالإنس، فإن منها من تسدي لهم الجميل من الفعال؛ لأن من الجن من هو طيب النفس مفيد ونافع، وإن كانوا قلة. من ذلك ما يروى عن الشاعر عبيد بن الأبرص أنه رأى حية فسقاها، فلما ضل له جمل وتاه ناداه هاتف بصوت مسموع، يشير إلى الموضع الذي ذهب إليه الجمل. فذهب عبيد إلى المكان فوجد جمله، وكان الهاتف صوت الحية التي تمثل فيها الجن. وينسب الجاهليون للجن كثيرًا من المصائب التي تصيب البشر مثل الأمراض والأوبئة والجنون بخاصة, وبين الجن والجِنَّة والجنون علاقة لفظية. ولتفادي هذه المصائب تجب مكافحة الجن وطردها بطرق مختلفة يقوم بها السحرة والكهان, ويستخدم الكاهن في ذلك الرقى والتعاويذ والعزائم لطرد الجن من جوفه. ومن الشائع لديهم أن لكل كاهن تابعًا من الجن "رئيًا" يستعين به, ويسترق له التابع الأخبار والأسرار من السماء، فيخبره بها فينقلها بدوره للسائلين3.

_ 1 جواد علي: 5/ 45. 2 راجع عن ذلك: مروج الذهب، 2/ 140-141. 3 ابن الكلبي: الأصنام، ص54؛ عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي ص167.

وقد اتخذ الجاهليون طرقًا عديدة للتخلص من أذى الجن، ولا سيما من الخطفة والنظرة، أي خطفها للأطفال وإصابتهم بالعين. فهداهم تفكيرهم إلى تعليق بعض الأشياء على رأس الصبي، أو على لباسه مثل سن الثعلب، أو سن هرة، أو سن ذئب، أو تقطير شيء من السوائل في عينيه عند ولادته؛ لتنفير الجن عنه، وتسمى هذه الأمور المنفرة للجن باسم "النفرات". وقد يكون تعليق بقايا الحيوانات على الصبي من مخلفات العقيدة الطوطمية، لاعتقادهم بأن هذه الأجزاء ستخيف الجن، وتذكرهم بذلك الحيوان الذي يحتمي به الصبي1. وقد يلجئون في التحايل على الجن إلى تغيير اسم الصبي، وتسميته باسم حيوان صغير ينفر الجن منه. وهناك أيضا قصص الغول والسعلاة, وهي من أشهر القصص الجاهلي المذكور عن الجن. ويرى اللغويون أن من معاني الغول التلوُّن والظهور بصور مختلفة، والاغتيال والتضليل في المفاوز والغدر بالإنسان. وأما السعالي "مفردها: السعلاة" فذكروا أنها سحرة الجن, وقيل: إن الغيلان جنس منها، وإن الغيلان هي إناث الشياطين، وإن السعالي أخبث الغيلان2.

_ 1 جواد علي: 5/ 46-48. 2 جواد علي: 5/ 49-51.

عبادة الأصنام

عبادة الأصنام: وعبد العرب الجاهليون الأصنام، وهي تماثيل أو صخور عرفت بتسميات شتى، تختلف باختلاف المادة التي صنعت منها. فما كان منها مصنوعا من الخشب أو الذهب أو الفضة على صورة إنسان فهي أصنام, وما كان منها مصنوعا من الحجر فهي أوثان. ونوع ثالث منها عبدوه وأطلقوا عليه اسم الأنصاب, والأنصاب نوع من "حجارة غُبْر منصوبة، كانوا يطوفون بها ويعترون عندها" يعترون: يقدمون لها العتيرة أي: الذبيحة, ويسمون الطواف بها: "الدوار"1، وقد تكون الأصنام على هيئة حيوان أو طير، أو على أشكال أخرى. والعرب لم يعبدوا تلك الأصنام لمجرد كونها تماثيل أو حجارة، إنما لكونها تمثل في

_ 1 ابن الكلبي: الأصنام، ص42-53.

نظرهم قوى عليا، هي فوق الطبيعة، ظنوا أنها كامنة فيها، كما أنها تمثل الأرواح التي تقدم معنا الحديث عنها، ومنها أرواح أسلافهم وأبطالهم ورجالهم الصالحين المتوفين، أو آلهة معينة، جعلوها رمزًا لها. وقد مرت معنا بعض الشواهد على ذلك، مثل إقامة بني قابيل تمثالا لجدهم، أو إقامتهم أيضا تماثيل لخمسة من أسلافهم الصالحين، صاروا يطوفون حولها تعظيمًا لهم. ومثل ما روي أن "اللات" في الطائف كانت تمثل رجلا من ثقيف، عبدوه عندما قال لهم عمرو بن لحي الخزاعي: إنه لم يمت إنما دخل الصخرة، وأمرهم بأن يبنوا عليها بنيانًا وأن يطوفوا حولها تعظيمًا له1، أو أنه قال لهم: إن ربكم دخل هذه الصخرة، ونصبها لهم ليعبدوها. وقد اعتقد الجاهليون أيضا، أن فيها وفي العزى شيطانين يكلمان الناس. كان لكل قبيلة إلهها الخاص، وقد تشترك عدة قبائل في عبادة إله أكبر، ويظهر أن العرب قد اقتبسوا شيئا من معتقداتهم وعباداتهم وأصنامهم من الأمم المجاورة. فقد كان من أصنامهم ما هو قديم، نشأت عبادته في شبه جزيرة العرب، كالذي ذكرته عما روي من إقامة بني شيث بن آدم وبني قابيل بن آدم تماثيل لأسلافهم، كما كان منها ما هو دخيل عليهم جاءهم من خارج شبه الجزيرة، ولا سيما من الشعوب السامية في شمال بلادهم. ففي رواية لابن الكلبي أن أول من غيَّر دين إسماعيل "فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحَّر البحيرة، وحمى الحامية" هو عمرو بن لحي الخزاعي، الذي كان يلي أمور مكة والكعبة بعد جرهم، إذ "مرض مرضًا شديدًا فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حَمَّة إن أتيتها برئت. فأتاها فاستحم بها فبرئ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة"2. كانت الكعبة معبدا كبيرا يضم أكبر عدد من الأصنام والأوثان. فقد حطم فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند فتحه مكة، أكثر من ثلاثمائة صنم. ذلك أن قريشا قد نصبت في داخل الكعبة وحولها أصنام شتى القبائل العربية القريبة منها والبعيدة، لتجذبها إلى زيارة

_ 1 ياقوت: معجم البلدان، مادة اللات، جواد علي: 5/ 93. 2 ابن الكلبي: ص8.

الكعبة، وإلى ارتياد الأسواق التي كانت تقام في موسم الحج، فتستفيد من ذلك فوائد اقتصادية ومعنوية. وكان أشهر أصنام المشركين أربعة: هبل واللات والعزى ومناة. وبينما لم يرد للأول ذكر في القرآن الكريم، ذكر الثلاثة الأخر وغيرها من آلهة الجاهليين مرارًا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} 1. وقد جاءت هذه الآية تنديدًا بالكفار الذين جعلوا هذه الآلهة بنات الله، وأنهن يشفعن بالناس عنده. وكانت قريش تطوف الكعبة وتقول: "واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى"2. ويظهر أن بعض الآلهة كانت تعبد منذ عهد نوح، كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 3. وقد تقدم معنا ما روي عن عبادة هذه الآلهة، منذ أن صنع بنو قابيل خمسة أصنام لخمسة من عظمائهم، ماتوا وكانوا يتسمون بهذه الأسماء. هبل: كان هبل أعظم الآلهة الوثنية في مكة، ويظهر أن عبادته كانت عامة في عرب الشمال، وكان موضعه داخل الكعبة، وهو مصنوع من عقيق أحمر على صورة إنسان، ويقال: إن أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وكان يقال له "هبل خزيمة". وكان مكسور الذراع الأيمن، فأبدله القرشيون ذراعًا من ذهب، وكانوا يطوفون حوله، ويستقسمون عنده بالأزلام، ويقدمون له الهدايا. روى ابن الكلبي أنه كان أمامه سبعة قِداح اثنان منها مكتوب على أحدهما "صريح" وعلى الثاني "ملصق"، فإذا شكوا في مولود أتوا إليه بهدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج "صريح" ألحقوا المولود بنسبهم، وإن خرج "ملصق" دفعوه. وكان على أحد قدحين آخرين كلمة

_ 1 [النجم: 19-23] . 2 الأصنام، ص19. 3 [نوح: 21-23] .

"ناهي" وعلى الثاني "آمر"، فإذا أرادوا الإقدام على عمل أتوا واستقسموا، فإذا خرج "الآمر" فعلوا، وإن خرج "الناهي" أحجموا, وهكذا في أمور أخرى. وعند هبل ضرب عبد المطلب على ابنه عبد الله. ولما ظفرت قريش في معركة أحد، صاح أبو سفيان "اعل هبل" "أي: علا دينك"، فقالوا الرسول: "الله أعلى وأجل"1. اللات: صخرة مربعة أقيم عليها بناء في الطائف, وقد اعتبرتها ثقيف من أعظم المعبودات، وعظمتها قريش وجميع العرب. وكانت تعرف عندهم باسم "الربَّة" أي السيدة، وقد شبهها "هيرودوت" بإلهة الفلك uRANIA، وهي تقابل الأم الكبرى للآلهة، أو "عشتروت" عند الساميين الشماليين2. وكانوا يسمون أولادهم بأسماء منسوبة إليها مسبوقة بكلمة "وهب، تيم، زيد" مثل وهب اللات، تيم اللات، زيد اللات، بينما كانوا يسبقون أسماء الآلهة الأخرى بكلمة عبد كقولهم: عبد العزى، عبد يغوث، عبد مناف ... إلخ. وكان تحت صخرة اللات حفرة عرف باسم "غبغب" تحفظ فيها الهدايا والنذور والأموال التي كانت تقدم إليها. ويظهر من بيت ينسب إلى كعب بن مالك الأنصاري: وننسى اللات والعُزَّى وودًّا ... ونسلبها القلائد والسيوفا أن الناس كانوا يعلقون القلائد والسيوف على الأصنام، ويقدمون إليها الحلي والثياب والنفائس، وما طاب في الأعين، كهدايا ونذور إليها3. فلما أسلمت ثقيف بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- المغيرة بن شعبة إليها، فهدمها وحرَّقها بالنار، واستولى على كل ما كان عندها4.

_ 1 الأصنام: ص27-28. 2 بروكلمان: المصدر نفسه، ص26. 3 جواد علي: 5/ 93-95. 4 الأصنام: ص17.

العُزَّى: وكانت أعظم الأصنام عند قريش بعد هبل، وربما نافسته، يزورونها ويهدون لها، ويتقربون عندها بالذبح، وكانت بوادٍ من نخلة الشامية يقال له "حُراض" بين مكة والعراق. أما أول من اتخذها فهو "ظالم بن أسعد" فبنى عليها بيتا، وحمت لها قريش شعبًا من الوادي. وزعم العرب أن العزى شيطانة تأتي ثلاث سَمُرات1 ببطن نخلة، وأن أصواتًا كانت تخرج من داخل بيتها يسمعها المتعبدون. وكان العرب إذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة، لم يحلوا حتى يأتوا العزى فيطوفوا بها ويحلوا عندها، ويعكفوا عندها يومًا. وفي كتاب الأصنام رواية طريفة عن قيام خالد بن الوليد بهدم بيتها وتحطيمها، وقطع السمرات الثلاث التي قيل: إنها كانت تحيط ببيتها2. مناة: وكانت معروفة في مكة, وقد شاعت عبادتها بين قبائل هذيل وخزاعة، وكان مكانها عند ساحل البحر بين المدينة ومكة، تعظمها القبائل الساكنة في تلك الجهات، ولا سيما الأوس والخزرج، إذا كانتا تخصانها بالتعظيم، كخاصة ثقيف للات وقريش للعزى، فإذا حجوا إلى مكة، عادوا إلى مناة، ليحلقوا شعرهم عندها. وربما اعتبرت مناة إلهة القضاء والقدر، أو ما يقابل الحظ المخلص عند الإغريق. وأما تحطيم صنمها، فكان في السنة الثامنة للهجرة عندما سار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لفتح مكة, فأرسل علي بن أبي طالب للقيام بهذه المهمة، فهدمها وأخذ ما كان لها، ومن ذلك سيفان روي أن الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الغساسنة كان قد أهداهما إليها، ويقال: إن ذا الفقار سيف علي أحدهما3. ومن أبرز الأصنام التي عبدها العرب من أقدم العصور: ود: وقد اتخذته "كلب" بدومة الجندل. ويروي ابن الكلبي أن أول من آمن به وعبده

_ 1 السمرات مفردها سمرة: شجر من العضاة وليس في العضاة أجود خشبًا منه. 2 الأصنام: 24-25. 3 الأصنام: 14-15.

-عندما أرسله عمرو بن لحي من شط جدة، وأمر بأن تدعى العرب إلى عبادته وهي في موسم الحج- عوف بن عذرة من كلب، إذ نصبه في دومة الجندل، وجعل ابنه عامرًا سادنًا له، ولم يزل بنوه يسدنونه حتى ظهر الإسلام، ولما كانت غزوة تبوك أُرسل خالد بن الوليد لهدمه، فحالت بنو عبدود وبنو عامر دون ذلك، فقاتلهم خالد حتى قتلهم وهدمه وكسره، وكان فيمن قتل آنذاك حسان بن مصاد ابن عم الأكيدر صاحب دومة الجندل. ويصفه ابن الكلبي فيقول: "كأن تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد دُبر "نقش" عليه حُلتان، متزر بحلة، مرتدٍ بأخرى، عليه سيف قد تقلده وتنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة "جعبة" فيها نبل" ومن طريف ما روى ابن الكلبي أن رجلا يسمى حارثة الأجداري كان يهدي اللبن إلى الصنم، ويرسله مع ابنه مالك، وينقل عن مالك قوله: "كان أبي يبعثني باللبن إليه فيقول: اسقه إلهك، فأشربه"1. وابن الكلبي يجعل عمرو بن لحي الخزاعي بطل عبادة الأصنام، فهو يدفع بهذا الصنم أو ذاك إلى هذه القبيلة أو تلك؛ لتعبده. ويظهر أن هذا الأمر كان معروفًا عنه عند ظهور الإسلام، إذ روي عن الرسول قوله: "رفعت لي النار فرأيت عمرًا رجلًا قصيرًا أحمر أزرق يجر قصبه في النار. قلت من هذا؟ قيل: عمرو بن لحي، أول من بحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان" 2. وكان من هذه الأوثان: سواع: الذي دفع به عمرو إلى رجل من هذيل، يقال له الحارث بن تميم، ينتسب إلى مدركة بن إلياس، فجعله في أرض يقال لها رهاط من بطن نخلة، وتعبَّده من يليه من مضر. وحينما أجابته مذحج دفع إلى رجل منها: يغوث: فوضع بأكمة في اليمن يقال لها مذحج، وتعبدته مذحج ومن والاها، وأجابته هَمْدان فدفع إلى رجل منها:

_ 1 الأصنام، 10، 54-56. 2 الأصنام، ص58.

يعوق: فوضع في قرية يقال لها خَيْوان، وتعبدته همدان ومن والاها من أرض اليمن. وأجابته حمير، فدفع إلى رجل منها: نسرًا: فوضع في مكان من أرض سبأ يقال له "بَلْخع" وتعبدته حمير ومن والاها، وظلوا يعبدونه حتى هودهم ذو نواس1. وإلى جانب هذه الآلهة، هناك آلهة أخرى أقل أهمية مثل: الفَلْس: وكان لطيء تعبده وتهدي إليه، وتَعتِر عنده، ومكانه وسط جبلهم أجأ. ويظهر أنه كان عبارة عن صخرة سوداء منتصبة، وكأنها تمثال إنسان، وكان له سادن من بني بولان، وفي اعتقادهم أنه لا يأتيه خائف إلا أمن عنده، ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها إليه إلا تركت له. وكان لطيء أصنام أخرى مثل: "اليَعْبوب" وهو صنم لجديلة طيء، و"باجر". وهناك أصنام أخرى تَعبَّد لها العرب منها: "الأقيصر" لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان، و"سعد" لبني مالك وكان صخرة طويلة بساحل جدة، و"نهم" لمزينة، و"سعير" لعَنَزَة، و"ذو الخلصة" وكان لباهلة وبجيلة وأزد السراة وهوازن. ومن الأصنام ما اعتقد الجاهليون أنها كانت بشرًا، فمسخها الله حجرًا مثل صنمي: إساف ونائلة: ويروى أنهما كانا رجلًا وامرأة من جرهم قد تحابا، ثم قصدا مكة للحج فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت، ففجرا بها، فمسخا حجرين، فأخرجا ووضعا موضعهما؛ ليعتبر بهما الناس، فعبدا بمرور الزمن، عبدتهما خزاعة وقريش، ومن حج البيت من العرب2. وقد ذكرت الآيات الكريمة أن مما آمن به الجاهليون "الجبت والطاغوت": {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا

_ 1 الأصنام، ص55-58. 2 الأصنام: ص9.

هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} 1. والتنزيل الحكيم في هذه الآية، يُنحي باللائمة على اليهود الذين أيدوا الكفار في موقفهم من الدين الجديد. ويقال في تفسير الجبت والطاغوت: إن الجبت في الأصل صنم، فاستعملت الكلمة في كل ما عُبِد من دون الله، وكذلك الطاغوت، ويقال أيضا: إنهما الكهنة والشياطين، أو إن الطاغوت هو "هبل"، أو إن الطواغيت بيوت كانت العرب تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب، وتهدي لها، وتطوف بها كطوافها بالكعبة، وتنحر عندها2، لكنها لا ترقى في مكانتها إلى منزلة الكعبة.

_ 1 [النساء: 51] . 2 سيرة ابن هشام، القسم الأول، ص83 "راجع كتاب نبيه عاقل: المصدر نفسه ص286".

طقوس العرب العبادية

طقوس العرب العبادية: كان الحج أهم هذه الطقوس، وللحج أشهر معلومات تبين بالأهلة كما يقول في التنزيل الحكيم فيما يتعلق بعبادة المسلمين: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 1. وقد ذكرت الروايات المتواترة أنها كانت عند الجاهليين ثلاثة: ذو القعدة، ذو الحجة، محرم. وقد جعلت حُرُمًا لا يجوز فيها القتال؛ ليأتي الناس للحج آمنين مطمئنين. ومن أبرز الأمثلة على حرص المكيين على حرمة هذه الأشهر، أنه لما لمس زعماء قريش أن هناك من تسول لهم أنفسهم أن ينتهكوا حرمتها، بخلق الأسباب الداعية إلى الحرب، قد تداعوا إلى عقد حلف يسمى "حلف الفضول". وقد حضره الرسول وفضل حضوره على حمر النعم. يقول ابن سعد2: "كان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ ابن عشرين سنة ... وكان أشرف حلف كان قط، وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتميم في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعامًا، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله: لنكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه

_ 1 [البقرة: 189] . 2 الطبقات الكبرى: 1/ 82.

حقه، ما بل بحر صوفة، وفي التآسي في المعاش1، فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول" ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حُمْرَ النَّعَم". جعلت هذه الأشهر ثلاثة مع أن موسم الحج لا يستغرق أكثر من شهر وأيام، غير أن المسافات الشاسعة التي يضطر الحاج لقطعها، تحتاج إلى مدة كافية يذهب فيها ويعود، ويتعاطى فيها الناس البيع والشراء في الأسواق في ظل الأشهر الحرم. والطواف بالكعبة هو أهم مراسم تحيتها وتكريمها، وكان في الجاهلية أبرز تقليد من تقاليد الحج، وقد جعله الدين الإسلامي ركنًا من أركانه. غير أن الإسلام لم يقر هذا التقليد إلا لأنه في الأصل من تقاليد دين سماوي كما في قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 2. وزيارة الكعبة نوعان: زيارة عمرة في أي وقت، وزيارة حج في وقت معلوم، ولم يكن يجوز الجمع بينهما في الجاهلية وإلا عد ذلك فجورًا، حتى إذا جاء الإسلام أجاز الجمع بينهما. والطواف سبعة أشواط على مدار الكعبة، ويبدأ من الركن الذي فيه الحجر الأسود، وهو حجر صواني لامع اعتقد العرب أنه أنزل من السماء هدية للكعبة. وقد حافظ الإسلام على قدسيته وعلى تقاليد الحج، إنما نفي عنها كل ما يمت إلى الوثنية بصلة وكرسها لله الواحد الأحد، فأعاد الأمور إلى نصابها، باعتبار أن الكعبة كانت في الأصل بيتًا لله سبحانه وتعالى3. يذكر الأخباريون أن الطائفين بالبيت كانوا صنفين، صنف يطوفون عراة ويعرفون باسم "الحُلَّة" وهم من غير قريش، وصنف يطوفون بثيابهم ويعرفون باسم "الحُمس" وهم من قريش.

_ 1 ذلك أن من أسباب أحد أيام الفجار، أن رجلًا من كنانة استدان من رجل من بني نصر من هوازن مالًا وعجز عن الوفاء به، فأهانه النصري، وكادت الحرب أن تحتدم بين قريش وهوازن لولا أن تداركها العقلاء. 2 [الحج: 26] . 3 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص176-178.

الحُلَّة: ومن الروايات أن أيًّا من الحلة طاف بثيابه ألزم بطرحها بعد الطواف، ولا يجوز له استعمالها بعدئذ، وتبقى في مكانها حتى تبلى من الوطء والشمس فتسمى عندئذ "لقًى". وفي رواية أخرى أن من يطوف من الحلة بثيابه يضرب, وتنتزع منه ثيابه، ويلزم أن يأخذ من الحمس ثيابا للإحرام تسمى الثياب الأحمسية، إما شراء أو إعارة أو هبة، وإلا فإن عليه أن يطوف عاريًا. وتخضع النساء لهذه القاعدة أيضا، إنما كن يتفادين انكشاف عورتهن للحجاج، بأن يتخذ بعضهن سيورًا يعلقنها على خصورهن، أو يطفن في دروع مفرجة المقاديم والمآخير، فيستترن بها، أو يطفن ليلًا. والتفسير الذي أعطي لهذه الفروض، هو الحرص على أن يكون الطائف نقيا متحررا من آثامه، فلا يطوف في ثياب قارف فيها الذنوب، فيلزم بتدارك ثياب من الحمس، باعتبارهم متشددين في دينهم أتقياء زهاد، فالثياب التي يبيعونها أو يؤجرونها نظيفة كنظافة أهلها، بعيدة عن الإثم بعدهم عنها، فهي الثياب الوحيدة الصالحة للطواف. ولا بد أن يكون طواف العري -والحالة هذه- طوافًا دوافعه فقر الطائف، وعدم تمكنه من شراء أو استئجار ثوب من الأحمسي ليطوف به، وعدم قدرته من جهة أخرى على طرح ثيابه لتصبح "لُقًى" إذ لا ثياب له غيرها، فلا يكون أمامه سوى الطواف عاريا1. على أن الإسلام قد حرم طواف العري، وحتم على قريش وغيرها لبس "الإحرام". الحُمْس: والحمس على نقيض الحلة, إنهم من قريش وحلفائها. ومعنى الكلمة التشدد في الدين، وكانوا إذا زوجوا امرأة منهم إلى أحد من غير الحمس، فرضوا عليه أن يكون نسله منها حمسًا، بينما كانوا يتزوجون من أية قبيلة كانت دون قيد أو شرط. وكانوا إذا أحرموا لا يسلئون السمن، ولا يأتقطون الأقط "أي: لا يصنعون طعامًا من اللبن المخيض"، ولا يأكلون الزبد، ولا يغزلون الوبر والشعر، ولا يستظلون بخيام صنعت بها, بل يستظلون

_ 1 جواد علي: 5/ 422.

الأدم ما داموا حرمًا، ويطوفون بالبيت بثيابهم. وإذا أحرم أحدهم وكان من أهل المدر، نقب نقبًا في ظهر بيته منه يدخل ومنه يخرج, ولا يدخل من بابه. وكانوا يفرضون على غير الأحمسي ألا يطوف بالبيت إلا بثياب أحمسية، وألا يأكل في الحرم إلا من طعام أهل الحرم، أكان ذلك شراء أو قراء، كما كلفوا العرب أن تفيض من مزدلفة بدلًا من عرفة التي كانوا يفيضون منها1. يتبين مما سبق، أن الحمس هم عمومًا من سكان مكة أهل الحرم، وأما الحلة فمن غير أهل مكة. فلأهل مكة امتيازات خاصة، ميزوا أنفسهم بها عن سائر الناس؛ لأنهم جيران البيت وسدنته، وقد شرفوا على غيرهم بوجوده بينهم، فجعلوا من أنفسهم طبقة أرستقراطية، وفرضوا نفوذهم على العرب جميعا لحاجة هؤلاء إليهم. الطُّلس: وهم وسط بين الحمس والحلة كما قيل، يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة، ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس، فلا يطوفون عراة ولا يستعيرون ثياب الحمس، لكنهم يدخلون البيوت من أبوابها، ويقفون مع الحلة ويصنعون ما يصنعون2 ولا يختلفون عنهم إلا في قصة طواف العري. وهم سائر أهل اليمن وأهل حضرموت وعك وإياد. الحلق والتقصير والهدي: كان الحلق والتقصير قبل البعثة من علامات التحلل من الإحرام بعد أداء المناسك، فلا يحلق الحاج قبل تقديم قربانه. وكان يطلق على القرابين اسم "الهدي والقلائد" وهي الحيوان الذي يسوقه الحاج ليذبحه قربان شكر للآلهة. وكان من عادة العرب أن يضعوا في عنق الهدي قلادة من سيور الجلد أو ألياف الشجر أو فتيل الخيط. كما يعمدون إلى إشعار البُدْن أي جرحها جرحًا خفيفًا في سنامها، فيسيل دمها على ظهرها، إشارة إلى كونها هديًا فتصبح بذلك محرمة، ويسمون البدن المجروحة "شعيرة".

_ 1 ياقوت الحموي: معجم البلدان, مادة حمس ومكة. 2 جواد علي: 5/ 228-229.

وقد أقر الإسلام هذه الطقوس لما فيها من فائدة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 1. وقد أشار التنزيل الحكيم إلى الهدي المقلد أو المجروح بأنه من شعائر الله، وأنه واجب الاحترام ولا يجوز الاعتداء عليه. وكان أصحاب الهدي في الجاهلية يتأثمون من أكل لحوم هديهم، ويتركونها للفقراء والمساكين والبائسين، أو للجوارح من الطير والوحش2. غير أن الإسلام قد أباح لأصحابها أن يأكلوا منها، وأن يطعموا الفقراء والبائسين والمحتاجين: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ, لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} 3. الهدايا: تتلخص موجبات التقديس التي كان يكرسها الجاهليون للقوى التي عبدوها بنوعين من السلوك، فقد قدسوها إما رهبةً وإما رغبةً. قدسوا القوى الشريرة "الجن" لا لأنهم جعلوها في مصاف الآلهة، بل لأنها تملك من القوى الخارقة ما لا يملكه الإنسان، وهي قادرة على الأذى والضرر، فهي في نظرهم فوق البشر، ولكنها دون الآلهة منزلةً. أما التي اعتقدوا فيها الخير من الآلهة، فقد عبدوها رغبة في نوال خيرها ونفعها. وإن رجاء الإنسان الخير من آلهته، أمر معروف عند جميع الأمم القديمة، وليس أدل على ذلك من أن هذه الشعوب كانت تصطحب معها تماثيل آلهتها في الحرب؛ كي تنصرها على أعدائها. وعمرو بن لحي الخزاعي جلب الأصنام من الشام؛ لأن عبدتها أفهموه أنهم يستسقون بها المطر، ويستنصرون بها على أعدائهم. وكذلك فعل أبو سفيان بن حرب في موقعة أحد، إذ اصطحب كلًّا من اللات والعزى، ليستنصر بهما على المسلمين. وكان للأنباط والتدمريين آلهة لحماية تجارتهم، يرجون منها أن تبارك أعمالهم التجارية، وتأتي لهم بالربح الوفير، وكذلك كان لعرب الجاهلية في شبه الجزيرة تقاليد

_ 1 [البقرة: 196] . 2 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص182-184. 3 [الحج: 27-28] .

مماثلة، إذ كانوا ينذرون لآلهتهم النذور، ويطلبون منها أن تبارك قوافلهم التجارية، وتحفظها عند رحيلها، كما يقدمون لها القرابين عند عودتها سالمة، إعرابًا عن شكرهم لها إذا حفظتها من الأذى. كما أن للجاهليين حاجات أخرى يتوخون أن تقضيها لهم آلهتهم؛ أن تمنحهم الصحة، وتقيهم من الأمراض، وتحفظ لهم أطفالهم، وأن توفقهم في أعمالهم وتوفر لهم أسباب الرزق والمعيشة. ولكي ترضى عنه الآلهة، وتحقق لهم هذه الأماني، كان عليهم أن يرضوها بالهدايا وهي على نوعين: هدايا تقدم بشروط وهي النذور، وتكون هذه النذور إما معنوية، كأن ينذر المرء للإله إن رزقه ولدًا أن يسميه على اسمه, أو يكرسه لخدمته. أو تكون مادية, كأن ينذر إن قضى له أمرًا أن يقدم له ضحية من حيوان أو مأكل أو مشرب، وفي أحيان نادرة أن يضحي له بأحد أولاده إن رزقه عددا معينا منهم. وكان من نذورهم أن أحدهم ينذر إذا بلغت إبله كذا عددًا، أن يذبح من كل عشرة منها رأسا لآلهته في شهر رجب، والذبيحة تسمى حينئذ "الرجبية أو العتيرة"1. وقد يقدم للآلهة هدايا دون أن يربط تحقيقها بأي شرط، بل يكون ذلك لاسترضائها؛ كأن يقدموا لها طيوبا كالبخور والصموغ يحرقونها عندها، أو يقدموا لها سيوفا وقلائد وثيابا نفيسة أو حليا يعلقونها عليها, أو يضعوها في حفرة أو مكان خصص لذلك، كالحفرة التي كانت لصنم "اللات" "الغبغب". أما الضحايا الحيوانية التي يقدمونها لها، فكانوا يذبحونها على مذابح وضعت أمام الصنم أو داخل بيته، وتكون من الحجر المنحوت أو غير المنحوت. وقد تؤخذ كمية من دمها فيلطخ بها الصنم أو تلطخ بها جدران الكعبة، إذا كان الصنم الذي قدمت له فيها. وقد حرم الإسلام تلطيخ الكعبة بالدم, وهذه العملية تسمى نسكا، والذبيحة نسيكة، وكلمة منسك معناها "دم مهرق". ومن الآية الكريمة: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2.

_ 1 الألوسي: 3/ 41. 2 [الأنعام: 136] . ومعنى ذرأ: خلق.

نفهم أنهم كانوا يعرفون الله إلى جانب الأصنام التي عبدوها، فينذرون له ولها من زروعهم ومواشيهم, لكنهم كانوا يؤثرونها عليه، فيعطونها ما جعلوه من نصيب الله. ويذكر ابن الكلبي مثالا على ذلك، أنه كان لخولان صنم يسمى عميانُس "يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسمًا بينه وبين الله "عز وجل". فما دخل في حق الله من حق عميانس ردوه عليه، وما دخل في حق الصنم من حق الله تركوه له"1. وفي "المحبر" لابن حبيب "ص331-332": "أن أهل المدر والحرث كانوا إذا حرثوا أو غرسوا غرسًا، خطوا في وسطه خطا ينصفه إلى نصفين، وقالوا: ما دون هذا الخط للآلهة، وما ذرأه لله. فإذا سقط ثمر من القسم الذي جعلوه لله في القسم الذي جعلوه لآلهتهم أبقوه، وإن سقط ثمر من القسم الذي جعلوه لآلهتهم في القسم الذي جعلوه لله ردوه ... وكذلك إذا تسربت المياه من حصة الآلهة إلى حصة الله ردوها، أما إذا كان العكس فلا يردونها"2. وقد يلجأ البدو من الجاهليين إلى نذر نذور من الإبل تترك سائبة لا يستفيد منها أحد، كما جاء في الآية الكريمة: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 3. وتفسير هذه الأسماء: أن الجاهليين كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن، آخرها ذكر، بحروا أذنها، أي شقوها، وخلوا سبيلها، فلا تُركب ولا تُحَمَّل، فهي "بحيرة". وكان الرجل إذا مرض يقول: إن شفيت فناقتي سائبة، ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرًا فهو لآلهتهم، وإذا ولدتهما معا قالوا: وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح الذكر، وتسمى هي وَصِيلة. وإذا نتج من صلب الفحل عشرة أبطن, حرَّموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى, وقالوا: قد حمى ظهره فهو حام, فلما جاء الإسلام منع هذه العادات.

_ 1 الأصنام: ص42. 2 نبيه عاقل: المصدر نفسه، ص299. 3 [المائدة: 103] .

وقيل في تفسيرها آراء أخرى، إذ يقول بعضهم: إن السائبة الناقة إذا ولدت عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر، فتُسَيَّب لا يركب ظهرها ولا يُجَزُّ وبرها، ولا يشرب لبنها إلا ضيف. أما إذا أنتجت بعد ذلك أنثى، شقت أذن هذه, وأخلي سبيلها مع أمها، ويجري عليها التحريم الذي يطبق على أمها وتسمى "بحيرة". والوصيلة: الشاة إذا أتأمت "ولدت توأمًا" عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن، ليس بينها ذكر، فيقولون: قد وصلت. وكل ما ولدت بعد ذلك يكون للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت من مواليدها شيء، عندئذ يشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم1. وقد ندد القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 2.

_ 1 جواد علي: 5/ 209-210. 2 [الأنعام: 139] .

البعث والحساب بعد الموت

البعث والحساب بعد الموت: ليس باستطاعتنا معرفة ما إذا كان الجاهليون يعتقدون بالبعث بعد الموت أو بعدمه، إلا من خلال أقوال شعرائهم، ومن القليل الذي رواه الأخباريون عن تقاليدهم، ومن بعض الآيات القرآنية التي تعرضت لهذا الأمر وهي قليلة. وقد ناقض الشعراء بعضهم بعضا في ذلك: منهم من أنكر البعث، ومنهم من آمن به. وربما كان السبب في ذلك تأثر القائلين بالبعث بالأفكار التوحيدية التي تسربت إلى شبه جزيرة العرب. ومعنى ذلك أن الأصل هو نكران البعث، وأن أغلب الجاهليين كان على هذا الاعتقاد، وقد دهشوا من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالبعث والحساب، كما جاء في التنزيل الحكيم: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 1، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2، أو كما يقول شاعر جاهلي: حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو

_ 1 [الأنعام: 29] . 2 [النحل: 38] .

ومن الشعر الذي ينبئ باعتقادهم أن الموت نهاية حياة الإنسان، قول شداد بن الأسود يرثي قومه من قتلى بدر، مستغربًا فكرة البعث التي بشر بها الرسول: يخبرنا الرسول بأنْ سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام غير أن الأخباريين رووا لنا أن فريقا من الجاهليين كانوا يؤمنون بالبعث والحشر بالأجساد، ويستشهدون على ذلك بالتقليد الجاهلي الذي يقال له "البلية"، ويقصدون بذلك عقل ناقة أو جمل عند قبر ميت ليحشر وهو راكب عليها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعًا وعطشًا1. ويروى أن من تقاليد الجاهلية أن يعكسوا رأس الناقة أو الجمل إلى مؤخرة، ويأخذون ولية -أي: سرجا- فيشدون وسطه، ويقلدون عنقه، ويتركونه كذلك حتى يموت عند القبر. إذ كان بعضهم يوصي بأن يدفنوا معه ناقته كي لا يسير إلى المحشر راجلا, فيفعلون ذلك، كما قال عمرو بن زيد المتمني يوصي ابنه: ابني, زودني إذا فارقتني ... في القبر راحلة برحل فاتر للبعث أركبها إذا قيل: اظعنوا ... مستوثقين معًا لحشر الحاشر2 ومما ينبئ بالاعتقاد بالبعث والقيامة والحساب، قول خزيمة بن الأشيم يوصي ابنه: يا سعد إما أهلكنَّ فإنني ... أوصيك -إن أخا الوصاة الأقرب- لا تتركن أباك يعثر راجلا ... في الحشر يصرع لليدين وينكب واحمل أباك على بعير صالح ... وتقي الخطية, إنه هو أقرب ولعل لي مما تركت مطية ... في الحشر أركبها إذا قيل: اركبوا وقول زهير بن أبي سلمى: فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يوخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم3

_ 1 جواد علي: 5/ 248-251. 2 الألوسي: 2/ 309، راجع عن ذلك بعض الأشعار لشعراء آخرين في الألوسي. 3 عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص162

اليهودية في بلاد العرب

اليهودية في بلاد العرب: وقد يكون ما جاء به زهير نتيجة تأثير من الديانات التوحيدية, فقد كان من التأثيرات الخارجية في بلاد العرب ما هو ديني، قد انتقل عن طرق اليهودية. ذلك أن هذه الديانة كانت منتشرة في أفراد من حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة وبلي، وكان لليهود مستعمرات في تيماء وفدك وخيبر ووادي القرى، بالإضافة إلى قبائل كثيرة منهم سكنت يثرب وما يجاورها من قرى، وأشهرهم بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير, وقد تقدم في فصول سابقة لمحة عنهم وعن تاريخ دخولهم إلى بلاد العرب "القرن الأول الميلادي". وقد تركوا في البلاد تأثيرًا مهمًّا من حيث الزراعة والصناعة والتجارة، إذ أدخلوا إليها أنواعا جديدة من الأشجار، وطرقا جديدة في الزراعة: حفروا الآبار وعملوا في تربية المواشي والدواجن، وعملت نساؤهم في نسج الأقمشة. غير أن التجارة كانت غالبة على مرافق حياتهم، وأحرز بعضهم مثل أبي رافع الخيبري شهرة كبيرة، إذ كان يرسل بضاعته بواسطة القوافل إلى الشام، ويستورد الأقمشة المختلفة منها. وقد احتكر اليهود بخاصة تجارة البلح والشعير والقمح، وبلغ ثراؤهم من التجارة مبلغا جعل العرب يلجئون إليهم لاستدانة المال لقاء رهن أمتعتهم لديهم، وكان الربا شائعا بينهم. ومما اشتهروا به صناعتهم المعدنية، كالصياغة والحدادة وصنع الأسلحة والدروع والخوذ. وإلى جانب هذه التأثيرات المادية كان لهم تأثير معنوي، إذ بثوا في بلاد العرب كثيرًا من مفاهيمهم الدينية، وربما كان لوجود المستعمرات اليهودية على طريق قوافل التجارة أثر فعال في ذلك، بالرغم من صدوف البدو عن التقيد بدين وتعاليم وطقوس مرهقة. ومن المفاهيم التي نتجت عن تأثير يهودي ومسيحي: فكرة الإله الواحد السماوي، وخلقه العالم في ستة أيام، وفكرة الجنة والنار والقيامة والبعث ويوم الحساب والميزان.

النصرانية في بلاد العرب

النصرانية في بلاد العرب: وأما النصرانية فقد كانت منتشرة عند الغساسنة في الشام، والمناذرة حكام الحيرة في العراق، وفي قبائل تغلب وإياد وقضاعة، وفي وادي القرى وأيلة واليمامة ودومة الجندل ويثرب، ونجران في اليمن، وعند أفراد من أهل الحجاز ولا سيما في مكة. إن زمن بدء

انتشار المسيحية في بلاد العرب الشمالية مجهول، وربما كان منذ عهد الحواريين. لكن المؤكد أن قرب الأمم التي تعتنق هذه الديانة من شبه جزيرة العرب، كالرومان في الشام والحبشة ومصر في الغرب كان له أثر كبير على العرب. وأقرب من هؤلاء إلى شبه الجزيرة الغساسنة في جنوبي الشام, والمناذرة في جنوبي العراق, وكان هؤلاء قد اعتنقوا المسيحية على المذهبين: اليعقوبي في الشام، والنسطوري في الحيرة. يضاف إلى ذلك أن بدو شمالي شبه الجزيرة كانوا على اتصال وثيق بالآراميين الذين استوطنوا المناطق المتاخمة لهم1. وقد تقدم معنا في بحث الدول اليمنية شيء من تعاون البيزنطيين والأحباش على نشر المسيحية في بلاد العرب. وكان من تأثير المسيحية أن مال بعض العرب إلى الرهبنة وبناء الأديرة، وأصبح وادي القرى مأوى لكثير من الزهاد والنساك. ويروى أن حنظلة الطائي قد ترك قومه وبنى لنفسه ديرًا بالقرب من شاطئ الفرات، وأن قس بن ساعدة الإيادي كان "يتقفر القفار ولا تكنه دار، يتحسى الطعام ويأنس بالوحوش والهوام" وأن ورقة بن نوفل اعتنق المسيحية، وبقي على ذلك حتى نزول الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأبدى استعداده لنصرته، لكن الوفاة أدركته وشيكًا، وأن قسس ورهبان المسيحية لم يألوا جهدًا في نشر الدين المسيحي في كل مناسبة، يجوبون أسواق العرب، ويعظون ويبشرون، ولكنهم لم يتمكنوا من القضاء على عبادة الأوثان.

_ 1 بروكلمان: المصدر نفسه، ص28.

عبادة الله

عبادة الله مدخل ... 2- عبادة الله: لكن العرب قد عرفوا مع الوثنية عبادة الله، واعتقدوا بأنه خالق الكون. يقول "بروكلمان"2: "إن العرب لم ينقلوا فكرته عن اليهود أو النصارى، كما يظن كثير من الباحثين". ونظرية أن العرب جميعًا كانوا في الأصل موحدين، ثم انقلبوا بعدئذٍ إلى الوثنية وأشركوا بالله، نظرية يقول بها اليوم بعض العلماء مثل "ويلييم شميد Wilhelm Schmidt". وفي القرآن الكريم ما يؤيد ذلك كقوله تعالى:

_ 1 بروكلمان: المصدر نفسه، ص26.

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1. والواقع أنهم قد جعلوا الأصنام شريكة لله وشفيعة لهم عنده، مقربة إليه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3. يقول ابن الكلبي: "ويوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده" ويورد عن ذلك أن نزارًا كانت تقول إذا ما أهلت: لبيك اللهم لبيك ... لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ... تملكه وما ملك4 ويقول عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 5. ومن قول لابن الكلبي أنهم كانوا يعبدون الأصنام، ولكنهم يرون أن الله أعظم منها، كقول أوس بن حجر يحلف باللات والعزى6: باللات والعزى ومن دان دينها ... وبالله إن الله منهن أكبر

_ 1 [المؤمنون: 84-87] . 2 [يونس: 18] . 3 [الزمر: 3] . 4 ابن الكلبي: الأصنام، ص7. 5 [يوسف: 106] . 6 الأصنام: ص17.

الاستهتار بالأصنام

الاستهتار بالأصنام: ومما لوحظ على الجاهليين قبيل الإسلام، أن عبادة الأصنام لم تكن جدية في بعض أوساطهم، ولم تكن عميقة في قلوبهم، بل كانوا يثورون عليها من بين حين وآخر، ولا سيما بعد أن عرفوا الديانات السماوية، فيطيح أحدهم برأس صنمه، وينهال عليه تهشيمًا وسخرية لأقل سبب، مما يدل على سطحية عبادتهم لها، وأن التطور الفكري قد بلغ بهم

مبلغًا جعلهم يحكِّمون عقولهم في عبادتها. ونستطيع أن نقيم على ذلك دليلًا بمثال مما رواه ابن الكلبي, قال: "كان لطيء صنم يقال له "الفَلس" وله سادن يقال له "صيفي"، فأَطرد ناقة خلية لامرأة من كلب، كانت جارة لمالك بن كلثوم، وكان شريفًا، فانطلق بها حتى وقفها بفناء الفلس، وخرجت جارة مالك فأخبرته بذلك، فركب فرسا وتقلد رمحا وخرج في أثره، فأدركه وهو عند الفلس والناقة موقوفة عنده، فقال له: خل سبيل الناقة، قال: إنها لربك، فقال: خل سبيلها، قال: أتخفر إلهك؟ فبوأ له الرمح، فحل عقالها وانصرف بها مالك. وأقبل السادن على الفلس، وخاطبه محرضًا إياه على مالك: يا رب, إن مالك بن كلثوم ... أخفرك اليوم بناب علكوم وكنت قبل اليوم غير مشئوم وكان عدي بن حاتم قد عتر يومئذ عند الفلس، وجلس إلى نفر معه يتحدثون بما صنع مالك. وفزع لذلك عدي وقال: انظروا ما يصيبه في يومه هذا، فمضت له أيام لم يصبه شيء, فرفض عدي عبادته وعبادة الأصنام وتنصر، فلم يزل كذلك حتى ظهر الإسلام فأسلم"1. ولم يكن هذا شأن عقلائهم فحسب، بل تجاوزهم الأمر إلى العامة. ومن الأمثلة التي رويت أنه كان لبني مالك صنم يسمى "سعدًا" بساحل جدة، وقد جاء رجل بإبله يبتغي البركة له ولها عنده، فلما أدناها منه، وكان عليه آثار دماء، نفرت وتفرقت، فغضب وتناول حجرا ورمى به الصنم قائلًا: لا بارك الله فيك، إلهًا أنفرت علي إبلي، ثم جمع إبله وانصرف قائلا: أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يُدعى لغي ولا رشد ولما جاء امرؤ القيس يستقسم لدى "ذي الخلصة" مستشيرًا إياه في طلب الثأر

_ 1 ابن الكلبي: الأصنام، ص60-61.

لأبيه. وإذ خرج له "الناهي" مرتين وثالثة، كسر القداح وضرب بها وجه الصنم وقال: لو كان المقتول أبوك ما عقتني، لعنت ولعن أبوك، وانصرف ثائرًا يقول: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا ... وكان شيخك المقبورا لم تنهَ عن قتل العداة زورا ثم غزا بني أسد وانتصر عليهم1. ويروى أنه كان لمزينة صنم يسمى "نهم" وله سادن خزاعي، فلما سمع بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودينه الجديد، ثار على الصنم وكسره، وأنشد يقول: ذهبت إلى نهم لأذبح عنده ... عتيرة نسك كالذي كنت أفعل فقلت لنفسي حين راجعت عقلها: ... أهذا إله؟ أبكم ليس يعقل أبيت، فديني اليوم دين محمد ... إله السماء الماجد المتفضل ومن الروايات التي يذكرها الأخباريون في هذا المعنى، أنه كان لبني حنيفة صنم من تمر عبدوه دهرًا، فلما حلت بهم مجاعة أكلوه، فقال شاعر في ذلك: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة وأن غاوي بن عبد العزى رأى ثعلبًا يبول على صنم، فقال: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب من هذه الأمثلة، يتضح لنا أن العرب قبيل الإسلام لم يكن في قلوبهم خشوع حقيقي، ولا تعبد صادق لآلهتهم الوثنية، بل إن الحوادث تدل على أنهم أخذوا يشعرون في أعماق نفوسهم بحاجتهم إلى إله أجل وأسمى من هذه الأصنام، التي لا تملك نفعًا ولا ضرًّا كثيرًا. لقد كان كثير من العرب يشعرون بفراغ روحي، وينتظرون ديانة جديدة تتلاءم مع تطورهم الفكري، وتملأ هذا الفراغ.

_ 1 ابن الكلبي: 35، 37، 45.

الحنيفية

الحنيفية: ولهذا عزف بعض رجال العرب عن ديانتهم الوثنية، قبيل ظهور الإسلام، واتخذوا لأنفسهم ديانة عرفت باسم "الديانة الحنيفية"، ومعنى الكلمة في الأصل "الانحراف عن الوثنية"، إلا أنه قد أصبح لها بعد ظهور الإسلام مدلول آخر هو كونها "الديانة المستقيمة"، وفي التفسير أنها الميل عن الباطل إلى الحق. يقول العرب: إن هذه الديانة ترجع إلى عهد إبراهيم وإسماعيل، ثم مال العرب عنها إلى الوثنية، وفي القرآن الكريم إشارة إليها في قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. كما فيه وصف لها بأنها ديانة اهتدى إليها إبراهيم -عليه السلام- بالفطرة: {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. وقد جاء في سورة آل عمران قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. وقد جاء في الروايات أن ممن ثار على الوثنية من العرب: ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش، وغيرهم كثير4. فقد اجتمعوا مرة وقال بعضهم لبعض: "والله ما قومنا على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطوف به لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم غير هذا". ثم تفرقوا وكل منهم يفكر في أمر نفسه، فأما ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث فقد اعتنقا النصرانية، وبقي عبيد الله مترددًا حتى ظهور الإسلام فأسلم، وأما زيد فلم يدخل في نصرانية أو يهودية بل فارق دين قومه واعتزل الأوثان، وامتنع عن أكل الدم والميتة وقال: "أعبد رب إبراهيم" وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: "يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده، ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري".

_ 1 [البقرة: 135] . 2 [الأنعام: 78-79] . 3 [آل عمران: 67] . 4 سيديو: تاريخ العرب العام، ص64.

ومما يروى عنه قوله: أربًّا واحدًا أم ألف ربٍّ ... أدين إذا تعقدت الأمور عزلت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل الخبير فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمَيْ بني غنم أزور ولا هبلًا أزور وكان ربًّا ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير ومن هؤلاء أيضا أمية بن أبي الصلت، الذي يذكر لنا الرواة أنه نظر في الكتب وقرأ ولبس المسوح تعبدًا1، وحرم الخمر وشك في الأوثان، كما رووا له أشعارًا يظهر منها أنه كان يؤمن بإله واحد، كقوله: "إني أعوذ بمن حج الحجيج إليه.."، وكقوله: وقلت لهارون: اذهبا فتظاهرا ... على المرء فرعون الذي كان قاضيا وقولا له: أنت الذي سويت هذه ... إلى وتد حتى اطمأنت كما هيا وقولا له: من أصدر الشمس بكرة ... فأصبح ما مست من الأرض ضاحيا وقولا له: من أنبت الحب في الثرى فأصبح منه البطن يهتز راويا ومنهم أيضا قس بن ساعدة الإيادي، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، الذي قيل: إنه صنع صرحًا بأسفل مكة، جعل له سلمًا يرقاه هو وحده، وزعم أنه يناجي ربه في الصرح ويقول: "زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابا وبالشر عقابا، إن من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم وربلت "تكاثرت" إياد، وكذلك الصلاح والفساد، اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان والأمر بعد لبين, من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة برجلها معلقة"2. إن هذه الروايات وغيرها من أقوال الأحناف –وإن كنا لا نجزم بأنه لم يدخل عليها تعابير ومفاهيم إسلامية- هي دليل بين على أنه كان هناك حركة أشبه بالثورة على الأوضاع الدينية الراهنة، التي عجزت عن أن تملأ وجدان العربي؛ ولذا انحط شأنها انحطاطًا متواصلًا، كان يرافقه أبدًا تعاظم في أهمية الشعور الديني، القائم على أساس

_ 1 جواد علي: 5/ 81-370. 2 جواد علي: 5/ 294-395.

الإيمان بالله الواحد السماوي1، مما استلزمته الحالة النفسية والفكرية العامة التي سادت المحيط العربي قبيل الإسلام، ورافقت انبثاق فجر الدعوة الجديدة. ومنها ومن قرائن أخرى نستدل على أن بلاد العرب كانت تمر في دور تمخض، يشير إلى قرب ظهور دين جديد ومصلح عظيم.

_ 1 بروكلمان: المصدر نفسه، 26.

شجرة أنساب القبائل العربية

شجرة أنساب القبائل العربية شجرة النسب القرشية ... شجرة النسب القرشية عدنان - معد - مضر - إلياس- مدركة -خزيمة -كنانة - النضر - مالك - فهر- غالب - لؤي - كعب - مرة - كلاب - قصي.

القبائل الشمالية العدنانية

القبائل الشمالية العدنانية ...

قبائل مضر (فرع إلياس)

قبائل مضر (فرع إلياس) ...

قبائل مضر (فرع قيس عيلان)

قبائل مضر (فرع قيس عيلان) ...

شجرة النسب القحطاني

شجرة النسب القحطاني ...

شجرة نسب كهلان

شجرة نسب كهلان ... رتب المؤلف هذه الجداول وفقا لما جاء في "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم الأندلسي، وضبطت على ما جاء في "نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب" للقلقشندي، وقورنت بجداول النسب في كتاب "سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب" للسويدي البغدادي.

مصار الكتاب

مصار الكتاب ... مصادر الكتاب القرآن الكريم التوراة دائرة المعارف الإسلامية "تعريب وإعداد إبراهيم خورشيد" القاهرة، 1969م. مجلة الموقف الأدبي، العدد 1 دمشق، أيار 1971م. ابن الأثير "عز الدين": الكامل في التاريخ، القاهرة 1348هـ. أبو الفرج الأصبهاني: الأغاني، دار الشعب، القاهرة 1969م. أحمد شبلي: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، القاهرة 1959م. أحمد أمين: فجر الإسلام، القاهرة 1964م. أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، القاهرة 1965م. ابن الكلبي: الأصنام، تحقيق أحمد زكي، القاهرة 1965م. أبو الطيب تقي الدين الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، القاهرة 1956م. إدوار بروي: تاريخ القرون الوسطى، تعريب يوسف أسعد داغر، بيروت 1956م. إدوار جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها, تعريب محمد علي أبو درة القاهرة، بلا تاريخ. ابن خلدون: المقدمة، بيروت، بلا تاريخ "طبعة ثالثة". ابن منظور: لسان العرب المحيط، بيروت 1970م. أرنست كاسيرر: في المعرفة التاريخية "تعريب أحمد حمدي محمود"، القاهرة بلا تاريخ. ابن حزم الأندلسي: جمهرة أنساب العرب، القاهرة 1948م. الدكتور جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام، بغداد، 1950، 1958م. جورجي زيدان: تاريخ العرب قبل الإسلام، القاهرة، بلا تاريخ. : طبقات الأمم، القاهرة، 1912م. : تاريخ التمدن الإسلامي، القاهرة، 1958م.

جوزيف هورس: قيمة التاريخ، تعريب نسيب الخازن، بيروت 1964م. جان جاك بيريبي: جزيرة العرب، تعريب نجدة هاجر، بيروت 1960م. الجاحظ: البيان والتبيين، جـ3، القاهرة 1960م. حافظ وهبة: جزيرة العرب في القرن العشرين، القاهرة 1956م. الدينوري "أبو حنيفة أحمد بن داود" الأخبار الطوال، القاهرة 1956م. الدينوري "أبو حنيفة أحمد بن داود": الأخبار الطوال، القاهرة 1960م. ديتلف نلسن: التاريخ العربي القديم، تعريب د. ف. ح علي، القاهرة 1958م. سهيلة الجبوري: الخط العربي وتطوره في العصور العباسية، بغداد 1962م. سعيد الأفغاني: أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، بيروت 1960م. السويدي: سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب، النجف 1345هـ. سليمان العيسى: حديث في مجلة الموقف العربي، دمشق، أيار 1971م. سديّو "ل. أ": تاريخ العرب العام، تعريب عادل زعيتر، القاهرة 1948م. شكيب أرسلان: تعليق على الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون، القاهرة 1936م. الدكتور صالح أحمد العلي: محاضرات في تاريخ العرب، بغداد 1955م. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، القاهرة 1961م. علي ظريف الأعظمي: تاريخ الدول الفارسية في العراق، بغداد 1927م. الدكتور عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، بيروت 1964م. الدكتور عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، بيروت 1966م. : تاريخ الفكر العربي، بيروت 1966م. الدكتور فيليب حتي ورفاقه: تاريخ العرب مطول، بيروت 1949م. : تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، بيروت 1958م. الدكتور قسطنطين زريق: نحن والتاريخ، بيروت 1959م. القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة تاريخ العرب، القاهرة 1959م. كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، بيروت 1968م. كمال اليازجي: معالم الفكر العربي، بيروت 1966م.

المسعودي "أبو الحسن علي بن الحسين": التنبيه والإشراف، القاهرة 1938م. : مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت 1965م. محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، دار التحرير، القاهرة 1968م. الشيخ محمد الخضري: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية، القاهرة 1354هـ. محمد جاد المولى بك: أيام العرب في الجاهلية، القاهرة بلا تاريخ. م. ش. الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، القاهرة 1342هـ. الشيخ محمود بن محمد النجار: الدرة الثمينة في تاريخ المدينة، القاهرة 1956م. محمود كامل المحامي: الدولة العربية الكبرى، القاهرة 1966م. محمد عزة دروزة: تاريخ الجنس العربي، جـ1، بيروت 1376هـ. محمد عزة دروزة: عصر النبي وبيئته، بيروت 1964م. محمد حسين هيكل: حياة محمد، القاهرة 1358هـ. محمد مبروك نافع: تاريخ العرب: عصر ما قبل الإسلام، طبعة ثانية، القاهرة. الدكتور نبيه عاقل: تاريخ العرب القديم وعصر الرسول، دمشق 1968م. نجيب العقيقي: المستشرقون، القاهرة 1964م. نسيب الخازن: من الساميين إلى العرب، بيروت 1962م. الهمداني "أبو محمد الحسن بن أحمد": صفة جزيرة العرب، القاهرة 1953م. اليعقوبي "ابن واضح الأخباري": تاريخ اليعقوبي، النجف 1358هـ. ياقوت الحموي: معجم البلدان، بيروت 1955م. Emile dermenghem: La vie de Mahomet – Paris – 1929 Claude Caher: L.htm'Islam des Origines au debut de I'Empire Ohoman Paris 1970 Rene Grousset. L'Empire du Levant, Paris 1946 O'leary "de Lacy". Arabia before Muhammad, London 1927 Henri Masse: L'Islam – paris 1930

مسرد الموضوعات

مسرد الموضوعات الموضوع رقم الصفحة المقدمة 5 الفصل الأول: دراسة المصادر 9 مفهوم التاريخ 9 مصادر تاريخ العرب القديم 10 النقوش الكتابية 12 المصادر العربية الإسلامية 16 الكتب المقدسة والمصادر اليونانية والنصرانية 18 الفصل الثاني: جغرافية شبه الجزيرة العربية 19 الجبال العالية 20 جبال السراة 20 جبال اليمن 21 المرتفعات الجنوبية 22 الصحارى 23 النفود الكبير 23 الربع الخالي 25 إقليم نجد 26 منطقة اليمامة 26 الحرات 28 الدارات والبرق 30

الموضوع رقم الصفحة الدارات 30 البرق 31 نظام التصريف المائي في شبه جزيرة العرب 31 وادي الحمض 32 وادي الرمة 32 وادي حنيفة 32 وادي الدواسر 32 وادي السرحان 32 مناخ شبه جزيرة العرب 33 حرارة الجو 33 رطوبة الجو 34 نباتات وحيوانات شبه جزيرة العرب 35 الفصل الثالث: صلة العرب بالساميين 38 النظرية الأولى 41 النظرية الثانية 42 النظرية الثالثة 43 النظرية الرابعة 43 النظرية الخامسة 44 الفصل الرابع: أنساب العرب وطبقاتهم 49 أصل ومدلول كلمة عرب 49 أنساب العرب 53 طبقات العرب وأقسامهم 54 العرب البائدة 55 العرب العاربة 56

الموضوع رقم الصفحة العرب المستعربة 57 نقد نظرية الأنساب 58 الفصل الخامس: الدول العربية القديمة في اليمن 64 دولة معين 65 مملكة قتبان 69 مملكة حضرموت 71 الدولة السبئية 72 الدولة الحميرية 79 الدور الأول 80 الدور الثاني 82 الدور الحبشي 84 الدور الفارسي 86 الفصل السادس: حضارة دول اليمن القديمة 88 نظام الحكم 89 الزراعة 91 التجارة 91 الصناعة 92 العمران وإنشاء المدن 93 التجارة 91 الصناعة 92 العمران وإنشاء المدن 93 اللغة والكتابة 95 الديانة 96 الفصل السابع: دول الشمال العربي قبل الإسلام 99 دولة الأنباط 99 الموقع الجغرافي 99 أصل الأنباط 100

الموضوع رقم الصفحة الأنباط بين السلوقيين والبطالمة 101 الأنباط واليهود 103 الحارث الثالث: عصر الذروة 104 خضوع الأنباط للرومان وسقوط دولتهم 104 مدينة الأنباط وحضارتهم 105 نظام الحكم 105 التجارة والزراعة والصناعة 106 العمران النبطي 107 الديانة 109 اللغة والكتابة 110 الدولة التدمرية 111 حكم زنوبيا 116 مدينة تدمر وحضارتها 120 طبقات المجتمع 120 الحياة الاجتماعية والاقتصادية 120 نظام الحكم 121 الفن التدمري والعمران 121 الكتابة التدمرية 122 الديانة 122 المناذرة والغساسنة 123 المناذرة 123 امرؤ القيس بن عمرو 127 النعمان الأول 129 المنذر الثالث بن ماء السماء 130

الموضوع رقم الصفحة الأنباط بين السلوقيين والبطالمة 101 الأنباط واليهود 103 الحارث الثالث: عصر الذروة 104 خضوع الأنباط للرومان وسقوط دولتهم 104 مدينة الأنباط وحضارتهم 105 نظام الحكم 105 التجارة والزراعة والصناعة 106 العمران النبطي 107 الديانة 109 اللغة والكتابة 110 الدولة التدمرية 111 حكم زنوبيا 116 مدينة تدمر وحضارتها 120 طبقات المجتمع 120 الحياة الاجتماعية والاقتصادية 120 نظام الحكم 121 الفن التدمري والعمران 121 الكتابة التدمرية 122 الديانة 122 المناذرة والغساسنة 123 المناذرة 123 امرؤ القيس بن عمرو 127 النعمان الأول 129 المنذر الثالث بن ماء السماء 130

الموضوع رقم الصفحة المشورة 183 الأموال المحجرة 183 الندوة 183 يثرب 184 الطائف 192 الفصل التاسع: الحياة السياسية في البادية العربية 194 شكل الحكم 197 الأحلاف 199 طقوس الأحلاف 201 الفصل العاشر: أيام العرب في الجاهلية 203 حروب القحطانية فيما بينها 207 يوم بعاث 207 حروب القحطانية والعدنانية 209 يوم البيضاء 209 القبائل المعدية وزهير بن خباب الكلبي ممثل اليمنية 210 يوم خزار 212 حروب العدنانية فيما بينها 213 حرب البسوس 213 حروب المضرية فيما بينها 216 يوم داحس والغبراء 216 حروب الفجار 217 الفجار الأول 217 الفجار الثاني 218 يوم نخلة 218

الموضوع رقم الصفحة الحروب بين القبائل العربية والمناذرة 220 يوم السِّلان 221 يوم طخفة 221 حروب العرب مع الأقوام الأخرى 222 يوم الصفقة 222 يوم الكلاب الثاني 224 موقعة ذي قار 225 أهمية معركة ذي قار ونتائجها 228 الفصل الحادي عشر: القبائل العربية ومواطنها قبل الإسلام 230 القبائل العدنانية في الشمال 230 القبائل القحطانية في الشمال 233 الفصل الثاني عشر: الحياة الاقتصادية عند العرب 236 التجارة في الحضر 237 تجارة مكة 238 أسواق العرب 244 سوق عكاظ 247 حماية التجارة في الأسواق 248 طرق البيع ومصطلحاته 249 بيع المعاومة 251 بيع المزابنة 251 بيع التصرية 251 النجش 251 الناجز 251

الموضوع رقم الصفحة الفصل الثالث عشر: الحياة الاجتماعية والتقاليد البدوية 252 المرتبة الأولى – الشعب 255 المرتبة الثانية – القبائل 255 المرتبة الثالثة – العمارة 256 المرتبة الرابعة – البطن 256 المرتبة الخامسة – الفخذ 256 المرتبة السادسة – الفصيلة 256 العناصر التي تتألف منها القبيلة 257 الصرحاء 257 أبناء القبيلة بالنقلة 257 أبناء القبيلة بالاستلحاق 257 العبيد 257 الموالي 259 الخلع والخلعاء 259 السجايا العربية 261 الأسرة 264 الزواج 264 الطلاق 266 العلاقات ضمن الأسرة 266 معاملة الأولاد 268 الإرث 270 الفصل الرابع عشر: الحياة الفكرية عند عرب الجاهلية 271 معارف العرب 276 الفصل الخامس عشر: الحياة الدينية عند عرب الشمال 282

الموضوع رقم الصفحة القسم الأول 283 القسم الثاني 283 المعتقدات الوثنية 283 عبادة مظاهر الطبيعة 283 تقديس الأرواح وعبادتها 285 تقديس الأشجار والأماكن والأشياء المادية 286 عبادة الملائكة 287 عبادة الأسلاف 287 عبادة الجن 288 عبادة الأصنام: هبل، اللات، العزى، مناة، ود، سواع، يغوث، يعوق، نسرا، الفلس، إساف, ونائلة 291 طقوس العرب العبادية 298 الحلة، الحمس 300 الطلس 301 الحلق والتقصير والهدي 301 الهدايا 302 البعث والحساب بعد الموت 305 اليهودية في بلاد العرب 307 النصرانية في بلاد العرب 307 عبادة الله 308 الاستهتار بالأصنام 309 الحنيفية 312 شجرة أنساب القبائل العربية 315 مصادر الكتاب 323 مسرد الموضوعات 326

§1/1